شرح صحيح
البخارى لابن بطال 57 - كِتَاب الإكْرَاهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ)
[النحل: 106] الآية وَقَالَ: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا
مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران: 28] وَهِىَ تَقِيَّةٌ،
وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ) [النساء: 97] إِلَى قَوْلِهِ:
(عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 99] ، وَقَالَ:
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ (إِلَى) الظَّالِمِ أَهْلُهَا)
[النساء: 75] . فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ
الَّذِينَ لا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ لا يَكُونُ إِلا
مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ
بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ
اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَبِهِ قَالَ
ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِىُّ،
وَالْحَسَنُ: وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) . / 1 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ
(أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو فِى
صَلاَتِهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِى
رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى
مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) .
قال المهلب: ذكر أهل التفسير بأن هذه الآية نزلت فى ناس من
أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحابهم بالمدينة: لستم منا
حتى تهاجروا إلينا. وكان فيهم عمار بن ياسر، فخرجوا يريدون
(8/290)
المدينة، فأدركتهم قريش فى الطريق ففتنوهم
على الكفر فكفروا مكرهين فنزلت: (إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان) [النحل: 106] . أجمع العلماء على أن من أكره على
الكفر حتى خشى على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر
وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه
بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعى، غير محمد بن
الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا فى الظاهر، وهو
فيما بينه وبين الله على الإسلام وتبين منه امرأته، ولا
يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا. وهذا قول
تغنى حكايته عن الرد عليه لمخالفته للآيات المذكورة فى أول
هذا الباب. وقالت طائفة: إنما جازت الرخصة فى القول، وأما
فى الفعل فلا رخصة فيه مثل أن يكرهوه على السجود لغير
الله، أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه، أو أكل
ماله، أو الزنا، أو شرب الخمر، وأكل الخنزير: روى هذا عن
الحسن البصرى، وهو قول الأوزاعى وسحنون، قال الأوزاعى: إذا
كره الأسير على شرب الخمر لا يفعل وإن قتله. وقال إسماعيل
بن إسحاق: حدثنا نصر بن على: حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن
الحسن أنه كان لا يجعل فى النفس التى حرم الله التقية.
وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير اسجد لذلك الصنم وإلا
قتلناك فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد وتكون نيته
لله تعالى وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. وقالت
طائفة: الإكراه فى الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان.
(8/291)
روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول، وهو
قول مالك وطائفة من أهل العراق، وروى ابن القاسم عن مالك
أنه إن أكره على شرب الخمر أو ترك الصلاة والإفطار فى
رمضان فلا إثم عليه إلا أنه لا يجوز عند مالك وعامة
العلماء أن يقتل غيره ولا ينتهك حرمته ولا يظلمه ولا يفعل
الزنا وإن كره على ذلك. قال إسماعيل بن إسحاق: وقول من جعل
التقية فى القول ما يشبه ما نزل فى القرآن من ذلك؛ لأن
الذين أكرهوا عليه إنما هو كلام تكلموا به ولم يظلموا فيه
أحدًا من الناس، وإنما هو أمر فيما بينهم وبين ربهم، فلما
أكرهوا عليه ولم يكونوا له معتقدين جعل كأنه لم يكن؛ لأن
الكلام ليس يؤثر بأحد أثرًا فى نفس ولا مال، وأفعال
الأبدان ليست كذلك؛ لأنها تؤثر فى الأبدان والأموال ولا
يجوز لأحد أن ينجى نفسه من القتل بأن يقتل غيره ظالمًا وإن
أكره على ذلك. وقال الأبهرى: لا يجوز لأحد أن يكره على هتك
حرمة آدمى؛ لأن حرمته ليست بأوكد من حرمة الآخر. واختلفوا
فى طلاق المكره، فذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب وعلى بن
أبى طالب وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئًا، وذكره
ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس
والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعى والشافعى
وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وأجازت طائفة طلاق المكره، روى ذلك
عن الشافعى والنخعى وأبى قلابة والزهرى وقتادة، وهو قول
الكوفيين. وفيها قول ثالث قاله الشعبى: إن أكرهه اللصوص
فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة
فقال: إن اللص يقدم على قتله،
(8/292)
والسلطان لا يقتله. واحتج الكوفيون بقوله
(صلى الله عليه وسلم) : (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق،
والعتاق، والنكاح) والهازل لم يقصد إيقاع الطلاق ولزمه،
فالمكره كذلك. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: إن
الفرق بين طلاق الهازل وطلاق المكره أن الهازل قاصد للفظ،
مؤثر له فلزمه حكمه، والمكره وإن قصد اللفظ فإنه لم يؤثره
ولا اختاره فلم يتعلق به حكمه. ووجدنا الطلاق لا يلزم إلا
بلفظ ونية، والمكره لا نية له إنما طلق بلسانه لا بقلبه،
فلما رفع الله عنه الكفر الذى تكلم به مكرهًا ولم يعتقده
وجب رفع الطلاق لرفع النية فيه. وقول مالك هو إجماع
الصحابة ولا مخالف منهم. وأجمع المسلمون على أن المشركين
لو أكرهوا رجلا على الكفر بالله بلسانه وقلبه مطمئن
بالإيمان وله زوجة حرة مسلمة أنها لا تحرم عليه، ولا يكون
مرتدا بذلك، والردة فرقة بائنة فهذا يقضى على اختلافهم فى
طلاق المكره. واختلفوا فى حد الإكراه، فروى عن عمر بن
الخطاب أنه قال: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أخفته أو
أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عنى سوطين
إلا كنت متكلمًا به. وقال شريح والنخعى: القيد كره،
والوعيد كره، والسجن كره. قال ابن سحنون: وهذا كله عند
مالك وأصحابه كره والضرب عندهم كره، وليس عندهم فى الضرب
والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من
سجن يدخل منه الضيق على المكره قل أو كثر، فالضيق يدخل فى
قليل السجن، وإكراه السلطان وغيره إكراه عند مالك.
(8/293)
وتناقض أهل العراق فلم يجدوا القيد والسجن
إكراهًا على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنه لا يخاف منه
التلف، وجعلوه إكراهًا فى إقراره لفلان عندى ألف درهم. قال
ابن سحنون: وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه
ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس.
- باب مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ
عَلَى الْكُفْرِ
/ 2 - فيه: أَنَسٍ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) :
(ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ
يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا
سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا
لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ
كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ) . / 3 - وفيه:
سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى، وَإِنَّ عُمَرَ
مُوثِقِى عَلَى الإسْلامِ، وَلَوِ انْقَضَّ أُحُدٌ مِمَّا
فَعَلْتُمْ بِعُثْمَانَ كَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ.
/ 4 - وفيه: خَبَّابِ شَكَوْنَا إِلَى النبى (صلى الله
عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ
الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا
تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ
يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأرْضِ،
فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ
عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ
بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ،
فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ
لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ
مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا
اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ
تَسْتَعْجِلُونَ) .
(8/294)
أجمع العلماء أن من أكره على الكفر فاختار
القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا
فيمن أكره على غير الكفر من فعل ما لا يحل له فقال أصحاب
مالك: الأخذ بالشدة فى ذلك، واختيار القتل والضرب أفضل عند
الله من الأخذ بالرخصة. ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن
سحنون عن أهل العراق، أنه إذا تهدد بقتل أو بقطع أو ضرب
يخاف منه التلف حتى يشرب الخمر أو يأكل الخنزير فذلك له،
فإن لم يفعل حتى قتل أن يكون آثمًا، وهو كالمضطر إلى أكل
الميتة وشرب الخمر غير باغ ولا عاد، فإن خاف على نفسه
الموت فلم يأكل ولم يشرب أثم. وقال مسروق: من اضطر إلى شىء
مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار.
قالوا: ولا يشبه هذا الكفر وقتل المسلم؛ لأن فى هذا رخصة
وتركه أفضل، ولم يجعل فى الضرورة حلالا. قال سحنون: إذا لم
يشرب الخمر ولا يأكل الخنزير حتى قتل كان أعظم لأجره
كالكفر؛ لأن الله تعالى أباح له الكفر ضرورة الإكراه،
وأباح له الميتة والدم بضرورة الحاجة إليهما، وأجمعا أن له
ترك الرخصة فى قول الكفر، فكذلك يلزم مخالفنا أن يقول فى
ترك الرخصة فى الميتة ولحم الخنزير، ولا يكون معينًا على
نفسه. وقد تناقض الكوفيون فى هذا فقالوا كقولنا فى المكره
توعد بقطع عضو أو قتل على أن يأخذ مالا لفلان فيدفعه إلى
فلان أنه فى سعة من
(8/295)
ذلك؛ لأنه كالمضطر ويضمن الآمر، ولا ضمان
على المأمور، فإن أبى أن يأخذ حتى قتله كان عندنا فى سعة.
فيقال لهم: هذا مال مسلم قد أحللتموه بالإكراه؛ فلم لا
يسعه ترك أكل الميتة حتى يقتل كما وسعه أخذ مال المسلم فى
الإكراه حتى يقتل. قال المؤلف: وحديث خباب حجة لأصحاب
مالك؛ لوصفه (صلى الله عليه وسلم) عن الأمم السالفة من كان
يمشط لحمه بأمشاط الحديد، ويشق بالمناشر بالشدة فى دينه
والصبر على المكروه فى ذات الله، ولم يكفروا فى الظاهر
ويبطنوا الإيمان، ليدفعوا العذاب عن أنفسهم؛ فمدحهم، وكذلك
حديث أنس سوى فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) بين كراهية
المؤمن الكفر وكراهيته لدخول النار، وإذا كان هذا حقيقة
الإيمان، فلا مخالفة أن الضرب والهوان والقتل عند المؤمن
أسهل من دخول النار، فينبغى أن يكون ذلك أسهل من الكفر إن
اختار الأخذ بالشدة على نفسه. قال المهلب: وقد اعترض هذا
قوم بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم
رحيمًا) [النساء: 29] ولا حجة لهم فى الآية؛ لقوله تعالى:
(ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا) [النساء: 3] والعدوان
والظلم محرمان، وليس من أهلك نفسه فى طاعة الله بعاد ولا
ظالم، ولو كان كما قالوا لما جاز لأحد أن يقتحم المهالك فى
الجهاد، وقد افترض على كل مسلم مقارعة رجلين من الكفار
ومبارزتهما، وهذا من أبين المهلكات والغرر. ومن فر من
اثنين فقد أكبر المعصية وتعرض لغضب الله. وقول خباب للنبى
(صلى الله عليه وسلم) : (ألا تدعو الله أن يكفينا) يعنى
عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وضربهم لهم وإيثاقهم
بالحديد.
(8/296)
وفيه من الفقه: أن النبى (صلى الله عليه
وسلم) لم يترك الدعاء فى ذلك على أن الله أمرهم بالدعاء
أمرًا عامًا بقوله: (ادعونى أستجب لكم) [غافر: 60] وبقوله:
(فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا) [الأنعام: 43] إلا لأنه
(صلى الله عليه وسلم) علم من الله أنه قد سبق من قدره
وعلمه أنه يجرى عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا
عليها على ما جرت عادته فى سائر أتباع الأنبياء من الصبر
على الشدة فى ذات الله، ثم يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر
وجزيل الأجر، وأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل
نازلة تنزل بهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها، والدعاء من
أفضل العبادة ولا يخلو الداعى من إحدى الثلاث التى وعد
النبى (صلى الله عليه وسلم) بها. وفيه: علامات النبوة وذلك
خروج ما قال (صلى الله عليه وسلم) من تمام الدين وانتشار
الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيه (صلى الله عليه وسلم) من
ذلك.
3 - باب فِى بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ فِى الْحَقِّ
وَغَيْرِهِ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ فِى
الْمَسْجِدِ؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ،
فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ،
فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَقَالُوا:
قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: ذَلِكَ
أُرِيدُ، قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ
الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ
أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا
فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ
لِلَّهِ وَلرَسُولِهِ
(8/297)
قال المهلب: أما ما باعه المضغوط فى حق وجب
عليه؛ فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه
أداء الحق إلى صاحبه من غير المبيع، فلما لم يفعل كان بيعه
اختيارًا منه فلزمه. ووجه الاستدلال على هذه المسألة من
هذا الحديث هو أن إخراج النبى (صلى الله عليه وسلم) اليهود
حق؛ لأنه إنما فعل ذلك بوحى من الله، فأباح لهم بيع
أموالهم فكان بيعهم جائزًا؛ لأنه لم يقع الإكراه على البيع
من أجل أعيان الشىء المبيع، وإنما وقع من أجل الذى لزمهم
فى الخروج، فكذلك كان بيع من وجب عليه حق جائزًا، وأما بيع
المكره ظلمًا وقهرًا فقال محمد بن سحنون: أجمع أصحابنا
وأهل العراق على أن بيع المكره عل الظلم والجور لا يلزمه.
وقال الأبهرى: إنه إجماع. وقال مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ:
وسواء وصل الثمن إلى المضغوط، ثم دفعه إلى الذى ألجأه إلى
بيع ما باعه، أو كان الظالم هو تولى قبض الثمن من المبتاع؛
لأنه إنما يقبضه لغيره لا لنفسه، فإذا ظفر بمتاعه بيد من
ابتاعه أو بيد من اشتراه من الذى ابتاعه فهو أحق به، ولا
شىء عليه من الثمن، وليتراجع به الباعة بعضهم على بعض حتى
يرجع المبتاع الأول على الظالم الذى وصل إليه الثمن، فإن
فات المبتاع رجع بقيمته على الذى فات عنده، أو بالثمن الذى
بيع به، أى ذلك كان أكثر.
(8/298)
4 - باب لا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ
وَقَوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ
(إِلَى) رَحِيمٌ) [النور: 33]
/ 6 - فيه: خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأنْصَارِيَّةِ،
أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ
ذَلِكَ، فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَدَّ
نِكَاحَهَا. / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِى
أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ
تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحْيِى، فَتَسْكُتُ، قَالَ:
سُكَاتُهَا إِذْنُهَا) . قال محمد بن سحنون: أجمع أصحابنا
على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام
عليه؛ لأنه لم ينعقد. وقال ابن القاسم: لا يلزم المكره ما
أكره عليه من نكاح أو طلاق أو عتق أو غيره. قال محمد بن
سحنون: أجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على
أن ينكح امرأة بعشرة ألاف درهم وصداق مثلها ألف درهم أن
النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل. قال محمد: فكلما
أبطلوا الزائد على الألف بالإكراه كذلك يلزمهم إبطالهم
النكاح بالإكراه، وقولهم خلاف السنة الثابتة فى قصة خنساء،
وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) باستئمار النساء فى
أبضاعهن، فلا معنى لقولهم، وأما من جهة النظر فإنه نكاح
على خيار، ولا يجوز النكاح بالخيار، قاله سحنون. وإنما
شبهه بنكاح الخيار؛ لأنه إذا أجاز ورضى به فإنما أجاز ما
كان له رده، فأشبه ما عقد على الخيار، لو مات أحدهما قبل
مضى مدة الخيار لم يتوارثا عند جميع أصحاب مالك.
(8/299)
قال سحنون: فإن وطئها المكره على النكاح
غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح على المسمى
من الصداق، ودرئ عنه الحد، وإن قال: وطئتها على غير رضا
منى بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى؛ لأنه مدع لإبطال
الصداق المسمى بهذا، وتحد المرأة إن تقدمت وهى عالمة أنه
مكره على النكاح، وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا
حد عليها ولها الصداق ويحد الواطئ، فاعلمه.
5 - باب إِذَا أُكْرِهَ حَتَّى وَهَبَ عَبْدًا أَوْ
بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ
وَبِهِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فَإِنْ نَذَرَ الْمُشْتَرِى
فِيهِ نَذْرًا فَهُوَ جَائِزٌ بِزَعْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ
دَبَّرَهُ. / 8 - فيه: جَابِرٍ أَنَّ رَجُلا مِنَ
الأنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم)
فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى؟) فَاشْتَرَاهُ
نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ،
قَالَ: فَسَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا
مَاتَ عَامَ أَوَّلَ. قال المهلب: أجمع العلماء أن الإكراه
على البيع والهبة لا يجوز وما ذكر فيه عن أبى حنيفة أنه إن
أعتقه أو دبره الموهوب أو المشترى فهو جائز فإنما قاس ذلك
على البيع الفاسد، فإنه إذا فات بتدبير أو عتق مضى، وكان
على المفوت له القيمة يوم فوته، والفرق بين بيع المكره
والبيع الفاسد بين، وذلك أن بائع البيع الفاسد راض بالبيع
وطيبة نفسه، لكنه لما أوقعه على خلاف السنة فسد وكانت فيه
القيمة، والمشترى إنما اشتراه بوجه من وجوه الحل والتراضى
الذى شرطه الله فى البيع، والمكره على الهبة والبيع لم تطب
نفسه على ذلك، فلا يجوز إمضاء ما لم تطب نفسه بتفويته.
(8/300)
وقال محمد بن سحنون: أجمع أهل العراق معنا
أن بيع المكره باطل، وهذا يدل أن البيع عندهم غير ناقل
للملك، ثم نقضوا هذا بقولهم: إذا أعتق المشترى أو دبر فليس
للبائع رد ذلك. فيقال لهم: هل بيع الإكراه ناقل للملك؟ فإن
قالوا: لا بطل عتق المشترى وتدبيره كما بطلت هبته، وإن كان
ناقلا للملك فأجيزوا كل شىء صنع المشترى من هبة وغيرها،
وإذا قصد المشترى للشراء بعد علمه بالإكراه صار كالغاصب.
وقد أجمع العلماء فى عتق الغاصب أن للسيد أن يزيله ويأخذ
عبده، وقال أهل العراق: إن له أن يضمن إن شاء الذى ولى
الإكراه، وإن شاء المشترى المعتق. فجعلوه فى معنى الغاصب،
وقال: إن بيع المشترى شراءً فاسدًا ماض ويوجب القيمة،
ففرقوا بينه وبين البيع الفاسد وجعلوه كالغاصب. ووجه
استدلال البخارى بحديث جابر فى هذه المسألة أن الذى دبره
لما لم يكن له مال غيره كان تدبيره سفهًا من فعله، فرد
النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك من فعله، وإن كان ملكه
للعبد صحيحًا كان من اشتراه شراءً فاسدًا، ولم يصح له ملكه
إذا دبره أو أعتقه أولى أن يرد فعله، من أجل أنه لم يصح له
ملكه.
6 - باب مِنَ الإكْرَاهِ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا
(الآيَةَ [النساء: 19]
. قَالَ كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ
أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ
(8/301)
بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا
زَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجْهَا، فَهُمْ
أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ
الآيَةُ فِى ذَلِكَ. وقال الزهرى ومالك: فيمسكها حتى تموت
فيرثها. قال المهلب: فائدة هذا الباب والله أعلم؛ ليعرفك
أن كل من أمسك امرأته لا أرب له فيها طمعًا أن تموت فلا
يحل له ذلك بنص القرآن.
7 - باب إِذَا اسْتُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا
فَلا حَدَّ عَلَيْهَا لقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ
يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 33]
قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ
بِنْتَ أَبِى عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ
رَقِيقِ الإمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنَ
الْخُمُسِ، فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا،
فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ، وَنَفَاهُ وَلَمْ يَجْلِدِ
الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا. وَقَالَ
الزُّهْرِىُّ فِى الأمَةِ الْبِكْرِ يَفْتَرِعُهَا
الْحُرُّ: يُقِيمُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مِنَ الأمَةِ
الْعَذْرَاءِ بِقَدْرِ ثَمَنَها وَقِيمَتِهَا، وَيُجْلَدُ
وَلَيْسَ فِى الأمَةِ الثَّيِّبِ فِى قَضَاءِ الأئِمَّةِ
غُرْمٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ. / 9 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ
بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، أَوْ
جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ
أَرْسِلْ إِلَىَّ بِهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ
تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ
آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، فَلا تُسَلِّطْ عَلَىَّ
الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ) . قال
المهلب: قوله تعالى: (فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم)
[النور: 33] يعنى الفتيات المكرهات، بهذا المعنى حكم عمر
(8/302)
فى الوليدة استكرهها العبد فلم يحدها.
والعلماء متفقون على أنه لاحد على امرأة مستكرهة. واختلفوا
هل لها صداق؟ فقال عطاء والزهرى: لها الصداق. وهو قول مالك
والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الشعبى: إذا أقيم
الحد على الذى زنا بها بطل الصداق وهو قول الكوفيين.
واختلف العلماء فيمن أكره من الرجال على النساء فقال مالك:
عليه الحد؛ لأنه لم ينتشر إلا بلذة. وهو قول أبى ثور، قال
مالك: وسواء أكرهه سلطان أوغيره. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه
غير سلطان حد، وإن أكرهه سلطان فالقياس أن يحد، ولكنى
أستحسن أن لا يحد. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: لا يحد
فى الوجهين جميعًا. ولم يراعوا الانتشار. وقال ابن القصار:
احتج أصحاب مالك فى وجوب الحد فقالوا: انتشار قضيبه فى
الوطء ينافى الخوف، ألا ترى أن ذلك لا يحصل إلا بوجود
الشهوة والطمأنينة وسكون النفس؛ لأن من قدم ليضرب عنقه لا
تحصل منه شهوة ولا انتشار حتى ربما ذهب حسه وذهل عقله.
واحتج الذين لم يوجبوا الحد فقالوا: متى علم أنه يتخلص من
القتل بفعل الزنا جاز أن ينتشر وإن كان مكرهًا، وقالوا
لأصحاب مالك: هذا يلزمكم فى طلاق المكره، وأنتم لا توقعونه
وفيمن أكره على الفطر. فقال المالكيون: طلاق المكره لا
علامة لنا فى اختياره، والإكراه ظاهر، والمكره على الفطر
عليه القضاء وليس كالمتعمد، إذ لا أمارة تدل على اختياره
للفطر والصورة واحدة.
(8/303)
قال المهلب: وقول الزهرى فى البكر يفترعها
الحر أن عليه قيمة العذرة ويجلد، وهو قول مالك. واختلف قول
مالك فى وطء الأمة الثيب فى الإكراه، فقال فى المدونة: إنه
لا شىء عليه فى وطء الثيب غير الحد خاصة. وروى أشهب وابن
نافع، عن مالك فى الجارية الزائغة تتعلق برجل تدعى أنه
غصبها نفسها، أتصدق عليه بما بلغت من فضيحة نفسها بغير
يمين عليها؟ قال: ما سمعت أن عليها فى ذلك يمينًا وتصدق
عليه ويكون عليه غرم ما نقصها الوطء. وهذه خلاف رواية ابن
القاسم. وأما حديث إبراهيم وسارة فإنما شابه الترجمة من
وجه خلو الكافر بسارة وإن كان لم يصل إلى شىء منها، ولما
لم يكن عليها ملامة فى الخلوة، فكذلك لا يكون على
المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكثر من الخلوة، والله
الموفق.
8 - باب يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ
إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ
وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ يَذُبُّ
عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلا يَخْذُلُهُ،
فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ فَلا قَوَدَ عَلَيْهِ
وَلا قِصَاصَ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ،
أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ
عَبْدَكَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً،
أَوَ تَحُلُّ عُقْدَةً، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ
أَخَاكَ فِى الإسْلامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَسِعَهُ
ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) :
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ:
لَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ
لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ،
أَوْ أَبَاكَ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ،
لأنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ، ثُمَّ نَاقَضَ، فَقَالَ:
إِنْ قِيلَ لَهُ:
(8/304)
لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ، أَوِ ابْنَكَ، أَوْ
لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ،
أَوْ تَهَبُ هِبَةً، يَلْزَمُهُ فِى الْقِيَاسِ،
وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ، وَنَقُولُ: الْبَيْعُ
وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عُقْدَةٍ فِى ذَلِكَ بَاطِلٌ،
فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهِ
بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلا سُنَّةٍ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ إِبْرَاهِيمُ لامْرَأَتِهِ: هَذِهِ
أُخْتِى وَذَلِكَ فِى اللَّهِ، وَقَالَ النَّخَعِىُّ:
إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ
الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ
الْمُسْتَحْلِفِ. / 10 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ
كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ) .
/ 11 - وفيه: أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا،
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا
كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا،
كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ
مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) . اختلف العلماء
فيمن خشى على رجل القتل فقاتل دونه، فقالت طائفة: إن قتل
دونه فلا قود عليه ولا قصاص، والحجة لهم قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قالوا: فدل
عموم هذا الحديث أنه لا قود عليه إذا قاتل عن أخيه كما لا
قود عليه إذا قاتل عن نفسه، وروى نحوه عن عمر بن الخطاب.
وذكر ابن الماجشون: أن رجلا هربت منه امرأته إلى أبيها فى
زمن عمر بن الخطاب، فذهب فى طلبها مع رجلين فقام أبوها
إليهم بيده عمود فأخذه منه أحدهما فضربه فكسر يده، وأخذ
الزوج منه امرأته فلم يقده منه عمر، وقضى له بدية اليد.
قال ابن حبيب: لم ير فيه قصاصًا؛ لأنه كفه عن عدائه بضربه
له، وليس على جهة العمد الذى فيه القصاص، وقياس قول أشهب
يدل
(8/305)
أنه لا قصاص فى ذلك؛ لأنه قال فى الرجل
يختفى عنده مظلوم فيحلفه السلطان الجائر الذى يريد دمه
وماله أو عقوبته إن كان عنده قال: يحلف ولا حنث عليه، كما
لا حنث عليه إذا حلف عن نفسه. ذكره ابن المواز، عن أشهب.
وروى مثله عن أنس بن مالك قال: لأن أحلف تسعين يمينًا أحب
إلى من أن أدل على مسلم. قاله ميمون بن مهران. وقالت
طائفة: من قاتل دون غيره فقتل فعليه القود. هذا قول
الكوفيين، ويشبه مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال فى الرجل يختفى
عنده الرجل من السلطان الجائر يخافه على نفسه، أنه متى حلف
أنه ليس عنده فهو حانث، وإن كان مأجورًا فى إحياء نفسه،
فلما كان حانثًا فى حلفه عليه، والحنث أيسر شأنًا من القتل
دل أنه ليس له أن يقاتل دونه، وهذا قول أصبغ قال: لا يعذر
أحد إلا فى الدراءة عن نفسه، ولا يدرأ عن ولده باليمين وهو
حانث. وقاله أكثر أصحاب مالك. قالوا: وليس قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) بمبيح له قتل
المتعدى على أخيه الظالم له؛ لأن كلا الرجلين المتقاتلين
أخ للذى أمره النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنصرة، ونصره
كل واحد منهما لازم له، وقد فسر النبى (صلى الله عليه
وسلم) نصرة الظالم كيف، فقال: تكفه عن الظلم، ولم يأمره
بقتل الظالم ولا استباحة دمه، وإنما أراد نصره دون إراقة
دمه، هذا المفهوم من الحديث، والله أعلم. وقال لى بعض
الناس: معنى قول البخارى: إن قاتل دون المظلوم فلا قود
عليه ولا قصاص، هو أن يرى رجل رجلا يريد قتل آخر بغير حق،
فإن أمكنه الدفع عنه فقد توجه عليه الفرض فى نصرته ودفع
الظلم عنه بكل ما يمكنه، ولا ينوى بقتاله له إلا الدفع عن
أخيه خاصة
(8/306)
دون أن يقصد إلى قتل الظالم للمنتصر فى تلك
المدافعة فهو شهيد، كما لو دافعه عن نفسه سواء، فإن قدر
المدافع على دفع الظالم بغير قتال أو بمقاتلة لا يكون فيها
تلف نفس وقتله قاصدًا لقتله فعليه القود. وموضع التناقض
الذى ألزمه البخارى لأبى حنيفة فى هذا الباب هو أن ظالمًا
لو أراد قتل رجل وقال لابن الذى أريد قتله: لتشربن الخمر
أو لتأكلن الميتة أو لأقتلن أباك أو ابنك أو ذا رحم لم
يسعه شرب الخمر ولا أكل الميتة؛ لأنه ليس بمضطر عند أبى
حنيفة، وإنما لم يكن مضطرًا عنده؛ لأن الإكراه إنما يكون
فيما يتوجه إلى الإنسان فى خاصة نفسه لا فى غيره؛ لأنها
معاصى لله؛ لأنه ليس له أن يدفع بها معاصى غيره، وليصبر
على قتل أبيه والله سائل قاتله، ولا إثم على الابن؛ لأنه
لم يقدر على دفع القتل عن أبيه أو ابنه إلا بمعصية يركبها،
ولا يحل له ذلك. ألا ترى قوله: إن قيل له: لأقتلن أباك أو
ابنك أو ذا رحم، أو لتبيعن هذا العبد أو تقرن بدين أو تهب
هبة أن البيع والإقرار والهبة
(8/307)
تلزمه فى القياس؛ لأنه قد تقدم أنه يصبر
على قتل ابنه أو أبيه أو ذى رحمه ولا يشرب الخمر ولا يأكل
الميتة، فعلى هذا ينبغى أن يلزمه كل ما عقد على نفسه من
عقد، ولا يجوز له القيام فى شىء منها كما لم يجز له شرب
الخمر وأكل الميتة فى دفع القتل عن أبيه أو ابنه وذى رحمه.
ثم ناقض هذا المعنى بقوله: ولكنا نستحسن ونقول: البيع وكل
عقد فى ذلك باطل. فاستحسن بطلان البيع وكل ما عقده على
نفسه، وجعل له القيام فيه بعد أن تقدم من قوله: أن البيع
والإقرار والهبة تلزمه فى القياس ولا يجوز له القيام فيها،
واستحسانه كقول أشهب، وقياسه كقول ابن القاسم المتقدمين.
وقول البخارى: فرقوا بين كل ذى رحم محرم وغيره بغير كتاب
ولا سنة، يريد أن مذهب أبى حنيفة فى ذوى الأرحام بخلاف
مذهبه فى الأجنبيين، فلو قيل لرجل: لنقتلن هذا الرجل
الأجنبى أو لتبيعن عبدك أو تقر بدين أو هبة ففعل ذلك
لينجيه من القتل لزمه جميع ما عقد على نفسه من ذلك ولم يكن
له فيها قيام. ولو قيل له ذلك فى ذوى محارمه لم يلزمه ما
عقد على نفسه من ذلك فى استحسانه. وعند البخارى ذوو
الأرحام والأجنبيون سواء فى أنه لا يلزمه ما عقد على نفسه
فى تخليص الأجنبى؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (المسلم
أخو المسلم) والمراد بذلك أخوة الإسلام لا أخوة النسب،
ولقول إبراهيم فى سارة: (هذه أختى) وإنما كانت أخته فى
الإسلام، فأخوة الإسلام توجب على المسلم حماية أخيه المسلم
والدفع عنه، ولا يلزمه ما عقد على نفسه فى ذلك من بيع ولا
هبة، وله القيام فيها متى أحب، ووسعه شرب الخمر وأكل
الميتة، ولا إثم عليه فى ذلك ولا حد، كما لو قيل له:
لتفعلن هذه الأشياء أو لنقتلنك، وسعه فى نفسه إتيانها ولا
يلزمه حكمها حرى أن يسعه ذلك فى حماية أبيه وأخيه فى النسب
وذوى محارمه ولا يلزمه ما عقد على نفسه من بيع ولا هبة ولا
فرق بينهما. اختلف العلماء فى يمين المكره، فذهب الكوفيون
إلى أنه يحنث، وذهب مالك إلى أن كل من أكره على يمين بوعيد
أو سجن أو
(8/308)
ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول
الشافعى وأبى ثور وأكثر العلماء، وحجة الكوفيين أن المكره
كان له أن يورى فى يمينه، ولما لم يور ولا ذهب بنيته إلى
خلاف ما أكره عليه؛ فقد قصد إلى اليمين، ولو لم يد أن يحلف
لورّى؛ لأن الأعمال بالنيات، فلذلك لزمته اليمين. وحجة من
لم يلزمه اليمين أنه إذا أكره على اليمين فنيته مخالفة
لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه ولأن اليمين عندهم على نية
الحالف، وأنه حلف على ما لم يرده ولا قصده بنيته، وكل عمل
لا نية فيه غير لازم، ولا يصح الإكراه إلا أن يكون الفعل
فيه مخالفًا للنية والقصد. وقد روى سليمان بن ميسرة، عن
النزال بن سبرة قال: التقى عثمان وحذيفة عند باب الكعبة
فقال له عثمان: أنت القائل الكلمة التى بلغتنى؟ فقال: لا
والله ما قلتها. فلما خلونا به قلنا له: يا أبا عبد الله،
حلفت له وقد قلت ما قلت. قال: إنى أشترى دينى بعضه ببعض
مخافة أن يذهب كله. وقال الحسن البصرى: أعطهم ما شاءوا
بلسانك إذا خفتهم. وأما قول النخعى: إذا كان المستحلف
ظالمًا فنية الحالف، وإن كان مظلومًا فنية المستحلف. فهو
قول مالك؛ لأن النية عنده نية المظلوم أبدًا. وهو خلاف قول
الكوفيين الذين يجيزون التورية فى الأعمال ويجعلون النية
نية الحالف أبدًا. وسيأتى الكلام فى ذلك فى الباب بعد هذا
إن شاء الله. فإن قال قائل: كيف يكون المستحلف مظلومًا؟
قال: إذا جحده رجل حقا له ولم تكن له نية فإن الجاحد يحلف
له فتكون النية نية المستحلف؛ لأن الجاحد ظلمه.
(8/309)
|