شرح صحيح
البخارى لابن بطال 61 - كتاب المحاربين
- باب الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة: 33]
. / 1 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) ، نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا،
فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا
إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا
وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا،
وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَعَثَ
فِى آثَارِهِمْ، فَأُتِىَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ
وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ
يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. قال المؤلف: ذهب البخارى فى
هذا الحديث والله أعلم، إلى أن آية المحاربة نزلت فى أهل
الكفر والردة، ولم يبين ذلك فى الحديث، وقد بين عبد الرزاق
فى روايته قال: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس فذكر الحديث.
قال قتادة: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم) إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله) [المائدة: 33] الآية كلها.
وذكر مثله عن أبى هريرة وممن قال إن هذه الآية نزلت فى أهل
الشرك: الحسن، والضحاك، وعطاء الزهرى. وذهب جمهور العلماء
إلى أنها نزلت فيمن خرج من
(8/416)
المسلمين يسعى فى الأرض بالفساد ويقطع
الطريق، هذا قول مالك والكوفيين والشافعى وأبى ثور إلا أن
بعض هؤلاء يقول إن حد المحارب على قدر ذنبه على ما يأتى
تفسيره فى هذا الباب. وليس قول من قال: إن الآية وإن كانت
نزلت فى المسلمين مناف فى المعنى لقول من قال إنها نزلت فى
أهل الردة والمشركين؛ لأن الآية وإن كانت نزلت فى المرتدين
بأعيانهم فلفظها عام يدخل فى معناه كل من فعل مثل فعلهم من
المحاربة والفساد فى الأرض، ألا ترى أن الله جعل قصر
الصلاة فى السفر بشرط الخوف ثم ثبت القصر للمسافرين وإن لم
يكن خوف لما يجمعهما فى المعنى. قال إسماعيل بن إسحاق:
وظاهر كتاب الله وما مضى عليه عمل المسلمين يدل أن هذه
الحدود نزلت فى المسلمين؛ لأن الله تعالى يقول: (إذا لقيتم
الذين كفروا فضرب الرقاب) [محمد: 4] وقال: (وقاتلوا
المشركين كافة) [التوبة: 36] . فلم يذكر فيهم إلا القتل
والقتال؛ لأنهم إنما يقاتلون على الديانة لا على الأعمال
التى يعملونها من سرق أو قطع طريق أو غيره، وإذا ذكرت
الحدود التى تجب على الناس من الحرابة والفساد فى الأرض أو
السرقة وغيرها لم تسقط عن المسلمين؛ لأنها إنما وجبت من
طريق أفعال الأبدان لا من طريق اعتقاد الديانات. ولو كان
حد المحارب فى الكافر خاصة لكانت الحرابة قد نفعته فى أمر
دنياه لأنا نقتله بالكفر. فإن كان إذا أحدث الحرابة مع
الكفر جاز لنا أن نقطع يده ورجله
(8/417)
من خلاف أو نفيه من الأرض ولا نقتله فقد
خففت عنه العقوبة. واحتج أبو ثور على من زعم أنها نزلت فى
أهل الشرك بقوله تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا
عليهم) [المائدة: 34] . قال: ولا أعلم خلافًا بين العلماء
فى مشركين لو ظهر عليهم وقد قتلوا وأخذوا الأموال فلما
صاروا فى أيدى المسلمين وهم على حالهم تلك أسلموا قبل أن
يحكم عليهم بشىء أنهم لا يحل قتلهم، فلو كان الأمر على ما
قال من خالف قولنا كان قتلهم والحكم عليهم بالآية لازمًا
وإن أسلموا، فلما نفى أهل العلم ذلك دل على أن الحكم ليس
فيهم. قال إسماعيل: وإنما سقط عنهم القتل وكل ما فعلوه
بقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد
سلف) [الأنفال: 38] . فإن مضى عليه قول شيوخ أهل العلم أن
المعنى بهذا المسلمون وأنهم إذا حاربوا ثم تابوا من قبل أن
يقدر عليهم فإن هذه الحدود تسقط عنهم لأنها لله، وأما حقوق
العباد فإنها لا تسقط عنهم ويقتص منهم من النفس والجراح
وأخذ ما كان معهم من المال أو قيمة ما استهلكوا. هذا قول
مالك والكوفيين والشافعى وأبى ثور. ذكره ابن المنذر. وأما
ترتيب أقوال العلماء الذين جعلوا الآية نزلت فى المسلمين
فى حد المحارب المسلم، فقال مالك: إذا أشهر المحارب السلاح
وأخاف
(8/418)
السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا كان الإمام
مخيرًا فيه، فإن رأى أن يقتله أو يصلبه أو يقطع يده ورجله
من خلاف أو ينفيه فعل. وقال الكوفيون والشافعى: إذا لم
يقتل ولا أخذ مالا لم يكن عليه إلا التعزير، وإنما يقتله
الإمام إن قتل، ويقطعه إذا سرق، ويصلبه إذا قتل وأخذ
المال، وينفيه إذا لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا يكون الإمام
مخيرًا فيه. قال إسماعيل: فأجروا حكم المحارب كحكم القاتل
غير المحارب، ولم توجب المحاربة عندهم شيئًا وقد ركب ما
ركب من الفساد فى الأرض وقد قال تعالى: (من قتل نفسًا بغير
نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا) [المائدة:
32] فجعل الفساد بمنزلة القتل. والمعنى والله أعلم من قتل
نفسًا بغير نفس، أو بغير فساد فى الأرض فلم يحتج إلى أن
تعاد (غير) وعطف الكلام على ما قبله، فجعل الفساد عدلا
للقتل. وإذا كان الشىء بمنزلة الشىء فهو مثله، فكان الفساد
فى الأرض بمنزل القتل. هذا قول إسماعيل وعبد العزيز بن أبى
سلمة. قال إسماعيل: والذى يعرف من الناس من الكلام فى كل
ما أمر به فقيل افعلوا كذا أو كذا، فإن صاحبه مخير. وقال
عطاء ومجاهد والضحاك: كل شىء فى القرآن أو. . . أو فهو
خيار. واحتج من أسقط التخيير بقوله (صلى الله عليه وسلم) :
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه
أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس) .
(8/419)
فجاوبهم أهل المقالة الأولى بأن ظاهر هذا
الحديث يدل أن المحارب غير داخل فيه؛ لأن قاتل النفس فى
غير المحاربة إنما أمره فى القتل أو الترك إلى ولى
المقتول، وأمر المحارب إلى السلطان؛ لأن فساده فى الأرض لا
يلتفت فيه إلى عفو المقتول فعلمنا بهذا أن المحارب لا يدخل
فى هذا الحديث وإنما يدخل فيه القاتل الذى الأمر فيه إلى
ولى المقتول إذا قتل فيه أو قتل نفسًا فكأنه على مجرى
القصاص، ولو كان على العموم لوجب أن يقتل كل قاتل قتل
مسلمًا عمدًا. وقد رأينا مسلمًا قتل مسلمًا عمدًا لم يجب
عليه القتل فى قول جماعة المسلمين، وذلك أنهم أجمعوا فى
قتلى الجمل وصِفين أنه لا قصاص بينهم إذ كان القاتل المسلم
إنما قتل المسلم المقتول عمدًا على التأويل فى الدين لم
يقتله لثائرة بينه وبينه ولا قصد له فى نفسه وإنما قصد فى
قتله الديانة عنده فسقط عنه القود لذلك فكذلك أمر المحارب
إنما كان على قصد قتل المسلم لقطع الطريق وأخذ الأموال
والفساد فى الأرض، فكان الأمر فيه إلى السلطان لا إلى ولى
المقتول، فكما خرج قتلى صِفين والجمل من معنى هذا الحديث
كذلك خرج المحارب من معناه. ويشهد لما قلناه ما رواه
الأعمش عن عبد الله بن مرة قال: قال مسروق: قال عبد الله:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يحل دم رجل مسلم
إلا بإحدى ثلاث. فعدَّ النفس بالنفس، والثيب الزانى،
والتارك لدينه المفارق الجماعة) . قال إسماعيل: وقوله:
(المفارق الجماعة) يدل على الفساد فى الأرض نحو الخوارج
والمحاربين، فإذا كان الخوارج يحل قتلهم
(8/420)
وليسوا بمرتدين لفسادهم فى الأرض، كذلك يحل
قتل المحاربين وإن لم يكونوا قتلوا ولا ارتدوا لفسادهم فى
الأرض. واختلف فى صفة نفى المحارب، فعند مالك أنه ينفيه
إلى غير بلده ويحبسه فيه حتى يظهر توبته، وقال أبو حنيفة:
نفيهم من الأرض هو أن يحبسوا فى بلدهم. وقال الشافعى:
نفيهم هو إذا هربوا بعث الإمام خلفهم وطلبهم ليأخذهم ويقيم
عليهم الحد. قال ابن القصار: والنفى بعينه أشبه بظاهر
القرآن لقوله تعالى: (أو ينفوا من الأرض) [المائدة: 33]
وهذا يقتضى أن ينفيهم الإمام كما يقتلهم أو يصلبهم، وما
قاله أبو حنيفة من الحبس فى بلدهم فالنفى ضد الحبس وليس
يعقل من النفى حبس الإنسان فى بلده، وإنما يعقل منه إخراجه
من وطنه وهو أبلغ فى ردعه ثم يحبس فى المكان الذى يخرج
إليه حتى يظهر توبته، هذا حقيقة النفى، وهو أشد فى الردع
والزجر وقد قرن الله مفارقة الوطن بالقتل فقال: (ولو أنا
كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم)
[النساء: 66] الآية.
- باب لَمْ يَحْسِمِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا
/ 2 - فيه: أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ، وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى
مَاتُوا. إنما لم يحسم النبى (صلى الله عليه وسلم)
العرنيين والله أعلم لأن قتلهم كان واجبًا بالردة، فمحال
أن يحسم يد من يطلب نفسه وأما
(8/421)
من وجب قطع يده فى حد من الحدود فالعلماء
مجمعون أنه لابد من حسمها؛ لأنه أقرب إلى البر وأبعد من
التلف. قال ابن المنذر: وقد روى عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنه أمر بقطع يد رجل سرق ثم قال: (احسموها) وفى
اسناده مقال. واختلف العلماء فى فعل النبى (صلى الله عليه
وسلم) بالعرنيين فقالت طائفة من السلف: كان هذا قبل نزول
الآية فى المحاربين، ثم نزلت الحدود بعد ذلك على النبى
(صلى الله عليه وسلم) ونهى عن المثلة فنسخ ذلك حديث
العرنيين، روى هذا عن ابن سيرين وسعيد بن جبير وأبى
الزناد. وقالت طائفة: حديث العرنيين غير منسوخ، وفيهم نزلت
آية المحاربين، وإنما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بهم
ما فعل قصاصًا؛ لأنهم فعلوا بالرعاء مثل ذلك، ذكره أهل
السير. وروى محمَّد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن
شهاب: أن العرنيين قتلوا يسارًا راعى النبى (صلى الله عليه
وسلم) ثم مثلوا به واستاقوا اللقاح. وذكر ابن إسحاق قال:
حدثنى بعض أهل العلم عمن حدثه، عن محمد بن طلحة، عن عثمان
بن عبد الرحمن قال: (أصاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
فى غزوة محارب بنى ثعلبة عبدًا يقال له يسار، فجعله فى
لقاح له يرعى فى ناحية الحمى فخرجوا إليها، فقدم إلى النبى
(صلى الله عليه وسلم) نفر من قيس بعطية من نخيلة فاستوبئوا
وطحلوا، فأمرهم أن يخرجوا إلى اللقاح يشربوا من أبوالها
وألبانها،
(8/422)
فخرجوا إليها، فلما صحّوا وانطوت بطونهم
عدوا على راعى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسار فذبحوه
وغرزوا الشوك فى عينيه. .) وذكر الحديث. وروى أبو عيسى
الترمذى: حدثنا الفضل بن سهل الأعرج، حدثنا يحيى بن غيلان،
حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سليمان التيمى، عن أنس بن مالك
قال: (إنما سمل النبى (صلى الله عليه وسلم) أعين
العُرنيين؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء) . قال أبو عيسى: وهذا
حديث غريب. قال المؤلف: فلما اختلفوا فى تأويل هذا الحديث
أردنا أن نعلم أى التأويلين أولى فوجدناه قد صحب حديث
العرنيين عمل من الصحابة فدل أنه غير منسوخ. روى عن أبى
بكر الصديق أنه حرق عبد الله بن إياس بالنار حيا لارتداده
ومقاتلته الإسلام، وحرق على ابن أبى طالب الزنادقة. وقد
رأى جماعة من العلماء تحريق مراكب العّدو وفيها أسرى
المسلمين، ورجموا الحصون بالمجانيق والنيران وتحريق من
فيها من الذرارى. قل المهلب: وهذا كله يدل أن نهيه (صلى
الله عليه وسلم) عن المثلة ليس بذى تحريم وإنما هو على
الندب والحض، فوجب أن يكون فعل النبى (صلى الله عليه وسلم)
بالعرنيين غير مخالف الآية. وذكر ابن المنذر عن بعض أهل
العلم قالوا: فحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العرنيين
ثابت لم ينسخه شىء، وقد حكم الله فى كتابه بأحكام فحكم
النبى (صلى الله عليه وسلم) بها وزاد فى الحكم مالم يذكر
فى كتاب الله أوجب الله على الزانى جلد مائة، وأوجب النبى
(صلى الله عليه وسلم) عليه ذلك وزاد فى سنته نفى سنة،
وأوجب الله اللعان بين المتلاعنين وفرق النبى (صلى الله
عليه وسلم) بينهما، وليس ذلك فى كتاب الله، وألحق الولد
بالأم ونفاه عن الزوج وأجمع العلماء على قبوله والأخذ به.
(8/423)
وحسمت الشىء: قطعته. عن صاحب العين. وفى
كتاب الأفعال: حَسم حسمًا: كواه بالنار لينقطع دمه.
3 - باب لَمْ يُسْقَ الْمُرْتَدُّونَ وَالْمُحَارِبُونَ
حَتَّى مَاتُوا
/ 3 - فيه: أَنَس، قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا فِى الصُّفَّةِ،
فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَبْغِنَا رِسْلا، فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ،
إِلا أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ،
فَأَتَوْهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا
حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِىَ،
وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِى
آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِىَ
بِهِمْ فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ، فَأُحْمِيَتْ،
فَكَحَلَهُمْ، وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ،
وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِى الْحَرَّةِ
يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَبُو
قِلابَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ. وروى: وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ. وترجم له باب:
سمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أعين المحاربين. أجمع
العلماء فيمن وجب عليه حد، سواء كان ذلك الحد يبلغ النفس
أم لا أنه لا يمنع شرب الماء لئلا يجتمع عليه عذابان. وقد
أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) القاتل بإحسان القتلة،
وأمر ذابح الحيوان بحد الشفرة والإجهاز عليه. ومعنى ترك
سقى العرنيين حتى ماتوا كمعنى ترك حسمهم. قال المهلب:
ويحتمل أن يكون ترك سقيهم والله أعلم عقوبة لما جازوا سقى
النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم اللبن حتى انتعشوا
(8/424)
بالارتداد والحرابة والقتل، فأراد أن
يعاقبهم على كفر السقى بالإعطاش فكانت العقوبة مطابقة
للذنب. وفيه وجه آخر قريب من هذا، روى ابن وهب عن معاوية
بن صالح ويحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، وعن سعيد بن
المسيب وذكر هذا الحديث (فعمدوا إلى الراعى غلام لرسول
الله (صلى الله عليه وسلم) فقتلوه واستاقوا اللقاح فزعم أن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: عطش الله من عطش آل
محمد الليلة. فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته (صلى الله عليه
وسلم)) . وسمل وسمر لغتان بمعنى واحد. فإن قيل: قال أنس فى
هذا الحديث (بإبل النبى (صلى الله عليه وسلم)) وقال فى أول
كتاب المحاربين (بإبل الصدقة) فما وجه ذلك؟ قيل: وجهه
والله أعلم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت له إبل من
نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل
الصدقة فأخبر مرة فى هذا الحديث عن إبله، وأخبر مرة عن إبل
الصدقة فإنها كانت لا تخفى لكثرتها من أجل رعيها معها
ومشاركتها فى المسرح والمرتع.
4 - باب فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم)
: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى
ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ،
وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ
اللَّهَ فِى خَلاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ
قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا
فِى اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ
وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: إِنِّى أَخَافُ
اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا
حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) .
(8/425)
/ 5 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
السَّاعِدِىِّ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ
تَوَكَّلَ لِى مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ
لَحْيَيْهِ، تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ) . قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (سبعة يظللهم الله فى ظله) معناه:
يسترهم فى ستره ورحمته. تقول العرب: أنا فى ظل فلان: أى فى
ستره وكنفه، وتسمى العرب الليل ظلا لبرده وروحه. ويدخل فى
معنى قوله (إمام عادل) : من حكم بين اثنين فما فوقهما
لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (كلكم راع وكلكم مسئول عن
رعيته) . وروى عبد الله بن عمر عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال: (المقسطون يوم القيامة على منابر النور عن
يمين الرحمن عز وجل الذين يعدلون فى حكمهم وأهاليهم وما
ولُوا) . وقوله: (شاب نشأ فى عبادة الله) فروى عقبة بن
عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (عجب ربك
تعالى لشاب ليس له صبوة) وفى قوله: (شاب نشأ فى عبادة
الله) فضل من يسلم من الذنوب وشغل بطاعة ربه طول عمره.
وهذا حجة لمن قال: إن الملائكة أفضل من بنى آدم؛ لأن
الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وفيه: فضل
البكاء من خشية الله، وفى اشتراطه الخلوة بذلك حصر وندب
على أن يجعل المرء وقتًا من خلوته للندم على ذنوبه ويفزع
إلى الله بإخلاص من قلبه، وتضرع إليه فى غفرانها فإنه يجيب
المضطر إذا دعاه، وألا يجعل خلوته كلها فى لذاته كفعل
البهائم التى قد
(8/426)
أمنت الحساب والمساءلة عن الفتيل والقطمير
على رءوس الخلائق فينبغى لمن لم يأمن ذلك وأيقن به أن يطول
فى الخلوة بكاؤه ويتبرم لحياته وتصير الدنيا سجنه لما سلف
من ذنوبه. روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
أنه قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود
اللبن فى الضرع) . روى أبو عمران عن أبى الجلد قال: قرأت
فى مسألة داود (صلى الله عليه وسلم) ربه: (إلهى ما جزاء من
بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه؟ قال: أسلم وجهه من
لفح النار وأؤمنه يوم الفزع) . وفيه: فضل الحب فى الله قال
مالك: الحب فى الله والبغض فى الله من الفرائض. روى أبو
مسعود والبراء بن عازب عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : أن
ذلك من أوثق عُرى الإيمان. وروى ثابت عن أنس قال النبى
(صلى الله عليه وسلم) : (ما تحاب رجلان فى الله إلا كان
أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه) وروى أبو رزين قال: (قال لى
النبى (صلى الله عليه وسلم) : يا أبا رزين إذا خلوت فحرك
لسانك بذكر الله، وحب فى الله وأبغض فى الله، فإن المسلم
إذا زار أخاه فى الله تعالى يشيعه سبعون ألف ملك يقولون:
اللهم وَصَلَه فيك فصِلْه) . ومن فضل المتحابين فى الله أن
كل واحد منهما إذا دعا لأخيه بظهر الغيب أمَّنَ الملك على
دعائه، رواه أبو الدرداء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) .
وأما الذى إذا دعته امرأة ذات منصب إلى نفسها فقال: إنى
أخاف الله. فهو رجل عصمه الله ومنّ عليه بفضله حتى خافه
بالغيب فترك ما يهوى
(8/427)
لقوله تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى
النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى) [النازعات: 40] وقال:
(ولمن خاف مقام ربه جنتان) [الرحمن: 46] . فتفضل الله على
عباده بالتوفيق والعصمة وأثابهم على ذلك روى أبو معمر عن
سلمة بن نبيط عن عبيد بن أبى الجعد، عن كعب الأحبار قال:
إن فى الجنة لدار، درة فوق درة، ولؤلؤة فوق لؤلؤة، فيها
سبعون ألف قصر، فى كل قصر سبعون ألف دار، فى كل دار سبعون
ألف بيت، لا ينزلها إلا نبى أو صديق أو شهيد أو محكم فى
نفسه أو إمام عادل، قال سلمة: فسألت عبيدًا عن المحكم فى
نفسه قال: هو الرجل يطلب الحرام من النساء أو من المال
فيعرض له فإذا ظفر به تركه مخافة الله فذلك المحكم فى
نفسه. وقوله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها) يعنى صدقة التطوع؛
لأن صدقة الفرض إعلانها أفضل من إخفائها ليقتدى به فى ذلك
ويظهر دعائم الإسلام. وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما صنعت
يمينه) إخفاء بذلك، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (إن
تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو
خير لكم) [البقرة: 171] . وقوله: (من ضمن لى ما بين لحييه)
يريد لسانه (وما بين رجليه) يريد فرجه. وأكثر بلاء الناس
من قبل فروجهم وألسنتهم، فمن سلم من ضرر هذين فقد سلم وكان
النبى (صلى الله عليه وسلم) له كفيلا بالجنة.
(8/428)
5 - باب إِثْمِ الزُّنَاةِ وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: (وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان: 68] ،) وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ
سَبِيلا) [الإسراء: 32]
. / 6 - فيه: أَنَسٌ، قَالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لا
يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِى سَمِعْتُهُ مِنَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ،
وَإِمَّا قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَنْ يُرْفَعَ
الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ،
وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ
النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً
الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ) . / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يَزْنِى الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا
يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ
حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَقْتُلُ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ) . قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ:
كَيْفَ يُنْزَعُ الإيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا،
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ
تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ
أَصَابِعِهِ. / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ مثله، غير قول
عِكْرِمَةُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (وَالتَّوْبَةُ
مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ) . / 9 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ:
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟
قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ،
قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ
أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ:
أَنْ تُزَانِىَ حَلِيلَةَ جَارِكَ) . قال يحيى مثله. أجمعت
الأمة أن الزنا من الكبائر وأخبر (صلى الله عليه وسلم) فى
حديث أنس أن ظهوره من أشراط الساعة.
(8/429)
قال المهلب: فى حديث عبد الله ترتيب الذنوب
فى العظم، وقد يجوز أن يكون بين الذنبين المرتبين ذنب غير
مذكور، وهو أعظم من المذكور، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة
أن عمل قوم لوط أعظم من الزنا. وكان (صلى الله عليه وسلم)
إنما قصد بالتعظيم من الذنوب إلى ما يخشى مواقعته وبه
الحاجة إلى بيانه وقت السؤال كما فعل فى الإيمان بوفد عبد
القيس وغيرهم. وإنما عظم الزنا بحليلة الجار، وإن كان
الزنا عظيمًا؛ لأن الجار له من الحرمة والحق ما ليس لغيره،
فمن لم يراع حق الجوار فذنبه مضاعف؛ لجمعه بين الزنا وبين
خيانة الجار الذى وصى الله تعالى بحفظه.
(8/430)
|