شرح صحيح
البخارى لابن بطال 65 - كتاب الاستئذان
باب بدء السلام
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ،
طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ، قَالَ:
اذْهَبْ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ
الْمَلائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ،
فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ،
فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ
عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ - يعنى الْجَنَّةَ - عَلَى
صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ
حَتَّى الآنَ) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الملائكة
فى الملأ الأعلى يتكلمون بلسان العرب، ويحيون بتحية الله،
وأن التحية بالسلام هى التى أراد الله أن يتحيا بها. وفيه:
الأمر بتعليم العلم من أهله والقصد إليهم فيه، وأنه من أخذ
العلم ممن أمره الله بالأخذ عنه فقد بلغ العذر فى العبادة
وليس عليه ملامة، لأن آدم أمره الله أن يأخذ عن الملائكة
ما يحيونه، وجعلها له تحية باقية، وهو تعالى أعلم من
الملائكة، ولم يعلمه إلا لتكون سنه. وقوله: (فلم يزل الخلق
ينقص حتى الآن) فهوا فى معنى قولى تعالى: (لقد خلقنا
الإنسان فى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين (ووجه الحكمة
فى ذلك أن الله خلق العالم بما فيه دالا
(9/5)
على خالق حكيم، وجعل فى حركات ما خلق دليلا
على فناء هذا العالم وبطلانه خلافًا للدهرية التى تعبد
الدهر وتزعم أنه لا يفنى، فأبقى الله هذا النقص دلاله على
بطلان قولهم، لأنه إذا جاز النقص فى البعض جاز الفناء فى
الكل. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خلق الله آدم على
صورته) فإن العلماء اختلفوا فى رجوع الهاء من (صورته) إلى
من ترجع الكناية بها. قال ابن فورك: فذهب طائفة إلى أن
الهاء من (صورته) راجعة إلى آدم - عيله السلام - وأفادنا
بذلك عليه السلام إبطال قول الدهرية أنه لم يكن قط إنسان
إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان فيما مضى ويأتى، وليس
لذلك أول ولا آخر، فعرفنا عليه السلام تكذيبهم، وأن أول
البشر هو آدم خلق على صورته التى كان عليها من غير أن كان
نطفه قبله أو عن تناسل، ولم يكن قط فى صلب ولا رحم، ولا
خلق علقه ولا مضغة، ولا طفلاً، ولا مراهقًا، بل خلق ابتداء
بشرًا سويًا كما شوهد. وقد قال آخرون: المعنى فى رجوع
الهاء إلى آدم تكذيب القدرية، لما زعمت أن من صور آدم
وصفاته ما لم يخلقه الله، وذلك أن القدرية تقول: إن صفات
آدم على نوعين منها ما خلقها الله، ومنها ما خلقها صورته
وصفاته وأعراضه. وقال آخرون: يحتمل أن يكون رجوع الهاء إلى
آدم وجهًا آخر على أصول أهل السنة أن الله خلق السعيد
سعيدًا والشقى شقيا،
(9/6)
فخلق آدم وقد علم يعصيه ويخالف أمره، وسبق
العلم بذلك وأنه يعصى ثم يتوب، فيتوب الله عليه تنبيهًا
على وجوب جريان قضاء الله على خلقه، وأنه إنما تحدث الأمور
وتتغير الأحوال على حسب ما يخلق عليه المرء وييسر له. وذهب
طائفة إلى أن الحديث إنما خرج على سبب، وذلك: (أن النبى
عليه السلام مر برجل يضرب ابنه أو عبده فى وجهه لطخًا
ويقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك فقال عليه
السلام: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على
صورته) فزجره النبى عن ذلك، لأنه قد سب الأنبياء عليهم
السلام والمؤمنين وخص آدم بالذكر، لأنه هو الذى ابتدئت
خلقه وجهه على الحد الذى تخلق عليها سائر ولده، فالهاء على
هذا الوجه كناية عن المضروب فى وجهه. وذهب طائفة إلى الهاء
كناية عن الله تعالى وهذا أضعف الوجوه، لأن حكم الهاء أن
ترجع إلى أقرب المذكور، إلا أن تدل دلالة على خلاف ذلك،
وعلى هذا التأويل يكون معنى الصورة معنى الصفة كما يقال:
عرفنى صورة هذا الأمر أى صفته ولا صورة للأمر على الحقيقة
إلا على معنى الصفة، ويكون تقدير التأويل أن الله خلق آدم
على صفته أى خلقه حيًا عالمًا سمعيًا بصيرًا متكلمًا
مختارًا مريدًا، فعرفنا بذلك إسباغ نعمه عليه وتشريفه بهذه
الخصال.
(9/7)
ونظرنا فى الإضافات إلى الله فوجدناها على
وجوه، منها إضافة الفعل، كما يقال: خلق الله، وأرض الله،
وسماء الله، وإضافة الملك فيقال: رزق الله، ووعيد الله،
وإضافة اختصاص وتنويه بذكر المضاف إليه، كقولهم: الكعبة
بيت الله، وكقوله: (ونفخت فيه من روحي (ووجه آخر من
الإضافة نحو قولهم: كلام الله، وعلم الله، وقدرة الله، وهى
إضافة اختصاص من طريق القيام به، وليس من وجهة الملك
والتشريف بل ذلك على معنى إرادته غير متعرية منها قيامًا
بها ووجودًا. ثم نظرنا إلى إضافة الصورة إلى الله فلم يصح
أن يكون وجه إضافتها إليه على نحو إضافة الصفة إلى الموصوف
بها من حيث تقوم به، لاستحالة أن يقوم بذاته تعالى حادث
فبقى من وجوه الإضافة الملك والفعل والتشريف، فأما الملك
والفعل فوجهه عام وتبطل فائدة التخصيص فبقى إنها إضافة
تشريف، وطريق ذلك أن الله هو الذى ابتدأ تصوير آدم إضافة
تشريف، وطريق ذلك أن الله هو الذى ابتدأ تصوير آدم على
مثال سبق بل اخترعه، ثم اخترع من بعده على مثاله، فتشرفت
صورته بالإضافة إليه لا أنه أريد به إثبات صورة لله تعالى
على التحقيق هو بها مصور، لأن الصورة هى التألف والهيئة،
وذلك لا يصح إلا على الأجسام المؤلفة، والله تعالى عن ذلك.
(9/8)
- باب قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا
تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم (الآية
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ
نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنّ،
َ قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ [عَنْهُنَّ] . وقَوله اللَّهِ:
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور 30] . وَقَالَ قَتَادَة،
عَمَّا لا يَحِلُّ لَهُمْ: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ) [النور: 31] ،) خَائِنَةَ الأعْيُنِ) [غافر
14] مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِىَ عَنْهُ. وَقَالَ
الزُّهْرِىُّ، فِى النَّظَرِ إِلَى الَّتِى لَمْ تَحِضْ
مِنَ النِّسَاءِ: لا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَىْءٍ
مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ
كَانَتْ صَغِيرَةً. وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى
الْجَوَارِى الَّتِى يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلا أَنْ يُرِيدَ
أَنْ يَشْتَرِيَ. / 2 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَرْدَفَ
النَّبِىّ عليه السلام الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ
النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ
الْفَضْلُ رَجُلا وَضِيئًا، فَوَقَفَ الرسول عليه السلام
لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ
خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا،
وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِى عليه السلام
وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ،
فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ، فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ
النَّظَرِ إِلَيْهَا. . . الحديث. / 3 - فيه: أَبُو
سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:
(إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ) ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ،
نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: (إِذْ أَبَيْتُمْ إِلا
الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ) ، قَالُوا:
وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟
(9/9)
قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى،
وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْى
عَنِ الْمُنْكَرِ) . قال المؤلف: قال قتادة وإبراهيم
ومجاهد فى قوله تعالى: (وحتى تستأنسوا (قالوا: حتى
تستأذنوا وتسلموا. وقال سعيد بن جبير: الاستئناس:
الاستئذان، وهو فيما أحسب من خطأ الكاتب، وروى أيوب عنه عن
ابن عباس: إنما هو حتى تستأذنوا، سقط من الكاتب. قال
إسماعيل بن إسحاق: قوله: (من خطأ الكاتب) هو قول سعيد بن
جبير أشبه منه بقوله ابن عباس، لأن هذا مما لا يجوز أن
يقوله أحد، إذ كان القرآن محفوظًا قد حفظه الله من أن
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد روى عن مجاهد
أن الاستئناس: التنجح والتنخم إذا أراد أن يدخل. وروى ابن
وهب عن مالك قال: الاستئناس: الجلوس قال تعالى: (ولا
مستأنسين لحديث (وقال عمر حين ودخل على النبى فى حديثه
المشربة: (أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلس عمر) . قال
إسماعيل بن إسحاق: وأحسب معنى الاستئناس، والله أعلم، إنما
هو أن يستأنس بأن الذى يدخل عليه لا يكره دخوله، يدل على
ذلك قوله عمر للنبى: (أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم
فجلست) قال إسماعيل: فدل قوله: (أستأنس) على أنه
(9/10)
أحب أن يعلم أن النبي لا يكره جلوسه، وهذا
مما يضعف ما روى عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال
المهلب: ومعنى الاستئذان هو خوف أن يفجأ الرجل أهل البيت
على عورة فينظر ما لا يحل له، يدل على ذلك قوله عليه
السلام: (إنما جعل الاستئذان للبصر) وغض البصر مأمور به،
لقوله تعالى: (قل للمؤمنين من أبصارهم () وقل للمؤمنات
يغضضن من أبصارهن (ألا ترى صرف النبى وجه الفضل عن المرأة
ونهيه عليه السلام عن الجلوس على الطرقات إلا أن يغض
البصر، وإنما أمر الله بغض الأبصار عما لا يحل لئلا يكون
البصر ذريعة إلى الفتنة، فإذا أمنت الفتنة فالنظر مباح،
ألا ترى أن النبى حول وجه الفضل حين علم بإدامته النظر
إليها أنه أعجبه حسنها فخشى عليه فتنة الشيطان. وفيه:
مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل
إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه: أن نساء المؤمنين ليس لزوم
الحجاب لهم فرضًا فى كل حال كلزومه لأزواج النبى، ولو لزم
جميع النساء فرضًا لأمر النبى الخثعمية بالاستتار، ولما
صرف وجه الفضل عن وجهها، بل كان يأمره بصرف بصره، ويعلمه
أن ذلك فرضه، فصرف وجهه عليه السلام وقت خوف الفتنة وتركه
قبل ذلك الوقت. وهذا الحديث يدل أن ستر المؤمنات وجوههن عن
غير ذوى محارمهن سنه، لإجماعهم أن المرأة أن تبدى وجهها فى
الصلاة، ويراه منها الغرباء، وأن قوله: (قل للمؤمنين يغضوا
من أبصارهم (على الفرض فى غير الوجه، وأن غض البصر عن
(9/11)
جميع المحرمات وكل ما يخشى منه الفتنة
واجب، وقد قال النبى عليه السلام: (لا تتبع النظرة، فإنما
لك الأولى، وليست لك الثانية، وهذا معنى دخول من فى قوله:
(من أبصارهم (لأن النظرة الأولى لا تملك فوجب التبعيض
لذلك، ولم يقل ذلك فى الفروج، لأنها تملك. وقوله: (فأخلف
يده فأخذ بذقن الفضل) قال صاحب الأفعال: يقال: أخلف الرجل
بيده إلى سيفه: مدها إليه ليأخذه عند حاجته إليه، وأخلف
إلى مؤخر راحلته أو فرسه كذلك.
3 - باب: السلام اسم من أسماء
الله تعالى وقوله تعالى: (وإذا حييتم فحيوا بأحسن منها أو
ردوها (
/ 4 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا
مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قُلْنَا: السَّلامُ
عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلامُ عَلَى
جِبْرِيلَ، السَّلامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلامُ عَلَى
فُلانٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ
هُوَ السَّلامُ. . . .) الحديث. قال المؤلف: مصداق هذا
الحديث فى قوله الله تعالى: (القدوس السلام المؤمن
(والأسماء إنما تؤخذ توقيفًا من الكتاب والسنة، ولا يجوز
أن يسمى الله بغير ما سمى به نفسه، ولما كان السلام من
أسماء الله لم يجز أن يقال: السلام على الله، وجاز أن
يقال: السلام عليكم، لأن معناه الله عليكم.
(9/12)
والعلماء مجمعون أن بأبتداء بالسلام سنه
مرغب فيها، ورده فريضة لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو
ردوها (ومن الدليل أن الابتداء به سنة قوله عليه السلام فى
المتهاجرين: (وخيرهم الذى يبدأ بالسلام) وذهب مالك
والشافعى إلى أنه سلم رجل على جماعة فرد عليه واحد منهم
أجزأ عنهم، ودخل فى معنى قوله: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها
(لأنه قد رد عليه مثل قوله، وشبهوه بتشميت العاطس، وقالوا:
هو من فروض الكفاية كالجهاد، وطلب العلم ودفن الموتى،
وصلاة الجماعة، يقوم بها البعض، ولا يحل الاجماع على
تضييعها. وروى مالك، عن زيد بن أسلم (أن النبى عليه السلام
قال إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم) . وروى أبو داود، عن
على بن أبى طالب مثله، وقال: يجزىء من الجماعة إذا مروا أن
يسلم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس إذا رد أحدهم. وذهب الكوفيون
إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة على كل إنسان بعينه،
ولا ينوب فيها فيها غير. قالوا: والإسلام خلاف رد السلام.
لأن الابتداء به تطوع، ورده إنسان بعينه، ولا ينوب فيها
غيره. قالوا: والسلام خلاف رد السلام. لأن الابتداء به
تطوع، ورده فريضة، ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك
عنهم فرض الرد، فدل أن السلام يلزم كل إنسان بعينه. وأنكر
أبو يوسف مرسل مالك، ورد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا:
قد يكون من السنن مايسد مسد الفرائض، كغسل الجمعة.
(9/13)
يجزىء عن غسل الجنابة - عند جماعة من
العلماء - وكغسيل اليدين قبل الوضوء يجزء عن غسيلها مع
الذراعين فى الوضوء - فى قول عطاء. وقولهم: لو رد غير
المسلم عليم لم يجزىء، فكذلك نقول وإنما يجزى عن غسلها مع
الذراعين فى الوضوء - فى قول عطاء. وقولهم: لو رد غير
المسلم عليهم لم يجزىء، فكذلك نقول وإنما يجزىء أن يرد
واحد ممن سلم عليهم عليهم لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها
أو ردوها (فإنما أمر الله تعالى بالرد المسلم عليهم لا
غيرهم، ألا ترى لو أن العدو حل ببلده، فلم يقاتل أهلها
المسلمون، وقاتل عنهم قوم من أهل الكتاب ما سقط الفرض
عنهم، فكذلك إذا رد المسلم من لم يسلم عليه، لم يجزىء عن
الرادين فحكم السلام حكم الرد، لأن الرد سلام عند العرب.
وقد قال عليه السلام: (يسلم القليل على الكثير) ولما
أجمعوا أن الواحد يسلم على الجماعة، ولا يحتاج إلى تكريره
على عدد الجماعة، كذلك يرد الواحد من الجماعة على الواحد،
وينوب عن الباقين، وانكارهم لمرسل مالك لا وجه له، لأنهم
لامسند عندهم فى قولهم ولا مرسل، فالمصير إلى المرسل أولى
من المصير إلى رأى يعاض بمثله.
4 - باب: يسلم القليل على
الكثير
/ 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى
الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ
عَلَى الْكَثِيرِ) . وترجم له باب تسليم الراكب على
الماشى، وقال فيه عن
(9/14)
الرسول: (يسلم الراكب على الماشى، والماشى
على القاعدة، والقليل على الكثير) . قال المهلب: هذه آداب
من النبى عليه السلام وأما وجه تسليم الصغيرعلى الكبير فمن
أجل حق الكبير على الصغير بالتواضع له والتوقير، وتسليم
المار على القاعدة هو من باب الداخل على القوم فعليه أن
يبدأهم بالسلام، وكذلك فعل آدم بالملائكة حين قيل له: اذهب
فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس. وتسليم القليل على
الكثير من باب التواضع أيضًا، لأن حق الكثير أعظم من حق
القليل، وكذلك فعل أيضًا آدم كان وحده والملأ من الملائكة
كثير حين أمر بالسلام عليهم. وسلام الراكب على الماشى لئلا
يتكبر بركوبه على الماشى فأمر بالتواضع.
5 - باب: إفشاء السلام
/ 6 - فيه: الْبَرَاءِ، أَمَرَنَا النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) بِسَبْعٍ: (بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ،
وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ،
وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ
السَّلامِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. . .) الحديث. قال
الطبرى: إن قال قائل: هذه الخلا التى أمر النبى عليه
السلام بها من حق المسلم، هل هى من الحقوق التى إن لم
يؤدها كان بتركها حرجًا ولربه عاصيًا أم لا؟ . قيل: منها
ما يكون بتركها حرجًا، ومنها مايكون غير حرج، ومنها مايكون
بتركها حرجًا فى حال وغير حرج فى أخرى.
(9/15)
فإن قيل: فبين لنا ذلك. قيل: أما الذى يكون
بفعلها محمودًا وبتركها حرجًا فى كل حال فنصر الضعيف وعون
المظلوم، وذلك أن النبى عليه السلام قال: (أنصر أخاك
ظالمًا أو مظلومًا) وقال: إن المؤمنين جميعًا كالجسد
الواحد، وعلى المرء أن يسعى لصلاح كل عضو من أعضاء جسده
سعيه لبعضها، فكذلك عليهم فى اخوانهم فى الدين وشركائهم فى
المله، وإنصارهم على الأعداء من نصرهم وعونهم مثل ماعليهم
من ذلك فى أنفسهم لأنفسهم، إذ كان بعضهم عونًا لبعض
وجميعهم يد على العدو. ولذلك خاطبهم تعالى فى كتابه فقال)
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (إذ كان القاتل
منهم غيره بمنزله القاتل نفسه، ولم يقل لهم لايقتل بعضكم
بعضًا، إذ كان المؤمن لأخيه المؤمن بمنزله نفسه فى التعاون
على البر والتقوى، يؤلم كل واحد منهما مايؤلم الآخر، ألا
ترى أن الله تعالى نهى المؤمنين أن يلمز بعضهم بعضًا، وأن
يتنابزوا بالألقاب، فقال تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم (فجعل
الامز أخاه لامزًا نفسه، إذ كان أخوه بمنزله نفسه، ومعلوم
أنه لا أحد صحيح العقل يلمز نفسه، فعلم أن معناه لا يلمز
أحدكم المؤمن. ومما هو فرض فى كل حال إبرار القسم، قال
الله تعالى: (واحفظوا أيمانكم (.
(9/16)
وأما التى هى فرض فى بعض الأحوال دون بعض
وفضل فى بعضها فشهود جنازة الأخ المؤمن، فالحال التى هو
فيها فرض إذا لم يكن للجنازة قيم غيره، أو يكون ولا يستغنى
عن حضوره أياها، فلا يسعه حينئذ ترك حضورها، وذلك أن الذى
يلزم من أمر موتى المسلمين للأحياء غسلهم وتكفينهم والصلاة
عليهم ودفنهم، وذلك فرض على الكفاية، فمن قام بذلك منهم
سقط فرضه عن سائرهم. ومن أيضًا تشميت العاطس إذا حمد الله،
فإنه فرض على جميع من سمع عطاسه وحمده لله تشميته، حتى إذا
شمته بعضهم سقط فرض ذلك عن سائرهم. وأما الذى هو بفعلها
محمود وبتركها غير مذموم فالسلام عليه إذا لقيه، فإن
المبتدىء أخاه بالسلام له الفضل كما قال عليه السلام فى
المتهاجرين (وخيرهما الذى يبدأ بالسلام) . ومن ذلك عيادته
لأخيه إذا مرض، وإجابته إلى طعام إذا دعاه إليه، فإن تارك
ذلك فضل لاتارك فرض، لإجماع الجميع على ذلك، وقد تقدم جملة
من معنى هذا الحديث فى كتاب الجنائز، وكتاب المظالم فى باب
نصر المظلوم، وفى كتاب النكاح فى باب إجابة دعوة الوليمة،
وسيأتى بقيته فى كتاب اللباس.
6 - باب: السلام للمعرفة وغير
المعرفة
/ 7 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلا
سَأَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَى الإسْلامِ
(9/17)
خَيْرٌ؟ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ،
وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَعَلَى مَنْ
لَمْ تَعْرِفْ) . / 8 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ، عَنِ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَحِلُّ
لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ،
يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا،
وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) . هذا أيضا
من باب الأدب ولتواضع، وفى السلام لغير المعرفة استفتاح
للخلطة، وباب الأنس ليكون المؤمنون كلهم إخوة، ولا يستوحش
أحد من أحد، وترك السلام لغير المعرفة يشبه صدود
المتصارمين المنهى عنه فينبغى للمؤمن أن يجتنب مثل ذلك.
وقد روى ابن مسعود عن النبى عليه السلام أنه قال: (من
أشراط الساعة السلام للمعرفة) وروى عبد الرزاق عن ابن عمر:
(أنه كان يدخل السوق فيما يلقى صغيرًا ولا كبيرًا إلا سلم
عليه، ولقد مر بعبد أعمى فجعل يسلم عليه والآخر لايرد
عليه، فقيل له: إنه أعمى) وكان السلف من المحافظة على رد
السلام كما ذكر معمر قال: (كان الرجلان من أصحاب النبى
عليه السلام مجتمعين فتفرق بينهما شجرة، ثم يجتمعان فيسلم
أحدهما على الآخر) . ومما يدل على تأكيد السلام على أكل
أحد أن الله تعالى - قد أمر الداخل بيتًا غير مسكون
بالسلام عند دخوله. وروى عن ابن عباس والنخعى وعطاء وعكرمة
وقتادة فى قول الله - تعالى: (فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا
على
(9/18)
أنفسكم} قالو: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد
فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإن الملائكة
ترد عليك، وهذا يدل أن الداخل بيتًا مسكونًا أولى بالسلام.
وروى ابن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم أن رسول
الله عليه السلام قال: (إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها
واذكروا اسم الله، فأن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر
اسم الله على طعامه، يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم
هاهنا ولاعشاء وإذا لم يسلم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على
طعامه، قال الشيطان لأصحابه: أدركتم المبيت والعشا) .
7 - باب: آية الحجاب
/ 9 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ
مَقْدَمَ النّبِىّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ،
فَخَدَمْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عَشْرًا
حَيَاتَهُ، وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ
الْحِجَابِ، فكَانَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِى
عَنْهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِى مُبْتَنَى
النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ،
أَصْبَحَ رسول الله بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ،
فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا، وَبَقِى
مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) ، فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام فَخَرَجَ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَىْ يَخْرُجُوا،
فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَمَشَيْتُ مَعَهُ
حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ
يَتَفَرَّقُوا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام
وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ
عَائِشَةَ، فَظَنَّ
(9/19)
أَنهمْ قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ
مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَأُنْزِلَ
االْحِجَابِ، فَضَرَبَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ سِتْرًا. / 10 -
وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنّبِىّ، عليه
السَّلام: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكن نساء
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَخْرُجْنَ لَيْلا إِلَى
لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ
زَمْعَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَرَآهَا
عُمَرُ، وَهُوَ فِى الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: عَرَفْتُكِ يَا
سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ،
قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابِ. قال الطبرى: فى
حديث عائشة فرض الحجاب على أزواج النبى عليه السلام لقول
عمر للنبى (أحجب نساءك) وقال فى حديث آخر: (يا رسول الله،
لو حجبت أمهات المؤمنين فإنه يدخل عليهن البر والفاجر.
فنزلت آيه الحجاب) . قال غيره: ويدل على صحة ذلك قول
الفقهاء أن إحرام المرأة فى وجهها كفيها، وإجماعاعهم أن
لها أن تبرز وجهها للأشهاد عليها، ولايجوز ذلك فى أمهات
المؤمنين. وقد اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (ولا
يبدين زينتهن إلا ماظهر منها (فذهب طائفة إلى أن قوله:
(إلا ماظهر منها (: الكحل والخاتم وقيل: الخضاب والسوار
والقرط والثياب. وقال أكثر أهل العلم: (إلا ماظهر منها
(الوجه والكفان،
(9/20)
روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأنس، وهو
قول مكحول وعطاء والحسن. قال إسماعيل بن إسحاق: قد جاء
التفسير ماذكر، والظاهر والله أعلم - يدل على أنه الوجه
والكفان، لأن المرأة يجب عليها أن تستر فى الصلاة كل موضع
منها إلا وجهها وكفيها، وفى ذلك دليل أن الوجه والكفين
يجوز للغرباء أن يروه من المرأة، والله أعلم بما أراد من
ذلك. وسيأتى بقية الكلام فى حديث أنس فى باب من قام من
مجلسه أو بيته ولم يستأذن اصحابه وتهيأ للقيام ليقوم الناس
فى هذا الجزء إن شاء الله. وقوله: (وكنت أعلم الناس بشأن
الحجاب) : أنه يجوز للعالم أن يصف ماعنده من العلم لسائله
عنه على وجه التعريف بما عنده منه لا على سبيل الفخر
والإعجاب.
8 - باب: الاستئذان من أجل
البصر
/ 11 - فيه: سَهْلِ، اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِى
حُجَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ،
فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ؛ لَطَعَنْتُ
بِهِ فِى عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ
أَجْلِ الْبَصَرِ) . / 12 - فيه: أَنَس: أَنَّ رَجُلا
اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
بِمِشْقَصٍ، أَوْ بِمَشَاقِصَ، فَكَأَنِّى أَنْظُرُ
إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ.
(9/21)
قال المؤلف: فى هذا الحديث تبين معنى
الاستئذان وأنه إنما جعل خوف النظر إلى عورة المؤمن وما لا
يحل منه، وفى الموطأ عن عطاء ابن يسار: (أن رجلاً قال: يا
رسول الله، أستأذن على أمى؟ قال نعم. قال: أنى معها فى
البيت. قال أستأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا.
قال: فأستأذن عليها) . وروى عن على بن أبى طالب أنه قال:
لا يدخل الغلام إذا اتحتم على أمه، ولا على اخته إلا بإذن
وأصل هذا الكلام فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم (الآية. قال أبو عبيد: فأما
ذكور المماليك فعليهم الاستئذان فى الأحوال كلها. وهذا
الحديث مما يرد قول أهل الظاهر، ويكشف غلطهم فى إنكارهم
العلل والمعانى، وقولهم أن الحكم للأسماء خاصة، لأنه عليه
السلام علل الاستئذان أنه إنما جعل من قبل البصر، فدل ذلك
على أن النبى عليه السلام أوجب اشياء وحظر أشياء من أجل
معان علق التحريم بها، ومن أبى هذا رد نص السنن. وقد نطق
القرآن بمثل هذا كثيرًا من ذلك قوله تعالى: (وجعلنا فى
الأرض رواسى أن تميد بهم (وقال: (وما أفأ الله على رسوله
من أهل القرى (إلى قوله: (كى لا يكون دوله بين الأغنياء
منكم (وقال: (لئلا يكون للناس على الله حجة
(9/22)
بعد الرسل (وقال تعالى: (ذلك جزيناهم
ببغيهم (فى مواضع كثيرة يكثر عددها، فلا يلتفت إلى من خالف
ذلك.
9 - باب: زنا الجوارح دون
الفرج
/ 13 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ
بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ
آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا
مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا
اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى
وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ
وَيُكَذِّبُهُ) . قال المؤلف: وزنا العين: فيما زاد على
النظرة الأولى التى لا تملك مما يديم النظر إليه على سبيل
الشره والشهوة، وكذلك زنا المنطق: فيما يلتذ به من محادثه
من ال يحل له ذلك منه، وزنا النفس: تمنى ذلك وتشتهيه، فذلك
كله سمى زنا، لأنه من دواعى زنا الفرج، ودل قوله: (إن الله
كتب على ابن آدم حظه من الزنا، وأدرك ذلك لا محالة) أن ابن
آدم لا يخلص من ذلك. قال المهلب: وكل ما كتبه الله على ابن
آدم فهم سابق فى علم الله لابد أن يدركه المكتوب عليه، وإن
الإنسان لايملك دفع عن نفسه غير أن الله تعالى تفضل على
عباده وجعل ذلك لممًا وصغائر لايطالب بها عباده إذا لم يكن
للفرج تصديق لها، فإذا صدقها الفرج كان ذلك من الكبائر،
رفقا من الله بعباده، ورحمة لهم، لما جبلهم عليه من ضعف
الخلقة، ولو آخذ عباده باللمم أو ما
(9/23)
دونه من حديث النفس لكان ذلك عدلا منه فى
عباده وحكمة، لا يسأل عما يفعل وله الحجة البالغة، لكن قبل
منهم اليسير وعفا لهم عن الكثير تفضلاً منه وإحسانًا.
وقوله: (لا محالة) يعنى: لا حيلة له فى التخلص من إدراك ما
كتب عليه.
باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا
/ 14 - فيه: أَنَس، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ
بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا. / 15 - وفيه: أبو سعيد
الخدرى قال: كنت فى مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى
كأنه مذعور، فقال: أستأذنت على عمر ثلاثا، فلم يؤذن لى
فرجعت، قال: مامنعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا، فلم يؤذن فرجعت،
وقال رسول الله: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له
فليرجع) ، فقال: والله لتقيمن عليه بينه، أمنكم أحد سمعه
من النبى - عليه السلام؟ قال أُبى بن كعب: والله لا يقوم
معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: فكنت أصغر القوم فقمت
معه، فأخبرت عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال
ذلك. قال المهلب: أما تسليمه صلى الله عليه ثلاثا وكلامه
ثلاثا فهو ليبالغ فى الافهام والاسماع، وقد أورد الله ذلك
فى القرآن فكرر القصص والاخبار والأوامر ليفهم عباده،
وليتدبر السامع فى المرة الثانية والثالثة مالم يتدبر فى
الأولى، وليرسخ ذلك فى قلوبهم. والحفظ إنما هو تكرر
الدراسة للشىء المرة الواحدة، وقول أنس: أنه كان إذا تكلم
(9/24)
بكلمة أعادها ثلاثًا. يريد فى أكثر أمره،
وأخرج الحديث مخرج العموم، والمراد به الخصوص. قال غيره:
واختلف العلماء فى تأويل قوله: (الاستئذان ثلاثًا) فقالت
طائفة: معنى قوله: فإن أذن له وإلا فليرجع ان شاء، فإن شاء
زاد على الثلاث لا أنه واجب عليه أن يرجع. قال ابن نافع:
لا بأس أن عرفت أحدًا أن تدعوه أن يخرج اليك وتنادى به
مابدا لك. وروى ابن وهب عن مالك قال: الاستئذان ثلاثا،
لاحب لأحد أن يزيد عليها إلا من علم أنه لم يسمع، فلا بأس
أن يزيد. وظاهر حديث أبى موسى يرد هذا القول، لأن أبا موسى
حمل الحديث على أنه لايزاد على ثلاث مرات، ودل أنه على ذلك
تلقى معناه من النبى عليه السلام ولو كان عند أبى موسى أنه
يجوز الزيادة على الثلاث فى الاستئذان لم يكن مخالفًا
لمذهب عمر ابن الخطاب، ولم يحتج أبو موسى أن ينزع بقوله
عليه الساسلام: (الاستئذان ثلاثًا) حين أنكر عليه عمر ترك
الزيادة الزيادة على الثلاث. وقد زعم قوم من أهل البدع أن
مذهب عمر رد قبول خبر الواحد العدل، وهذا خطأ فى التأويل
وجهل بمذهب عمر وغيره من السلف. وقد جاء فى بعض طرق هذا
الحديث أن عمر قال لأبى موسى: (أما انى لم أتهمك، ولكنى
أردت ألا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله) .
(9/25)
ففيه من الفقه التثبيت فى خبر لما يجوز
عليه من السهو وغيره، وحكم عمر بخبر الواحد أشهر من أن
يخفى، وقد قبل خبر الضحاك ابن سفيان وحده فى ميراث المرأة
من ديه زوجها، وقبل خبر حمل بن مالك الهذلى الاعرابى فى أن
ديه الجنين غره عبد أو أمه، وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف فى
الجزية وفى الطاعون، ولا يشك ذو لب أن أبا موسى أشهر فى
العدالة من الاعرابى الهذلى. وقد قال فى حديث السقيفة: إنى
قائل مقالة فمن حفظها ووعاها فليتحدث بها، فكيف يأمر من
سمع قوله أن يحدث به، وينهى عن الحديث عن رسول الله ولا
يقبل خبر الواحد؟ هذا لايقوله إلا معاندًا وجاهل. وفيه: أن
العالم المستبحر قد يخفى عليه من العلم مايعلمه من هو
دونه، وإلاحاطة لله وحده.
- باب: إذا دعى الرجل فجاء هل
يستأذن
وقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
قَالَ: (هُوَ إِذْنُهُ) . / 16 - وفيه: مُجَاهِدٌ، عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ، دَخَلْتُ مَعَ النّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ، فَقَالَ: (أَبَا
هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ إِلَىَّ)
قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا
فَاسْتَأْذَنُوا، فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا. قال المهلب:
إذا دعى وأتى مجيبا للدعوة، ولم تتراخ
(9/26)
المدة فهذا دعاؤه إذنه فأتى فى غير حين
الدعاء فأنه يستأذن وكذلك إذا دعى إلى موضع لم يعلم أن به
أحدًا مأذونًا له فى الدخول أنه لايدخل حتى يستأذن، فإن
كان فيه أحد مأذونا له مدعوًا قبله فلا بأس أن يدخل
بالدعوة، وان تراخت الدعوة وكان بين ذلك زمن يمكن الداعى
أن يخلو فى أمره أو يتعدى لبعض شأنه، أو يتصرف أهل داره
فلا يفتئت بالدعوة على الدخول حتى يستأذن كحديث مجاهد عن
أبى هريرة، هذا وجه تأويل الحديثين، والله أعلم.
- باب: التسليم على الصبيان
/ 17 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ،
فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: كَانَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) يَفْعَلُهُ. قال المؤلف: سلام النبى (صلى الله
عليه وسلم) على الصبيان من خلفه العظيم، وأدبه الشريف
وتواضعه عليه السلام، وفيه تدريب لهم على تعليم السنن،
ورياضة لهم على آدابه الشريعة ليبلغوا حد التكليف وهم
متأدبون بأدب الإسلام، وقد كان عليه السلام يمازح الصبيان
ويداعبهم ليقتدى به فى ذلك، فما فعل شيئًا وان صغير إلا
ليسن لأمته الاقتداء به، والاقتداء لأثره، وفى ممازحته
للصبيان تذليل النفس على التواضع ونفى التكبر عنها.
(9/27)
- باب: تسليم الرجال
على النساء والنساء على الرجال
/ 18 - فيه: سَهْلٍ، قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، [قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ] : كَانَتْ لَنَا
عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ - قَالَ ابْنُ
مَسْلَمَةَ: نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ - فَتَأْخُذُ مِنْ
أُصُولِ السِّلْقِ، فَتَطْرَحُهُ فِى قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ
حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ
انْصَرَفْنَا، نُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُهُ لْنَا،
فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلا
نَتَغَدَّى إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. / 19 - وفيه:
عَائِشَةَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا
عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلامَ)
، قَالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ، تَرَى مَا لا نَرَى، تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) . تَابَعَهُ معمر، وَقَالَ يُونُسُ،
وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ: (وَبَرَكَاتُهُ) . قال
المهلب: السلام على النساء جائز إلا على الشابات منهم فإنه
يخشى أن يكون فى مكالمتهن بذلك خائنة أعين أو نزعه شيطان،
وفى ردهن من الفتنة مما خيف من ذلك أن يكون ذريعة يوقف
عنه، إذ ليس ابتداؤه فريضة، وإنما الفريضة منه الرد، وأما
المتجالات والعجائز فهو حسن، إذ ليس فيه خوف ذريعة، هذا
قول قتادة، واليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. وقال
الكوفيون: لا يسلم الرجال على النساء إذا لم يكن منهن ذوات
محارم. وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والاقامة والجهر
بالقراءة فى الصلاة سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن.
وقال ابن وهب: بلغنى عن ربيعة أنه قال: ليس على النساء
التسليم على الرجال، ولا على الرجال التسليم على النساء،
وحجة
(9/28)
مالك ومن وافقه حديث سهل أنهم كانوا يسلمون
على العجوز يوم الجمعة مع النبى عليه السلام ولم تكن ذات
محرم منهم، وأيضًا حديث عائشة أن النبى بلغها سلام جبريل،
وفى ذلك أعظم الأسوة والحجة. وقال صاحب الأفعال: الكركرة:
تصريف الرياح السحاب إذا جمعته بعد تفرق، وتكركر السحاب
إذا تراد فى الهواء.
- باب: إذا قال من ذا فقال أنا
/ 20 - فيه: جَابِرَ، أَتَيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) فِى دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِى، فَدَفَعْتُ الْبَابَ،
فَقَالَ: (مَنْ ذَا) ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: (أَنَا،
أَنَا) ، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا. قال المهلب: إنما كره عليه
السلام قول جابر: لأنه ليس فى ذلك بيان إلا عند من يعرف
الصوت، وأما عند من يمكن أن يشتبه عليه فهو من التعنيت،
فلذلك كرهه، وقد قال بعض الناس: ينبغى أن يكون لفظ
الاستئذان بالسلام، وزعم أن النبى إنما كره قول جابر: لأنه
لم يستأذن عليه بلفظ السلام. وفيه: جواز ضرب باب الحاكم
واخراجه من داره لبعض مايعزى إليه ويبين هذا قصهة كعب بن
مالك، وابن أبى حدرد، وليس كما قال بعض الناس أنه لا يعرض
للحكم إلا عند جلوسه.
(9/29)
- باب: من رد فقال
عليك السلام
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (رَدَّ الْمَلائِكَةُ عَلَى آدَمَ: السَّلامُ
عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) . / 21 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى،
ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (وَعَلَيْكَ السَّلامُ، ارْجِعْ
فَصَلِّ. . .) الحديث. اختلفت الأثار فى هذا الباب فروى أن
النبى عليه السلام قال فى رد السلام: عليك السلام، وقال فى
رد اللائكة على آدم: السلام عليك، وفى كتاب الله تعالى
تقديم السلام على اسم المسلم عليه، وهو قوله تعالى: (سلام
على إل ياسين (و) سلام على موسى وهارون (وقال فى قصة
إبراهيم: (رحمة الله وبركاتة عليكم أهل البيت (وقد جاء
حديث رواه أبو عفان عن أبى تميمة الهجيمى، عن أبى دريد -
أو أبى جرى -: (أن رجلا قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) :
عليك السلام يا رسول الله. فقال له: لاتقل عليك السلام فهى
تحية الموتى، قل: السلام عليك) وهذا الحديث لايثبت، وقد صح
الوجهان عن النبى عليه السلام إلا أنه جرت عادة العرب
بتقديم اسم المدعو عليه فى الشر خاصة كقولهم: عليه لعنة
الله وغضب الله، قال تعالى: (وأن عليك لعنتى إلى يوم الدين
(وقال فى المتلاعنين) والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان
من الكاذبين (وفى لعان المرأة: (والخامسة أن غضب الله
عليها إن كان من الصادقين (
(9/30)
وروى يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمه، عن
أبى هريرة أن رسول الله قال: (السلام من أسماء الله،
فأفشوه بينكم) فإذا صح هذا الحدديث، فالاختيار فى التسليم
والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق. فإن فعل
فاعل غير ذلك وقدم اسم المسم عليه على اسم الله تعالى فلم
يأت محرمًا، ولا حرج عليه لثبوت ذلك عن النبى - عليه
السلام. وأما قوله عليه السلام: (عليك السلام تحية الموتى)
فقد ثبت عن النبى أنه قال فى سلامه على القبور: (السلام
عليكم دار قوم مؤمنين وحياهم بتحية الأحياء) ، وقال ابن
أبى زيد: يقول السلام عليكم، فيقول الراد: وعليكم السلام،
أو يقول: سلام عليكم كما قيل له، وهو معنى قوله تعالى: (أو
ردوها (وأكثر ما ينتهى السلام إلى البركة، وهو معنى قوله
تعالى: (فحيوا بأحسن منها (ولا تقل فى ردك: سلام عليك.
- باب: إذا قال فلان يقرئك
السلام
/ 22 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) قَالَ لَهَا: (إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ
السَّلامَ) ، قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ. هذا حجة فى أن من بلغ إليه سلام غائب عنه أن يرد
عليه السلام كما يرد على الحاضر، وروى أيوب، عن أبى قلابة:
(أن رجلاً أتى سلمات الفارسى فقال له: إن أبا الدرداء
يقول: عليك السلام.
(9/31)
قال: متى؟ قال: منذ ثلاث، قال: أما أنك لو
لم تؤدها كانت أمانة عندك) .
- باب: التسليم فى مجلس فيه
أخلاط من المسلمين والمشركين
/ 23 - فيه: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ
تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ
وَرَاءَهُ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، حَتَّى
مَرَّ فِى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأوْثَانِ وَالْيَهُودِ،
وَفِيهِمْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ بْنُ سَلُولَ، وَفِى
الْمَجْلِسِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا
غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ
عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَى أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ
قَالَ: لا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَاهُمْ
إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. . .
الحديث. قال الطبرى: فى هذا الحديث الابانة أنه لاحرج على
المرء فى جلوسه مع قوم فيهم منافق أو كافر، وفى تسليمه
عليهم إذا انتهى اليهم بالجلوس، وذلك أن النبى سلم على
القوم الذين فيهم عبد الله بن أبى، ولم يمتنع من ذلك لمكان
عبد الله مع نفاقه وعدواته للإسلام وأهله، إذ كان فيهم من
أهل الإيمان جماعة. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قال: إذا
مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم. وذلك خلاف ما
يقول بعض الناس أن التسليم غير جائز على من كان عن سبيل
الحق منحرفًا، إما لبدعه أو ضلاله من الأهواء الرديئة، أو
لملة من ملل الكفار دان بها، وتكليمه
(9/32)
غير سائغ وذلك أنه لا ضلالة أشنع ولابدعة
أخبث ولا كفر ارجس من النفاق، ولم يكن فى نفاق عبد الله بن
أبى يوم هذه القصة شك. وإن قيل: إن رسول الله إنما سلم
عليه يومئذ ونزل إليه ليدعوه إلى الله وذلك فرض عليه. قيل:
لم يكن نزوله عليه السلام ليدعوه، لأنه قد كان تقدم الدعاء
منه لعبد الله بن الله بن أبى ولجماعة المنافقين فى أول
الإسلام، فكيف يدعى إلى ما يظهره؟ وإنما نزل عليه السلام
هناك استئلافا لهم ورفقا بهم، رجاء فى رجوعهم إلى الحق.
قال المهلب: وقد كان عليه السلام يستألف بالمال، فضلا عن
التحية والكلمة الطيبة، ومن استئلافة أنه كناه عند سعد بن
عبادة، فقال له سعد: اعف عنه واصفح. أيلا تناصبه العداوة،
كل هذا رجاء أن يراجع الإسلام، وقد أجاز ما لك تكنية
اليهودى والنصرانى. قال الطبرى: وقد روى عن السلف أنهم
كانوا يسلمون على أهل الكتاب، روى جرير، عن منصور، عن
إبراهيم، عن علقمة قال: كنت ردفًا لابن مسعود فصحبنا دهقان
من القنطرة إلى زرارة، فانشقت له طريق فأخذ فيه، فقال عبد
الله: أين الرجل؟ فقلت: أخذ فى طريقه، فأتبعه بصره، وقال:
السلام عليكم. فقلت ياأبا عبد الرحمن: أليس يكره أن يبدءوا
بالسلام؟ قال: نعم، ولكن حق الصحبة. وقال إبراهيم: إذا
كانت لك إلى يهودى حاجة فابدأه بالسلام. وكان أبو أمامه
إذا أنصرف إلى بيته لايمر بمسلم ولا نصرانى
(9/33)
ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له
فى ذلك، فقال: أمرنا أن نفشى السلام. وقال كريب: كتب ابن
عباس إلى يهودى جربا فسلم عليه، فقال له كريب: سلمت عليه
فقال: ان الله هو السلام. وكان ابن محيريز يمر على السامرة
فيسلم عليهم. وقال قتادة: إذا دخلت بيوت أهل الكتاب فقل:
السلام على من أتبه الهدى. وسئل الأوزاعى عن مسلم مربكافر
فسلم عليه، فقال إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد
ترك الصالحون. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما رواه شعبة
وسفيان عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله: (لاتبدءوا النصارى واليهود بالسلام، وإذا
لقيتموهم فى الطريق فضطروهم إلى أضيقة) ؟ قيل: كل الخبرين
صحيح، وليس فى أحدهما خلاف للآخر وإنما فى حديث أسامة معنى
خبر أبى هريرة، وذلك أن خبر أبى هريرة مخرجة العموم، وخبر
أسامة مبين أن معناه الخصوص، وذلك أن فيه أن النبى عليه
السلام لما رأى عبد الله بن أبى جالسًا وحوله رجال من قومه
تذمم أن يجاوزه، فنزل فسلم فجلس، فكان نزوله إليه قضاء
ذمام. وهو نظير ما ذكر علقمة عن عبد الله فى تسليمه على
الدهقان الذى صحبه فى طريق الكوفة فقال: أنه صحبنا وللصحبة
حق، وكما قال النخعى: إذا كانت لك إلى يهودى حاجة أو
نصرانى فابدأه
(9/34)
بالسلام. فبان بخبر أسامة أن قوله عليه
السلام فى خبر أبى هريرة: (لاتبدءوهم بالسلام) إنما هو لا
تبدءهم لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءهم: من قضاء ذمام أو
حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة فى جواز أو سفر. قال
المهلب: وفيه عيادة المريض على بعد والركوب إليه. وفيه:
ركوب الحمر لأشراف الناس والارتداف. وقوله: خمر عبد الله
أنفه يعنى غطاه، وكل مغطى عند العرب فهو مخمر، ومنه قوله
عليه السلام للرجل فى إناء: (ألا خمرته ولو بعود تعرضه
عليه) . والبحرة: القرية، وكل قرية لها نهر ماء جار أو
نافع، فإن العرب تسميها بحرًا. وقد قيل فى قوله تعالى:
(ظهر الفساد فى البر والبحر (أنه عنى بالبحر الأمصار التى
فيها أنهار ماء، والعرب تقول: هذه بحرتنا، أى: بلدتنا،
وقال ابن ميادة: كان بقاياه ببحر ملك نقيه سحق من رداء
مخبر وقوله: يعصبوه أى: يسودوه، والسيد المطاع يقال له:
المعصب، لأنه يعصب الأمر براسه. والتاج عندهم للملك،
والعصابة للسيد المطاع. وقوله: شرق بذلك، أى غص به، يقال:
غص الرجل بالطعام وشرق بالماء وسجى بالعظم.
(9/35)
- باب: من لم يسلم على من اقترف ذنبًا ولم
يرد سلامة حتى تتبين) توبته وإلى متى تتبين) توبة العاصى
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لا تُسَلِّمُوا عَلَى
شَرَبَةِ الْخَمْرِ.
/ 24 - فيه: كَعْبَ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غزوة تَبُوكَ،
وَنَهَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كَلامِنَا،
وَآتِى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَأُسَلِّمُ
عَلَيْهِ، فَأَقُولُ فِى نَفْسِى: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ
بِرَدِّ السَّلامِ أَمْ لا؟ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ
لَيْلَةً، وَآذَنَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ. قال
المهلب: ترك السلام على أهل المعاصى بمعنى التأديب لهم سنة
ماضية بحديث كعب بن مالك وأصحابه: الثلاثة الذين خلفوا،
وبذلك قال كثير من أهل العلم فى أهل البدع: لا يسلم عليهم،
أدبا لهم. وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: لاتسلموا
على مدمن الخمر ولا على الملتهى بأبويه. ذكره الطبرى.
وكذلك كان فى قطع الكلام عن كعب بن مالك وصاحبه حين تخلفوا
عن رسول الله، وإظهار الموجدة عليهم أبلغ فى الأدب لهم،
والإعراب أدب بالغ، ألا ترى قوله تعالى: (واللاتى تخافون
نشوزهن فعظوهن واهجرهن فى المضاجع (. وقوله: وإلى متى
تتبين توبة العاصى ليس فى ذلك حد محدودة، ولكن معناه أنه
لاتتبين توبته من ساعته ولا ساعته ولايومه حتى يمر عليه ما
يدل على ذلك.
(9/36)
روى ابن وهب بإسناد أن يزيد بن أبى حبيب
قال: لو مررت على قوم يلعبون بالشطرنج ما سلمت عليهم. وكان
سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النرد لم يسلم عليهم. ورخص
مالك فى السلام على من لم يدمن اللعب بها، وإنما يلعب به
المرة بعد المرة.
- باب: كيف رد السلام على أهل
الذمة
/ 25 - فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ
عَلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا:
السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ
السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مَهْلا
يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى
الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ النّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 26 - وفيه:
ابْنِ عُمَر، وَأنس، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
قَالَ: (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ - قَالَ ابن عُمر:
الْيَهُودُ، وقَالَ أنس: أهل الكتاب - فقالوا: وَعَلَيْكَ)
. لابن عمر ولأنس: وعليكم. السام: فسره أبو عبيد قال: هو
الموت. قال الخطابى: وتأوله قتادة على خلاف ذلك، وروى عبد
الوارث، عن سعيد بن أبى عروبة قال: كان قتادة يفسر السام
عليكم: تسأمون دينكم، وهو مصدر من سئمته سآمه وسآمه مثل:
رضعة رضاعة ورضاعًا ولذذته لذاذة.
(9/37)
ووجدت هذا الذى فسره قتادة روى عن النبى
عليه السلام ذكر بقى بن مخلد فى التفسير عن سعيد، عن
قتادة، عن أنس (أن النبى عليه السلام بينا هو جالس مع
أصحابه، إذ أتى يهودى فسلم عليهم فردوا عليه، فقال عليه
السلام: هل تدرون ما قال؟ قالوا: سلم يا رسول الله. قال:
سام عليكم، أى تسأمون دينكم) . قال أبو سليمان: ورواية
(عليكم) بغير وار أحسن من رواية الواو، لأن معناه بغير
واو: رددت ما قلتموه عليكم، وإذا أدخلت الواو صار المعنى
على وعليكم، لأن الواو حرف التشريك. واختلف العلماء فى رد
السلام على أهل الذمة فقالت طائفة: رد السلام فريضة على
المؤمنين والكفار، قالوا: وهذا تأويل قوله السلام فريضة
على المؤمنين والكفار، قالوا: وهذا تأويل قوله تعالى:
(فحيوا بأحسن منها أو ردوها (قال ابن عباس وقتادة وغيره:
هى عامة فى رد السلام على المؤمنين والكفار. قال وقوله
تعالى: (أو ردوها (يقول: وعليكم للكفار. قال ابن عباس: ومن
سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، ولو كان مجوسيا. وروى
ابن وهب، عن مالك: لاترد على اليهودى والنصرانى، فإن رددت
فقل: عليك. وروى ابن عبد الحكم، عن مالك أنه يجوز تكنية
اليهودى والنصرانى وعيادته، وهذا أكثر من رد السلام. وروى
يحى عن مالك أنه سئل عمن سلم على يهودى أو نصرانى هل
يستقليه ذلك؟ قال: لا.
(9/38)
وقال ابن وهب: سلم على اليهودى والنصرانى،
وتلا قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا (. وقالت طائفة: لا
يرد السلام على أهل الذمة، وقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها
أو ردوها (فى أهل الإسلام خاصة. عن عطاء. ورد عليه السلام
على اليهود: (وعليكم) حجة لمن رأى الرد على أهل الذمة،
فسقط قول عطاء. قال المهلب: وفى الحديث من الفقه جواز
انخداع الرجل الشريف لمكايد أو عاص، ومقارضته من حيث
لايشعر إذا رجا رجوعه وتوبته. وفيه: الانتصار للسلطاء،
ووجوب ذلك على حاشيته وحشمه.؟
- باب: من نظر فى كتاب من يحذر
على المسلمين ليستبين أمره
/ 27 - فيه: عَلِىّ، بَعَثَنِى النّبِىّ، عليه السَّلام،
وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ،
وَكُلُّنَا فَارِسٌ، إلى رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا
امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ
حَاطِبِ ابْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ، فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ
عَلَى جَمَلٍ لَهَا، فقُلْنَا لها: أَيْنَ الْكِتَابُ
الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا
بِهَا، فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا
شَيْئًا، فقَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى كِتَابًا، فقُلْتُ:
لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ
لأجَرِّدَنَّكِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ االْجِدَّ مِنِّى،
أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا - وَهِىَ
مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ - فَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ، قَالَ:
فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
، فَقَالَ: (مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ)
؟ قَالَ: مَا بِى إِلا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَمَا
(9/39)
غَيَّرْتُ، وَلا بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ
تَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا
عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ
إِلا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ
وَمَالِهِ، قَالَ: (صَدَقَ، فَلا تَقُولُوا لَهُ إِلا
خَيْرًا) . . . الحديث. . . فَقَالَ: (اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ) ، قَالَ:
فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ. قال المهلب: فيه: هتك ستر المذنب وكشف المأة
العاصية وأن الحديث الذى روى أنه لا يجوز النظر فى كتاب
أحد، وأن ذلك حرام وماجاء من التغليظ فيه، فإن ذلك لمن يظن
به كتابه إلا الخير، فإن كان متهمًا على المسلمين فلا حرمه
لكتابه ولا له. ألا ترى أن المرأة لا يجوز النظر إليها
عريانة لغير ذى محرم منها لأنها عورة، وقد أراد على
تجريدها لو لم تخرج الكتاب وأقسم أن لم تخرجه ليجردها،
فحرمه المرأة أكثر من حرمة الكتاب، وقد سقطت عند خيانتها
فكذلك حرمة الكتاب. وفيه: دليل أنه لابأس بالنظر إلى عورة
المرأة عند الأمر ينزل فلا يجد من النظر إليها بدا، ويشهد
لصحة ذلك ما رواه مالك، عن سهيل ابن أبى صالح، عن أبيه، عن
أبى هريرة: (أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت ان
وجدت مع أمرأتى رجلا أمهله حتى أتى بأربعة شهداء فقال رسول
الله: نعم) . قال الطبرى: ولو كان الشهداء الأربعة إذا
حضروا لم يجز لهم النظر إلى فروجهما، لم يكن حضورهم
وغيبتهم إلا سواء، لأن الشهادة على الزنا لاتصح إلا أن
يشهد الشهود أنهم رأوا ذلك منهما كالميل فى المكحلة.
(9/40)
وقد تقدم بعض معانى هذه الحديث فى باب
الجاسوس فى كتاب الجهاد وفى باب المتأولين فى آخر الديات،
فأغنى عن إعادته.
- باب: كيف يكتب إلى أهل
الكتاب
/ 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ
أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى نَفَرٍ
مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تِجَارًا. . . الحديث، ثُمَّ
دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ) . يكتب إلى أهل الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، ويقدم الكاتب اسمه فى كتابه كما
يفعل إذا كتب إلى مسلم، وفى هذا الحديث حجة لمن أجاز أن
يبدأ أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة تكون اليهم لأن النبى
إنما كتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.
- باب: فيمن يبدأ فى الكتاب
/ 29 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِى
إِسْرَائِيلَ، أَخَذَ نَقَرَ خَشَبَةً، فَأَدْخَلَ فِيهَا
أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ،
وَكَتَبَ إِلَيْهِ: مِنْ فُلانٍ إِلَى فُلانٍ) . قال
المهلب: السنة أن يبدأ صاحب الكتاب بذكر نفسه فكذلك هى فى
جميع الأشياء، ألا ترى أنه قد جاء فى الحديث: صاحب الدابة
أولى لمقدمها) .
(9/41)
وروى معمر، عن أيوب قال: (قرأت كتابًا: من
العلاء بن الحضرمى إلى محمد رسول الله) . وقال الشعبى:
(كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل: من أبى عبيدة
ومعاذ لعبد الله عمر أمير المؤمنين) وقال نافع: كان عمال
عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. وقال معمر، عن أيوب، عن
نافع: كان ابن عمر أمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا
بأنفسهم، وإلا لم يرد اليهم جوابًا. وأجاز قوم أن يبدأ
باسم غيره قبله، قال معمر: وكان أيوب ربما بدأ باسم الرجل
قبله إذا كتب إليه. وروى أشهب: سئل مالك عن الذى يبدأ فى
الكتاب بأصغر منه ولعله ليس بأفضل منه، قال: لابأس بذلك،
أرأيت لو أوسع له فى المجلس إذا جاء إعظامًا له؟ وقال: إن
أهل العراق يقولون: لاتبدأ بأحد قبلك، وإن كان أباك أو
أكبر منك. يعيب ذلك من قولهم.
- باب: قول النبى عليه السلام
قوموا إلى سيدكم
/ 30 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ
نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ: (قُومُوا
إِلَى سَيِّدِكُمْ - أَوْ قَالَ: خَيْرِكُمْ) - فَقَعَدَ
عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ
النَّبِىِّ: (هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) ، قَالَ:
فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ،
وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ: (لَقَدْ حَكَمْتَ
بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ) .
(9/42)
قال المهلب: فيه أمر السلطان والحاكم
بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل فى مجلس
السلطان الأكبر، والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام
الناس كافة للقيام إلى سيدهم. قال الطبرى: فإن قال قائل:
قد عارض حديث أبى سعيد ما روى مسعر، عن أبيالعديس، عن أبى
مرزوق، عن أبى غالب، عن أبى أمامه قال: (خرج علينا علينا
النبى متوكئًا على عصاه فقمنا له، فقال: لاتقوموا كما يقوم
الاعاجم بعضهم لبعض) . قال الطبرى: وحديث أبى أمامة لا
يجوز الاحتجاج به فى الدين وذلك أن أبا العديس وأبا مرزوق
غير معروفين، مع اضطراب من ناقليه فى سنده، فمن قائل فيه
عن أبى العديس، عن أبى أمامة. فإن ظن ظان أن حديث عبد الله
بن بريده أن أباه دخل على معاوية فأخبرة أن النبى عليه
السلام قال: (من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا وجبت له
النار) حجة لمن أنكر القيام للسادة، فقد ظن غير الصواب،
وذلك أن هذا الخبر إنما ينبىء عن نهى رسول الله للذى يقام
له السرور بما يفعل له من ذلك لا عن نهيه القائم عن
القيام، وقد روى حماد بن زيد، عن ابن عون قال: كان المهلب
بن أبى صفرة يمر بنا ونحن غلمان فى الكتاب فنقوم يوقوم
الناس سماطين. وقال ابن قتيبه: معنى حديث معاوية وبريدة من
أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدى الملوك
والأمراء، وليس قيام الرجل لأخيه إذا سلم عليه من هذا فى
شىء، لقوله: (من سره أن يقوم له الرجال صفوفنًا والصافن:
هو الذى أطال القيام
(9/43)
فاحتاج لطول قيامه أن يرفع احدى رجليه
ليستريح، وكذلك الصافن من الدواب. وروى النسائى: حديثنا
زكريا بن يحى، حدثنى اسحاق، عن النضر بن شميل، حديثنا
إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال قال: حدثتنى عائشة
بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله إذا
رأى فاطمة ابنته قد أقبلت رحب بها، ثم قام إليها فقبلها،
ثم أخذ بيدها حتى يجلسها فى مكانه) .
- باب: المصافحة
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِى النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) التَّشَهُّدَ وَكَفِّى بَيْنَ كَفَّيْهِ.
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ،
فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَامَ
إِلَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى
صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى. / 31 - فيه: قَتَادَةَ، قَالَ:
قُلْتُ لأنَسٍ بن مالك: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِى
أَصْحَابِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ.
/ 32 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، كُنَّا مَعَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. المصافحة حسنة عند عامة العلماء،
وقد استحبها مالك بعد كراهة، وهى مما تنبت الود وتؤد
المحبة، ألا ترى قول كعب بن مالك فى حديثه الطويل حين قام
إليه طلحة وصافحه: (فوالله لا أنساها لطلحة أبدًا) فأخبر
بعظيم موقع قيام طلحة إليه من نفسه ومصافحته له وسروره
بذلك، وكان عنده أفضل الصله والمشاركة له، وقد قال أنس: إن
المصافحة كانت فى أصحاب رسول الله، وهم الحجة والقدوة
الذين يلزم اتباعهم، وقد ورد فى المصافحة أثار حسان.
(9/44)
روى ابن أبى شيبه: حديثنا أبو خالد وابن
نمير، عن الأجلح، عن أبى إسحاق، عن البراء قال: قال رسول
الله: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل
أن يفترقا) . وروى حماد عن حميد، عن أنس، عن النبى - عليه
السلام - أنه قال: (أهل اليمن أول من جاء بالمصافحة) .
وروى ابن المبارك من حديث أنس بن مالك قال: (كان رسول الله
إذا استقبله الرجل فصافحة لاينزع يده حتى يكون هو الذى نزع
ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذى يصرفه) .
- باب الأخذ باليدين
وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بْنَ الْمُبَارَكِ
بِيَدَيْهِ. / 33 - فيه: ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِى
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَكَفِّى بَيْنَ
كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِى السُّورَةَ
مِنَ الْقُرْآنِ. . . وذكر الحديث. الأخذ باليدين هو
مبالغةالمصافحة، وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا فى
تقبيل اليد، فأنكره مالك وأنكر ما روى فيه، وأجازه آخرون،
واحتجوا بما روى عن ابن عمر فى قصة السريه حيث فروا فرجعوا
إلى النبى عليه السلام فقالوا: (نحن الفرارون يا رسول
الله؟ فقال: بل أنتم العكارون أنا فئه المؤمنين. قال:
فقبلنا يده) . وقبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد
رسول الله حين تاب الله عليهم ذكره الأبهري.
(9/45)
وقد قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب حين
قدم من سفر، وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين حبس ابن
عباس بركابه، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا،
وقال زيد: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله. قال الأبهرى:
وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظيم لمن
فعل ذلك به، وأما إذا قبل إنسان يد إنسان أو وجهه أو شيئًا
من بدنه مالم يكن عورة على وجه القربه إلى الله لدينه أو
لعلمه أو لشرفه، فإن ذلك جائز، وتقبيل يد النبى عليه
السلام تقرب إلى الله. وما كان من ذلك تعظيمًا لدينا أو
سلطان أو شبه ذلك من وجه التكبر فلا يجوز وهو مكروه. وذكر
الترمذى من حديث شعبه، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله ابن
سلمه، عن صفوان بن عسال (أن يهوديين أتيا إلى النبى عليه
السلام فسألاه عن تسع آيات بينات فقال: لاتشركوا بالله
شيئًا، ولاتسرقوا، ولاتزنزا، ولاتقتلوا النفس التى حرم
الله إلا بالحق، ولا تأكلوا الربا، ولاتقذفوا محصنة،
ولاتولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا
تعتدوا فى السبت. فقبلوا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبى
الله) قال الترمذى: وهذا حديث حسن صحيح، وفى الباب عن يزيد
بن أسود وابن عمر وكعب بن مالك.
(9/46)
- باب: المعانقة
وقول الرجل كيف أصبحت
/ 34 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ عَلِىّ بْن أَبِى طَالِب
خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى
وَجَعِهِ الَّذِى تُوُفِّى فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا
أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ:
أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ
الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: أَلا تَرَاهُ؟ أَنْتَ وَاللَّهِ
بَعْدَ الثَّلاثِ عَبْدُ الْعَصَا، وَاللَّهِ إِنِّى لأرَى
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَيُتَوَفَّى فِى
وَجَعِهِ، وَإِنِّى لأعْرِفُ فِى وُجُوهِ بَنِى عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَنَسْأَلَهُ، فِيمَنْ
يَكُونُ الأمْرُ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ،
وَإِنْ كَانَ فِى غَيْرِنَا، أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا،
قَالَ عَلِىٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَمْنَعُنَا، لا
يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّى لا أَسْأَلُهَا
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبَدًا. قال
المهلب: ترجم هذا الباب بباب المعانقة، ولم يذكرها فى
الباب، وإنما أن يدخل فيه معانقة النبى للحسن حديث ابن لكع
الذى ذكره فى كتاب البيوع فى باب ماذكر فى الأسواق، وقال
أبو هريرة: (خرج رسول الله فى طائفة من النهار لا يكلمنى
حتى أتى بسوق بنى قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة من النهار
لايكلمنى حتى أتى بسوق بنى يشتد حتى عانقه وقبله. . . .)
الحديث، ولم يجد له سندًا غير السند الذى أدخله به فى غير
هذا الباب، فمات قبل ذلك، وبقى الباب فارغًا من ذكر
المعانقة، وتحته باب آخر قول الرجل كيف أصبحت، وأدخل حديث
على، فلما وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنهما
واحدة إذ لم يجد بينهما حديثًا، وفى كتاب الجهاد من تتابع
الأبواب الفارغة مواضع لم يدرك أن يتمها بالأحاديث.
(9/47)
وقد اختلف الناس فى المعانقة فكرهها مالك
وأجازها ابن عبيبه، حدثنا عبد الوهاب بن زياد بن يونس
إجازة، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا سعيد بن إسحاق، قال:
حدثنا على بن يونس الليثى المدنى قال: كنت جالسا عند مالك
بن أنس إذ جاء سفيان بن عبيينه يستأذن الباب، فقال مالك:
رجل صاحب سنة أدخلوه. فدخل فقال: السلام عليك ياأبا عبد
الله ورحمة الله وبركاتة. فقال مالك: وعليك السلام ياأبا
محمد ورحمة الله وبركاتة. فصافحة ثم قال: ياأبا محمد، لولا
أنها بدعة لعنقناك. قال سفيان: عانق خير منك، النبى عليه
السلام قال مالك: جعفر؟ قال: نعم. قال: ذلك حديث خاص ياأبا
محمد. قال سفيان: مايعم جعفر يعمنا، ومايخص جعفر يخصنا، إذ
كنا صالحين أفتأذن لى أن حدثنى عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس أنه قال: (لما قدم جعفر من أرض الحبشة أعتنقه
النبى عليه السلام وقبل بين عينيه، فقال: جعفر أشبه الناس
بى خلقًا وخلقًا) . وروى عبد الرازق، عن سليمان بن داود
قال: رأيت الثورى ومعمر حين التقيا احتضنا وقبل كل واحد
منهما صاحبه. وقد وردت فى المعانقة آثار ذكر الترمذى عن
ابن إسحاق، عن عروه، عن عائشة قالت: (قدم زيد بن حارثه
المدينة ورسول الله فى بيتى، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه
رسول الله عريانا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا
بعده فاعتنقه وقبله) . وروى سليمان بن داود، عن عبد الحكم
بن منصور، عن عبد الملك
(9/48)
ابن عمير، عن أبى سلمه بن عبد الرحمن، عن
أبى الهيثم بن التيهان: (أن النبى عليه السلام لقيه
فاعتنقه وقبله) من حديث قاسم بن أصبغ، عن محمد بن غالب، عن
سليمان بن داود. قال المهلب: وفى أخذ العباس بيد على جواز
المصافحة. وفيه: جواز قول الرجل يسأل عن حال العليل: كيف
أصبح؟ وإذا جاز أن يقال: كيف اصبح جاز أن يقال: كيف أصبحت؟
ولكن لا يكون هذا إلا بعد التحية المأمور بها من السلام.
وقول العباس: (ألا تراه؟ والله بعد ثلاث عبد العصا) يعنى
بقوله: ألا تراه ميتًا أى فيه علامة الموت، ثم قال له:
(أنت بعد ثلاث عبد العصا) . فيه: جواز اليمين على ماقام
عليه الدليل. . وفيه: أن الخلافة لم تكن مذكورة بعد النبى
عليه السلام لعلى أصلاً، لأنه قد حلف العباس أنه مأمور لا
آمر، لما كان يعرف من توجيه النبى عليه السلام بها إلى
غيره، وفى سكوت على على ماقال العباس وحلف عليه دليل على
علم بما يقال العباس أنه مأمور من غيره وماخشية على من أن
يصرح النبى عليه السلام بصرف الخلافة إلى غير عبد المطلب
فلا يمكنهم أحد بعده منها ليس كما ظن والله أعلم، لأن
النبى عليه السلام قد قال: (مروا أبا بكر يصلى بالناس،
فقيل له: لو أمرت عمر) فلم ير ذلك ومنع عمر من التقدم فلم
يكن ذلك محرمها على عمر بعد.
(9/49)
- باب: من أجاب
بلبيك وسعديك
/ 35 - فيه: مُعَاذٍ، قَالَ: أَنَا رَدِيفُ رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ:
لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ - ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلاثًا -
(هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ) ؟
قُلْتُ: لا، قَالَ: (حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ
يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، ثُمَّ سَارَ
سَاعَةً، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ
عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، أَنْ لا
يُعَذِّبَهُمْ) . / 36 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كُنْتُ
أَمْشِى مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فِى حَرَّةِ
الْمَدِينَةِ عِشَاءً، فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ) ،
قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (الأكْثَرُونَ
هُمُ الأقَلُّونَ. . .) ، الحديث، إلى قوله: (أَتَانِى
فَأَخْبَرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لا
يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ:
(وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) . قَالَ الأعْمَشُ:
وَحَدَّثَنِى أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ
نَحْوَهُ. قال ابن الأنبارى: معنى قوله: (لبيك) أنا مقيم
على طاعتك من قولهم: لب فلان بالمكان وألب به إذا أقام به،
ومعنى سعديك من الاسعاد والمتابعة. وقال غيره: معنى (لبيك)
أى: اجابة بعد إجابة، ومعنى سعديك: إسعادًا لك بعد إسعاد.
قال المهلب: والإجابة بنعم وكل مايفهم منه الإجابة كاف،
ولكن إجابة السيد والتشريف بالتلبية والارحاب والإسعاد
أفضل. فإن اعترض بقوله عليه السلام: (هل تدرى ما حق العباد
على الله) من زعم من المرجئهة أن الله يجب عليه ثواب
المطيعين.
(9/50)
فجواب أهل السنة لهم القائلين أن الله
لايحب عليه شىء لعباده أن هذا اللفظ خرج على التزاوج
والتقابل لما تقدم فى أول الكلام من ذكر حق الله على
العباد كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها (فسمى
الجزاء على السيئة باسم السيئة فكذلك هاهنا سمى ثوابه
الطائعين من عباده باسم مااستحقه تعالى عليهم من طاعتهم
له، وإنما معنى حق العباد على الله انجاز ماوعد به تعالى
من أن يدخلهم الجنة، وسيأتى فى كتاب الاعتصام.
- باب: قوله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس (الآية
(1) / 37 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه
وسلم) : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ
مَجْلِسِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا
وَتَوَسَّعُوا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ
يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسَ
مَكَانَهُ. قال المؤلف: قوله: (تفسحوا) من قولهم: مكان
فسيح إذا كان واسعًا، واختلف أهل العلم فى المجلس الذى أمر
الله بالتفسح فيه، فقال بعضهم: هو مجلس النبى عليه السلام
خاصة. عن مجاهد وقتادة: كانوا يتنافسون فى مجلس النبى عليه
السلام إذا رأوه مقبلاً ضيقوا مجلسهم، فأمر الله تعالى أن
يوسع بعضهم لبعض. وقال آخرون: عنى بذلك مجلس القتال، عن
الحسن البصرى ويزيد بن أبى حبيب، وقال ابن الأدفوى: حمل
الآية على العموم
(9/51)
أولى فيكون لمجلس النبى عليه السلام ومجلس
الحرب، ومجلس الذكر، والمجلس اسم للجنس يراد به مجالس.
وقوله: (فأفسحوا يفسح الله لكم) أى: فوسعوا يوسع الله
عليكم منازلكم فى الجنة، وقوموا إلى قتال العدو أو صلاة أو
عمل خير أو تفرقوا عن رسول الله فقوموا، عن قتادة ومجاهد.
وقال ابن زيد: انشزوا عن رسول الله فى بيته، فأنه به
حوائج. قال صاحب العين: نشز القوم من مجلسهم: قاموا منه.
واختلف فى تأويل نهيه عليه السلام عن أن يقام الرجل عن
مجلسه ويجلس فيه آخر، فتأوله قوم على الندب وقالوا: هو من
باب الأدب، لأنه قد يحب للعالم أن يليه أهل الفهم والنهى،
ويوسع لهم فى الحلقة حتى يجلسوا بين يديه. وتأوله قوم على
الوجوب وقالوا: لا ينبغى لمن سبق إلى مجلس مباح للحلوس أن
يقام منه. واحتجوا بما رواه معمر، عن سهيل بن أبى صالح، عن
أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا
قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) قالوا: فلما
كان أحق به بعد رجوعه كان أولى أن يكون أحق به مادام فيه،
قالوا: وقد كان ابن عمر يقوم له الرجل من تلقاء فما يجلس
فى مجلسه، قالوا: وابن عمر راوى الحديث عن النبى فهو أعلم
بتأويله.
(9/52)
وحجة الذين حملوه على الندب أن قالوا: لما
كان موضوع جلوسه فى المسجد أو حلقة العالم غير متملك له،
ولم يستحقه أحد قبل الجلوس فيه، لم يستحقه أحد بالجلوس
فيه، وكان حكم الجلوس كحكم المكان فى أنهما غير متملكين،
قالوا: وأما حديث أبى هريرة فقد تأوله العلماء على وجين:
على الوجوب، والندب كما تأولوا حديث ابن عمر. فقال محمد بن
مسلمه: معنى قوله: (فهو أحق به) يريد إذا جلس فى مجلس
العالم فهو أولى به إذا قام لحاجة، فأما إن قاما تاركا له
فليس هو أولى به من غيره. والوجه الثانى: روى أشهب، عن
مالك أنه سئل عن الذى يقوم من المجلس، فقيل له: إن بعض
الناس يقول: إذا رجع فهو أحق به. قال: ماسمعت به، وإنه
لحسن إذا كانت أوبته قريبه، وإن بعد ذلك حتى يذهب فيتغدى
ونحو ذلك فلا أرى ذلك له، وإن هذا من محاسن الأخلاق.
- باب: من قام من مجلسه أو
بيته ولم يستأذن أصحابه أو تهيأ للقيام ليقوم الناس
/ 38 - فيه: أَنَس، لَمَّا تَزَوَّجَ النّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا النَّاسَ
طَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: فَأَخَذَ
كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا،
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ
قَامَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وَبَقِىَ ثَلاثَةٌ، وَإِنَّ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) جَاءَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا
الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا،
(9/53)
فَانْطَلَقُوا، فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُمْ قَدِ
انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ،
فَأَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِى إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
(إِلَى قَوْلِهِ: (عَظِيمًا (. قال المؤلف: جاء فى بعض طرق
الحديث أن النبى عليه السلام استحيا أن يقول للذين أطالوا
الحديث فى بيته: قوموا، ويخرجهم من بيته لأنه كان عليه
السلام على خلق عظيم، وكان أشد الناس حياء فيما لم يؤمر
فيه ولم ينه، فإذا أمره الله لم يستحى من إنفاذ أمر الله -
عز وجل - والصدع به، وكان جلوسهم عنده بعد ماطمعوا للحديث
أذى له ولأهله، قال الله تعالى: (إن ذلكم كان يؤذى النبى
فيستحى منكم والله لايستحى من الحق (فقد حرم الله - عز وجل
- أذى رسوله عليه السلام فأنزل الله من أجل ذلك الآية.
وفيه: أنه لا ينبغى لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بإذنه، وأن
الداخل المأذون له لا ينبغى له أن يطول الجلوس فيه بعد
تمام حاجته التى دخل لها لئلا يؤذى الداخل الذى أدخله،
ويمنع أهله من التصرف فى مصالحهم. وفيه: أن من أطال الجلوس
فى دار غيره حتى كره ذلك من فعله، فإن لصاحب الدار أن يقوم
بغير إذنه ويظهر التثاقل عليه فى ذلك حتى يفطن له، وأنه
إذا قام فإن للداخل القيام معه، وأنه لا يجوز له الجلوس
فيه بعده إلا أن يأذن له فى ذلك صاحب المنزل.
(9/54)
30 - باب: الاحتباء
باليد وهى القرفصاء
/ 39 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ النّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا،
بِيَدِهِ هَكَذَا. إنما يجوز الاحتباء لمن جلس فى حبوته،
فأما إن تحرك وصنع بيديه شيئًا أو صلى فلا يجوز له ذلك،
لأن عورته تبدو إلا أن يكون احتباؤه على ثوب يستر عورته
فذلك جائز، وقد تقدم تفسير الاحتباء فى أبواب اللباس فى
الصلاة.
31 - باب من أتكأ بين يدى
أصحابه
وَقَالَ خَبَّابٌ: أَتَيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، قُلْتُ: أَلا تَدْعُو
اللَّهَ فَقَعَدَ. / 40 - فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ
النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ
بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ:
(الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) .
وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: (أَلا وَقَوْلُ
الزُّورِ) . قال المهلب: فيه جواز العالم بين يدى الناس،
وفى مجلس الفتوى، وكذلك السلطان والأمير فى بعض مايحتاج
إليه من ذلك لراحة يتعاقب بها فى جلسته أو لألم يجده فى
بعض أعضائه أو لما هو أرفق به، ولا يكون ذلك عامة جلوسه،
لأنه قال عليه السلام آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس
العبد. ولم يكن يأكل متكئًا.
32 - باب: من اسرع فى مشيته
لحاجة أو قصد
/ 41 - فيه: عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ، فَأَسْرَعَ،
ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ.
(9/55)
قال المؤلف: فيه جواز إسراع السلطان
والعالم فى حوائجهم والمبادرة إليها. وقد جاء أن إسراعه
عليه السلام فى دخوله البيت إنما كان لأنه ذكر أن عنده
صدقه، فأحب أن يفرقها فى وقته ذلك. وفيه: فضل تعجيل افعال
البر وترك تأخيرها. وذكر ابن المبارك بإسناده: (أن رسول
الله عليه السلام كان يمشى مشية السوقى: لا العاجز ولا
الكسلان) وكان ابن عمر يسرع المشى ويقول: هو أبعد من
الزهو، وأسرع فى الحاجة.
33 - باب: السرير
/ 42 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا
مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِىَ
الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ، فَأَسْتَقْبِلَهُ،
فَأَنْسَلُّ انْسِلالا. فيه: اتخاذ الصالحين الأسرة ونومهم
عليها، وجواز الصلاة فيها. وفيه: جواز الاضطجاع للمرأة
بحضرة زوجها.
34 - باب: من ألقى له وسادة
/ 43 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) ذُكِرَ لَهُ صَوْمِى، فَدَخَلَ،
عَلَى فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا
لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأرْضِ، فَصَارَتِ الْوِسَادَةُ
بَيْنِى وَبَيْنَهُ. . . . الحديث.
(9/56)
/ 44 - وفيه: عَلْقَمَة، أنه قدم الشَّامِ،
فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى جَلِيسًا صالحًا، فَجَلس إِلَى
أَبِى الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قلت: مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ
السِّرِّ الَّذِى كَانَ لا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ
حُذَيْفَةَ؟ أَلَيْسَ فِيكُمْ - أَوْ كَانَ فِيكُمِ -
الَّذِى أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ (صلى
الله عليه وسلم) مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِى عَمَّارًا -
أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ -
يَعْنِى ابْنَ مَسْعُودٍ -؟ . . . . الحديث. قال المهلب:
فيه إكرام السلطان والعالم وإلقاء الوسادة له. وفيه: أن
السلطان والعالم يزور أصحابه، ويقصدهم فى منازلهم، ويعلمهم
مايحتاجون إليه من دينهم. وفيه: جواز رد الكرامة على أهلها
إذا لم يردها الذى خص بها، لأن النبى عليه السلام لم يجلس
على الوسادة حين ألقيت له، وجلس على الأرض. وفيه: إيثار
التواضع على الترفع، وحمل النفس على التذلل. وفيه: أن خدمة
السلطان يجب أن يعرف كل واحد منهم بخطته.
35 - باب: القائلة بعد الجمعة
/ 45 - فيه: سَهْلِ، قَالَ: كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى
بَعْدَ الْجُمُعَةِ. قد تقدم الكلام فى هذا فى كتاب الجمعة
فأغنى عن إعادته وفيه: أن القائلة بعد الجمعة من الأمر
بالمعروف، وذلك - والله أعلم - ليستعان بها على قيام الليل
لقصر ليل الصيف.
(9/57)
36 - باب: القائلة
فى المسجد
/ 46 - فيه: سَهْل، قَالَ: مَا كَانَ لِعَلِىٍّ، رضى
اللَّه عنه، اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِى تُرَابٍ،
وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِىَ بِهَا جَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْتَ فَاطِمَةَ،
فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِى الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَيْنَ
ابْنُ عَمِّكِ) ؟ فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ
شَىْءٌ، فَغَاضَبَنِى، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِى،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لإنْسَانٍ:
(انْظُرْ أَيْنَ هُوَ) ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هُوَ فِى الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ
سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، فَأَصَابَهُ تُرَابٌ،
فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَمْسَحُهُ
عَنْهُ، ويَقُولُ: (قُمْ أَبَا تُرَابٍ. . .) ، الحديث.
قال المهلب: فيه جواز بالنهار والليل فى المسجد من غير
ضرورة إلى ذلك، وقد تقدم من أجاز ذلك ومن كرهه، فى كتاب
الصلاة، فى باب نوم الرجل فى المسجد. وفيه: ممازحه الصهر
وتكنيته بغير كنته، وبشىء عرض له، كما كنى أبا هريرة بهره،
كذلك كنى عليه السلام عليا بالتراب الذى احتبس إليه. وفيه:
جواز الممازحة لأهل الفضل، وكان النبى عليه السلام يمزح
ولا يقول إلا حقا. وفيه: الرفق بالاصهار وإلطافهم، وترك
معاتبتهم على مايكون منهم لأهلهم، لأن النبى عليه السلام
لم يعاتب عليا على مغاضبته لأهله، بل قال له: قم. وعرض له
بالانصراف إلى أهله.
37 - باب: من زار قوما فقال
عندهم
/ 47 - فيه: ثُمَامَةَ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ
تَبْسُطُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) نِطَعًا،
فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ، قَالَ:
فَإِذَا نَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَتْ
مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ،
(9/58)
فَجَمَعَتْهُ فِى قَارُورَةٍ، ثُمَّ
جَمَعَتْهُ فِى سُكٍّ، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى أَنْ يُجْعَلَ فِى
حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ، قَالَ: فَجُعِلَ فِى
حَنُوطِهِ. / 48 - وفيه: أَنَس، كَانَ النّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى
أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ
تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ يَوْمًا،
فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ. . .
فذكر الحديث. فيه: جواز القائلة للأمام والرئيس والعالم
عند معارفه وثقات إخوانه، وأن ذلك يسقط المؤنة، ويثبت
الود، ويؤكد المحبة. وفيه: طهارة شعر ابن آدم وعرقه.
38 - باب: الجلوس كيفما تيسر
/ 49 - فيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، قَالَ: نَهَى
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ
بَيْعَتَيْنِ، اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالاحْتِبَاءِ فِى
ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإنْسَانِ مِنْهُ
شَىْءٌ، وَالْمُلامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. قال المهلب:
هذه الترجمة قائمة من دليل هذا الحديث، وذلك أنه عليه
السلام نهى عن حالتين وهما: اشتمال الصماء، والاحتباء،
فمفهوم منه إباحة غيرهما مما تسر من الهيئات والملابس إذا
ستر ذلك العورة. ورأيت لطاوس أنه كان يكره التربع ويقول:
هو جلسة مملكة، وإنما نهى عن هاتين اللبستين فى الصلاة،
لأنهما، لا يستران العورة عند
(9/59)
الحفض والرفع وإخراج اليدين، فأما الجالس
لا يصنع شيئا ولا يتصرف بيديه وتكون عورته مستورة فلا حرج
عليه فيهما، لأنه قد ثبت عن النبى - عليه السلام - أنه
احتبى بفناء الكعبة، ذكره فى باب الاحتباء باليد وهى
القرفصاء - قبل هذا.
39 - باب: من ناجى بين يدى
الناس ولم يخبر بسر صاحبه فإذا مات أخبر به
/ 50 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ
تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ
تَمْشِى، لا، وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ
مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا
رَآهَا رَحَّبَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِى، ثُمَّ
أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ - أَوْ عَنْ شِمَالِهِ - ثُمَّ
سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى
حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِى تَضْحَكُ،
فَقُلْتُ لَهَا أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ: خَصَّكِ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالسِّرِّ مِنْ
بَيْنِنَا، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَأَلْتُهَا عَمَّا
سَارَّكِ، قَالَتْ: مَا كُنْتُ لأفْشِى عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِرَّهُ، فَلَمَّا
تُوُفِّيَ، قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِى
عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ، لَمَّا أَخْبَرْتِنِى، قَالَتْ:
أَمَّا الآنَ، فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِى، قَالَتْ: أَمَّا
حِينَ سَارَّنِى فِى الأمْرِ الأوَّلِ، فَإِنَّهُ
أَخْبَرَنِى أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ
بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ
عَارَضَنِى بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أَرَى الأجَلَ
إِلا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى،
فَإِنِّى نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، قَالَتْ:
فَبَكَيْتُ بُكَائِى الَّذِى رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى
جَزَعِى، سَارَّنِى الثَّانِيَةَ، قَالَ يَا فَاطِمَةُ،
أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِى سَيِّدَةَ نِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأمَّةِ)
.
(9/60)
قال المؤلف: فيه من الفقه أنه يجوز المسار
مع الواحد بحضرة الجماعة، وليس من باب نهيه عليه السلام عن
مناجاة الأثنين دون الواحد، لأن المعنى الذى يخاف من ترك
الواحد لا يخاف من ترك الجماعة، وذلك أن الواحد إذا تساورا
دونه وقع بنفسه أنهما يتكلمان فيه بما يسوءه ولا يتفق ذلك
فى الجماعة، وهذا من حسن الأدب وكرم المعاشرة. وفيه: أنه
لا ينبغى إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المسر، لأن
فاطمة لو أخبرت نساء النبى ذلك الوقت بما أخبرها به النبى
من قرب أجله لحزن لذلك حزنًا شديدًا، وكذلك لو أخبرتهن
أنها سيدة نساء المؤمنين، لعظم ذلك عليهن، واشتد حزنهن،
فلما أمنت ذلك ذلك فاطمة بعد موته أخبرت بذلك.
40 - باب: الاستلقاء
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بن زيد، قَالَ: رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ
مُسْتَلْقِيًا، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى
الأخْرَى. قال المهلب: إنما فعل ذلك فى المسجد ليرى الناس
أن هذا وشبهه خفيف فعله فى المسجد، وقد تقدم فى كتاب
الصلاة فى باب الاستلقاء فى المسجد.
41 - باب: لا يتناجى اثنان دون
الثالث
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ (الآيتين
(9/61)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذَا نَاجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَةً) [المجادلة 12] . / 52 - فيه: قَالَ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانُوا ثَلاثَةٌ،
فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ) . أى: لا
يتسار اثنان ويتركا صاحبهما خشية الإيحاش له فيظن أنهما
يتكلمان فيه أو يتجنبان جهته ذلك، وقد جاء هذا المعنى
بينًا فى رواية معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:
قال رسول الله: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون
الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه) ويشهد لهذا قوله تعالى:
(إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا (الآية. وقد
جاء التغليظ فى منجاة الأثنين دون صاحبهما فى السفر، وأن
ذلك لا يحل لهما من حديث ابن لهيعه، عن ابن هبيرة عن أبى
سالم الجيشانى، عن عبد الله بن عمرو بن عمرو العاص أن
الرسول قال: (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن
يتناجى اثنان منهما دون صاحبهما) . وتحريمه ذلك - والله
أعلم - فى الفلاة من أجل أن الخوف فيها أغلب على المرء،
والوحشة إليه أسرع، ولذلك نهى عليه السلام أن يسافر الواحد
والأثنان. واختلف أهل التأويل فيمن نزلت: إنما النجوى من
الشيطان ليحزن الذين آمنوا، فقال ابن زيد: نزلت فى
المؤمنين، كان الرجل يأتى النبى يسأله الحاجة ليرى الناس
أنه قد ناجى رسول الله،
(9/62)
وكان رسول الله لا يمنع أحدًا من ذلك،
وكانت الأرض يومئذ حربا، وكان الشيطان يأتى القوم فيقول
لهم: إنما يتناجون فى جموع قد جمعت لكم، فأنزل الله الآيه.
قال قتادة: نزلت فى المنافقين، كان بعضهم يناجى بعضًا،
وكان ذلك يغيظ المؤمنين يوحزنهم، فنزلت هذه الآيه. وقوله:
إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة. قال قتادة:
سأل الناس رسول الله حتى أحفوه فى المسألة، فقطعهم الله
بهذه الآية، وصمت كثير من الناس عن المسالة. وقال ابن زيد:
نزلت هذه الآية لئلا يناجى أهل الباطل رسول الله فيشق ذلك
على أهل الحق، فلما ثقل ذلك على المؤمنين خففه الله عنهم
ونسخه.
42 - باب: حفظ السر
/ 52 - فيه: أَنَس، أَسَرَّ إِلَى النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) سِرًّا، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا
بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِى أُمُّ سُلَيْمٍ، فَمَا
أَخْبَرْتُهَا بِهِ. قال المؤلف: السر أمانة وحفظه واجب،
وذلك من أخلاق المؤمنين، وقد روى عن أنس أنه قال: (خدمت
النبى عشر سنين، فقال: احفظ سرى تكن مؤمنًا) . وروى ابن
أبى شيبة: حدثنا يحى بن آدم، عن ابن أبى ذئب، عن عبد
الرحمن بن عطاء، عن عبد الملك، عن جابر بن عبد الله قال:
قال رسول الله: (إذا التفت المحدث فهى أمانة) .
(9/63)
قال المهلب: والذى عليه أهل العلم أن السر
لا يباح به إذا كان على المسر فيه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه
إذا مات المسر فليس ويلزم من كتمانة مايلزم فى حياتة إلا
أن يكون عليه فيه غضاضة فى دينه.
43 - باب: إذا كانوا أكثر من
ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمنجاة
/ 54 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِى عليه السلام:
(إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى رَجُلانِ دُونَ
الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، لأَجْلَ أَنْ
يُحْزِنَهُ) . / 55 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَسَمَ
النَّبِى عليه السلام، يَوْمًا قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ
مِنَ الأنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ
بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لآتِيَنَّ
النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِى مَلأ
فَسَارَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ. . . .
الحديث. قال المؤلف: روى مالك، عن عبد الله بن دينار قال:
(كان ابن عمر إذا أراد أن يسار رجلا وكانوا ثلاثة دعا
رابعًا ثم قال للاثنين: استأخرا شيئًا،، فأنى سمعت رسول
الله يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد. وناجى صاحبه) . فإذا
كانوا أكثر من ثلاثة بواحد جازت المنجاة، وكلما كثرت
الجماعة كان أحسن وأبعد للتهمة والظنة، ألا ترى ابن مسعود
سار النبى وهو فى ملأ من الناس وأخبره بقول الذى قال: هذه
قسمة ما أريد بها وجه الله. وروى أشهب عن مالك أنه قال: لا
يتناجى ثلاثة دون واحد، لأنه قد نهى أن يترك واحد. قال:
ولا أرى ذلك ولو كانوا عشرة أن يتركوا واحد.
(9/64)
قال المؤلف: وهذا القول يستنبط من هذا
الحديث، لأن المعنى فى ترك الجماعة للواحد كترك الأثنين
له، وهو ماجاء فى الحديث: (حتى تختلطوا بالناس من أجل أن
يحزنه) وهذا كله من حسن الأدب وكرم الأخلاق، لئلا يتباغض
المؤمنون ويتدابروا.
44 - باب: طول النجوى) وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [الإسراء: 47]
مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى
يَتَنَاجَوْنَ.
(1) / 56 - فيه: أَنَس، أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَرَجُلٌ
يُنَاجِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا
زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَامَ
فَصَلَّى. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من جواز طول المناجاة
بحضرة الجماعة فى الأمر يهم السلطان ويحتاج إلى تعرفه، وإن
كان فى ذلك بعض الضرر على بعض من بالحضرة، وقد جاء ذلك فى
بعض طرق الحديث وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب الإمام
وتعرض له الحاجة بعد الإقامة، ومن أجاز الكلام حيئذ ومن
كرهه.
45 - باب: لا تترك النار فى
البيت عند النوم
/ 57 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام:
(لا تَتْرُكُوا النَّارَ فِى بُيُوتِكُمْ حِينَ
تَنَامُونَ) . / 58 - وفيه: أَبُو مُوسَى، احْتَرَقَ
بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ،
فَحُدِّثَ
(9/65)
بِشَأْنِهِمُ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِىَ
عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ، فَأَطْفِئُوهَا
عَنْكُمْ) . / 59 - وفيه: جَابِر، قَالَ النّبِىّ، عليه
السَّلام: (خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وَأَجِيفُوا الأبْوَابَ،
وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ
رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ، فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ
الْبَيْتِ) . قال الطبرى: فى هذا الحديث الإنابة عن أن من
الحق على من أراد المبيت فى بيت ليس فيه غيره، وفيه نار أو
مصباح ألا يبيت حتى يطفئه أو يحرزه بما يأمن به احراقه
وضره، وكذلك إن كان فى البيت جماعة، فالحق عليهم إذا
أرادوا النوم ألا ينام آخرهم حتى يفعل ماذكرت، لأمر النبى
بذلك، فإن فرط فى ذلك مفرط فلحقه ضرر فى نفس أو مال كان
لوصية النبى لأمته، مخالفًا ولأدبه تاركًا. وقد روى عكرمة
عن ابن عباس قال: جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدى
النبى (صلى الله عليه وسلم) على الخمرة التى كان قاعدًا
عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، وإنما سمى الفأرة:
فويسقة، لأذاها وفسادها كما يفسد الفاسق، قال عليه السلام:
(خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم. . . .) الحديث، فذكر
منهن الفأرة يريد انهن يعملن عمل الفاسق.
46 - باب: إغلاق الأبواب
(بالليل
/ 60 - فيه: جَابِر، قَالَ: قَالَ النّبِىّ) : (أَطْفِئُوا
الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ، إِذَا
(9/66)
رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأبْوَابَ،
وَأَوْكُوا الأسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ
وَالشَّرَابَ) . قَالَ هَمَّامٌ: وَلَوْ بِعُودٍ. قال
المؤلف: أمره عليه السلام بإلاق الأبواب بالليل خشية
انتشار الشياطين وتسليطهم على ترويع المؤمنين وأذاهم، وقد
جاء فى حديث آخر أنه عليه السلام قال: (إذا جنح الليل
فاحبسوا أولادكم، فإن الله يبث من خلفه بالليل ما لا يبث
بالنهار، وإن للشياطين انتشارًا وخطفه) وقد قال عقيل:
يتوقى على المرأة أن تتوضًا عند ذلك. فعلم أمته عليه
السلام مافيه المصلحة لهم فى نومهم ويقظتهم. وأمر بتخمير
الأناء، وقد تقدم فى كتاب الشربة فى باب تغطية الإناء معنى
أمره عليه السلام بتغطية من حديث القعقاع بن حكيم وروى
مالك فى حديث جابر (فإن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحل
وكاء، ولا يكشف إناء) وان كان كان قد أعطى ماهو أكثر منها
من اللوج حيث لا يلج الإنسان، والوكاء: الخيط الذى يربط به
فم السقاء. وقوله: خمروا الإناء: أى غطوه، أى غطوه،
والتخمير: التغطية، وكذلك قبل للخمر: خمر، لأنها تغطى
العقل، وأصل ذلك من الخمر وهو كل ما وراك من شجر أو حجر.
47 - باب: الختان بعد الكبر
ونتف الأبط
/ 61 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ،
وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ،
وَتَقْلِيمُ الأظْفَارِ) .
(9/67)
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اخْتَتَنَ
إِبْرَاهِيمُ، عليه السَّلام، بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً،
وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ) . مُخَفَّفَةً. وَقَالَ
الْمُغِيرَةُ: عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، وَقَالَ:
(بِالْقَدُّومِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ. وروى الحديث
الأول بالتخفيف شعيب، عن أبى الزناد. / 62 - وفيه: ابْن
عَبَّاس، سُئل مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِى عليه
السَّلام؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ، وَكَانُوا
لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ. قال ابن
القصار: الختان سنة عند مالك والكوفيين، وقال الشافعى: هى
فرضة، والدليل لقول مالك والكوفيين قوله عليه السلام:
(الفطرة خمس) فذكر الختان فى ذلك، والفطرة السنة، لأنه
جعلها من جملة السنن فأضافها إليها، ولما أسلم سلمان لم
يأمره النبى - عليه السلام - بالإختان، ولو كان فرضًا لم
يترك أمره بذلك. واحتج الشافعى بقوله تعالى: (ثم أوحينا
إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفًا (وكان فى ملته الإختان،
لأنه ختن نفسه بالقدوم. قيل له: أصل المله الشريعة
والتوحيد، وقد ثبت أن فى ملة إبراهيم فرائض وسننًا فأمر أن
يتبع ماكان فرضًا ففرضًا، وما كان سنة فسنة، وهذا هو
الاتباع، فيجوز أن يكون اختتان إبراهيم من السنن. وقد روى
عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (الإختتان سنة للرجال،
ومكرمة للنساء) والختان علامة لمن دخل فى الإسلام، فهى من
شعائر المسلمين. واختلفوا فى وقت الختان، فقال الليث:
الختان للغلام مابين السبع سنين إلى العشر.
(9/68)
وقال مالك: عامة ما رأيت الختان ببلدنا إذا
أثغر وقال مكحول: ان إبراهيم خليل الرحمن ختن ابنه إسحاق
لسبعة أيام وختن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وروى عن أبى
جعفر أن فاطمة كانت تختن ولدها يوم السابع، وكره ذلك الحسن
البصرى ومالك بن أنس خلافًا لليهود، وقال مالك: الصواب فى
خلافهم، وقال الحسن: هو خطر. قال المهلب: وليس لختتان
إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين سنة مما يوجب علينا مثل
فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما
اختتن عليه السلام وقت أوحى إليه بذلك، وأمر بالإختتان
فاختتن. والنظر يدل أنه ما كان ينبغى الإختتان إلا قرب وقت
الحاجة لاستعمال ذلك العضو بالجماع، كما اختتن ابن عباس
عند مناهزة الاحتلام. وقال: كانوا لا يختتنون الرجل حتى
يدرك، لأن الختان تنظيف لما يجتمع من الوضر تحت الغرلة،
ولذلك - والله أعلم - أمر بقطعها، واختتان الناس فى الصغر
لتسهيل الألم على الصغير، لضعف عضوه وقلة فهمه. ومن روى
(القدوم) مخففة الدال، فإنما أراد الحديدة التى اختتن بها
إبراهيم، قال الشاعر: يا بنت عجلان ما أصبرنى على خطوب مثل
نحت بالقدوم
(9/69)
ومن شدد الدال فهو اسم الموضع الذى اختتن
فيه إبراهيم. وقد يجوز أن يجتمع له الأمران، والله أعلم.
والفطرة: فطرة الإسلام، وهى سنته وهى الفعلة من قوله
تعالى: (فاطر السموات والأرض (يعنى خالقها. والاستحداد:
حلق شعر العانة، والارفاع بالحديد وهو استفعال من الحديد،
وحكى أبو نصير عن الأصمعى يقال: استحد الرجل إذا ماتحت
ازاره، وتقليم الأظافر: قصها.
48 - باب: كل لهو باطل إذا (شغله) عن طاعة الله وَمَنْ
قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، وَقَوْلُهُ:
(مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ (الآية [لقمان: 6]
. / 63 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ،
فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ:
لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ:
تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) . قال المؤلف: روى
عن ابن مسعود، وابن عباس وجماعة من أهل التأويل فى قوله:
(ومن الناس من يشترى لهو الحديث) الآية، أنه الغناء، وحلف
على ذلك ابن مسعود بالله الذى لا إله إلا هو ثلاث مرات،
وقال: الغناء ينبت النفاق فى القلب. وقاله مجاهد وزاد: ان
لهو الحديث فى الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله
(9/70)
من الباطل. قال القاسم بن محمد: الغناء
باطل، والباطل فى النار. ولذلك ترجم البخارى باب كل لهو
باطل. وأما قوله: (إذا شغل عن طاعة الله) فهو مأخوذ من
قوله تعالى: (ليضل عن سبيل الله (فدلت الآية على أن الغناء
وجميع اللهو إذا شغل عن طاعة الله وعن ذكره فهو محرم،
وكذلك قال ابن عباس: (ليضل عن سبيل الله) أى: عن قراءة
القرآن وذكر الله ودلت أيضًا على أن اللهو إذا كان يسيرًا
لا يشغل عن طاعة الله، ولا يصد للجاريتين يوم العيد الغناء
فى بيت عائشة من أجل العيد، كما أباح لعائشة النظر إلى لعب
الحبشة بالحراب فى المسجد ويسترها وهى تنظر إليهم حتى شبعت
قال لها: حسبك. وقال عليه السلام لعائشة - وحضرت زفاف
أمرأة إلى رجل من الأنصار -: (يا عائشة، ما كان معكم لهو؟
فإن الأنصار يعجبهم اللهو) . وقد تقدم فى باب سنة العيدين
لأهل الإسلام فى كتاب الصلاة ما يرخص فيه من الغناء وما
يكره، فدلت هذه الآثار على ما دلت عليه هذه الآية من أن
يسير الغناء واللهو الذى لا يصد عن ذكر الله وطاعته مباح.
وما روى عن مالك من كراهة يسير الغناء، فإن ذلك من باب قطع
الذرائع، وخشية التطرق إلى كثرة الشغل عن طاعة الله الصاد
عن ذكره على مذهبه فى قطع الذرائع، وأجاز سماعه أهل
الحجاز.
(9/71)
وقيل لمالك: إن أهل المدينة يسمعون الغناء
قال: إنما يسمعه عندنا الفساق. وقال الأوزاعى: يترك من قول
أهل الحجاز استماع الملاهى، وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل
عن ضرب الكبر والمزمار وغير ذلك من اللهو الذى يهنأ لك
سماعه وتجد لذته وأنت فى طريق أو مجلس، أيؤمر من ابتلى
بذلك أن يرجع من الطريق أو يقوم من المجلس؟ فقال: أرى أن
يقوم إلا أن يكون جالسًا لحاجة أو يكون على حال لا يستطيع
القيام، وكذلك يرجع صاحب الطريق أو يتقدم أو يتأخر. وقد
جاء فيمن نزه سمعه عن قليل اللهو وكثيره ما روى أسد بن
موسى، عن عبد العزيز بن أبى سلمه، عن محمد بن المنكدر قال:
بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادى الذين
كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان،
أحلوهم رياض المسك، وأخبروهم انى قد أحللت عليهم رضوانى.
وسأذكر اختلاف العلماء فى القراءة بالألحان فى فضائل
القرآن عند قوله عليه السلام (ما أذن الله لشىء ما أذن
لنبى يتغنى بالقرآن) وقوله (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) .
وأما حديث أبى هريرة المذكور فى هذا الباب، فإنما أدخله
البخاري
(9/72)
على قوله فى الترجمة: ومن قال: تعالى
أقامرك فليتصدق، ولم يختلف العلماء أن القمار محرم، لقوله
تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب
(الآية، واتفق أهل التأويل أن الميسر هاهنا القمار كله.
وكره مالك اللعب بالنرد وغيرها من الباطل وتلا: (فماذا بعد
الحق إلا الضلال (وقال: من أدمن اللعب بها فلا تقبل له
شهادة وكذلك قال الشافعى: إذا شغله اللعب بها عن الصالة
حتى يفوته وقتها. وقال أبو ثور: من تلهى ببعض الملاهى حتى
تشغله عن الصلاة لم تقبل شهادتة. وأما قوله عليه السلام:
(ومن قال: تعال أقامرك، فليتصدق) فهو على معنى الندب عند
العلماء، لا على الوجوب، لأن الله لا يؤاخذ العباد بالقول
فى غير الشرك حتى يصدقه الفعل أو يكذبه، ولو أن رجلا قال
لامرأة: تعالى أزنى بك، أو قال لآخر: تعال اشرب معك الخمر
أو أسرق، ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، لم يلزمه حد فى الدنيا
ولا عقوبة فى الآخرة، إذا كان مجتنبًا للكبائر. لكن ندب من
جرى مثل هذا القول على لسانه، ونواه قلبه وقت قوله أن
يتصدق، خشية أن تكتب عليه صغيرة أو يكون ذلك من اللمم
وكذلك ندب من حلف باللات والعزى أن يشهد شهادة التوحيد
والاخلاص، لينسج بذلك ماجرى على لسانه من كلمة الاشراك
والتعظيم لها، وإن كان غير معتقد لذلك. والدليل أن ذلك على
الندب أن الله لا يؤاخذ العباد من الإيمان إلا
(9/73)
بما انطوت الضمائر على اعتقاده وكانت به
شريعة لها، وكل محلوف به باطل فلا كفارة فيه، وإنما
الكفارات فى الإيمان المشروعة. فإن قيل: فما معنى أمر
الرسول الداعى إلى المقامرة بالصدقة من بين سائر أعمال
البر؟ قيل له: معنى ذلك - والله أعلم - أن أهل الجاهلية
كانوا يجعلون جعلا فى المقامرة ويستحقونه بينهم، فنسخ الله
أفعال الجاهلية وحرم القمار وعوضهم بالصدقة عوضًا مما
أرادوا استباحة من الميسر المحرم، وكانت الكفارات من جنس
الذنب، لأن المقامر لا يخلوا أن يكون غالبا أو مغلوبًا،
فإن كان غالبا فالصدقة كفارة لما كان يدخل فى يده من
الميسر، وإن كان مغلوبًا فإخراجه الصدقة لوجه الله أولى من
اخراجه عن يده شيئًا لا يحل له إخراجه.
49 - باب ما جاء فى البناء
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ
رِعَاءُ الْبَهْمِ فِى الْبُنْيَانِ) . / 64 - فيه: ابْن
عُمَر، رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام،
بَنَيْتُ بِيَدِى. / 65 - وفيه: ابْن عُمَر قَالَ:
وَاللَّه مَا وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة مذ قبض
النّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ سُفيان: فذكرته لبعض أهله.
قَالَ: وَاللَّه لقد بنى. قَالَ سفيان: فلعله قَالَ: قبل
أن يبنى. قال المؤلف: التطاول فى البنيان من أشراط الساعة،
وذلك أن يبنى
(9/74)
مايفضل عما يكنه من الحر والبرد ويستره عن
الناس، وقد ذم الله تعالى - من فعل ذلك فقال: (اتبنوا بكل
ريع آيه تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (يعنى: قصورًا،
وقد جاء عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (ماأنفق ابن
آدم فى التراب فلن يخلف له، ولا يؤجر عليه) وأما من بنى
مايحتاج إليه ليكنه من الحر والمطر فمباح له ذلك، وكذلك
فعل السلف، ألا ترى قول ابن عمر: بنيت بيدى بيتا يكننى من
حرة المطر ويظلنى من الشمس. وقد روى ذلك عن النبى عليه
السلام ذكر الطبرى عن حسن، عن حمران بن أبان، عن عثمان بن
عفان، أن رسول الله قال: (كل شىء سوى خلف هذا الطعام -
يعنى: كسر الطعام - وهذا الماء، وبيت يظله، وثوب يستره
لابن آدم فيه حق) . فأباح عليه السلام من البناء مايقيه
أذى الشمس والمطر، الذين لا طاقة لأحد باحتمال مكروههما،
كما أباح من الغذاء مما به قوام بدنه من مطعم أو مشرب، ومن
الملبس مايستر عورته، ومازاد على ذلك فلا حق له فيه، يعنى
إذا لم يصرفه فى الوجه المقربة له إلى الله فإذا فعل ذلك
فله الحق فى أخذه وصرفه فى حقه. وروى ابن وهب وابن نافع،
عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده وهو أمير ولم يكن
له بيت، وإنما كان يستظل بالجدر والشجر، وإن رجلا قال له:
ألا أبنى لك بيتًا تسكن فيه؟ فقال: مالى به حاجة. فما زال
به الرجل قال: أعرف البيت الذى يوافقك. فقال: فصفه لى.
قال: أبنى لك بيتًا إذا قمت فيه
(9/75)
أصاب سقفه راسك، وان مددت فيه رجليك أصابها
الجدار. قال: نعم، كأنك كنت نفسى. وفى قول ابن عمر: (والله
ما وضعت لبنه على لبنة مذ قبض النبى - عليه السلام. .) إلى
آخره. فيه: أن العالم إذا روى عنه قولان مختلفان أنه ينبغى
حملهما من التأويل على ماينفى عنه التناقض، وينزهه عن
الكذب، ألا ترى قول سفيان: فلعله قال قبل أن يبتنى، فلم
يكذبه قريب ابن عمر فى قوله هذا، فعلمنا سفيان كيف يتأول
للسلف أحسن المخارج لانتفاء الباطل عنهم، وأنهم القدورة فى
الخير، والأسوة - رضى الله عنهم.
(9/76)
|