شرح صحيح
البخارى لابن بطال 67 - كتاب الأدب
1 - وقول الله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا (
/ 1 - فيه: عَبْدِاللَّه، سَأَلْتُ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) أَى الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:
(الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا) ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:
(بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:
(الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، قَالَ: حَدَّثَنِى
بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى. قال المؤلف:
ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التى فى سورة لقمان نزلت فى
سعد بن أبى وقاص، قالت أمه حين هاجر: لا يظلنى بين حتى
ترجع فنزلت: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك
لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما (فأمره تعالى أن
يحسن إليهما ولا يطعهما فى الشرك. وقيل: نزلت فى عياش بن
أبى ربيعة. فأخبر النبى عليه السلام أن بر الوالدين افضل
الأعمال بعد الصلاة التى هى أعظم دعائم الإسلام، ورتب ذلك
بثم التى تقتضى الترتيب، وتدل على أن الثانى بعد الأول
وبينهما مهله، وقد دل التنزيل على ذلك قال تعالى: (وقضى
ربك إلا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن
عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) يعنى مايبولان ويحدثان) فلا
تقل لهما اف (قال مجاهد: والمعنى لاتستقذرهما
(9/188)
كما لم يكونا يستقذرانك. وقال عطاء: لاتنغض
يديك عليهما ولا تنهرهما أى لاتغلظ لهما) وقل لهما قولا
كريمًا (أى سهلا لينا عن قتادة وغيره. وقال ابن السيب: قول
العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ) واخفض لهما جناح الذل من
الرحمة (أى كن بمنزله الذليل المقهور إكراما لهما، وجعل
تعالى شكر الأبوين بعد شكره فقال: (أن أشكر لى ولوالديك
(وقال أبو هريرة: لا تمش أمام أبيك، ولا تقعد قبله، ولا
تدعه باسمه. وقيل: تمشى فى الظلمة بين يديه: من لم يدرك
أبويه أو أحدهما، فلا باس أن يقول: رب أرحمهما كما ربيانى
صغيرًا.
- باب: من أحق الناس بحسن
الصحبة
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟
قَالَ: (أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ
أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) ،
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) . قال المؤلف:
فى هذا الحديث دليل ان محبة الأم والشفقة عليها ينبغى أن
تكون ثلاث اميال محبة الب، لأن عليه السلام كرر الأم ثلاث
مرات، وذكر الأب فى المرة الرابعة فقط، وإذا تؤمل هذا
المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعهوبة الحمل وصعوبة الوضع
وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم، وتشقى بها دون الب
فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.
(9/189)
وقد جرى لبى السود الدؤلى مع زوجته قصة
أثار فيها هذا المعنى، ذكر أبو حاتم عن أبى عبيدة أن أبا
الأسود جرى بينه وبين امرأته كلام فأراد أخذ ولده منها،
فسار إلى زياد وهو وإلى البصيرة، فقالت المرأة: اصلح الله
الأمير، هذا بطنى وعاؤه وحجرى فناؤه وثدى سقاؤه، أكلؤه إذا
نام، وأحفظه أذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام حتى استوفى
فصاله وكملت خصالة وأملت نفعه وروجوت رفعه أراد أن يأخذه
منى كرهًا. فقال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابنى حملته
قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه. . وأنا أقوم عليه فى
أدبه، وحملته ثقلا، ووضعه شهوة، ووضعته كرهًا. فقال له
زياد: اردد على المرأة ولدها فهى أحق به منك، ودعنى من
سجعك. وروى عن مالك أن رجلا قال له: إن أبى فى بلد
السودان، وقد كتب إلى أن اقدم إليه، وأمى تمنعنى من ذلك،
فقال له: أطع أباك ولاتعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما
عنده متساوًا لا فضل لواحد منهما فيه على صاحبه، لأنه قد
قدر أمره بالتخلص منهما جميعًا، وإن كان لاسبيل إلى ذلك فى
المسالة، ولو كان لأحدهما عنده فضل فى البر على صاحبه
لأمره بالمصير إلى أمره. وقد سئل الليث عن هذه المسالة
فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها
(9/190)
ثلثي البر، وحديث أبى هريرة يدل على ان لها
ثلاثة ارباع البر، وهو الحجة على من خالفه، وزعم المحاسبى
أن تفضيل الأم على الأب فى البر والطاعة هو إجماع العلماء.
3 - باب: لا يجاهد إلا بإذن
الأبوين
/ 3 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: قال رَجُلٌ
لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أُجَاهِدُ، قَالَ: (لَكَ
أَبَوَانِ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا
فَجَاهِدْ) . قال المؤلف: هذا موافق لحديث ابن مسعود أن بر
الأبوين أفضل من الجهاد، لأنه ذلك عليه السلام بثم التى
تدل على الرتبة، وهذا إنما يكون فى وقت قوة الإسلام وغلبه
أهله للعدو، وإذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فأما إذا
قوى أهل الشرك وضعف المسلمون، فالجهاد متعين على كل نفس،
ولايجوز التخلف عنه وإن منع منه الأبوان. وقال ابن المنذر:
فى هذا الحديث أن النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين مالم
يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع، وذلك بين فى
حديث أبى قتادة: (أن رسول الله بعث جيش الأمراء، فذكر وصية
زيد بن حارثه، وجعفر بن أبى طالب، وابن رواحة أن منادى
رسول الله نادى بعد ذلك إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اخرجوا فأمدوا
إخوانكم ولا يتخلفن أحد. فخرج الناس مشاة وركابًا فى حر
شديد) فدل قوله: (أخرجوا فأمدوا إخوانكم) أن العذر فى
التخلف
(9/191)
عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفر مع
قوله: (وإذا استنفرتم فانفروا) . واختلفوا فى الوالدين
المشركين، هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض
الكفاية؟ وكان الثورى يقول: لا يغزوا إلا بإذنهما قال
الشافعى: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن المنذر:
والأجداد آباء، والجدات أمهات، فلا يغزو المرء إلا يإذنهم،
ولا أعلم دلاله توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات،
وكان طاوس يرى السعى على الأخوات افضل من الجهاد فى سبيل
الله.
4 - باب: لا يسب الرجل والده
(1) / 4 - فيه: عبد الله بن عمر: قال: قال النبي - عليه
السلام -: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل:
يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا
الرجل، فيسب أباه (ويسب أمه) . قال المؤلف: هذا الحديث أصل
في قطع الذرائع، وأن من آل فعله إلى محرم وإن لم يقصده فهو
كمن قصده وتعمده في الإثم، ألا ترى أنه عليه السلام نهى أن
يلعن الرجل والديه؟ فكان ظاهر هذا أن يتولى الابن لعنهما
بنفسه، فلما أخبر النبي - عليه السلام - أنه إذا
(9/192)
سب أبا الرجل وسب الرجل أباه وأمه، كان كمن
تولى ذلك بنفسه، وكان [ما آل إليه فعل ابنه] كلعنه في
المعنى؛ لأنه كان سببه، ومثله قوله تعالى: (ولا تسبوا
الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم (وهذه
من إحدى آيات قطع الذرائع في كتاب الله - تعالى. والثانية:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا (، والثالثة: (ولا
يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن (.
باب: إجابة دعاء من بر والديه
/ 5 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه
وسلم) : (بَيْنَمَا ثَلاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ
فأَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِى
الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ
مِنَ الْجَبَلِ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالا عَمِلْتُمُوهَا
لِلَّهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا، لَعَلَّهُ
يَفْرُجُهَا، فَقَالَ بعضهم: صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى
عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ، فَحَلَبْتُ،
بَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ. . . .) وذكر الحديث (. . . .
فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . قال المؤلف: كل من دعا إلى
الله تعالى بنيه صادقة وتوسل إليه بما صنعه لوجهه خاصا
ترجى له الإججابة، الا ترى أن اصحاب الغار توسلوا إلى الله
تعالى بأعمال عملوها خالصة
(9/193)
(لوجهه، ورجوا الفرج بها، فذكر أحدهم بر
أبويه، وذكر الثانى أنه قعد من المرأة التى كان يحبها مقعد
الرجل من المرأة، وانه ترك الزنا بها لوجه الله، وذكر
الثالث أنه تجر فى أجرة الأجير حتى صار منها غنم وراعها،
وأنه دفعه إليه حين طلب منه أجره، فتفضل الله عليهم بإجابة
دعائهم ونجاهم من الغار، فكما أجيب دعوة هؤلاء النفر،
فكذلك ترجى إجابة دعاء كل من أخلص فعله لله وأراد به وجهه)
.
5 - باب: عقوق الوالدين من
الكبائر
/ 6 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: (الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)
- وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ: (أَلا وَقَوْلُ
الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ
وَشَهَادَةُ الزُّورِ) ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى
قُلْتُ: لا يَسْكُتُ. / 7 - وفيه: أَنَس، قَالَ: ذَكَرَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْكَبَائِرَ - أَوْ
سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ - فَقَالَ: (الشِّرْكُ
بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)
، فَقَالَ: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟
قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ - أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ
-) . قال المؤلف: ذكر البخارى فى كتاب اليمان والنذور حديث
عبد الله بن عمر وفيه زيادة اليمين الغموس، وفى كتاب
الديات والاعتصام حديث ابن مسعود (أن تقتل ولدك خشية ان
يأكل معك) وفيه الزنا بحليلة الجار من الكبائر. وروى الزنا
من الكبائر عن النبى عليه السلام عمران بن
(9/194)
حصين، وعبد الله بن انيس، وأبو هريرة، وفى
حديث أبى هريرة: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) وفى كتاب
الحدود، وفى حديث أبى هريرة قال النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (اجتنبوا السبع الموبقات) وفيه: (السحر، وأكل
الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات
الغافلات والمؤمنات) . وفى باب عقوق الوالدين من الكبائر
حديث المغيرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله
حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات ووأد البنات. . .)
الحديث، وفى حديث ابن عباس أن النميمة وترك التحرز من
البول من الكبائر. وروى السرقة من الكبائر وشرب الخمر من
الكبائر عمران بن حصين فى غير كتاب البخارى، وفى كتاب
البخارى: (لايسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولايشرب الخمر حين
يشربها وهو مؤمن، ولاينتهب نهبه وهو مؤمن) وفى غير البخارى
من حديث ابن عباس: (الإضرار فى الوصية من الكبائر، والقنوط
من رحمة الله من الكبائر) . وفى حديث أبى أيوب الأنصارى عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) : (منع ابن السبيل من الكبائر)
. وروى بريدة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (منع ابن
السبيل الماء من الكبائر) وفى حديث ابن عمر: (والإلحاد فى
البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا من الكبائر) وفى حديث
عبد الله بن عمر: (وأكبر الكبائر أن يشتم الرجل والديه،
قالوا: وكيف؟ قال: يساب الرجل فيسب أباه) . فهذه آثار رويت
عن النبى عليه السلام - بذكر الكبائر، فجميع الكبائر فى
هذه الاثار ست وعشرون كبيرة وهى: الشرك، وقتل
(9/195)
النفس، وعول الوالدين، وشهادة الزور،
واليمين الغموس، وأن تقتل ولدك خشية ان يأكل معك، والزنا،
والسحر، واكل الربا وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف،
وقذف المحصنات، والسرقة، وشرب الخمر، والإضرار فى الوصية،
والقنوط من رحمة الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد فى
البيت الحرام، والذى يستسب لوالديه، وفى حديث المغيرة:
(حرم عليكم منعًا وهات ووأد البنات) والنميمة، وترك التحرز
من البول، والغلول. فهذه ست وعشرون كبيرة وتستنبط كبائر
أخر من الأحاديث منها: حديث ابن المسيب عن النبى عليه
السلام أنه قال: (إن من أربى من الكبائر) ، ومنها حديث أبى
سعيد وأبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (أسوء السرقة
الذى يسرق صلاته) . وقد ثبت أن السرقة من الكبائر، وفى
التنزيل الجور فى الحكم قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون) و) الظالمون (و) الفاسقون (وقال
تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (فهذه تسع وعشرون
كبيرة. قال الطبرى: واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى
وعد الله عباده بالنهى عنها من أول سورة النساء إلى رأس
الثلاثين آيه منها هذا قول ابن مسعود والنخعي.
(9/196)
وقال آخرون: الكبائر سبع روى هذا عن على بن
أبى طالب، وهو قول عبيد بن عمير وعبيدة وعطاء، قال عبيد:
ليس من هذه كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله تعالى قال
تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء (وقال: (الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلمًا (الآية، وقال تعالى: (الذين
يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان
من المس (و) الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات
(الآية، والفرار من الزحف، وقال تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار
(والسابعة: التعرب بعد الهجرة) إن الذين ارتدوا على
أدبارهم من بعد ماتبين لهم الهدى (وقتل النفس. وقال آخرون:
هى تسع. روى هذا عن عبد الله بن عمر، وزاد فيه السحر
والإلحاد فى المسجد الحرام. وقال آخرون: هى اربع، رواه
الأعمش عن وبرة بن عبد الرحمن، عن أبى الطفيل، عن ابن
مسعود قال: الكبائر اربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة،
والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله. ففى حديث أبى
الطفيل مما لم يمض فى الآثار: الأمن من مكر الله، وفى حديث
عبيد بن عمير: التعرب بعد الهجرة، فتمت إحدى وثلاثين
كبيرة. وقال آخرون: كل مانهى الله عنه فهو كبيرة، روي ذلك
(9/197)
عن ابن عباس قال: وقد ذكرت الطرفة وهى
النظرة، قال ابن الحداد: وهذا قول الخوارج: قالوا: كل
ماعصى الله فهو كبيرة يخلد صاحبه فى النار، واحتجوا بقوله:
ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم قالوا: فالكلام على
العموم فى جميع المعاصى. قال الطبرى: وعن ابن عباس قول
آخر، قال: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنه أو غضب فهو
كبيرة، وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى
إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس:
الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع:
غير أنه لاكبيرة مع استغفار، ولاصغيرة مع إصرار. وذهب
جماعة أهل التأويل إلى أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر،
وهو قول عامة الفقهاء، وخالفهم فى ذلك الشعرية أبو بكر بن
الطيب وأصحابه، فقالوا: معاصى الله كلها عندنا كبائر،
وإنما يقال لبعضها صغيرة بافضافة _ إلى ماهو أكبر منها،
كما يقال: الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة
صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر، ولا ذنب عندنا
يغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبة فى
المشيئة غير الكفر لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (. واحتجوا بقراءة من قرأ
(إن تجنبوا كبيرة ما تنهون عنه) على التوحيد يعنون الشرك،
وقال الفراء: من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير، وكبير
الإثم الشرك، وقد يأتى لفظ الجمع يراد به الواحد قال
تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين (ولم يأتيهم إلا نوح وحده،
(9/198)
ولا أرسل إليهم روى قبله فى حديث الشفاعة:
(ولكن أئتوا نوحًا) فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل
الأرض. قالوا: فجواز العقاب عندنا على الصغيرة كجواز على
الكبيرة وقوله عليه السلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من
سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث بلغت يكتب الله له بها سخطه
إلى يوم القيامة) . وحجة أهل التأويل والفقهاء ظاهر قوله
تعالى: (إن تجنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (.
قال الطبرى: يعنى نكفر عنكم أيها المؤمنون ياجتناب الكبائر
صغائر سيئاتكم، لأن الله تعالى قد وعد مجتنبها تكفير
ماعداها من سيئاته ولا يخلف الميعاد. واحتجوا رواه موسى بن
عقبة، عن عبيد الله بن سليمان الأغر، عن أبيه، عن أبى أيوب
الأنصارى قال: قال رسول الله (ما من عبد يعبد الله لايشرط
به شيئًا، ويقيم الصلاة، ويوتى الزكاة، ويصوم رمضان،
ويجتنب الكبائر إلا دخل الجنة) وقال أنس: إن الله تجوز عما
دون الكبائر فما لنا ولها وتلا الآتية. وأما قول الفراء من
قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير الإثم وهو الشرك، فهذا خلاف
ما ثبت فى الآثار، وذلك أن فى حديث أبى بكرة أن النبى -
عليه اسلام - قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. فذكر الشرك،
وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور،
فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت) وفى حديث ابن مسعود
(قلت:
(9/199)
يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل
لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، وأن
تزانى بحليلة جارك) فجعل عليه السلام فى حديث أبى بكرة قول
الزور وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وجعل فى حديث ابن
مسعود أن يقتل ولده خشية أن يأكل معه، والزنا بحليلة جاره
من أعظم الذنوب، فهذا يرد تأويل الفراء أن كبائر يراد بها
كبير وهو الشرك خاصة، ولوعكس قول الفراء فقيل له من قرأ
(كبير الإثم) فالمراد به كبائر كان أولى فى التأويل بدليل
هذه الاثار الصحاح، وبالمتعارف المشهور فى كلام العرب،
وذلك أن يأتى لفظ الواحد يراد به الجمع كقوله تعالى:
(يخرجكم طفلاً (وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله (والتفريق
لايكون إلا بين اثنين فصاعدا والعرب تقول: فلان كثير
الدينار والدرهم، يريدون الدنانير والدراهم. وقولهم: إن
الصغائر كلها كبائر فهذه دعوى وقد ميز الله بين الكبائر
وبين ماسماه سيئه من غيرها بقوله تعالى: (إن تجنبوا كبائر
ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (وأخبر أن الكبائر إذا
جونبت كفر ماسواها، وماسوى الشىء هو غيره ولايكون هو، ولا
ضد للطبائر إلا الصغائر، والصغائر معلومه عند الأمة، وهى
ما أجمع المسلمون على رفع التحريج فى شهادة من أتاها، ولا
يخفى هذا على ذى لب. وأما احتجاجهم بقوله عليه السلام: (إن
الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث
بلغت) فليس فيه دليل أن تلك الكلمة ليست من الكبائر، ومعنى
الحديث: إن الرجل ليتكلم بالكلمة
(9/200)
عند السلطان يغريه بعدو له ويطلب أذاه،
فربما قتله السلطان أو أخذ ماله أو عاقبه اشد العقوبة،
والمتكلم بها لايعتقد أن السلطان يبلغ به كل ذلك فيسخط
الله عليه إلى يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: (وتحسبونه
هينا وهو عند الله عظيم (.
6 - باب: صلة الوالد المشرك
/ 8 - فيه: أَسْمَاء، أَتَتْنِى أُمِّى رَاغِبَةً فِى
عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَسَأَلْتُ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) آصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) الحديث.
قال المؤلف: صلة الوالدين المشركين واجبة بكتاب الله
تصديقًا لحديث أسماء وذلك قوله: (ووصينا الإنسان بوالديه
حسنا () وإن جاهدداك على أن تشرك بى ماليس لك به علم فلا
تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا (فأمر ببرهما ومصاحبتهما
بالمعروف وإن كان مشركين، وقد تقدم هذا فى كتاب الهبة
واسماء هذه بنت أبى بكر الصديق زوج الزوبير بن العوام
وأمها قتيلة. وترجم لحديث اسماء: باب المرأة أمها ولها زوج
وفقه هذه الترجمة أن النبى عليه السلام أباح لأسماء أن تصل
أمها ولم يشترط لها فى ذلك مشاورة زوجها، ففيه حجة لمن
أجاز من الفقهاء أن تتصرف المرأة فى مالها وتتصدق بغير إذن
زوجها، وقد تقدم فى الهبة.
(9/201)
7 - باب: صلة الأخ
المشرك
/ 9 - فيه: عُمَر بْن الْخطاب أَنّ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، أهدى له حُلَّةَ سِيَرَاءَ وقَالَ: (إِنِّى لَمْ
أُعْطِكَهَا، لِتَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ
تَكْسُوهَا) ، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.
8 - باب: فضل صلة الرحم
/ 10 - فيه: أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى
الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ عليه السَّلام: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا
تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِى
الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ. . .) الحديث. وقد تقدم
هذا الحديث فى أو كتاب الزكاة، والآثار كثيرة فى فضل صلة
الرحم. منها ما ذكر بإسناده عن النبى عليه السلام قال: (إن
الله ليعمر بالقوم الديار ويكثر لهم فى الأموال، وما نظر
إليهم مذ خلقهم بغضًا لهم. قيل: وكيف ذلك يارسول الله؟
قال: بصلتهم أرحامهم) . وقال عليه السلام: (إن أعجل الطاعة
ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت يكونون فجارًا تنمى
أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم) .
(9/202)
9 - باب: إثم القاطع
/ 11 - فيه: جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، قَالَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ) . روى
هذا الحديث سعيد عبد الرحمن، عن سفيان، عن الزهرى وقال
فيه: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) . ومعناه عند أهل السنة:
لايدخل الجنة إن أنفذ الله عليه الوعيد، لإجماعهم أن الله
تعالى فى وعيده لعصاة المسلمين بالخيار إن شاء عذبهم وإن
شاء عفا عنهم. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد تقدم من قولك
أن المتعاهد رحمة بأدنى البر كالسلام ونحوه غير مستحق اسم
قاطع، فمن القاطع الذى جاء فيه الوعيد فى هذا الحديث؟ قال:
هو الذى يقطعهم بالهجرة لهم والمعاداة، مع منعه إياهم
معروفه ومعونته. وروى ابن وهب، عن سعيد بن أبى أيوب، عن
عبد الله بن الوليد، عن أبى حجيرة الأكبر أن رجلا أتاه،
فقال: انى نذرت ألا أكلم أخى. قال: إن الشيطان ولد له ولد
فسماه نذرًا، وإنه من قطع ماأمر الله به أن يوصل حلت عليه
اللعنة، وهذا فى كتاب الله فى قوله: (ويقطعون ما أمر الله
به أن يوصل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) .
(9/203)
- باب: من بسط له فى
الرزق لصلة الرحم
/ 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى
رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ
رَحِمَهُ) . / 13 - وفيه: أَنس، عَن النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) مثله. قال الطبرى: فإن قيل كيف ينسأ له فى
أجله، وقد قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة
ولايستقدمون (وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابن
آدم يكتب فى بطن أمه أثره وأجله ورزقه) ؟ . فالجواب: أنه
إن فعل ذلك به جزاء له على ما كان له من العمل الذى يرضاه،
فإنه غير زائد فى علم الله تعالى شيئًا لم يكن له عالما
قبل تكوينه، ولا ناقص منه شيئًا، بل لم يزل عالمًا بما
العبد فاعل وبالزيادة التى هو زائد فى عمره بصلة رحمه،
والنقص الذى هو بقطعه رحمة من عمره ناقص قبل خلقه لايعزب
عنه شىء من ذلك. وقد تقدم الزيادة فى بيان هذا المعنى فى
كتاب البيوع فى باب: من أحب البسط فى الرزق. وقال الخطابى:
قوله: (ينسأ له فى أثره) معناه يؤخر فى أجله ويسمى الأجل
أثرًا لأنه تابع للحياة وسابقها، قال كعب بن زهير: والمرء
ما عاش ممدود له أمل لا ينتهى العين حتى ينتهى الأثر
(9/204)
- باب: من وصلها
وصله الله
/ 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى
إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ: الرَّحِمُ هَذَا
مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ؟ قَالَ:
نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ،
وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، يَا رَبِّ،
قَالَ: فَهُوَ لَكِ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام
فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ () [محمد: 22] . / 15 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ
الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ
قَطَعْتُهُ) . / 16 - وفيه: عَائِشَةَ عَن النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) مثله. قال الطبرى: معنى وصل الله تعالى
عبده إذا وصل رحمه، فهو تعطفه عليه بفضله، إما فى عاجل
دنياه أو آجل آخرته، والعرب تقول إذا تفضل رجل على آخر
بمال أو هبة هبة: (وصل فلان فلانًا بكذا وتسمى العطية صلة
فتقول: وصلت إلى فلان صلة فلان) ، وكذلك قوله تعالى فى
الرحم: (من وصلها. . . .) يعنى وصلته بفضلى ونعمى، وصلة
العبد ربه فتعطفه على ذوى أرحامه من قبل أبيه وأمه بنوافل
فضله. فإن قال: أفما يكون المرء واصلا رحمه إلا بتعطفه
عليهم بفضل ماله؟ . قيل: للبر بالأرحام مراتب ومنازل، وليس
من لم يبلغ أعلى تلك المراتب يستحق اسم قاطع، كما من لم
يبلغ أعلى منازل
(9/205)
الفضل يستحق اسم الذم، فواصل رحمة بماله
مستحق اسم واصل، وواصلها بمعونته ونصرته مستحق اسم واصل،
وقد بين ذلك قوله عليه السلام فى حديث أنس: (صلوا أرحامكم
ولو بالسلام) فأعلم عليه السلام أمته أن المتعاهد لرحمة
بالسلام خارج عن معنى القاطع وداخل فى معنى الواصل،
فواصلها بما هو أعلى وأكثر أحق أن يكون خارجا من معنى
القاطع. وقول غيره: يقال: هذا شجر متشجن إذا التف بعضه
ببعض. قال أبو عبيد: وفيه لغتان: شجنة وشجنة بكسر الشين
وضمها. قال الطبرى: الشجنة الفعلة من قولهم شجن فلان على
فلان إذا حزن عليه فشجن عليه شجنًا، والمعنى أن الرحم
حزينة مستعيذة بالله من القطيعة.
- باب: تبل الرحمن ببلالها
/ 17 - فيه: عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، سَمِعْتُ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ، يَقُولُ:
(إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِى، إِنَّمَا
وَلِيِّىَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ
لَهُمْ رَحِمٌ، أَبُلُّهَا بِبَلاهَا) . قال المهلب: إن آل
أبى ليسوا بأوليائى، إنما وليى الله وصالح المؤمنين، فأوجب
عليه السلام الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه، إذ يكونوا
من أهل دينه، فدل ذلك أن النسب محتاج إلى
(9/206)
الولاية التى بها تقع الوراثة بين
المتناسبين والقارب، فإن لم يكن لهم دين يجمعهم لم تكن
ولاية ولا موارثة، ودل عذا أن الرحمن التى تضمن الله أن
يصل من وصلها ويقطع من قعها، إنما ذلك كان فى الله وفيهما
شرع، وأما من قطعها فى الله وفيما شرع فقد وصل الله
والشريعة واستحق صلة الله بقطعه من قطع الله. قال الله
تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوى وعدوكم (وقوله
تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم
أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان (وقال: (والذين آمنوا
ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا (فكيف
بمن لم يؤمن؟ . وقوله: (ولكن لهم رحم إبلها ببلالها) يعنى:
أصلها بمعروفها والبل هو الترطيب والتنديه بالمعروف، وشبه
عليه السلام صلة الرحم بالمعروف بالشىء اليابس يندى فيرطب،
وذلك أن العرب تصف الرجل إذا وصفته باللؤم بجمود الكف
فتقول: ماتندى كفه بخير وأنه لحجر صلد، يعنى لا يرجى
نائله، ولايطمع فى معروفه، كما لايرجى من الحجر الصلد
مايشرب، فإذا وصل الرجل رحمه بمعروفه قالوا: بل رحمه بلا
وبلالا قال الأعشى: ووصال رحم قد نضحت باللها وإنما ذلك
تشبيه من النبى عليه السلام صلة الرجل رحمه بالنار يصب
عليها بالماء فتطفأ.
(9/207)
قال المهلب: فقوله عليه السلام: (ولكن لهم
رحم ابلها ببلالها) هو الذى أمره الله تعالى به فى كتابه
فقال: (وصاحبهما فى الدنيا معروفا (فلما عصوه وعاندوه دعا
عليهم فقلا: (اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف) فلما مسهم
الجوع أرسلوا اليه قالوا: يامحمد، إنك بعثت بصلة الرحم،
وإن أهلك قد جاعوا فادع الله لهم، وذلك مما لايقدح فى دين
الله، ألا ترى صنعه عليه السلام فيهم إذ غلب عليهم يوم
الفتح من الرق الذى كان توجه إليهم فسموا بذلك الطلقاء،
ولم ينتهك حريمهم، ولا استباح أموالهم ومن عليهم، وهذا كله
من البلال.
- باب: ليس الواصل بالمكافىء
/ 18 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ،
وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِى إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ
وَصَلَهَا) . قال المؤلف: قوله عليه السلام: (ليس الواصل
بالمكافىء) يعنى: ليس الواصل رحمه من وصلهم مكافأة لهم على
صلة تقدمت منهم إليه فكافأهم عليها بصلة مثلها. وقد روى
هذا المعنى عن عمر بن الخطاب، روى عبد الرزاق، عن معمر،
عمن سمع عكرمة يحدث عن ابن عباس قال: قال عمر ابن الخطاب:
(ليس الواصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الواصل أن
تصل من قطعك) .
(9/208)
قال المؤلف: هذا حقيقة الواصل الذى وعد
الله عباده عليه جزيل الأجر، قال تعالى: (والذين يصلون ما
أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم. .) الآيات.
- باب من وصل رحمه فى الشرك ثم
اسلم
/ 19 - فيه: حَكِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى
الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ،
هَلْ لِى فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ عليه السَّلام:
(أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ) . فى هذا
الحديث تفضل الله على من أسلم من أهل الكتاب وأنه بعطى
ثواب ماعمله فى الجاهلية من أعمال البر، وهو مثل قوله عليه
السلام: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله كل حسنة
كان زلفها) فهذا - والله أعلم - بركة الإسلام وفضله. وقد
تقدم هذا فى كتاب الزكاة فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم.
- باب: من ترك صبية غيره حتى
تلعب به أو قبلها أو مازحها
/ 20 - فيه: أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ، قَالَتْ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ
أَبِى، وَعَلَى قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (سَنَهْ، سَنَهْ) - قَالَ
عَبْدُاللَّهِ وَهِى بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ -
قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ،
فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : (دَعْهَا) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (أَبْلِى وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى
وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِى) ، ثلاث مرات،
قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ.
(9/209)
قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه
يجوز مباشرة الرجل الصبية الصغيرة التى لايشتهى مثلها
وممازحتها وإن لم تكن منه بذات محرم؛ لأن لعب أم خالد وهى
صبية بمكان خاتم النبوة من جسد النبى عليه السلام ماشرة
منها لرسول الله، ومباشرتها له كمباشرته لها وتقبيله
إياها، ولو كان ذلك حرامًا لنهاها كما نهى الحسن بن على
وهو صغير عن اكل التمرة الساقة التى خشى أن تكون من الصدقة
المحرمة على النبى عليه السلام وعلى آله. وقد اختلف أصحاب
مالك من هذا الصل فى الصبية الصغيرة تموت هل يغسلها الرجل
غير ذى الرحم منها؟ فقال اشهب: لاباس أن يغسلها إذا لم تكن
ممن تشتهى لصغرها، وهو قول عيسى بن دينار، وقال ابن
القاسم: لايغسلها لحال. وقول عيسى واشهب له هذا الحديث،
وذكر ابن مزين قول ابن القاسم وعيسى وذكر ابن حارث قول
اشهب.
- باب: رحمة الولد وتقبيله
ومعانقته
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَخَذَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ. / 21 -
فيه: ابْن عُمَر، أن رجلاً سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ؟
فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِى
عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) ، وَسَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) يَقُولُ: (هُمَا رَيْحَانَتَاىَ مِنَ
الدُّنْيَا) . / 22 - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْنِى
امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ، تَسْأَلُنِى فَلَمْ
تَجِدْ عِنْدِى غَيْرَ
(9/210)
تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا
فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ
فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: (مَنْ يَلِى مِنْ هَذِهِ
الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ
سِتْرًا مِنَ النَّارِ) . / 23 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ،
خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأُمَامَةُ
بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَصَلَّى فَإِذَا
رَكَعَ وَضَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا. / 24 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَةَ، قَبَّلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، وَعِنْدَهُ الأقْرَعُ بْنُ
حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأقْرَعُ: إِنَّ
لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ
أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ)
. / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَ أَعْرَابِى إِلَى
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ
الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) : (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ
مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) . / 26 - وفيه: عُمَر، قَدِمَ
عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) سَبْيٌ، فَإِذَا
امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا
تَسْقِى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِى السَّبْىِ
أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ،
فَقَالَ لَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ) ؟
قُلْنَا: لا وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ،
فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ
بِوَلَدِهَا) . قال المؤلف: رحمة الولد الصغير ومعانقته
وتقبيله والرفق به من الأعمال التى يرضاها الله ويجازى
عليها، الا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر
عند النبى أن له عشرة من الولد ماقبل منهم أحدًا: (من لا
يرحم لا يرحم) فدل أن تقبيل
(9/211)
الولد الصغير وحمله والتحفى به ممايستحق به
رحمة الله، ألا ترى حمل النبى عليه السلام أمامه ابنه أبى
العاص على هنقه فى الصلاة، والصلاة أفضل الأعمال عند الله،
وقد أمر عليه السلام بلزوم الخشوع فيها ولإقبال عليها، ولم
يكن حمله لها مما يضاد الخشوع المأمور به فيها، وكره أن
يشق عليها لو تركها ولم يحملها فى الصلاة وفى فعله عليه
السلام ذلك أعظم السوة لنا فينبغى الاقتداء به فى رحمته
صغار الولد وكبارهم والرفق بهم، ويجوز تقبيل الولد الصغير
فى سائر جسده. وروى جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس:
(أن النبى عليه السلام أتى بالحسن بن على ففرج بين فخديه
وقبل زبيبته) . وأما تقبيل كبار الولد وسائر الأهل فقد رخص
فى ذلك العلماء. قال اشهب: سئل مالم عن الذى يقدم من سفره
فتلقاه ابنته تقبله أو اخته أو أخل بيته؟ قال: لابأس بذلك.
وهذا على وجه الرقة وليس على وجه اللذة، وقد كان عليه
السلام يقبل ولده وبخاصة فاطمة، وكان أبو بكر يقبل عائشة،
وقد فعل ذلك أكثر أصحاب النبى عليه السلام وذلك على وجه
الرحمة. وفى حديث ابن عمر من الفقه أنه يجب على المرء أن
يقدم تعليم ما هو أوكد عليه من أمر دينه، وأن يبدأ
بالاستغفار والتوبة من أعظم ذنوبه وإن كانت التوبة من
جميعها فرضًا عليه فهى من الأعظم أوكد، ألا ترى ابن عمر
أنكر على السائل سؤاله عن حكم دم البعوض وتركه
(9/212)
الاستغفار والتوبة من دم الحسين، وقرعه به
دون سائر ذنوبه لمكانته من النبى - عليه السلام. وقوله فى
حديث عائشة: (من بلى من هذه البنات شيئًا كن له سترًا من
النار) دليل أن أجر القيام على البنات أعظم من أجر القيام
على البنين، إذ لم يذكر عليه السلام مثل فى القيام على
البنين، وذلك والله أعلم من أجل أن مؤنة البنات والاهتمام
بأمورهن أعظم من أمور البنين لأنهن عذرات لا يباشرون
أمورهن ولا يتصرفن تصرف البنين.
- باب: جعل الله الرحمة فى
مائة جزء
/ 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنّ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِى
مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ
جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِى الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ
ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ
الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ
تُصِيبَهُ) . قال المؤلف: قد جاء هذا الحديث فى كتاب الزهد
فى باب الرجاء والخوف بغير هذا اللفظ أن النبى عليه السلام
قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده
تسعة وتسعين رحمة، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة) . قال
المهلب: هذه الرحمة هى رحمته التى خلقها لعباده وجعلها فى
نفوسهم، والتى أمسك عند نفسه هى مايتراحمون به يوم القيامة
ويتغافرون من التباعات التى كانت بينهم فى الدنيا، وقد
يجوز أن
(9/213)
تستعمل تلك الرحمة المخلوقة فيهم بها سوى
رحمته التى وسعت كل شىء، التى لايجوز أن تكون مخلوقة، وهى
صفة من صفات ذاته تعالى لم يزل موصوفًا بها، فهى التى
يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التى جعلها لهم، وقد يجوز أن
تكون الرحمة التى أمسكها عند نفسه هى التى عند ملائكته
المستغفرين لمن فى الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليل على أن
فى نفوس الملائكة رحمة على أهل الأرض، والله أعلم.
- باب: قتل الولد خشية أن يأكل
معه
/ 28 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ
نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
(أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ) ؟
الحديث. إنما جعل النبى قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه
أعظم الذنوب بعد الشرك؛ لأن ذلك يجمع القتل وقطع الرحم
ونهاية البخل وإنما ذكر البخارى هذا الحديث بإثر باب رحمة
الولد وتقبيله؛ ليعلمنا أن قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه
من أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك به، فإذا كان كذلك
فرحمته وصلته والإحساس إليه من أعظم أعمال البر بعد
الإيمان.
(9/214)
- باب: وضع الصبى فى
الحجر
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) وَضَعَ صَبِيًّا فِى حَجْرِهِ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ
عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ. كان المسلمون
إذا ولد لهم ولد يأتون به إلى الرسول فيحنكه بريقه ويدعو
له عليه السلام تبركًا بريقه ودعوتخ، وكان يأخذ الصبى
ويضعه فى حجره، ولا يتقزز منه خشية مايكون منه من الحدث،
ألا ترى أنا بال فى ثوبه فأتبعه بالماء ولم يضجر من ذلك،
فينبغى الاقتداء به فى ذلك، وأن يتوخى المؤمنون بأولادهم
أهل الفضل والصلاح منهم فيحملونهم إليهم ليدعوا تاسيًا
بفعل النبى فى ذلك.
- باب: وضع الصبى على الفخد
/ 30 - فيه: أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) يَأْخُذُنِى، فَيُقْعِدُنِى عَلَى فَخِذِهِ،
وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأخْرَى، ثُمَّ
يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا
فَإِنِّى أَرْحَمُهُمَا) . وضع الصبى على الفخد هو من باب
رحمة الولد، وقد تقدم أنه عليه السلام كان يحمل ابنه أبى
العاصى بن الربيع حفيدته على عنقه فى الصلاة وهو أكثر من
إجلاسه للحسن ولأسامة على فخديه فى غير الصلاة. وفيه:
مساواة الرجل لبنه ولمن تبناه فى الرفق والرحمة والمنزلة.
(9/215)
- باب: حسن العهد من
الإيمان
/ 31 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى
امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ هَلَكَتْ
قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِى بِثَلاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ
أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ
يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيَذْبَحُ
الشَّاةَ، ثُمَّ يُهْدِى فِى خُلَّتِهَا مِنْهَا. قال
المؤلف: حسن العهد فى هذا الحديث هو إهداء النبى عليه
السلام اللحم لأجوار خديجة ومعارفها رعيًا منه لذمامها
وحفظًا لعهدها كذلك قال أبو عبيد: العهد فى هذا الحديث
الحفاظ ورعاية الحرمة والحق، فجعل ذلك البخارى من الإيمان؛
لأنه فعل بر وجميع أفعال البر من الإيمان. وقولها: (ولقد
أمره ربه أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب) فالقصب قصب
اللؤلؤ، وهو مااستطال منه فى تجويف، وكل مجوف قصب. وقولها:
(ببيت) أى بقصر يقال: هذا بيت فلان أى قصره. قاله أبو
سليمان الخطابى. وقد روى أن خديجة قالت لرسول الله حين
بشرها بذلك: (ما بيت من قصب؟ بيت من لؤلؤ مجبأة) وفسره ابن
وهب قال يريد: مجوفة. قال أبو سليمان: وهذا لا يستقيم على
ما قاله ابن وهب إلا أن
(9/216)
يكون من المقلوب فتكون مجوبة من الجوب وهو
القطع قدم الباء على الواو كقوله تعالى: هار والصل هائر،
وكقول الشاعر: لاث به الشياء والعبرى وإنما هو لائث وقوله:
لاوصب فيه ولا نصب أى لا أذى فيه ولا عناء
- باب: فضل من يعول يتيما
/ 32 - فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
(أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا،
وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) . قال
المؤلف: حق على كل مؤمن يسمع هذا الحديث أن يرغب فى العمل
به ليكون فى الجنة رفيقًا للنبى عليه السلام ولجماعة
النبيين والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين - ولا منزلة
عند الله فى الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء. وقد روى أبان
القطان وحماد بن سلمة، عن أبى عمران الجونى (أن رجلاً شكا
إلى النبى عليه السلام فسوة قلبه فقال: امسح بيدك على راس
اليتيم، واطعمه من طعامك يلن قلبك وتقدر على حاجتك) .
والسباحة: هى الأصبع التى تلى الابهام، وسميت بذلك لأنها
يسبح بها فى الصلاة، وتسمى أيضًا السبابة لأنها يسب بها
الشيطان فى التشهد.
(9/217)
- باب: الساعى على
الأرملة والمسكين
/ 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (السَّاعِى عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ
كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِى
يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ) . قال المؤلف: من
عجز عن الجهاد فى سبيل الله وعن قيام الليل وصيام النهار،
فليعمل بهذا الحديث وليسع على الرامل والمساكين ليحشر يوم
القيامة فى جملة المجاهدين فى سبيل الله دون أن يخطو فى
ذلك خطوة، أو ينفق درهمًا، أو يلقى عدوًا يرتاع بلقائه، أو
ليحشر فى زمرة الصائمين والقائمين وينال درجتهم وهو طاعم
نهاره نائم ليلة أيام حياتو، فينبغى لكل مؤمن أن يحرص على
هذه التجارة التى لاتبور، ويسعى على ارملة أو مسكين لوجه
الله تعالى فيربح فى تجارته درجات المجاهدين والصائمين
والقائمين من غير تعب ولانصب، ذلك فضل الله يوتيه من يشاء.
- باب: رحمة الناس والبهائم
/ 34 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَتَيْنَا
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ شَبَبَةٌ
مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً،
فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا إِلى أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا
عَمَّنْ تَرَكْنَا فِى أَهْلِنَا، وَكَانَ رَفِيقًا
رَحِيمًا، فَقَالَ: (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ،
فَعَلِّمُوهُمْ. . .) إلى آخر الحديث. / 35 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ
الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ،
ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى
مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا
الْكَلْبَ
(9/218)
مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ
بَلَغَ بِى، فَنَزَلَ الْبِئْر، َفَمَلأ خُفَّهُ، ثُمَّ
أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الْكَلْب، َ فَشَكَرَ اللَّهُ
لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ:
(نَعَمْ، فِى كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) . / 36
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) لِصَلاةٍ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِى -
وَهُوَ فِى الصَّلاةِ -: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى
وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا
سَلَّمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ
لِلأعْرَابِىِّ: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ
رَحْمَةَ اللَّهِ) . / 37 - وفيه: النُّعْمَانَ بْنَ
بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِى تَرَاحُمِهِمْ
وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا
اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ
بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) . / 38 - وفيه: أَنَس، قَالَ:
قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مُسْلِمٍ
غَرَسَ غَرْسًا، فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ،
إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ) . / 39 - وفيه: جَرِير،
قَالَ: قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا
يُرْحَمُ) . قال المؤلف: فى هذه الأحاديث الحض على استعمال
الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق
بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا،
فينبغى لكل مؤمن عاقل أن يرغب فى الأخذ بحظه من الرحمة،
ويستعملها فى أبناء جنسه وفى كل حيوان، فلم يخلقه الله
عبثًا، وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو يهيمة
لاتقدر على النطق وتبيين مابها من الضر، وكذلك ينبغى أن
يرحم كل بهيمة وإن كانت فى غير ملكه، ألا ترى أن الذى سقى
الكلب الذى وجده بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له
(9/219)
بتكلفة النزول فيالبئر وإخراجه الماء فى
خفه وسقيه إياه، وكذلك كل مافى معنى السقى من الإطعام، الا
ترى قوله عليه السلام: (ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه
إنسان أو دابة إلا كان له صدقة) . مما يدخل فى معنى سقى
البهائم وإطعامها التخفيف عنها فى أحمالها وتكليفها ماتطيق
حمله، فذلك من رحمتها والإحسان اليها، ومن ذلك ترك التعدى
فى ضربها وأذاها وتسخيرها فى الليل وفى غير أوقات السخرة،
وقد نهينا فى العبيد أن نكلفهم الخدمة فى الليل فإن لهم
الليل ولواليهم النهار، والواب وجميع البهائم داخلون فى
هذا المعنى. وفى قوله عليه السلام: (مامن مسلم غرس غرسًا
فأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة) دليل على أن
ماذهب من مال المسلم بغير علمه أنه يؤجر عليه. وأما إنكار
على الأعرابى الذى قال: اللهم ارحمنى ومحمدًا ولاترحم معنا
أحدًا، بقوله: (لقد حجرت واسعًا) ولم يعجبه دعاؤه لنفسه
وحده، فلأنه بخل برحمة الله على خلقه، وقد أثنى الله على
من فعل خلاف ذلك بقوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل فر
قلوبنا غلا للذين آمنوا) وأخبر تعالى أن الملائكة يستغفرون
لمن فى الأرض، فينبغى للمؤمن الاقتداء بالملائكة والصالحين
من المؤمنين ليكون من جملة من أثنى الله عليه ورضى فعله،
فلم يخص نفسه بالدعاء دون إخوانه المؤمنين حرصًا على شمول
الخير لجميعهم.
(9/220)
- باب: الوصاة
بالجار وقوله عز وجل: (ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين
إحسانا. . (الآية
/ 40 - فيه: عَائِشَةَ، وَابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) : (مَا زَالَ يُوصِينِى جِبْرِيلُ
بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) . قال
المؤلف: فى هذه الآية والحديث الأمر بحفظ الجار والإحسان
إليه والوصاة برعى ذمته والقيام بحقوقه، ألا ترى تأكيد
الله لذكره بعد الوالدين والأقربين، فقال تعالى: (والجار
ذى القربى والجار الجنب) وقال أهل التفسير: (الجار ذى
القربى) هو الذى بينك وبينه قرابة فله حق القرابة وحق
الجوار. وعن ابن عباس وغيره: (الجار ذى القربى) أى الجار
المجاور، وقيل: هو الجار المسلم، والجار الجنب: الغريب عن
ابن عباس. وقيل: هو الذى لاقرابة بينك وبينه. والجنابة:
البعد. (والصاحب بالجنب) الرفيق فى السفر عن ابن عباس، وعن
على وابن مسعود: الزوجة. (وابن السبيل) المسافر الذى يجتاز
بك مارًا عن مجاهد وغيره.
- باب: إثم من لايأمن جاره
بوائقه
يوبقهن: يهلكهن، موبقا: مهلكا / 41 - فيه: أَبُو شُرَيْح،
قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ
لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا
يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ
الَّذِى لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) .
(9/221)
قال المؤلف: وهذا الحديث شديد فى الحض على
ترك أذى الجار، الا ترى أنه عليه السلام أكد ذلك بقسمه
ثلاث مرات أنه لاؤمن من لايؤمن جاره بوائقه، ومعناه أنه
لايؤمن الإيمان الكامل، ولا يبلغ أعلى درجاته من كان بهذه
الصفة، فينبغى لكل مؤمن أن يحذر أذى جاره ويرغب أن يكون فى
أعلى درجات الإيمان، وينتهى عما نهاه الله ورسوله عنه،
ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه. وقال أبو حازم المنزى:
كان اهل الجاهلية أبر بالجار منكم هذا قائلهم يقول: نارى
ونار الجار واحدة وإليه قبلى القدر ماضر جارًا لى أجاوره
أن لايكون لبابه ستر أعمى إذا ماجورتى برزت حتى يواري
جارتى الخدر.
- باب: لا تحقرن جارة لجارتها
/ 42 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) : (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لا
تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ)
. فى هذا الحديث الحض على مهاداة الجار وصلته، وإنما اشار
النبى عليه السلام بفرسن الشاة إلى القليل من الهدية، لا
إلى إعطاء الفرسن لأنه لافائدة فيه، وقد قال عليه السلام
لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن
تضع من دلوك فى إناء المستقى) . وقد تقدم تفسير الفرسن فى
كتاب الهبة.
(9/222)
- باب: حق الجوار فى
قرب الأبواب
/ 43 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ:
(إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) . قد تقدم فى آخر
كتاب الشفعة وفى كتاب الهبة.
30 - باب كل معروف صدقة
/ 44 - فيه: جَابِرِ، عَنِ النَّبِى عليه السلام قَالَ:
(كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) . / 45 - وفيه: أَبُو مُوسَى
الأشْعَرِىِّ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
(عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ؟ قَالَ: فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، فَيَنْفَعُ
نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
- أَوْ لَمْ يَفْعَلْ -؟ قَالَ: فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ
الْمَلْهُوفَ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ:
فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ - أَوْ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ -
قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيُمْسِكُ عَنِ
الشَّرِّ، فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: المعروف
مندوب إليه، ودل هذا الحديث أن يفعله صدقة عند الله يثبت
المؤمن عليه ويجازيه به وإن قل لعموم قوله: (كل معروف
صدقة) . وقوله فى حديث أبى موسى: (على كل مسلم صدقة)
معناه: أن ذلك فى كرم الأخلاق وآداب الإسلام، وليس لك بفرض
عليه للإجماع على أن كل فرض فى الشريعة مقدر محدود.
(9/223)
وفي هذا الحديث تنبيه للمؤمن المعسر على أن
يعمل بيده وينفق على نفسه ويتصدق من ذلك ولايكون عيالا على
غيره، وقال مالك بن دينار: قرأت فى التوراة: (طوبى للذى
يعمل بيده ويأكل، طوبى لمحياه، وطوبى لمماته) . وروى عن
عمر بن الخطاب أنه قال: يامعشر القراء خذوا طريق من كان
قبلكم وارفعوا رءوسكم، ولاتكونوا عيالا على الناس. وفيه:
أن المؤمن إذا لم يقدر على باب من أبواب الخير ولا فتح له
فعله أن ينتقل إلى باب آخر يقدر عليه، فإن أبواب الخير
كثيرة والطريق إلى مرضاه الله تعالى غير معدومة، الا ترى
تفضل الله على عبده حين جعل له فى حال عجزه عن الفعل
عروضًا من القول وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم
جعل عوضًا من ذلك لمن لم يقدر الإمساك عن الشر صدقة. قال
المهلب: وهذا يشبه الحديث الآخر: (من هم بسيئة فلم يعملها
كتبت له حسنة) . وفيه: حجة لمن جعل الترك عملاً وكسبًا
للعبد بخلاف من قال من المتكلمين: إن الترك ليس بعمل، وقد
بين النبى ذلك بقوله: (فليمسك عن الشر فإنه له صدقة) .
31 - باب: طيب الكلام
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) . / 46 -
فيه: عَدِىِّ، ذَكَرَ النَّبِى عليه السلام النَّارَ،
فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ
(9/224)
بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ،
فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ:
(اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ
تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) . الكلام الطيب مندوب إليه
وهو من جليل أفعال البر؛ لأن النبى عليه السلام جعله
كالصدقة بالمال، ووجه تشبيهه على السلام الكلمة الطيبة
بالصدقة بالمال هو أن الصدقة بالمال تحيا بها نفس المتصدق
عليه ويفرح بها، والكلمة الطيبة يفرح بها المؤمن ويحسن
موقعها من قلبه فاشتبها من هذه الجهة، الا ترى أنها تذهب
الشحناء وتجلى السخيمة كما قال تعالى: (ادفع بالتى هى أحسن
فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) والدفع بالتى
هى أحسن قد يكون بالقول كما يكون بالفعل. قال صاحب العين:
أشاح بوجهه عن الشىء إذا نحاه، ورجل مشيح، وشائح، أى: حازم
حذر.
32 - باب: الرفق فى الأمر كله
/ 47 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ
الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ: عَائِشَةُ
فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ
وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ قُلْتُ
وَعَلَيْكُمْ) . / 48 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَعْرَابِيًّا
بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُزْرِمُوهُ)
، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.
(9/225)
في هذين الحديثين أدب عظيم من أدب افسلام،
وحض الرفق بالجاهل والصفح والإغضاء عنه؛ لأن الرسول عليه
السلام ترك مقابلة اليهود بمثل قولهم، ونهى عائشة من
الإغلاط فى ردها، وقال: مهلا ياعائشة، إن الله يحب الرفق
فى جميع الأمور؛ لعموم قوله: (إن الله يحب الرفق فى الأمر
كله) وإن كان الانتصار بمثل ماقوبل به المرء جائز لقوله
تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ماعليهم من سبيل)
فالصبر أعظم أجرًا وأعلى درجة لقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر
إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر أخلاق النبيين والصالحين،
فيجب امتثال طريقتهم والتآسى بهم وقرع النفس عن المغالبة
رجاء ثواب الله على ذلك وكذلك رفق النبى بالأعرابى الجاهل
حين بال فى المسجد المعظم الذى الصلاة فيه أفضل من ألف
صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وأمر أن لايهاج حتى
يفرغ من بوله تأنيسًا له ورفقًا به، فدل ذلك على استعمال
الرفق بالجاهل - فإنه بخلاف العالم - وترك اللوم له
والنثريب عليه. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: الإزرام:
القطع، يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك، وأزرمه
غيره: قطعه، وزرم البول نفسه. قال الشاعر: أو كماء المثود
بعد جمام زرم الدمع لايئوب نزورا والمثمود: الذى قد ثمده
الناس أى: ذهبوا به فلم يبق منه إلا قليل، والجمام:
الكثير.
(9/226)
قال صاحب العين: زرم البول والدمع: انقطع.
وزرم السنور والكلب زرمًا إذا بقى جعره فى دبرة فهو أزرم.
33 - باب: تعاون المؤمنين
بعضهم بعضا
/ 49 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ
بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. . .
.) الحديث. قال المؤلف: تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا فى
أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث، وذلك من
مكارم الأخلاق، وقد جاء فى حديث آخر عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) : (الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون
أخيه) فينبغى للمؤمنين استعمال آدب نبيهم والاقتداء بما
وصف المؤمنين بعضهم لبعض من الشفقة والنصيحة، وتشبيكه بيه
اصابعه تاكيدًا لقوله وتمثيلا لهم كيف يكونون فيما خولهم
من ذلك. وفيه: أن العالم إذا أراد المبالغة فى البيان أنه
يمثل لهم معنى أقواله بحركاته وسيأتى شىء من الكلام فى
معنى هذا الحديث فى باب الحب فى الله بعد هذا - إن شاء
الله تعالى.
34 - باب: قول الله تعالى: (من
يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها
/ 50 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِى عليه السلام كَانَ
إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ
(9/227)
صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: (اشْفَعُوا،
فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ
رَسُولِهِ مَا شَاءَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث الخص
على الشفاعة للمؤمنين فى حوائجهم، وأن الشافع مأجور وإن لم
يشفع فى حاجته، وقال أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يشفع
شفاعة حسنة) يعنى فى الدنيا (يكن له نصيب منها) فى الآخرة.
وقال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية فى شفاعة الناس بعضهم
لبعض. وقد قيل فى الاية أقوال أخر، قيل: الشفاعة الحسنة:
الدعاء للمؤمنين، والسيئة: الدعاء عليهم، وكانت اليهود
تدعو عليهم. وقيل: هو فى قول اليهود: السام عليكم. وقيل:
معناه من يكن شفيعًا لصاحبه فى الجهاد يكن له نصيبه من
الأجر. ومن يكن شفيعًا لآخر فى باطل يكن له نصيبه من
الوزر. والكفل: الوزر والإثم عن الحسن وقتادة. والقول
الأول اشبه بالحديث وأولاها بتأويل الآية.
35 - باب لم يكن النبى عليه
السلام فاحشا ولا متفحشا
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَّهُ ذَكَر
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ
فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا. / 52 - وفيه: عَائِشَةَ،
أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ،
وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ،
فَقَالَ: (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ،
وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ) ، قَالَتْ: أَوَلَمْ
تَسْمَعْ
(9/228)
مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى
مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى
فِيهِمْ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ) . / 53 - وفيه:
أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِى عليه السلام
سَبَّابًا، وَلا فَحَّاشًا، وَلا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ
لأحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ
جَبِينُهُ) . / 54 - وفيه: عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلا
اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ،
فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ،
وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) ، فَلَمَّا جَلَسَ،
تَطَلَّقَ النَّبِى عليه السلام فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطَ
إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ، قَالَتْ لَهُ
عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ
الرَّجُلَ، قُلْتَ: لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ
فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَتَى عَهِدْتِنِى
فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ
مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ
اتِّقَاءَ شَرِّهِ) . قال الطبرى: الفاحش: البذىء اللسان،
وأصل الفحش عند العرب فى كل شىء خروج عن مقداره وحده حتى
يستقبح، ولذلك يقال للرجل المفرط الطول الخارج عن طول
الناس المستحسن: فاحش الطول، يراد به قبيح الطول غير أن
أكثر ما استعمل ذلك فى الانسان إذا وصف بشىء فالأغلب أن
معناه فاحش منطقه، بذىء لسانه، ولذلك قيل للزنا فاحشة
لقبحة وخروجه عما أباحه الله لخلقه. وقد قيل فى قوله
تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة) معناه والذين إذا زنوا.
(9/229)
قال المؤلف: والفحش والذاء مذموم كله، وليس
من أخلاق المؤمنين. وقد روى مالك عن يحى بن سعيد أن عيسى
ابن مريم لقى خنزيرًا فى طريق فقال له: أنفذ بسلام فقيل
له: تقول هذا لخنزيرًا فقال عيسى ابن مريم: إنى أخاف أن
أعود لسانى المنطق السوء. فيبغى لمن الهمه الله رشه أن
يجنبه ويعود لسانه طيب القول ويقتدى فى ذلك بالآنبياء -
عليهم السلام - فهم الأسوة الحسنة. وفى حديث عائشة أنه
لاغيبة فى الفاسق المعلن وإن ذكر بقبيح أفعاله. وفيه: جواز
مصانعه الفاسق وإلانه القول لمنفعة ترجى منه، وهذا ابن
العشيرة هو عيينه بن بدر الفزارى وكان سيد قومه، وكان يقال
له: الأحمق المطاع، رجا النبى عليه السلام بإقباله عليه أن
يسلم قومه، كما رجا حين أقبل على المشرك وترك حديثه مع ابن
مكتوم الأعمى، فأنزل الله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه
الأعمى) وإنما أقبل عليه يحدثه رجاء أن تسلم قبيلته
بإسلامه. وسأذكر فى باب المدارة مع الناس فى الجزء الثانى
من الأدب زيادة فى هذا.
(9/230)
36 - باب: حسن الخلق
والسخاء ومايكره من البخل
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِى عليه السلام
أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) لأخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا
الْوَادِى، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ، فَقَالَ:
رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأخْلاقِ. / 55 - فيه:
أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام أَحْسَنَ النَّاسِ،
وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ
فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. . . الحديث. / 56 - وفيه:
جَابِر، مَا سُئِلَ النَّبِى عليه السلام عَنْ شَىْءٍ
قَطُّ، فَقَالَ: لا. / 57 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو لَمْ يَكُنْ النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا
مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (إِنَّ
خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا) . / 58 - وفيه:
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىِّ،
عليه السلام، بِبُرْدَةٍ - وهِىَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ -
فَقَالَ رَجُل: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ، فَاكْسُنِيهَا؟
فَقَالَ: (نَعَمْ) ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) لامَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ
أَخَذَهَا النَّبِى عليه السلام مُحْتَاجًا إِلَيْهَا،
ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا
يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ. . . الحديث. / 59 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(َتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى
الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَهو الْقَتْلُ) . / 60 -
وفيه: أَنَس، خَدَمْتُ النَّبِى عليه السلام عَشْرَ
سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِى: أُفٍّ، وَلا لِمَ صَنَعْتَ،
وَلا أَلا صَنَعْتَ. قال المؤلف: حسن الخلق من صفات
النبيين والمرسلين وخيار
(9/231)
المؤمنين، وكذلك السخاء من أشرف الصفات؛
لأن الله تعالى سمى نفسه بالكريم الوهاب. وأما البخل فليس
من صفات الأنبياء ولا الجلة الفضلاء، ألا ترى قول الرسول
يوم حنين: (لو كان عندى عدد سمر تهامة نعمًا لقسمته بينكم
ثم لا تجدونى بخيلاً) . وقال ابن مسعود: لاداء أدوى من
البخل، وكان أبو حنيفة لايجيز شهادة البخيل، فقيل له فى
ذلك: أنه يتقصى ويحمله التقصى على أن يأخذ فوق حقه. وقال
الطبرى: إن قال قائل: وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(خياركم أحسانكم أخلاقًا) وهل الأخلاق مكتسبة فيتخر العبد
منها أحسنها ويترك اقبحها؟ فإن كان ذلك كذلك فما وجه قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (اللهم كما حسن خلقى فحسن خلقى)
ومسألته عليه السلام ما سأل ربه من ذلك بتحسين خلقه،، وأنت
عالم أنه لا يحسن خلق العبد غير ربه، فإذا كان الخلق فعلاً
له لم يكن له أيضًا محسن غيره، وفى ذلك بطلان حمد العبد
عليه إن حسنًا وترك ذمه إن كان سيئًا، فإن قلت ذلك كذلك
قيل لك ما وجه قوله عليه السلام: (أكمل المؤمنين إيمانًا
أحسنهم خلقًا، وإن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم
القائم) وقد علمناه أن العبد إنما يثاب على مااكتسب لا على
ماخلق له من أعضاء جسده؟ . قيل: قد اختلف فى ذلك: فقال
بعضهم: الخلق حسنة وقبيحه جبله فى العبد كلونه وبعض أجزاء
جسمه. ذكر من قال ذلك:
(9/232)
روي عن ابن مسعود أنه ذكر عنده رجل فذكروا
من خلقه فقال: أرأيتم لو قطعوا راسه أكنتم تستطيعون أن
تجعلوا له رأسًا؟ قالوا: لا. قال: فلو قطعتم يده أكنتم
تجعلون له يدًا؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لن تستطيعوا أن
تغيروا خلقه حتى تغيروا خلقه. وقال ابن مسعود: فرغ من
اربعة: الخلق والخلق والرزق والأجل. وقال الحسن: من أعطى
حسن صورة وخلقًا وزوجة صالحة فقد اعطى خير الدنيا والآخرة.
واعتلوا بما رواه الهمدانى: كان ابن مسعود يحدث عن النبى
عليه السلام قال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم
بينكم أرزاقكم) قالوا: فهذا الحديث يبين أن الأخلاق من
إعطاء الله عباده، ألا ترى تفاوتهم فيه كتفاوتهم بالجبن
والشجاعة والبخل والجود، ولو كان الخلق اكتسابًا للعبد لم
تختلف أحوال الناس فيه ولكن ذلك غريزة. فإن قيل: فإن كان
كذلك فما وجه ثواب الله على حسن الخق إن كان غريزة؟ . قيل
له: لم يثبت على خلقه ما خلق، وإنما أثابه على استعماله ما
خلق فيه من ذلك فيما أمره باستعماله فيه، نظير الشجاعة
التى خلقها فيه وأمره باستعمالها عند لقاء عدوه وأثابه على
ذلك، وإن استعملها فى غير لقاء عدوه عاقبه على ذلك،
فالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية لا هى ما خلق فى
العبد. وقال آخرون: أخلاق العبد حسنها وسيئها إنما هى من
كسبه واختياره فيحمد على الجميل منها، ويثاب على ماكان
منها طاعة،
(9/233)
ويعاقب على ماكان منها معصية، ولولا أنها
للعبد كسب لبطل الأمر به والنهى عنه، وفى قول النبى عليه
السلام لمعاذ: (اتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن)
البيان عن صحة ما قلناه؛ لأن ذلك لو كان طبعًا فى العبد
هيأه الله عليه لاستحال الأمر به والنهى عن خلافه،
كاستحالة أمر من لابصر له بأن يكون له بصر، فلذلك كان
الحكماء يوصون بالحسن منه. وروى ابن عيينه، عن عبد الملك
بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال:: قال لى عمر بن الخطاب: يا
قبيصة، أراك شابًا فصيح اللسان فسيح الصدر، وقد يكون فى
الرجل عشرة أخلاق تسعة صالحة وخلق سيىء فيفسد التسعة
الصالحة الخلق السيىء، فاتق عثرات الشباب. وقال الشعبى:
قال صعصعة بن صوحان لابن أخية زيد بن صوحان: خالص المؤمن
وخالق الفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن.
37 - باب: كيف يكون الرجل فى
أهله
/ 61 - فيه: عَائِشَةَ سُئلت مَا كَانَ النَّبِى عليه
السلام يَصْنَعُ فِى أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِى
مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ قَامَ
إِلَى الصَّلاةِ. قال المؤلف: أخلاق النبيين والمرسلين
عليهم السلام التواضع والتذلل فى افعالهم، والبعد عن
الترفه والتنعم، فكانوا يمتهنون أنفسهم فيما يعن لهم
ليسنوا بذلك، فيسلك سبيلهم وتقتفى آثارهم.
(9/234)
وقول عائشة: (كان فى مهنة أهله) يدل على
دوام ذلك من فعله متى عرض له ما يحتاج إلى إصلاحه؛ لئلا
يخلد إلى الدعة والرفاهية التى ذمها الله وأخبر أنها من
صفات غير المؤمنين فقال تعالى: (فذورنى والمكذبين أولى
النعمة ومهلهم قليلا (. روى سفيان، عن هشام بن عروة، عن
أبيه، عن عائشة: (أنه سالها: ماكان عمل رسول الله فى بيه؟
قالت: يخصف النعل ويرقع الثوب) . وقال فى حديث آخر: (أما
أنا فأتتزر بالكساء وأجلس بالأرض وأحلب شاة أهلى) . وقال
ابن مسعود: إن الأنبياء من قبلكم كانوا يلبسون الصوف
ويركبون الحمر ويحلبون الغنم. وهذه كانت سيرة سلف هذه
الأمة. وسيأتى فى آخر كتاب الرقائق فى باب التواضع كثير من
سيرتهم فى ذلك، إن شاء الله تعالى.
38 - باب الْمِقَةِ من الله
/ 62 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى عليه السلام
قَالَ: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ
جِبْرِيلُ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ؛
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ
أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى
أَهْلِ الأرْضِ) .
(9/235)
قوله: (ثم يوضع له القبول فى الأرض) يريد
المحبة فى الناس، وقال بعض أهل التفسير فى قوله تعالى:
(وألقيت عليك محبة مني) أى حببتك إلى عبادى، وقال ابن عباس
فى قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم
الرحمن ودًا) قال: يحبهم ويحببهم إلى الناس. روى مالك حديث
أبى هريرة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة وقال فيه مالك:
لا أحسبه إلا قال فى البغض مثل ذلك. فدلت زيادة مالك فى
هذا الحديث على خلاف ماتقوله القدرية أن الشر من فعل العبد
وليس بخلق الله، وبان أن كل شىء من خير وشر ونفع وضر من
خلق الله لا خالق غيره، تعالى عما يشركون.
39 - باب الحب فى الله
/ 63 - فيه: أَنَس، قال النَّبِى عليه السَّلام: (لا
يَجِدُ أَحَدٌ حَلاوَةَ الإيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ
الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ
يُقْذَفَ فِى النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ
يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ،
وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ
مِمَّا سِوَاهُمَا) . قال المؤلف: صفة التحاب فى الله
تعالى أن يكون كل واحد منهما لصاحبه فى تواصلهما وتحابهما
بمنزلة نفسه فى كل مانابه، كما روى الشعبى عن النعمان بن
بشير قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (مثل المؤمنين مثل
الجسد إذا اشتكى منه شىء
(9/236)
تداعي له سائر الجسد) وكقوله عليه السلام:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) . وروى شريك بن
أبى نمر عن أنس قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن
مرآة المؤمن) ورواه عبد الله بن أبى رافع عن أبى هريرة، عن
النبى عليه السلام وزاد فيه: (إذا رأى فيه عيبًا أصلحه) .
قال الطبرى: فالأخ فى الله كالذى وصف به رسول الله المؤمن
للمؤمن وأن كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة الجسد الواحد؛ لأن
ماسر أحدهما سر الآخر وماسء أحدهما ساء الآخر، وأن كل واحد
منهما عون لصاحبه فى أمر الدنيا والآخرة كالبنيان يشد بعضه
بعضًا وكالمرآة له فى توقيفه إياه على عيوبه ونصيحته له فى
المشد والمغيب وتعريفه إياه من خطة ومافيه صلاحه ما يخفى
عليه، وهذا النوع من الإخوان فى زماننا كالكبريت الأحمر،
وقد قيل هذه قبل هذا الزمان؛ كان يونس بن عبيد تقول: ما
أنت بواجد شيئًا أقل من أخ فى الله صادق أو درهم طيب. فإن
قال قائل: فأخبرنا عن الحب فى الله والبغض فيه أواجب هو أم
فضل؟ قيل: بل واجب، هو قول مالك. فإن قيل: وما الدليل على
ذلك؟ قيل: مارواه الأعمش عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله: (والذى نفسى بيده لاتدخلون الجنة حتى
تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على أمر إذا
فعلتموه
(9/237)
تحاببتم، افشوا السلام بينكم) وما أمرهم
النبي فعليهم العمل به. ألا ترى أن أقسم عليه السلام جهد
النية أن الناس لن يؤمنوا حتى يتحابوا ولن يدخلوا الجنة
حتى يؤمنوا. فحق على كل ذى لب أن يخلص المودة والحب لأهل
افيمان؛ فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن الحب
فى الله والبغض فى الله من أوثق عرى الإيمان) ، من حديث
ابن مسعود والبراء. وروى عن ابن مسعود قال: (أوحى الله إلى
نبى من الأنبياء ان قل لفلان الزاهد: أما زهدك فى الدنيا
فتعجلت به راحة نفسك وأما انقطاعك إلى فقد تعززت بى، فماذا
عملت فيما لى عليك؟ قال: يارب وما لك على؟ قال: هل واليت
فى وليًا أو عاديت فى عدوًا) ؟ .
40 - باب قوله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم (الآية (1
/ 64 - فيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ زَمْعَةَ، نَهَى النَّبِى
عليه السلام أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ
الأنْفُسِ، وَقَالَ: (بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ
امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ، أَوِ الْعَبْدِ، ثُمَّ
لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا) .
(9/238)
/ 65 - فيه: وَقَالَ ابْن عُمَر:، قال
النَّبِى عليه السلام بِمِنًى: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى
بَلَدِكُمْ هَذَا) . قال المؤلف: قال أهل التفسير فى قوله
تعالى: (لا يسخر قوم من قوم) لا يطعن بعضكم على بعض. وقال:
لا يستهزى قوم بقوم (عسى أن يكونوا خير منهم) عند الله،
ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يضحك مما يخرج من
الأنفس: الأحداث الناقصة للوضوء؛ لأن الله تعالى سوىّ بين
خلقه الأنبياء وغيرهم فى ذلك فقال تعالى فى مريم وعيسى -
عليهما السلام -: (كانا يأكلان الطعام) كناية عن الغائط،
ومن المحال أن يضحك أحد من غيره أو يعيره بما أتى هو مثله
ولاينفك منه. وقد حرم الله تعالى عرض المؤمن كما حرم دمه
وماله فلا يحل الهزء والسخرة بأحد، واصل هذا إعجاب المرء
بنفسه وازدراء غيره، وكان يقال: من العجب ان ترى لنفسك
الفضل على الناس وتمقتهم ولاتمقت نفسك. وقد روى ثابت عن
أنس أن النبى عليه السلام قال: (لو لم تكونوا تذنبون لخشيت
عليكم ماهو أكبر من ذلك: العجب العجب) وقال مطرف: لأن أبيت
نائمًا وأصبح نادمًا أحب إلى من أن أبيت قائمًا واصبح
معجبًا. وقال خالد الربعى: فى اإنجيل مكتوب: المستكبر على
أخيه بالدين بمنزلة القاتل.
(9/239)
41 - باب: ما ينهى
عنه من السباب واللعن
/ 66 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قال: قال النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (سِبَابُ الْمُؤمن فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ
كُفْرٌ) . / 67 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، سَمِعَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَرْمِى رَجُلٌ رَجُلا
بِالْفُسُوقِ، وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلا
ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ
كَذَلِكَ) . / 68 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنْ
النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا لَعَّانًا، وَلا
سَبَّابًا، كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: (مَا لَهُ
تَرِبَ جَبِينُهُ) . / 96 - وفيه: ثَابِتَ بْنَ
الضَّحَّاكِ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (مَنْ
حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ، فَهُوَ كَمَا
قَالَ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ
قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . / 70 -
وفيه: سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا،
فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ
وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
(إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ
الَّذِى يَجِدُ) ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ،
فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ،
وَقَالَ: (تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم،
فَقَالَ: أَتُرَى بِى بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ؟ أَنَا اذْهَبْ.
/ 71 - فيه: عُبَادَة، خَرَجَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ،
فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عليه
السَّلام: (خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِهَا، فَتَلاحَى فُلانٌ
وَفُلانٌ، وَإِنَّهَا رُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ
خَيْرًا. . . .) الحديث. / 72 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ:
كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
أَعْجَمِيَّةً
(9/240)
فَنِلْتُ مِنْهَا، فَذَكَرَنِى إِلَى
النَّبِى عليه السلام فَقَالَ لِى: (أَسَابَبْتَ فُلانًا)
؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ
جَاهِلِيَّةٌ) . . . الحديث. قال المؤلف: سباب المسلم
فسوق؛ لأن عرضه حرام كتحريم دمه وماله، والفسوق فى لسان
العرب: الخروج من الطاعة، فينبغى ببمؤمن أن لايكون سبابًا
ولا لعنًا للمؤمنين ويقتدى فى ذلك بالنبى عليه السلام لأن
السب سب الفرقة والبغضة، وقد من الله على المؤمنين بما
جمعهم عليه من الفة افسلام فقال: (يا أيها الذين آمنوا
اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم)
الآية، وقال: (إنما المؤمنون إخوة) فكما لا ينبغى سب أخيه
فى النسب كذلك لاينبغى سب أخيه فى الإسلام ولا ملاحاتة.
إلا ترى أن الله تعالى رفع معرفة ليلة القدر عن عباده
وحرمهم علمها عقوبة لتلاحى الرجلين بحضرة النبى - عليه
السلام. قال عليه السلام لأبى ذر لما سب الرجل الذى أمه
أعجمية: (إنك أمرؤ فيك جاهلية) . وهذا غاية فى ذم السب
وتقبيحة؛ لأن أمور الجاهلية حرام منسوخة بالإسلام، فوجب
على كل مسلم هجرانها واجتنباها، وكذلك الغضب هو من نزعات
الشيطان فينبغى للمؤمن مغالبة نفسه عليه والاستعاذة بالله
من الشيطان الرجيم فإن ذلك دواء للغضب، لقوله عليه السلام:
(إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذى يجد) يعنى التعوذ
بالله من الشيطان. وأما قوله: (وقتاله كفر) فمعناه التحذير
له عن مقاتلة ومشادته والتغليظ فيه، يراد به: كالكفر فلا
يقاتله وهذا كما يقال: الفقر
(9/241)
الموت، أي كالموت، ونظير هذا قوله عليه
السلام: (كفر بالله من انتفى من نسب وإن دق وادعى نسبًا لا
يعرف) ولم يرد أن من انتفى من نسبه أو أدعى غير نسبه كان
كافرًا خارجًا عن الإسلام، ومثله فى الكلام كثير، وقد تقدم
فى باب خوف المؤمن أن يحبط عمله فى كتاب الإيمان وكذلك
تقدم معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لعن المؤمن كقتله)
فى كتاب الإيمان والنذور. وقوله عليه السلام: (ترب جبينه)
معناه أصابه التراب ولم يرد الدعاء على مافسره أبو عمرو
السيبانى فى قوله عليه السلام: (تربت يمينك) .
42 - باب ما يجوز من ذكر الناس
نحو قولهم الطويل والقصير
وَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَا يَقُولُ ذُو
الْيَدَيْنِ) ؟ ، وَمَا لا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ.
/ 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رسُول
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ سَلَّمَ. . . الحديث. . . وَكَانَ فِى الْقَوْمِ
رَجُلٌ كَانَ النَّبِى عليه السلام يَدْعُوهُ ذَا
الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ. . .
الحديث. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى قوله تعالى:
(ولا تنابزوا بالألقاب) فروى الأعمش عن أبى جبيرة بن
الضحاك قال: (كان أهل الجاهلية لهم الألقاب، للرجل منهم
الاسمان والثلاثة، فدعا
(9/242)
النبي عليه السلام رجلا منهم بلقبه فقالوا:
يارسول الله، إنه يكره ذلك) ، فنزلت الآية. وروى عن ابن
مسعود والحسن وقتادة وعكرمة، أن اليهودى والنصرانى كان
يسلم قيلقب به، فيقال: يا يهودى، يا نصارانى، فنهوا عن
ذلك، ونزلت الآية. وعو ابن عيينه: لاتقل: كان يهوديًا ولا
مشركًا. قال الطبرى: وقد رأى قوم من السلف أن وصف الرجل
غيره بما فيه من الصفة غيبة له، قال شعبة: سمعت معاوية بن
قرة يقول: لو مر بك أقطع فقلت: ذاك الأقطع، كانت منك غيبة.
وعن الحسن: ألا تخافون أن يكون قولنا: حميد الطويل غيبة؟
وكان قتادة يكره أن يقال: كعب الأحبار، وسلمان الفارسي؛
ولكن كعب المسلم وسلمان المسلم، وروى سليمان الشيبانى، عن
حسان ابن المخارق (أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت
لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبى عليه السلام أنها
قصيرة، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : اغتبتها) . وروى
موسى بن وردان عن أبىهريرة (أن رجلاً قام عند النبى فرأو
فى قيامه عجزًا، فقالوا: يا رسول الله، ما أعجز فلانًا قال
رسول الله: أكلتم أخاكم واغتبتموه) . قال الطبرى: وإنما
يكون ذلك غيبة من قائله إذا قاله على وجه الذم والعيب
للمقول فيه وهو له كاره، وعن مثل هذا ورد النهى، وأما إذا
قاله على وجه التعريف والتميز له من سائر الناس كقولهم:
يزيد
(9/243)
الرشك، وحميد الأرقط، والأحنف بن قيس،
والنسبية إلى الأمهات: كإسماعيل ابن علية وابن عائشة، فإن
ذلك بعيد من معنى الغيبة ومن مكروه ماورد به الخبر. قال
المؤلف: ويشد لصحة هذا قصة ذى اليدين، ويبين أن معنى النهى
عن التنابز بالألقاب فى الآية أن يراد به عيب الرجل
وتنقصه. قوله عليه السلام: (أصدق ذو اليدين) فعرفه بطول
يديه ولم يذكر اسمه، ولو لم يجز ذلك ما ذكره النبى عليه
السلام ولهذا استجاز العلماء ذكر العاهات لرواة الحديث،
وروى أبو حاتم الرازى، حدثنا عبده قال: سل ابن المبارك عن
الرجل يقول: حميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحميد الأعرج،
ومروان الأصفر. فقال عبد الله: إذا أراد صفته ولم يرد
غيبته فلا باس به. وسئل عبد الرحمن بن مهدى عن ذلك. فقال:
لا أراه غيبة، ربما سمعت شعبة يقول ليحى بن سعيد: ياأحول،
ما تقول؟ يا أحول، ما ترى؟ ذكره ابن الفوطى فى كتاب
الألقاب.
43 - باب: الغيبة وقوله تعالى:
(ولا يغتب بعضكم بعضا (
/ 74 - فيه: ابْن عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىّ عليه السلام
عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ،
وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا فَكَانَ لا
يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِى
بِالنَّمِيمَةِ) . قال المؤلف: الغيبة قد فسرها النبى عليه
السلام فى مرسل مالك عن الوليد بن عبد الله بن صياد (أن
المطلب بن عبد الله بن حنطب أخبره
(9/244)
أن رجلاً سأل النبى عليه السلام ما الغيبة؟
قال: أن تذكر من المرء ما يكره أن تسمع وإن كان حقًا، فإن
قلت باطلا فذلك البهتان) . وترجم البخارى باب الغيبة وذكر
فيه حديث النميمة إذ هى فى معنى الغيبة لكراهية المرء أن
يذكر عنه بظهر الغيب، فأشتبها من هذه الجهة والغيبة
المحرمة عند أهل العلم فى اغتياب أهل الستر من المؤمنين
ومن لايعلن بالمعاصى، فأما من جاهز بالكبائر فلا غيبة فيه،
وروى عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن اسلم قال: إنما الغيبة
فيمن لم يعلن بالمعاصى. وسأذكر غيبة أهل المعاصى فى باب
مايجوز من اغتياب أهل الفساد، والغيبة من الذنوب العظام
التى تحبط الأعمال. روى عن الرسول أنه قال: (الغيبة تاكل
الحسنات كما تأكل النار الحطب) . وقد قيل: أنها تفطر
الصائم بإحباط أجره، وقد تأول بعض أهل العلم فى قوله عليه
السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) أنهما كانا يغتابان على ما
تقدم فى باب الصيام، ولذلك قال النخعى: ماأبالى اغتبت رجلا
أم شربت ماء بارًا فى رمضان. وعنه عليه السلام أنه قال:
(ما صام من ظل يأكل لحوم الناس) . ولعظيم وزر الغيبة وكثرة
ماتحبط من الأجر كف جماعة من العلماء عن اغتياب جميع الناس
حتى لقد روى عن ابن المبارك أنه قال: لو كنت مغتابًا أحدًا
لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق الناس بحسناتى. وقال رجل لبعض
السلف: إنك قلت فيّ. قال: أنت
(9/245)
إذا أكرم على من نفسى؟ وقيل للحسن البصرى:
إن فلانًا اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرفّ، وقال: بلغنى
أنك أهديت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها. والآثار فى
التشيد فيها كثيرة، وقد جاء حديث شريف فى أجر من نصر اغتيب
عنده. روى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس: قال رسول
الله: (من اغتيب عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله فى
الدنيا والآخرة، وإن لم ينصره أدركه الله به الدنيا
والآخرة) .
44 - باب: ما يجوز من اغتياب
أهل الفساد والريب
/ 75 - وفيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (ائْذَنُوا
لَهُ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ
الْعَشِيرَةِ) ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ الْكَلامَ،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ الَّذِى قُلْتَ،
ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلامَ، قَالَ: (أَىْ عَائِشَةُ،
إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ، أَوْ
وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) . قال المؤلف: هذا
الحديث اصل فى جواز اغتياب أهل الفساد، ألا ترى قوله
للرجل: (بئس أخو العشيرة) ؟ وإنما قال ذلك عليه السلام لما
قد صح عنده من شره؛ لقوله عليه السلام فى آخر الحديث: (إن
شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشة) وسيأتى معنى ذلك
الكلام فى باب لم يكن النبى عليه السلام فاحشًا ولا
متفحشًا. روى ابن وضاح، عن محمد بن المصفى حدثنا بقية بن
(9/246)
الوليد، عن الربيع بن يزيد، عن أبان، عن
أنس، عن النبى عليه السلام قال: (من خلع جلباب الحياء فلا
غيبة فيه) وفسره ابن سعدان قال: معناه من عمل عملا قبيحًا
كشفه للناظرين، ولم يرع وقوفهم عليه فلا باس بذكره عنه من
حيث لايسمع؛ لأنه كمن أذن فى ذلك لكشفه عن نفسه، فأما من
استتر بفعله فلا يحل ذكره لمن رآه؛ لأنه غير آذن فى ذكره
وإن كان كافرًا. وقد سئل وهب عن غيبة النصرانى، فقال: لا
وقولوا للناس حسنًا وهو من الناس (أيحب أحدكم أن يأكل لحم
أخيه ميتًا فكرهتموه) فجعل هذا لهم مثلا. وفى الحديث:
(اذكروا الفاسق بما فيه كى يحذروه الناس) . قال ابن أبى
زيد: يقال: لاغيبة فى أمير جائز ولاصاحب بدعة يدعو إليها،
ولافيمن يشاور فى إنكاح أو شهادة ونحو ذلك، وقد قال الرسول
عليه السلام لفاطمة بنت قيس حين شاورته فيمن خطبها إلى
معاوية: (إن معاوية صعلوك لا مال له) وكذلك رأى الأئمة أن
يقبل قوله من أهل الفضل ويجوز له أن يبين له أمر من يخاف
أن يتخذ إمامًا فيذكر مافيه من كذب أو غيره مما يوجب ترك
الراوية عنه، وكان شعبه يقول: اجلس بنا نغتاب فى الله.
45 - باب: قول النبى (صلى الله
عليه وسلم) خير دور الأنصار
/ 76 - فيه: أَبُو أُسَيْد، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (خَيْرُ دُورِ الأنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ) .
قال المهلب: ترجم له باب خير دور الأنصار وأدخل فيه: (خير
(9/247)
الأنصار بنو النجار) وإنما أراد عليه
السلام بقوله: (خير دور الأنصار) أهل الدور كما قال تعالى:
(واسأل القرية) (والعير) وهو يريد أهلها، وقد جاء هذا
الحديث فى غير هذا الموضع: (خير دور الأنصار بنو النجار) .
وقال ابن قتيبة: الدور فى هذا الحديث القبائل، ويدل على
ذلك الحديث الآخر: (ما بقى دار إلا بنى فيها مسجد) ما بقيت
قبيلة. قال المهلب: وإنما استوجب بنو النجار الخير فى هذا
الحديث لمساعتهم إلى الإسلان، وقد بينه النبى (صلى الله
عليه وسلم) : (إنما بايعك سراق الحجيج من طيىء وأسلم
وغفار) - يريد تهجين هذه القبائل الضعيفة القليلة العدد -
المسارعة إليك لقتلها وضعفها لتكثر بك وبأصحابك ولتعز من
ذلتها، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أرأيت إن كان
أسلم وغفار وزينة خيرًا من بنى يتميم) يريد بمسارعتها إلى
الإسلام، فاستوجب بذلك ماأثنى الله عليها فى القرآن فى
قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) الآية،
فكذلك استوجب بنو النجار بالمساعرة إلى افسلام من الخيرية
ما لم يستوجبه بنو عبد الشهل المتبطئون بالإسلام. قال
المؤلف: فإن قال قائل: مامعنى دخول هذا الحديث فى أبواب
الغيبة؟ قيل: معناه بين فى ذلك، وهو أنه يدل على أنه يجوز
للعالم أن يفاضل بين الناس وينبه على فضل الفاضل ونقص من
لا يلحق بدرجته فى الفضل، ولايكون ذلك من باب الغيبة كما
لم يكن ذكر
(9/248)
النبي (صلى الله عليه وسلم) لغير بنى
النجار أنهم دون بنى النجار فى الفضل من باب الغيبة ومثل
هذا اتفاق المسلمين من أهل السنة أن أبا بكر أفضل من عمر،
وليس ذلك غيبة لعمر ولا نقصًا له، ولذلك جاز لابن معين
وغيره من ائمة الحديث تجريح الضعفاء وتبين أحوالهم خشية
التباس أمرهم على العامة واتخاذهم أئمة وهو غير مستحقين
للإمامة.
46 - باب النميمة من الكبائر
/ 77 - فيه: وذكر حديث ابن عباس فى صحابى القبرين اللذين
كان يعذبان، وقد تقدم فى باب الكبائر فى أول هذا الجزء
فأغنى عن إعادته.
47 - باب: ما يكره من النميمة
وقوله تعالى: (هماز مشاء بنميم (وقوله: (ويل لكل همزة لمزة
(
(يهمز) ويلمز ويعيب (واحد) / 78 - فيه: حُذَيْفَةَ،
سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (لا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ) . قال أهل التأويل: الهماز الذى يأكل
لحوم الناس، ويقال: هم المشاءون بالنميمة المفرقون بين
الأحبة، الباغون للبراء العيب. والقتات: النمام عند أهل
اللغة، وقوله عليه السلام: (لا يدخل الجنة قتات) معناه: إن
أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأن أهل السنة
(9/249)
مجمعون أن الله تعالى فى وعيده لعصاة
المؤمنين بالخيار، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقد فرق
أهل اللغة بين النمام والقتات، فذكر الخطابى أن النمام
الذى يكون مع القوم يتحثون فينم حديثهم، والقتات: الذى
يتسمع على القوم وهو لايعملون ثم ينم حديثهم، والقساس:
الذى يقس الأخبار، أى يسأل عنها ثم ينثرها على أصحابه.
48 - باب قوله تعالى:
(واجتنبوا قول الزور (
/ 79 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ،
وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ
أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) . قال المؤلف: قول
الزور هو الكذب، وهو محرم على المؤمنين، وهذا الحديث فى
شاهد الزور تغليظ شديد ووعيد كبير، ودل قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه) على
أن الزور يحبط أجر الصائم، وأن من نطق به فى صيامه كالآكل
الشارب عند الله تعالى فى الإثم، فينبغى تجنيبه والحذر منه
لإحباطه للصيام الذى أخبر النبى عليه السلام عن اله تعالى
أنه قال فيه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فأنه لى وأنا
أجزى به) فما ظنك بسيئة غطت على هذا الفضل الجسيم والثواب
العظيم؟ .
(9/250)
49 - باب ما قيل فى
ذى الوجهين
/ 80 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِى
يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ) . يريد
أنه يأتى إلى كل قوم بما يرضيهم كان خيرًا أو شرًا، وهذه
هى الماهنة المحرمة، وإنما سمى ذو الوجهين مداهنًا؛ لأنه
يظهر لأهل المنكر أنه عنهم راض فيلقاهم بوجه سمح بالترحيب
والبشر، وكذلك يظهر لأهل الحق أنه عنهم راض وفى باطنه أن
هذا دابة فى أن يرضى كل فريق منهم ويريهم أنه منهم، وإن
كان فى مصاحبته لأهل الحق مؤيدًا لفعلهم، وفى صحبته لأهل
الباطل منكرًا لفعلهم، فبخلطته لكلا الفريقين وإظهار الرضا
بفعلهم استحق اسم المداهنة للأسباب الظاهرة عليه المشبهة
بالدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، ولو
كان مع احخدى الطائفتين لم يكن مداهنًا، وإنما كان يسمى
باسم اطائفة المنفرد بصحبتها. وقد جاء فى ذى الوجهين وعيد
شديد، روى أبو هريرة عن النبى عليه السلام أنه قال: (ذو
الوجهين لايكون عند الله وجيهًا) وروى أنس عن النبى عليه
السلام أنه قال: (من كان ذا لسانين فى الدنيا جعل الله له
لسانين من نار يوم القيامة) فينبغى للمؤمن العاقل أن يرغب
بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله - تعالى.
(9/251)
50 - باب من أخبر
صاحبه بما يقال فيه
/ 81 - فيه: ابْن مَسْعُود، قَسَمَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ:
وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ،
فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: (رَحِمَ
اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا
فَصَبَرَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه يجوز
للرجل أن يخبر أهل الفضل والستر من إخوانه بما يقال فيهم
مما لايليق بعم ليعرفهم بذلك من يؤذيهم من الناس وينقصهم،
ولا حرج عليه فى مقابلته بذلك وتبليغه له. وليس ذلك من باب
النميمة؛ لأن ابن مسعود حين أخبر النبى عليه السلام يقول
الأنصارى فيه وتجويره له فى القسمة، لم يقل له: أتيت بما
لايجوز، ونمت الأنصارى والنميمة حرام، بل رضى ذلك عليه
السلام وجاوبه عليه بقوله (يرحم الله موسى، لقد أوذى بأكثر
من هذا فصبر) وإنما جاز لابن مسعود نقل ذلك إلى النبى عليه
السلام لأن الأنصارى فى تجويره للنبى - عليه السلام -
استباح إثمًا عظيمًا وركب جرمًا جسيمًا، فلم يكن لحديثه
حرمة، ولم يكن نقله من باب النميمة. وقد قال مالك - رحمه
الله - فى الرجل يمر بالرجل يقذف غائبًا: فليشهد عليه إن
كان معه غيره. وقال فى قوم سمعوا رجلا يقذف رجلا فرفعوا
إلى الإمام: فلا ينبغى أن يحده حتى يجىء الطالبب، ولو كان
هذا نميمة لم تجز الشهادة؛ لأن النميمة كبيرة، والكبائر
تسقط الشهادات. وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر
بقوله الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ
عليهم مايقال فيهم من الباطل،
(9/252)
ويكبر عليهم، فإن ذلك جبله فى البسر،
فطردهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يتلقون ذلك بالصبر
الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول
قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن البصرى أنه
قيل له: فلان اغتباك، فبعث إليه طبقًا من الطرف وقال:
بلغنى أنك أهدبت وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر
بقول الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم
مايقال فيهم من الباطل، ويكبر عليهم، فإن ذلك جبلة فى
البشر، فطرهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يلتقون ذلك
بالصبر الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن
الرسول قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن
البصرى أنه قيل له: فلان اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرف
وقال: بلغنى انك أهدبت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها.
51 - باب: ما يكره من التمادح
/ 82 - فيه: أَبُو مُوسَى، سَمِعَ النَّبِى عليه السلام
رَجُلا يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِى الْمِدْحَةِ،
فَقَالَ: (أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ
الرَّجُلِ) . / 83 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً
ذُكِرَ عِنْدَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)
فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ رسُول اللَّه:
(وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، يَقُولُهُ
مِرَارًا، إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لا مَحَالَةَ،
فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى
أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ، وَلا يُزَكِّى
عَلَى اللَّهِ أَحَدًا) . قَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ:
وَيْلَكَ. معنى هذا الحديث - والله أعلم - النهى عن أن
يفرط فى مدح الرجل بما ليس فيه؛ فيدخله من ذلك الإعجاب،
ويظن أنه فى الحقيقة بتلك المنزلة؛ ولذلك قال: قطعتم ظهر
الرجل. حين وصفتموه بما ليس فيه. فربما ذلك على العجب
والكبر، وعلى تضييع
(9/253)
العمل وترك الازدياد من الفضل، واقتصر على
حاله من حصل موصوفًا بما وصف به، وكذلك تأول العلماء فى
قوله عليه السلام: (احثوا التراب فى وجه المداحين) المراد
به: المداحون الناس فى وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم.
ولذلك قال عمر بن الخطاب: المدح هو الذبح. ولم يرد به من
مدح رجلاً بما فيه، فقد مدح رسول الله عليه السلام فى
الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث فى وجه المداحين ولا أمر
بذلك كقول أبى طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه تثمال
اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له فى كثير من
شعره، وكعب بن زهير، وقد مدح رسول الله عليه السلام
الأنصار فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع)
ومثل هذا قوله عليه السلام: (لا تطردونى كما أطرت النصارى
عيسى ابن مريم، قالوا: عبد الله؛ فإنما أنا عبد الله
ورسوله) أى: لاتصفونى بما ليس لى من الصفات تلتمسون بذلك
مدحى، كما وصفت النصارى عيسى لما لم يكن فيه، فنسبوه إلى
أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا. فأما وصفه بما فضله الله
به وشرفه فحق واجب على كل من بعثه الله إليه من خلقه وذلك
كوصفه عليه السلام بما وصفها به فقال: (أنا سيد ولد آدم
ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه) . وفى هذا من الفقه
أن من رفع أمرأط فوق حده وتجاوز به مقداره بما ليس فيه،
فمعتدّ آثم؛ لأن ذلك لو جاز فى أحد لكان أولى الخلق
(9/254)
بذلك رسول الله، ولكن الواجب أن يقصر كل
أحد على ما أعطاه الله من منزلته، ولا يعدى به إلى غيرها
من غير قطع عليها، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث أبى
بكرة: (إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب كذا
وحسيبه الله، ولا أزكى على الله أحدًا) .
52 - باب: من أثنى على أخيه
بما يعلم
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام
يَقُولُ لأحَدٍ يَمْشِى عَلَى الأرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ إِلا لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلامٍ. / 84 - فيه:
ابْن عُمَر: أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام حِينَ ذَكَرَ فِى
الإزَارِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ إِزَارِى يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ،
قَالَ: (إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ) . قال المؤلف: فيه من
الفقه: أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه
الإعلام بصفاتهم لتعرف لهم سابقتهم وتقدمهم فى الفضل
فينزلزا منازلهم ويقدموا على من لايساويهم ويقتدى بهم فى
الخير، ولو لم يجز وصفهم بالخير والثناء عليهم بأحوالهم لم
يعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبى عليه السلام خص
اصحابه بخواص من الفضائل بانوا بها عن سائر الناس وعرفوا
بها إلى يوم القيامة فشهد للعشرة - رضى الله عنهم -
بالجنة، كما شهد لعبد الله ابن سلام. وليس قول سعد: (ما
سمعت النى عليه السلام يقول لأحد
(9/255)
أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام)
بمعارض لمن سمعه عليه السلام يشهد بذلك لغيره، بل يأخذ كل
واحد بما يسمع، وكذلك قال فى أبى بكر الصديق: (كل الناس
قال لى: كذبت، وقال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : أرحم
أمتى بأمتى أبو بكر، وأقواهم فى الله عمر، وأصدقهم حياء
عثمان، وأقضاهم على، وأمين أمتى أبو عبيدة بن الجراح،
وأعلم أمتى بالحلال معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبى موسى،
وأفرضهم زيد) . وقال عليه السلام فى حديث آخر: (ما أظلت
الخضراء ولا قلت الغبراء أصدق لهجة من أبى ذر) فأثنى عليهم
بالحق وعرف أمته بفضائلهم، وقال لبى بكر الصديق حين قال
له: إزارى سقط من أحد شقية: (لست منهم) فدل هذا كله أن
المدح بالحق جائز وأن الذى لا يجوز من ذلك إنما هو المدح
بالكذب أو القصد بالمدح إلى جهة الإعجاب والفخر وإن كان
حقًا، والله الموفق.
53 - باب قوله تعالى: (إن الله
يأمر بالعدل والإحسان (الآية وقال: (إنما بغيكم على أنفسكم
() ثم بغى عليه لينصرنه الله (وترك إثارة الشر على مسلم أو
كافر
/ 85 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِى عليه السلام سحُره
لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ اليهودية، فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ
فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَمر النَّبِىُّ عليه السلام
فَأُخْرِجَ، فَقُلْتُ:
(9/256)
يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلا تَنَشَّرْتَ،
فَقَالَ: (أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِى، وَأَكْرَهُ
أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا) . قال المؤلف: تأول
البخارى من هذه الآيات التى ذكرها ترك إثارة الشر على مسلم
أو كافر دل عليه حديث عائشة، ووجه ذلك - والله أعلم - أنه
تأول فى قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الندب
إلى الإحسان إلى المسىء وترك معاقبة على إساءته، فإن قيل:
فكيف يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: فكيف
يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: وجه ذلك -
والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده أن البغى ينصرف على
الباغى بقوله: (إنما بغيكم على أنفسكم) وضمن تعالى نصره
لمن بغى عليه بقوله تعالى: (ثم بغى عليه لينصرنه الله) كان
الأولى لمن بغى عليه _ شكر الله على ما ضمن من نصره
ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبى
باليهودى الذى سحره حين عفا عنه، وقد كان له الانتقام
بقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوه بمثل ما عوقبتم به) لكن آر
الصفح عنه أخذًا بقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن
عزم الأمور (وكذلك أخبرت عائشة عنه عليه السلام أنه كان
لاينتقم لنفسه، ويعفو عمن ظلمه. وللسلف فى قوله: (إن الله
يأمر بالعدل والإحسان) أقوال أكثرها يخالف قول البخارى،
فقال ابن عباس:
(9/257)
العدل شهادة أن لا إله ألا الله، والإحسان
أداء الفرائض. وقال غيره: العدل الفرض، واإحسان النافلة،
وقال ابن عيينه: العدل هاهنا العلانية. وقال ابن مسعود:
أجمع آية فى القراآن لخير أو شر: (إن الله يأمركم بالعدل
والإحسان) الآية. ويمكن أن يتخرج تأويل البخارى على هذا
القول. وقوله: (وينهى عن الفحشاء والمنكر) يعنى عن كل فعل
أو قول قبيح، وقال ابن عباس: هو الزنا. والبغى: قيل: هو
الكبر والظلم، وقيل: هو التعدى ومجاوزة الحد. وقال ابن
عيينه: (إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) المراد
بها أن البغى تعجل عقوبته لصاحبه فى الدنيا يقال: البغى
مصرعه.
54 - باب: ما نهى عنه من
التحاسد والتدابر وقوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد (
/ 86 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ
أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا،
وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا،
وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) . في هذا الحديث:
الأمر (بالصحبة والألفة) والنهي عن
(9/258)
التباغض والتدابر، وما أمرهم النبى عليه
السلام فعليهم العمل به ومانهاهم عنه فعليهم الانتهاء عنه،
غير موسع عليهم مخالفة إلا أن يخبرهم عليه السلام أن مخرج
أمره لهم ونهيه على وجه الندب والإرشاد، وقد تقدم فى باب
الحب فى الله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والذى نفسى
بيده لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا) .
فذلك أن أمره عليه السلام ونهيه فى هذا الحديث على الوجوب،
وقال أبو الدرداء: (ألا أخبركم بخير لكم من الصدقة
والصيام: صلاح ذات البين، وإن البغضة هى الحالقة) لأن فى
تباغضهم افتراق كلمتهم وتشتت أمرهم، وفى ذلك ظهور عدوهم
عليهم ودروس دينهم. وفيه: النهى عن الحسد على النعم، وقد
نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتمنوا مافضل الله به بعضهم
على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله، وقد أجاز النبى الحسد
فى الخير، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب التمنى، إن شاء الله
تعالى. وفيه: النهى عن التجسس وهو البحث عن باطن أمور
الناس وأكثر ما يقال ذلك فى السر. وقال ابن الأعرابى وأبو
عمرو الشيبانى: الجاسوس: صاحب سر، والناموس: صاحب سر
الخير. وقال سليمان الخطابى: وأما التحسس بالحاء فقد اختلف
فى تفسيره فقال بعضهم: هو كالتجسس سواء، وقرأ الحسن: ولا
تحسسوا.
(9/259)
ومنهم من فرق بينهما، وروى الأوزاعى عن يحى
بن أبى كثير أنه قال: التجسس: البحث عن عورات المسلمين،
والتحسس: الاستماع لحديث القوم. وقال أبو عمر: التحسس
بالحاء أن تطلبه لنفسك، وبالجيم أن تكون رسولا لغيرك. وقال
صاحب العين: دابرت الرجل: عاديته، ومنه قولهم جعلته دبر
أذنى أى خلفها.
55 - باب قوله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا اجتنبوا (الآية
/ 87 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ
أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا.
. .) الحديث. / 88 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَبَاغَضُوا، وَلا
تَحَاسَدُوا. . .) الحديث. قال أبو سليمان الخطابى: قوله:
(إياكم والظن) فإنه أراد النهى عن تحقيق ظن السوء وتصديقه
دون مايهجس بالقلب من خواطر الظنون فإنها لاتملك، قال الله
تعالى: (إن بعض الظن أثم (فلم يجعل الظن كله إثمًا. قال
غيره: فنهى عليه السلام أن تحقق على أخيك ظن السوء إذا كان
الخير غالبًا عليه. وروى عن عمر أنه قال: لايحل لمسلم يسمع
من أخيه كلمة أن يظن بها سوء وهو يجد لها فى شىء من الخير
مصدرًا. وقال
(9/260)
علي بن أبي طالب: من علم من أخيه مروءه
جميله فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن
لسريرته أرجى. وروى معمر عن إسماعيل بن أمية قال: ثلاث
لايعجزن ابن آدم، الطيرة، وسوء الظن والحسد. قال: فينجيك
من سوء الظن أن لا تتكلم به، وينجيك من الحسد أن لا تبغى
أخاك سوءًا وينجيك من الطيرة أن لا تعمل بها. فإن قال
قائل: لى فى حديث أنس ذكر الظن فكيف ذكره فى هذا الباب؟ .
قال المهلب: فالجواب أن التباغض والتحاسد أصلهما سوء الظن،
وذلك أن المباغض والمحاسد يتأول أفعال من يبغضه ويحسده على
أسوأ التأويل، وقد أوجب الله تعالى أن يكون ظن المؤمن
بالمؤمن حسنًا أبدًا إذ يقول: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون
والمؤمنات بأنفسهم خيرًا فإذا جعل الله سوء الظن بالمؤمنين
إفكا مبينًا فقد الزم أن يكون حسن الظن بهم صدقًا بينًا
والله الموفق.
56 - باب ما يجوز من الظن
/ 89 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ مِنْ
دِينِنَا شَيْئًا) . قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ
مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ مرة: (مَا أَظُنُّ فُلانًا
وَفُلانًا يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ)
.
(9/261)
قال المؤلف: سوء الظن جائز عن أهل العلم
لمن كان مظهرًا للقبيح وجانبًا لأهل الصلاح وغير مشاهد
للصلوات فى الجماعة، وقد قال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل
فى صلاة العشاء والصبح أسأنا الظن به. وأما قول النبى:
(ماأظن فلانًا وفلانًا يعرفان ديننا) فى رجلين من
المنافقين، فإن الظن هاهنا بمعنى اليقين؛ لأنه كان يعرف
المنافقين حقيقة بإعلام الله له بهم فى سورة براءة. وقال
ابن عباس: كنا نسمى سورة براءة: الفاضحة. قال ابن عباس: ما
زالت تنزل (ومنهم. .) (ومنهم. .) حتى خشينا. لأن الله
تعالى قد حكى فيها اقوال المنافقين وأذاهم للنبى عليه
السلام ولمزاهم فى الصدقات وغيرها، إلا أن الله لم يأمره
بقتلهم، ونحن لانعلم بالظن مثل ماعلمه النبى - عليه السلام
لأجل نزول الوحى عليه، فلم يجب لنا القطع على الظن غير أنه
من ظهر منه فعل منكر فقد عرض نفسه لسوء الظن والتهمة فى
دينه فلا حرج على من أساء به الظن.
57 - باب: ستر المؤمن على نفسه
/ 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلا
الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ
يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلا، ثُمَّ يُصْبِحَ
وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ،
عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ
يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ
عَليْهُ) .
(9/262)
/ 91 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ: أَنّ رجلاً
سأله كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ
فِى النَّجْوَى؟ قَالَ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ
حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ
كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ
يَقُولُ: إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا،
وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) . قال المؤلف: وروى
عن ابن مسعود أنه قال: ماستر الله على عبد فى الدنيا إلا
ستر عليه فى الآخرة. وهذا مأخوذ من حديث النجوى. وقال ابن
عباس فى قوله تعالى: (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه) قال:
أما الظاهرة بالإسلام وماحسن من خلقك وافضل عليك من الرزق،
وأما الباطنة فما ستر عليك من الذنوب والعيوى. وفى ستر
المؤمن على نفسه منافع. منها: أنه إذا اختفى بالذنب عن
العباد لم يستخفوا به ولا استذلوه؛ لأن المعاصى تذل أهلها.
ومنها: أنه كان ذنبًا يوجب الحد سقطت عنه المطالبة فى
الدنيا. وفى المجاهرة بالمعاصى استخفاف بحق الله وحق رسوله
وضرب من العناد لهما فلذلك قال عليه السلام: (كل أمتى
معافى إلا المجاهرون) . قال المهلب: , اما قوله فى حديث
النجوى: (يدنو أحدكم من ربه) فقال ابن فورك: معناه يقرب من
رحمته وكرامته ولطفه لاستحالة حمله على قرب المسافة
والنهاية إذ لايجوز ذلك على الله؛ لأنه لا
(9/263)
يحويه مكان، ولايحيط به موضع، ولاتقع عليه
الحدود، والعرب تقول: فلان قريب من فلان يريدون قرب
المنزلة وعلو الدرجة عنده. وأما قوله: (فيضع الجبار عليه
كنفه) فإنه يبين ما أشرنا اليه فى معنى الدنو أنه على
تأويل قرب المنزلة والدرجة، وذلك أن لفظ الكنف إنما يستعمل
فى مثل هذا المعنى، ألا ترى أنه يقال: أنا فى كنف فلان إذا
أراد أن يعرف إسباغ فضله عليه وتوقيره عنده. وقال مهلب:
عبر عليه السلام بالكنف عن ترك إظهار جرمه للملائكة وغيرهم
بإدامة الستر الذى منّ به على العبد فى الدنيا، وجعله
سببًا لمغرفته له فى الآخرة، ودليلاً للمذنب على عفوه،
وتنبيهًا له على نعمة الخلاص من فضيحة الدنيا وعقوبة
الآخرة التى هى اشد من عقوبة الدنيا، لقوله تعالى: (ولعذاب
الآخرة أشد وأبقي) فيشكر ربه ويذكر وهذا الحديث كقوله
تعالى: (إن رحمتى سبقت غضبى) لأن تأخير غضبه عنه عند
مجاهرة ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه لاتخفى عنه خافية مما
يعلم بصحيح النظر أنه لم يؤخر عقوبته عنه لعجز عن إنفاذها
عليه إلا لرحمته التى حكم لها بالسبق لغضبه؛ إذ ليس من صفة
رحمته التى وسعت كل شىء أن تسبق فى الدنيا بالستر من
الفضيحة ويسبقها الغضب فى ذلك الذنب فى الآخرة، فإذا لم
يكن بد من تغليب الرحمة على الغضب فليبشر المذنبون
المستترون بسعة رحمة الله، وليحذر المجاهرون بالمعاصى من
وعيد الله النافذ على من شاء من عباده. وفى قوله تعالى:
(سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)
(9/264)
نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة فى ترك
إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين، والحجة فيه من طريق
النظر أنه ليس مذمومًا من وجب له حق على غيره فوهبه له،
والمرء قد يقول لعبده: إن صنعت كذا عاقبتك بكذا على معنى
أنك إن أتيت هذا الفعل كنت مستحقًا عليه هذه المعاقبة،
لإذا جنى العبد تلك الجناية كان السيد مخيرًا فى حق نفسه
إن شاء أمضاه وإن شاء تركه، وإذا قال: إن فعلت كذا وكذا
فلك على كذا وكذا ففعل ماكلفه لم يجز أن يخلفه بما وعده؛
لأن فى تمام الوعد حقا للعبد، وليس لأحد أن يدع حق غيره
كما له أن يدع حق نفسه. والعرب تفتخر بخلف الوعيد، ولو
مذمومًا لما جاز أن تفتخر بخلفه وتمتدح به، أنشد أبو عمرو
الشيبانى: إنى متى أوعدته ووعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى
قال المهلب: فإن أخذ الله المنفذين للوعيد بحكمهم أنفذه
عليهم دون غيرهم لقطعهم على الله الواسع الرحمة بإنفاذه
الوعيد لظنهم بالله ظن السوء فعليهم دائرة السوء، وكان لهم
عند ظنهم كما وعد فقال: (أنا عند ظن عبدى بى فليظن بى ما
شاء) .
58 - باب: الكبر
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (ثَانِى عِطْفِهِ) [الحج: 9] :
مُسْتَكْبِرٌ فِى نَفْسِهِ، عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ / 92 -
فيه: حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ
(9/265)
الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ،
لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ
بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ)
. / 93 - فيه: أنس قال: أَنَس، قَالَ: كَانَتِ الأمَةُ
مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ
النَّبِىّ عليه السلام فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ.
قال المؤلف: روى شعبة عن على بن زيد، عن أنس زيادة فى هذا
الحديث قال: (إن كانت الوليدة من ولائد المدينة لتأخذ بيد
النبى عليه السلام فما ينزع يدها من يده حتى تكون هى
تنزعها) . وروى شعبة عن أبان بن تغلب، عن فضيل الفقيمى عن
النخعى، عن عقلمة، عن عبد الله، عن النبى عليه السلام قال:
(لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال
رجل: إن الرجل ليحب أن يكون ثوبه حسنأط ونعله حسنأط، قال:
إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس) .
روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبى عليه السلام قال:
(إن المستكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صور
الناس، يعلوهم كل شىء من الصغار، يساقون حتى يدخلون سجنًا
فى النار يسقون من طينه الخبال: عصارة أهل النار) . قال
الطبرى: فإن قيل: قد وصف النبى عليه السلام العتل الجواظ
المستكبر أنه من أهل النار فبين تكبره على من هو؟ قيل: هو
الذى باطنه منطو على الكبر على الله، فهذا كافر لاشك فى
كفره، وذلك هو الكبر الذى عناه النبي (صلى الله عليه وسلم)
بقوله
(9/266)
في حديث ابن مسعود: (لايدخل الجنة من كان
فى قلبه مثقال حبة من كبر) . فإن قيل: فقد وصفت الكبر بغير
ماوصفه به النبى عليه السلام وذلك أنك رويت عنه أنه قال:
(الكبر من سفه الحق وغمص الناس وأزدراء الحق ووصفت أنت
الكبر بأنه التكبر على الله) . قيل: الكبر الذى وصفناه هو
خلاف خشوع القلب لله تعالى ولا ينكر أن يكون من الكبر ما
هو استكبار على غير الله، والذى قلنا من معنى الكبر على
الله فإنه غير خارج من معنى مارويناه عنه عليه السلام أنه:
(غمص الناس وازدراء الحق) وذلك أن معتقد الكبر على ربه
لاشك أنه للحق مزدر وللناس أشد استحقارًا. ومما يدل على أن
المراد يمعنى الآثار فى ذلك عن النبى عليه السلام ماقلناه
ماحدثناه يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث أن دراجًا
أبا السمح حدثه عن أبى الهيثم، عن أبى سعيد الخدرى، عن
رسول الله قال: (من تواضع لله درجة رفعه الله درجة، ومن
تكبر على الله درجة يضعه الله درجة حتى يجعله فى أسفل
سافلين) فلدل هذا الحديث أن غمص الحق وحقر الناس استكبارًا
على الله. وقد روى حماد بن سلمة عن قتادة، وعلى بن زيد عن
سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام فيما
حكى عن ربه تعالى قال: (الكبرياء ردائى فمن نازعنى ردائى
قصمته)
(9/267)
فالمستكبر على الله تعالى لاشك أنه منازعه
رداءه، ومفارق دينه، وحرام عليه جنته كما قال عليه السلام
أنه: (لا يدخلها إلا نفس مسلمة) ومن لم يخشع لله قلبه عليه
مستكبر؛ إذ معنى الخشوع التواضع وخلاف الخشوع والتواضع
التكبر والتعظم، فالحق لله على كل مكلف إشعار قلبه الخشوع
بالذلة والاستكانة له بالعبودية خوف أليم عقابه، وقد روى
عن محمد بن على أنه قال: (ما دخل قلب أمرىء شىء من الكبر
إلا نقص من عقله قل ذلك أو كثر) . وقد تقدم تفسير العتل
والجواظ فى باب قول الله تعالى: (واقسموا بالله جهد
أيمانهم) فى كتاب الأيمان والنذور.
59 - باب الهجرة
وَقَوْلِ الرسُولِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ
لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ) . / 94 -
فيه: عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ،
قَالَ فِى بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ:
وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ
عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا
نَعَمْ، قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَى نَذْرٌ أَنْ لا
أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ،
فَقَالَتْ: لا، وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا،
وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِى، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ
عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ
مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ
عَبْدِيَغُوثَ - وَهُمَا مِنْ بَنِى زُهْرَةَ - وَقَالَ
لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِى
عَلَى عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ
تَنْذِرَ قَطِيعَتِى، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ
وَعَبْدُالرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا
(9/268)
حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ،
فَقَالا: السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: ادْخُلُوا،
قَالُوا: كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ،
وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ،
فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ،
فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِى،
وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا
إِلا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ
إِنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَمَّا قَدْ
عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ
لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ،
فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ
وَالتَّحْرِيجِ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا،
وَتَبْكِى وَتَقُولُ: إِنِّى نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ
شَدِيدٌ، فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ
الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِى نَذْرِهَا ذَلِكَ
أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا
بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِى حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا
خِمَارَهَا. / 95 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا،
وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا،
وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ
ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا،
وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ
بِالسَّلامِ) . قال الطبرى: فى حديث أنس وأبى أيوى البيان
الواضح أنه غير جائز لمسلم أن يهجر مسلمًا أكثر من ثلاثة
أيام، وأنه إن هجره أكثر من ثلاثة أيام أثم، وكان أمره إلى
الله إن شاء عذبع وإن شاء شاء عفا عنه؛ لأنه عليه السلام
أخبر أنه لا يحل ذلك ومن فعل ماهو محظور عليه فقد اقتحم
حمى الله وانتهك حرمته. وفيه دليل هجرته دون ثلاث أيام
مباح لهما ولاتبعه عليهما فيها. وقال غيره: تجاوز الله
لهما عما يعرض لهما من ذلك فى ثلاثة
(9/269)
أيام لما فطر الله العباد عليه من ضعف
الحيلة، وضيق الصدر وحرم عليهما مازاد على الثلاث؛ لأنه من
الغل الذى لا يحل. وروى عيسى عن ابن القاسم فى الرجل يهجر
أخاه إلا أنه يسلم عليه من غير أن يكلمه بغير السلام هل
يبرأ من الحناء؟ فقال: سمعت مالكًا يقول: إن كان مؤذيا له
برىء من الشحناء، وإن كان غير مؤذ فلا يبرأ من الشحنا.
وقاله أحمد بن حنبل. وروى ابن وهب عن مالك قولا آخر: إذا
سلم عليه فقد قطع الهجرة، وقوله عليه السلام: (وخيرهما
الذى يبدأ بالسلام) حجة لهذا القول. وقيل لابن القاسم: هل
ترى شهادته عليه جائزة باجتنابه كلامه وهو غير مؤذ له؟
قال: لا تقبل شهادته عليه. قال الطبرى: فإن قيل: فما أنت
قائل فى حديث عائشة حين هجرت عبد الله بن الزبير وحلفت أن
لا تكلمه أبدًا فتحمل عليها بالشفعاء حتى كلمته؟ قال: معنى
الهجرة هو ترك الرجل كلام أخيه مع تلاقيهما واجتماعهما
وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له وتركه السلام
عليه وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذا تلاقيا أن يسلم
كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة فقد
دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله
عنهما. فعائشة لم تكن ممن يلقى ابن الزبير فتعرض عن السلام
عليه صرما له، وإنما كانت من وراء حجاب، ولا يدخل عليها
أحد إلا بإذن،
(9/270)
وكان لها منع ابن الزبير دخول منزلها، وليس
من الهجرة المنهى عنها، كما لو كانت فى بلدة وهو فى أخرى
لا يتلتقيان لم يكن ذلك من الهجرة التى يأثمان بتركهما
الاجتماع، وإن مرت أعوام كثيرة، ولم يكونا يجتماعان فيعرض
أحدهما عن صاحبه. ويبين صحة ماقلناه قوله فى حديث أبى
أيوى: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض
هذا ويعرض هذا) ، فأخبر عليه السلام بسبب حظر الله تعالى
هجرة المسلم أخاه إنما ذلك من أجل تضييعهما ماأوجب الله
عليهما عن تلاقيهما فإذا لم يلتقيا فيفرط كل واحد منهما فى
واجب أخيه عليه، وذلك بعيد من معنى الهجرة. وقد تأول غير
الطبرى فى هجرة عائشة لابن الزبير وجهًا آخر فقال: إنما
ساغ لعائشة ذلك؛ لأنها أم المؤمنين وواجب توقيرها وبرها
لجميع المؤمنين، وتنقصها كالعقوق لها فهجرت ابن الزبير
أدبًا له، ألا ترى أنه لما نزع عن قوله، وندم عليه وتشفع
اليها رجعت إلى مكالمته وكفرت يمينها، وهذا من باب إباحة
هجران من عصى والإعراض عنه حتى يفىء إلى الواجب عليه.
60 - باب ما يجوز من الهجران
لمن عصى
وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : وَنَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم)
الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا وَذَكَرَ خَمْسِينَ
لَيْلَةً. / 96 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنِّى لأعْرِفُ غَضَبَكِ
(9/271)
وَرِضَاكِ) ، قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ
ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ
رَاضِيَةً، قُلْتِ بَلَى، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا
كُنْتِ سَاخِطَةً، قُلْتِ: لا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ) ،
قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلا اسْمَكَ.
قال المهلب: غرضه فى كتاب هذا الباب أن يبين صفة الهجران
الجائز وأن ذلك متنوع على قدر الإجرام، فمن كان جرمه
كبيرًا فينبغى هجرانه واجتنابه وترك مكالمته كما جاء فى
أمر كعب بن مالك وصاحبيه، وماكان من المغاضبة بين الأهل
والإخوان فالهجران الجائز فيهما هجران التحية والتسمية
وبسط الوجه كما فعلت عائشة فى مغاضبتها مع رسول الله. قال
الطبرى: وفى حديث كعب بن مالك أصل فى هجران أهل المعاصى
والفسوق والبدع، ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن كلامهم
بتخلفهم عنه، ولم يكن ذلك كفرًا ولا ارتدادًا، وإنما كان
معصية ركبوها، فأمر بهجرتهم حتى تاب الله عليهم، ثم أذن فى
مراجعتهم، فكذلك الحق فيمن أحداث ذنبًا خالف به أمر الله
ورسوله فيما لا شبهة فيه ولا تأويل، أو ركب معصية على علم
أنها معصية لله أن يهجر غضبًا لله ورسوله، ولا يكلم حتى
يتوب وتعلم توبته علمًا ظاهرًا كما قال فى قصة الثلاثة
الذين خلفوا. فإن قيل: فيحرج مكلم أهل المعاصى والبدع على
كل وجه؟ قيل: إن كلمهم بالتقريع لهم والموعظة والزجر لهم
عما يأتونه لم يكن حرجًا فإن كلمهم على غير ذلك خشيت أن
يكون إثمًا، إلا من أمر لا يجد من كلامه فيه بدا فيكلمه
وهو كاره لطريقته وعليه
(9/272)
واجد كالذى كان من أبى قتادة فى كعب بن
مالك إذ ناشده الله هل تعلم أنى أحب الله وروسوله؟ كل ذلك
لا يجيبه، ثم أجابه أن قال: الله ورسوله أعلم، ولم يزده
على ذلك. فإن قيل: إنك تبيح كلام أهل الشرك بالله، ولاتوجب
على المسلمين هجرتهم فكيف ألزمتنا هجرة أهل البدع والفسوق،
وهم بالله وروسوله مقرون؟ قيل: إن حظرنا ماحظرنا وإطلاقنا
ماأطلقناه لم يكن إلا عن أمر من لا يسعنا خلاف أمره، وذلك
لنهيه عليه السلام عن كلام النفر المتخلفين عن تبوك وهم
بوحدانية الله مقرون ونبوة نبيه مصدقون وأما المشركون
فإنما أطلقت لأهل الإيمان كلامهم لإجماع الجميع على
إجازتهم البيع والشراء منهم والأخذ والإعطاء، وقد يلزم من
هجرة كثير من المسلمين فى بعض الأحوال مالايلزم من هجرة
كثير من أهل الكفر. وذلك أنهم أجمعوا على أن رجلا من
المسلمين لو لزمه حد من حدود الله فى غير الحرم ثم استعاذ
بالحرم أنه لا يبايع ولايكلم ولايجالس حتى يخرج من الحرم
فيقام عليه حد الله تعالى ولله أحكام فى خلقه جعلها بينهم
مصلحة لهم هو أعلم بأسبابها وعليهم التسليم لأمره فيها؛
لأن الخلق والأمر لله، تبارك الله رب العالمين.
(9/273)
61 - باب هل يزور
صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيا
/ 97 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَى
إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ
عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ النَّبِىّ عليه
السلام طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً،
فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ فِى
نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ
يَأْتِينَا فِيهَا. . . . الحديث. قال المؤلف: فى هذا
الحديث جواز زيارة الصديق الملاطف مرتين كل يوم، وليس -
بمعاض لحديث أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (زد غبًا
تزدد حبًا) ذكره أبو عبيد فى كتاب الأمثال، وإنما فى قوله
هذا إعلام منه عليه السلام أن إغاب الزيارة أزيد فى المحبة
وأثبت للمودة؛ لأن مواترة الزيارة والإكثار منها ربما أدت
إلى الضجر، وأبدت أخلاقًا كامنة لا تظهر عند الإغباب فآلت
إلى البغضة، وكانت سببًا للقطيعة أو للزهد فى الصديق. وفى
حديث عائشة فى هذا الباب جواز الصديق الملاطف لصديقه كل
يوم على قدر حاجته إليه والانتفاع به فى مساركته له، فهما
حديثان مختلفان لك منهما معنى غير معنى صاحبه وليسا
بمتعاضين.
62 - باب: الزيارة ومن زار
قوما فطعم عندهم
وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِى عَهْدِ النَّبِى
عليه السلام فَأَكَلَ عِنْدَهُ. / 98 - فيه: أَنَس، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ
مِنَ الأنْصَارِ، فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ
(9/274)
طَعَامًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ
أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَنُضِحَ لَهُ عَلَى
بِسَاطٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَعَا لَهُمْ. قال المؤلف:
من تمام الزيارة إطعام الزائر ماحضر واتحافه بما تيسر وذلك
من كريم الأخلاق، وهو ممايثبت المودة ويؤكد المحبة. وفيه:
أن الزائر إذا أكرمه المزور أنه ينبغى له أن يدعو له ولأهل
بيته ويبارك فى طعامهم وفى رزقهم.
63 - باب من تجمل للوفود
/ 99 - فيه: يَحْيَى بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ
لِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا الإسْتَبْرَقُ؟
قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ،
قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ، يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ
عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَأَتَى بِهَا
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، اشْتَرِ هَذِهِ، فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ
إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ
الْحَرِيرَ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ. . . .) الحديث. قال
المؤلف: فيه: جواز تجمل الخليفة والإمام للوفود القادمين
عليه بحسن الزى وجميل الهيئة ألا ترى قول عمر للنبى: (اشتر
هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدموا عليك) وهذا يدل أن عادة
النبى كانت جارية بالتجمل لهم، فينبغى الاقتداء بالنبى فى
ذلك، ففيه تفخيم الإسلام ومباهته للعدو وغيظ الكفار. وقد
تقدم فى كتاب اللباس ماللعلماء فى لباس الحرير.
(9/275)
64 - باب: الإخاء
والحلف
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: آخَى النَّبِى عليه السلام
بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ
عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنِى وَبَيْنَ
سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. / 100 - فيه: أَنَس، قَدِمَ
عَلَيْنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْف، فَآخَى النَّبِى
عليه السلام بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. /
101 - وفيه: عَاصِمٌ، قُلْتُ لأنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (لا حِلْفَ
فِى الإسْلامِ) ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِى عليه
السلام بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأنْصَارِ فِى دَارِى. قال
المؤلف: آخى النبى بين المهاجرين والأنصار أول قدومه
المدينة وحالف بينهم، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء والحلف
دون ذوى الرحم، قال سعيد بن الجبير: وقد عاقد أبو بكر رجلا
فورثه. قال الحسن: كان هذا قبل آية المواريث، وكان أهل
الجاهلية يفعلون ذلك. وقال ابن عباس: فلما نزلت: (ولكل
جعلنا موالى مما ترك الوالدان (يعنى: ورثه، ونسخت ثم قال:
(والذين عقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم (يعنى: من النصر
والرفادة والنصيحة. وقد ذهب الميراث. قال الطبرى: لا يجوز
الحلف اليوم فى الإسلام لما حدثنا به أبو كريب وغيره قالا:
حدثنا محمد بن بشير، حدثنا زكريا بن أبى زائدة، حدثنا سعد
بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم، عن النبى عليه
السلام أنه قال: (لا حلف فى الإسلام وما كان من حلف فى
الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة) . وقال ابن عباس:
(9/276)
نسخ الله حلف الجاهلية وحلف الإسلام بقوله:
(وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) ورد المواريث إلى
القرابات. فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (وما كان
من حلف فى الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة) . قيل:
الذى أمر به النبى عليه السلام - بالوفاء به من ذلك هو ما
لم ينسخه الإسلام ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على
الحق والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغى.
65 - باب: التبسم والضحك
وقالت فاطمة: أسر إلى النبى - عليه السلام فضحكت.
وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَسَرَّ إِلَى النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، فَضَحِكْتُ. ذكر فى هذا الباب أحاديث كثيرة فيها
أن النبى عليه السلام ضحك وفى بعضها أنه تبسم وذكر حديث
عائشة قالت: ما رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) مستجمعًا
قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم. وفى حديث أبى
هريرة فى الذى وقع على أهله فى رمضان: أنه عليه السلام ضحك
حتى بدت نواجذه. والنواجذ آخر الأسنان، وهى أسنان الحلم
عند العرب. فإن قيل: إن هذا الخلاف لما روته عائشة (أنها
لم تره عليه السلام مستجمعًا ضاحكًا قط حتى تبدو لهواته.
ولا تبدو النواجذ على ما قال أبو هريرة إلا عند الاستغراق
فى الضحك وظهور اللهوات.
(9/277)
قيل: ليس هذا بخلاف لأن أبا هريرة شهد مالم
تشهد عائشة، وأثبت ماليس فى خبرها، والمثبت أولى وذلك
زيادة يجب الأخذ بها، وليس فى قول عائشة قطع منها أنه لم
يضحك قط حتى تبدو لهواته فى وقت من الأوقات، وإنما أخبرت
بما رأت كما أخبر أبو هريرة بما رأى، وذلك إخبار عن وقتين
مختلفين. ووجه تأويل هذه الآار - والله أعلم - أنه كان
عليه السلام فى أكثر أحواله يبتسم، وكان أيضًا يضحك فى
أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم، واقل من الاستغراق الذى
تبدو فيه اللهوات، هذا كان شأنه، وكان فى النادر عند إفراط
تعجبه ربما ضحك حتى تبدو نواجذه، ويجرى على عادة البشر فى
ذلك لأنه قد قال: (إنما أنا بشر) فيبين لأمته بضحكة الذى
بدت فيه نواجذه أنه غير محرم على أمته، وبان بحديث عائشة
أن التبسم ولاقتصار فى الضحك هو الذى ينبغى لأمته فعله
والاقتداء به فيه للزومه عليه السلام له فى أكثر أحواله.
وفيه وجه آخر: من الناس من يسمى الأنياب الضواحك نواجذ
واستشهد بقول لبيد: وإذا الأسنة اشرعت لنحورها أبرزن حد
نواجذ الأنياب فتكون النواجذ الأنياب على معنى إضافة الشىء
إلى نفسه، وذلك جائز إذا اختلف اللفظان كما يجوز عطف الشىء
على نفسه إذا اختلف اللفظان، ومن إضافة الشىء إلى نفسه
قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (وحب الحصيد)
، وقولهم: مسجد الجامع، وقال رؤبة: إذا استعبرت من جفون
الأغماد
(9/278)
والجفون على الأغماد وإضافة الشىء إلى نفسه
مذهب الكوفيين، وقد وجدنا أن النواجذ يعبر عنها بالأنيبا
فى حديث الذى وقع على أهله فى رمضان وقع فى هذا الباب: (أن
النبى عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه) ووقع فى كتاب
الصيام فى هذا الحديث: (أنه ضحك حتى بدت أنيابه) فارتفع
اللبس بذلك وزال الاختلاف بين الأحاديث، وهذا الوجه أولى،
والله أعلم. وهذا الباب يرد ما روى عن الحسن البصرى أنه
كان لا يضحك، وروى جعفر عن أسماء قالت: ما رأيت الحسن فى
جماعة ولا فى أهله ولا وحده ضاحك قط إلا مبتسمًا. ولا أحد
زهد كزهد النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد ثبت عنه أنه ضحك،
وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله هو الذى
أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون، وروى عبد الرواق، عن
معمر، عن قتادة قال: سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبى عليه
السلام يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان فى قلوبهم أعظم من
الجبال. وفى رسول الله واصحابه المهتدين السوة الحسنة.
وأما المكروه من هذا الباب فهو الإكثار من الضحك كما قال
لقمان لأبنه: يابنى إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب
فلإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه، مذموم منهى عنه،
وهو من فعل أهل السفه والبطالة.
(9/279)
66 - باب: قوله
تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع
الصادقين (وما ينهى عنه من الكذب
/ 102 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى
الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ،
وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا،
وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ
الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) . /
103 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا
حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا
اؤْتُمِنَ خَانَ) . / 104 - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ
رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، قَالا: الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ
شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ، تُحْمَلُ
عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . قال المؤلف: مصداق حديث عبد الله
فى كتاب الله: (إن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم)
والصدق أرفع خلال المؤمنين إلا ترى قوله: (ياأيها الذين
آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فجعل الصدق مقارنًا
للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: مابلغ بك ما نرى؟ قال: صدق
الحديث، وأداء الأمانة، وتركى ما لا يعنينى. وروى مالك عن
صفوان بن سليم أنه قيل للنبى (صلى الله عليه وسلم) :
(أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: لا) . وظاهر هذا معارض لحديث
عبد الله، والتأويل الجامع بينهما أن معنى حديث صفوان لا
يكون المؤمن المستكمل لأعلى درجات
(9/280)
الإيمان كذابًا حتى يغلب عليه الكذب لأن
كذابًا وزنه فعال، وهو من أبنية المبالغة لمن يكثر منه
الكذب ويكرر حتى يعرف به، ومثاله الكذوب أيضًا، ويبين هذا
قوله عليه السلام: (إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله
صدوقًا) ، يعنى لا يزال يتكرر الصدق منه حتى يستحق اسم
المبالغة فى الصدق وكذلك قوله: (إن الرجل يكذب حتى يكتب
عند الله كذابًا) يعنى لا يزال يتكرر الكذب منه حتى يغلب
عليه، وهذه الصفة ليست صفة عليه المؤمنين بل هى من صفات
المنافقين وعلاماتهم كما قال عليه السلام فى حديث أبى
هريرة، وقد تقدم معناه فى كتاب الإيمان فى باب علامة
المنافق. وأخبر عليه السلام فى حديث سمرة بعقوبة الكاذب
الذى كذبه الآفاق أنه يشق شدقه فى النار إلى يوم القيامة،
فعوقب فى موضع المعصية وهو فمه الذى كذب به.
67 - باب الهدي الصالح
/ 105 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ
دَلا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام
لابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ
إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، لا نَدْرِى مَا يَصْنَعُ
فِى أَهْلِهِ إِذَا خَلا. / 106 - وفيه: عَبْدُ اللَّه بْن
عُمَر، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ،
وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ.
(9/281)
قال المؤلف: قال أبو عبيد: الهدى والدل
أحدهما قرريب المعنى من الآخر وهما من السكينة والوقار فى
الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك، قال الأخطل يصف الكذاب:
حتى تناهين عنه ساميًا جرحًا وماهدى هدى مهزوم ولا نكلا
يقول: لم أسرع إسراع المنهزم ولكن على سكون وحسن هدى. وقال
عدى بن زيد يصف امرأة بحسن الدل: لم تطلع من خدرها تبتغى
خب با ولا ساء دلها فى العناق والسمت يكون فى معنيين:
أحدهما: حسن الهيئة والمنظر فى مذهب الدين، وليس من الجمال
والزينة، ولكن يكون له هيئة أهل الخير ومنظرهم. والوجه
الآخر: السمت: الطريق يقال: الزم هذا السمت. وكلاهما له
معنى جيد بكون: أن يلزم طريقه أهل الإسلام فتكون له هيئة
أهل افسلام، وذكر أبو عبيد فى حديث عمر بن الخطاب أن أصحاب
عبد الله كانوا يدخلون إليه فينظرون إلى مته وهديه ودله
فيشتبهون به. قال المؤلف: فى هذا من الفقه أنه ينبغى للناس
الاقتداء بأهل الفضل والصلاح فى جميع أحواليهم فى هيئتهم
وتواضعهم ورحمتهم للخلق، وإنصافهم من أنفسهم، ورفقهم فى
أخذ الحق إذا وجب لهم إن أحبوا الاقتصاص أو عفوهم عن ذلك
إن آثروا العفو، وفى مأكلهم ومشربهم واقتصادهم فى أمرورهم
تبركًا به.
(9/282)
68 - باب: الصبر على
الأذى وقول الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير
حساب (
/ 107 - فيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لَيْسَ أَحَدٌ - أَوْ لَيْسَ شَىْءٌ -
أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ
لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ
وَيَرْزُقُهُمْ) . / 108 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ: قَسَمَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا
كَانَ يَقْسِمُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ:
وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ
اللَّهِ، قُلْتُ: أَمَّا أَنَا لأقُولَنَّ لِلنَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ،
فَسَارَرْتُهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِى عليه السلام
وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّى
لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِى
مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ. قال المؤلف: ذكر
الله جزاء الأعمال وجعل له نهاية وحدا فقال: (من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعل جزاء الصدقة فى سبيل الله
فوق هذا القول: (مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله
يضاعف لمن يشاء) وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله
فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر على
الأذى من باب جهاد النفس وقمعها من شهواتها ومنعها عن
تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، وإن كان قد جبل
الله النفوس على تألمها من الأذى ومشقته، الا ترى أن النبى
عليه السلام شق عليه تجوير الأنصارى له فى القسمة حتى تغير
وجهه وغضب، ثم سكن ذلك منه علمه بما
(9/283)
وعد الله ذلك من جزيل الأجر، واقتدى بصبر
موسى على أكثر من أذى الأنصارى له رجاء ما عند الله.
وللصبر أبواب غير الصبر على الأذى روى عن على بن أبى طالب
أن النبى عليه السلام قال: (الصبر ثلاثة: فصبر على
الكصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر على المعصية، فمن صبر على
المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلثمائة درجة
مابين الدرجة إلى الدرجة ما بين السماء والأرض، ومن صبر
على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة مابين الدرجة إلى
الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش، ومن صبر
على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة مابين الدرجة إلى
الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش مرتين) .
وقد روى يزيد الرقاشى عن أنس أن النبى عليه السلام قال:
(الإيمان نصفان نصف فى الصبر والنصف فى الشكر) . وروى ابن
المنكدر عن جابر بن عبد الله (أن النبى عليه السلام سئل عن
الإيمان فقال: السماحة والصبر) . وقال الشعبى: قال على بن
أبى طالب: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال
الطبرى: وصدق على، وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار
باللسان وعمل بالحوارج، فمن لم يصبر على العمل بشرائع لم
يستحق اسم الإيمان بالإطلاق، والصبر على العمل بالشرائع
نظير الرأس من جسد الإنسان الذى لاتمام له إلا له، وهذا فى
معنى حديث أنس وجابر أن الصبر نصف الإيمان، وعامة المواضع
التي ذكر الله
(9/284)
فيها الصبر وحث عليه عباده إنما هى مواضع
الشدائد ومواطن المكاره الذى يعظم على النفوس ثقلها، ويشتد
عندها جزعها وكل ذلك محن وبلاء، الا ترى قوله عليه السلام
للأنصار: (لن تعطوا عطاءًا خيرًا وأوسع من الصبر) . والصبر
فى لسان العرب: حبس النفس عن المطلوب حتى يدرك، ومنه نهيه
عليه السلام عن صبر البهائم. يعنى أنه نهى عن حبسها على
التمثيل بها. ورميها كما ترمى الأغراض، ومنه قولهم: صبر
الحاكم يمين فلان يعنى حبسه على حلفه. فإن قال قائل: فهذه
صفات توجب التغير وحوث الحواث لمن وصف بها فما معنى وصف
الله تعالى بالصبر؟ . قيل: معنى وصفه بذلك هو بمعنى الحلم،
ومعنى وصفه بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها،
ووصفه تعالى بالصبر لم يرد فى التنزيل، وإنما ورد فى حديث
أبى موسى، وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم، هذا قول ابن
فورك.
69 - باب: من لم يواجه الناس
بالعتاب
/ 109 - فيه: عَائِشَة، صَنَعَ النَّبِى عليه السلام
شَيْئًا، فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِى عليه السلام فَخَطَبَ فَحَمِدَ
اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ
يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ
إِنِّى لأعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ
خَشْيَةً) . / 110 - وفيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ،
قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه السلام أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ
الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا
يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ.
(9/285)
قال المؤلف: إنما كان عليه السلام لا يواجه
الناس بالعتاب يعنى على مايكون فى خاصة نفسه كالصبر على
جهل الجاهل وجفاء الأعرابى ألا ترى أن ترك الذى حبذ البردة
من عنقه حتى أثرت حبذته فيه؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه،
وهذا معنى حديث أبى سعيد، فأما أن تنتهك من الدين حرمة
فإنه كان لا يترك العتاب عليها والتقريع فيها ويصدع بالحق
فيما يجب على منتهكها ويقتص منه، سواء كان حقًا لله، أو من
حقوق العباد. فإن قيل: فإن كان معنى حديث أبى سعيد ماذكرت
من أنه عليه السلام كان لا يعاتب فيما يكون فى خاصة نفسه
فقد وجه بالعتاب فى حديث عائشة، وخطب بذلك ذكره فى باب من
لم يواجه الناس بالعتاب؟ . فالجواب: أن هذا العتاب وإن كان
خطب به فلم يعين من أراد به، ولايقرعه من بين الناس، وكل
ما جرى هذا المجرى من عتاب يعم الكل ولايقصد به أحد بعينه
فهو رفق بمن عنى به وستر له كما أراد عمر بن الخطاب - حين
أمر الناس كلهم بالوضوء يوم الجمعة، وهو يخطب - ومن أجل
الرجل الذى أحدث بين يديه للستر له والرفق به، وليس ذلك
بمنزلة أمره له بالوضوء من بينهم وحده فى الستر له لو فعل
ذلك، وإنما فعل ذلك عليه السلام - والله أعلم - لأن كل
رخصة فى دين الله فالعباد مخيرون بين الأخذ بها والترك
لها، وكان عليه السلام رفيقًا بأمته حريصًا على التخفيف
عنهم، فلذلك خفف عنهم العتاب لأنهم فعلوا مايجوز لهم من
الأخذ بالشدة، وقد ترك عتابهم مرة أخرى على ترك الرخصة،
وأخذهم بالشدة حين
(9/286)
صاموا فى السفر وهو مفطر، وإن كان قد جاء
فى الحديث (إن دين الله يسر) . قال الشعبى: إن الله يحب أن
يعمل برخصة كما يحب أن يعمل بعزائمه. فليس ذلك دليلاً على
تحريم الأخذ بالعزائم؛ لأن ذلك لو كان حرامًا لأمر الذين
خالفوا رخصته بالرجوع من فعلهم إلى فعله. وفى حديث أبى
سعيد الحكم بالدليل؛ لأنهم كانوا يعرفون كراهية النبى
الشىء بتغير وجهه، كما كانوا يعرفون قراءءته فيما أسر فيه
فى الصلاة باضطراب لحيتة.
70 - باب: من كفر أخاه بغير
تأويل فهو كما قال
/ 111 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْن عُمَر، أَنَّ
النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ
لأخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) . /
112 - وفيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ
الإسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ
نَفْسَهُ بِشَىْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ،
وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا
بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . قال المؤلف: قوله عليه
السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء به أحدهما) يعنى:
باء بأثم رميه لأخيه بالكفر ورجع وزر ذلك عليه إن كان
كاذبًا. وقد روى هذا المعنى من حديث أبى ذر أن النبى قال:
(لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت
عليه إن لم يكن صاحبه
(9/287)
كذلك) ذكره البخارى فى باب ماينهى عنه من
السباب واللعن فى أول كتاب الأدب. قال المهلب: وهذا معنى
تبويبه من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، أن المكفر له
الذى يرجع عليه إثم التكفير؛ لأن الذى رمى به عند الرامى
صحيح الإيمان إذا لم يتأول عليه شيئا يخرجه من الإيمان
فكما هو صحيح الإيمان كصحة إيمان الرامى فقد صح أنه أراد
برميه له بالكفر كل من هو على دينه فقد كفر نفسه؛ لأنه على
دينه ومساو له فى إيمانه، فإن استحق ذلك الكفر المرمى به
استحق مثله الرامى وغيره. وقد يجيب الفقهاء من هذا بأن
يقولوا: فقد كفر بحق أخيه المسلم، وليس ذلك مما يسمى به
الجاحد بحق أخيه المسلم كافرا لأنه لا يستحق من جحد حق
أخيه فى بر أو مال. وقد روى اشهب عن مالك أنه سئل عن قوله
عليه السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما)
قال مالك: أراهم الحرورية. قيل له: أفتراهم بذلك كفارًا؟
قال: لا أدرى ما هذا. والحجة لقول مالك قوله عليه السلام:
(سباب المسلم فسوق) والفسوق غير الكفر. وقوله: (فقد باء
بها أحدهما) هو على مذهب العرب فى استعمالها الكناية فى
كلامها وترك التصريح بالشر، وهذا كقول الرجل لمن أراد أن
يكذبه: والله إن أحدنا لكاذب، وهذا كقوله تعالى: (وإنا أو
إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) . وقوله: (من حلف بمله
غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال) قد
(9/288)
تقدم معناه فى كتاب الجنائز فى باب قاتل
النفس، وفى كتاب الإيمان والنذور فى باب من حلف بمله سوى
الإسلام بما فيه فكاية لكنى كرهت أن أخلى هذا الباب من
الكلام فيه لأنى كثيرًا ماكنت أسأل المهلب عن هذا الحديث
لصعوبته فيجيبنى هنه بألفاظ وطرق مختلفة والمعنى واحد.
فقال لى: قوله: (فهو كما قال) يعنى: فهو كاذب لا كافر إلا
أنه تعمد بالكذب الذى حلف عليه التزام المللة التى حلف بها
قال عليه السلام: (فهو كما قال) من التزام اليهودية
والنصرانية وعيدًا منه عليه السلام لمن صح قصده بكذبه إلى
التزام تلك المللة فى حين كذبه فى وقت ثان، إذ كان ذلك على
سبيل المكر والخديعة للمحلوف له. يبين ذلك قوله عليه
السلام: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) فلم ينف عنه الإيمان
إلا وقت الزنا خاصة، وكذلك هذا الحالف بملة غير الإسلام؛
لقيام الدليل على أنه لم يرد نبذ الإسلام بتعليقه يمينه
بشرط المحلوف عليه، ولو أراد الارتداد لم يعلق قوله أنا
يهودى لمحلوف عليه من معانى الدنيا. ولذلك قال عليه
السلام: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)
خشية منه عليه استدامة حاله على ماقال وقتئذ فينفذ عليه
الوعيد فيحبط عمله، ويطبع على قلبه لما قال من كلمة الكفر
بعد الإيمان، فتكون كلمة وافقت قدرًا فيزين له سوء عمله
فيراه حسنًا فيستديم ما قال ويصر عليه. وأما من حلف بملة
غير الإسلام وهو فيما حلف عليه صادق فهو تصحيح براءته من
تلك الملة مثل أن يقول: أنا يهودي إن طعمت اليوم
(9/289)
أو شربت، وهو صادق لم يشرب ولم يأكل، فلما
عقد يمينه بشرط هو فى الحقيقة معدوم ماربطه به وهو الأكل
والشرب اللذان لم يقعا منه لم يتعين عليه وعيد يخشى إنفاذه
عليه، ولم يتوجه إليه إثم الملة التى حلف عليها لعقده
نبيته على نفيها كنفى شرطها لكن لا يبرأ من الملامة
لمخالفته لقوله عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله)
. قال الطبرى: وقوله عليه السلام: (لعن المؤمن كقتله) يريد
فى بعض معناه لا فى الإثم والعقوبة، ألا ترى أن من قتل
مؤمنا أن عليه القود ومن لعنه لا قود عليه؟ . واللعن فى
اللغة الإبعاد من الرحمة، وكذلك القتل إبعاد المقتول من
الحياة التى يجب بها نصره المؤمنين وعون بعضهم لبعض وقد
قال عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)
وكذلك قوله: (من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) لما أجمع
المسلمون أنه لا قتل عليه فى رميه له بالكفر، علم أن
التشبيه إنما وقع بينهما فى معنى يجمعهما وهو ماقلناه أن
اللعن الإبعاد من الرحمة كما أن القتل إبعاد من الحياة
وإعدام منها، وقد بعض العلماء: إن معنى قوله: (لعن المؤمن
كقتله) يريد فى تحريم ذلك عليه وقد ذكرته فى كتاب الإيمان
والنذور.
71 - باب: من لم ير إكفار من
قال ذلك متأولا أو جاهلا
وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَقَالَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا يُدْرِيكَ،
لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ،
فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) .
(9/290)
/ 113 - فيه: جَابِر، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ
جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّى مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
، ثُمَّ يَأْتِى قَوْمَهُ، فَيُصَلِّى بِهِمُ الصَّلاةَ،
فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ،
فَصَلَّى صَلاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذً
فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ،
فَأَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا،
وَنَسْقِى بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا
الْبَارِحَةَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ،
فَزَعَمَ أَنِّى مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ، ثَلاثًا؟
اقْرَأْ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) [الشمس: 1] ) وَسَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) [الأعلى: 1] وَنَحْوَهَا) . / 114
- وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِى
حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ
إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ،
أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) . / 115 - وفيه: ابْن
عُمَر، أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِى
رَكْبٍ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا إِنَّ اللَّهَ
يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ
حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، وَإِلا فَلْيَصْمُتْ) .
قال المهلب: معنى هذا الباب أن المتأول معذور غير مأثوم،
ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لحاطب لما كاتب المشركين
بخبر النبى إنه منافق، فعذر النبى عليه السلام عمر لما
نسبه إلى النفاق، وهوأسوأ الكفر، ولم يكفر عمر بذلك من أجل
ما جناه حاطب، وكذلك عذرا عليه السلام معاذ حين قال للذى
خفف الصلاة وقعطها خلفه إنه منافق؛ لأنه كان متأولا فلم
يكفر معاذ بذلك. ومثل ذلك قوله عليه السلام حين سمع عمر
يحلف بأبيه: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباكم) فلم ير
النبى إكفار عمر حين حلف بأبيه وترك الحلف بربه الذى خلقه
ورزقه وهداه، وقصده اليمين بغير الله تشريك لله فى حقه
لاسيما على طراوة عباده غير الله، فلما لم يعرفه
(9/291)
عليه السلام بأن يمينه بأبيه ليس بكفر من
أجل تأويله أن له أن يحلف بأبيه للحق الذى له بالأبوة، عذر
عمر فى ذلك لجهالته أن الله لا يريد أن يشرك معه غيره فى
الإيمان؛ إذ لا يحلف الحالف إلا بأعظم ماعنده من الحقوق،
ولا أعظم من حق الله على عباده هذا وجه حديث عمر فى هذا
الباب. قال المؤلف: وكذلك عذر عليه السلام من حلف من
أصحابه باللات والعزى لقرب عهدهم يجرى ذلك على ألسنتهم فى
الجاهلية، وروى عن سعد بن أبى وقاص (أنه حلف بذلك فأتى
النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، إن العهد كان قريبًا
فحلفت باللات والعزى، فقال النبى عليه السلام قل: لا إله
إلا الله) وقد تقدم بيان هذا فى باب لا يحلف باللات والعزى
فى كتاب الأيمان والنذور، فتأمله هناك. وليس فى قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله
إلا الله) إطلاق منه لهم على الحلف بذلك وكفارته بقول: لا
إله إلا الله، فإنه علمهم عليه السلام أنه من نسى أو جهل
فحلف بذلك أن كفارته أن يشهد بشهادة التوحيد؛ لأنه قد تقدم
إليهم عليه السلام بالنهى عن أن يحلف أحد بغير الله، فعذر
الناسى والجاهل، ولذلك سوى البخارى فى ترجمته الجاهل مع
المتأول فى سقوط الحرج عنه؛ لأن حديث أبى هريرة فى الجاهل
والناسى، والله أعلم.
(9/292)
72 - باب: ما يجوز
من الغضب والشدة فى أمر الله
وقال تعالى: (جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم (/ 116 -
فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَى النَّبِى عليه السلام وَفِى
الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ،
ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ: قَالَ
رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ
يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ) . / 117 - وفيه: أَبُو
مَسْعُودٍ، أَتَى رَجُلٌ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَ: إِنِّى لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ
أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَطُّ أَشَدَّ
غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ:
فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ
مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ،
فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ
وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ) . / 118 - وفيه: ابْن
عُمَر، بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى
رَأَى فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا
بِيَدِهِ، فَتَغَيَّظَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ
إِذَا كَانَ فِى الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ
وَجْهِهِ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِى
الصَّلاةِ) . / 119 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ
رَجُلا سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ
اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً. . . .) ، إلى
قوله: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ عليه
السلام حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ. / 120 - وفيه:
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً، أَوْ حَصِيرًا،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام يُصَلِّى فِيهَا،
فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ
بِصَلاتِهِ، ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً، فَحَضَرُوا
وَأَبْطَأَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ،
فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا. . . . الحديث. قال المؤلف: الغضب
والشدة فى أمر الله وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهى عن
المنكر، وأجمعت الأمة على أن ذلك فرض
(9/293)
على الأئمة والأمراء أن يقوموا به ويأخذوا
على أيدى الظالمين وينصفوا المظلومين ويحفظوا أمور الشريعة
حتى لا تغير ولاتبديل، ألا ترى أن النبى عليه السلام غضب
وتلون وجهه لما رأى التصاوير فى القرام وهتكه، وقال: (إن
أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) وكذلك غضب من أجل
تطويل الرجل فى صلاته بالناس ونهى عن ذلك، وتغيظ حين رأى
النخامة فى القبلة فحكمها بيده ونهى عنها، وكذلك غضب حتى
احمر وجهه حين سئل عن ضالة الإبل وقال: (ما لم ولها. . .)
الحديث، وغضب عليه السلام على الذين صلوا فى مسجده بصلاته
بغير إذنه ولم يخرج إليهم، ففيه من الفقه جواز الغضب
للإمام والعالم فى التعليم والموعظة إذا رأى منكرًا يجب
تغييره. وقال مالك: الأمر بالمعروف واجب على جماعة
المؤمنين من الأئمة والسلاطين وعامة المؤمنين لا يسعهم
التخلف عنه، غير أن بعض الناس يحمله عن بعض بمنزلة الجهاد.
واحتج فى ذلك بعض العلماء فقال: كل شىء وجب على الانسان
فعله من الفرائض والسنن للازمة، وكل شىء وجب عليه تركه من
المحارم التى نهى الله عنها ورسوله فإنه واجب عليه فى
القياس أن يأمر بذلك من ضيع شيئًا منه، وينهى كل من أتى
شيئًا من المحرمات التى وجب عليه تركها. وقال بعض العلماء:
الأمر بالمعروف منه فرض ومنه نافلة، فكل شىء وجب عليه
العمل به وجب عليه الأمر به كالمحافظة على الوضوء وتمام
الركوع والسجود وإخراج الزكاة وماأشبه ذلك، وماكان نافلة
لك فإن أمرك به نافلة وأنت غير آثم فى ترك الأمر به إلا
عند السؤال عنه لواجب النصيحة التى هى فرض على جميع
المؤمنين، وهذا كله عند جمهور العلماء ما لم تخف على نفسك
الأذى، فإن خفت
(9/294)
وجب عليك تغيير المنكر وإنكاره بقلبك وهو
أضعف الإيمان؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وقوله:
(حجيرة مخصفة) يعنى ثوبًا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى
المسجد واستتر وراءه، والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا:
أطبقتها فى الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفس
ثوابا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى المسجد واستتر وراءه،
والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا: أطبقتها فى الخرز بالمخصف،
وهو الإشفاء، وخصفت على نفسى ثوابًا: جمعت بين طرفيه بعود
أو خيط، وفى التنزيل: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)
عن صاحب الفعال.
73 - باب: الحذر من الغضب
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37] وَقَوْلِهِ: (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران: 134] . / 121 -
فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا
الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) .
/ 122 - وفيه: سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ
عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ
جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ
احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
: (إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ
عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ، أَلا
تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟
قَالَ: إِنِّى لَسْتُ بِمَجْنُونٍ.
(9/295)
/ 123 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ
رَجُلا قَالَ لِلنَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : أَوْصِنِى،
قَالَ: (لا تَغْضَبْ) ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لا
تَغْضَبْ) . قال المؤلف: مدح الله تعالى الذين يغفرون عند
الغضب وأثنى عليهم، وأخبر أن ماعنده خير وأبقى لهم من متاع
الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين
عن الناس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم فى ذلك، وقد روى معاذ
بن جبل عن النبى عليه السلام أنه قال: (من كظم غيظًا وهو
قادر على أن ينفذه دهاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة
حتى يخبره فى أى الحور شاء) . وقال عليه السلام: (ليس
الشديد بالصرعة) والصرعة: الذى يصرع الناس ويكثر منه ذلك،
كما يقال للكثير النوم نومه، وللكثير الحفظ حفظه، فأراد
عليه السلام أن الذى يقوى على ملك نفسه عند الغضب ويردها
عنه هو القوى الشديد والنهاية فى الشدة لغلبته هواه المردى
الذى زينه له الشيطان المغوى، فدل هذا أن مجاهدة النفس أشد
من مجاهدة العدو؛ لأن النبى عليه السلام جعل للذى يمكل
نفسه عند الغضب من القوة والشدة ماليس للذى يغلب الناس
ويصرعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصرى حين سئل أى
الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك نفسك وهواك. وفى حديث سليمان بن
صرد أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تذهب الغضب،
وذلك أن الشيطان هو الذى يزين للإنسان الغضب
(9/296)
وكل ما لا تحمده عاقبته ليرديه ويغويه
ويبعده من رضا الله تعالى فالاستاذة بالله تعالى منه من
أقوى السلاح على دفع كيده، وذكر أيضًا أبو داود فى حديث
أبى ذر عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا غضب أحدكم وهو
قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب ولا فليضطجع) . وذكر أيضًا
من حديث عطية عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن الغضب من
الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار
بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) . وقال أبو الدرداء: أقرب
مايكون العبد من غضب الله تعالى إذا غضب، وفى بعض الكتب
قال الله تعالى: ابن آدم اذكرنى إذا غضبت أذكرك إذا غضبت.
وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم.
74 - باب: الحياء
/ 124 - فيه: عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، قَالَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) : (الْحَيَاءُ لا يَأْتِى إِلا
بِخَيْرٍ) . فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِى
الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ
مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ:
أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
وَتُحَدِّثُنِى عَنْ صَحِيفَتِكَ. / 125 - وفيه: ابْن
عُمَر، مَرَّ النَّبِى عليه السلام عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ
يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ
لَتَسْتَحْيِى حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ
بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :
(دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ) .
(9/297)
/ 126 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، كَانَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ
الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا. وقوله عليه السلام: (الحياء
لا يأتى إلا بخير) معناه أن من استحيا من الناس أن يروه
يأتى الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون
أشد حياء من ربه وخالقه، ومن استحيا من ربه فإن حياءه زاجر
له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأن كل ذى فطرة صحيحة
يعلم أن الله تعالى النافع له والضار والرزاق والمحى
والمميت، فإذا علم ذلك فينبغى له أن يستحى منه عز وجل، وهو
قوله عليه السلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان) معناه أن
الحياء من أسباب الإيمان وأخلاق أهله. وذلك أنه لما كان
الحياء يمنع من الفواحش، ويحمل على الصبر والخير كما يمنع
الإيمان صاحبه من الفجور، ويقيده عن المعاصى ويحمله على
الطاعة صار كالإيمان لمساواته له فى ذلك، وإن كان الحياء
غريزة والإيمان فعل المؤمن فاشتبها من هذه الجهة، وقد تقدم
فى كتاب الإيمان. وإنما غضب عمران بن حصين؛ لأن بشير كعب
حدثه عن صحيفته فيما كان حدثه به عمران عن النبى عليه
السلام فهذا أصل أن الحجة إنما هى فى سنة رسول الله لا
فيما يروى عن كتب الحكمة؛ لأنه لا يدرى مافى حقيقتها، وقد
روى فى هذا الحديث عمران أن بشير بن كعب قال له: إن من
الحياء ضعفًا، وعى هذه اللفظة يكون غضب عمران أوكد لمخالفة
لقوله عليه السلام:
(9/298)
(الحياء لا يأتى إلا بخير) ولقوله للذى كان
يقول صاحبه إنك تستحى حتى أضر بك الحياء: (دعه فإن الحياء
من الإيمان) فدلت هذه الآثار أن الحياء ليس بضار فى حالة
من الأحوال ولا بمذموم.
75 - باب: إذا لم تستحى فاصنع
ما شئت
/ 127 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ
كَلامِ النُّبُوَّةِ الأولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْىِ
فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) . قال الخطابى: قوله: (إن مما أدرك
الناس من كلام النبوة) يريد أن الحياء لم يزل مستحسنًا فى
شرائع الأنبياء الأولين، وأنه لم ينسخ فى جملة مانسخ من
شرائعهم. قال المؤلف: قوله: (فاصنع ما شئت) فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خرج بلفظ الأمر على معنى الوعيد والتهدد
لمن ترك الحياء كما قال تعالى: (اعملوا ما شئتم) ولم
يطلقهم تعالى على الكفر وفعل المعاصى، بل توعدهم بهذا
اللفظ؛ لأنه تعالى قد بين لهم مايأتون ومايتركون، وكقوله:
(من باع الخمر فليشقص الخنازير) فلم يكن فى هذا إباحة
تشقيص الخنازير، إذا الخمر محرم شربها محظور بيعها. والوجه
الثانى: أن يكون معناه: اصنع ماشئت من أمر لا تستحى منه
تفعله، والتأويل الأول أولى وهو الشائع فى لسان العرب، ولم
يقل أحد فى تأويل الآية المذكورة غيره.
(9/299)
76 - باب ما لا
يستحيا منه من الحق للتفقه فى الدين
/ 128 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنّ أُمُّ سُلَيْمٍ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِى
مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا
احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ) .
/ 129 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أنّ النَّبِى عليه السلام
قَالَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، لا
يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَلا يَتَحَاتُّ) ، فَأَرَدْتُ أَنْ
أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ، وَأَنَا غُلامٌ شَابٌّ،
فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: (هِىَ النَّخْلَةُ) ، فَقَالَ
عُمَر: لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا لَكَانَ أَحَبَّ إِلَىَّ
مِنْ كَذَا وَكَذَا. / 130 - وفيه: أَنَس، جَاءَتِ
امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِى عليه السلام تَعْرِضُ عَلَيْهِ
نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِىَّ؟ فَقَالَتِ
ابْنَتُهُ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، فَقَالَ: هِىَ خَيْرٌ
مِنْكِ، عَرَضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام
نَفْسَهَا. قولها: (إن الله لا يستحى من الحق) يدل على أنه
لا يجوز الحياء عن السؤال فى أمر الدين، وجميع الحقائق
التى تعبد الله عباده بها، وأن الحياء فى ذلك مذموم. وفى
حديث ابن عمر أن الحياء مكروه لمن علم علمًا فلم يخبر به
بحضرة من هو فوقه إذا سئل عنه، ألا ترى حرص عمر على أن
يقول ابنه أنها النخلة، وقد تقدم فى كتاب العلم. وقول
النبى عليه السلام: فى المرأة التى عرضت نفسها عليه لابنته
(هى خير منك) حجة فى أن لا يستحيا فيما يحتاج إليه. وقوله:
(لا يتحات) أى لا يسقط من احتكاك بعضهم ببعض، تقول العرب:
حت الورق والطين اليابس من الثوب حتاّ: فركه ونقضه.
(9/300)
77 - باب قول النبي
(صلى الله عليه وسلم) : (يسروا ولا تعسروا
وكأن يحب التخفيف واليسر على الناس / 131 - فيه: أَنَس،
قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (يَسِّرُوا وَلا
تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا، وَلا تُنَفِّرُوا) . / 132 -
وفيه: أَبُو مُوسى، لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِىّ عليه السلام
وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: (يَسِّرَا وَلا
تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. .
. .) الحديث. / 133 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا خُيِّرَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ
قَطُّ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ
إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ
مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام
لِنَفْسِهِ فِى شَىْءٍ قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ
حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا. / 134 -
وفيه: الأزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا عَلَى شَاطِئِ
نَهَرٍ بِالأهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَجَاءَ
أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِى عَلَى فَرَسٍ، فَصَلَّى
وَخَلَّى فَرَسَهُ، فَانْطَلَقَتِ الْفَرَسُ، فَخَلَّى
صَلاتَهُ، وَتَبِعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا
ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلاتَهُ، وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ
رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا
الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ،
فَأَقْبَلَ فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِى أَحَدٌ مُنْذُ
فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ:
إِنَّ مَنْزِلِى مُتَرَاخٍ، فَلَوْ صَلَّيْتُ
وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِى إِلَى اللَّيْلِ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
فَرَأَى مِنْ تَيْسِيرِهِ. / 135 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ،
فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ؟ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعُوهُ،
وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ
سَجْلا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ،
وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) .
(9/301)
قد تقدمت هذه الأحاديث بأمر النبي عليه
السلام بتيسر فى كتاب الحدود، وفى كتاب الأحكام. قال
الطبرى: ومعنى قوله: (يسروا ولا تعسروا) فيما كان من نوافل
الخير دون ماكان فرضا من الله، وفيما خفف الله عمله من
فرائضه فى حال العذر كالصلاة قاعدًا فى حال العجز عن
القيام، وكالإفطار فى رمضان فى السفر والمرض وشبه ذلك فيما
رخص الله فيه لعباده وأمر بالتيسير فى النوافل والإتيان
بما لم يكن شاقًا ولافادحًا خشية الملل لها ورفها، وذلك أن
أفضل العمل إلى الله أدومه وإن قل، وقال عليه السلام لبعض
أصحابه: (لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه) . قال غير
الطبرى: ومن تيسره عليه السلام أنه لم يعنف البائل فى
المسجد ورفق به، ومن ذلك أبى برزة لصلاته فرسه، وأنه رأى
من تيسير النبى ماحمله على ذلك، وجماعة الفقهاء يرون أن من
كان فى صلاة فانلتت دابته أنه يقطع صلاته ويتبعها؛ لأن
الصلاة تدرك إعادتها وميسر دابته قاطع له. وقد تقدم فى
الصلاة. قال الطبرى: وفى أمره عليه السلام بالتيسير فى ذلك
معان أحدهما: الأمان من الملال. والثانية: الأمان من
مخالصة العجب قلب صاحبه حتى يرى كأن له فضلاً على من قصر
عن مثل فعله فيهلك، ولهذا قال عليه السلام: (هلك
المتنطعون) وبلغ النبى أن قومًا أرادوا أن يختصوا وحرموا
الطيبات واللحم على أنفسهم فقام النبى عليه السلام وأوعد
في
(9/302)
ذلك أشد الوعيد، وقال: (لم أبعث بالرهبانية
وإن خير الدين عند الله الحنفية السمحة، وإن أهل الكتاب
هلكوا بالتشديد شدوا فشدد عليهم) . وفى هذا من الفقه أن
أمور الدنيا نظير ذلك فى أن الغلو وتجاوز القصد فيها
مذموم، وبذلك نزل القرآن قال تعالى: (والذين أنفقوا لم
يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) فحمد الله فى
نفقاتهم ترك الإسراف والإقتار وقال: (وآت ذا القربى حقه
والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرًا) الآية، فأمر تعالى
بترك التبذير فى سبله التى ترجى بها الزلفة لربه، فالواجب
على كل ذى لب أن تكون أموره كلها قصدًا فى عبادة ربه كان
أو فى أمر دنياه، فى عداوة كان أو محبة، فى أكل أو شرب أو
لباس أو عرى، وبكل هذا ورد الخبر عن السلف أنهم كانوا
يفعلون. وأما اجتهاده عليه السلام فى عبادة ربه؛ فإن الله
كان خصهّ من القوة بما لم يخص به غيره، فكان مافعل من ذلك
سهلا عليه على أنه عليه السلام لم يكن يحى ليله كله قيامًا
ولا شهرًا كله صيامًا غير رمضان. وقد قيل: إنه كان يصوم
شعبان كله فيصله برمضان، فأما سائر شهور السنة فإنه كان
يصوم بعضه ويفطر بعضه، ويقوم بعض الليل وينام بعضه، وكان
إذا عمل عملا داوم عليه، فأحق من اقتدى به رسول الله الذى
اصطفاه الله لرسالته وانتخبه لوحيه.
(9/303)
78 - باب: الانبساط
إلى الناس
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لا
تَكْلِمَنَّهُ وَالدُّعَابَةِ مَعَ الأهْلِ. / 136 - فيه:
أَنَس، إِنْ كَانَ النَّبِى عليه السلام لَيُخَالِطُنَا،
حَتَّى يَقُولَ لأخٍ لِى صَغِيرٍ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ،
مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) . / 137 - وفيه: عَائِشَةَ،
قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِىِّ،
عليه السَّلام، وَكَانَ لِى صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِى -
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إِذَا دَخَلَ
يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ
فَيَلْعَبْنَ مَعِى. قال المؤلف: كان النبى عليه السلام
أحسن الأمة أخلاقًا وابسطهم وجهًا، وقد وصف الله ذلك
بقوله: (إنك لعلى خلق عظيم) فكان ينبسط إلى النساء
والصبيان ويمازحهم ويداعبهم، وروى عنه أنه قال: (إنى لأمزح
ولا أقول إلا حقًا) وكان يسرح إلى عائشة صواحباتها ليلعبن
معها، فينبغى للمؤمنين الاقتداء بحسن أخلاقه وطلاقة وجهه
(صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو عبيد: قوله: (يتقمعن)
يعنى دخل البيت وتغيبن، يقال للإنسان قد انقمع وقمع إذا
دخل فى الشىء أو دخل فى بعضه بعض. وقال الصمعى: فيه سمى
القمع الذى يصب فيه الدهن وغيره؛ لأنه يدخل فى الإناء.
والذى يراد من الحديث: الرخصة فى اللعب التى تلعب بها
الجوارى وهى البنات فجاءت فيها الرخصة وهى تماثيل، وليس
وجه ذلك عندنا إلا من أجل أنها لهو الصبيان ولو كان فى
الكبار لكان مكروهًا كما جاء النهى فى التماثيل كلها وفى
الملاهي.
(9/304)
وقال غيره: (كنت العب) : منسوخ بنهى النبى
عليه السلام عن الصور؛ لأن كل من رخص فى الصور فيما كان
رقمًا أو فى تصوير الشجر ومالاروح له، كلهم قد أجمعوا أنه
لا يجوز تصوير ماله روح. وذكر ابن أبى زيد أنه كره أن
يشترى الرجل لأبنته الصور.
79 - باب: المدارة مع الناس
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ
فِى وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا
لَتَلْعَنُهُمْ. / 138 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهُ
اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى عليه السلام رَجُلٌ، فَقَالَ:
(ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ
بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ) فَلَمَّا دَخَلَ، أَلانَ لَهُ
الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا
قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِى الْقَوْلِ، فَقَالَ:
(أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ
اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ - أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ -
اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) . / 139 - وفيه: الْمِسْوَرِ
أُهْدِيَتْ إلى النَّبِى عليه السلام أَقْبِيَةٌ مِنْ
دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا
لِمَخْرَمَةَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: (قَدْ خَبَأْتُ
هَذَا لَكَ) ، قَالَ أَيُّوبُ: بِثَوْبِهِ، وَأَنَّهُ
يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شَىْءٌ. قال
المؤلف: المدارة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس،
ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم فى القول وذلك من اقوى أسباب
الألفة وسل السخيمة. وقد روى عن النبى عليه السلام أنه
قال: (مدارة الناس صدقة) .
(9/305)
وقال بعض العلماء: وقد ظن من لم ينعم النظر
أن المدارة هى المداهنة، وذلك غلط، لأن المدارة مندوب
اليها والمداهنة محرمة، والفرق بينهما بين، وذلك أن
المادهنة اشتق اسمها من الدهان الذى يظهر على ظواهر الشياء
ويستر بواطنها، وفسرها العلماء فقالوا: المداهنة هى أن
يلقى الفاسق المظر فيؤالفه ويؤاكله، ويشاربه، ويى أفعاله
المنكرة ويريه الرضا بها ولاينكرها عليه ولو بقلبه وهو
اضعف الإيمان، فهذه المداهنة التى برأ الله عز وجل منها
نبيه عليه السلام بقوله: (ودوا لوتدهن فيدهنون) . والمدارة
هى الرفق بالجاهل الذى يستتر بالمعاصى ولايجاهر بالكبائر،
والمعاطفة فى رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف حتى
يرجعوا عما هم عليه. فإن قال قائل: فأين أنت فى قولك هذا
من فعل النبى عليه السلام حين دخل عليه المنافق فقال عند
دخوله: (بئس ابن العشيرة) ثم حدثه وأثنى عليه شرًا عند
خروجه؟ . قيل له: إن رسول الله كان مأمورًا بأن لا يحكم
على أحد إلا بما ظهر منه للناس لا بما يعلمه دون غيره،
وكان المنافقون لا يظهرون له إلا التصديق والطاعة، فكان
الواجب عليه أن لا يعاملهم إلا بمثل ما أظهروا له، إذ لو
حكم بعلمه فى شىء من الأشياء لكانت سنة كل حاكم أن يحكم
بما أطلع عليه فيكون شاهدًا وحاكمًا، والأمة مجمعة أنه لا
يجوز ذلك، وقد قال عليه السلام فى المنافقين: (أولئك الذى
نهانى الله عن قتلهم) .
(9/306)
والداخل على النبي - عليه السلام - إنما
كان يظهر فى ظاهر لفظه الإيمان، فقال فيه النبى قبل وصوله
إليه وبعد خروجه ماعلمه منه دون أن يظهر له فى وجهه؛ إذ لو
أظهره صار حكمًا، وأفاد كلامه بما علمه منه إعلام عائشة
بحاله، ولو أنه كان من أهل الشرك ورجا رسول الله إيمانه
واستئلافه هو وقومه وإنابتهم إلى الإسلام لم يكن هذا
ماهنة؛ لأنه ليس عليه حكم إلا منة الدعاء أى الإسلام لا من
وجهة الإنكار والمقاطعة كما فعل عليه السلام مع المشرك
رجاء منه وابن أم مكتوم يساله أن يدنيه ويعلمه، فأقبل على
المشرك رجاء أن يدخل فى افسلام وتولى عن ابن أم مكتوم،
فعاتبه الله فى ذلك، فبان أنه من رسول الله إنصاف أن يظهر
لإنسان مايظهر له مما يظهره للناس أجمعين من أحواله مما لا
يعلمون منه غيره كما فعل الرسول بابن العشيرة.
80 - باب: لا يلدغ المؤمن من
حجر مرتين
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا حَكِيمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ. /
140 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ
وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) . قال أبو عبيد: تأويل هذا الحديث
عننا أنه ينبغى للمؤمن إذا نكب من وجه أن لا يعود لمثله.
وترجم له فى كتاب الأمثال باب المحاذرة للرجل من الشىء قد
ابتلى بمثله مرة. وفيه: أدب شريف، أدب به النبى أمته
ونبههم كيف يحذرون ما يخافون سوء عاقبته، وهذا الكلام مما
لم يسبق إليه النبي
(9/307)
- عليه السلام - وقاله لأبي عزة الشاعر،
وكان أسر يوم بدر فسأل النبى عليه السلام أن يمن عليه وذكر
فقرًا، فمن عليه النبى وأخذ عليه عهدًا أن لا يخصص عليه
ولايهجوه، ففعل ثم رجع إلى مكة فاستهواه صفوان بن أمية
وضمن له القيام بعياله، فخرج مع قريش وحضض على النبى -
عليه السالم - فأسر، فسأل النبى أن يمن عليه فقال: (لا
يلدغ المؤمن من حجر مرتين لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت
من محمد مرتين ثم أمر به فقتل) . وقول معاوية: لا حلم إلا
لذى تجربة. يريد أن من جرب الأمور وعرف عواقبها ومايئول
إليه أمر من ترك الحلم وركب السفه والسباب من سوء الانتصار
منه؛ آثر الحلم وصبر على قليل من الأذى ليدفع به ماهو أكثر
منه. وقال الخطابى: معنى قوله: (لا حلم إلا لذى تجربة) أن
المرء لا يوصف بالحلم ولا يترقى إلى درجته حتى يركب الأمور
ويجربها فيعثر مرة بعد أخرى فيعتبر ويتبين مواضع الخطأ
ويجتنبها. وقال ضمرة: الحلم أنفع من العقل؛ لأن الله تسمى
به.
81 - باب: حق الضيف
/ 141 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنّ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا. . .) ، الحديث. وقد ذكرته فى كتاب الصوم.
(9/308)
82 - باب: إكرام
الضيف وخدمته إياه بنفسه وقوله تعالى: (ضيف إبراهيم
المكرمين (
/ 142 - فيه: أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِىِّ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،
جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ
أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ،
وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِىَ عِنْدَهُ حَتَّى
يُحْرِجَهُ) . / 143 - وفيه: عُقْبَة، قُلْنَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ
بِقَوْم، ٍ لاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ نَزَلْتُمْ
بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ
فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ
حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُ) . سئل مالك عن
جائزته يوم وليلة، فقال: تكرمه وتتحفه يومًا وليلة، وثلاثة
أيام ضيافة. قسم رسول الله عليه السلام أمره إلى ثلاث
اقسام: إذا نزل به الضيف أتحفه فى اليوم الأول، وتكلف له
على قدر وجه، فإذا كان اليوم الثانى قدم إليه مابحضرته،
فذا جاوز هذه الثلاثة كان مخيرًا بين أن يستمر على وتيرته
أو يمسك، وجعله كالصدقة النافلة. وقوله: (لا يثوى عنه) لا
يقيم، والثواء: الإقامة بالمكان، يعنى لا يقيم عنده بعد
الثلاث حتى يضيق صدره، وأصل الحرج الضيق، وإنما كره له
المقام عنده بعد الثلاثة لئلا يضيق صدره بمقامه فتكون
الصدقة منه على وجه المنّ والأذى فيبطل أجره قال الله
تعالى: (لا تبطلوا صداقتكم بالمن والأذى (.
(9/309)
وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليكرم ضيفه) يعنى من كان إيمانه بالله واليوم الآخر
إيمانًا كاملا فينبغى أن تكون هذه حالة وصفته فالضيافة من
سنن المرسلين. واختلف العلماء فى وجوب الضيافة، فأوجبها
الليث بن سعد فرضًا ليلة واحدة، وأجاز للعبد المأذون له أن
يضيف مما بيده، واحتج بحديث عقبة بن عامر. وقال جماعة من
أهل العلم: الضيافة من مكارم الأخلاق فى بادية وحاضرة وهو
قول الشافعى. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. وقال
سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق
ينزل فيه المسافر. واحتج الليث بقوله تعالى: (لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أنها نزلت فيمن منع
الضيافة فأبيح للضيف لوم من لم يحسن ضيافته، وذكر قبيح
فعله، وروى ذلك عن مجاهد وغيره. فيقال لهم: إن الحقوق لا
ينتصف منها بالقول، وإنما ينتصف منها بالأداء والإبراء،
فلو كانت الضيافة واجبة لوجب عليهم الخروج إلى القوم مما
يلزم من ضيافتهم. وفى قوله عليه السلام: (جائزته يوم
وليلة) دليل أن الضيافة ليست بفريضة، والجائزة فى لسان
العرب: النحلة والعطية، وذلك تفضل وليس بواجب.
(9/310)
وأما حديث عقبة بن عامر فتأويله عند جمهور
العلماء أنه كان فى أول الإسلام حين كانت المواساة واجبة،
فأما إذا أتى الله بالخير والسعة فالضيافة مندوب إليها.
83 - باب: صنع الطعام والتكلف
للضيف
/ 144 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِى عليه
السلام بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ
سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ
مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ:
أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى
الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ
طَعَامًا، فَقَال: َ كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ قَالَ: مَا
أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ
اللَّيْلُ، ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ:
نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ ليَقُومُ فَقَالَ: نَمْ،
فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ
الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا. . . . الحديث. قال المؤلف:
التكلف للضيف لمن قدر على ذلك من سنن المرسلين وآداب
النبيين، ألا ترى أن إبراهيم الخليل ذبح لضيفه عجلا
سمينًا. قال أهل التأويل: كانوا ثلاثة أنفس: جبريل
وميكائيل وإسرافيل فتكلف لهم ذبح عجل وقربه إليهم. وقول
نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (جائزته يوم وليلة) يقتضى
معنى التكلف له يومًا وليلة لمن وجد، ومن لم يكن من أهل
الوجود واليسار فليقدم لضيفه ماتيسر عنده ولايتكلف له
مالايقدر عليه، وقد ورد بذلك الخبر عن النبى - عليه
السلام.
(9/311)
ذكر الطبرى قال: حدثنا محمد بن خالد، عن
خراش، حدثنا سلم بن قتيبة، عن قيس بن الربيع، عن عثمان بن
شابور عن شقيق بن سلمه قال: (دخلت على سلمان فقرب إلى خبز
شعير وملحًا، وقال: لولا أن رسول الله عليه السلام نهى أن
تكلف أحدنا ماليس عنه تكلفت لك) . فدل بهذا الحديث أن
المرء إذا أضافه ضيف أن الحق عليه أن يأتيه من الطعام بما
حضره، وأن لا يتكلف له بما ليس عنده، وإن كان ما حضره من
ذلك دون مايراه للضيف أهلا؛ لأن فى تكلفة ماليس عنه معان
مكروهة. منها: حبس الضيف عن القرى ولعله أن يكون جائعًا
فيضر به. ومنها: أن يكون مستعهجلاً فى سفره فيقطعه عنه
بحبسه إياه عن إحضاره ماحضره من الطعام إلى إصلاح ما لم
يحضر. ومنها: احتقاره ما عظم الله قدره من الطعام. ومنها:
خلافه أمر رسول الله وإتيانه ماقد نهى عنه من التكلف. وروى
عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: (دخل
على جابر بن عبد الله نفر من أصحاب النبى عليه السلام فقرب
إليهم خبزًا ثم قال: كلوا فإنى سمعت رسول الله يقول: نعم
الإدام الخل، هلاك بالرجل أن يدخل إليه الرجل من إخوانه
فيحقر ما فى بيته أن يقدمه إليه، وهلاك بالقوم أن يحتقروا
ما قدم إليه) . وقال سفيان الثورى: قال ابن سيرين: لا تكرم
أخاك بما يشق
(9/312)
عليه وفسره الثوري فقال: أئته بحاضر ماعندك
ولاتحبسه فعسى أن يشق ذلك عليه. وفى حديث أبى جحيفة زيارة
الرجل الصالح صديقه الملاطف ودخوله داره فى غيبته وجلوسه
مع أهله. وفيه: شكوى المرأة زوجها إلى صديقه الملاطف ليأخذ
على يده ويرده عما يضر بأهله. وفيه: أنه لا بأس أن يأكل
الضيف حتى يأكل رب الدار معه. وفيه: أنه لا بأس أن يفطر رب
الدار لضيفه فى صيام التطوع. وفيه: كراهية التشدد فى
العبادة والغلو فيها خشية مايخاف من عاقبة ذلك، وأن الأفضل
فى العبادة القصد والتوسط فهو أحرى بالدوام، ألا ترى قول
النبى (صلى الله عليه وسلم) : (صدق سلمان) . وفيه: أن
الصلاة آخر الليل أفضل؛ لأنه وقت تنزل الله إلى سماء
الدنيا فيستجيب الدعاء.
84 - باب ما يكره من الغضب
والجزع عند الضيف
/ 145 - فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ
أَبَاه تَضَيَّفَ رَهْطًا، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ:
دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) ، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ، قَبْلَ
أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَاهُمْ
بِمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا، فَقَالُوا: أَيْنَ
رَبُّ مَنْزِلِنَا قَالَ اطْعَمُوا، قَالُوا: مَا نَحْنُ
(9/313)
بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ
مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ،
فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ
مِنْهُ، فَأَبَوْا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَىَّ،
فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا
صَنَعْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا
عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا
عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ،
أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِى لَمَّا
جِئْتَ، فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ،
فَقَالُوا: صَدَقَ، أَتَانَا بِهِ، قَالَ: فَإِنَّمَا
انْتَظَرْتُمُونِى، وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ،
فَقَالَ الآخَرُونَ: وَاللَّهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى
تَطْعَمَهُ، قَالَ: لَمْ أَرَ فِى الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ،
وَيْلَكُمْ، مَا أَنْتُمْ؟ لِمَ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا
قِرَاكُمْ، هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ،
فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، الأولَى لِلشَّيْطَانِ،
فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. قال المؤلف: فقه هذا الحديث أنه
ينبغى استعمال أحسن الأخلاق للضيف وترك الضجر لكى تنبسط
نفسه، ولا تنقبض وتسقط المؤنة والرقبة خشية أن يظن أن
الضجر والغضب من أجله، فلذلك من أدب الإسلام ومايثبت
المودة، الا ترى أن الصديق لما رأى إبائة أضيافه من الأكل
حتى يأكل معهمآثر الأكل معهم وحنت نفسه، وإنما حمله على
الحلف - والله أعلم - أنه استنقص ابنه وأهله فى القيام ببر
أضيافه، واشتد عليه تأخير عشائهم إلى ذلك الوقت من الليل،
فلحقه ما يلحق البشر من الغضب، ثم لم يسعه مخالفة أضيافه
لما أبوا من الأكل دونه، فرأى أن من تمام برهم إسعاف
رغبتهم وترك التمادى فى الغضب، وأخذ فى ذلك بقوله عليه
السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن
يمينه، وليأت الذى هو خير) ، وكان مذهبه اختيار الكفارة
بعد الحنث. وقوله: (بسم الله الأولى للشيطان) : يعنى
اللقمة الأولى إخزاء
(9/314)
للشيطان؛ لأنه هو الذى حمله على الحلف وسول
له أن لا يأكل مع أضيافه، وباللقمة الأولى وقع الحنث وبها
وجبت الكفارة. وقد تقدم تفسيره قوله: (يا عنثر) فى كتاب
الصلاة فى الجزء الثانى فى باب السمر مع الضيف، وسيأتى
بعد.
85 - باب قول الضيف لصاحبه: لا
آكل حتى تأكل
فيه: أبو جحيفة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) / 143 -
وفيه: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ، مثل حديث
الباب قبل هذا، وزاد فيه: فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ
لُقْمَةً إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا،
فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ:
وَقُرَّةِ عَيْنِى إِنَّهَا الآنَ لأكْثَرُ قَبْلَ أَنْ
يَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا. قال المؤلف: صاحب
المنزل فى منزله كالأمير لا ينبغى لحد التقدم عليه فى أمر،
يدل على ذلك الحديث الذى جاء عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (لا يؤمن أحد فى سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا
بإذنه) فكان هذا الحديث أصلاً لهذا المعنى، ودل هذا أنه
ينبغى للضيف المصير إلى مايحمله عليه ضيفه، ويشهد لهذا
المعنى حديث أنس (أن غلامًا خاياطًا دعا النبى عليه السلام
للطعام فقدمه بين يديه، فاكل النبى وأقبل الخياط على عمله)
وقد ترجم البخارى فى كتاب الأطعمة باب من أضاف رجلا إلى
طعامه وأقبل هو على عمله فدل هذا الحديث أن أكل صاحب
الطعام مع الضيف ليس من الواجبات، إلا أنه جاء فى حديث ضيف
أبى بكر معنى يختص
(9/315)
بخلاف هذا الصل المتقدم، وذلك أن اضيافه
اقسموا أن لا يفطروا حتى ينصرف من عند النبى عليه السلام
فاحتبس عنده إلى هوى من الليل فبقوا دون أكل. وقد كان
ينبغى على ظاهر الأصل المتقدم من أن صاحب المنزل لا ينبغى
لأحد التسور عليه فى منزله فى أمرهم أن يفطروا حين عرض
عليهم الأكل ولا يأبوه، فلما امتنعوا من ذلك وبقوا غير
مفطرين إلى إقبال أبى بكر حنث نفسه أبو بكر فى يمينه التى
بدرت منه إيثارًا لموافقتهم؛ بان بذلك أن يجوز للضيف أن
يخالف صاحب المنزل فى تأخير الطعام، وشبهه إذا رأى لذلك
وجهًا من وجوه المصلحة وأنه لا حرج عليه فى ذلك، ألا ترى
أن الصديق وإن كان غضب لتأخر قراهم إلى وقت قدومه لم ينكر
عليهم يمينهم، ولا قال لهم: أتيتم مايجوز لكم فعله. ولا شك
أن أبا بكر أعلم بذلك النبى عليه السلام حين حمل إليه بقية
الطعام، ولم يعنف القوم ولا خطأهم فى يمينهم - والله أعلم
- هذا الذى يغل على الوهم؛ لأن أصاحبه كانوا لا يخفون عنه
كل مايعرض لهم ليسن لهم فيه. وقد تقدم فى باب السمر مع
الضيف والأهل فى كتاب الصلاة شىء من الكلام فى هذا الحديث.
(9/316)
86 - باب إكرام
الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال
/ 147 - فيه: رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِى
حَثْمَةَ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، أَوْ حدثا أَنَّ
عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ
أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِى النَّخْلِ، فَقُتِلَ
عَبْدُاللَّهِ بْن سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ
سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ
إِلَى النَّبِى عليه السلام فَتَكَلَّمُوا فِى أَمْرِ
صَاحِبِهِمْ، فَبَدَأَ عَبْدُالرَّحْمَنِ - وَكَانَ
أَصْغَرَ الْقَوْمِ - فَقَالَ لَهُ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (كَبِّرِ الْكُبْرَ) - قَالَ يَحْيَى:
يَعْنِى لِيَلِىَ الْكَلامَ الأكْبَرُ. . . الحديث. / 148
- وفيه: ابْن عُمَر، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
قَالَ: (أَخْبِرُونِى بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا كمَثَلُ
الْمُسْلِمِ، تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، بِإِذْنِ
رَبِّهَا، وَلا تَحُتُّ وَرَقَهَا، فَوَقَعَ فِى نَفْسِى
أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ
وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. . .) الحديث. قال المؤلف:
إكرام الكبير وتقديمه فى الكلام وجميع الأمور من أدب
الإسلام ومعالى الأخلاق، وذكر عبد الرازق أن فى الحديث من
تعظيم جلال الله أن يوقر ذو الشبيه فى الإسلام، ولهذا
المعنى قال عليه السلام: (كبر الكبر) فأمر أن يبدأ الأكبر
بالكلام، فكان ذلك سنة إلا أنه دل حديث ابن عمر أن معنى
ذلك ليس على العموم، وأنه إنما ينبغى أن يبدأ بالأكبر فيما
يستوى فيه علم الكبير والصغير، فأما إذا علم الصغير مايجهل
الكبير؛ فإنه ينبغى لمن كان عنده علم أن يذكره وينزع به
وإن كان صغيرًا، ولا يعد ذلك منه سوء أدب، ولا تنقصًالحق
الكبير فى التقدم عليه؛ لأن النبى عليه السلام حين سل
أصحابه عن الشجرة التى شببها بالمؤمن وفيهم ابنعمر وغيره
ممن كان دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار منهم
خاصة، وإنما سأل دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار
منهم خاصة، وإنما سأل جماعتهم ليجيب كل بما علم، وعلى ذلك
دل قول عمر لابنه:
(9/317)
لو كنت قلتها كان أحب إلى من كذا وكذا. لأن
عمر لا يحب ما يخالف أدب افسلام سننه، وقد كان رضى الله
عنه يسأل ابن عباس وهو صبى مع المشيخة وكان ذلك معدودًا من
فضائله، وقد تقدم هذا المعنى فى باب الحياء فى العلم فى
آخر كتاب العلم.
87 - باب ما يجوز من الشعر
والرجز والحداء وما يكره منه
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ) [الشعراء: 224] إلى آخر السورة. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَوْلِهِ: (فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (فِى
كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ. / 149 - فيه: أُبَىَّ بْنَ
كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِنَّ مِنَ
الشِّعْرِ حِكْمَةً) . / 150 - وفيه: جُنْدَب، بَيْنَمَا
النَّبِى عليه السلام يَمْشِى؛ إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ،
فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: (هَلْ أَنْتِ
إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا
لَقِيتِ) . / 151 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَصْدَقُ كَلِمَةٍ
قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شَىْءٍ
مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ) . وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِى
الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِم. / 152 - وفيه: سَلَمَةَ بْنِ
الأكْوَعِ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السلام إِلَى
خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ
لِعَامِرِ بْنِ الأكْوَعِ: أَلا تُسْمِعُنَا مِنْ
هُنَيْهَاتِكَ؟ قَالَ: وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلا شَاعِرًا،
فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ، يَقُولُ:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتقينا
إلى آخرها.
(9/318)
فَقَالَ النبي (صلى الله عليه وسلم) :
(مَنْ هَذَا السَّائِقُ) ؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ
الأكْوَعِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ) ، فَقَالَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا نَبِى اللَّهِ،
لَوْلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ،
فَحَاصَرْنَاهُمْ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ
شَدِيدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ،
فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِى فُتِحَتْ
عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : مَا هَذِهِ
النِّيرَانُ؟ عَلَى أَى شَىْءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى
لَحْمٍ، قَالَ: عَلَى أَى لَحْمٍ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ
حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟
قَالَ: أَوْ ذَاكَ، فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ
سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ
يَهُودِيًّا؛ لِيَضْرِبَه، ُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ،
فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ، فَلَمَّا
قَفَلُوا، قَالَ سَلَمَةُ: رَآنِى رَسُولُ اللَّهِ عليه
السلام شَاحِبًا، فَقَالَ لِى: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ فِدًى
لَكَ أَبِى وَأُمِّى، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ
عَمَلُهُ، قَالَ: مَنْ قَالَهُ؟ قُلْتُ: قَالَهُ فُلانٌ
وَفُلانٌ وَفُلانٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ
الأنْصَارِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : (كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ -
وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ - إِنَّهُ لَجَاهِدٌ
مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِىٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ) . / 153
- وفيه: أَنَس، أَتَى النَّبِى عليه السلام عَلَى بَعْضِ
نِسَائِهِ، وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ:
(وَيْحَكَ، يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا
بِالْقَوَارِيرِ) . قَالَ أَبُو قِلابَةَ: فَتَكَلَّمَ
النَّبِى عليه السلام بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا
بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَوْقَكَ
بِالْقَوَارِيرِ. قال المؤلف: الشعر والرجز والحداء كسائر
الكلام، فما كان فيه ذكر تعظيم لله ووحدانيته وقدرته
وإيثار طاعته وتصغير الدنيا والاستسلام له تعالى كنحو
ماأورده البخارى فى هذا الباب فهو حسن مرغب فيه، وهو الذى
قال فيه عليه السلام: (إن من الشعر حمة) وما كان منه كذبًا
وفحشًا فهو الذى ذمه الله ورسوله. وقال الشافعى: الشعر
كلام، وحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه. وسماع الحداء
ونشيد الأعراب لا بأس به؛ فإن الرسول قد سمعه وأقره ولم
ينكره.
(9/319)
وهذا الباب رد على من نهى عن قليل الشعر
وكثيره، واتعتلوا بحديث جبير بن معظم عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) : (أنه كان إذا فتتح الصلاة يستعيذ من الشيطان
وهمزه ونفثه ونفخه) وفسره عمرو بن مرة وهو راوى الحديث
فقال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزة الموتة التى تأخذ
صاحب المس، وبحديث أبى أمامة الباهلى أن النبى عليه السلام
قال: لما أنزل إبليس إلى الأرض قال: يارب، وبما روى ابن
لهيعة عن أبى قبيل قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (من
قلا ثلاثة أبيات من الشعر من تلقاء نفسه لم يدخل الفردوس)
. قال الأعمش: تمثل مسروق بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له:
لم سكت؟ قال: أخاف أن أجد فى صحيفتى شعرًا. وقال ابن
مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وكان الحسن لا ينشد الشعر.
قال الطبرى: وهذه أخبار واهية والصحيح فى ذلك أنه عليه
السلام كان يتمثل أحيانًا بالبيت فقال: هل أنت إلا إصبع
دميت وفى سبيل الله مالقيت وقال عليه السلام: (أصدق كلمة
قالها الشاعر لبيت لبيد) ثم تمثل بأول البيت وترك آخرون
وقالت عائشة: (كان النبى يتمثل يحدو بالشعر بحضرة النبى
وقال: من هذا السائق؟ فقالوا: عامر بن الأكوع فقال: يرحمه
الله) وأمر حسان بن ثابت وغيره بهجاء
(9/320)
المشركين وأعلمهم أن لهم على ذلك جزيل
الأجر وقال: (هو أشد عليهم من نضح النبل) . وذكر الطبرى عن
عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وجله الصحابة أنهم أنشدوا
الأشعار، وتمثل معاوية بالشعر، وكان ابن أبى مليكة وعكرمة
ينشدان الشعر وكان ابن أبى ليلى ينشد والمؤذن يقيم، وعن
ابن سيرين أنه كان ينشد الشعر الريق وقال معمر: سمعت
الزهرى وقتادة ينشدان الشعر. قال قتادة: وكان ابن مسعود
ربما تمثل بالبيت من وقائع العرب. قال شعبة: وكان قتادة
ينشد الشعر فأقول له: أنشدك بيتًا وتحدثنى بحديث. وقال أهل
التأويل فى قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) عم
شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة
الجن، ويروون شعرهم؛ لأن الغاوى لا يتبع إلا غاويا مثله.
عن ابن عباس وغيره. وقوله: (ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون
(أى: يمرحون ويمرقون ببما ليس فى الممدوح والمذموم فهم
كالهائم على وجهه، والهائم: المخالف القصد. عن أبى عبيدة.)
وأنهم يقولون مالا يفعلون (أى يكذبون والمراد بقوله: (إلا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات (ابن رواحة وحسان وكعب بن
مالك. عن ابن عباس. وقوله: (وذكروا الله كثيرا (قال ابن
عباس: فى خلال
(9/321)
كلامهم الناس. وقال ابن زيد: فى شعرهم.
وقيل: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله. (وانتصروا من بعد ما
ظلموا) يعنى: ردوا على الكفار الذين يهجون النبى - عليه
السلام. قال الطبرى: ولا خلاف أن حكم المستثنى مخالف لحكم
المستثنى منه، فوضح أن المذموم من الشعراء غير الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم
محمودون غير مذمومين. وقول عامر بن الأكوع: (فاغفر فداء لك
ما اقتفينا) فقد زعم بعض أهل الغفلة أن قوله: (فداء لك)
تصحيف لا يجوز أن يقال ذلك لله تعالى وليس ذلك كما ظن
والشعر صحيح والمعنى فاغفر مااقتفينا أى ماارتكبنا من
الذنوب، تقول العرب: قفوت الشىء قفوا: اتبعت أثره، ومنه
قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) . وقوله: (فداء
لك) دعاء منه ربه أن يفديه من عقابه على مااقترف من ذنوبه
فكأنه قال: اللهم اغفر لى وافدنى لك أى فدء من عندك فلا
تعاقبنى، وقوله: (لك) تبين الفاعل للفداء المعنى بالدعاء
كما تقول فى الدعاء سقيا لك، فلك هاهنا مذكور لتبيين
المعنى بالدعاء له، والمعنى: سقاك الله، فكذلك قوله: (فداء
لك) معناه افدنا من عقابك، وقد جاء هذا الشعر فى كتاب
المغازى بلفظ آخر (فاغفر فداء لك ما ابقينا من الذنوب) أى:
مارتكناه مكتوبًا علينا ونحو ذلك، فداء لك بالرفع والخفض
أيضًا، فوجه الرفع: أن يكون خبر مبتدأ مضمر ونحن فداء لك،
كأنك قلت: نحن لتفدنا أو أفدنا كما
(9/322)
تقول: نحن ارحمنا وزيد ارحمه، ومن خفض
(فداء) شبهه بأمس فبناه على الكسر كبناء الأصوات عليه نحو
قولهم: قال الغراب: غاق والجبل طاق، وأنشد سيبويه: مهلا
فداء لك الأقوام كلهم وتقديره: اغفر افندنا. وأما قول
الرجل: (وجبت يا رسول الله) فإنه يعنى الجنة، فهم من دعاء
النبى لعامر بالرحمة أنه يستشهد فى تلك الغزاة ويكون من
أهل الجنة كما فهم ابن عباس من وقوله: (ورأيت الناس يدخلون
فى دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفر إنه كان توابا
(حضور أجل النبى عليه السلام فلذلك قال الرجل: وجبت يا
رسول الله هلا أمتعتنا به. وأما قوله عليه السلام: (وإن له
لأجرين إنه لجاهد مجاهد) فيحتمل معنيين - والله أعلم -:
أحدهما: أن يكون لما اصاب نفسه وقتلها فى سبيل الله تفضل
الله عليه بأن ضاعف أجره مرتين. ويحتمل أن يكون أحد
الأجرين لموته فى سبيل الله والأجر الثانى لما كان يحدو به
القوم من شعره ويدعو الله فى ثيابهم عند لقاء عدوهم ولك
تحضيض للمسلمين وتقوية لنفوسهم، وقد روى نحو هذا المعنى عن
النبى. روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن
مالك، عن أبيه أنه قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن
الله قد أنزل في الشعر
(9/323)
ما أنزل، قال: إن المؤمن ليجاهد بنفسه
ولسانه، والذى نفسى بيده لكأنما ترمون به فيهم نصح النبل)
. وقوله: (ألا أسمعتنا من هنيهاتك) فإن العرب تقول لكل شىء
صغير: هنه، والهنوات من الكلام: ماصغر منها ولم يكن له
كبير معنى كما قال الشاعر: على هنوات كلها متتابع يريد على
صغار من الكلم المستحق بها القطيعة، والنهة كل شىء صغير
برز من معظم شىء أو بان منه كزمعه ظلف الشاة وحلمه الثدى
والضرع، ويجوز أن يقال: هنية وهنية، وفى كتاب الدعاء: (ألا
أسمعتنا من هنياتك) ويقال ذلك للبرهة من الدهر أيضًا.
وقوله عليه السلام: (يا أنجشية، رويداك سوقك بالقوارير)
فإن القوارير هنا كناية عن النساء الذى على الأبل، أمره
بالرفق فى الحداء والإنشاد؛ لأن الحداء يحث الإبل حتى تسرع
السير، فلإذا مشت الإبل رويدا أمن على النساء السقوط،
وتشبيهه النساء بالقوارير من الاستعارة البديعة؛ لأن
القوارير أسرع الأشياء، فأفادت الاستعارة هاهنا من الحض
على الرفق بالنساء فى السير ما لم تفده الحقيقة؛ لأنه لو
قال له عليه السلام: ارفق فى مشيتك بهن أو ترسل لهم يفهم
من ذلك أن التحفظ بالنساء كالتحفظ بالقوارير كما فهم ذلك
من الاستعارة لتضمنها من المبالغة فى الرفق ما لم تضمنه
الحقيقة. وأنجشة: اسم غلام أسود للنبي - عليه السلام.
(9/324)
88 - باب: هجاء
المشركين
/ 154 - فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِىّ
عليه السلام فِى هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَكَيْفَ بِنَسَبِى) ؟
فَقَالَ حَسَّانُ: لأسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ
الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. / 155 - وفيه: عُرْوَة،
ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ:
لا تَسُبُّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 156 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ فِى قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) ، يَقُولُ: (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ:
الرَّفَثَ - يَعْنِى بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ - قَالَ:
إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ
مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ
بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ
يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى
فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ /
157 - وفيه: أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ
ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيَقُولُ:
نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىّ عليه
السلام يَقُولُ: (يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ؟ قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.
(9/325)
/ 158 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) لِحَسَّانَ: (اهْجُهُمْ - أَوْ
هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ) . قال المؤلف: هجاء
المشركين أهل الحرب وسبهم جائز بهذه الأحاديث وأنه لا حرمة
لهم إذا سبوا المسلمين، والانتصار منهم بذمهم وذكر كفرهم
وقبيح افعالهم من أفضل الأمال عند الله تعالى ألا ترى قوله
عليه السلام لحسان: (أهجهم وجبريل معك) وقوله: (اللهم أيده
بروح القدس) وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعمل والعامل به،
فأما إذا لم يسب أهل الحرب المسلمين فلا وجه لسبهم؛ لأن
الله قد أنزل على نبيه فى قنوته على أهل الكفر: إن الله لم
يبعثك لعانًا ولا سبابًا، وإنما بعثك عذابًا، فترك سبهم.
فإن قيل: فما دليلك أن النبى عليه السلام إنما أمر حسانًا
بهجاء المشركين لينتصر منهم لهجوهم المسلمين؟ . قيل: قول
عائشة: (إنه كان ينافح عن رسول الله) يقتضى ذلك تقول
العرب: نافحت عن فلان ونفحت عنه إذا خاصمت عنه، والمخاصمة
والمنافحة لا تكون إلا من اثنين؛ لأنها مفاعلة وكل مفاعلة
تكون كذلك، ويبين هذا قوله لأبى هريرة: نشدتك الله هل سمعت
النبى يقول: ياحسان أجب عن رسول الله؟ قال: نعم. فبان أن
هجاء المشركين إنما كان مجازاة لهم على قبيح قولهم. روى
ابن وهب عن جرير بن حازم قال: سمعت ابن سيرين يقول: (هجاء
رسول الله والمسلمين ثلاثة رهط من المشركين عمرو بن العاص،
وعبد الله بن الزبعرى، وابو سفيان، فقال المهاجرون: يارسول
الله، ألا تأمر عليًا أن يهجو عنا هؤلاء القوم؟
(9/326)
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس
على نالك. ثم قال رسول الله: إذا القوم نصروا النبى
بأيديهم وأسلحتهم فبألسنتهم أحق أن ينصروه. فقالت الأنصار:
أرادنا. فأتو حسان بن ثابت، فذكروا له ذلك، فأقبل حتى وقف
على النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، والذى بعثك
بالحق ماأحب أن لى بمقولى مابين صنعاء وبصرى. فقال رسول
الله: أنت لها ياحسان. قال. يارسول الله، لا علم لى بقريش.
فقال رسول الله لأبى بكر: أخبره عنهم ونقب له فى مثالبهم.
فهجاهم حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك) . ورواه
معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين وقال: العصاص بن وائل مكان
عمرو بن العاص. قال المهلب: وأما قوله: (كيف بنسبى؟) فإنه
أراد كيف تهجوهم ونسبى المهذب الشريف فيهم فربما مسنى من
الهجو ونصيب فقال حسان: (لأسلنك منهم) أى: لأخلصنك من
بينهم بالسلامة من الهجاء، أى أهجوهم بما لا يقدح فى نسبهم
الماس له عليه السلام، ولكن أهجوهم بسىء أفعالهم وبما
يخصهم عارة فى أنفسهم، وتبقى فيهم وصمة من الأخلاق
والأفعال المذمومة التى طهر الله نبيه منها ونزهه من
عيبها. وقوله فى عبد الله بن رواحة: (إنه لا يقول الرفث فى
شعره) فهو حجة أن ماكان من الشعر فيه ذكر الله والأعمال
الصالحة، فهو حسن وهو الذى قال فيه عليه السلام: (إن من
الشعر حكمة) وليس من المذموم الذى قال فيه عليه السلام:
(لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلىء شعرًا) .
(9/327)
89 - باب: ما يكره
أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله
والعلم والقرآن
/ 159 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا
خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) . / 160 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا حتَّى
يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) . قال أبو
عبيد: فسر العشبى هذا الحديث قال ومعنى قوله: (خير له من
أن يمتلىء شعرًا) يعنى: الشعر الذى هجى به النبى - عليه
السلام. قال أبو عبيد: ولاذى عندى فى هذا الحديث غير هذا
القول؛ لأن الذى هجى به النبى عليه السلام لو كان شطر بيت
لكان كفرًا، فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب
منه أنه قد رخص فى القليل منه عن القرآن وعن ذكر الله
فيكون الغالب عليه، فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين
عليه فليس جوفه ممتلئًا من الشعر. وقوله: (حتى يريه) قال
الأصمعى: هو من الورى على مثال الرمى، يقال منه: (رجل
مورّ) غير مهموز مشدد وهو أن يروى جوفه. وقال أبو عبيد:
الورى هو أن يأكل القيح جوفه. وأنشد الصمعى: قالت له وريًا
إذا تنحنحا. أى تدعو عليه بالوري.
(9/328)
90 - باب: قول النبي
(صلى الله عليه وسلم) (تربت يمينك) و (وعقرى حلقى
/ 161 - فيه: عَائِشَةَ، إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى
الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ بَعْدَ مَا نَزَلَ
الْحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا آذَنُ لَهُ حَتَّى
أَسْتَأْذِنَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهُ عَمُّكِ،
تَرِبَتْ يَمِينُكِ) الحديث. / 162 - وفيه: عَائِشَةَ،
أَنّ النَّبِى عليه السلام أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ، فَرَأَى
صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً؛
لأنَّهَا كانت حَاضَتْ، فَقَالَ: (عَقْرَى حَلْقَى -
لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ. . .) الحديث. قال المؤلف: قال ابن
السكيت: يقال: تربت يداه إذا افتقر ولم يدع عليه بذهاب
ماله، وإنما أراد المثل ليرى المأمور بذلك الجد وأنه إن
خالفه فقد اساء، وقال الأصمعى: فى قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (تربت يمينك) ، و (وتربت يداك) معناه الاستثاث كما
تقول: انج تكلتك أمك، وأنت لا تريد أن يثكل، وقال أبو
عمرو: أصابه التراب ولم يدع بالفقر عليها. وقال أبو زيد:
ترب إذا افتقر وإنما أراد بهذا أن فى يديه التراب. قال
النحاس: أى ليس يحصل فى يديه إلا التراب. وقال ابن كيسان:
المثل جرى على أنه إن فاتك ما أغريتك به افتقرت الذى عرف
معناه، وقال غيره: هى كلمة لا يراد بها الدعاء، وإنما
تستعمل فى المدح كما قالوا للشاعر إذا أجاد: قاتله الله
لقد أجاد، وكما قالوا: ويل أمة مسعر حرب، وهو يتعجب منه
ويمدحه ولكنه دعاء
(9/329)
على أمه يالويل، وهولايريد الدعاء عليها من
غضب، وهذا كلامهم وهو مثل تربت يمينك. واختلف أهل اللغة
أيضًا فى تأويل قوله: عقرى حلقى فقال صاحب العين: يقال
للمرأة: عقرى حلقى أى مشئومة، ويقال: هو دعاء عليها على
يراد عقرها الله وحلقها. وقال أبو على القالى: عقرى من
العقر دعاء على الإنسان وعقرًا أيضًا، وحلقى من حلق الرأس
دعاء على الإنسان أيضًا، وحلقًا أيضًا. وقال ابن قتيبة:
عقرى حلق أى عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها. وقال أبو
عبيد فى كتاب الأمثال: ومن الدعاء قولهم عقرًا حلقًا وأهل
الحديث يقولون: عقرى حلقى، وقال فى غريب الحديث: عقرى حلقى
وعقرًا حلقًا.
91 - باب: ما جاء فى زعموا
/ 163 - فيه: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالت:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى أَنَّهُ قَاتِلٌ
رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ) . قال صاحب
الأفعال: يقال: زعم زعمًا وزعمًا وزعمًا ذكر خبرًا لا يدرى
أحق هو أم باطل، وزعمت غير مزعم أى قلت غير مقول وادعيت
مالا يمكن، وقد روى عن الرسول عليه السلام أنه قال: (زعموا
بئس مطية الجرل) رواه وكيع عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى
قلابة، عن أبى مسعود أو عن أبى عبد الله، عن النبى، ومعناه
أن من أكثر من الحديث بما لا يصح عنده ولايعلم صدقه لم
يؤمن عليه الكذب.
(9/330)
وفائدة حديث أم هانى أنها تكلمت بهذه
الكلمة بحضرة النبى عليه السلام ولم ينكرها ولا جعلها
كاذبة بذكرها.
92 - باب ما جاء فى قول الرجل
ويلك
/ 164 - فيه: أَنَس، أَنَّ رسُول اللَّه عليه السلام رَأَى
رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) ، قَالَ:
إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: (ارْكَبْهَا) ، وَيْلَكَ، فِى
الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ. / 165 - وفيه: أَنَس،
كَانَ النَّبِىّ عليه السلام فِى سَفَرٍ، وَكَانَ مَعَهُ
غُلامٌ لَهُ أَسْوَدُ، يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، يَحْدُو،
فَقَالَ: (وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ
بِالْقَوَارِيرِ) . / 166 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، أَثْنَى
رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
، فَقَالَ: (وَيْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ، ثَلاثًا.
. .) ، الحديث. / 167 - وفيه: أَبُو سَعِيد، بَيْنَا
النَّبِى عليه السلام يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ يقسم قِسْمًا،
فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ - رَجُلٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ
-: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ: (وَيْلَكَ، مَنْ
يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ. . .) ؟ الحديث. / 168 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىّ
عليه السلام فَقَالَ: هَلَكْتُ فَقَالَ: (وَيْحَكَ وَمَا
أهَلَكْك) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امرأتِى فِى رَمَضَانَ)
. / 169 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى عَنِ
الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَ
الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ. . .) ، الحديث. / 170 - وفيه: ابْن
عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَيْلَكُمْ
- أَوْ وَيْحَكُمْ، شَكَّ شُعْبَةُ - لا تَرْجِعُوا
بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) .
/ 171 - وفيه: أَنَس، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ
الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ
قَائِمَةٌ؟ قَالَ: (وَيْلَكَ، وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا) ؟ .
(9/331)
قال سيبوية: ويلك كلمة تقال لمن وقع فى
هلكه، ويحك ترحم بمعنى ويل. وقال بعض أهل اللغة: ولا يراد
بها الدعاء بإيقاع الهلكة لمن خوطب بها، وإنما يراد به
المدح والتعجب كما تقول العرب: ويل أمه مسعر حرب على
عادتها فى نقلها الألفاظ الموضوعة فى بابها إلى غيره، كما
يقال: انج، ثكلتك أمك، وتربت يداك. وروى يحى بن معين قال:
حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال لى أبى: أنت حدثتنى عنى عن
عبيد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: ويح كلمة رحمة.
93 - باب: علامة الحب فى الله
لقوله تعالى: (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله (
/ 172 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِى عليه
السَّلام: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَب) . / 173 - فيه:
وَقَالَ ابْن مَسْعُود، مرة: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ
عليه السلام فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ
فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟
فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَرْءُ مَعَ
مَنْ أَحَبَّ) . / 174 - وفيه: أَنَس، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ
النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا) ؟ قَالَ:
مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صَوْمٍ
وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) . قال المؤلف: علامة
حب الله حب رسوله واتباع سبيله والاقتداء
(9/332)
بسنته؛ لقوله تعالى: (إن كنتم تحبون الله
فاتبعونى يحببكم الله (وقوله عليه السلام: (المرء مع من
أحب) فدل هذا أن من أحب عبدًا فى الله فإن الله جامع بينه
وبينه فى جنته ومدخله مدخلة وإن قصر عن عمله، وهذا معنى
قوله: (ولم يلحق بهم) يعنى فى العمل والمنزلة، وبيان هذا
المعنى - والله أعلم - أنه لما كان المحب للصالحين وإنما
أحبهم من أجل طاعتهم لله، وكانت المحبة عملا من أعمال
القلوب واعتقادًا لها أثاب الله معتقدًا ذلك ثواب الصالحين
إذ النية هى الأصل والعمل تابع لها، والله يوتى فضله من
يشاء.
94 - باب: قول الرجل للرجل
اخسأ
/ 175 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) قَالَ لابْنِ صَائِدٍ: (قَدْ خَبَأْتُ لَكَ
خَبِيئًا، فَمَا هُوَ) ؟ قَالَ: الدُّخُّ قَالَ: (اخْسَأْ)
. / 176 - وفيه: عُمَر، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) قَالَ لابْنِ صَائِدٍ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ
قَدْرَكَ. . .) ، وذكر الحديث. قال المؤلف: أخسأ زجر للكب
وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة عند العرب ثم استعملت فى كل
من قال أو فعل مالاينبغى له مما زجره فبعد، وفى القرآن:
(كونوا قردة خاسئين) أى: مبعدين، وقال تعالى: (اخسئوا فيها
ولا تكلمون) أى: ابعدوا بعد الكلاب
(9/333)
(ولا تكلمون) فى رفع العذاب عنكم فكل من
عصى الله سقطت حرمته ووجب خطابه بالغلظة والشدة والذم له
لينزع عن مذهبه ويرجع عن قبيح فعله. وقالوا: (فرضه النبى)
من رواه بالضاد فمعناه دفعه حتى وقع فتكسر يقال: رض الشىء
فهو رضيض ومرضوض إذا انكسر، ومن رواه بالصاد فمعناه رصه
حتى دخل بعضه فى بعض يقال: رص البنيان والقوم فى الحرب
رصًا، إذا قرب بعضها إلى بعض، ومنه قوله تعالى: (كأنهم
بنيان مرصوص) . وفيه: أن الله لم يطلع نبيه على الدجال متى
يخرج فى أمته وأخفى عنه ذلك لما هو أعلم به، فلا علم لنبى
مرسل ولاملك مقرب إلا بما أعلمه الله به ولذلك قالت
الملاكة: (لا علم لنا إلا ما علمتنا) .
95 - باب قول الرجل مرحبا
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِى عليه السلام
لِفَاطِمَةَ: (مَرْحَبًا بِابْنَتِى) وَقَالَتْ أُمُّ
هَانِئٍ: جِئْتُ إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَ: (مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ) . / 177 - فيه: ابْن
عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لوَفْدُ
عَبْدِالْقَيْسِ: (مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذِينَ
جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى) ، الحديث. قال
الأصمعى: معنى قوله (مرحبًا) لقيت رحبًا وسعة، وقال
الفراء: هو منصوب على المصدر وفيه معنى الدعاء والرحب،
والترحب: السعة، وتقول العرب: مرحبًا وأهلاً وسهلاً أى
لقيت أهلاً كأهلك ولقيت سهلاً أى سهلت عليك أمورك.
(9/334)
وقوله عليه السلام: (غير خزايا) يعنى غير
مخزنين بل مكرمين مرفعين. ولا ندامى يعنى: غير نادمين بل
مغتبطين فرحين بما أنعم الله عليهم من عز الإسلام، وتصديق
النبى ونصرته ودعاء قومهم إلى دينه.
96 - باب: هل يدعى الناس
بآبائهم
/ 178 - فيه: ابْن عُمَر، أَنّ النَّبِى عليه السلام
قَالَ: (إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ)
. قال المؤلف: مصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (وجعلناكم
شعوبًا وقبائل) قال أهل التفسير: الشعوب النسب الأبعد
والقبائل النسب الأقرب يقال فلان من بنى فلان، غير أن
النسب إلى الآباء وإن كان هو الأصل فقد جاء فى الحديث أن
يدعى المرء بأحب أسمائه إليه، وأحبها إليه أن يدعى بكنيته
لما فى ذلك من توقيرة والدعاء بالآباء أشد فى التعريف
وأبلغ فى التميز، وبذلك نطق القرآن والسنة. وقد كان
الأعراب الجفاء يأتون النبى عليه السلام وهو جالس مع
أصاحبه فيقولون: أيكم محمد بن عبد المطلب، ولايذكرون ما
شرفه الله من النوبة المعصومة والرسالة المؤيدة فلا ينكر
ذلك عليهم لما خصه الله به من الخلق العظيم، وجبله عليه من
الطبع الشريف. وفى قوله عليه السلام: (هذه غدرة فلان بن
فلان) رد لقوله من زعم أنه لا يدعى الناس يوم القيامة إلا
بأمتهم؛ لأن فى ذلك سترًا على آبائهم، وهذا الحديث خلاف
قولهم. وفيه: جواز الحكم بظواهر الأمور إذا لم يمكن علم
بواطنها؛ لأنه
(9/335)
قد يجوز أن يكون كثير من الناس ممن يدعى
إلى أبيه فى الظاهر، وليس كذلك فى الباطن، ودل عموم هذا
الحديث على أنه إنما يدعى الناس بالآباء ولايلزم داعيهم
البحث عن حقيقة أمورهم والتنقير عنهم.
97 - باب لا يقل خبثت نفسى
ولكن ليقل لقست نفسى
/ 179 - فيه: عَائِشَةَ، وَسَهْل بْن سعد، قَالَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ:
خَبُثَتْ نَفْسِى، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى) .
قال المؤلف: كان النبى يعجبه الاسم الحسن ويتفائل به ويكره
الاسم القبيح ويغيره، وكره عليه السلام لفظ الخبيث إذ
الخبث حرام على المؤمنين، وقال أبو عبيد: لقسمت وخبثت واحد
لكنه استقبح لفظ خبثت. قال المؤلف: وليس قوله عليه السلام
(لا يقولن أحدكم خبثت نفسى) على معنى الأيحاء والحتم،
وإنما هو من باب الأدب، فقد قال فى الذى يعقد الشيطان على
رأسه ثلاث عقد وينام عن صلاة: (أصبح خبيث النفس كسلان) وقد
نطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى: (ومثل كلمة خبيئة
كشجرة خبيثة) .
(9/336)
98 - باب لا تسبوا
الدهر
/ 180 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ جَلّ ثناؤه: يَسُبُّ بَنُو
آدَمَ الدَّهْر، َ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِى اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ) . / 181 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُسَمُّوا الْعِنَبَ
الْكَرْمَ، وَلا تَقُولُوا: خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ) . قال الخطابى: كان أهل الجاهلية
يضيفون المصائب والنوائب إلى الدهر الذى هو مر الليل
والنهار، وهم فى ذلك فريقان، فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف
إلا الدهر الليل والنهار اللذين هما محل للحوادث وظرف
لمساقط الأقدار، فنسبت المكارة إليه على أنها من فعله، ولا
ترى أن لها مدبرًا غيره وهذه الفرقة هى الدهرية التى حكى
الله عنهم: (وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا
وما يهلكنا إلا الدهر (. وفرقة ثانية: تعرف الخالق فتنزهه
أن تنسب إليه المكارة فتضيفها إلى الدهر والزمان، وعلى
هذين الوجهين كانوا يذمون الدهر ويسبونه، فيقول القائل
منهم: ياخيبة الدهر، ويا بؤس الدهر، فقال لهم النبى - عليه
السلام - مبطلا ذلك من مذهبهم: (لا تسبوا الدهر على أنه
الدهر، فإن الله هو الدهر) يريد والله أعلم: لا تسبوا
الدهر على أنه الفاعل لهذا الصنع بكم، فإن الله هو الفاعل
له، فإذا سببتم الذى أنزل بكم المكارة رجع السب إلى الله
وانصرف إليه. ومعنى قوله: (أنا الدهر) : أنا ملك الدهر
ومصرفه فحذف اختصارًا للفظ واتساعًا فى المعنى، وبيان هذا
فى حديث أبى هريرة
(9/337)
حدثنا ابن الأعرابى، حدثنا محمد سعيد بن
غالب، حدثنا ابن نمير حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم،
عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (يقول
الله: أنا الدهر، بيدى الليل والنهار أجده وأبليه، وأذهب
بالملوك وآتى بهم) . روى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهرى،
عن ابن المسيب، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (يقول
الله تعالى: يؤذينى ابن آدم، يقول: ياخيبة الدهر، فلا
يقولن أحدكم ياخيبة الدهر، وإنى أنا الدهر أقلب ليله
ونهاره، وإذا شئت قبضتها) . وقال ابن النحاس: يجوز فيه نصب
الراء من قوله: (إن الله هو الدهر) والمعنى: فإن الله معمر
الدهر أى: مقيم أبدأ الدهر.
99 - باب: قول النبى عليه
السلام وإنما الكرم قلب المؤمن
وَقَدْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِى يُفْلِسُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الصُّرَعَةُ
الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، كَقَوْلِهِ:
لا مُلْكَ إِلا لِلَّهِ، فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ
الْمُلْكِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا، فَقَالَ:
(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا)
[النمل 34] . / 182 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَيَقُولُونَ
الْكَرْمُ، إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ) . قال
المهلب: قوله: (إنما الكرم قلب المؤمن) وإنما المفلس
والصرعة وإنما هو على المبالغة، أى ليس المفلس كل والإفلاس
إلا من لم تكن له حسنات يوم القيامة من أجل أنه قد يكون فى
الدنيا مفلس من المال، وهو غنى يوم القيامة بحسناته،
والغنى فى الدنيا قد
(9/338)
يكون مفلسًا يوم القيامة، وهذا على
المبالغة، وكذلك الصرعة، ليس الذى يغلب الناس ويصرعهم
بقوته، وإنما الصرعة الذى يملك نفسه. وغرضه فى هذا الباب -
والله أعلم - أن يعرف بمواقع الألفاظ المشتركة، وأن يقتصر
فى الوصف على ترك المبالغة والإغراق فى الصفات إذا لم
تستحق الموصوف ذلك ولا يبلغ النهايات فى ذلك إلا فى
مواضعها، وحيث يليق الوصف بالنهاية وقال ابن الأنبارى: سمى
الكرم كرمًا؛ لأن الخمر المشروبة من عنبه تحث على السخاء
وتأمر بمكارم الأخلاق كما سموها راحًا قال الشاعر: والخمر
مشتقه المعنى من الكرم ولذلك قال عليه السلام: (لا تسموا
العنب الكرم) كره أن يسمى أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم،
وجعل المؤمن الذى يتقى شربها ويرى الكرم فى تركها أحق بهذا
الاسم الحسن. وقال أبو حاتم: قال رجل من أهل الطائف: شققت
من الصبا واشتق منى كما اشتقت من الكرم الكروم
0 - باب قول النبى (صلى الله
عليه وسلم) : (فداك أبى وأمى
فيه الزبير / 183 - وفيه: عَلِىّ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ
النَّبِىّ عليه السلام يُفَدِّى أَحَدًا غَيْرَ سَعْدٍ،
سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (ارْمِ فَدَاكَ أَبِى وَأُمِّى) ،
أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ.
(9/339)
قد تقدم معنى تفدية الرجل لأخيه فى كتاب
الجهاد ونذكر هنا مالم يمض هناك. قال الطبرى: إن قال قائل:
قول على: (ماسمعت النبى - على السلام - يفدى رجلا غير سعد)
هل يعارض حديث الزبير؛ فقد روى هشام بن عروة، عن أبيه (أن
عبد الله بن الزبير قال يوم الخندق للزبير: ياأبه، لقد
رأيتك تحمل على فرسك الأشقر. قال: هل رأيتنى أى بنى؟ قلت:
نعم. قال: كان رسول الله يجمع لأبيك أبويه، يقول: احمل
فداك أبى وأمى) . قال الطبرى: وقول الزبير غير دافع صحة
ماقال عليّ؛ لأن عليًا إنما أخبر عن نفسه أنه لم يسمع
النبى جمع أبويه لأحد غير سعد، فجائز أن يكون جمع للزبير
أبويه ولم يسمعه على وسمعه الزبير، فأخبر كل واحد منهما
بما سمع، وليس فى قول من قال: لم أسمع فلانًا يقول كذا نفى
منه أن يكون سمع ذلك منه غيره، ولا فى قول من قال: سمعت
فلانًا يقول يقول كذا إيجاب منه أن يكون لا أحد إلا وقد
سمع ذلك الخبر منه.
1 - باب قول الرجل: جعلنى الله
فداك
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِى عليه السَّلام:
فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. / 184 - فيه:
أَنَس، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ
النَّبِى عليه السلام وَمَعَه صَفِيَّةُ مُرْدِفُهَا عَلَى
رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ
عَثَرَتِ النَّاقَةُ، فَصُرِعَ النَّبِى عليه السلام
وَالْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: أَحْسِبُ
اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ، فَأَتَى
(9/340)
النَّبِيّ عليه السلام فَقَالَ: يَا نَبِى
اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ، هَلْ أَصَابَكَ مِنْ
شَىْءٍ؟ قَالَ: (لا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ) ،
فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ،
فَقَصَدَ قَصْدَهَا، فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا،
فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ، فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى
رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا. . . . الحديث. قال المؤلف: وفى
هذا الباب رد قول من لم يجز تفديه الرجل للرجل بنفسه أو
بأبويه، زعموا أنه فدى النبى سعدًا بأبويه، لأنهما كانا
مشتركين، فأما المسلم فلا يجوز له ذلك. قالوا: وروى عن عمر
بن الخطاب أن رجلا قال له: جعلنى الله فداك. قال: إذًا
يهينك الله. . وقد ثبت فى هذا الباب عن الصديق، وعن أبى
طلحة أنهما فديا النبى فلم ينكر ذلك عليهما، ولأنهاهما
عنه، وقد تقدم فى كتاب الجهاد متصلا بباب الترسة.
2 - باب: قول الرجل لصاحبه يا
أبا فلان وأحب الأسماء إلى الله
/ 185 - فيه: جَابِر، قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا
غُلامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقُلْنَا: لا نَكْنِيكَ
أَبَا الْقَاسِمِ، وَلا كَرَامَةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِى
عليه السلام فَقَالَ: (سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَالرَّحْمَنِ) .
قال المؤلف: جاء فى هذا الحديث عن عمر بن الخطاب أنه قال:
يصفى للمرء ود أخيه المسلم أن يدعوه بأحب الأسماء إليه،
ويوسع له فى المجلس ويسلم عليه إذا لقيه، وإذا قال له يا
أبا فلان وكناه فقد أكرمه وتلطف له فى القول، وذلك مما
يثبت الود.
(9/341)
وروى ابن لهيعة عن أبى قبيل عن عبد الله بن
عمر، عن النبى عليه السلام قال: (تكنوا فإنه أكرم للمكنى
والمكنى) . وأما أحب الأسماء إلى الله فذكر أبو داود
بإسناده عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر عليه السلام
أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله - عز وجل - عبد الله وعبد
الرحمن) وعن عوف، عن الحسن قال: بلغنى أن رسول الله قال:
(من خير أسمائكم عبد الله وعبد الرحمن) .
3 - باب قول النبى (صلى الله
عليه وسلم) : (سموا باسمى ولا تكنوا بكنيتى
(1) / 186 - فيه: [سقط] قال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه
هذا الحديث وقد جمع جماعة من أصحاب النبى عليه السلام بين
اسمه وكنيته منهم على بن أبى طالب كنى ابنه محمد ابن
الحنفية: أبا القاسم؟ قيل: قد اختلف السلف فبلنا فى ذلك،
فقالت طائفة: غير جازلأحد أن يكنى نفسه أو ولده أبا
القاسم، أو إن يسميه قاسما ليكنى الأب أبا القاسم، فأما أن
يسمى ابنه محمدًا فذلك له، واعتلوا بحديث جابر وأبى هريرة،
قالوا: فأذن النبى بالتسمى باسمه، ونهى عن التكنى بكنيته.
(9/342)
ذكر من روى ذلك عنه: روى ابن سيرين قال:
كان مروان بن الحكم يسمى ابنه القاسم، وكان رجل الأنصار
يسمى ابنه القاسم، فلما بلغهما هذا الحديث بالنهى سمى
مروان عبد الملك، وغير الأنصارى اسم ابنه. وقال ابن عون:
سالت ابن سيرين عن الرجل يكنى بكنية النبى ولم يسم باسمه،
أيكره؟ قال: نعن. وقال زبيد الأيامى: كان الرجل منا إذا
يكنى بأبى القاسم كنيناه أبا القاسم. وقالت طائفة: غير
جائز أن يجمع أحد بين اسم النبى وكنيته، فإن سماه محمدًا
لم يكن له أن يكنيه أبا القاسم، فإن كناه أبا القاسم ولم
يكن له أن يسميه محمدًا ولا أحمد، واعتلوا بما حدثنا به
يوسف بن موسى القطان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام
الدستوائى، حدثنا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله قال:
(من تسمى باسمى فلا يتكنين بكنيتى، ومن تكنى بكنيتى فلا
يستمين باسمى) . وقال آخرون: جائز: أن يجمع بين اسم النبى
وكنيته، واعتلوا بما حدثنا محمد بن خلف، حدثنا محمد بن
الصلات، حدثنا الربيع بن منذر الثورى، عن أبيه، عن محمد
ابن الحنيفة قال: (وقع بين على وبين طلحة كلام، فقال له
طلحة: إنك لجرىء جمعت بين اسم رسول الله وكنيته، وقد نهى
رسول الله عن ذلك. فقال له على: الجرىء كل الجررىء من قال
على رسول الله مالم يقل. ثم استشهد على أناسًا فشهدوا له
أن رسول الله رخص له فى ذلك، وقد سمى
(9/343)
طلحة ابنه محمدًا وكناه أبا القاسم) ولو صح
حديثه ماخالف مارواه عن النبى عليه السلام وقال: إذن النبى
لعلى أن يسمى ابنه محمدًا ويكنيه أباالقاسم إطلاق منه ذلك
لجميع أمته؛ إذ لم يخبر أنه خص بذلك عليا دون سائر أمته.
وقد سمى ولده باسم النبى وكناه بكنيته جماعة من السلف.
وروى عشيم عن كغيرة عن إبراهيم أن محمد بن الأشعث كان يكنى
أبا القاسم وكان يدخل على عائشة فتكنيه بذلك روان بن
معاوية، عن محمد بن عمران الحجبى عن جدته صفية بنت شيبة،
عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى النبى عليه السلام فقالت:
يارسول الله، ولد لى غلم فسميته محمدًا وكنيته بأبى
القاسم، فبلغنى أنك تكره ذلك، فقال رسول الله: (ما حرم
اسمى وأحل كنيتى وما حرم كنيتى وأحل اسمي) . وقال آخرون:
غير جائز لأحد أن يسمى باسم النبى عليه السلام ذكر من قال
ذلك: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثنى
أبى، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد قال: كتب عمر إلى أهل
الكوفة الا تسموا أحدًا باسم نبى. واعتلوا بما حدثنى محمد
بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا الحكم بن عطية، عن ثابت،
عن أنس قال: قال النبى - عله السلام - (تسمون أولادكم
محمدًا ثم تلعنوهم) .
(9/344)
قال الطبري: والصواب عندنا أن يقال كل هذه
الأخبار عن النبي صحيح، وليس فى شىء منها مايدفع غيره ولا
ينسخه، ولو كان فيها ناسخ أو منسوخ لنقلت الأمة بيان ذلك،
وإنما كان نهى النبي عن التكنى بكنيته تكرهًا إعلامًا منه
أمته أن الجميع بين اسمه وكنيته أو التكنى بكنيته على
الكراهة لا على التحريم، وذلك أنه لو كان على التحريم لم
تجهل الأمة ذلك ولم يطلق المهاجرون والأنصار ذلك لمن فعله
ولأنكروه، وفى تركهم إنكاره دليل على صحة قولنا. وقال غير
الطبرى: وإنما نهى النبي عليه السلام أن يجمع بين اسمه
وكنيته تعزيزًا له وتوقرًا؛ لئلا يدعى غيره باسمه فيظن
عليه السلام أنه هو المدعو به فيعنت بذلك، وقد روى غيره أن
هذا المعنى كان سبب هذا الحديث، روى أبو عيسى الترمذى:
حدثنا الحسن بن على الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حميد،
عن أنس، عن النبي: (أنه سمع رجلا ينادى فى السوق ياأبا
القاسم، فالتفت عليه السلام، فقال له الرجل: لم أعنك، فقال
عليه السلام: لا تكنوا بكنيتى) وقد أمر الله عباده
المؤمنين أن لا يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم
بعضًا، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، ولايجهروا له
بالقول، وهذا كله حض على توقره وإجلاله وتخصيصه بكنيته لا
يدعى بها غيره من إجلاله وتوقرة.
4 - باب: اسم الحزن
/ 187 - فيه: ابْن الْمُسَيَّب، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ
أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ، عليه السَّلام،
(9/345)
فَقَالَ: (مَا اسْمُكَ) ؟ قَالَ: حَزْنٌ،
قَالَ: (أَنْتَ سَهْلٌ) ، قَالَ: لا أُغَيِّرُ اسْمًا
سَمَّانِيهِ أَبِى. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا
زَالَتِ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُه. قال المؤلف: هذا
الحديث يدل أن أمره عليه السام بتغيير الأسماء المكروهة
ليس على وجه الوجوب، وأن ذلك على معنى الكراهية؛ لأنه لو
كان على معنى الوجوب لم يجز لجد سعيد الثبات على حزن،
ولاسوغ النبي ذلك، وسيأتى بعد هذا. وروى أبو دود: حدثنا
مسدد، حدثنا هشيم، عن داود بن عمرو، عن عبد الله بن أبى
زكريا، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله: (إنكم تدعون
يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم) .
5 - باب: تحويل الاسم إلى اسم
أحسن منه
/ 188 - فيه: سَهْل، أُتِىَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِى
أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) حِينَ
وُلِدَ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَأَبُو أُسَيْدٍ
جَالِسٌ، فَلَهَا النَّبِي عليه السلام بِشَىْءٍ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ، فَاحْتُمِلَ
مِنْ فَخِذِ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَفَاقَ
النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَيْنَ
الصَّبِىُّ) ؟ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: قَلَبْنَاهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (مَا اسْمُهُ) ؟ قَالَ: فُلانٌ،
قَالَ: (لَكِنْ أَسْمِهِ الْمُنْذِرَ) ، فَسَمَّاهُ
يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ. / 189 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،
أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَقِيلَ: تُزَكِّى
نَفْسَهَا، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام
زَيْنَبَ. / 190 - وفيه: ابْن الْمُسَيَّب، أَنَّ جَدَّهُ
حَزْنًا قَدِمَ عَلَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم)
فَقَالَ: (مَا اسْمُكَ) ؟ قَالَ: اسْمِى حَزْنٌ، قَالَ:
(بَلْ، أَنْتَ سَهْلٌ) ، قَالَ: مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ
اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِى. قال المؤلف: قد قدمنا قبل هذا
أن النبي عليه السلام كان
(9/346)
يعجبه تغيير الاسم القبيح بالاسم الحسن على
وجه التفاؤل والتيمن؛ لأنه كان يعجبه الفأل الحسن، وقد غير
رسول الله عدة أسامى، غير برة بزينب وحول اسم عبد الله بن
عمرو بن العاص إلى عبد الله كراهة لاسم العصيان الذى هو
مناف لصفة المؤمن، وإنما شعار المؤمن الطاعة وسمته
العبودية. قال الطبرى: فلا ينبغى لأحد أن يتسمى باسم قبيح
المعنى، ولا باسم معناه التزكية والمدجح، ولا باسم معناه
الذم والسب، بل الذى ينبغى أن يسمى به ما كان حقًا وصدقًا،
كما أمر الذى سمى بنه القاسم أن يسميه عبد الرحمن، إذ كان
الصدق الذى لا شك فيه أنه عبد الرحمن فسماه بحقيقة معناه،
وإن كانت الأسماء العوارى لم توضع على المسميات لصفاتها بل
للدلالة على أشخاصها خشية أن يسمع سامع باسم العاصى فيظن
أن ذلك له صفة، وأنه إنما سمى بذلك لمعصية ربه، فحول ذلك
عليه السلام إلى ما لإذا دعى به كان صدقًا. وأما تحويله
بره إلى زينب؛ فلأن ذلك كان تزكية ومدحًا فحوله إلى ما لا
تزكيه فيه ولا ذم، وعلى هذا النحو سائر الأسماء التى غيرها
رسول الله، فأولى الأسماء أن يتسمى بها أقربها إلى الصدق
وأحرها أن لا يشكل على سامعها؛ لأن الأسماء إنما هى
للدلالة والتعريف، وبهذا وردت الآثار عن النبى - عليه
السلام. روى أبو داود فى مصنفه حدثنا عن أبى وهب الخشنى -
وكانت له صحبة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (أحب
الأسماء إلى الله:
(9/347)
عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام،
وأقبها حرب ومرة) وروى عطاء عن أبى سعيد الخدرى قال: قال
النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسموا أبناءكم حكما ولا
أبا الحكم، فإن الله هو الجكيم العليم) . قال الطبرى: وليس
تغيير رسول الله ماغير من الأسماء على وجه المنع للتسمى
بها؛ بل ذلك على وجه الاختيار؛ لأن الأسماء لم يسم لها
لوجود معانيها فى المسمى بها، وإنما هى للتمييز، ولذلك
أباح المسلمون أن يتسمى الرجل القبيح بحسن، والرجل الفاسد
بصالح، يدل على ذلك قول جد ابن المسيب للنبى عليه السلام
حين قال له أنت سهل: ماكنت أغير اسما سمانيه أبى، فلم
يلزمه الانتقال عنه على كل حال، ولا جعله بثباته عليه آثما
بربه، ولو كان آثما بذلك لجبره على النقلة عنه، إذ غير
جائز فى صفته عليه السلام أن يرى منكرًا وله إلى تغييره
سبيل.
6 - باب: من تسمى بأسماء
الأنبياء عليهم السلام
/ 191 - فيه: إِسْمَاعِيلُ، قُلْتُ لابْنِ أَبِى أَوْفَى:
رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) ؟ قَالَ: مَاتَ صَغِيرًا، وَلَوْ قُضِىَ أَنْ
يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عليه السلام نَبِىٌّ عَاشَ
ابْنُهُ، وَلَكِنْ لا نَبِىَّ بَعْدَهُ. / 192 - وفيه:
الْبَرَاءَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا
فِى الْجَنَّةِ) . / 193 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبيّ
(صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا
تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى. . .) الحديث.
(9/348)
/ 194 - وفيه: أَبُو هُرَيرَةَ، عن
النَّبِىّ مثله. / 195 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ:
وُلِدَ لِى غُلامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) ، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَنَّكَهُ
بِتَمْرَةٍ. . . الحديث. / 196 - وفيه: الْمُغِيرَةَ بْنَ
شُعْبَةَ، قَالَ: كسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ
إِبْرَاهِيمُ. ورَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِى
عليه السَّلام. قال المؤلف: هذه الأحاديث تدل على جواز
التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام، وقد قال سعيد بن
المسيب: أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء، وقد يرد قول
من كره التسمية بأسماء الأنبياء، وهى رواية جاءت عن عمر بن
الخطاب، عن طريق قتادة، عن سالم بن أبى الجعد قال: كتب عمر
إلى أهل الكوفة ألا يتسمى أحد باسم نبى، وقد مر فى باب
قوله: (تسموا باسمى، ولاتكنوا بكنيتى) . وذكر الطبرى أن
حجة هذا القول حديث الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس قال
النبى: (تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنوهم) والحكم بن عطية
ضعيف، ذكره البخارى فى كتاب الضعفائ، وقال: كان أبو الوليد
يضعفه، وليس قوله عليه السلام: (تسمون أولادكم محمدًا ثم
تلعنوهم) لو صح عن النبى عليه السلام بمانع أن يتسمى أحد
باسم محمد، فقد أطلق ذلك وأباحه بقوله: (تسموا باسمى) وسمى
ابنه إبراهيم باسم الخليل - عليل السلام وإنما فيه النهى
عن أن يسمى أحد ابنه محمدًا ثم يلعنه.
(9/349)
7 - باب: تسمية
الوليد
/ 197 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا رَفَعَ
النَّبِى عليه السلام رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ:
(اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ. . .)
الحديث. قال المؤلف: هذا الحديث يرد ماروى معمر الزهرى
قال: (أراد رجل أن يسمى ابنًا له الوليد، فنهاه النبى
وقال: إنه سيكون رجل اسمه الوليد يعمل فى أمتى كما عمل
فرعون فى قومه) وحديث أبى هريرة أثبت فى الحجة من بلاغ
الزهرى، فهو أولى منه.
8 - باب: من دعا صاحبه فنقص من
اسمه حرفا
وَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: قَالَ لىِّ النَّبِىَ (صلى الله
عليه وسلم) : (يَا أَبَا هر) . / 198 - فيه: عَائِشَةَ،
قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يَا عَائِشَ، هَذَا
جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ) ، قُلْتُ: وَعَلَيْهِ
السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قَالَتْ: وَهُوَ يَرَى مَا
لا أَرَى. / 199 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) لأَنْجَشَةُ: (يَا أَنْجَشُ، رُوَيْدَكَ،
سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ) . أما قوله عليه السلام:
(ياعائش) (يا أنجش) فهو من باب النداء المرخم، والترخيم:
نقصان أواخر الأسماء، تفعل ذلك العرب على وجه التخفيف،
ولاترخم ماليس منادى إلا فى ضرورة الشعر ولاترخم من
الأسماء إلا ماكان من ثلاثة أحرف؛ لأن الثلاثة أقل الأصول
إلا ماكان فى آخره هاء التأنيث فإنه يرخم
(9/350)
قلت حروفه أو كثرت، فتقول فى ترخيم عائشة
وأنجشة: ياعائش، وياأنجش، وفى ترخيم مالك: يامال أقبل، ويا
حار للحارث، وفى ترخيم جعفر: ياجعف أقبل فنخذف الراء وندع
ماقبلها على حركته، ومن العرب من إذا رخم الاسم حذف منه
آخره وجعل مابقى اسمًا على حيالة بمنزلة اسم لم يكن فيه
ماحذف منه فبناه على الضم فقال: يامال، وياحار، وياجعف،
فيجوز على هذا ياعائش وياأنجش. وأما قوله: (ياأبا هر) فليس
من باب الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث
إلى التكبير والتذكير؛ لأن أبا هريرة كناه النبى عليه
السلام بتصغير هرة كانت له فخطابه باسمها مذكرًا فهو وإن
كا نقصانًا من اللفظ ففيه زيادة فى المعنى.
9 - باب: الكنية للصبى وقبل أن
يولد للرجل
/ 200 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام أَحْسَنَ
النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو
عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا - وَكَانَ إِذَا
جَاءَ، قَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ
النُّغَيْرُ) ؟ نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا
حَضَرَ الصَّلاةَ، وَهُوَ فِى بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ
بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ، فَيُكْنَسُ، وَيُنْضَحُ،
ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا.
الكنية إنما هى على معنى الكرامة والتفاؤل أن يكون أبا
ويكون له ابن، وإذا جاز أن يكنى الصبى فى صغره، فالرجل قبل
أن يولد له أولى بذلك.
(9/351)
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: عجلوا بكنى
أولادكم لا تسرع إليهم ألقاب السوء. وهذا كله من حسن الأدب
ومما يثبت الود، وفى هذا الحديث جواز المزاح مع الصبى
الصغير. وفيه: جواز لعب الصبيان الصغار بالطير، واتخاذها
لهم وتسليتهم بها. وفيه: استعمال النضح فيما يشك فى طهارته
ولم تتيقن نجاسته.
0 - باب: التكنى بأبى تراب وإن
كانت له كنية أخرى
/ 201 - فيه: سَهْل، إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ
عَلِىّ إِلَيْهِ لأبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ
أَنْ ندعوه بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلا
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، غَاضَبَ يَوْمًا
فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ إِلَى
الْمَسْجِدِ، فَجَاءَهُ النَّبِى عليه السلام يَتْبَعُهُ،
فَقَالَ: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِى الْجِدَارِ، فَجَاءَهُ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَامْتَلأ ظَهْرُهُ
تُرَابًا، فَجَعَلَ النَّبِى عليه السلام يَمْسَحُ
التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَيَقُولُ: (اجْلِسْ يَا أَبَا
تُرَابٍ) . قال المؤلف: الكنية موضوعة لإكرام المدعو بها
وإتيان مسرته؛ لأنه لا يتكنى المرء إلا بأحب الكنى إليه،
وهو مباح له أن يتكنى بكنيتين إن اختار ذلك ولاسيما إن
كناه بإحداهما رجل صالح أو عالم، فله أن يتبرك بكنيته لأن
عليا كان أحب الكنى اليه: أبا تراب. وفى هذا الحديث أن أهل
الفضل قد يقع بينهم وبين أزواجه ماجبل الله عليه البشر من
الغضب والحرج حتى يدعوهم ذلك إلى الخروج عن بيوتهم، وليس
ذلك بعائب لهم.
(9/352)
وفيه ما جبل الله عليه رسوله من كرم
الأخلاق وحسن المعاشرة وشدة التواضع، وذلك أنه طلب عليا
وأتبعه حتى عرف مكانه ولقيه بالدعابة، وقال له: (اجلس أبا
تراب) ومسح التراب عن ظهره ليبسطه ويذهب غيظه وتسكن نفسه
بذلك، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته. وفيه من الفقه الرفق
بالأصهار وترك معاتبتهم وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب
الاستئذان فى باب القائلة فى المسجد، وتقدم الحديث أيضًا
فى باب نوم الرجل فى المسجد فى كتاب الصلاة.
- باب: أبغض الأسماء إلى الله
/ 202 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (أَخْنَى الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأمْلاكِ) . / 203 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ: (أَخْنَعُ اسْمٍ
عِنْدَ اللَّهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ:
أَخْنَعُ الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ - رَجُلٌ تَسَمَّى
بِمَلِكِ الأمْلاكِ) ، قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ غَيْرُهُ
تَفْسِيرُهُ: شَاهَانْ شَاهْ. قال المؤلف: شاهان شاه
بالفارسية هو ملك الملوك. وقد روى سفيان، عن ابن أبى نجيح،
عن مجاهد قال: أكره الأسماء إلى الله ملك الأملاك وإنما
كان ملك الأملاك أبغض إلى الله وأكره إليه أن يسمى به
مخلوق؛ لأنه صفة الله، ولا تليق بمخلوق صفاته ولا أسماؤه،
ولا ينبغى أن يتسمى أحد
(9/353)
بشيء من ذلك لأن العباد لا يصفون إلا بالذل
والخضوع والعبودية وقد تقدم حديث عطاء عن أبى سعيد الخدرى،
عن النبى عليه السلام أنه قال: (لا تسموا أبناءكم حكما ولا
أبا الحكم؛ فإن الله هو الحكيم العليم) . وقوله: (أخنع
الأسماء عند الله) معناه: أذل الأسماء عند الله قال صاحب
الأفعال: يقال: خنع الرجل إذا ذل وأعطى الحق من نفسه.
فعاتب الله من طلب الرفعة فى الدنيا بما لا يحل له من صفات
ربه بالذل يوم القيامة، كما جاء فى الحديث: (إن المتكبرين
يحشرون يوم القيامة فى صور الذر يطوؤهم الناس بأقدامهم) .
2 - باب كنية المشرك
وَقَالَ الْمِسْوَرٌ: سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام
يَقُولُ: (إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ) . / 204
- فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ،
وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. . .
الحديث، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَى سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ) -
يُرِيدُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ -؟ فَعَفَا عَنْهُ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ
اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأذَى، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا (وَكَانَ
النَّبِىّ عليه السلام يَتَأَوَّلُ فِى الْعَفْوِ عَنْهُمْ
مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ. .
. الحديث. / 205 - وفيه: عباس بن عبد المطلب، قلت: يا رسول
الله، هل نفعت أبا
(9/354)
طالب بشيء؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال:
(نعم، هو فى ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان فى الدرك الأسفل
من النار) . فيه: جواز كنية المشركين على وجه التألف لهم
بذلك رجاء رجوعهم وإسلامهم أو لمنفعة عندهم فأما إذا لم
يرج ذلك منهم فلا ينبغى تكنتيتهم، بل يلقون بالإغلاظ
والشدة فى ذات الله ألا ترى قوله فى الحديث (إن النبى عليه
السلام كان يتأول فى العفو عنهم ماأمره الله به حتى أذن له
فيهم) يعنى أذن له فى قتالهم والشدة عليهم، وآيات الشدة
والقتال ناسخة لآيات الصفح والعفو. فإن قال قائل: قولك إنه
لا يجوز تكنية المشرك إلا على وجه التألف له ورجاء المنفعة
بذلك قول حسن، فما معنى تكنية أبى لهب فى القرآن المتلو
إلى يوم القيامة، وماوجه التألف ورجاء المنفعة فى ذلك؟ قيل
له: ليست تكنية أبى لهب من هذا الباب، ولا من طريق التعظيم
للمكنى فى شىء، وقد تأول أهل العلم فى ذلك وجوهًا، أحدها
ذكره ثعلب قال: إنما كنى الله أبا لهب؛ لأن اسمه عبد
العزى، والله تعالى ولايجعله عبدًا لغيره. والثانى: أخبرت
به عن الفقيه ابن أبى زمنين أنه قال: اسم أبى لهب عبد
العزى، وكنيته أبو عتبة، وأبو لهب لقبه، وأنما لقب به فيما
ذكر ابن عباس - لأنه وجهه كان يتلهب جمالا، فليس بكنية.
والثالث: يحتمل أن تكون تكنيته من طريق التجنيس فى البلاغة
ومقابلة اللفظ بما شابهه، فكنى فى أول السورة بأبى لهب؛
لقوله في آخرها:
(9/355)
(سيصلى نارًا ذات لهب) فجعل الله ماكان
يفخر به فى الدنيا ويوينه فى جماله سببًا إلى المبالغة فى
خزيه وعذابه، وليس ذلك من طريق الترفيع والتعظيم. وقال
الطبرى فى حديث العباس: فيه الدليل على أن الله تعالى قد
يعطى الكافر عوضًا من أعماله التى مثلها تكون قربة لأهل
الإيمان بالله؛ لأنه عليه السلام أخبر أن عمه أبا طالب قد
نفعته نصرته إياه وحياطته له أن يخفف عنه من العذاب فى
الآخرة الذى لو لم ينصره فى الدنيا لم يخفف عنه، فعلم بذلك
أن ذلك عوض من الله له مع كفره به لنصرته لرسوله، لا على
قرابته منه، فقد كان لأبى لهب من القرابة مثل ماكان لأبى
طالب، فلم ينفعه ذلك إذ كان له مؤذيا؛ بل قال تعالى: (تبت
يدا أبى لهب) . والضحضاح من النار: الرقيق الخفيف، وكذلك
الضحضاح من الماء، ومن كل شىء: هو القليل الرقيق منه.
والدرك الأسفل من النار: الطبقة السفلى من أطباق جهنم. وقد
تأول بعض السلف أن الدرك الأسفل توابيت من نار تطبق عليهم.
3 - باب: المعارض مندوحة عن
الكذب
وَقَالَ أَنَس: مَاتَ ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ:
كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَدَأَ
نَفَسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ
أَنَّهَا صَادِقَةٌ. / 206 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى
عليه السلام فِى سَفَرٍ لهُ، فحْدا الحادي
(9/356)
فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)
: (أرفق يَا أَنْجَشَةُ - ويحك - بِالْقَوَارِيرِ) . قَالَ
أَبُو قِلابَةَ: يَعْنِى النِّسَاءَ. / 207 - فيه: وَقَالَ
أَنَس مرة: (لا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ) . قَالَ
قَتَادَةُ: يَعْنِى ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. / 208 - وفيه:
أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ النَّبِىّ
عليه السلام فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: (مَا
رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) .
ذكر الطبرى فى إسناده عن عمر بن الخطاب: إن فى المعاريض
لمندوحة عن الكذب. وعن ابن عباس قال: ماأحب أن لى بمعاريض
الكلام كذا وكذا. ومعنى مندوحة متسع. يقال منه: انتدح فلان
بكذا ينتدح به انتداحًا إذا اتسع به، وقال ابن الأنبارى:
يقال: ندحت الشىء إذا وسعته. وقال الطبرى: ويقال: انتدحت
الغنم فى مرابضها إذا تبددت واتسعت من البطنة. وانتدح بطن
فلان واندحى - يعنى: استخرى واتسع. قال المهلب: (وظن أنها
صادقة) يعنى: بما وردت به من استراحة الحياة وهدوء النفس
من تعب العلة، وهى صادقة فى الذى قصدته ولم تكن صادقة فيما
اعتقده أبو طلحة وفهمه من ظاهر كلامها، ومثل هذا لا يسمى
كذبًا على الحقيقة. وقوله فى النساء (القوارير) شبههن بها؛
لأنهن عند حركة الإبل بالحداء وزيادة مشيها به يخاف عليهن
السقوط، فيحدث لهن ما يحدث بالقوارير من التكسر، وكذلك
قوله: (إنه لبحر) شبه جريه بالبحر الذى لا ينقطع، فهذا كله
أصل فى جواز المعاريض واستعمالها فيما يجوز ويحل، ونحو هذا
ماروى عن ابن سيرين أنه قال: (كان رجل من باهلة عيونًا
فرأى بغله شريح فأعجبته، فقال له
(9/357)
شريح: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام -
يعنى أن الله هو الذى يقيمها بقدرته - فقال الرجل: أف أف -
يعنى أنه استصغرها والأف يقال للنتن) . وذكر الطبرى عن
الثورى فى الرجل يزوره إخوانه وهو صائم فيكره أن يعلموه
بصومه، وهو يحب أن يطعموه عنده، فأى ذلك أفضل؛ ترك ذلك أو
إطعامهم؟ قال: إطعامهم أحب إلى، وإن شاء قام عليهم وقال:
قد أصبت من الطعام. ويقول: قد تغديت - يعنى: أمس أو قبل
ذلك. وقال بعض العلماء: المعاريض شىء يتخلص بها الرجل من
الحرام إلى الحلال فيتحيل بها، وإنما يكره أن يحتال فى حق
فيبطله أو فى باطل حتى يموهه ويشبه أمره. وقد قال إبراهيم
النخعى: اليمين على نية الحالف إذا كان مظلومًا، وإن كان
ظالمًا فعلى نية المحلوف له. وقد رخص رسول الله فى الكذب
للإصلاح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب فى الحرب
فيما يجوز فيه المعاريض، ماروى عن عقبة بن العيزار أنه
قال: كنا نأتى فيما يجوز فيه المعاريض، ماروى عن عقبة بن
العيزار أنه قال: كنا نأتى إبراهيم النخعى وكان مختفيًا من
الحجاج، فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا: إن سئلتم عنى
وحلفتم، فاحلفوا بالله ماتدرون أين أنا ولا لنا به علم،
ولا فى أى موضع هو، واعنوا أنكم لا تدرونى فى أى موضع أنا
فيه قاعد أو قائم فتكونون قد صدقتم. قال عقبة: وأتاه رجل
فقال: إنى آت الديوان وإنى اعترضت على دابة وقد نفقت، وهم
يريدون أن يحلفونى بالله أنها هذه التى اعترضت
(9/358)
عليها، فكيف أحلف؟ قال إبراهيم: اركب دابة
واعترض عليها - يعنى: بظنك راكبًا - ثم احلف بالله أنها
الدابة التى اعترضت - يعنى بظنك. وعاتبت إبراهيم النخعى
امرأته فى جاريه له وبيده مروحة، فقال أشهدكم أنها لها -
وأشار بالمروحة - فلما خرجنا من عنده قال: على أى شىء
أشهدكم؟ قالوا: على الجارية. قال: ألم ترونى أشير
بالمروحة. وسئل النخعى عن رجل مر بعشار فادعى حقا، فقال:
أحلف بالمشى إلى بيت الله ما له عندك شىء، واعن مسجد حيك.
وقال رجل لإبراهيم: إن الشيطان أمرنى أن آتى مكان كذا
وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة؟ قال: قل:
والله ماأبصر إلا ماسددنى غيرى تعنى: إلا مابصرنى ربى.
4 - باب: قول الرجل للشىء ليس
بشىء وهو ينوى أنه ليس بحق
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَالَ النَّبِى عليه السلام
للْقَبْرَيْنِ: (يُعَذَّبَانِ بِلا كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ
لَكَبِيرٌ) . / 209 - فيه: عَائِشَة: سَأَلَ أُنَاسٌ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسُوا
بِشَىْءٍ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ
يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تِلْكَ
الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ،
فَيَقُرُّهَا فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ،
فَيَخْلِطُونَ فِيهَا، أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) .
(9/359)
قال المؤلف: هذا الباب أصل لما تقوله العرب
من نفيهم العمل كله إذا نفت التجويد فيه والإتقان، فتقول
للصائع إذا لم يحكم صنعته: ماصنعت شيئًا، وتقول للسامر
والمتكلم إذا لم يحسن القول: ماقلت شيئا. على سبيل
المبالغة فى النفى، ولا يكون ذلك كذبًا كما قال عليه
السلام فى الكهان: (ليسوا بشىء) لما يأتون به من الكذب،
يعنى الذى ليس بشىء وهو خلق موجود، وهذا الحديث نص
الترجمة. وقوله عليه السلام: (يعذبان بلا كبير) عندكم
ليسارة التحرز من البول والتحفظ منه، فنفى عنه أنه كبير
لانتفاء المشقة عنا فى غسله على سبيل المبالغة فى التحرز
مما يوجب العذاب، وإن صغر فى نفسه، ثم قال: (وإنه لكبير)
يعنى عند الله، لو ورد الشرع بالأمر بغسل البول وأن من
خالفه فقد استحق الوعيد إن لم يعف الله عنه.
5 - باب رفع البصر إلى السماء
وقوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء
كيف رفعت (
وَقَالت عَائِشَة: رَفَعَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم)
رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ. / 210 - فيه: جَابِر، قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثُمَّ
فَتَرَ عَنِّى الْوَحْىُ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى،
سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى
إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى
بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالأرْضِ) . / 211 - وفيه: ابن عباس: بت عند ميمونة
والنَّبِىّ عندها، فَلما كَانَ ثلث الليل الآخر قعد فنظر
إلى السماء.
(9/360)
قال المؤلف: هذا الباب رد على بعض أهل
الزهد فى قولهم أنه لا ينبغى النظر إلى السماء تخشعًا
وتذللاً لله تعالى. وروى عن عطاء السلمى أنه مكث أربعين
سنة لا ينظر إلى السماء فحانت منه نظرة فخر مغشيًا عليه،
فأصابه فتق فى بطنه. وذكر الطبرى عن إبراهيم التيمى أنه
كان يكره أن يرفع الرجل بصره الس السماء فى الدعاء، قال
الطبرى: ولا أؤثم فاعل ذلك؛ لأنه لم يأت بالنهى عن ذلك
خبر، وإنما عن ذلك المصلى فى دعاء كان أو غيره. قال
المؤلف: والحجة فى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ثابتة
بخلاف هذا القول فلا معنى له، وروى ابن إسحاق عن يعقوب بن
عتبة، عن عمر بن عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله ابن
سلام، عن أبيه قال: (كان رسول الله إذا جلس يتحدث يكثر أن
يرفع طرفه إلى السماء) ذكره أبو داود.
6 - باب من نكت العود فى الماء
والطين
/ 212 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) فِى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ
الْمَدِينَةِ، وَفِى يَدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، فَجَاءَ
رَجُلٌ يَسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (افْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. . .)
الحديث. قال المؤلف: من عادة العرب أخذ المخصرة والعصا
والاعتماد عليها عند الكلام وفى المحافل والخطب، وأنكرت
الشعوبية على
(9/361)
خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى
المعانى، والشعوبية طائفة تبغض العرب وتذكر مثالبها وتفضل
العجم، وفى استعمال النبى عليه السلام للمحضرة الحجة
البالغة على من أنكرها وسأزيد فى بيان المحاضرة والعصى فى
الباب بعد هذا إن شاء الله.
7 - باب: الرجل ينكت الشىء
بيده فى الأرض
/ 213 - وفيه: عَلِىّ، كُنَّا مَعَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) فِى جَنَازَةٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِى الأرْضَ
بِعُودٍ، وَقَالَ: (لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا
وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنَ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ) ، فَقَالُوا: أَفَلا نَتَّكِلُ؟ قَالَ:
(اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ،) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى (الآيَةَ) [الليل: 5] . / 214 - وفيه: أُمَّ
سَلَمَةَ، اسْتَيْقَظَ النَّبِى عليه السلام فَقَالَ:
(سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟
وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ
الْحُجَرِ - يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ - حَتَّى
يُصَلِّينَ. . . .) ؟ الحديث. وقد تقدم فى الباب قبل هذا
أن الشعوبية تطعن على خطباء الهرب فى أخذ المخصرة عند
مناقلة الكلام ومساجله الخصوم، وعابوا الإشارة بالعصا
والإتكاء على أطراف القسى، وخد وجه الأرض بها والاعتماد
عليها. وحديثه عليه السلام أنه نكت الأرض بحضرة، وقال:
(ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار)
حجة على من أنكرها، والعصا مأخوذة من أصل كريم ومعدن
(9/362)
شريف ولا ينكرها إلا جاهل، وقد جمع الله
لموسى فى عصاه من البراهيم العظام والآيات الجسام ما آمن
به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان بن داود لخبتهه
وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبى عليه
السلام وعنترته، وكان النبى عليه السلام يخطب بالقضيب وكفى
بذلك دلايلا على شرف حال العصا، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء
الخطباء، وروى عن النبى عليه السلام أنه طاف بالبيت يستلم
الركن بمحجنه، والمحجن: العصا المعوجه، وكانت العصا لا
تفارق يد سليمان بن داود فى مصافاته وصلواته وموته، وقال
مالك: كان عطاء بن يسار المخصرة يستعين بها. قال مالك:
والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشاب يتقوى بها عند قيامه وقد
كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصى يتكئون عليها، حتى
لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من
بعض من يجلس إليه حتى يقوم. وسألت المهلب عن حديث أم سلمة
فقلت له: ليس فيه معنى الترجمة، قال: إنما هو مقو لمعنى
الحديث الذى قبله الموافق للترجمة بالقدر السابق على كل
نفس وفى كتاب مقعدها من الجنة والنار فى أم الكتاب بقوله:
(ماذا أنزل الليلة من الفتن) يحذر أسباب القدر بالتعرض
للفتن التى بالغ فى التحذير منها
(9/363)
بقوله عليه السلام: (القاتل والمقتول فى
النار) فلما ذكر أن لكل نفس مقعدها من الجنة والنار، أكد
التحذير من النار بأن ذكر الناس بأقوى أسباب النار وهى
الفتن والعبية فيها والتقاتل على الولاية، وما يفتح على
الناس من الخزائن التى تطغى وتبطر، وليس عليه تقصير فى أن
أدخل مايوافق الترجمة ثم أتبعه بما يوافق معناها.
8 - باب التكبير والتسبيح عند التعجب وَقَالَ عُمَرَ:
قُلْتُ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أطَلَّقْتَ
نِسَاءَكَ؟ قَالَ: (لا) ، قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ
. / 215 - فيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِى
الْمَسْجِدِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ
الَّذِى عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ بِهِمَا
رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ نَفَذَا، فَقَالَ لَهُمَا
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى رِسْلِكُمَا،
إِنَّمَا هِى صَفِيَّةُ) ، قَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. قال المؤلف:
التكبير والتسبيح معناهما تعظيم الله وتنزيه من السوء،
واستعمال عند التعجب واستعظام الأمور حسن، وفيه تمرين
اللسان على ذكر الله، وذلك من أفضل الأعمال.
9 - باب: النهى عن الحذف
/ 216 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِىِّ،
نَهَى النَّبِى عليه السلام عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ:
(إِنَّهُ لا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلا يَنْكَأُ
الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ، وَيَكْسِرُ
السِّنَّ) . الحذف عند العرب: الرمى بالسبابة والابهام،
وأكثر ذلك فى الرمى بالحجر، ومنه حصى الحذف فى الحج، وهذا
من باب النهى عن أذى المؤمنين، وهو مثل قوله عليه السلام
للذى مر فى المسجد
(9/364)
بالسهام: (أمسك بنصالها لا تعقرن بها
مسلمًا) وهذا من باب أدب الإسلام.
0 - باب: الحمد للعاطس
/ 217 - فيه: أَنَس، عَطَسَ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى عليه
السلام فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ
فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: (إِن هَذَا حَمِدَ اللَّهَ،
وَهَذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ) . وترجم له باب لا يشمت
العاطس إذا لم يحمد الله. اختلف العلماء أنه من عطس وحمد
الله فإنه ينبغى لمن سمعه أن يشمته، وإنما اختلفوا فى وجوب
ذلك على مايأتى بعد هذا، وأجمعوا أنه إذا لم يحمد الله أنه
لا يجب على من سمعه تشميته. والتشميت عند العرب: الدعاء،
قال الخليل: يقال: سمث وشمت - بالسين والشين. قال ثعلب:
التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنبك مايشمت به
عليك، وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن.
1 - باب: تشميت العاطس إذا حمد
الله
/ 218 - فِيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وفيه: الْبَرَاءِ، أَمَر
النَّبِى عليه السلام بتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. . . الحديث.
قال المؤلف: إن قال قائل: كيف قال البخارى فى ترجمته باب
(9/365)
تشميت العاطس إذا حمد الله، ولم يأت بذلك
فى حديث البراء، وأنما دل حديث البراء على أن كل عاطس يجب
تشميته، وإن لم يحمد الله؛ لقوله فيه: (أمرنا رسول الله
بتشميت العاطس) وهذا لفظ عام؟ قيل له: إنما أشار البخارى
إلى حديث أبى هريرة الذى لم يأت بنصه فى الباب، وذكره فى
الباب بعد هذا وفى الباب الآخر الذى بعده، وفيه أن النبى
عليه السلام ذكر فيه التشميت للعاطس إذا حمد الله على
ماتقدم فى حديث أنس قبل هذا فدل حديث أبى هريرة وأنس أن
قول البراء أمرنا رسول الله بتشميت العاطس، وإن كان ظاهرة
العموم فمعناه الخصوص وأن المراد به بعض العاطسين، وهم
الحامدون لله تعالى كان ينبغى للبخارى أن يذكر حديث أبى
هريرة بنصه فى هذا الباب ويجعله بعد حديث البراء، وهذا من
الأبواب التى عجلته المنية عن تهذيبها، لكن قد فهم المعنى
الذى ترجم به.
2 - باب: ما يستحب من العاطس
ويكره من التثاؤب
/ 219 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ،
وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ
اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ
يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ
الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا
قَالَ: هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) . اختلف العلماء
فى وجوب التشميت، فذهبت طائفة إلى أنه واجاب متعين على كل
من سمع حمد العاطس، هذا قول أهل الظاهر، واحتجوا بهذا
الحديث وقالوا: ألا ترى قوله عليه السلام: (فحق
(9/366)
على كل مسلم أن يشمته) فوجب على كل سامع،
وذهبت طائفة إلى أنه واجب على الكفاية، كرد السلام، هذا
قول مالك وجماعة، وقال آخرون: هو إرشاد وندب وليس بواجب،
وتأولوا قوله عليه السلام: (فحق على كل مسلم أن يشمته) أن
ذلك فى حسن الأدب وكرم الأخلاق كما قال عليه السلام: (من
حق الإبل أن تحلب على الماء) أى أن ذلك حق فر كرم المواساة
لا أن ذلك فرض؛ لاتفاق أئمة الفتوى أنه لا حق فى المال سوى
الزكاة.
3 - باب: إذا عطس كيف يشمت
/ 220 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ
صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ،
وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) . اختلف السلف فيما يقول العاطس،
فاختارت طائفة أن يقول: الحمد لله، على ماجاء فى الحديث،
وروى ذلك عن ابن مسعود وأنس، واختارت طائفة الحمد لله رب
العالمين، وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود أيضًا وهو قول
النخغى، واختارت طائفة أن يقول: الحمد لله على كل حال، روى
ذلك عن أبى هريرة وابن عمر، وقال ابن عمر: هكذا علمنا رسول
الله. قال الطبرى: والصواب فى ذلك أن العاطس مخير فى أى
هذه المحامد شاء، وقد حدثنا محمد بن عمارة، حدثنا عمرو بن
حماد بن أبى طلحة، عن عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبى رباح،
(9/367)
عن مولى لأم سلمة، عن أم سلمة زوج النبى
قالت: (عطس رجل فى جانب بيت النبى فقال: الحمد لله، فقال
له النبى: يرحمك الله. ثم عطس آخر فقال: الحمد لله ربا
العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال النبى (صلى
الله عليه وسلم) : (ارتفع هذا على تسع عشرة درجة) . وقد
روى عن النبى كل ذلك فعله، وفعله السلف الصالحون فلم ينكر
بعضهم من ذلك شيئًا على بعض، وقد اختلف أيضًا فى قول
المشمت للعاطس، فقالت طائفة: يقول له يرحمك الله، يخصه
بالدعاء وحده على ماجاء فى هذا الحديث، روى ذلك عن أنس
ورواية عن ابن مسعود، واحتجوا أيضًا بما روى عمرو بن دينار
عن عبيد ابن عمير قال: (لما فرغ الله من خلق آدم عطس آدم،
فألقى عليه الحمد، فقال له ربه تعالى: يرحمك ربك) . وقالت
طائفة: يعم بالتشميت العاطس وغيره روى عن إبراهيم قال:
كانوا يعمون بالتشميت والسلام. وكان الحسن يقول: الحمد لله
يرحكمكم الله. وقالت طائفة: يقول يرحمنا الله وإياكم، روى
ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وسالم وابراهيم. واختلف السلف
أيضًا فى الرد على المشمت فقالت طائفة: يقول يهديكم الله
ويصلح بالكم على حديث أبى هريرة، روى ذلك عن أبى هريرة
وكان الشعبى يقول: يهديكم الله. وأنكرت طائفة أن يقول
يهديكم الله ويصلح بالكم، واختارت أن يقول: يغفر الله لنا
ولكم، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبى وائل والنخعى
وهو قول الكوفيين، واحتجوا بحديث أبى بردة بن أبى موسى عن
أبيه: (أن اليهود كانوا
(9/368)
يتعاطسون عند النبي عليه السلام جاء أن
يقول يرحمكم الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم) . وقال
مالك والشافعى: إن شاء أن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم،
أو: يغفر الله لكم لا بأس بذلك كله. وقال الطبرى: لا وجه
لقول من أنكر (يهديكم الله ويصلح بالكم) لأن الأخبار بذلك
عن النبى عليه السلام أثبت من غيرها. واحتج الطحاوى لقول
مالك بقول الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها
أو ردوها) فإذا قال جواب قوله يرحمكم الله: يغفر لكم، فقد
رد مثل ماحياه به، وإذا قال: يهديكم الله ويصلح بالكم. فقد
حياة بأحسن مما حساه؛ لأن المغفرة إنما هى ستر الذنوب،
والرحمة ترك العقاب عليها، ومن حصلت له الهداية وكان
مهديًا، وكان بعيدًا من الذنوب، ومن أصلح باله فحاله فوق
حال المغفور له، فكان ذلك أولى.
4 - باب: إذا تثاءب فليضع يده
على فيه
/ 221 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ. . .) إلى قوله:
(وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ
الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ،
فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا
تَثَاءَبَ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) . قال المؤلف: قد
جاء فى آخر هذا الحديث معنى كراهية التثاءب وهو من أجل ضحك
الشيطان منه فواجب إخزاؤه ودحره برد التثاؤب كما أمر النبى
عليه السلام بأن يضع يده على فيه.
(9/369)
فإن قيل: ليس فى الحديث وضع اليد على الفم
وإنما فيه (فليرده) ، وقد يمكن رده بإلاق الفم. قيل قد روى
لك سفيان عن ابن عجلان، عن المقبرى، عن أبى هريرة أن النبى
عليه السلام قال: (العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان،
فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإذا قال: آه آه، ضحك
الشيطان من جوفه) ذكره الترمذى فى مصنفه، وقال ابن القاسم:
رأيت مالكًا إذا تثاءب يضع يده على فيه، وينفث فى غير
الصلاة، ولا أدرى ماكان يفعل فى الصلاة، وروى عنه فى
المتسخرجة أنه كان لا ينفث فى الصلاة. ومعنى إضافة التثاؤب
إلى الشيطان إضافة رضى وإرادة أى أن الشيطان يحب أن يرى
تثاؤب الانسان؛ لأنها حال المثله وتغيير لصورته فيضحك من
جوفه، لا أن الشيطان يفعل التثاؤب فى الانسان لأنه لا خالق
للخير والشر غير الله، وكذلك كل ما جاء من الأفعال
المنسوبة إلى الشيطان فإنها على معنيين إما إضافة رضى
وإرادة أو إضافة بمعنى الوسوسة فى الصدر والتزيين، وقد روى
أبو داود من حديث أبى سعيد الخدرى أن النبى عليه السلام
قال: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك يده على فيه؛ فإن الشيطان
يدخل) .
(9/370)
|