شرح صحيح
البخارى لابن بطال 68 - كتاب المرضى
- ما جاء فى كفارة المرضى وقوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز
به (
/ 1 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلا
كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ
يُشَاكُهَا) . / 2 - وفيه: أَبُو سَعِيد، وأَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى عليه السَّلام: (مَا يُصِيبُ
الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا
حُزْنٍ، وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ
يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)
. / 3 - وفيه: كَعْب، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ،
تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً،
وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأرْزَةِ، لا تَزَالُ حَتَّى
يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً) . / 4 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ
مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا، فَإِذَا
اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَالْفَاجِرُ
كَالأرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا
اللَّهُ إِذَا شَاءَ) . / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،
قَالَ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ
يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) قال كثير من
أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز
(9/371)
به) معناه أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا
فتكون له كفارة، روى هذا أبى بن كعب وعائشة ومجاهد، وروى
عن الحسن وابن زيد أنه فى الكفار خاصة، وحديث عائشة وأبى
سعيد وأبى هريرة يشهد بصحة القول الأول، وروى عن ابن مسعود
أنه قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن تكفر به الخطيئة.
فإن قيل: إن ظاهرة هذه الآثار يدل على أن المريض إنما يحط
عنه بمرضه السيئات فقط دون زيادة. وقد ذكر البخارى فى كتاب
الجهاد فى باب يكتب للمسافر ماكان يعمل فى الإقامة فى حديث
أبى موسى عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا مرض العبد أو
سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا) وظاهرة مخالف
لآثار هذا الباب لأن فى حديث أبى موسى أنه يزاد على
التكفير. قيل له: ليس ذلك بخلاف وإنما هو زيادة بيان على
آثار هذا الباب التى جاءت بتكفير الخطايا بالوجع لكل مؤمن
لقوله عليه السلام: (مايصيب المؤمن من وصب ولا نصب فعم
جميع المؤمنين) . وفى حديث أبى موسى معنى آخر وهو أنه من
كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر
وكانت نبيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه
ولايقطعه، فإن الله تعالى يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه،
فأما من لم له تنفل ولاعمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث
لأنه لم يكن يعمل فى صحته أو لإقامته مايكتب له فى مرضه
وسفره، فحديث أبى موسى المراد به الخصوص، وأحاديث هذا
الباب المراد بها العموم. وكل واحد منهما يفيد معنى غير
معنى صاحبه، فلا خلاف فى شىء منها، وقد بينًا معنى حديث
أبى موسى فى كتاب الجهاد.
(9/372)
قال المهلب: وأما قوله عليه السلام: (مثل
المؤمن الخامة من الزرع يفىء ورقه من حيث أتته الريح) يعنى
من حيث جاء أمر الله انطاع له ولان ورضيه، وإن جاءه مكروه
رجا فيه الخير والأجر، فإذا سكن البلاء عنه اعتدل قائما
بالشكر له على البلاء والاختبار وعلى المعافاة من الأمر
والاجتياز ومنتظرًا لاختيار الله له ماشاء مما حكم له
بخيره فى دنياه وكريم مجازاته فى أخراه، والكافر كالأرزة
صماء معتدلة لا يتفقده الله باختبار بل يعافيه فى دنياه
وييسر عليه فى أموره ليعسر عليه فى معاده، حتى إذا أراد
الله إهلاكه قصمه قصم الأرزة الصماء فيكون موته أشد عذابًا
عليه وأكثر ألما فى خروج نفسه من ألم النفس الملينة
بالبلاء المأجور عليه. والأرز من أصلب الخشب. وقال صاحب
العين: الخامة: الزرع أول ماينبت على ساق واحد.
- باب شدة المرض
/ 6 - فيه: عَائِشَةَ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ
أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) . / 7 - وفيه: عَبْدِ اللَّهِ، رأَيْتُ النَّبِى
عليه السلام فِى مَرَضِهِ، وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا
شَدِيدًا، وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا،
قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ:
(أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلا حَاتَّ
اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ
الشَّجَرِ) .
(9/373)
وترجم لحديث عبد الله باب أشد الناس بلاء
الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. وقال فيه بعد قوله: (إنك
لتوعك وعكًا شديدًا. قال: أجل إنى أوعك كما يوعك رجلان
منكم. قلت: ذاك أن لم لأجرين. قال أجل ذلك كذلك. .)
الحديث. قال المؤلف: خص الله أنبياءه الأوجاع والأصواب لما
خصهم به من قوة اليقين وشدة الصبر والاحتساب ليكمل لهم
الثواب ويتم لهم الأجر وذكر عبد الرزاق من حديث أبى سعيد
الخدرى: (أن رجلا وضع يده على النبى فقال: والله ماأطيق أن
أضع يدى عليك من شدة حماك. فقال النبى (صلى الله عليه
وسلم) : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا
الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله،
وإن كان النبي من من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ
العباءة فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون
بالرخاء) . وقوله: باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل
فالأمثل فقد روى هذا اللفظ عن النبى عليه السلام رواه
الترمدذى قال: حدثنا قتيبة، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن
بهدلة، عن مصعب ابن سعد، عن أبيه قال: (يارسول الله، أى
الناس أشد بلاء. قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى
الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا أشتد بالؤه، وإن
كان فى دينه رقه ابتلى على حسبه، فما يبرح البلاء بالعبد
حتى يمشى على الأرض وما عليه خطيئة) . قال الترمذى: هذا
الحديث حسن صحيح، وفى الباب عن أبى هريرة وأخت حذيفة
اليمان.
(9/374)
3 - باب: وجوب عيادة
المريض
/ 8 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام
قَالَ: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ،
وَفُكُّوا الْعَانِىَ) . / 9 - وفيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا
النَّبِىّ عليه السلام أَنَّ نَعُودَ الْمَرِيضَ. يحتمل أن
تكون عيادة المريض من فروض الكفاية، كإطعام الجائع وفك
الأسير، وهو ظاهر الكلام، ويحتمل أن يكون معناه الندب
والحض على المؤاخاة والألفة كما قال عليه السلام: (مثل
المؤمنين فى تواصلهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا تداعى منه
عضو تداعى سائره) . وقد جاء فى فضل عيادة المريض آثار منها
قوله قوله عليه السلام: (عائد المريض على مخارف الجنة)
وروى مالك أنه بلغه عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله
عليه السلام قال: (إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة حتى
إذا قعد عنده قرت فيه) أسنده ابن معين وابن أبى شيبة، عن
هشيم، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم بن
ثوبان، عن جابر.
4 - باب عيادة المغمى عليه
/ 10 - فيه: جَابِر، مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِى
النَّبِى عليه السلام يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ - وَهُمَا
مَاشِيَانِ - فَوَجَدَانِى أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَأَفَقْتُ.
. . . الحديث. الإغماء كسائر الأمراض تنبغى العيادة فيه
تأسيًا بالنبي عليه
(9/375)
السلام وأبى بكر الصديق، وقوله عليه السلام
(عودوا المريض) يدخل فى عمومه جميع الأمراض، وفيه رد لما
يعتقده عامة الناس أنه لا يجوز عندهم عيادة من مرض من
عينيه وزعموا ذلك لأنهم يرون فى بيته مالا يراه هو، وحالة
الإغماء أشد من حالة مرض العينين؛ لأن المغمى عليه يزيد
عليه بفقد عقله، وقد جلس النبى عليه السلام فى بيت جابر فى
حالة إغمائه حتى أفاق وهو الحجة فيه. وفيه أن عائد المريض
قد يطول فى جلوسه عند العليل إذا رأى لذلك وجهًا.
5 - باب فضل من يصرع
/ 11 - فيه: ابْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ لِعَطَاء: (أَلا
أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ فقُلْتُ:
بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنِّى
أُصْرَعُ، وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى،
قَالَ: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ
شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ) ، فَقَالَتْ:
أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّى أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ
لِى أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ:
أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً
سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ. قال المؤلف: فيه فضل
الصع، وفيه أن اختيار البالء والصبر عليه يورث الجنة، وأن
الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه أنه
يطيق التمادى على الشدة ولايضعف عن التزامها.
(9/376)
6 - باب: فضل من ذهب
بصره
/ 12 - فيه: أَنَس، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) يَقُولُ: (قَالَ اللَّهَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِى
بِحَبِيبَتَيْهِ، فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا
الْجَنَّةَ) ، يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. هذا الحديث أيضًا حجة
فى أن الصبر على البلاء ثوابه الجنة، ونعمة البصر على
العبد وإن كانت من أجل الله تعالى فعوض الله عليها الجنة
أفضل من نعمتها فى الدنيا لنفاذ مدة الالتذاذ بالبصر فى
الدنيا وبقاء مدة الالتذاذ به فى الجنة. فمن ابتلى من
المؤمنين بذهاب بصره فى الدنيا فلم يفعل ذلك به لسخط منه
عليه، وإنما أراد تعالى الإحسان إليه إما بدفع مكروه عنه
يكون سببه نظر عينيه لا صبر له على عقابه فى الآخرة أو
ليكفر عنه ذنوبًا سلفت لا يكفرها عنه إلا بأخذ أعظم جوارحه
فى الدنيا ليلقى ربه طاهرًا من ذنوبه أو ليبلغ به من الأجر
إلى درجة لم يكن يبلغها بعمله وكذلك جميع أنواع البالء،
فقد أخبر عليه السلام أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم
الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه. وجاء عنه عليه
السلام: (إن أهل العافية فى الدنيا يودون لو أن لحومهم
قرضت بالمقاريض فى الدنيا لما يرون من ثواب الله لأهل
البلاء) فمن ابتلى بذهاب بصره أو بفقد جارحه من جوارحه
فليتلق ذلك بالصبر والشكر والاحتساب وليرض باختبار الله له
ذلك ليحصل على أفضل العوضين وأعظم النعمتين وهى الجنة التى
من صار إليها
(9/377)
فقد ربحت تجارته وكرمت صفقته ولم يضره
مالقى من شدة البلاء فيما قاده إليها.
7 - باب عيادة النساء الرجال
/ 13 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىّ عليه
السلام الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ،
قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فقُلْتُ: يَا أَبَتِ،
كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلالُ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ . . . .
الحديث. حديث عائشة كان فى أول الإسلام عند قدزمهم المدينة
فوجدوها وبئة فدعا لها النبى أن يصححها وينقل حماها إلى
الجحفة فأجاب الله دعوته. وعيادة أم الدرداء تحمل على أنها
عادت الأنصارى وهى متجالة فلا تزورون امرأة رجلا إلا أن
تكون ذات محرم أو تكون متجالة يؤمن من مثلها الفتنة بها.
وفيه عيادة السادة الجلة لعبيدهم؛ لأن بلالا وعامر بن
فهيرة اعتقلهما أبو بكر رضى الله عنه.
8 - باب: عيادة الأعراب
/ 14 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِى عليه السلام
دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِى يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ
النَّبِى عليه السلام إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ
يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ: (لا بَأْسَ طَهُورٌ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ) ، قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ، كَلا بَلْ هِىَ حُمَّى
تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ
الْقُبُورَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
(فَنَعَمْ إِذًا) .
(9/378)
قال المؤلف: عيادة الأعراب داخله فى عموم
قوله: (عودوا المريض) إذ هم من جملة المؤمنين. قال المهلب:
وفائدة هذا الحديث أنه لا نقص على السلطان فى عيادة مريض
من رعيته أو واحد من باديته ولا على العالم فى عيادة
الجاهل؛ لأن الأعراب شأنهم الجهل كما وصفهم الله، ألا ترى
رد هذا الأعرابى لقول النبى عليه السلام وتهوينه عليه مرضه
بتذكيره ثوابه عليه فقال له: بل هى حمى تفوز على شيخ كبير
تزيره القبور، وهذا غاية الجهل، وقد روى معمر عن زيد بن
مسلم فى هذا الحديث أن النبى حين قال للأعرابى: (فنعم إذا)
أنه مات الأعرابى، وسيأتى زيادة فى هذا فى باب مايقال
للمريض ومايجيب بعد.
9 - باب: عيادة الصبيان
/ 15 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ بنتًا لِلنَّبِى عليه السلام
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ
فَاشْهَدْنَا. . . . إلى قوله:. . . . فَقَامَ النَّبِىُّ
عليه السلام وَقُمْنَا، فَرُفِعَ الصَّبِى فِى حَجْرِ
النَّبِى عليه السلام وَنَفْسُهُ تقعقع. . . قال المؤلف:
فيه من الفقه عيادة الرؤساء وأهل الفضل للصبيان المرضى وفى
ذلك صلة لآبائهم ولا يعدم من ذلك بركة دعائهم للمرضى
وموعظة الآباء وتصبيرهم واحتسابهم لما ينزل بهم من المصائب
عند الله تعالى. وهذا الحديث لم يضبطه الراوى فمرة قال:
(إن بنتًا للنبى أرسلت
(9/379)
إليه أن ابنتى قد احتضرت) ومرة قال فى آخر
الحديث: (فرفع الصبى فى حجر النبى ونفسه تقعقع) ، فأخبر
مرة عن صبيه ومرة عن صبى والله أعلم.
- باب: عيادة المشرك
/ 16 - فيه: أَنَس، أَنَّ غُلامًا لِيَهُودى كَانَ
يَخْدُمُ النَّبِى عليه السلام فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ
النَّبِى عليه السلام يَعُودُهُ، فَقَالَ: (أَسْلِمْ) ،
فَأَسْلَمَ. وقال سعيد بن المسيب عن أبيه: (لما حضر أبو
طالب جاءه النبى - عليه السلام) . إنما يعاد المشرك ليدعى
إلى الإسلام إذا رجا إجابته إليه، ألا ترى أن اليهودى أسلم
حين عرض عليه النبى الإسلام وكذلك عرض الإسلام على عمه أبى
طالب، فلم يقض الله له به، فأما إذا لم يطمع بإسلام الكافر
ولا رجيت إنابته فلا تنبغى عيادته.
- باب إذا عاد مريضًا فحضرت الصلاة فصلى بهم جماعة
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام دَخَلَ
عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ فِى مَرَضِهِ، فَصَلَّى
بِهِمْ جَالِسًا، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ قِيَامًا،
فَأَشَارَ إِلَيْهِمُ أَنّ اجْلِسُوا. . . . الحديث. وقال
الحميدى: هذا مسنوخ لأن النبى عليه السلام آخر ماصلى
قاعدًا والناس خلفه قيام.
(9/380)
قال المؤلف: من السنة المعروفة أن صاحب
المنزل يتقدم للصلاة على من حضره من الناس إلا أن يقدم
غيره، وصلاة النبى بمن عاده فى مرضه هو الواجب من وجهين:
أحدهما: ماذكرناه من أن صاحب المنزل أولى من غيره
بالإمامة، والوجه الثانى: أن النبى لا يجوز أن يتقدمه أحد
فى كل مكان، ولا يجوز اليوم لمن كان مريضًا أن يؤم أحد فى
بيته جالسًا؛ لأن إمامه الجالس منسوخة عند أكثر العلماء،
وقد تقدم اختلافهم فى ذلك فى كتاب الصلاة.
- باب: وضع اليد على المريض
/ 18 - فيه: عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَاهَا
قَالَ: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوًا شَدِيدًا،
فَجَاءَنِي النَّبِي عليه السلام يَعُودُنِى، فَقُلْتُ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّى أَتْرُكُ مَالا. . . . الحديث
ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ مَسَحَ
وَجْهِى وَبَطْنِى، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اشْفِ
سَعْدًا، وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ) . / 19 - وفيه:
عَبْدُ اللَّهِ، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىّ عليه السلام
وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِى،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ. . .
الحديث. قال المؤلف: فى وضع اليد على المريض تأنيس له
وتعرف لشدة مرضه ليدعو له العائد على حسب مايبدو له منه،
وربما رقاه بيده ومسح على ألمه فانتفع العليل به إذا كان
العائد صالحًا تبرك بيده ودعائه كما فعل النبى، وذلك من
حسن الأدب واللطف بالعليل وينبغى امتثال أفعال النبى عليه
السلام كلها والاقتداء به فيها.
(9/381)
- باب ما يقال
للمريض وما يجيب
/ 20 - فيه: عَبْدُ اللَّهِ: أتيتُ النَّبِىّ عليه السلام
فِى مرضِهِ فَمَسِسْتُهُ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا،
فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ
أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ
يُصِيبُهُ أَذًى إِلا حَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا
تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ) . / 21 - فيه: ابْن عَبَّاس،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ
يَعُودُهُ، فَقَالَ: (لا بَأْسَ طَهُورٌ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ) ، فَقَالَ: كَلا، بَلْ هِىَ حُمَّى تَفُورُ عَلَى
شَيْخٍ كَبِيرٍ كَيْمَا تُزِيرَهُ الْقُبُورَ، قَالَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَنَعَمْ إِذًا) . قال
المهلب: فيه أن السنة أن يخاطب العليل بما يسليه من ألمه
وبغطة بأسقامه بتذكيره بالكفارة لذنوبه وتطهيرة من آثامه
ويطمعه بالإقالة لقوله: لا بأس عليك مما تجده بل يكفر الله
به ذنوبك ثم يفرج عنك فيجمع لك الأجر والعافية لئلا يسخط
أقدار الله، واختياره له وتفقده إياه بأسباب الرحمة
ولايتركه إلى نزعات الشيطان والسخط فربما جازاه الله
بالتسخط وبسوء الظن عقابًا فيوافق قدرًا يكون سببًا إلى أن
يحل به مالفظ به من الموت الذى حكم على نفسه. وقوله عليه
السلام لابن مسعود: (أجل) أنه ينبغى للمريض أن يحسن جواب
زائره ويتقبل مايعده من ثواب مرضه ومن إقالته ولا يرد عليه
بمثل مارد الأعرابى على النبى عليه السلام وسيأتى فى باب
يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر فى كتاب الاعتصام.
(9/382)
- باب: عيادة المريض راكبًا وماشيًا
/ 22 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام رَكِبَ
عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ،
وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ
عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. . . وذكر الحديث. / 23
- وفيه: جَابِر، جَاءَنِى النَّبِى عليه السلام يَعُودُنِى
لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلا بِرْذَوْنٍ. فيه أن عيادة
المريض راكبًا وماشيًا كل ذلك سنة مرجو بركة العمل بها
وثواب الأعمال على صحة النية وإخلاصها لله تعالى وإن قلت
المشقة فيها.
- باب: قول المريض إنى وجع، أو
وارأساه أو أشتد بى الوجع وقول أيوب: (مسنى الضر وأنت أرحم
الراحمين (
/ 24 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، مَرَّ بِىَ النَّبِى
عليه السلام وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ، فَقَالَ:
(أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ (صلى الله عليه وسلم) ؟
قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَا الْحَلاقَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ
أَمَرَنِى بِالْفِدَاءِ. / 25 - وفيه: عَائِشَةُ، قَالَت:
وَا رَأْسَاهْ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ، فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ،
وَأَدْعُوَ لَكِ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلِيَاهْ،
وَاللَّهِ إِنِّى لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى، فَلَوْ كَانَ
ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ
أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
(بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ - أَوْ
أَرَدْتُ - أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ،
وَأَعْهَدَ. . .) الحديث. / 26 - وفيه: عبد اللَّهِ بْن
مَسْعُود، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِي عليه السلام وَهُوَ
يُوعَكُ،
(9/383)
فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: إِنَّكَ
لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: (أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ
رَجُلانِ مِنْكُمْ) ، قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ:
(نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا
سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ
الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) . / 27 - وفيه: سَعْد، جَاءَنِى
النَّبِىّ عليه السلام يَعُودُنِى مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ
بِى زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. . . . الحديث. قال الطبرى:
اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة: لا أحد من ينى
آدم إلا وهو يألم من الوجع ويشتكى المرض لأن نفوس بنى آدم
بنيت على الجزع من ذلك والألم، فغير قادر أحد على تغييرها
عما خلقها الله بارئها، ولا كلف أحد أن يكون بخلاف الجبلة
التى جبل عليها، وإنما كلف العبد فى حالة المصيبة أن يفعل
ماله إلى ترك فعله سبيل وذلك ترك البكاء على الرزية
والتأوه من المرض والبلية. فمن تأو من مرضه أو بكى من
مصيبة تحدث عليه أو فعل نظيرًا لذلك فقد خرج من معانى أهل
الصبر ودخل فى معانى أهل الجزع وممن روى ذلك عنه مجاهد
وطاوس، قال مجاهد: يكتب على المريض ماتكلم به حتى الأنين.
وقال ليث: قلت لطلحة بن مصرف: إن طاوسًا كره الأنين فى
المرض، فما سمع لطلحة أنين حتى مات. واعتلوا لقولهم بإجماع
على كراهة شكوى العبد ربه على ضر ينزل به أو أشتد تحدث به،
وشكواه ذلك إنما هو ذكره للناس ما امتحنه به ربه عز وجل
على وجه الضجر به، قالوا: فالمتوجع المتأوه فى معنى ذكراه
للناس متضجرًا به أو أكثر منه به.
(9/384)
وقال آخرون: ليس الذى قال هؤلاء بشىء
وقالوا: إنما الشاكى ربه تعالى من أخبر عما أصابه من الضر
والبلاء متسخطًا قضاء الله فيه، فأما من أخبر به إخوانه
ليدعو له بالشفاء والعافية وأن استراحة إلى الأنين والتأوه
فليس ذلك بشاك ربه، وقد شكا الألم والوجع المؤذى للنبى
عليه السلام وأصاحبه وأن جماعة من القدوة ممن ذكرهم
البخارى فى هذا الباب وغيرهم، روى عن الحسن البصرى أنه دخل
عليه أصحابه وهو يشتكى ضرسه فقال: رب مسنى الضر وأنت أرحم
الراحمين، وهذا القول أولى بالصواب لما يشهد له من فعل
النبى وأصحابه، وأيضًا فإن الأنين من الم العلة والتأوه قد
يغلبان الإنسان ولايطيق كفهما عنه، ولا يجوز إضافة موأخذة
العبد به إلى الله تعالي؛ لأنه قد أخبر أنه لا يكلف نفسًا
إلا وسعها، وليس فى وسع ابن آدم ترك الاستراحة إلى الأنين
عند الوجع يشتد به والألم ينزل به فيؤمر به أو ينهى عن
خلافه.
- باب: قول المريض قوموا عنى
/ 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا حُضِرَ النَّبِىّ عليه
السلام وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
(هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ)
، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِى عليه السلام قَدْ غَلَبَ
عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا
كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَلَمَّا
أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلافَ عِنْدَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قُومُوا. . . .) الحديث.
(9/385)
قال المؤلف: فيه من الفقه أن المريض إذا
اشتد به المرض أنه يجوز أن يقول لزوره قوموا عنى ويأمرهم
بالخروج لينفرد بألطافه ويمرضه من يخف عليه مباشرته له من
أهله وذوى رحمة، ولا يعد ذلك جفاء على الزائرين بل الجفاء
منهم طول الجلوس عند المريض إذا اشتد مرضه، والصواب لهم
تخفيف القعود عنده وترك إحراجه وأذاه، وقد تقدم فى كتاب
العلم فى باب كتابه العلم وسيأتى فى كتاب الاعتصام فى باب
النهى على التحريم إلا بما يعرف إباحتع إن شاء الله تعالى
- باب: من ذهب بالصبى المريض
ليدعى له
/ 29 - فيه: السَّائِبَ، ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى
وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ
مِنْ وَضُوئِهِ. . . . الحديث. لا بأس بالذهاب بالصبيان
إلى الصالحين وأهل الفضل رغبة فى بركة دعائم والانتفاع
بهم، ألا ترى أن هذا الصبى مسح النبى عليه السلام رأسه
ودعا له وسقاه من وضوئه فبرىء حتى قام خلف ظهره عليه
السلام ورأى بين كتفيه خاتم النبوة. وفيه أن شرب صاحب
الوجع من وضوء الرجل الفاضل مما يذهب وجعه.
- باب تمنى المريض الموت
/ 30 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) :
(لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُ الْمَوْتَ مِنْ
(9/386)
مرض أصابه، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا
فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ
خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ
خَيْرًا لِي) . / 31 - وفيه: قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ،
دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ - وَقَدِ اكْتَوَى
سَبْعَ كَيَّاتٍ - فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ
سَلَفُوا مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا،
وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلا
التُّرَابَ، وَلَوْلا أَنَّ النَّبِى عليه السلام نَهَانَا
أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ، ثُمَّ
أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ يَبْنِى حَائِطًا
لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِى كُلِّ
شَىْءٍ يُنْفِقُهُ إِلا فِى شَىْءٍ يَجْعَلُهُ فِى هَذَا
التُّرَابِ. / 32 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا
عَمَلُهُ الْجَنَّةَ) ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى
اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا،
وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا
مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا
مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) . / 33 - وفيه:
عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ
مُسْتَنِدٌ إِلَىَّ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى،
وَارْحَمْنِى، وَأَلْحِقْنِى بِالرَّفِيقِ) . قال المؤلف:
نهى النبى أمته عن تمنى الموت عند نزول البلاء بهم وأمرهم
أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرًا لهم فى حديث أبى
هريرة: (لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد
خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب) . قال الطبرى: فإن
قيل: هذا الحديث جاء بلفظ (لعلى) وهى موضوعة لغير التحقيق.
قيل: قد جاء هذا الحديث بلفظ (إن) التى هى موضوعة للتحقيق
من رواية معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة قال: قال
النبى: (لا يتمنى أحدكم الموت ولايدعو به قبل أن يأتيه،
(9/387)
فإنه إذا مات أحدكم انقطع أمله وعمله، وإنه
لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا) فإن قال قائل: إن قول
النبى عليه السلام عند موته: (اللهم ألحقنى بالرفيق) تمن
للموت، وذلك معارض للأحاديث المتقدمة وقد تمنى الموت عمر
بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب. فأما حديث عمر فرواه معمر عن
على بن زيد، عن الحسن، عن سعيد بن أبى العاص قال: (رصدت
عمر ليلة فخرج إلى البقيع وذلك فى السحر فاتبعته فصلى فرفع
يديه ثم قال: اللهم كبرت سنى وضعفت قوتى وخشيت الانتشار من
رعيتى فاقبضنى إليك غير عاجز ولا ملوم) قال الزهرى، عن ابن
المسيب: فما انسلخ الشهر حتى مات. وأما حديث على فرواه
معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سمعت عليًا
يخطب فقال: (اللهم إنى قد سئمتهم وسئمونى فارحمنى منهم
وارحمهم منى، مايمنع أشقاكم أن يخضبها بدم - وأشار إلى
لحيته) . قيل: لا تعارض بين شىء مما ذكرت ولكل خبر منها
وجه صحيح، فأما قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم
ألحقنى بالرفيق) فإنما قال ذلك بعد أن علم أنه ميت فى يومه
برؤية الملائكة المبشرة له عن ربه بالسرور الكامل الا
تسمعه يقول لابنته فاطمة حين ندبته: (لا كرب على أبيك بعد
اليوم) فكانت نفسه مفزعة فى اللحاق بكرامة الله تعالى
والمصير إلى ماوعده به من سعادة الأبد، وكذلك قالت عائشة:
سمعت النبى عليه السلام يقول: (لا يقبض نبى حتى يخير، فلما
سمعته يقول: الرفيق الأعلى علمت أنه ذاهب وأنه لا يختارها)
وهذا خير له من كونه فى الدنيا وبهذا أمر أمته فقال:
(9/388)
(كان لابد فاعلا فليقل اللهم توفنى ما كانت
الوفاة خيرًا لى) . وأما حديث عمر وعلى ففيها بيان معنى
نهيه عليه السلام عن تمنى الموت وأن المراد بذلك إذا نزل
بالمؤمن ضر أو ضيق فى دنياه فلا يتمنى الموت عند ذلك، فأما
إذا خشى أن يصاب فى دينه فمباح له أن يدعو بالموت قبل
مصابه بدينه، ويشهد لصحة هذا قوله عليه السلام: (وإذا أردت
بالناس قتنة، فأقبضنى إليك غير مفتون) فاستعمل عمر هذا
المعنى حين خشى عند كبر سنه وضعف قوته أن يعجز عن القيام
بما فرض الله عليه من أمر الأمة أو أن يفعل مايلام عليه فى
الدنيا والآخرة، فلذلك قال: فاقبضنى إليك غير عاجز
ولاملوم، فأجاب الله دعاءه وأماته قبل انسلاخ الشهر. وكذلك
خشى على بن أبى طالب من سآمته لرعيته وسآمتهم له أن يحملهم
ذلك على مايئول إلى سخط الله وإلى مالا يرقع فتقه، فكان
ذلك من قبلهم فقتلوه وتقلدوا دمه وباءه وبإثمه وهو إمام
عدل بر تقى لم يأت مايستحق عليه التأنيب فضلا عن غيره؛
فلذلك سأل الله أن يريحه منهم فليس فى شىء من ذلك تعارض
ولا اختلاف، بل كل ذلك يفسر بعضه بعضًا. وقول خباب: (إن
المسلم ليؤجر فى كل شىء ينفقه إلا فى شىء يجعله فى هذا
التراب) يعنى البنيان، ومعنى الحديث أن من بنى مايكنه ولا
غنى به عنه فلا يدخل فى معنى الحديث بل هو مما يؤجر فيه،
وإنما أراد خباب من بنى مايفضل عنه ولا يضطر إليه فذلك
الذى لا يؤجر عليه لأنه من التكاثر الملهى لأهله.
(9/389)
وقد تقدم فى باب البناء فى آخر الاستئذان
وسيأتى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدخل أحدًا
عمله الجنة) وتأويل قوله تعالى: (وتلك الجنة التى
أورثتموها بما كنتم تعملون (فى باب القصد والداومة على
العمل فى كتاب الرقاق، إن شاء الله تعالى.
- باب: دعاء العائد للمريض
وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا: قَالَ
النَّبِى عليه السَّلام: (اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا) . /
34 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ
إِذَا أَتَى مَرِيضًا، أَوْ أُتِىَ بِهِ، قَالَ: (أَذْهِبِ
الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِى، لا
شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادرُ سقمًا) .
قال الطبرى: فى هذه الآثار من الفقه أن الرغبة إلى الله فى
عافية فى الجسم أفضل للعبد وأصلح له من الرغبة اليه فى
البلاء، وذلك أنه عليه السلام كان يدعو للمرضى بالشفاء من
عللهم. فإن قال قائل: ماوجه دعائه عليه السلام لسعد
بالشفاء، وقد تظاهرت الأخبار عنه عليه السلام أنه قال
يومًا لأصحابه: من أحب أن يصح ولايسقم؟ فقالوا: نحن يارسول
الله. فقال: أتحبون أن تكونوا مثل الحمر الصيالة؟ وتغير
وجه النبى عليه السلام ثم قال: ألا تحبون أن تكونوا أصحاب
بلاء وأصحاب كفارات؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: فوالذى
نفس أبى القاسم بيده إن الله تعالى ليبتلى المؤمن، وما
يبتليه إلا لكرامته عليه، وإلا أن له عنده
(9/390)
منزلة لا يبلغها شيء من عمله دون أن يبلغ
من البلاء ما يبلغه تلك المنزلة. من حديث أبى عقيل مسلم بن
عقيل، عن عبد الله بن إياس بن أبى فاطمة، عن أبيه، عن جده،
عن النبي (صلى الله عليه وسلم) . وروى زيد بن أبى أنيسة،
عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال:
(جاء رجل مصح إلى النبى عليه السلام فقال له رسول الله:
أصابتك أم ملدم قط؟ قال له: لا يارسول الله. فلما ولى
الرجل قال لهم رسول الله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل
النار فلينظر إلى هذا) . وروى الليث عن يزيد أبى حبيب، عن
سعد بن يسار عن أنس بن مالك، عن النبى عليه السلام أنه
قال: (إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب
قومًا ابتلاهم، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط) مع
كثرة من كان يؤثر العلل والأسقام من السلف. قيل: ليس شىء
من هذه الآثار يعارض أحاديث هذا الباب ولكل حديث منها وجه
مفهوم وذلك أن العلل والأمراض كفارات لأهل الإيمان وعقويات
يمحص الله بها عمن شاء منهم فى الدنيا ليلقوه مطهرين من
دنس الذنوب، كما روى أيوب، عن أبى قلابة، عن أنس قال: (كان
أبو بكر الصديق يأكل مع النبى فنزلت هذه الآية: (فمن يعمل
مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال
(9/391)
ذرة شرًا يره) فرفع أبو بكر يده فقال:
يارسول الله، إنى أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال:
ياأبا بكر، مارأيت فى الدنيا مما تكره فبمثقال ذر الشر
ويدخر لك مثاقيل الخير حتى توفاه يومه القيامة) . فإذا
كانت العلل والأوجاع إنما هى عقوبات على التبعات ثبت أنه
النبى عليه السلام إنما دعا بالشفاء من الأمراض لمن لا
كبائر له، ومن سلم من الذنوب الموجبة للعقوبات وبرىء من
مظالم العباد وكره اختيار الصحة على البلاء فى هذه
الأحاديث الأخر لأهل الإجرام ولمن اقترف على نفسه الآثام،
فكره له أن يختار لنفسه لقاء ربه بآثمه وموافاته بإجرامه
غير متحمص ولا متطهر من الأدناس، فليس شىء من الاخبار خلاف
لصاحبه، والله الموفق.
- باب: وضوء العائد المريض
/ 35 - فيه: جَابِر، دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِى عليه السلام
وَأَنَا مَرِيضٌ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَىَّ فَعَقَلْتُ،
فَقُلْتُ: لا يَرِثُنِى إِلا كَلالَةٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ
الْفَرَائِضِ. وضوء العائد للمريض إذا كان إماما فى الخير
ورئيسًا فى الفضل يتبرك به وصبه عليه مما يرجى نفعه، وقد
يمكن أن يكون مرض جابر الذى صب عليه النبى (ص) الماء من
الحمى الذى أمر النبى بإبرادها بالماء لأنها من فيح جهنم،
فتكون صفه من الإبراد هكذا أن يتوضأ الرجل الفاضل ويصب ذلك
الماء طار من وضوئه على المريض.
(9/392)
- باب: من دعا برفع
الوباء والحمى
/ 36 - فيه: وذكر حديث عَائِشةَ حين وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ
وَبِلالٌ بتمامه إلى قوله: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا
الْمَدِينَةَ وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا
بِالْجُحْفَةِ) . وقد تقدم فى باب عيادة الرجال النساء.
قال المؤلف: فيه من الفقه جواز الدعاء إلى الله تعالى فى
رفع الوباء والحمى والرغبة إليه فى الصحة والعافية، وهذا
رد على الصوفية فى قولهم: إن الولى لا تتم له بالولاية إلا
إذا رضى بجميع مانزل به من البلاء ولا يدع الله فى كشفه،
وقد تقدم فى آخر كتاب الحج فى أبواب فضائل المدينة.
(9/393)
|