شرح صحيح البخارى لابن بطال

64 - كِتَاب اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ
- باب إِثْمِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] ، وَقَالَ: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] . / 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ () [لقمان: 13] . / 2 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ قَالَ،: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ. . . الحديث. / 3 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِى الإسْلامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِى الإسْلامِ أُخِذَ بِالأوَّلِ وَالآخِرِ) . قال المؤلف: لا إثم أعظم من إثم الإشراك بالله، ولا عقوبة أعظم من عقوبته فى الدنيا والآخرة؛ لأن الخلود الأبدى فى النار لا يكون فى ذنب غير الشرك بالله تعالى ولا يحبط الإيمان غيره؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] وإنما سمَّى الله الشرك ظلمًا؛ لأن الظلم عند العرب وضع الشىء فى

(8/569)


غير موضعه؛ لأنه كان يجب عليه الاعتراف بالعبودية والإقرار بالربوبية لله تعالى حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وخلقه من قبل ولم يك شيئًا، ومنَّ عليه بالإسلام والصحة والرزق إلى سائر نعمه التى لا تحصى. وقد ذكر بعض المفسرين فى قوله تعالى: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) [لقمان: 20] أن رجلا من العباد عد نفسه فى اليوم والليلة، فوجد ذلك أربعة عشر ألف نفس، فكم يرى لله على عباده من النعم فى غير النفس مما يعلم ومما لا يعلم، ولا يهتدى إليه، وقد أخبر الله تعالى أن من بدل نعمة الله كفرًا فهو صال فى جهنم، فقال تعالى: (ألم ترى إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار) [إبراهيم: 28، 29] . قال المهلب: وأما حديث ابن مسعود فمعناه: من أحسن فى الإسلام بالتمادى عليه ومحافظته، والقيام بشروطه؛ لم يؤاخذ بما عمل فى الجاهلية، وأجمعت الأمة أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله. وأما قوله: (من أساء فى الإسلام) فمعناه: من أساء فى عقد الإسلام والتوحيد، بالكفر بالله، فهذا يؤخذ بكل كفر سلف له فى الجاهلية والإسلام، فعرضت هذا القول على بعض العلماء فأجازوه، وقالوا: لا معنى لحديث ابن مسعود غير هذا، ولا تكون هذه الإساءة إلا الكفر؛ لأجماع الأمة أن المؤمنين لا يؤاخذون بما عملوا فى الجاهلية.

(8/570)


- باب حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتْهمَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِىُّ وَإِبْرَاهِيمُ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ (الآيات، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (، [آل عمران: 100] وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا (إِلَى) سَبِيلا) [النساء: 137] . وَقَالَ: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (، [المائدة: 54] . وَقَالَ: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا (إِلَى) الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ (، [النحل: 106] يَقُولُ حَقًّا،) أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [النحل: 109] إِلَى) لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 110] ،) وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (إِلَى) خَالِدُون) [البقرة: 217] . / 4 - فيه: عِكْرِمَةَ، قَالَ: أُتِىَ عَلِىٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) . / 5 - وفيه: أَبُو مُوسَى أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) بعثه إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ إِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. اختلف العلماء فى استتابة المرتد، فروى عن عمر بن الخطاب

(8/571)


وعثمان وعلى وابن مسعود أنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، وهو قول أكثر العلماء. وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد فى الحال، روى ذلك عن الحسن البصرى وطاوس وذكره الطحاوى عن أبى يوسف، وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) قالوا: ولم يذكر فيه استتابةً، وكذلك حديث معاذ وأبى موسى قتلوا المرتد بغير استتابة. قال الطحاوى: جعل أهل هذه المقالة حكم المرتد حكم الحربيين إذا بلغتهم الدعوة أنه يجب قتالهم دون أن يؤذنوا قال: وإنما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة منه، فأما إن خرج منه عن بصيرة فإنه يقتل دون استتابة. قال أبو يوسف: إن بدر بالتوبة، خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى. قال ابن القصار: والدليل على أنه يستتاب الإجماع، وذلك أن عمر بن الخطاب قال فى المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعتموه كل يوم رغيفًا لعله يتوب فيتوب الله عليه، اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغنى. ولم يختلف الصحابة فى استتابة المرتد، فكأنهم فهموا من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) ، أن المراد بذلك إذا لم يتب، والدليل على ذلك قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فهو عموم فى كل كافر.

(8/572)


وأما حديث معاذ وأبى موسى فلا حجة فيه لمن لم يقل بالاستتابة؛ لأنه روى أنه قد كان استتابه أبو موسى، روى أبو بكر بن أبى شيبة قال: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن حميد بن هلال: (أن معاذًا أتى أبا موسى وعنده يهودى أسلم، ثم ارتد، وقد استتابه أبو موسى شهرين فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه) . واختلفوا فى استتابة المرتدة، فروى عن على بن أبى طالب أنها لا تستتاب وتسترق، وبه قال عطاء وقتادة وروى الثورى عن بعض أصحابه، عن عاصم بن بهدلة، عن أبى رزين، عن ابن عباس قال: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، ولكن يحبسن ويجبرن عليه. ولم يقل بهذا جمهور العلماء، وقالوا: لا فرق بين استتابة المرتد والمرتدة، وروى عن أبى بكر الصديق مثله. وشذ أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بما روى عن ابن عباس فى ذلك، وقالوا: إن ابن عباس روى عن الرسول: (من بدل دينه فاقتلوه) ولم ير قتل المرتدة فهو أعلم بمخرج الحديث، واحتجوا بأن الرسول نهى عن قتل النساء، قالوا: والمرتدة لا تقتل، فوجب أن لا تقتل كالحربية. وحجة الجماعة أنها تستتاب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) ولفظ (من) يصلح للذكر والأنثى فهو عموم يدخل فيه الرجال والنساء؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخص امرأة من رجل. قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجل جُرم

(8/573)


اجترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكام فى كتابه، وحدود دون الكفر ألزمها عباده، منها الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد القذف والقصاص وكانت الأحكام والحدود التى هى دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع عموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك؟ هذا غلط بَيِّن. وأما حديث ابن عباس فإنما رواه أبو حنيفة، عن عاصم، وقد قال أحمد بن حنبل: لم يروه الثقات من أصحاب عاصم كشعبة وابن عيينة وحماد بن زيد، وإنما رواه الثورى، عن أبى حنيفة، وقد قال أبو بكر بن عياش: قلت لأبى حنيفة: هذا الذى قاله ابن عباس إنما قاله فيمن أتى بهيمة أنه لا قتل عليه، لا فى المرتدة، فتشكك فيه وتلون لم يقم به، فدل أنه خطأ. ولو صح لكان قول ابن عباس معارضه؛ لأن أبا بكر الصديق مخالف له، وقد قال: تستتاب المرتدة. ثم يرجع إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) الذى هو الحجة على كل أحد. وأما قياسهم لها على الحربية فالفرق بينهما أن الحربية إنما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوفر بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة: لا تسبى ولا تسترق، فليس فى استبقائها غنم. واختلفوا فى الزنديق هل يستتاب؟ فقال مالك والليث وأحمد وإسحاق: يقتل ولا تقبل توبته. قال مالك: والزنادقة: ما كان عليه المنافقون من إظهار الإيمان وستر الكفر.

(8/574)


واختلف قول أبى حنيفة وأبى يوسف؛ فمرة قالا: يستتاب، ومرة قالا: لا يستتاب. وقال الشافعى: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد. وهو قول عبيد الله بن الحسن. وذكر ابن المنذر، عن على بن أبى طالب مثله. وقيل لمالك: لم يقتل الزنديق ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: لأن توبته لا تعرف، وأيضًا فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه، ولو قتلهم بعلمه؛ لكان ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة، ولامتنع من أراد الإسلام من الدخول فيه إذا رأى النبى (صلى الله عليه وسلم) يقتل من دخل فى الإسلام؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بالكفر. هذا معنى قوله، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لئلا يقول الناس أنه يقتل أصحابه) . واحتج الشافعى بقوله تعالى فى المنافقين: (واتخذوا أيمانهم جنة) [المجادلة: 16، المنافقون: 2] قال: وهذا يدل على أن إظهار الإيمان جنة من القتل وقد جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الشهادة بالأيمان تعصم الدم والمال، فدل أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص، وأنها تحقن دمه وحسابه على الله. وقد أجمعوا أن أحكام الدين على الظاهر، وإلى الله السرائر، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) لخالد بن الوليد حين قتل الذى استعاذ بالشهادة: (هلا شققت عن قلبه) فدل أنه ليس له إلا ظاهره. قال: وأما قولهم أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل المنافقين لئلا يقولوا أنه قتلهم بعلمه وأنه يقتل أصحابه، قيل: وكذلك لم يقتلهم بالشهادة عليهم كما لم يقتلهم بعلمه، فدل أن ظاهر الإيمان جنة من القتل.

(8/575)


وفى سنته (صلى الله عليه وسلم) فى المنافقين دلالة على أمور: منها: أنه لا يقتل من أظهر التوبة من كفر بعد إيمان. ومنها: أنه حقن دماءهم، وقد رجعوا إلى غير يهودية ولا نصرانية ولا دين يظهرونه، إنما أظهروا الإسلام وأسروا الكفر، فأقرهم (صلى الله عليه وسلم) على أحكام المسلمين، فناكحوهم ووارثوهم، وأسهم لمن شهد الحرب منهم، وتركوا فى مساجد المسلمين، ولا أبين كفرًا ممن أخبر الله تعالى عن كفره بعد إيمانه.
3 - باب قَتْلِ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْفَرَائِضِ وَمَا نُسِبُوا إِلَى الرِّدَّةِ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. قال المهلب: من أبى قبول الفرائض فحكمه مختلف، فمن أبى من أداء الزكاة وهو مقر بوجوبها، فإن كان بين ظهرانى المسلمين، ولم ينصب الحرب، ولا امتنع بالسيف؛ فإنه يؤخذ من ماله جبرًا، ويدفع إلى المساكين ولا يقتل. وقال مالك فى الموطأ: الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض

(8/576)


الله، فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه. ومعناه: إذا أقر بوجوبها، لا خلاف فى ذلك. قال المهلب: وإنما قاتل أبو بكر الصديق الذين منعوا الزكاة؛ لأنهم امتنعوا بالسيف، ونصبوا الحرب للأمة. واجمع العلماء أن من نصب الحرب فى منع فريضة، أو منع حقا يجب عليه لآدمى أنه يجب قتاله، فإن أبى القتل على نفسه فدمه هدر. قال ابن القصار: وأما الصلاة فإن مذهب الجماعة أن من تركها عامدًا جاحدًا لها فحكمه حكم المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك جحد سائر الفرائض، وإنما اختلفوا فيمن تركها لغير عذر غير جاحد لها، وقال: لست أفعلها؛ فمذهب مالك: أن يقال له صل ما دام الوقت باقيًا من الوقت الذى ظهر عليه، فإن صلى ترك، وإن امتنع حتى خرج الوقت قتل. قال ابن القصار: واختلف أصحابنا، فقال بعضهم: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وقال بعضهم: يقتل؛ لأن هذا حد لله يقام عليه، لا تسقطه التوبة بفعل الصلاة وهو بذلك فاسق، كالزانى والقاتل، وليس بكافر، وبهذا قال الشافعى. قال الثورى وأبو حنيفة والمزنى: لا يقتل بوجه، ويخلى بينه وبين الله تعالى. والمعروف من مذهب الكوفييون أن الإمام يعزره حتى يصلى. وقال أحمد بن حنبل: تارك الصلاة مرتد كافر، وماله فئ لا يورث،

(8/577)


ويدفن فى مقابر المشركين، وسواء ترك الصلاة جاحدًا لها أو تكاسلاً. ووافق الجماعة فى سائر الفرائض أنه إذا تركها لا يكفر. واحتج الكوفييون فقالوا: أجمع العلماء أن تارك الصلاة يؤمر بفعلها، والمرتد لا يؤمر بفعل الصلاة، وإنما يؤمر بالإسلام ثم بالصلاة. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خمس صلوات كتبهن الله على عباده، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة) فدل أنه ليس بكافر، لأن الكافر لا يدخل الجنة، وحجة القول الأول قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فأمر بقتلهم إلا أن يتوبوا، والتوبة هى اعتقاد الإيمان الذى من جملته اعتقاد وجوب الصلاة وسائر العبادات. ألا ترى إلى قول أبى بكر الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فلم ينكر ذلك عليه أحد، ولا قالوا: لا تشبه الصلاة الزكاة. وروى جابر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . والرد على أحمد بن حنبل من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) وقد ثبت أن الكافر يدخل النار لا محالة، فلا يجوز أن يقال فيه مثل هذا، فعلمنا أنه (صلى الله عليه وسلم) قصد من تركها وهو معتقد لوجوبها لا جاحدًا؛ لأن الجاحد يدخل النار لا محالة، ولا حجة لأحمد فى إباءة إبليس من السجود وصار بذلك كافرًا؛ لأنه عاند الله

(8/578)


واستكبر، ورد على الله أمره فجاهر بالمعصية لله، فهو أشد من الجاحد أو مثله؛ لأنه جحدها واستيقنتها نفسه. وقال ابن أبى زيد: الدليل على أن تارك الفرائض غير جاحد لها فاسق وليس بكافر؛ إجماع الأمة أنهم يصلون عليه، ويورث بالإسلام، ويدفن مع المسلمين. وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال: من قال: لا أحج فلا يجبر على ذلك، وليس كمن قال: لا أتوضأ، ولا أصوم رمضان، فإن هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كقوله: لا أصلى. قال المهلب: والفرق بين الحج وسائر الفرائض أن الحج لا يتعلق وجوبه بوقت معين، وإنما هو على التراخى والإمهال إلى الاستطاعة، وذلك موكول إلى دين المسلم وأمانته، فلو لزم فيه الفور لقيده الله بوقت كما قيد الصلاة والصيام بأوقات. ومما يدل أن الحج ليس على الفور، وغير لازم فى الفروض الموقتة، ألا ترى أن المصلى لا تلزمه الصلاة عند زوال الشمس، وهو فى سعة عن الفور إلى أن يدرك ركعة من آخر وقتها ولم يكن بتأخيرها عن أول وقتها مضيعًا، كذلك فيما لم يوقت له وقت أولى بالإمهال والتراخى، والله الموفق. وميراث المرتد مذكور فى كتاب الفرائض، وأما حكم ولد المرتد فلا يخلو أن يكون ولده صغيرًا أو كبيرًا، فإن كان كبيرًا فحكمه حكم نفسه لا حكم أبيه، وكذلك إن كان صغيرًا لم يبلغ؛ لأنه قد صح له عقد الإسلام إذا ولد وأبوه مسلم، فلا يكون مرتدا بارتداد أبيه، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، فإن ادعى الكفر عند بلوغه استتيب، فإن

(8/579)


تاب وإلا قتل، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وجه استرقاق الصديق لورثتهم وسبيهم، وحكم عمر برد سبيهم إلى عشائرهم، ومذهب العلماء فى ذلك.
4 - باب إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّىُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ يُصَرِّحْ نَحْوَ قَوْلِهِ السَّامُ عَلَيْكم
/ 7 - فيه: أَنَسِ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَعَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ) . / 8 - وفيه: عَائِشَةَ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 9 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَحَدِكُمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْكَ، فَقُلْ: عَلَيْكَ) . / 10 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِى، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. اختلف العلماء فيمن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) فروى ابن القاسم عن مالك أنه من سبه (صلى الله عليه وسلم) من اليهود والنصارى قتل إلا أن

(8/580)


يسلم، فأما المسلم فيقتل بغير استتابة، وهو قول: الليث والشافعى وأحمد وإسحاق، عن ابن المنذر. وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعى ومالك فيمن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) قالا: هى ردة يستتاب منها فإن تاب نكل، وإن لم يتب قتل. وقال الكوفيون: من سب النبى (صلى الله عليه وسلم) أو عابه فإن كان ذميا عزر ولم يقتل. وهو قول الثورى وأبى حنيفة وإن كان مسلمًا صار مرتدًا يقتل ولم يقتلهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك؛ لأن ما هم عليه من الشرك أعظم من سبه (صلى الله عليه وسلم) . وحجة من رأى القتل على الذمى بسبه أنه قد نقض العهد الذى حقن دمه؛ إذا لم يعاهد على سبه، فلما تعدى عهده عاد إلى حال كافر لا عهد له فوجب قتله إلا أن يسلم؛ لأن القتل إنما كان وجب عليه من أجل نقضه للعهد الذى هو من حقوق الله، فإذا أسلم ارتفع المعنى الذى من أجله وجب قتله. وقال محمد بن سحنون: وقولهم إن من دينهم سب النبى (صلى الله عليه وسلم) فيقال لهم: وكذلك من دينهم قتلنا وأخذ أموالنا، فلو

(8/581)


قتل واحدًا منا لقتلناه لأنا لم نعطهم العهد على ذلك، وكذلك سبه (صلى الله عليه وسلم) إذا أظهر. فإن قيل: فهو إذا أسلم وقد سب النبى (صلى الله عليه وسلم) تركتموه، وإذا أسلم وقد قتل مسلمًا قتلتموه. قيل: لأن هذا من حقوق العباد لا يزول بإسلامه، وذلك من حقوق الله يزول بالتوبة من دينه إلى ديننا، وحجة أخرى وهو أن الرسول قال: (من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله) فقتله محمد بن مسلمة، والسب من أعظم الأذى، وكذلك قتل (صلى الله عليه وسلم) ابن خطل يوم فتح مكة والقينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه، ولم ينفع ابن خطل استعاذته بالكعبة. وقال محمد بن سحنون: وفرقنا بين من سب النبى (صلى الله عليه وسلم) من المسلمين، وبين من سبه من الكفار، فقتلنا المسلم ولم نقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من دينه إلى غيره، إنما فعل شيئًا حده عندنا القتل، ولا عفو فيه لأحد، فكان كالزنديق الذى لا تقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر، والكتابى كان على الكفر، فلما انتقل إلى الإسلام بعد أن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) غفر له ما قد سلف، كما قال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38] . قال غيره: فقياس الكوفيين المسلم إذا سب النبى (صلى الله عليه وسلم) على المرتد خطأ؛ لأن المرتد كان مظهرًا لدينه فتصح استتابته، والمسلم لا يجوز له إظهار سب النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما يكون مستترًا به؛ فكيف تصح له توبة؟

(8/582)


وقال ابن القاسم، عن مالك: كذلك من شتم نبيا من الأنبياء، أو تنقصه قتل ولم يستتب، كمن شتم نبينا) لا نفرق بين أحد من رسله) [الأحقاف: 35] وكذلك حكم الذمى إذا شتم أحدًا منهم يقتل إلا أن يسلم، وهذا كله قول مالك وابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ. قال أهل هذه المقالة: إنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) قتل اليهودى الذى قال له: السام عليك، كما ترك قتل المنافقين وهو يعلم نفاقهم، ولا حجة للكوفيين فى أحاديث هذا الباب. وأما حديث ابن مسعود فى الذين ضربوا النبى (صلى الله عليه وسلم) وأدموه، فإنهم كانوا كفارًا، والأنبياء عليهم السلام شأنهم الصبر على الأذى قال الله تعالى لنبيه: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [الأحقاف: 35] فلا حجة للكوفيين فيه.
5 - باب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115] . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. / 11 - فيه: عَلِىٌّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثًا فَوَاللَّهِ لأنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ:

(8/583)


(سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِى آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ: مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِى قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 12 - وفيه: أَبِو سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ (أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ فَسَأَلاهُ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ، أَسَمِعْتَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِى مَا الْحَرُورِيَّةُ؟ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: يَخْرُجُ فِى هَذِهِ الأمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا، قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ، مَعَ صَلاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أَوْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِى إِلَى سَهْمِهِ، إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارَى فِى الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَىْءٌ) . / 13 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَ الْحَرُورِيَّةَ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) . قال المهلب وغيره: أجمع العلماء أن الخوارج إذا خرجوا على الإمام العدل وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف؛ أن قتالهم واجب وأن دماءهم هدر، وأنه لا يتبع منهزمهم ولا يجهز على جريحهم. قال مالك: إن خيف منهم عودة أجهز على جريحهم وأتبع مدبرهم، وإنما يقاتلون من اجل خروجهم على الجماعة. قال الطبرى: والدليل على ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما أذن فى قتلهم عند خروجهم لقوله: (يخرج فى آخر الزمان قوم سفهاء الأحلام.

(8/584)


ثم قال: فأينما لقيتموهم فاقتلوهم) فبان بذلك أنه لا سبيل للإمام على من كان يعتقد الخروج عليه أو يظهر ذلك بقول، ما لم ينصب حربًا أو يخف سبيلا. وقال: هذا إجماع من سلف الأمة وخلفهم. وقد سئل الحسن البصرى عن رجل كان يرى رأى الخوارج، فقال الحسن: العمل أملك بالناس من الرأى إنما يجازى الله الناس بالأعمال. قال الطبرى: وهذا الذى قاله الحسن عندنا إنما هو فيما كان من رأى لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام، فأما الرأى الذى يخرجه من ملة الإسلام، فإن الله قد أخبر أنه يحبط عمل صاحبه. وأما قوله: (يمرقون من الدين) فالمروق عند أهل اللغة الخروج يقال: مرق من الدين مروقًا خرج ببدعة أو ضلالة، ومرق السهم من الغرض إذا أصابه ثم نقره، ومنه قيل للمرق مرق لخروجه. وجمهور العلماء على أنهم فى خروجهم ذلك غير خارجين من جملة المؤمنين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويتمارى فى الفوق) لأن التمارى الشك، وإذا وقع الشك فى ذلك لم يقطع عليهم بالخروج الكلى من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يحكم له بالخروج منه إلا بيقين، وقد روى عن على بن أبى طالب من طرق، أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: هم قوم ضل سعيهم، وعموا عن الحق، بغوا علينا فقاتلناهم.

(8/585)


وروى وكيع، عن مسعر، عن عامر بن شقيق عن أبى وائل، عن على قال: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك. وقول ابن عمر: (إنهم عمدوا إلى آيات فى الكفار فجعلوها فى المؤمنين) يدل أنهم ليسوا كفارًا؛ لأن الكافر لا يتأول كتاب الله؛ بل يرده ويكذب به. وقال أشهب: وقعت الفتنة وأصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) متوافرون فلم يروا على من قاتل على تأويل القرآن قصاصًا فى قتل، ولا حدا فى وطء. وبهذا قال مالك وابن القاسم، وخالف ذلك أصبغ وقال: يقتل من قتل إن طلب ذلك وليه كاللص يتوب قبل أن يقدر عليه. وهذا خلاف للصحابة ولقول مالك وجميع أصحابه. قال مالك: وما وجه أحد من ماله بعينه عندهم أخذه. وهو قول الكوفيين والأوزاعى والشافعى، وقد روى عن بعض أهل الكلام وأهل الحديث أن أهل البدع كفار ببدعتهم، وهو قول أحمد بن حنبل، وأئمة الفتوى بالأمصار على خلاف هذا، فإن احتج من قال بكفرهم بقول أبى سعيد الخدرى: (يخرج فى هذه الأمة) ولم يقل: (منها) فدل أنهم ليسوا من جملة المؤمنين. فيقال لهم قد روى فى حديث أبى سعيد أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (يخرج من أمتى قوم) . روى مسدد قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا مجالد، حدثنا أبو الوداك جبر بن نوف قال: سمعت أبا سعيد الخدرى يقول: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يخرج قوم من المؤمنين عند فرقة، أو اختلاف، من الناس، يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه

(8/586)


الناس، ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. .) وذكر الحديث. قال ابن القاسم فى العتبية: أما أهل الأهواء الذين على الإسلام العارفون بالله مثل القدرية والإباضية وما أشبهها ممن هو على خلاف ما عليه جماعة المسلمين من البدع والتحريف لتأويل كتاب الله فإنهم يستتابون، أظهروا ذلك أم أسروا، فإن تابوا وإلا قتلوا، وبذلك عمل عمر بن عبد العزيز، ومن قتل منهم فميراثه لورثته؛ لأنهم مسلمون، وهذا إجماع، وإنما قتلوا لرأيهم السوء. وذكر ابن المنذر عن الشافعى أنه قال: لا يستتاب القدرى. وذم الكلام ذمًا شديدًا، وقال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشىء من الأهواء. وقال عبد الرحمن بن مهدى: ما كنت لأعرض أحدًا من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية فإنهم يقولون قولاً منكرًا. وسئل سحنون عن قول مالك فى أهل الأهواء: لا يصلى عليهم، فقال: لا أرى ذلك، ويصلى عليهم، ومن قال: لا يصلى عليهم كفرهم بذنوبهم، وإنما قال مالك: لا يصلى عليهم أدبًا لهم. قيل له: فيستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا كما قال مالك؟ قال: أما من كان بين أظهرنا وفى جماعة أهل السنة فلا يقتل، وإنما الشأن فيه أن يضرب مرة بعد أخرى، ويحبس وينهى الناس عن مجالسته والسلام عليه تأديبًا له، كما فعل عمر بضبيع خلى عنه بعد أدبه، ونهى الناس عنه. فقد مضت السنة فيمن لم يبن من عمر وقضت فيمن بان من أبى

(8/587)


بكر الصديق، رضى الله عنهما، قيل له: هؤلاء الذين نصبوا الحرب، وبانوا عن الجماعة وقتلهم الإمام هل يصلى عليهم؟ قال: نعم، وهم من المسلمين، وليس بذنوبهم التى استوجبوا بها القتل ترك الصلاة عليهم، ألا ترى أن المحصن الزانى والمحارب والقاتل عمدًا قد وجب عليهم القتل ولا تترك الصلاة عليهم. قيل له: فما تقول فى الصلاة خلف أهل البدع؟ قال: لا تعاد فى وقت ولا بعده، وبذلك يقول أصحاب مالك: أشهب، والمغيرة وغيرهما، وإنما يعيد الصلاة من صلى خلف نصرانى، وهذا مسلم فكما تجوز صلاته لنفسه كذلك تجوز لغيره إذا صلى خلفه، وأما النصرانى فلا تجوز صلاته لنفسه فكذلك لا تجوز لغيره، ومن يوجب الإعادة أبدًا أنزله بمنزلة النصرانى، وركب قياس قول الإباضية والحرورية الذين يكفرون الناس بالذنوب. وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب (إمامة المفتون والمبتدع) الاختلاف والصلاة خلفهم. واختلفوا فى رد شهادتهم، فذكر ابن المنذر عن شريك أنه لا تجوز شهادة أهل الأهواء: الرافضة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال مالك: لا تجوز شهادة القدرية. وقال أبو عبيد: البدع والأهواء كلها نوع واحد فى الضلال، كما قال ابن مسعود: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. فلا أرى لأحد منهم شهادة إذا ظهر فيها غلوه وميله عن السنة للآثار

(8/588)


المتواترة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) . وقال فيهم سعد: أولئك قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وقال حذيفة: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ لا حظ لهم فى الإسلام. وقال أبو هريرة: القدرية هم نصارى هذه الأمة ومجوسها. وأجازت طائفة شهادة أهل الأهواء إذا لم يستحل الشاهد منهم شهادة الزور، هذا قول ابن أبى ليلى والثورى وأبى حنيفة والشافعى. قال الشافعى: لا أراد شهادة أحد بشىء من التأويل له وجه يحتمله، إلا أن يكون منهم الرجل يباين المحالف له مباينة العداوة فأرده من جهة العدواة. قال: وشهادة من يرى إنفاذ الوعيد خير من شهادة من يستخف بالذنوب. وقال أبو حنيفة: كل من نسب إلى هوى فعرف بالمجانة والفسق فأرده للمجانة التى ظهرت فيه. وأما قوله: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فمعناه أنهم لما تأولوه على غير تأويله لم يرتفع إلى الله، ولا أثابهم عليه؛ إذ كانت أعمالهم له مخالفة بسفك دماء من حرم الله دمه وإخافتهم سبلهم، ويشهد لهذا قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه (فبان أن الكلام الطيب يرتفع إلى الله إذا صحبه عمل

(8/589)


صالح يصدقه، ومتى خالفه العمل لم يعتد بالقول، ولا كان لقائله فيه غير العناء، وهذا يدل أن الإيمان قول وعمل. وأما قول على: (إذا حدثتكم فيما بينى وبينكم فإن الحرب خدعة) فإنما قال ذلك على فى وقت خروجه للخوارج. ومعنى ذلك أن المعاريض جائزة على ما جاء عن عمر أنه قال: فى المعاريض مندوحة عن الكذب. وليس فى هذا جواز إباحة الكذب الذى هو خلاف الحق؛ لأن ذلك منهى عنه فى الكتاب والسنة، وإنما رخص فى الحرب وغيره فى المعاريض فقط؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إياكم والكذب فإنه يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار) وقد تقدم فى كتاب الصلح فى باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس مذاهب العلماء فيما يجوز من الكذب وما لا يجوز، وتقدم منه شىء فى باب الكذب فى الحرب فى كتاب الجهاد، وسيأتى فى باب المعاريض مندوحة عن الكذب فى كتاب الأدب مما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى. وأما قول البخارى: باب قتال الخوارج بعد إقامة الحجة عليهم فمعناه أنه لا يجب قتال خارجى ولا غيره إلا بعد الإعذار إليه، ودعوته إلى الحق، وتبيين ما ألبس عليه، فإن أبى من الرجوع إلى الحق وجب قتاله بدليل قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قومًا بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) [التوبة: 115] فوجب التأسى به تعالى فيمن وجب قتاله أن يبين له وجه الصواب ويدعى إليه. والنصل: حديدة السهم. والرصاف: العقب الذى فوق مدخل السهم. والفوقة والفوق من السهم: موضع الوتر.

(8/590)


6 - باب مَنْ تَرَكَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ، وَأَلاَّ يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ
/ 14 - فيه: أَبِى سَعِيدٍ: (بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ، جَاءَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ ذِى الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِىُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ قَالَ: ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلُ الْبَضْعَةِ، تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ) . قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبى، عليه السلام، وأشهد أن عليًا قتلهم وأنا معه، حتى جىء بالرجل على النعت الذى نعت رسول الله، فنزلت فيهم: (ومنهم من يلمزك فى الصدقات) [التوبة: 58] . / 15 - وفيه: سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سئل: (هَلْ سَمِعْتَ فِى الْخَوَارِجِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ: يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) . لا يجوز ترك قتال من خرج على الأمة وشق عصاها. وأما ذو الخويصرة، فإنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) قتله؛ لأنه عذره بجهله، وأخبر أنه من قوم يخرجون ويمرقون من الدين، فإذا خرجوا وجب قتالهم.

(8/591)


وقد أخبرت عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا ينتقم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، وكان يعرض عن الجاهلين. وقد وصف الله كرم خلقه (صلى الله عليه وسلم) فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4] . قال المهلب: والتآلف إنما كان فى أول الإسلام؛ إذ كان بالناس حاجة إلى تألفهم لدفع مضرتهم ولمعونتهم، فأما إذا علىَّ الله الإسلام ورفعه على غيره فلا يجب التألف، إلا أن ينزل بالناس ضرورة يحتاج فيه إلى التألف. وقد تقدم. والمروق: الخروج، وقد تقدم. والرمية: الطريدة المرمية. فعيلة بمعنى مفعولة، يقال: شاة رمى: إذا رميت، ويقال: بئس الرمية الأرنب. فيدخل الهاء. والقذذ: ريش السهم، كل واحدة قذة، وقال ثابت: قذتا الجناحين: جانباه. وقال أبو حاتم: القذتان: الأذنان. وأما النضى: فإن أبا عمرو الشيبانى قال: هو نصل السهم. وقال الأصمعى: هو القدح قبل أن ينحت، فإذا نحت فهو مخشوب. والحديث يدل أن القول قول الأصمعى؛ لأنه ذكر النصل قبل النضى فى الحديث. قوله: (يسبق الفرث والدم) يعنى أنه مر مرا سريعًا فى الرمية وخرج، ولم يعلق به من الفرث والدم شىء، فشبه خروجهم من الدين ولم يتعلق منه شىء بخروج ذلك السهم. وقوله: تدردر: يعنى تضطرب، تذهب وتجئ، ومثله تذبذب وتقلقل وتزلزل. الخطبى. ومنه دردور الماء.

(8/592)


7 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ) . هذا إخبار عن الغيب وحدوث الفتنة وقتال المسلمين بعضهم لبعض، ويحتمل أن يكون معنى قوله: (دعواهما واحدة) :: دينهما واحد، ويحتمل أن يكون دعواهما واحدة فى الحق عند أنفسهما واجتهادهما، ويقتل بعضهم بعضًا، وقد جاء فى الكتاب والسنة الأمر بقتال الفئة الباغية إذا تبين بغيها، قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى. . .) [الحجرات: 9] الآية. قال ابن أبى زيد: قال من لقينا من العلماء: معنى ذلك: إذا بغت قبيلة فقاتلتها حمية وعصبية وفسقًا وفخرًا بالأنساب وغيرها من الثائرة؛ رغبة عن حكم الإسلام فعلى الإمام أن يفرق جماعتهم، فإن لم يقدر فليقاتل من تبين له أنه ظالم لصاحبه، وحلت دماؤهم حتى يقهروا، فإن تحققت الهزيمة عليهم وأيس من عودتهم فلا يقتل منهزمهم، ولا يجهز على جريحهم، وإن لم تستحق الهزيمة ولم يؤمن رجوعهم؛ فلا بأس أن يقتل منهزمهم وجريحهم ولا بأس أن يقتل الرجل فى القتال معهم أخاه وقرابته وجده لأبيه وأمه، فأما الأب فلا.

(8/593)


وقال أصبغ: يقتل أباه وأخاه، ولا تصاب أموالهم ولا حرمهم، فإن قدر الإمام على كف الطائفتين بترك القتال فلكل فريق طلب الفريق الآخر بما جرى بينهم فى ذلك من دم ومال، ولا يهدر شىء من ذلك بخلاف ما كان على تأويل القران. وقال بعضه ابن حبيب.
8 - باب مَا جَاءَ فِى الْمُتَأَوِّلِينَ
/ 17 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: أَنَّه سَمِع هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَذَلِكَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، أَوْ بِرِدَائِى، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْرَأَنِى هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا، فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِى سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. / 18 - وفيه ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: (يَا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] . / 19 - وفيه: عِتْبَانَ: (غَدَا عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟

(8/594)


فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَلا تَقُولُوهُ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ لا يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) . / 20 - وفيه: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، أَنهما تَنَازَع فَقَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ لِحِبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، يَعْنِى عَلِيًّا، قَالَ: مَا هُوَ لا أَبَا لَكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: حَاجٍ، فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأْتُونِى بِهَا، فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَلَفَ عَلِىٌّ، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لأجَرِّدَنَّكِ، فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا، وَهِىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : يَا حَاطِبُ، مَا حَمَلكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِى أَنْ لا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنِّى أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يُدْفَعُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلا لَهُ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، لا تَقُولُوا، لَهُ: إِلا خَيْرًا، قَالَ: فَعَادَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَلأضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شىءتُمْ، فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) . قال المهلب وغيره: لا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأوله غير مأثوم فيه إذا كان تأويله ذلك مما يسوغ ويجوز فى لسان

(8/595)


العرب، أوكان له وجه فى العلم؛ ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يعنف عمر فى تلبيبه لهشام مع علمه بثقته وعذره فى ذلك لصحة مراد عمر واجتهاده. وأما حديث ابن مسعود فإن الرسول عذر أصحابه فى تأويلهم الظلم فى الآية بغير الشرك لجواز ذلك فى التأويل. وأما حديث ابن الدخشن فإنهم استدلوا على نفاقه بصحبته للمنافقين ونصيحته، لهم فعذرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) باستدلالهم، وكذلك حديث حاطب عذره النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تأويله، وشهد بصدقه. وقد تقدم فى الجهاد فى باب الجاسوس، فأغنى عن ذكره وسيأتى فى كتاب الاستئذان فى باب من نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره إن شاء الله تعالى. وقول أبى عبد الرحمن: (لقد علمت ما الذى جرأ صاحبكم على الدماء) يعنى عليا، فإنه أراد قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فكأنه أنس بهذا القول، فاجترأ بذلك على الدماء، ولا يجوز أن يظن بعلى أنه اجترأ على هذا دون أن يعطيه ذلك صحيح التأويل والاجتهاد. وإن كان قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لعل الله اطلع على أهل بدر) دليل ليس بحتم، ولكنه على أغلب الأحوال، وينبغى أن نحسن بالله الظن فى أهل بدر وغيرهم من أهل الطاعات. وقد اعترض بعض أهل البدع بهذا الحديث على قصة مسطح حين

(8/596)


جلد فى قذف عائشة وكان بدريا مغفورًا له، قالوا: وكان ينبغى ألا يحد لذلك كما لم يعاقب حاطب؛ لأنه كان بدريا مغفورًا له. فأجاب فى ذلك أبو بكر بن الطيب الباقلانى، وقال: المراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أنه غفر لهم عقاب الآخرة ولم يرد بذلك أنه غفر لهم عقاب الدنيا. وقد أجمعت الأمة أن كل من ركب من أهل بدر ذنبًا بينه وبين الله فيه حد، أو بينه وبين الخلق من القذف أو الجرح أو القتل فإنه عليه فيه الحد والقصاص. وليس يدل عقاب العاصى فى الدنيا وإقامة الحدود عليه على أنه معاقب فى الآخرة لقوله (صلى الله عليه وسلم) فى ماعز والغامدية: (لقد تابوا توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم) لأن موضع الحدود أنها للردع، والزجر، وحقن الدماء، وحفظ الحريم وصيانة الأموال، وليس فى عقاب النار شىء من ذلك. فبطل قول من قال: إنه كان ينبغى أن يسقط الحد عن مسطح لكونه بدريا مغفورًا له؛ لأن الخبر عن غفران ذنوبهم إنما هو عن غفران عقاب الآخرة دون الدنيا، ولو أسقط الله عقاب الدارين لكان جائزًا، فغفر لحاطب عقوبته فى الدنيا؛ إذ رأى ذلك مصلحة لما غفر له عقاب الآخرة، وقد يجعل الله لنبيه إسقاط بعض الحدود إذا رأى ذلك مصلحة. قال الطبرى: وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وما يدريك لعل الله اطلع

(8/597)


على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) الدلالة البينة على خطأ ما قالته الخوارج والمعتزلة أنه لا يجوز فى عدل الله وحكمته الصفح لأهل الكبائر والمعتزلة من المسلمين عن كبائرهم؛ لأنه لم يكن مستنكرًا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فى عدل الله أن يصفح عن بعض من سبقت له من الطاعة سابقة، وسلفت له من الأعمال الصالحة سالفة عن جميع أعماله السيئة التى تحدث منه بعدها صغائر وكبائر، فيتفضل بالعفو عنها إكرامًا له لما كان سلف منه قبل ذلك من الطاعة. وخاخ: موضع قريب من مكة. وقوله: أهوت إلى حجزتها وهى محتجزة بكساء) . يعنى: ضربت بيدها إلى معقد نطاقها من جسدها، وهو موضع حجزة السراويل من الرجل، وقد مر بعض ما فيه من الغريب فى كتاب الجهاد. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى قصة مالك بن الدخشن: (ألا تقولوه يقول: لا إله إلا الله) ، هكذا جاءت والصواب: (ألا تقولونه يقول: لا إله إلا الله) بإثبات النون، والمعنى ألا تظنونه يقول: لا إله إلا الله، وقد جاء القول بمعنى الظن كثيرًا فى لغة العرب بشرط كونه فى المخاطب، وكونه مستقبلا، أنشد سيبويه لعمر بن أبى ربيعة المخزومى: أما الرحيل فدون بعد غد فمتى نقول الدار تجمعنا يعنى: فمتى نظن الدار تجمعنا، ويحتمل أن يكون قوله: (ألا تقولوه) خطابا

(8/598)


للواحد والجماعة، فإن كان خطابًا للجماعة، فلا يجوز حذف النون؛ إذ لا موجب لحذفها، وإن كان خطابًا للواحد، وهو أظهر فى نسق الحديث، فهو على لغة من يشبع الضمة كما قال الشاعر: من حيث ما سلكوا أذنوا فانظور وإنما أراد انظر فأشبع ضمة الظاء فحدثت عنها واو. قوله فى حديث عمر: (فكدت أساوره) تقول العرب: ساورته من قولهم: سار الرجل يسور سورًا إذا ارتفع. ذكره ابن الأنبارى عن ثعلب، وقد يكون أساوره من البطش؛ لأن السورة البطش. عن صاحب العين. تم بحمد الله الجزء الثامن، ويليه بإذن الله الجزء التاسع وأوله: (كتاب الاستئذان)

(8/599)


الجزء التاسع

(9/4)