شرح صحيح
البخارى لابن بطال 60 - كِتَاب الْحُدُودِ
- باب ما يُحذر من الحُدُودِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإيمَانِ
فِى الزِّنَا. / 1 - فيه: أَبو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ
يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ
يَشْرَبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ
حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً
يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ) . وترجم له باب السارق حين يسرق. قال الطبرى:
اختلف من قبلنا فى هذا الحديث فأنكر بعضهم أن يكون رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قال هذا القول. قال عطاء: اختلف
الرواة فى أداء لفظ النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك، قال
محمد بن زيد ابن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسئل
عن تفسير هذا الحديث فقال: إنما قال رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) : (لا يزنين مؤمن ولا يسرقن مؤمن) . وقال
آخرون: عنى بذلك: لا يزنى الزانى وهو مستحل للزنا غير مؤمن
بتحريم الله ذلك عليه، فأما إن زنا وهو معتقد تحريمه فهو
مؤمن، روى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس. وحجة هذه المقالة
حديث أبى ذر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من قال:
لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن رغم أنف
أبى ذر) .
(8/389)
وقال آخرون: ينزع منه الإيمان فيزول عنه
اسم المدح الذى يُسمى به أولياء الله المؤمنون، ويستحق اسم
الذم الذى يسمى به المنافق فيوسم به ويقال له منافق وفاسق.
روى هذا عن الحسن قال: النفاق نفاقان: تكذيب محمد فهذا لا
يغفر، ونفاق خطايا وذنوب يرجى لصاحبه. وعن الأوزاعى قال:
كانوا لا يكفرون أحدًا بذنب ولا يشهدون على أحد بكفر
ويتخوفون نفاق الأعمال على أنفسهم. قال الوليد بن مسلم:
ويصدق قول الأوزاعى أنه كان من قول السلف ما حدثنا
الأوزاعى، عن هارون بن رئاب: (أن عبد الله بن عمر قال فى
مرضه: زوجوا فلانًا ابنتى فلانة، وإنى كنت وعدته بذلك وأنا
أكره أن ألقى الله بثلث النفاق) وما حدثناه عن الزهرى، عن
عروة: (أنه قال لابن عمر: الرجل يدخل منا على الإمام فيراه
يقضى بالجور فيسكت وينظر إلى أحدنا فيثنى عليه بذلك، فقال
عبد الله: أما نحن معاشر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) فكنا نعدها نفاقًا فلا أدرى كيف تعدونه) وعن حذيفة:
(أنه سئل عن المنافق فقال: الذى يتكلم بالإسلام ولا يعمل
به) . وحجة هذا القول أن النفاق إنما هو إظهار المرء
بلسانه قولاً يبطن خلافه كنافقاء اليربوع الذى يتخذه كى إن
طلبه الصائد من قبل مدخل قصَّع من خلافه، فمن لم يجتنب
الكبائر من أهل التوحيد علمنا أن ما أظهره من الإقرار
بلسانه خداع للمؤمنين فاستحق اسم النفاق. ويشهد لذلك قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (ثلاث من علامات المنافق، إذا حدث
كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) .
(8/390)
والزنا والسرقة وشرب الخمر أدل على النفاق
من هذه الثلاث. وقال آخرون: إذا أتى المؤمن كبيرة نزع منه
الإيمان وإذا فارقها عاد إليه الإيمان. وروى عن أبى
الدرداء قال عبد الله بن رواحة: (إنما مثل الإيمان مثل
قميص بينما أنت قد نزعته إذا لبسته وبينما أنت قد لبسته إذ
نزعته) . وعن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم بن عمر أنه سمع أبا
أيوب يقول: (إنه ليمر على المرء ساعة وما فى جلده موضع
إبرة من النفاق) . وعلة هذه المقالة أن الأيمان هو
التصديق، غير أن التصديق معنيان أحدهما قول والآخر عمل
فإذا ركب المصدق كبيرة فارقه اسم الإيمان كما يقال للاثنين
إذا اجتمعا اثنين فإذا انفرد كل واحد منهما لم يقل له إلا
واحد وزال عنهما الاسم الذى كان لهما فى حال الاجتماع،
فكذلك الإيمان إنما هو اسم التصديق الذى هو الإقرار والعمل
الذى هو اجتناب لكبائر. فإذا واقع المقر كبيرة زال عنه اسم
الإيمان فى حال مواقعته، فإذا كف عنها عاد له الاسم؛ لأنه
فى حال كفه عن الكبيرة مجتنب لها وباللسان مصدق، وذلك معنى
الإيمان عندهم. وقال بعض الخوارج والرافضة والإباضية: من
فعل شيئًا من ذلك فهو كافر خارج عن الإيمان؛ لأنهم يكفرون
المؤمنين بالذنوب ويوجبون عليهم التخليد فى النار
بالمعاصى، ومن حجتهم ظاهر حديث أبى هريرة (لا يزنى وهو
مؤمن) .
(8/391)
قال أبو هريرة: الإيمان فوقه هكذا فإن هو
تاب راجعه الإيمان وإن أصر ومضى فارقه. وقال أبو صالح عن
أبى هريرة: ينزع منه الإيمان فإن تاب رُد عليه. قالوا: ومن
نزع منه الإيمان فهو كافر؛ لأنه منزلة بين الإيمان والكفر،
ومن لم يكن مؤمنًا فهو كافر. وجماعة أهل السنة وجمهور
الأمة على خلافهم. قال الطبرى: وحجة أهل السنة أن ابن عباس
قد بين حديث أبى هريرة وقال: إن العبد إذا زنا نزع منه نور
الإيمان لا الإيمان. حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، حدثنا
محمد بن كثير، عن شريك بن عبد الله، عن إبراهيم بن مهاجر،
عن مجاهد، عن ابن عباس قال: سمعت النبى (صلى الله عليه
وسلم) يقول: (من زنا نزع الله نور الإيمان من قلبه فإن شاء
أن يرده عليه رده) . والصواب عندنا قول من قال: يزول عنه
الاسم الذى هو بمعنى المدح إلى الاسم الذى هو بمعنى الذم،
فيقال له فاجر فاسق زان سارق. ولا خلاف بين جميع الأمة أن
ذلك من أسمائه ما لم تظهر منه التوبة من الكبيرة، ويزول
عنه اسم الإيمان بالإطلاق والكمال بركوبه ذلك ونثبته له
بالتقييد فنقول هو مؤمن بالله وبرسوله مصدق قولاً، ولا
نقول مطلقًا هو مؤمن إذا كان الإيمان عندنا معرفة وعملا
(8/392)
وقولاً، فلما لم يأت بها كلها استحق اسم
التسمية بالإيمان على غير الإطلاق والاستكمال له. قال
المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ينزع منه نور
الإيمان) يعنى ينزع منه بصيرته فى طاعة الله لغلبة الشهوة
عليه، فكأن تلك البصيرة نور طفته الشهوة من قلبه ويشهد
لهذا قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)
[المطففين: 14] . وقد تقدم فى كتاب الإيمان فى باب علامات
المنافق، والعلم فى باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهة
ألا يفهموا.
- باب الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ
/ 2 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِنُعَيْمَانَ، أَوْ بِابْنِ
نُعَيْمَانَ، وَهُوَ سَكْرَانُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ،
وَأَمَرَ مَنْ فِى الْبَيْتِ، أَنْ يَضْرِبُوهُ،
فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَكُنْتُ فِيمَنْ
ضَرَبَهُ. وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. / 3 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَة، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
، بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ، قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ
بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ،
قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: لا،
تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ. /
4 - وفيه: عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ
لأقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ
(8/393)
فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِى نَفْسِى إِلا
صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ،
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ
يَسُنَّهُ. / 5 - وفيه: السَّائِب، كُنَّا نُؤْتَى
بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) وَإِمْرَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ
عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا
وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ،
فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذَا عَتَوْا، وَفَسَقُوا
جَلَدَ ثَمَانِينَ. وترجم لحديث عقبة بن الحارث: باب من
أمر بضرب الحد فى البيت. اختلف العلماء فى حد الخمر كم هو؟
فذهب مالك، والثورى، والكوفيون، وجمهور العلماء، إلى أن حد
الخمر ثمانون جلدة. وقال الشافعى وأبو ثور وأهل الظاهر حد
الخمر أربعون. واحتجوا فى ذلك بما رواه مسدد قال: حدثنا
يحيى، قال: حدثنا سعيد ابن أبى عروبة، عن الداناج، عن حصين
بن المنذر الرقاشى أبى ساسان، عن على بن أبى طالب قال:
(جلد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الخمر أربعين،
وجلد أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين وكل سنة) . وبما
رواه عبد العزيز بن المختار، عن الداناج، عن حصين بن
المنذر قال: (شهدت عثمان وقد أتى بالوليد بن عقبة وقد صلى
بأهل الكوفة فشهد عليه حُمران ورجل آخر أحدهما أنه رآه
يشربها والآخر أنه رآه يقيئها، فقال عثمان: لم يقئها حتى
شربها، فقال عثمان لعلى: أقم عليه الحد. فأمر عبد الله بن
جعفر فجلده وعلى يعد حتى بلغ أربعين، ثم قال أمسك، ثم قال:
إن النبى (صلى الله عليه وسلم) جلد أربعين وعمر ثمانين وكل
سُنة وهذا أحبُّ إلى) فاحتجوا بهذه الآثار وقالوا: إنَّ
الجلد الذى يجب على شارب الخمر أربعون.
(8/394)
واحتج عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا:
حديث الداناج غير صحيح وأنكروا أن يكون على قال من ذلك
شيئًا؛ لأنه قد روى عنه ما يخالف ذلك ويدفعه. وبما رواه
البخارى أن عليا قال: (ما كنت لأقيم الحدَّ على أحدٍ فيموت
فى نفسى إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن النبى
(صلى الله عليه وسلم) لم يسنه) . قال الطحاوى: فهذا على
يخبرُ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن سن فى شرب
الخمر حدا، ثم الرواية عن على فى حد الخمر على خلاف حديث
الداناج من اختيار الأربعين على الثمانين روى سفيان، عن
عطاء بن أبى مروان، عن أبيه قال: أتى على بالنجاشى قد شرب
الخمر فى رمضان فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أمر
به من الغد فضربه عشرين، ثم قال: هذه لانتهاكك حرمة رمضان
وجرأتك على الله. وروى عن ابن شهاب، عن حميد ابن عبد
الرحمن: أن رجلا من كلب يقال له ابن وبرة بعثه خالد بن
الوليد إلى عمر بن الخطاب فوجد عنده عليا وطلحة والزبير
وعبد الرحمن بن عوف، فقالوا له: إن الناس قد انهمكوا فى
الخمر. فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال على: يا أمير
المؤمنين إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفترى
ثمانون فتابعه أصحابه. أفلا ترى عليا لما سئل عن ذلك ضرب
أمثال الحدود كيف هى، ثم استخرج منها حدًا برأيه فجعله كحد
المفترى، ولو كان عنده فى ذلك شىء موقت عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) لأغناه عن ذلك، ولو كان عند أصحابه فى ذلك
أيضًا عن
(8/395)
النبى (صلى الله عليه وسلم) شىء لأنكروا
عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب المثال فكيف يجوز أن
نقبل على علىّ ما يخالف هذا وقد قال: إن النبى (صلى الله
عليه وسلم) لم يسن فى الخمر شيئًا. ودل حديث عقبة بن
الحارث وحديث أنس وحديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه
وسلم) لم يقصد فى حدّ الشارب إلى عدد من الضرب يكون حدا،
وإنما أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن يضربوه
بالجريد والنعال والثياب والأيدى، وإنما ضرب أبو بكر بعده
أربعين على التحرى منه لضربه (صلى الله عليه وسلم) إذ لم
يوقفهم على حد فى ذلك، فثبت بهذا كله أن التوقيف فى حد
الخمر على ثمانين إنما كان فى زمن عمر وانعقاد إجماع
الصحابة على ذلك، فلا تجوز مخالفتهم؛ لأن إجماعهم معصوم
كما أجمعوا على مصحف عثمان ومنعوا مما عداه، فانعقد
الإجماع على ذلك ولزمت الحجة به، وقد قال تعالى: (ويتبع
غير سبيل المؤمنين) [النساء: 115] الآية. وقال ابن مسعود:
ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن؛ لأن إجماعهم
معصوم. وفيه حجة لمالك ومن وافقه فى جواز أخذ الحدود
قياسًا، خلافًا لأهل العراق وبعض أصحاب الشافعى فى منعهم
ذلك، واستدلوا بأن الحدود والكفارات وضعت بحسب المصالح وقد
تشترك أشياء مختلفة فى الحدود والكفارات وتختلف أشياء
متقاربة، ولا سبيل إلى علم ذلك إلا بالنص. فيقال لهم: أجمع
الصحابة على حد شارب الخمر ثم نصوا على
(8/396)
المعنى الذى من أجله أجمعوا، وهو قول على
وعبد الرحمن: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى أن يحد حد
المفترى. ففى هذا دليل على أخذ الحدود قياسًا، وعلى أصل
القياس جواز انعقاد الإجماع عنه. وفى قياسهم حد الخمر على
حد الفرية حجة لمالك ومن قال بقطع الذرائع وجعلها أصلا
وتحصينًا لحدود الله أن تنتهك؛ لأن عليا لما قال: إذا شرب
سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون.
وتابعه الصحابة على ذلك، ولم يخالفه أحد منهم كان ذلك حجة
واضحة فى القول بقطع الذرائع؛ لأنه قد يجوز أن يشرب الخمر
من لا يبلغ بها إلى الهذى والفرية، ولما كان ذلك غير معلوم
لاختلاف الناس فى التقليل من شربها وفى التكثير، وفى غلبة
سورتها لبعضهم وتقصيرها عن بعض، وكان الحد لازمًا ولكل
شارب؛ ثبت القول بقطع الذرائع فيما يخاف الإقدام فيه على
المحرمات وهو أصل من أصول الدين مما أجمع عليه الصحابة.
قال المهلب: وفى قول على: ما كنت لأقيم الحد على أحد فيموت
فأجد منه فى نفسى. حجة لابن الماجشون ومن وافقه أن الحاكم
لا قود عليه إذا أخطأ فى اجتهاده. ويؤيد هذا أن أسامة قتل
رجلا قال: لا إله إلا الله ثم أتى النبى (صلى الله عليه
وسلم) فأخبره بذلك فلم يزد أن وبخه، ولم يأمره بالدية ولم
يأخذها منه لاجتهاده وتأويله فى قتله. وقد تقدم اختلاف
العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الأحكام
(8/397)
فى باب إذا قضى القاضى بجور خالف فيه أهل
العلم فهو مردود والحمد لله. وقوله: (أتى النبى (صلى الله
عليه وسلم) بالنعيمان وهو سكران فشق عليه وأمر من فى البيت
بضربه) فيه حجة أن السكران يقام عليه الحد ولا يؤخر حتى
يصحو؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر من فى البيت أن
يضربوه، ولم يؤخره إلى أن يصحو. وجمهور العلماء على خلاف
هذا لا يرون الحد عليه وهو سكران حتى يصحو وهو قول مالك
والثورى والكوفيين، قالوا: لأن الحد إنما وضعه الله
للتنكيل وليألم المحدود ويرتدع، فالسكران لا يعقل ذلك؛
فغير جائز أن يقام الحدّ على من لا يحس به ولا يعقل.
3 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ
وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ الْمِلَّةِ
/ 6 - فيه: عُمَر، أَنَّ رَجُلا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللَّهِ،
وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ، فَأُتِىَ
بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ
مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا
يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ
يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . / 7 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَة، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ
يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ
بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ،
فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ
اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا
تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ.
(8/398)
وروى ابن المنذر هذا الحديث وقال فيه بعد
قوله: لا تعينوا عليه الشيطان (ولكن قولوا: اللهم اغفر له)
. قال المهلب: فى هذا الحديث بيان قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) يريد وهو
مستكمل الإيمان، وليس بخارج من الملة بشربها ولا بمعصية من
المعاصى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد شهد للشارب
بحب الله ورسوله وبالإسلام، وقال فيه: (لا تعينوا الشيطان
على أخيكم) . فسماه أخًا فى الإسلام، وأمرهم أن يدعوا له
بالمغفرة والرحمة. قال المؤلف: بيان قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (لا يشرب الخمرحين يشربها وهو مؤمن) قال: فإن قيل:
هذا الحديث معارض لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) :
(أنه لعن شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها) ولعن كثيرًا من أهل
المعاصى منهم من ادعى إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه،
ولعن المصور وجماعة يكثر عددهم. قيل: لا تعارض بين شىء من
ذلك بحمد الله، ووجه لعنته لأهل المعاصى يريد الملازمين
لها غير التائبين منها ليرتدع بذلك من فعلها وسلك سبيلها،
والذى نهى (صلى الله عليه وسلم) عن لعنه فى هذا الباب قد
كان أخذ منه حد الله الذى جعله تطهيرًا من الذنوب فحصل فى
حالة مهيئة للتوبة ورجا له التمادى على ما حصل له من
التطهير وبركة أمره (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالدعاء
له. فنهى عن لعنه خشية أن يوقع الشيطان فى قلبه أن من لعن
بحضرة النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يغير ذلك ولا نهى
عنه فإنه مستحق العقوبة فى الآخرة فينفره بذلك ويغويه.
(8/399)
قال المهلب: وقوله: (وكان يضحك النبى (صلى
الله عليه وسلم)) فيه من الفقه جواز إضحاك العالم والإمام
ببادرة يبدرها (وأمر) يعنى به من الحق لا من شىء من
الباطل. وقال المؤلف: وحديث عمر ناسخ لما روى عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم
إن شرب فى الرابعة فاقتلوه) لأنه (صلى الله عليه وسلم) حد
الرجل مرارًا فى الخمر ولم يقتله؛ وبهذا قال أئمة الفتوى،
لأن قول الذى لعنه (ما أكثر ما يؤتى به) يقتضى حدا من
العدد، وما يدخل فى حيز الكثرة إن لم يكن أكثر من أربع
فليس بدونها، وقد رفع الإشكال فى ذلك ما ذكره النسائى من
حديث ابن المنذر عن جابر أن النبى (صلى الله عليه وسلم)
قال: (إن شرب الرابعة فاقتلوه) . قال جابر: فضرب النبى
(صلى الله عليه وسلم) نعيمان أربع مرات ولم يقتله، فرأى
المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع.
4 - باب لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ
/ 8 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ
الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ
فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . قَالَ الأعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ
أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ
أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِى دَرَاهِمَ. وقال ابن قتيبة:
احتج الخوارج بهذا الحديث وقالوا: القطع يجب فى قليل
الأشياء وكثيرها. قال: ولا حجة لهم فيه، وذلك أن الله لما
أنزل على رسوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)
[المائدة: 38] الآية. قال (صلى الله عليه وسلم) :
(8/400)
(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)
على ظاهر ما نزل الله عليه فى ذلك الوقت، ثم أعلمه الله أن
القطع لا يكون إلا فى ربع دينار فما فوقه على ما رواه
الزهرى، عن عمرة، عن عائشة قالت: سمعت النبى (صلى الله
عليه وسلم) يقول: (لا قطع إلا فى ربع دينار فصاعدًا) ولم
يكن يعلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حكم الله إلا
ما أعلمه الله وما كان الله عرفه ذلك جملة؛ بل كان ينزل
عليه شيئًا بعد شىء ويأتيه جبريل بالسنن كما يأتيه
بالقرآن، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (أوتيت الكتاب
ومثله معه) يعنى من السنن. وأما قول الأعمش: إن البيضة فى
هذا الحديث بيضة الحديد التى تغفر الرأس فى الحرب، وأن
الحبل من حبال السفن فهذا تأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح
كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة. وهذا
ليس موضع تكثير لما يسرقه السارق ولا من عادة العرب والعجم
أن يقولوا: قبح الله فلانًا عرض نفسه للضرب فى عقد جوهر
وتعرض للعقوبة بالغلول فى جراب مسك، وإنما العادة فى مثل
هذا أن يقال: لعنه الله تعرض لقطع اليد فى حبل رث أو كُبة
شعر أو رداء خلق، وكل ما كان من هذا الفن كان أبلغ. قال
المؤلف: وقوله فى الترجمة باب لعن السارق إذا لم يُسم كذا
فى جميع النسخ، والذى يستوحى من معناه إن صح فى الترجمة
أنه لا ينبغى تعيير أهل المعاصى ومواجهتهم باللعنة، وإنما
ينبغى أن يلعن فى الجملة من فعل أفعالهم ليكون ذلك ردعًا
وزجرًا عن
(8/401)
انتهاك شىء منها؛ فإذا وقعت من معين لم
يلعن بعينه لئلا يقنط وييأس ولنهى النبى (صلى الله عليه
وسلم) عن ذلك فى حديث النعيمان. فإن كان ذهب البخارى إلى
غير هذا فهو غير صحيح؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم)
إنما نهى عن لعنه وقال: (لا تعينوا عليه الشيطان) بعد
إقامة الحد عليه، فدل هذا الحديث على الفرق بين من تجب
لعنته وبين من لا تجب، وبان به أن من أقيم عليه حدود الله
فلا ينبغى لعنه ومن لم يقم عليه حد الله فاللعنة متوجهة
إليه سواء سمى وعُين أم لا؛ لأن النبى (صلى الله عليه
وسلم) لا يلعن إلا من تجب له اللعنة ما دام على تلك الحالة
الموجبة للعنه، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة
تتوجه إليه. ويبين هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا
زنت الأمة فليجلدها ولا يثرب) فدل هذا الحديث أن التثريب
واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة. والله الموفق.
5 - باب الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ
/ 9 - فيه: عُبَادَةَ، قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) فِى مَجْلِسٍ، فَقَالَ: بَايِعُونِى
عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا
تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ
كُلَّهَا، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ
لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) . فإن أكثر العلماء ذهب إلى
أن الحدود كفارة على حديث عبادة ومنهم من جبن عن هذا لما
روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:
(لاأدرى الحدود كفارة أم لا) لأن حديث عبادة أصح من
(8/402)
جهة الإسناد، ولو صح حديث أبى هريرة لأمكن
أن يقوله (صلى الله عليه وسلم) قبل حديث عبادة ثم يعلمه
الله أن الحدود طهرة أو صادة على حديث عبادة ولا تتضاد
الأحاديث. قال المهلب: فإن قيل: إن آية المحاربة تعارض
حديث عبادة وذلك قوله تعالى: (ذلك لهم خزى فى الدنيا)
[المائدة: 33] يعنى الحدود) ولهم فى الآخرة عذاب عظيم)
[المائدة: 33] فدلت هذه الآية أن الحدود ليست كفارة.
والجواب: أن الوعيد فى المحاربة عند جميع المؤمنين مرتب
على قول الله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] فتأويل آية المحاربين) ذلك لهم
خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 33] إن
شاء الله تعالى بقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء (وهذه الآية تبطل نفاذ الوعيد على غير
أهل الشرك، إلا أن ذكر الشرك فى حديث عبادة مع سائر
المعاصى لا يوجب أن من عوقب فى الدنيا وهو مشرك أن ذلك
كفارة له؛ لأن الأمة مجمعة على تخليد الكفار فى النار
وبذلك نطق الكتاب والسنة. وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب
الإيمان فى باب علامة الإيمان حبُ الأنصار، فحديث عبادة
معناه الخصوص فيمن أقيم عليه الحد من المسلمين خاصة أن ذلك
كفارة له.
6 - باب ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلا فِى حَدٍّ أَوْ
حَقٍّ
/ 10 - فيه: ابن عُمَر، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم)
فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَلا أَىُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ
أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا شَهْرُنَا هَذَا، قَالَ:
أَلا
(8/403)
أَىُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ
حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا بَلَدُنَا هَذَا، قَالَ: أَلا
أَىُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا:
أَلا يَوْمُنَا هَذَا، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلا بِحَقِّهَا
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى
شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلاثًا، كُلُّ
ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلا نَعَمْ. . . الحديث. قال المهلب
قوله: ظهر المؤمن حمىً إلا فى حق يعنى أنه لا يحل للمسلم
أن يستبيح ظهر أخيه ولا بشرته لثائرة تكون بينه وبينه أو
عداوة إذا لم تكن على حكم ديانة الإسلام مما كانت الجاهلية
تستبيحه من الأعراض والدماء، وإنما يجوز استباحة ذلك فى
حقوق الله أو حقوق الآدميين أو فى أدب لمن قصر فى الدين،
كما كان عمر يؤدب بالدرة وبغيرها كل مظنون به ومقصر. وقوله
(صلى الله عليه وسلم) : (ألا أى شهر تعلمونه) وقول أصحابه:
(ألا شهرنا هذا) فإن العرب تزيد (ألا) فى افتتاح الكلام
للتنبيه، كقوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون) [البقرة:
12] ) وألا حين يستغشون ثيابهم) [هود: 5] ، و) ألا يوم
يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) [هود: 4] . قال الشاعر: ألا يا
زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
7 - باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ
اللَّهِ
/ 11 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا خُيِّرَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا اخْتَارَ
أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإثْمُ،
كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللَّهِ
(8/404)
مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِى شَيْءٍ
يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ
اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ. وقولها: (ما خُير رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما
لم يكن إثمًا) يحتمل أن يكون هذا التخيير ليس من الله؛ لأن
الله لا يخير رسوله بين أمرين عليه فى أحدهما إثم فمعنى
هذا الحديث ما خير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه
بين أن يختار لهم أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة
والإرشاد إلا اختار لهم أيسر الأمرين ما لم يكن عليهم فى
الأيسر إثم؛ لأن العباد غير معصومين من إرتكاب الإثم،
ويحتمل أن يكون ما لم يكن إثمًا فى أمور الدين، وذلك أن
الغلو فى الدين مذموم والتشديد فيه غير محمود لقوله (صلى
الله عليه وسلم) : (إياكم والغلو فى الدين فإنما هلك من
قبلكم بالغلو فى الدين) . فإذا أوجب الإنسان على نفسه
شيئًا شاقًا عليه من العبادة فادحًا له ثم لم يقدر على
التمادى فيه كان ذلك إثمًا، ولذلك نهى النبى (صلى الله
عليه وسلم) أصحابه عن الترهب. قال أبو قلابة: (بلغ النبى
(صلى الله عليه وسلم) أن قومًا حرموا الطيب واللحم، منهم
عثمان بن مظعون وابن مسعود وأرادوا أن يختصوا، فقام النبى
(صلى الله عليه وسلم) على المنبر فأوعد فى ذلك وعيدًا
شديدًا، ثم قال: إنى لم أبعث بالرهبانية، وإن خير الدين
عند الله الحنيفية السمحة، وإن أهل الكتاب إنَّما هلكوا
بالتشديد، وشدَّدوا فشدد عليهم، ثم قال: اعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت
واستقيموا يستقم لكم) .
(8/405)
وقد جعل مطرف بن الشخير ويزيد بن مرة
الجعفى مجاوزة القصد فى العبادة وغيرها والتقصير عنه
سيئةً. فقالا: الحسنة بين السيئتين، والسيئتان إحداهما
مجاوزة القصد والثانية التقصير عنه، والحسنة التى بينهما
هى القصد والعدل. قال الداودى: وقولها وما انتقم رسول الله
لنفسه، يعنى إذا أوذى بغير السب الذى يخرج إلى الكفر، مثل
الأذى فى المال والجفاء فى رفع الصوت فوق صوته، ونحو
التظاهر الذى تظاهرت عليه عائشة وحفصة، ومثل جبذ الأعرابى
له حتى أثرت حاشية البرد فى عنقه أخذا منه بقوله تعالى:
(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى: 43] وأما
إذا أوذى فذلك كفر، وهو انتهاك حرمة الله فيجب عليه
الانتقام لنفسه، وكذلك فعل فى ابن خطل يوم فتح مكة حين
تعوَّذ بالكعبة من القتل، فأمر بقتله دون سائر الكفار؛
لأنه كان يكثر من سبه، وقد أمر بقتل قينتين كانتا تغنيان
بسبه، وانتقم لنفسه؛ لأنه من سب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) فقد كفر، ومن كفر فقد آذى الله ورسوله، وكذلك قال:
(من لكعب بن الأشراف فقد آذى الله ورسوله) ، فانتقم منه
لذلك. قال المهلب: ولا يحل لأحد من الأئمة ترك حرمات الله
أن تنتهك وعليهم تغيير ذلك. وقد روى عن مالك فى الرجل يؤذى
وتنتهك حرمته ثم يأتيه الظالم
(8/406)
المنتهك لحرمته فيسأله الغفران. فقال: لا
أرى أن يغفر له. ووجه قول مالك إذا كان معروفًا بانتهاك
حرم المسلمين فلا يجب أن يجرى على هذا، ويرد بالإغلاظ عليه
والقمع له وعن ظلم أحد.
8 - باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ
وَالْوَضِيعِ
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى امْرَأَةٍ، فَقَالَ:
(إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَتْرُكُونَ
الشَّرِيفَ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ
فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) . قال
المهلب: هذا يدل أن حدود الله لا يحل للأئمة ترك إقامتها
على القريب والشريف، وأن من ترك ذلك من الأئمة فقد خالف
سنُة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورغب عن اتباع سبيله.
وفيه: أن إنفاذ الحكم على الضعيف ومحاشاة الشريف مما أهلك
الله به الأمم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وصف أن
بنى إسرائيل هلكوا بإقامة الحد على الوضيع وتركهم الشريف.
وقد وصفهم الله بالكفر لمخالفتهم أمر الله تعالى، فقال
تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
[المائدة: 44] ) الظالمون) [المائدة: 54] ) الفاسقون)
[المائدة: 47] وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو أن فاطمة
سرقت لقطعت يدها) هو فى معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو
الوالدين والأقربين) [النساء: 135] .
(8/407)
فامتثل (صلى الله عليه وسلم) أمر ربه فى
ذلك، وامتثله بعده الأئمة الراشدون فى تقويم أهليهم فيما
دون الحد. وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن سالم،
عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شىء جمع
أهله، فقال: إنى نهيت الناس عن كذا وكذا، والناس ينظرون
إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم
هابوا، وإنى والله لا أوتى برجل منكم وقع فى شىء مما نهيته
عنه إلا أضعف عليه العقوبة لمكانه منى، فمن شاء فليتقدم
ومن شاء فليتأخر.
9 - باب كَرَاهِة الشَّفَاعَةِ فِى الْحَدِّ إِذَا رُفِعَ
إِلَى السُّلْطَانِ
/ 13 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ
الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِى سَرَقَتْ،
فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ
زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ:
أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ،
فَخَطَبَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ
مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ
الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ
أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ
فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم)
سَرَقَتْ، لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا) . ذهب جماعة
العلماء إلى أن الحدّ إذا بلغ الإمام أنه يجب عليه إقامته،
لأنه قد تعلق بذلك حق لله ولا تجوز الشفاعة فيه لإنكاره
ذلك على أسامة وذلك من أبلغ النهى، ثم قام (صلى الله عليه
وسلم) خطيبًا فحذر أمته من الشفاعة فى الحدود إذا بلغت إلى
الإمام.
(8/408)
فإن قيل: فقد قال مالك وأبو يوسف والشافعى:
إن القذف إذا بلغ إلى الإمام يجوز للمقذوف العفو عنه إن
أراد سترًا. قيل له: إن هذه شبهة يجوز بها درء الحد؛ لأنه
إن ذهب الإمام إلى حد القاذف خشى أن يأتى بالبينة على صدق
ما قال من القذف، فيسقط الحد عنه، وربما وجب على المقذوف
فقويت الشبهة فى ذلك. وقد قال مالك أيضًا: إنه لا يجوز
عفوه إذا بلغ الإمام. وهو قول أبى حنيفة والثورى
والأوزاعى، وهذا القول أشبه بظاهر الحديث. وأجاز أكثر أهل
العلم الشفاعة فى الحدود قبل وصولها إلى الإمام. روى ذلك
عن الزبير ابن العوام، وابن عباس، وعمار بن ياسر، ومن
التابعين سعيد بن جبير والزهرى، وهو قول الأوزاعى. قالوا:
وليس على الإمام التجسس عما لم يبلغه. وكره ذلك طائفة:
فقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد
الله فى حكمه. وفرق مالك بين من لم يعرف منه أذى للناس.
فقال: لا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عرف
بشر وفساد فى الأرض فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن يترك حتى
يقام عليه الحد. قال ابن المنذر: واحتج من رأى الشفاعة
مباحة قبل الوصول إلى الإمام بحديث المخزومية؛ لأنه (صلى
الله عليه وسلم) إنما أنكر شفاعة أسامة فى حد قد وصل إليه
وعلمه. وفى هذا الحديث بيان رواية معمر عن ابن شهاب: (أن
امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبى (صلى
الله عليه وسلم) بقطع يدها) وقد تعلق بهذا قوم فقالوا: من
استعار ما يجب القطع
(8/409)
فيه ثم جحده فعليه القطع. هذا قول أحمد
وإسحاق وقالوا: إن الذى أوجب عليها القطع أنها كانت تستعير
المتاع وتجحده. وخالفهم أهل المدينة والكوفة والشافعى
وجمهور العلماء وقالوا: لا قطع عليهم. وحجتهم ما رواه
الليث عن ابن شهاب فى هذا الحديث: أن قريشًا أهمهم شأن
المرأة المخزومية التى سرقت، فدل هذا الحديث أنها لم تقطع
على استعارتها للمتاع، وإنما قطعت على السرقة، ألا ترى
قوله (صلى الله عليه وسلم) فى آخر الحديث (لو أن فاطمة بنت
محمد سرقت لقطع محمد يدها) فارتفع الإشكال بهذا لو لم يذكر
الليث فى أول الحديث أنها سرقت. قال ابن المنذر: وقد يجوز
أن كانت تستعير المتاع وتجحده ثم سرقت فوجب قطع يدها
للسرقة. وقد تابع الليث على روايته يونس بن يزيد وأيوب بن
موسى روياه عن الزهرى كرواية الليث، وإذا اختلفت الآثار
وجب الرجوع إلى النظر ووجب رد ما اختلف فيه إلى كتاب الله،
وإنما أوجب الله القطع على السارق لا على المستعير.
- باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]
وَفِى كَمْ يُقْطَعُ؟
وَقَطَعَ عَلِىٌّ مِنَ الْكَفِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِى
امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا: لَيْسَ إِلا
ذَلِكَ. / 14 - فيه: عَائِشَةَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) : (تُقْطَعُ الْيَدُ فِى رُبُعِ دِينَارٍ
فَصَاعِدًا) .
(8/410)
/ 15 - وقالت مرة: إِنَّ يَدَ السَّارِقِ
لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) إِلا فِى ثَمَنِ مِجَنٍّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ. / 16
- وقالت مرة: لَمْ تُقْطَعُ فِى أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ
المِجَن حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا
ثَمَنٍ. / 17 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) قَطَعَ فِى مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ
دَرَاهِمَ. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النّبىّ
(صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ
يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ
الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . هذه الآية محكمة فى وجوب
قطع السارق ومجملة فى مقدار ما يجب فيه القطع، فلو تركنا
مع ظاهره لوجب القطع فى قليل الأشياء وكثيرها، لكن بين لنا
النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار ما يجب فيه القطع بقوله:
(يقطع الكف فى ربع دينار فصاعدًا) ففهمنا بهذا الحديث أن
الله إنما أراد بقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)
[المائدة: 38] بعض السراق دون بعض فلا يجوز قطع يد السارق
إلا فى ربع دينار فصاعدًا أو فيما قيمته ربع دينار مما
يجوز ملكه إذا سرق من حرز. روى هذا القول عن عمر وعثمان
وعلى وعائشة، وهو قول مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأبى
ثور. وذهب الثورى والكوفيون إلى أنه لا تقطع اليد إلا فى
عشرة دراهم، وقالوا: من سرق مثقالا لا يساوى عشرة دراهم لا
قطع عليه. وكذلك من سرق عشرة دراهم فضة لا تساوى عشرة
دراهم مضروبة لم يقطع، واحتجوا بما رواه أبو إسحاق، عن
أيوب بن موسى، عن
(8/411)
عطاء، عن ابن عباس قال: كانت قيمة المجن
الذى قطع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه عشرة دراهم.
والحجة على الكوفيين أنه يحتمل أن يكون القطع فى عهد رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) فى مجنين مختلفين أحدهما ثمنه
ثلاثة دراهم والثانى ثمنه عشرة دراهم؛ لأنه إذا صح القطع
بنقل الثقات فى ثلاثة دراهم دخلت فيه العشرة دراهم، وهذا
أولى من حمل الأخبار على التضاد. ومع الأئمة الأربعة
الراشدين عائشة، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدرى، وابن
الزبير، رضوان الله عليهم. واختلف مالك والشافعى فى تقويم
الأشياء المسروقة، فقال مالك: تقوم بالدراهم على حديث ابن
عمر أن المجن كان ثمنه ثلاثة دراهم، ولا ترد الفضة إلى
الذهب فى القيمة ولا الذهب إلى الفضة، فمن سرق عنده ربع
دينار فعليه القطع، ومن سرق ثلاثة دراهم فعليه القطع، ولو
سرق عنده درهمين صرفهما ربع دينار لم يجب عليه قطع، ولو
سرق ربع دينار لا تبلغ قيمته ثلاثة دراهم لوجب عليه القطع.
وذهب الشافعى إلى أن تقويم الأشياء بالذهب على حديث عائشة
فى ربع دينار، ولا يقوم شيئًا بالدراهم فيقطع فى ربع دينار
ولا يقطع فى ثلاثة دراهم إلا أن تكون قيمتها ربع دينار
قال: لأن الثلاثة دراهم إنما ذكرت فى الحديث؛ لأنها كانت
يومئذ ربع دينار ذهبًا. فيقال للشافعى: الذهب والورق أصلان
كالدية التى جعلت ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم،
وكالزكاة التى جعلت فى مائتى درهم أو عشرين دينارًا لا يرد
أحدهما إلى الآخر. فكذلك لا ينبغى أن يقوم
(8/412)
الذهب بالدراهم ولا تقوم الدراهم بالذهب؛
لأنها قيم المتلفات وأثمان الأشياء، بل الغالب القيمة
بالدراهم، ومحال أن يحكى ابن عمر أن المجن قيمته ثلاثة
دراهم إلا وقد قوم بها دون الذهب، وإذا ثبت أن المجن قُوم
بالدراهم ولم ينقل بعد ذلك أن الدراهم قومت بالذهب لم يجز
تقويمها بالذهب كما لا يقوم الذهب بها، ووجب استعمال
الأحاديث فوجب القطع فى ربع دينار وثلاثة دراهم. واختلفوا
فى اليد والرجل من أين يُقطعان؟ فروى عن عمر وعثمان وعلى
أنهم قالوا: من المفصل. وعليه أكثر الفقهاء، وقد روى عن
على رواية أخرى أنها تقطع اليد من الأصابع والرجل من نصف
القدم ويترك له عقبًا. وقال أبو ثور: فعل على أرفق وأحب
إلىّ. والقول الأول: أولى بقوله تعالى: (فاقطعوا أيديهما)
[المائدة: 38] . واختلفوا إذا سرق ثالثة بعد أن قطع فى
الأولى والثانية. فقالت طائفة: تقطع يده اليسرى، ثم إن سرق
رابعة قطعت رجله اليمنى فيصير مقطوع اليدين والرجلين. روى
هذا عن أبى بكر الصديق وعمر وعثمان، ومن التابعين عروة
والقاسم وسعيد بن المسيب وربيعة، وهو قول مالك والشافعى.
وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى: إن سرق الثالثة لا يقطع
منه شىء ويغرم السرقة، روى مثل هذا عن على بن أبى طالب وهو
قول النخعى والشعبى والزهرى.
(8/413)
قال عطاء، وقال بعض أصحاب الظاهر: لا يجب
أن يقطع من السارق إلا الأيدى دون الأرجل، واحتج عطاء بقول
الله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة:
38] ولو شاء أمر بالرجل وما كان ربك نسيا. وحجة الكوفيين
ما رواه إسماعيل بن جعفر، عن أبيه أن على بن أبى طالب كان
لا يزيد أن يقطع للسارق يدًا أو رجلا فإذا أتى به بعد ذلك
قال: إنى لأستحى أن لا يتطهر للصلاة ولكن امسكوا كلبه عن
المسلمين بالسجن وأنفقوا عليه من بيت المال. والحجة لمالك
أن أهل العراق والحجاز يقولون بجواز قطع الرجل بعد اليد
وهم يقرءون) فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] وهذه المسألة
تشبه المسح على الخفين وهم يقرءونه غسل الرجلين أو مسحهما،
وتشبه الجزاء فى قتل صيد الخطأ وهم يقرءونه) ومن قتله منكم
متعمدًا) [المائدة: 95] ولا يجوز على الجمهور تحريف الكتاب
ولا الخطأ فى تأويله، وإنما قالوا ذلك بالسنة الثابتة
والأمر المتبع. وقال إسماعيل بن إسحاق: لما قال الله:
(فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] فأجمعوا أن يده تقطع، ثم
إن سرق بعد ذلك قطع منه شىء آخر، فدل على أن المذكور فى
القرآن إنما هو على أول حكم يقع عليه فى السرقة، وأنه إن
سرق بعد ذلك أعيد عليه الحكم كما يحد إذا زنا وهو بكر،
فإذا أعاد الزنا أعيد عليه الحد فإذا صح هذا وجب أن يقطع
أبدًا حتى لا يبقى له يد ولا رجل كما يجلد أبدًا حتى لا
يبقى فيه موضع جلد.
(8/414)
وقال غيره: إنما فهم السلف قطع يد السراق
وأرجلهم من خلاف من آية المحاربين، والله أعلم وقد تقدم
الكلام على حديث أبى هريرة فى باب لعن السارق إذا لم يسم.
- باب تَوْبَةِ السَّارِقِ
/ 19 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) ، قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ، وَكَانَتْ تَأْتِى بَعْدَ
ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) فَتَابَتْ، وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا. / 20 -
وفيه: عبادة فى حديث المبايعة إلى قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ
بِهِ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ،
وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ
شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) . وقد تقدم فى
كتاب الشهادة اختلاف العلماء فى قبول شهادة التائب فى كل
شىء مما حدَّ فيه وفى غيره لقول عائشة: فتابت وحسنت توبتها
وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (التائب من الذنب كمن لا
ذنب له) وهو معنى قوله فى هذا الحديث أن الحدود فى الدنيا
كفارة وطهور، وصحة القول أرجح فى النظر من قول من خالفه
لما شهد له من ثابت الآثار ومعانى القرآن، والحمد لله.
(8/415)
|