شرح صحيح
البخارى لابن بطال 71 - كتاب التعبير
باب: أول ما بدئ به الرسول -
عليه السلام - من الوحى الرؤيا الصالحة
/ 1 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْوَحْيِ
الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى
رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. . . وذكر
الحديث بطوله. قال المهلب: الرؤيا الصالحة الصادقة قد
يراها الرجل المسلم والكافر والناس كلهم، إلا أن ذلك يقع
لهم فى النادر والوقت دون الأوقات، وخص النبى عليه السلام
بعموم صدق رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتمثل فى صورته
لئلا يتسور بالكذب على لسانه عليه السلام فى النوم،
والرؤيا جزء من أجزاء الوحى، فإن قيل: فإن الشيطان قد تسور
عليه فى اليقظة وألقى فى أمنيته عليه السلام. قيل: ذلك
التسور لم يستتم؛ بل تلاقاه الله فى الوقت بالنسخ وأحكم
آياته، وكانت فائدة تسوره إبقاء دليل البشرية عليه لئلا
يغلو مغلون فيه، فيعبدونه من دون الله كما فعل بعيسى
وعزير. فإن قيل: كيف يمنع الشيطان أن يتصور بصورة النبى فى
المنام وأطلق له أن يتمثل ويدعى أنا البارى تعالى والصورة
لاتجوز على البارى؟ قيل له: إنما منع أن يتصور فى صورة
النبى الذى هو صورة فى الحقيقة دلالة للعلم وعلامة على صحة
الرؤيا من
(9/511)
ضغثها وأطلق له أن يتصور على ماليس بصورة
على ماليس بصورة، ولايجوز عليه دلالة للعلم أيضًا وسببًا
إليه؛ لأنه قد تقرر فى نفوس البشر أنه لايجوز التجسم على
البارى - تعالى فجاز أن يجعل لنا هذا الوهم فى النوم دليل
على علم ما لاسبيل إلى معرفته إلا من طريق التمثيل فى
البارى - تعالى، مرة، وفى سائر الأرباب والسلاطين مرة.
وكذلك قال أبو بكر بن الطيب الباقلانى: إن رؤية البارى فى
النوم أوهام وخواطر فى القلب فى أمثال لاتليق به فى
الحقيقة وتعالى سبحانه عنها دلالة للرائى على أمر كان أو
يكون مسائر المرئيات. وهذا كلام حسن؛ لأنه لما كان خرق
العادة دلالاً على صحة العلم فى اليقظة للأنبياء يهد بها
الخلق، جعل خرق العادة الجارية على النبى يتصور الشيطان
على مثاله بالمنع من ذلك دليلاً على صحة العلم. فإن قيل:
كان يجب أن تكون الرؤيا إذا رأى فيها البارى صادقة أبدًا
كما كانت الرؤيا التى رأى فيها النبى عليه السلام فالجواب
أنه لما كان الله تعالى قد يعبر به فى النوم علس سائر
السلاطين لأنه سلطان السلاطين ويعبر له على الاباء والسادة
والمالكين، ووجدنا سائر السلاطين يجوز عليهم الصدق والكذب
فأبقيت رؤياهم على العادة فيهم. ووجدنا النبيين لا يجوز
الكذب على أحد منهم، ولا على شىء من حالهم فابقيت حال
النبوة فى النوم على ماهى عليه فى اليقظة من الصدق برؤية
النبى، وإذا قام الدليل عند العابر على الرؤيا التى يرى
فيها البارى لايراد به غيره لم يجز فى تلك الرؤيا التى قام
فيها دليل الحق على الله كذبًا أصلاً، لا في
(9/512)
مقال ولا فى فعال، فتشابهت الرؤيا من حيث
اتفقت فى معنى الصدق، واختلفت من حيث جاز غير ذلك، وهذا
مالاذهاب عنه. وقوله: (فسكن لذلك جاشة) قال صاحب العين:
الجأش: النفس.
باب: رؤيا الصالحين
وقوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق (الآية / 2
- فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
قَالَ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ
جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ
النُّبُوَّةِ) . قال المهلب: (الرؤيا الحسنة من الرجل
الصالح) إنما يريد عامة رؤيا الصالحين، وهى التى يرجى
صدقها؛ لأنه قد يجوز على الصالحين الأضغاث فى رؤياهم؛ لكن
لما كان الأغلب عليهم الخير والصدق وقلة تحكم الشيطان
عليهم فى النوم أيضًا، لما جعل الله فيهم من الصلاح، وبقى
سائر الناس غير الصالحين تحت تحكم الشيطان عليهم فى النوم؛
مثل تحكمه عليهم فى اليقظة فى ألب أمورهم، وإن كان قد يجوز
منهم الصدق فى اليقظة فكذلك يجوز فى رؤياهم صدق أيضًا.
باب الرؤيا من الله
/ 3 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ النَّبِي (صلى الله
عليه وسلم) : (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنَ اللَّهِ
وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ) .
(9/513)
/ 4 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ سَمِعَ
النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (إِذَا رَأَى
أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِى مِنَ
اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ
بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ
فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ
شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّهَا لا
تَضُرُّهُ) . فإن قال قائل: مامعنى قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) وقد تقرر أنه
لا خالق والشر غير الله، وأن كل شىء بقدره وخلقه؟ . قال
المهلب: فالجواب أن النبى عليه السلام سمى ريا من خلص من
الأضغاث وكان صادقا تأويله موافقًا لما فى اللح الحفوظ،
فحسنت إضافته إلى الله، وسمى الريا الكاذبة التى هى من حيز
الأضغاث حلمًا وأضافها إلى الشيطان؛ إذ كانت مخلوقة على
شاكلة الشيطان وطبعه، وليعلم الناس مكائدة فلا يحزنزن لها
ولايتعذبون بها، وإنما سميت ضغثًا لأن فيها اشياء متضادة.
قال غيره: والدليل على أنه لايضاف إلى الله تعالى إلا
الشىء الطيب الطاهر قوله تعالى: (إن عبادى ليس لك عليهم
سلطان) فأضافهم إلى نفسه لأنهم أولياؤه ومعلوم أن غير
أوليائه عباد الله أيضًا، وقال تعالى: (فإذا نفخت فيه من
روحى) ، (وطهر بيتى للطائفين) وقال تعالى: (والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت) ، فأضافهم إلى ما هم أهله وإن كان الكل
خلقه وعبيده (وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) قال
المهلب: وإن كان المحزن من الأحلام مضافًا إلى الشيطان فى
الأغلب وقد يكون المحزن فى النادر من الله تعالى لكن لحكمة
(9/514)
بالغه، وهو أن ينذر بوقوع المحزن من
الأحلام بالصبر لوقوع ذلك الشىء لئلا يقع على غرة فيقتل،
فإذا وقع على مقدمة وتوطين نفس كان أقوى النفوس وأبعد لها
من أذى البغثة، وقال (فإنها لا تضره) يعنى بها ماكان من
قبل الشيطان جعل الله الاستعاذةمنها مما يدفع به أذاها،
ألا ترى قول أبى قتادة: (إن كنت لأرى الرؤيا هى أثقل على
من الجبل فلما سمعت بهذا الحديث كنت لاأعدها شيئًا) . وروى
قتادة، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام
فى هذا الحديث: (فمن رأى منكم مايكره فليقم ويصلى) .
باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة
/ 5 - فيه: عُبَادَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ
وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) . ورواه أنس،
وأبو هريرة، وأبو سعيد، عن النبى. ذكر الطبرى فى تهذيب
الآثار أحاديث كثيرة مخالفة لحديث هذا الباب فى الأجزاء،
منها حديث ابن عباس: (أن الرؤيا جزء من أربعين جزءًا من
النبوة) وحديث عبد الله بن عمرو: (أنها جزء من تسعة
وأربعين جزءًا من النبوة) وحديث العباس: (جزء من خمسين
جزءًا من النبوة) وحديث ابن عمر وابن عباس وأبى هريرة:
(جزء من سبعين جزءًا من النبوة) . قال الطبرى: والصواب أن
يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها
مخرج معقول. فأما قوله: (من
(9/515)
سبعين جزءًا من النبوة) . فإن ذلك قول عام
فى كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها فى منامه على أى
أحواله كان. وهذا قول ابن مسعود وأبى هريرة والنخعى أن
الرؤيا جزء من سبعين جزءًا من النبوة. وأما قوله أنها جزء
من اربعين أو ستة وأربعين فإنه يريد بذلك ماكان صاحبها
بالحال التى ذكر عن الصديق - رضى الله عنه - أنه يكون بها.
روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن
زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر الصديق كان يقول: لأن يرى
الرجل المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إلى من كذا وكذا.
قال الطبرى: فمن كان من أهل إسباغ الوضوء فى السبرات
والصبر فى الله على المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة
فرؤيا الصالحة إن شاء الله جزء من أربعين جزءًا من النبوة،
ومن كانت حالة فى ذاته بين ذلك فروياه الصادقة بين الجزء
من الأربعين إلى السبعين لاينتقص عن سبعين ولايزاد على
الأربعين. قال المؤلف: أصح ما فى هذا الباب أحاديث الستة
وأربعين جزءًا ويتلوها فى الصحة حديث السبعين جزءًا، ولم
يذكر مسلم فى كتابه غير هذين الحدثين، فأما حديث السبعين
جزءًا فرواه عن أبو بكر ابن أبى شيبة، عن أبى أسامة، عن
عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام
ورواه ابن نمير ويحى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن
ابن عمر، ورواه الليث أيضًا عن نافع، عن ابن عمر وأما
سائرها فهى من أحاديث الشيوخ.
(9/516)
السبعين جزءًا وحديث الستة واربعين جزءًا،
وهذا تعارض ولايجوز النسخ فى الأخبار؟ فالجواب: أنه يجب أن
نعلم مامعنى كون الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة فلو كانت
جزءًا من الف جزء منها لكان ذلك كثيرًا. فنقول وبالله
التوفيق: إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو
الإعلام فى اللغة والمعنى أن الرؤيا إنباء صادق من الله،
لاكذب فيه كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذى
لايجوز عليه الكذب فتشاهبهت الؤيا النبوة فى صدق الخبر عن
الغيب. فإن قيل: فما معى اختلاف الأجزاء فى ذلك فى القلة
والكثرة؟ قيل: وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما، وهو
أن يرى الرجل رؤيا جلية ظاهرة التأويل مثل من رأى أنه يعطى
شيئًا فى المنام فيعطى مثله بعينه فى اليقظة، وهذا الضرب
من الرؤيا لا إغراق فى تأويلها ولا رمز فى تعبيرها، والقسم
الثانى مايراه من المنامات المرموزة البعيدة المرام فى
التأويل وهذا الضرب يعسر تأويله إلا الحذاق بالتعبير لبعد
ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا القسم من السبعين جزءًا
كانت الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق، وآمن من وقوع الغلط فى
تأويلها، وإذا كثرت الأجزاء بعدت بمقدار ذلك وخفى تأويلها،
والله أعلم بما أراد نبيه (صلى الله عليه وسلم) . وقد عرضت
هذا القول على جماعة من أصحابى ممن وثقت بدينة وفهمه
فحسنوه وزادنى فيه بعضهم مرة، وقال لى: الدليل على صحته أن
النبوة على مثل هذه الصفة تلقاها نبينا عليه السلام
(9/517)
جبريل بالوحى فيكلمه بكلام فيعيه بغير
مؤمنة ولا مشة، ومرة يلقى إليه جملا وجوامع يشتد عليه فكها
وتبيينها، حتى تأخذه الرحضاء ويتحدر منه العرق مثل الجمان
فى اليوم الشديد البرد، ثم يعينه الله على تبيين ماألقى
إليه من الوحى، فلما كان تلقيه عليه السلام للنبوة
المعصومة بهذه الصفة كان تلقى المؤمن من عند الملك الآتى
بها من أم الكتاب بهذه الصفة، والله أعلم. وفيه: تأويل
ذكره أبو سعيد السفسقى عن بعض أهل العلم قال معنى قوله:
(جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . فإن الله تعالى -
أوحى إلى محمد عليه السلام فى الرؤيا ستة أشهر، ثم بعد ذلك
أوحى إليه بإعلام باقى عمره، وكان عمره فى النبوة ثلاثة
وعشرين عامًا فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار، عن ابن
عباس، فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عامًا وجدنا
ذلك من ستة وأربعين. وهذا التأويل يفسد من وجهين: أحدهما:
أنه قد اختلف فى مدة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقيل:
إنها كانت عشرين عامًا. رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة،
والوجه الثانى: أنه يبقى حديث السبعين جزءًا بغير معنى.
باب: المبشرات
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلا
الْمُبَشِّرَاتُ) ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟
قَالَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) . قال المؤلف: وذكر ابن
أبى شيبة بإسناده عن أبى الدرداء: (أنه سأل النبى عليه
السلام عن قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا (.
(9/518)
قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو
ترى له، وفى الآخرة الجنة) . روى مثله عن ابن عباس وعروة
ومجاهد. قال المهلب: وحديث أبى هريرة خرج لفظه على العموم،
ومعناه الخصوص؛ وذلك أن المبشرات هى الرؤيا الصادقة من
الله التى تسر رأئيها وقد تكون صادقة منذرة من الله تعالى
لاتسر رأئيهايريها الله المؤمن رفقًا به ورحمة له؛ ليستعد
لنزول البلاء قبل وقوعه فقوله: (لم يبق بعدى إلا المبشرات)
خرج على الأغلب من حال الرؤيا، وقد قال محمد بن واسع:
الرؤيا بشرى للمؤمن، ولا تغره. قال الطبري: فإن قال قائل:
فإن كانت كل رؤيا حسنة وحى من الله وبشرى للمؤمنين، فما
باله يرى الرؤيا الحسنة أحيانًا، ولايجد لها حقيقة فى
اليقظة؟ فالجواب: أن الرؤيا مختلفة الأسباب فمنها من وسوسة
وتخزين للمؤمن، ومنها من حديث النفس فى اليقظة فيراه فى
نومه، ومنها ماهو وحى من الله، فما كان من حديث النفس
ووسوسة الشيطان فإنه الذى يكذب، وماكان من قبل الله فإنه
لا يكذب. وبنحو هذا ورد الخبر عن النبى عليه السلام وروى
ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أبيه، عن أيوب وهشام، عن ابن
سيرين، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (الرؤيا ثلاث:
رؤيا بشرى من الله، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا
تخزين من الشيطان) .
(9/519)
باب: رؤيا يوسف عليه
السلام
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا
أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا (الآية
[يوسف: 4] ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ
رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ (إلى) بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 100]
. قال المؤلف: رؤيا يوسف حق ووحى من الله كرؤيا سائر
الأنبياء، ألا ترى قول يوسف لأبيه يعقوب: (يا أبت هذا
تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقًا) . وقول بعقوب
ليوسف: (لا تقصص رؤياك على إخواتك فيكيدوا لك كيدًا) قال
له ذلك علم من تأويل الرؤيا فخاف أن يحسدوه، وكان تبين له
الحسد منهم له، وهذا أصل أن لاتقص الرؤيا على غير شفيق
ولاناصح، ولاتقص على من لا يحسن التأويل.
(9/520)
باب: رؤيا إبراهيم
عليه السلام
وقوله تعالى: (فلما بلغ معه السعى (الآيات وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: (أَسْلَمَا (: سَلَّمَا لأُمِرَا اللَّه،)
وَتَلَّهُ (وَضَعَ وَجْهَهُ بِالأرْضِ. قال المهلب: هذا
دليل أن رؤيا الأنبياء وحى لايجوز فيها الضغث لأ، إبراهيم
عليه السلام حكم بصدقها، ولم يشك أنها من عند الله فسهل
عليه ذبح ابنه والتقرب به إلى الله، وكذلك فعل إسحاق حين
أعلمه أبوه إبراهيم برؤياه، فسلم لحكم الله ورضى وانقاد له
وفوض أمره إلى الله فقال: (يا أبت افعل ماتؤمر ستجدنى إن
شاء الله من الصابرين) بهذه الآية استدل ابن عباس على أن
رؤيا الأنبياء وحى.
باب: التواطؤ على الرؤيا
/ 7 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ
الْقَدْرِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، وَأَنَّ أُنَاسًا
أُرُوا أَنَّهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْتَمِسُوهَا فِى
السَّبْعِ الأوَاخِرِ) . قال المهلب: فيه الحكم على صحة
الرؤيا بتوطئها وتكريرها، وهذا أصل فى ذلك يجب لنا أن نحكم
به إذا ترادفت الريا وتواطأت بالصحة؛ كما حكم النبي - عليه
السلام -.
(9/521)
باب: رؤيا أهل السجن
وأهل الفساد والشرك لقوله تعالى: (ودخل معه السجن (إلى:
(يعصرون (
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ
يُوسُفُ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأجَبْتُهُ) . قال
المهلب: إنما ترجم بهذا لجواز أن يكون فى ريا أهل الشرك
رؤيا صادقة كما كانت رؤية الفتيين صادقة إلا أنه لايجوز أن
تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إلى النبوة فى التجزئة
لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا الحسنة يراها العبد
الصالح أو ترى له جزء له ستة وأربعين جزءًا من النبوة) .
فدل هذا أنه ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا وله حقيقة
يكون جزءًا من ستة واربعين جزءًا من النبوة، قال أبو الحسن
بن أبى طالب: وفى صدق رؤيا الفتين حجة على من زعم أن
الكافر لايرى رؤيا صادقة. فإن قيل: فإذا رأى الكافر رؤيا
صادقة فما مزيه المؤمن عليه فى رؤياه، ومعنى خصوصه عليه
السلام المؤمن بالرؤيا الصادق فى قوله: (يراها الرجل
الصالح أو ترى له) ؟ . فالجواب: أن لمنام المؤمن مزية على
منام الكافر فى إنباء والإعلام والفضل والإكرام، وذلك أن
المؤمن يجوز أن يبشر على إحسانه وينبأ بقبول أعماله ويحذر
من ذنب عمله ويردع من سوء قد أمله، ويجوز أن يبشر بنعيم
الدنيا وينبأ ببؤسها، والكافر فإن جاز أن يحذر ويتوعد على
كفره فليس عنده ما عند المؤمن من الأعمال الموجبة لثواب
الآخرة وكل مابشر به الكافر من حالة وغبط به من أعماله،
فذلك
(9/522)
غرور من عدوه ولطف من مكائده فنقص لذلك حظه
من الرؤيا الصادقة عن حظ المؤمن لأن النبى عليه السلام حين
قال: (رؤيا المؤمن ورؤيا الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا
من النبوة) لم يذكر فى ذلك كافرًا ولامبتدعًا فأخرجنا لذلك
مايراه الكافر من هذه التقدير والتجزئة لما فى الأخبار من
صريح الشرط لرؤيا المؤمن، وأدخلنا ما يراه الكافر من صالح
الرؤيا فى خبره المطلق عليه السلام: (الرؤيا من منامات
الكفار فهى من الله) ، ولم نقل كذا وكذا من النبوة لاسيما
أن الشعرى وابن الطيب يريان أن جميع مايرى فى المنام من حق
أو باطل خلق لله فما كان منه صادقا خلقه بحضور الملك، وما
كان باطلاً خلقه بحضور الشيطان، فيضاف بذلك إليه. فإن قال:
يجوز أن نسمى مايراه الكافر صالحًا؟ قيل له: نعم وبشارة
أيضًا كانت الرؤيا له أو لغيره من المؤمنين لقوله عليه
السلام: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له) . فاحتمل
هذا الكلام أن يراها الكافر لغيره من المؤمنين وهو صالح
للمؤمنين، كما أن يراه الكافر ممايدل على هدايته وإيمانه
فهو صالح له فى عاقبته، وذلك حجة الله عليه وزجر له فى
منامه، وقد خرج البخارى فى بعض طرق حديث عائشة (أول ما بدئ
به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة) أنها الصادقة؛
لأنها صالح مايرى فى المنام من
(9/523)
الأضغاث، وأباطيل الأحلام، وكما أنبأ الله
الكفار فى اليقظة بالرسل وبالمؤمنين من عباده دون المشركين
من أعدائه قامت الحجة على المشركين بذلك إلى يوم الدين
فكذلك يجوز إنباؤهم فى المنام بما يكون حجة عليهم أيضًا.
قال المهلب: وقوله: (لو لثبت فى السجن ما لبث يوسف ثم
أتانى الداعى لأجبته) . هذا من تواضعه عليه السلام لئلا
يغلى فى مدحه فقال عليه السلام: (لا تطرونى كما أطرت
النصارى المسيح وقولوا عبد الله ورسوله) (أنا سيد ولد آدم
ولا فخر) لكن فى حكم الأدب إذا ذكر الأنبياء والرسل أن
يتواضع. وفيه: الترفيع لشأن يوسف لأنه حين دعى للإطلاق من
السجن قال: ارجع إلى ربك. ولم يرد الخروج منه إلا بعد أن
تقر امرأة العزيز على نفسها أنها راودته عن نفسه فأقرت
وصدقته، وقالت: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين،
فخرج حينئذ. قال ابن قتيبة: فوصفه بالأناة والصبر وأنه لم
يخرج حين دعى، وقلا: لو كنت مكانه ثم دعيت إلى مادعى إليه
من الخروج من السجن لأجبت ولم ألبث، وهذا من حسن تواضعه
على السلام؛ لأنه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج ولم يكن
عليه نقص أو على يوسف عليه السلام لو خرج مع الرسول من
السجن نقص ولاأثر، وإنما أراد أن يوسف لم يكن يستثقل محنة
الله قيبادر ويتعجل؛ ولكنه كان صابرًا محتسبًا. وفى هذا
الحديث زيادة ذكرها البخارى فى كتاب الأنبياء قال النبي
(9/524)
- عليه السلام -: (نحن أحق بالشك من
إبراهيم؛ إذ قال: رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن،
ورحم الله لوطًا لقد كان ياوى إلى ركن شديد، ولو ثبت فى
السجن. . .) الحديث قال ابن قتيبة: وقوله: (نحن أحق بالشك
من إبراهيم) . فإنه لما نزل عليه: (وإذا قال إبراهيم رب
أرنى كيف تحيى الموتي) الآية. قال قوم سمعوا الآية: شك
إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله: (أنا أحق بالشك من
إبراهيم) . تواضعًا وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد: إنا
لم نشك ونحن دونه، فكيف يشك هو؟ . ومثل هذا من تواضعه عليه
السلام قوله: (لا تفضلونى على يونس ابن متى) . فخص يونس
وليس كغيره من أولى العزم من الرسل، فإذا كان لايحب أن
يفضل على يونس، فغيره من الأنبياء بأن لايحب أن يفضل
عليهم. وتأويل قول إبراهيم: (ولكن ليطمئن قلبى) أى بيقين
البصر، واليقين جنسان: أحدهما يقين السمع، والآخر يقين
البصر، ويقين البصر أعلاهما؛ ولذلك قال النبى (صلى الله
عليه وسلم) : (ليس الخبر كالمعاينة) حين ذكر قوم موسى
وعكوفيهم على العجل قال: فأعلمه الله أن قومه عبدوا العجل
فلم يلق الألواح؛ فلما عاينهم وعاكفين عليه غضب وألقى
الألواح فتكسرت، وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة
والنار متيقنون أن ذلك كله حق وهم فى القيامة عند النظر
وعيان أعلى يقينًا، فأراد إبراهيم أن يطمئن قلبه بالنظر
الذى هو أعلى اليقين. وقال غير ابن قتيبة: لم يشك إبراهيم
عليه السلام أن الله يحيى الموتى وإنما قال: أرنى كيف،
والجهل بالكيفية لايقدح فى اليقين بالقدرة إذ
(9/525)
ليس من المؤمنين أحد يؤمن بالغيوب وبخلق
السموات والأرض إلا وقد يجهل الكيفية، وذلك لايقدح فى
إيمانه. فضرب الله تعالى مثلا لإبراهيم من نفسه فقال له:
(خذ اربعة من الطير) الآية. فكما أحيى هذه الطير عن دعوتك،
فكذلك أحيى أهل السموات والأرض عن نفخه الصور (وأعلم أن
الله عزيز حكيم) عزيز فى صنائعه إذ صنائعه له عن مباشرة
إلا عن قوله: كن، وماسواه من الصانعين فلا يتم له صنع إلا
بمباشرة، وفى ذلك ذله ومفارقة للعزة، حكيم: أى فى أفعاله
وإن كان بائنًا عنها، والصانع إذا بان من صنعته تختل
أفعاله إذا كان بائنًا. قال ابن قتيبة: وقوله: (يرحم الله
لوطًا إن كان ليأوى إلى ركن شديد) فإنه أراد قوله لقومه:
(لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) وفى الوقت الذى
ضاق فيه صدره واشتد جزعه بنا دهمه من قومه، وهو يأوى إلى
الله تعالى اشد اركان، قالووا: فما بعث الله تعالى نبيًا
بعد لوط إلا فى ثروة من قومه. قال غير ابن قتيبة: ولايخرج
هذا لوطًا من صفات المتوكلين على الله الواثقين بتأيده
ونصره، لكن لوطًا - عليه السلام أثار منه الغضب فى ذات
الله مايثير من البشر، فكان ظاهر قول لوط كأنه خارج عن
التوكل، وإن كان مقصده مقصد المتوكلين فنبه النبى على ظاهر
قول لوط تنبيه على ظاهر قول إبراهيم، وإن كان مقصده غير
الشك لأنهم كانوا صفوة الله المخصوصين بغاية الكرامة
(9/526)
ونهاية القرية، لايقنع منهم إلا بظاهر
مطابق للباطن بعيد عن الشبهة؛ إذ العتاب والحجة من الله
على قدر مايصنع فيهم. وفى كتاب مسلم عن بعض رواه الحديث
قال: إنما شك إبراهيم: هل يجيبه الله عز وجل أم لا؟ .
باب فى رؤية النبى عليه السلام
فى المنام
/ 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى
فِى الْيَقَظَةِ، وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى) . /
10 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
(مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لا يَتَخَيَّلُ بِى. . .) الحديث. هذا إخبار
منه (صلى الله عليه وسلم) عن الغيب وأن الله تعالى منع
الشيطان أن يتصور على صورته، وقد تقدم فى أول كتاب العبارة
وقوله: (فسيرانى فى اليقظة) يعنى تصديق تلك الرؤيا فى
اليقظة وصحتها وخروجها على الحق؛ لأنه عليه السلام ستراه
يوم القيامة فى اليقظة جميع أمته من رآه فى النوم، ومن لم
يره منهم.
باب رؤيا الليل
رواه سمرة. / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) : (أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ،
وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ
الْبَارِحَةَ؛ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ
الأرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ فِى يَدِي. . .) الحديث.
(9/527)
/ 12 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ
(صلى الله عليه وسلم) : (أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا
أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ
كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ
رَجَّلَهَا تَقْطُرُ مَاءً. . . .) وذكر الحديث. ورواه ابن
عباس أيضًا. وقوله: (عنبة طافية) يقال: طفا الشىء على
الماء يطفوا، إذا علا، فعين الدجال طافية على وجهه قد برزت
كالعنبة.
باب: رؤيا النهار
قَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: رُؤْيَا
النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ. / 13 - فيه: أَنَس،
أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ
حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا،
فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ اسْتَيْقَظَ،
وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا
عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ. . .) وذكر الحديث.
قال المهلب: معنى هذهين البابين أنه لايخص نوم النهار على
نوم الليل، ولانوم الليل على نوم النهار بشىء من صحة
الرؤيا وكذبها، وأن الرؤيا متى اريت فحكمها واحد، وتأويل
المفاتيح فى النوم أسباب الفتح، والمعنى أتيت مادلنى على
أنه سيفتح لى ولأمتى خزائن الأرض مايرفع عنهم المسغبة
والفقر ومايدين لهم ملوك الأرض؛ لأن خزائن الأرض بأيدى
الملوك، وهو فى معنى قوله: (وزويت لى الأرض. . .) الحديث.
(9/528)
باب رؤيا النساء
/ 14 - فيه: أُمَّ الْعَلاءِ - امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ
بَايَعَتْ النَّبِىّ عليه السلام - أَخْبَرَت أَنَّهُمُ
اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ قُرْعَةً، قَالَتْ: فَطَارَ
لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى
أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى تُوُفِّىَ فِيهِ.
. . . وذكر الحديث. قالت: وأحزننى فنمت فرأيت لعثمان بن
مظعون عينا تجرى فأخبرت رسول الله فقال: (ذلك عمله يجرى
له) . وترجم له باب العين الجارية فى المنام. رؤيا النساء
كرؤيا الرجال، لافرق بينهما، والمرأة المؤمنة داخلة فى
معنى قوله عليه السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين
جزءًا من النبوة) . والعين فى المنام تختلف وجوهها؛ فإذا
تعرت من دلائل الهم وكان مأؤها صافيا دلت على العمل الصالح
كما فسر النبى، وقد تدل من العمل على مالاينقطع ثوابه كوقف
أرض أو غله يجرى ثوابها دائمًا، وعلم علمه الناس عمل به من
علمه، فإن كان ماؤها غير صاف فهو غم وحزن، وقد تدل على
العين الباكية وعلى الفتنة لقوله تعالى: (وفجرنا الأرض
عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر) فكانت فتنة وجرت
بهلاكهم ألا ترى قوله تعالى: (ماء غدقًا لنفتنهم فيه) وقد
تدل على المال العين، ويستدل العابر على هذه الوجوه بأحوال
الرائين وبزيادة الرؤيا ونقصانها.
(9/529)
باب: اللبن
/ 15 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ
فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّى لأرَى الرِّى يَخْرُجُ
مِنْ أَظْفَارِى، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِى عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ) ، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ) . قال المهلب: رؤية اللبن فى
النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن؛ لأنه أول شىء
ناله المولود من طعام الدنيا، وهو الذى يفتق معاه، وبه
تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو يشاكل العلم
من هذه الناحية. وقد يدل على الحياة؛ لأنها كانت به فى
الصغر، وقد يدل على الثواب؛ لأنه من نعيم الجنة إذا رئى
نهر من لبن، وقد يدل على المال الحلال، وإنما أوله عليه
السلام فى عمر بالعلم والله أعلم؛ لعلمه بصحة فطرته ودينه،
والعلم زيادة فى الفطرة على اصل معلوم.
باب: القميص فى المنام
/ 16 - قَالَ أَبُو سَعِيد: قَالَ النَّبِيّ (صلى الله
عليه وسلم) : (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ
يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا
يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ،
وَمَرَّ عَلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ
قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) ، قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ) . وترجم له: باب جر
القميص فى المنام. قال المهلب: أصل عبارته عليه السلام
للقميص بالعلم فى كتاب الله فى قوله تعالى: (وثيابك فطهر)
يريد صلاح العمل
(9/530)
وتطهير الأحوال التى كانت أهل الجاهلية
تستبيحها، هذا قول ابن عباس، والعرب تقول: فلان نقى الثوب
إذا كان صالحًا فى دينه. وفيه دليل على أن الرؤيا لاتخرج
كلها على نص مارؤيت عليه، وإنما تخرج على ضرب الأمثال،
فضرب المثل على الدين بالقميص، وعلى الإيمان والعلم باللبن
من أجل اشتراك ذلك فى المعانى، وذلك أن القميص يستر
العورات كما يستر الدين الأعمال التى كان الناس فى حال
الكفر يأتونها، وفى حال الجهل يقترفونها. وقد تقدم أن
اللبن حياة الأجسام كما بالعلم حياة القلوب، هذا وجه
اشتباه المعانى فى هذه الأمثال التى لها ضربت؛ لأن المثل
يقتضى المماثلة، فإذا كان مثل لا مماثلة فيه لم يصح
التعبير به. فإن قيل: فإذا كان التعبير يقتضى المماثلة فما
وجه كون جر القميص فى النوم حسنأط، وجره فى اليقظة منهى
عنه وهو من الخيلاء؟ قال المهلب: فالجواب أن القميص فى
الدنيا ستر وزينة كما سماه الله، وأنه فى الآخرة لباس
لاتقوى. فلما كان فى الدنيا زينة حرم منها ماكان مخرجًا
إلى الخيلاء والكبرياء الذى لايجمل بمخلوق مربوب ضعيف
الخلقة سفيه الشهوة. فالكبر مع هذه الحال لا يجمل به ولا
يصح له لا ضراره إلى مدبر يديره ورازق يرزقه، ودافع يدفع
عنه ما لا امتناع له منه، ويحميه من الآفات، فوجب أن تكون
تلك الزينة فى الدنيا مقرونة بدليل الذلة وعلامة العبودية،
هذا معنى وجوب تقصيرها فى الدنيا. ولما خلصت فى الآخرة من
أن يقترن بها كبر أو يخطر منه خارط على قلب بشر، حصلت لباس
التقوى كما سماها الله فحسن فيها
(9/531)
الكمال والجر لفضولها على الأرض، ودل ذلك
الفضل المجرور على بقايا من العلم والدين يخلد ويكون أثرًا
باقيًا خلفه، ولم يكن بسبيل إلى أن يكون فيه من معنى الكبر
شىء فى ذلك الموطن، وليس هذا مما يحمل على أحوال الرائين،
وإنما هو ابدًا محمول على جوهر الشىء المرئى، فجوهرالقميص
فى الدنيا بقرينة الجر له كبر وتعاظم، وجوهرة فى الآخرة
بالدين والعلم، وليس فى الآخرة فيه تحليل ولاتحريم، وإنما
يحمل الشىء على حال الرائى له إذا تنوع جوهر الشىء المرئى
به فيه أو عليه فى التفسير. وأكثر ما يكون ذلك فى الدنيا
لاختلاف الشىء أحوال أهلها، وقد يكون فى الآخرة شىء من ذلك
ليس هذا منه. ولايجوز أن ينقل جوهر شىء من الثياب أو غيرها
عما وضعت له فى أصل العلم إلا بدليل ناقل لجوهر ذلك الشىء،
كمن رأى أحدًا من الأموات فى نومه وعليه ثياب يجرها من نار
أو متقدة بنار فيفسرها أنه كافر يلبس فى الدنيا ثياب الكبر
والتبختر يجرها خيلاء فعوقب فى النار بصنعه ذلك فى الدنيا،
أو يرى عليه ثيابًا من قطران كما قال الله تعالى فيها
فحينئذ تكون الثياب فى الآخرة دليلاً على العذاب بما كان
عليه فى الدنيا، ولايكون حيئذ لباس زينة ولا لباس تقوى.
هذا مما يحمل فى الآخرة على أحوال صاحب الرؤيا.
باب: فى الخضر فى المنام
والروضة الخضراء
/ 17 - فيه: قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ، كُنْتُ فِى حَلْقَةٍ
فِيهَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُمَرَ، فَمَرَّ
عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ قَالُوا:
كَذَا وَكَذَا، قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا كَانَ
يَنْبَغِى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ
عِلْمٌ، إِنَّمَا رَأَيْتُ كَأَنَّمَا عَمُودٌ وُضِعَ فِى
رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فَنُصِبَ فِيهَا،
(9/532)
وَفِي رَأْسِهَا عُرْوَةٌ، وَفِى
أَسْفَلِهَا مِنْصَفٌ، وَالْمِنْصَفُ الْوَصِيفُ، فَقِيلَ
ارْقَهْ فَرَقِيتُهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ،
فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَمُوتُ عَبْدُاللَّهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى) . وترجم له باب التعلق بالعروة والحلقة وقال
فيه: (وقيل لى: أرقه فقلت: لا أستطيع، فأتانى وصيف فرفع
ثيابى، فرقيت. . .) الحديث. قال المهلب: قال أبو الحسن على
بن أبى طالب العابر: الروضة التى لايعرف بيتها دالة على
الإسلام لنضرتها وحسن بهجتها، وقد تأولها بذلك الرسول عليه
السلام و، وقد تدل من الإسلام على كل مكان فاضل يطاع الله
فيه كقبر رسول الله، وحلق الذكر، وجوامع الخير، وقبور
الصالحين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما بين قبرى
ومنبرى روضة من رياض الجنة) . وقوله: (ارتعوا فى رياض
الجنة أو حفرة من حفر النار) . وقد تئول الروضة على المصحف
وعلى كتب العلم لقولهم: الكتب رياض الحكماء، والعمود دال
على كل ما يعتمد عليه القرآن والسنن والفقه فى الدين، وعلى
الفقيه والحاكم، والوالد والسيد، والزوج والزوجة والمال.
وبمكان العمود وصفات المنام يستدل على تأويل الأمر وحقيقة
التعبير. وكذلك العروة بالإسلام والتوحيد وهى العروة
الوثقى قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد
استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها) . فأخبر الرسول أن
ابن سلام يموت على الإيمان، ولما فى هذه الرؤيا من شواهد
ذلك حكم له اصحاب النبى بالجنة لحكم النبى عليه السلام
بموته على الإسلام.
(9/533)
وفيه القطع لكل من مات على دين الإسلام
والتوحيد لله بالجنة وإن نالت بعضهم عقوبات. وقول ابن
سلام: ماكان ينبغى لهم أن يقولوا ماليس لهم به علم؛ إنما
قاله على سبيل التواضع، وكره أن يشار غليه بالأصابع فيدخله
العجب فيحبط عمله.
- باب: كشف المرأة فى المنام
/ 18 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا
رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ:
هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُهَا، فَإِذَا هِى أَنْتِ،
فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
يُمْضِهِ) . وترجم له باب: ثياب الحرير فى المنام. رؤية
المرأة فى المنام تختلف على وجه فمنها أن تدل على امرأة
تكون له فى اليقظة تشبه التى رأى فى المنام كما كانت رؤية
النبى عليه السلام هذه، وقد تدل المرأة عيل الدنيا
والمنزلة فيها والسعة فى الرزق، وهذا أصل عند المعبرين فى
ذلك، وقد تدل المرأة أيضًا على فتنة بما يقترن إليها من
دلائل ذلك. وقوله: (إن يكن هذا من عند الله يمضه هذه
الرؤيا أريها النبى قبل زمن النبوة فى وقت تجوز عليه رؤيا
سائر البشر فلما أوحى الله غليه حصن رؤياه من الأضغاث
وحرسه فى النوم كما حرسه فى اليقظة وجعل رؤياه وحياه) .
ويحتمل وجهًا آخر: أن تكون هذه الرؤيا منه عليه السلام بعد
النبوة وبعد علمه بأن رؤياه وحى فعبر عليه السلام عما علمه
بلفظ يوهم الشك ظاهره ومعناه اليقين، وهذا موجود فى لغة
العرب أن يكون اللفظ مخالفًا لمعناه كما قال ذو الرمة:
(9/534)
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا
آأنت أم أم سالم ولم يشك ذو الرمة أن الظبية ليست بأم
سالم، وكما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى
العالمين بطون راح. فعبر عما هو قاطع عليه وعالم به بلفظ
ظاهره الشك والمسالة عما لايقطع عليه فكذلك قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (إن يكن هذا ابن أبى طالب) وثياب الحرير يدل
اتخاذها للنساء فى الرؤيا على النكاح وعلى الأزواج وعلى
العز والغنى وعلى الشحم ولبس الذهب، قال واللباس دال على
جسم لابسه لأنه محله ومشتمل عليه ودافع عنه، فهو معبر عنه
لاسيما أن اللباس فى غالب الناس دال على أقدارهم وأحوالهم
ومذاهبهم وأجناسهم، فيعرف كل جنس بلبسه وزيه من العرب
والعجم والأغنياء والفقراء، ولاخير فى ثياب الحرير للرجال
وهى صالحة فى الجاه والسلطان وسعة المال.
- باب المفاتيح فى اليد
/ 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ
بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ
بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى) .
قَالَ مُحمد: وَبَلَغَنِى أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ
اللَّهَ يَجْمَعُ الأمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِى كَانَتْ
تُكْتَبُ فِى الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِى الأمْرِ الْوَاحِدِ
وَالأمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
(9/535)
قال أبو الحسن على بن أبى طالب: المفتاح
يدل على السلطان وعلى المال والعلم والحكمة والصلاح، فإن
كان مفتاح الجنة نال سلطانًا عظيما فى الدينأو علما كثيرًا
من أعمال البر أو وجد كنزًا أو مالا حلالاً ميراثًا، وإن
كان مفتاح الكعبة حجب سلطانًا أو أماما، ثم على نحو هذا فى
سائر المفاتيح وجواهرها، وقال الكرمانى: قد يكون المفتاح
إذا فتح به بابًا دعاء يستجاب له.
- باب عمود الفسطاط تحت وسادته
ودخول الجنة فى المنام
/ 20 - فيه: ابْن عُمَر، رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ
فِى يَدِى سَرَقَةً مِنْ حَرِيرٍ لا أَهْوِى بِهَا إِلَى
مَكَانٍ فِى الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ بِى إِلَيْهِ،
فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ
عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ
أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ) . قال المهلب: السرقة الكلة وهى
كالهودج عند العرب وكون عمودها فى يد عمر دليل على الإسلام
وطنبها الدين والعلم بالشريعة الذى به يرزق التمكن من
الجنة حيث شاء، وقد يعبر هنا بالحرير عن شرف الدين والعلم؛
لأن الحرير أشرف ملابس الدنيا، فكذلك العلم بالدين اشرف
العلوم، ودخول الجنة فى المنام يدل على دخولها فى اليقظة؛
لأن من بعض وجوه الرؤيا وجها يكون فى اليقظة كما يرى نصًا،
وقد يكون دخول الجنة أيضًا دخول الإسلام الذى هو سبب
الجنة، فمن دخله دخل الجنة كما قال تعالى: (فادخلنى فى
عبادى وادخلى جنتي) وطيران الشرقة: قوة يرزقه الله على
التمكن من الجنة حيث شاء كما فى الخبر عن جعفر بن أبى طالب
أنه أكرمه الله بأن جعل قوة على الطيران فى الجنة، وفى خبر
آخر: (إنما نسمه المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة) .
(9/536)
وسألت المهلب فقلت: كيف ترجم البخارى باب
عمود الفساط تحت وسادته ولم يذكر فى الحديث عمود فسطاط
ولاوسادة؟ فقال لى: الذى يدل عليه الباب ويقه فى نفسى أنه
رأى حديث السرقة أكمل مما ذكره فى كتابه، وفيه أن السرقة
مضروبة فى الأرض على عمود كالخباء، وأن ابن عمر اقتلعها من
عمودها فوضعها تحت وسادته وقام هو بالسرقة يمسكها، وهى
كالهودجة من إستبرق فلا ينوى موضعًا من الجنة إلا طارت
إليه، ولم يرض سنده بهذه الزيادة فلم يذكره وأدخله فى كتاب
من طريق وثقة والله أعلم. وقد نقل فى كتابه مثل هذا كثيرًا
فقال باب: إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، ثم أدخل سمل
النبى عليه السلام أعين العرنين ولم يذكر سمل العرنين أعين
الرعاء، وإنما ترجم بذلك ليدل أن ذلك من فعلهم مروى، وكما
فعل بقول سهل بن أبى حثمة فى الأوسق الموسقة فى باب
العرايا فتركه للين سنده أولا ثم أعجلته المنية عن تهذيب
كتابه.
- باب القيد فى المنام
/ 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ
تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا
الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا
مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ
فَإِنَّهُ لا يَكْذِبُ) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَنَا
أَقُولُ هَذِهِ الأمة، وَكَانَ يُقَالُ الرُّؤْيَا ثَلاثٌ:
حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ، وَبُشْرَى
مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلا
يَقُصَّهُ عَلَى
(9/537)
أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، قَالَ:
وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِى النَّوْمِ، وَكَانَ
يُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ، وَيُقَالُ الْقَيْدُ: ثَبَاتٌ فِى
الدِّينِ. وَرَوَى قَتَادَةُ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَأَبُو
هِلالٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَأَدْرَجَهُ
بَعْضُهُمْ كُلَّهُ فِى الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ عَوْفٍ
أَبْيَنُ. وَقَالَ يُونُسُ: لا أَحْسِبُهُ إِلا عَنِ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى الْقَيْدِ. قَالَ
البخارى: لا تَكُونُ الأغْلالُ إِلا فِى الأعْنَاقِ. قال
المهلب: روى عن النبى عليه السلام أنه قال: (القيد ثبات فى
الدين) ، ومن رواية قتادة ويونس وغيرهم، وتفسير ذلك أنه
يمنع من الخطايا ويقيد عنها. قال غيره: وقد ينصرف القيد
على وجوه أحدها: فمن رأى ذلك على رجله وهو فى سفر فإنه
يقيم بذلك الموضع إلا أن يرى ذلك قدحل عنه، وكذلك من رأى
قيدًا فى رجليه فى مسجد أو فى موضع ينسب إلى الخير فإنه
دين ولزوم لطاعة ربه وعباده له، فإن رآه مريض أو مسجون أو
مكروب فهو طول بقائه فيه، وكذلك إن رآه صاحب دنيا فهو طول
بقائه فيها أيضًا. قال المهلب: والغل مكروه لأن الله تعالى
أخبر فى كتابه أنه من صفات أهل النار فقال: (إذ الأغلال فى
أعناقهم والسلاسل (فقد دل على الكفر، وقد يكون الغل امرأة
سوء تشين صاحبها، وأما غل اليدين لغير العنق فهو كفهما عن
الشر. وقوله عليه السلام: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب
رؤيا المؤمن) ، فمعناه - والله أعلم - إذا اقتربت الساعة
وقبض أكثر العلم
(9/538)
ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة، فكان
الناس على فترة من الرسل يحتاجون إلى مذكر ومجدد لما درس
من الدين كما كانت الأمم قبلنا تذكر بالنبوة، فلما كان
نبينا محمد عليه السلام خاتم الرسل ومابعده من الزمان
مايشبه الفترة عوضوا مما منع من النبوة بعده بالرؤيا
الصادقة التى هى جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة
الآتية بالتبشير والإنذار. وقد ذكر أبو سليمان الخطابى فى
غريب الحديث عن أبى داود السجستانى أنه كان يقول فى تأويل
قوله عليه السلام: (إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن
تكذب) . قال: تقارب الزمان هو استواء الليل والنهار قال
والعبرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انبثاق
الأنوار ووقت ينع الثمار وإدراكها وهما الوقتان اللذان
يتقارب الزمان فيهما ويعتدل الليل والنهار. قال المؤلف:
والتأويل الأول هو الصواب الذى أراده النبى عليه السلام
لأنه قد روى مرفوعًا عنه روى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين،
عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (فى آخر
الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا) .
قال المؤلف: وأما قول ابن سيرين: وأنا اقول هذه الأمة.
فتأويله والله أعلم أنه لما كان عنده معنى قوله عليه
السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)
. ويراد به رؤيا الرجل الصالح لقوله عليه السلام: (الرؤيا
الحسنة يراها الرجل الصالح جزء من ستة واربعين جزءًا من
النبوة) . قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا
المؤمن) خشى ابن سيرين أن يتأول معناه أن عند تقارب الزمان
لا
(9/539)
تصدق إلا رؤيا الصالح المستكمل الإيمان
خاصة، فقال: وأنا اقول هذه الأمة. يعنى تصدق رؤيا هذه
الأمة كلها صالحها وفاجرها ليكون صدق رؤياهم زاجرة لهم
وحجة عليهم؛ لدروس أعلام الدين وطموس آثاره بموت العلماء
وظهور المنكر، والله أعلم.
- باب: نزع الماء من البئر حتى
يروى الناس
رواه أبو هريرة عن النبى. / 22 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ:
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا
عَلَى بِئْرٍ أَنْزِعُ مِنْهَا؛ إِذْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ، فَنَزَعَ
ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ،
يَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ
مِنْ يَدِ أَبِى بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِى يَدِهِ
غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِى
فَرْيَهُ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) . وترجم له
باب: زع الذنوب والذنوبين من البئر بضعف وقال ابن عمر عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) : (رأيت الناس اجتمعوا فقام
أبو بكر فنزع ذنوبًا) . . الحديث وعن أبى هريرة مثله. قال
أبو سلمان: فسر أبو عبيد، وابن قتيبة طائفة من لفظ هذا
الحديث ولم يتعرض أحد منهما لمعناه، وقد علمنا أن هذا مثل
فى رؤيا النبى عليه السلام وإنما يراد بالمثل تقريب علم
الشىء وإيضاحه بذكر نظيره، وفى إغفال بيانه والذهاب عن
معناه وعن موضع التشبيه به إبطال فائدة المثل وإثبات
الفضيلة لعمر على أبى بكر، إذ قد وصف بالقوة من حيث وصف
أبو بكر بالضعف
(9/540)
وتلك خطة أباها المسلمون، والمعنى - والله
أعلم - أنه إنما أراد بهذا إثبات خلافتهما، والإخبار عن
مدة ولايتهما، والإبانة عما جرى عليه أحوال أمته فى
أيامهما، فشبه أمر المسلمين بالقليب وهو البئر العادية،
وذلك لما يكون فيها من الماء الذى به حياة العباد وصلاح
البلاد وشبه الوالى عليهم والقائم بأمورهم بالنازع الذى
يستقى الماء ويقربه من الوارد، ونزع أبى بكر ذنوبًا أو
ذنوبين على ضعف فيه إنما هو قصر مدة خلافته، والذنوبان مثل
ما فى السنتين اللتين وليهما واشهر بعدهما، وانقضت أيامه
فى قتال أهل الردة واستصلاح أهل الدعوة ولم يتفرغ لافتتاح
الأمصار وجباية الأموال، فذلك ضعف نزعه، وأما عمر فطالت
أيامه واتسعت ولايته، وفتح الله على يديه العراق والسواد
وأرض مصر وكثيرًا من بلاد الشام، وقد غنم أموالها وقسمتها
فى المسلمين فأخصبت رحالهم وحسنت بها أحوالهم فكان جودة
نزعه مثلا لما نالوا من الخير فى زمانه والله أعلم. قال
المؤلف: فذكر الطبرى مثل ماحكى الخطابى عن ابن عباس أنه
قال: فتأول الناس معنى قوله: (حتى ضرب الناس بعطن) أبى بكر
وعمر - رضى الله عنهما. قال الخطابى: والعرب تضرب المثل فى
المفاخرة والمغالبة بالمساقاة والمساجلة فتقول فلان يساجل
فلانًا أى: يقاومه ويغالبه، واصل ذلك أن يستقى ساقيان
فيخرج كل واحد منهما فى سجله مايخرج الآخر فأيهما نكل غلب،
قال العباس بن الفضل يذكر ذلك: من يساجلنى يساجل ماجدًا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
.
(9/541)
وقوله: (بينا أنا على بئر أنزع منها) . قال
صاحب العين يقال: نزعت الشىء نزعًا: قلعته، وبئر نزوع إذا
نزعت دلاؤها بالأيدى، وجمل نزوع ينزع عليه الماء. والذنوب:
الدلو الملأى، ويكون النصيب أو الغرب أعظم من الدلو، عن
صاحب العين. وقال أبو عبيد: قوله: (يفرى فريه) كقوله يعمل
عمله، ويقول كقوله ونحو هذا، وأنشد الأحمر: قد أطعمتنى
وقلا حوليا مسوسًا مدودًا حجريًا قد كنت تفرين به الفريا
أى قد كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه. ومنه قوله تعالى:
(لقد جئت شيئًا فريا) أى مشينًا عظيمًا، وقال الأصمعى:
سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقرى فقال: يقال هذا عبقرى
قوم يعنون: سيد قوم وكبيرهم وقويهم. قال أبو عبيد: أصله
فيما يقال أنه نسب إلى عبقر، وهى أرض يسكنها الجن فصارت
مثلاً لك منسوب إلى شىء رفيه، ويقال فى عبقر الجن أرض تعمل
فيها البرود؛ ولذلك نسب الوشى إليها؛ ومن هذا قيل للبسط
عبقرية لأنها نسبت إلى تلك البلاد. قال ابن دريد: فإذا
استحسنوا شيئًا وعجبوا من شدته ومضائه نسبوه إلى عبقر،
وقالوا: ظلم عبقرى شديد فاحش وفى التنزيل: (عبقرى حسان)
خوبطوا بما عرفوا. وقال ابن الأنبارى: أصل العطن الموضع
الذى تبرك فيه الإبل قرب الماء إذا شربت لتعاد إاليها إن
أرادت ذلك، يقال عطنت الإبل وأعطنها صاحبها.
(9/542)
- باب: الاستراحة فى
المنام
/ 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنِّى
عَلَى حَوْضٍ أَسْقِى النَّاسَ، فَأَتَانِى أَبُو بَكْرٍ،
فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدِى؛ لِيُرِيحَنِى، فَنَزَعَ
ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ
لَهُ، فَأَتَى ابْنُ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْهُ، فَلَمْ
يَزَلْ يَنْزِعُ حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ، وَالْحَوْضُ
يَتَفَجَّرُ) . قال المهلب: فيه دليل أن الدنيا للصالحين
دار نصب وتعب وأن الراحة منها الموت على الصلاح والدين كما
استراح النبى عليه السلام من تعب ذلك السقى بالموت. والحوض
خاهنا: معدن العلم وهو القرآن الذى يغرف الناس كلهم منه
دون أن ينتقص حتى يروا وهو معدن لايفنى ولاينتقص.
- باب القصر فى المنام
/ 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ
عِنْدَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (بَيْنَا
أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا
امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، قُلْتُ:
لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ
غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) . قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ
قَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَغَارُ. / 25 - ورواه جَابِر، عن النَّبيىّ (صلى
الله عليه وسلم) ، وَقَالَ فِيهِ: فَقُلْتُ: (لِمَنْ هَذَا
الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وترجم له
باب: الوضوء فى المنام. قال المهلب: هذه الرؤيا بشرى لعمر
بن الخطاب بقصر فى الجنة وهذه الرؤيا مما تخرج على حسب
مارؤيت بغير رمز ولا غموض تفسير، والجارية كذلك والوضوء
إنما يؤخذ منه اسمه من الوضاءة، لأنه ليس فى الجنة وضوء
لصلاة ولاعبادة، وفيه دليل على
(9/543)
الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه ألاترى أن
النبى - عليه السلام - لم يدخل القصر حين ذكر غيره عمر،
وقد علم عليه السلام أنه لايغار عليه لأنه أبو المؤمنين،
وكل مانال بنوه المؤمنين من خير الدنيا والآخرة فسببه وعلى
يديه (صلى الله عليه وسلم) ، لكن أراد أن يأتى ما يعلم أنه
يوافق عمر أدبا منه. وقال ابن سيرين: من رأى أنه يدخل
الجنة فإنه يدخلها إن شاء الله؛ لأن ذلك بشارة لما قدم من
خير أو يقدمه. وقال الكرمانى: وأما بنيانها فهى نعيمها.
وأما نساؤها فهى أجور فى أعمال البر على قدر جمالهن. قال
على بن أبى طالب: وقد ينصرف دخول الجنة فى المنام على وجوه
فيدل لمن يحج على تمام حجه، ووصوله إلى الكعبة المؤدية إلى
الجنة، وإن كان كافرًا أو مذنبًا بطالا ورأى ذلك غيره له
أسلم من كفره وتاب من بطالته، وإن كان مريضا مات من مرضه؛
لأن الجنة هى أجر المؤمنين إن كان المريض مؤمنًا، وإن كان
كافرًا أفاق من علته لأن الدنيا جنة الكافرين، وإن كان
عزبًا تزوج لأن الآخرة على السعى إلى الجمعة والجماعة،
ودار العلم وحلق الذكر، والجهاد والرباط وكل مكان يؤدى
إليها. وقال: ومن رأى أنه يتوضًا فى المنام فإنه وسيلة
السلطان أو إلى عمل من الأعمال فمن تم له فى النوم تم له
مايؤمله فى اليقظة، وإن تعذر عليه إن عجز الماء أو توضأ
بما لايجوز له الصلاة به لم يتم له ما يحاوله، والوضوء
للخائف فى اليقظة أمان له لما جاء فى فضل الوضوء، وربما دل
الوضوء على الثواب وتكفير
(9/544)
الخطايا لما جاء أنها تخرج من آخر قطر
الماء، وربما دل الوضوء على الصوم؛ لأن الصائم ممتنع من
كثير من لذاته والمتوضىء يدانيه فى ذلك، والوضوء والصوم
واللجام ورباط اليد والقيد شركان فى التأويل ويتعاقبون فى
التعبير، وقد تقدم حديث أبى هريرة فى كتاب النكاح فى باب
الغيرة.
- باب: الطواف بالكعبة فى
المنام
/ 26 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى أَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ
بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، فَقُلْتُ:
مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ
أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ
الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ
عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟
قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ
شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ) . قال بعض التأويل: الطواف بالبيت
ينصرف عى وجوه، فمن رأى أنه يطوب بالبيت فإنه يحج إن شاء
الله، وقد يكون تأويل ذلك إن كان يطلب حاجة من الإمام
بشارة نيلها منه؛ لأن الكعبة إمام الخلق كلهم، وقد يكون
الطواف تطهيرًا من الذنوب لقوله تعالى: (وطهر بيتى
للطائفين) ، وقد يكون الطواف لمن يريد أن يسترى أو يتزوج
امرأة حسناء دليلا على تمام إرادته، وقال على بن أبى طالب
العابر: وقد يكون الطواف لمن كان ذا والدين والدين أن يحسن
برهما وزوجة يسعى عليها أو كان يخدم عالمًا أو كان عبدًا
ينصح سيدة بشارة بالثواب عن فعله في اليقظة.
(9/545)
وقال المهلب: ووصف عليه السلام عيسى بن
مرين ووصف الدجال بصفاتها التى خلقهما الله عليها؛ لكونها
فى زمن واحد، ولأن الحديث قد جاء عنه عليه السلام أن عيسى
يقتل الدجال، فوصف الدجال بصفة لا تشكل عليهم على حسب
مارأه، وهى العور، والذي لايجوز على ذوي العقول أن يصفوا
بالإلهية والقدرة من كان بتلك الصفة؛ إذ الإله لاتجوز عليه
الآفات وهذا مدعيها وقد جازت عليه الآفة، فهى برهان على
تكذيبه، وقوله: (ينطف رأسه ماء) فالمنطف: الصب، وليلة
نطوف: ماطرة، من كتاب العين.
- باب: الأمن وذهاب الروع فى
المنام
/ 27 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: إِنَّ رِجَالا مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا
يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه
السلام فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه
السلام مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ
السِّنِّ، وَبَيْتِى الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ،
فَقُلْتُ فِى نَفْسِى لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ؛ لَرَأَيْتَ
مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ، فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ
لَيْلَةٍ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِى
خَيْرًا، فَأَرِنِى رُؤْيَا، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ؛
إِذْ جَاءَنِى مَلَكَانِ فِى يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، يُقْبِلانِ بِى إِلَى جَهَنَّمَ،
وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ: اللَّهُمَّ إِنِّى
أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ، ثُمَّ أُرَانِى لَقِيَنِى
مَلَكٌ فِى يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: لَنْ
تُرَاعَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ، لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ
الصَّلاةَ، فَانْطَلَقُوا بِى حَتَّى وَقَفُوا بِى عَلَى
شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا هِى مَطْوِيَّةٌ كَطَى
الْبِئْرِ، لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ، بَيْنَ كُلِّ
قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ،
وَأَرَى فِيهَا رِجَالا مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ،
رُءُوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ،
(9/546)
عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ،
فَانْصَرَفُوا بِى عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ، فَقَصَصْتُهَا
عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ عَبْدَاللَّهِ رَجُلٌ
صَالِحٌ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ) . فَقَالَ
نَافِعٌ: فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلاةَ.
وترجم له باب الأخذ على اليمين فى النوم، وقال فيه: (وقلت:
اللهم إن كان لى عندك خير فأنرى منامًا يعبر لى رسول الله،
فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : عبد الله رجل صالح لو
كان يكثر الصلاة من الليل) . قال المهلب: هذا الحديث مما
فسرت فيه الرؤيا على وجهها، وفيه دليل على توعد الله عباده
وجواز تعذيبهم على ترك السنن. وقول الملك: (لم ترع، نعم
الرجل أنت لو تكثر الصلاة بالليل) هذه الزيادة تفسر سائر
طرق هذا الحديث. وفيه: الحكم بالدليل؛ عبد الله استدل على
أن اللذين أتياه ملكان؛ لأنهما أوقفاه على جهنم ووعظاه
بها، والشيطان لايعظ ولايذكر بالخير، فاستدل بوعظهما
وتذكيرهما أنهما ملكان. وقوله: (لم ترع) هذا خرج على
ماراه، وعلى أنه ليس من أهل مارآه لأنه إذا قام الدليل
أنهما ملكان فلا يكون كلامهما إلا حقًا. وفيه: دليل على أن
مافسر فى النوم فهو تفسير فى اليقظة؛ لأن النبى عليه
السلام لم يزد فى تفسيرها على ما فسرها الملك. وفيه: دليل
على أن أصل التعبير من قبل الأنبياء؛ ولذلك كانوا يتمنون
أن يروا رؤيا فيفسرها النبى لتكون عندهم أصلا، وهو مذهب
الأشعرى أن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى
ألسنتهم، وهو كما قال، لكن المحظوظ على الأنبياء وإن كان
أصلا فلا يعم اشخاص الرؤيا، فلا بد للبارع فى هذا العلم أن
يستدل بحسن نظره
(9/547)
فيرد مالم ينص عليه إلى حكم التمثيل، ويحكم
له بحكم الشبيه الصحيح فيجعل أصلا يقاس عليه كما يفعل فى
فروع الفقه. وقد تقدم فى باب فضل قيام الليل فى آخر كتاب
الصلاة شىء من معنى هذا الحديث.
- باب: إذا طار الشىء فى
المنام
/ 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ
فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقِطَعْتُهُمَا
وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِى فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا،
فَأَوَّلْتُهُمَا: كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ) . قَالَ
عُبَيْدُاللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِى الَّذِى قَتَلَهُ
فَيْرُوزٌ بِالْيَمَنِ، وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةُ. قال
المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هى على ضرب
المثل، وإنما أولهما النبى بالكذابين؛ لأن الكذب إنما هو
الإخبارعن الشىء بخلاف ما هو به ووضعه فى غير موضوعه، فلما
رآهما فى ذراعيه وليسا موضعًا للسوارين؛ لأنهما ليسا من
حلية الرجال علم أنه سيقضى على يدى النبى - يعنى على
أوامره ونواهيه - من يدعى ما ليس له، كما وضعا حيث ليس
لهما، وكونهما من ذهب، والذهب منهى عنه فى الدين دليل على
الكذب من وجوه: أحدها: وضع الشىء غير موضوعه. والثانى: كون
الذهب مستعملاً فى الرجال وهو منهى عنه والذهب مشتق منه
الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه ولايبقى، ثم وكد له الأمر
فأذن له فى نفخهما فطارًا عباره أنهما لايثبت لهما أمر،
وأن كلامه عليه السلام بالوحي الذى جاءه به يزيلهما
(9/548)
الذي قاما فيه، والنفخ دليل على الكلام.
وقال الكرمانى: من رأى أنه يطير بين السما والأرض أو من
مكان إلى مكان فإن كانت من الأضغاث فإنه كثير التمنى
والفكر والاغترار بالأمانى، وإن كانت رؤيا صحيحة وكان يطير
فى عرض السما فإنه يسافر سفرًا بعيدًا وينال رفعة (بقدر ما
استقل من الأرض فى طيرانه، فإن طار إلى السماء مستويا لا
يتعرج ناله ضر، فإن وصل إلى السماء بلغ الغاية فى ضره، فإن
غاب فيها ولم يرجع مات، وإن رجع إلى الأرض أفاق) . وقال
ابن أبى طالب العابر: وإن كان ذلك بجناح فقد يكون جناحه
مالا ينهض به أو سلطانًا يسافر تحت كنفه، فإن كان بغير
جناح دل على التغرير فيما يدخل فيه. وقوله: (سواران)
والأكثر عند أهل اللغة سوار بغير الف، قال أبو عبيدة: سوار
المرأة وسوارها. قال أبو على الفارسى: وحكى قطرب إسوار،
وذكر أن اساور جمع إسوار على حذف الياء؛ لأن جمع إسوار
أساوير.
- باب: إذا رأى بقرًا تنحر
/ 29 - فيه: أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِى
إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرٌ، فَإِذَا هِى
الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا،
وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ
أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ
الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ
بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ) .
(9/549)
قال المهلب: هذه الرؤيا فيها نوعان من
التأويل فيها الرؤيا على حسب مارئيت وهو قوله: (أهاجر إلى
أرض بها نخل وكذلك هاجر فخرج على ما رأى، وفيها ضرب المثل؛
لأنه رأى بقرًا تنحر، فكانت البقر أصحابه، فعبر عليه
السلام عن حال الحرب بالبقر من أجل مالها من السلاح
والقرون شبهت بالرماح، ولما كان من طبع البقر المناطحة
والدفاع عن أنفسها بقرونها كما يفعل رجال الحرب، وشبه عليه
السلام النحر بالقتل) . وقوله: (والله خير) يعنى ماعند
الله من ثواب القتل فى سبيل الله خير للمقتول من الدنيا.
وقيل: معى: (والله خير) إن صنع الله خير لهم وهو قتلهم يوم
أحد، وقد تدل البقر على أهل البادية لعمارتهم الأرض،
وعيشهم من نباتها، وقد يدل الثور الواحد على التأثر؛ لأنه
يثير الأرض عن حالها، فكذلك الثأر أيضًا يثير الناحية التى
يقوم فيها ويحرك أهلها ويقلب اسفلها أعلاها. قال ابن أبى
طالب: والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانًا فهى سنى
رخاء، وإن كانت عجافًا كانت شدادًا وإن كانت المدينة مدينة
بحر وإبان السفر قدمت سفن على عددها وحالها إلا كانت فتن
مترادفة كأنها وجوه البقر كما فى الخبر: (يشبه بعضها بعضًا
وفى خير آخر فى الفت) كأنها صياصى البقر (يريد لتشابهها
بعضًا) صفرًا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت
مختلفة الألوان شنيعة القرون أو كان الناس ينفرون منها، أو
كان النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة أو
عدو يضرب عليهم فينزل بساحتهم، وقد يدل البقر على الوةجة
والخادم والأرض والغلة والسنة؛ لمايكون فيها من الولد
والغلة والنبات. وقوله: (وهلى) يعنى وهمى، عن صاحب العين.
(9/550)
- باب: النفخ فى
المنام
/ 30 - فيه: هَمَّام، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ
أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
قَالَ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) ، وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا
نَائِمٌ؛ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأرْضِ، فَوُضِعَ فِى
يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَىَّ،
وَأَهَمَّانِى، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنِ انْفُخْهُمَا،
فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا:
الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ
صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ) . النفخ فى المنام
إزالة الشىء المنفوخ فيه، وإهاب له بغير تكلف شديد لسهولة
النفخ على النافخ، والنفخ دليل على الكلام، وكذلك أهلك
الله الكذابين صاحب صنعاء واليمامة بكلامه عليه السلام
وأمر بقتليهما، وقد تقدم هذا المعنى فى باب إذا طار الشىء
فى المنام. وأما قول همام: هذا ماحدثنا به أبو هريرة عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) : (نحن الآخرون السابقون) وأتى
بحديث السوارين، فمعنى ذلك - والله أعلم - أن همامًا روى
عن أبى هريرة أحاديث ليست بالكثيرة تعرف بقطعة همام وفى
أولها: (نحن الآخرون السابقون) فأراد أن يذكر ذلك فى مواضع
من هذا المصنف وقد نبهنا على هذا المعنى فى باب لايبول فى
الماء الدائم، فى كتاب الوضوء.
(9/551)
- باب: إذا رأى أنه أخرج الشىء من كورة
فأسكنه موضعًا آخر
/ 31 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ
الرَّأْسِ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ
بِمَهْيَعَةَ، وَهِى الْجُحْفَةُ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ
وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا) . وترجم له: باب
المرأة السوداء، وباب المرأة الثائرة الرأس. قال المهلب:
هذه الرؤيا ليست على وجهها، وهى مما ضرب بها المثل فبعض
المعبرين يجهل وجه التمثيل فى ذلك فتأول النبى عليه السلام
خروجها مشخصة ماجمع اسمها، وقد اختلف فى معنى إسكانها
الجحفة، فقيل: لعدوان أهلها وأذاهم للناس. وقيل: لأن
الجحفة قليلة البشر. فكأنه رأى أن يعافى منها الكثير مع
بلية القليل. وأما ثوران راسها فتأول منه أنها لما كانت
الحمى مثيرة للبدن بالاقشعرار وارتفاع الشعر عبر عن حالها
فى النوم باتفاح شعر رأسها، فكأنه قيل له: الداء الذى يسوء
ويثير الشعر يخرج من المدينة. وقيل: إن معنى الاقشعرار:
الاستيحاش، فكذلك هذا الداء تستوحش النفوس منه. وقال على
بن أبى طالب العابر: أى شىء دلت عليه السوداء فى أكثر
وجوهها فهو مكروه، فربما دلت على الدنيا الحرام والزوجة
الحرام، فمن وطئها فى المنام دخل فيما لايليق به، فإما
طعامًا حرامًا يأكله أو شرابًا يشربه أو ثوبًا على ذلك
النعت يلبسه أو دارًا مغصوبة يسكن فيها.
(9/552)
قال صاحب العين: الكور: الرحل والجمع أكوار
وكيران.
30 - باب: إذا هز سيفًا فى المنام
/ 32 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (رَأَيْتُ فِى رُؤْيَاى أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا،
فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى،
فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ
اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ)
. قال المهلب: هذه الرؤيا على ضرب المثل وغير الوجه المرئى
والسيف ليس هو أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لكنهم لما
كانوا ممن يصول بهم النبى عليه السلام كما يصول بالسيف
ويغنون عنه غنى السيف عبر عنهم بالسيف، وللسيف وجوه، فمن
تقلده فى المنام فإنه ينال سلطانًا أو ولاية، أو إمامة أو
وديعة يعطاها أو زوجة ينكحها إن كان عزبًا أو تلد زوجته
غلامًا إن كانت حاملاً، فإن سله من غمدة وتكسر الغمد وسلم
السيف فإن امرأته تموت وينجو ولده، فإن تكسر السيف وسلم
الغمد هلك الولد وسلمت الأم، وربما يكون السيف أباه أو عمه
أو أهاه يموت، فإن انكسرت النعلة ماتت أمه أو خالته أو
نظيرهما والقائم أبدًا فى اآباء والنعلة فى الأمهات، فإن
رآه بيده وتهيأ ليلقى به عدوًا أو يضرب به شخصًا، فسيفه
لسانه يجرده فى خصومه أو منازعه، فإن لم تكن له نية وكان
بذلك فى مسجد أو كان الناس يتوضئون من عنده، أو رأى شيئًا
فى لحيته فإنه
(9/553)
يقوم مقامًا بحجة ويبدى لسانه بالنصيحة
والعلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وربما يكون
السيف سلطانًا جائرًا.
31 - باب من كذب فى حلمه
/ 33 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) : (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ
أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ،
وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ
كَارِهُونَ - أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ - صُبَّ فِى أُذُنِهِ
الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً
عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ
بِنَافِخٍ) . عن أبى هريرة قوله: (من كذب فى رؤياه) ، (ومن
صور صورة، ومن تحلم واستمع) وروى عن ابن عباس مثله. (1) /
34 - وفيه: ابْن عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِى
عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ) . قال محمد بن جرير: إن قال
قائل: ماوجه خصوص النبى عليه السلام الكاذب فى رؤياه بما
خصه به من تكليف العقد بين طرفى شعرتين يوم القيامة، وهل
الكاذب فى رؤياه إلا كالكاذب فى اليقظة، وقد يكون الكذب فى
اليقظة أعظم فى الجرم إذا كان شهادة توجب على المشهود عليه
بها حدًا أو قتلاً أو مالاً يؤخذ منه، وليس ذلك فى كذبه فى
منامه؛ لأن ضرر ذلك عليه فى منامه وحده دون غيره. قيل له:
اختلفت حالتهما فى كذبهما، فكان الكاذب على عينيه فى منامه
أحق بأعظم النكالين وذلك لتظاهر الأخبار عن النبى عليه
السلام أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من
النبوة، والنبوة لاتكون إلا وحيًا من الله، فكان معلومًا
بذلك أن الكاذب فى نومه كاذب على الله أنه اراه مالم ير،
والكاذب على الله أعظم فرية وأولى بعظيم العقوبة من الكاذب
على نفسه، بما أتلف به حقًا لغيره أو
(9/554)
أوجبه عليه، وبذلك نطق محكم التنزيل فقال
تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أولئك يعرضون
على ربهم ويقول الشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم لعنة
الله على الظالمين) . فابان ذلك صحة ماقلناه أن الكذب فى
الرؤيا ليس كالكذب فى اليقظة؛ لأن أحداهما كذب على الله
والآخر كذب على المخلوقين. قال المهلب فى قوله: كلف أن
يعقد بين شعرتين حجة للأشعرية فى تجويزهم تكليف مالا يطاق،
وفى كتاب الله مايزيد ذلك بيانًا وهو قوله تعالى: (يوم
يدعون إلى السجود فلا يستطيعون (ولله أن يفعل فى عباده
ماشاء لايسأل عما يفعل وهم يسألون. ومنع من ذلك الفقهاء
والمعتزلة واحتجوا بقوله تعالى: (لايكلف الله نفسًا إلا
وسعها) . وقالوا: قوله تعالى: (يوم يدعون إلى السجود)
وتكليفه عليه السلام العقد بين شعرتين وما أشبهه من أحكام
الآخرة وليست الآخرة دار تكليف، وإنما هى دار مجازاة فلا
حجة لهم فى ذلك؛ لأن الله تعالى قد أخبر فى كتابه بأنه
لايكلف نفسًا من العبادات فى الدنيا إلا وسعها، ولو كلفهم
ما لايقدرون عليه فى الدنيا لكان فى ذلك كون خبره الصادق
على خلاف إخبار الله تعالى، وعلى هذا التأويل لاتضاد
الآيات. وقال الطبرى: إن سأل سائل عن معنى قوله: (من استمع
إلى حديث قوم وهم له كارهون. .) الحديث. فقال: أرأيت إن
استمع إلى حديث قوم لا ضرر على المحدثين فى استماعه إليهم،
وللمستع فيه نفع عظيم إما فى دينه أو دنياه، أيجوز استماعه
إليه وإن كره ذلك
(9/555)
المتحدثون؟ قيل: المستمع لا يعلم هل له فيه
نفع إلا بعد استماعه إليه، وبعد دخوله فيما كره له رسول
الله عليه السلام فغير جائز له اسماع حديثهم، وإن كان ضرر
عليهم فيه؛ لنهى النبى عليه السلام عن الاستماع إلى حديثهم
نهيًا عامًا، فلا يجوز لأحد من الناس أن يستمع إلى حديث
قوم يكرهون استماعه، فإن فعل ذلك فأمره إلى خالفه إن شاء
غفر له وإن شاء عذبه. فإن قيل: أفرأيت من استمع إلى حديثهم
وهو لايعلم هل يكرهون ذلك، هل هو داخل فيمن يصب فى أذنيه
الآنك يوم القيامة؟ قيل: إن الخبر إنما ورد بالوعيد لمستمع
ذلك وأهله له كارهون، فأما من لم يعلم كراهتهم لذلك
فالصواب ألا يستمع حديثهم ألا بإذنهم له في ذلك؛ للخبر
الذي روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه نهى عن
الدخول بين المتناجيين) فى كراهية ذلك إلا بإذنهم. والآنك:
الرصاص المذاب. وقولهم: أفرى الفرى يعنى: أكذب الكذب،
والفرية: الكذبة العظيمة التى يتعجب منها. وجمعهافرى مقصور
مثل لحية ولحى، وقد تقدم القول فى التصوير فى كتاب الزينة.
32 - باب: إذا رأى ما يكره فلا
يخبر بها ولا يذكرها
/ 35 - فيه: أَبُو سَلَمَةَ، لَقَدْ كُنْتُ أَرَى
الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا
قَتَادَةَ، يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ لأرَى الرُّؤْيَا
تُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) يَقُولُ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ،
فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلا يُحَدِّثْ
بِهِ
(9/556)
إِلا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا
يَكْرَهُ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا،
وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفِلْ ثَلاثًا، وَلا
يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ) . /
36 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا،
فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا،
وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا
يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ،
فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ
فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ) . قال المؤلف: جاء فى حديث أبى
قتادة فى الأبواب المتقدمة أن التفل ثلاثًا إنما يكون عن
شماله، فمرة جاء (فليبصق عن يساره) ومرة جاء (فلينفث عن
شماله) ، وفى هذا الباب (فليتفل) والمعنى فيه تقارب، وإنما
أمر الله عليه السلام - والله أعلم - إذا رأى ما يحب إلا
يحدث بها إلا من يحب؛ لأن المحب لايسوءه مايسر به صديقه،
بل هو مسرور بما سره وغير حريص أن يتأول الرؤيا الحسنة شر
التأويل، ولو أخبر بها من لايحبه لم يأمن أن يتأولها شر
التأويل، فربما وافق ذلك وجهًا من الحق فى تأويلها فتخرج
كذلك لقوله عليه السلام: (الرؤيا لأول عابر) وأما إذا رأى
ما يكره فقد أمره عليه السلام بمداة مايخاف من ضرها
وتلافيه بالتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل
ثلاثًا عن يساره، ولايحدث بها فإنها لن تضره. فإن قال
قائل: قد تقدم من قولك قد يكون من ضروب الرؤيا منذرة
ومنبهة للمرء على الاستعداد للبلاء قبل وقوعه رفقًا من
الله لعباده لئلا يقع وعلى غرة فيقتل، وإذا وقع على مقدمة
وتوطين كان أقوى للنفس وابعد لها من أذى البغتة، وقد سبق
في علم الله
(9/557)
إذا كانت الرؤيا الصحيحة من قبل الله محزنة
أن تضر من رآها، فما وجه الحكمة فى كتمانها؟ . قال المهلب:
فالجواب أنه إذا أخبر بالرؤيا المكروهة لم يأمن أن تفسر له
بالمكروه فيستعجل الهم، ويتعذب بها ويترقب وقوع المكروه
به، فيسوء حاله، ويغلب عليه اليأس من الخلاص من شرها،
ويجعل ذلك نصب عينيه، وقد كان داود النبى عليه السلام من
هذا البلاء الذى كان عجلة لنفسه بما أمره به من كتمانها
والتعوذ بالله من شرها، وإذا لم تفسر له بالمكروه بقى بين
الطمع والرجاء المجبولة عليه النفس أنها لاتجزع إما لأنها
من قبل الشيطان أو أن لها تأويلا آخر على المحبوب، فأراد
الرؤيا قد يبطؤ خروجها وعلى أن أكثر مايراه الإنسان مما
يكرهه فهو من قبل الشيطان، ولو أخبر بذلك كله لم ينفك دهره
دائما من الاهتمام بما لايؤذيه أكثره، وهذه حمة بالغة
واحتياط على المؤمنين، فيجزى الله نبينا عنا خيرًا وصلى
الله عليه وسلم. قال الطبرى: ووجه أمره عليه السلام بالنفث
عن الشمال ثلاثًا - والله أعلم - إخساء للشيطان كما يتفل
اإنسان عند الشىء القذر يراه أو يذكره، ولاشىء أقذر من
الشيطان فأمره عليه السلام بالتفل عند ذكره، وأما خصوصه
بذلك الشمال دون اليمين فلأن تأتى الشرور كلها عند العرب
من قبل الشمال، ولذلك سمتها الشؤمى ولذلك كانوا يتشاءمون
بماجاء من قبلها من طائر وحشى أخذ إلى ناحية اليمين فسمى
ذلك بعضهم بارحًا وكانوا يتطيرون منه، وسماه بعضهم سانحًا،
(9/558)
وأنه ليس فيه كثير اعتمال من بطش وأخذ
وإعطاء، وأكل وشرب وأصل طريق الشيطان إلى ابن آدم لدعائه
إلى مايكرهه الله من قبلها.
33 - باب من لم ير الرؤيا لأول
عابر إذا لم يصب
/ 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنِّى رَأَيْتُ
اللَّيْلَةَ فِى الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ
وَالْعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا،
فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَإِذَا سَبَبٌ
وَاصِلٌ مِنَ الأرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ
أَخَذْتَ بِهِ، فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ
آخَرُ فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا
بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ثُمَّ
وُصِلَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
بِأَبِى أَنْتَ وَاللَّهِ، لَتَدَعَنِّى فَأَعْبُرَهَا،
فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : اعْبُرْهَا،
قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَالإسْلامُ، وَأَمَّا الَّذِى
يَنْطُفُ مِنَ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ،
حَلاوَتُهُ تَنْطُفُ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ
وَالْمُسْتَقِلُّ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ
السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِى أَنْتَ
عَلَيْهِ، تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ، ثُمَّ
يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ
يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ
يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ
يُوَصَّلُ لَهُ، فَيَعْلُو بِهِ، فَأَخْبِرْنِى يَا
رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ
أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا، قَالَ:
فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَتُحَدِّثَنِّى
بِالَّذِى أَخْطَأْتُ، قَالَ: لا تُقْسِمْ) . قال المهلب:
إنما عبر بالظله عن الإسلام؛ لأن الظله نعمة من نعم الله
عن أهل الجنة، وكذلك كانت على بنى إسرائيل، وكذلك كانت تظل
النبى عليه السلام أينما مشى قبل نوته، فكذلك الإسلام
(9/559)
يقي ويقي الأذى وينعم المؤمن فى الدنيا
والآخرة، وأما العسل، فإن الله تعالى جعله شفاء للناس وقال
فى القرآن: (شفاء لما فى الصدور) وهو ابدًا حلو على
الأسماع كحلاوة العسل على المذاق، وكذلك جاء فى الحديث أن
فى السمن شفاء من كل داء. والسبب: هو الحبل والعهد
والميثاق، قال تعالى: (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) أى:
بعهده وميثاق، والرجل الذى يأخذ الحبل بعد النبى (صلى الله
عليه وسلم) : أبو بكر الصديق يقوم بالحق فى أمته بعده، ثم
يقوم بالحق بعده عمر، ثم يقوم بالحق بعده عثمان، وهو الذى
انقطع به. قال المهلب: موضع الخطأ الذى قال له النبى (صلى
الله عليه وسلم) : (وأخطأت بعضًا) فى قوله: (ثم وصل له)
إنما الخطأ فى قوله: له، لأن فى الحديث: (ثم وصل) ولم يذكر
له فالوصل إنما يكون لغيره، وكان ينبغى لأبى بكر أن يقف
حيث وقفت الرؤيا، ويقول: ثم يوصل على نص الرؤيا، ولايذكر
الموصول له، ومعنى كتمان النبى موضع الخطأ؛ لئلا يحزن
الناس بالعارض لعثمان، فهو الرابع الذى انقطع له ثم وصل،
أى وصلت الخلافة لغيره، وفى هذا تفسير للحديث الذى رواه
أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك
أن النبى عليه السلام قال: (الرؤيا لأول عابر) . وقال أبو
عبيد وغيره من العلماء: تأويل قوله: (الرؤيا لأول عابر)
إذا أصاب الأول وجه العبارة وإلا فهى لمن أصابها بعده، إذ
ليس المدار إلا على إصابة الصواب فيما يرى النائم ليوصل
بذلك إلى مراد الله بما ضربه من الأمثال فى المنام، فإذا
اجتهد العابر وأصاب الصواب فى معرفة المراد بما ضربه الله
فى المنام فلا
(9/560)
تفسير إلا تفسيره ولاينبغي أن يسال عنها
غيره، إلا أن يكون الأول قد قصر به تاويله فخالف اصول
التأويل، فاللعابر الثانى أن يبين ماجهله ويخبر بما عنده
كما فعل النبى عليه السلام بالصديق فقال: (أصبت بعضًا
وأخطأت بعضًا) ولو كانت الرؤيا لأول عابر سواء أصاب أو
أخطأ ماقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وأخطأت
بعضًا) وقال الكرمانى: لا تغير الرؤيا عن وجهها التى رئيت
له عبارة عابر ولاغيره، وكيف يستطيع مخلوق أن يغير ماجاءت
نسخته من أم الكتاب، غير أن الذى يستحب لمن لم يتدرب فى
علم التأويل ولااتسع فى التعبير الا يتعرض لما قد سبق إليه
من لايشك فى إمامته ودينه، وله من التجربة فوق تجربته. قال
ابن قتية: وليس ينبغى أن يسأل صاحب الرؤيا عن رؤياه إلا
عالمًا ناصحا أمينا كما جاء فى الخبر عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) : (لا تقصص رؤياك إلا على عالم أو ناصح أوذى
رأى من أهلك، فإنه سوف يقول خيرًا) وليس معنى ذلك أن
الرؤيا التى يقول عليها خيرًا كانت دلالة على المكروه
والشر، فقد قيل لمالك: أتعبر الرؤيا على الخير وهى عنده
على الشر لوقل من قال: أنها على ماأولت؟ فقال: معاذ الله،
والرؤيا من أجزاء النبوة فيتلاعب بالنبوة؟ ولكن الخير الذى
يرجى من العالم والناصح هو التأويل بالحق أو يدعو له
بالخير ودفع الشر، فيقول خيرًا لك وشرًا لعدوك إذا جهل
التأويل. قال المهلب: وفيه أن للعالم أن يسكت عن تعبير بعض
الرؤيا إذا خشى منها فتنة على الناس غمًا شاملاً، فأما إن
كان الغم
(9/561)
يخص واحدًا من الناس، واستفسر العابر عنه
فلا بأس أن يخبر بالعبارة ليعد الصبر ويكون على أهبته من
نزول الحادثة لئلا تفجأة فتفزعه، وقد فسر أبو بكر الصديق
رضى الله عنه للمرأة التى رأت جائز بيتها انكسر، فقال:
(يموت زوجك وتلدين غلامًا) لماخصها من الحزن وسالت عن
التفسير. وفيه: تخصيص معنى أمره عليه السلام بإبرار القسم؛
لأن أبا بكر قد أقسم على النبى عليه السلام ليخبره بموضع
الخطأ، فلم يبر قسمه فعلم أن إبرار القسم إنما يجوز إذا لم
يكن فى ذلك ضرر على المسلمين، وكذلك إذا أقسم على ما لا
يجوز أن يقسم عليه لم ينبغ أن يبر قسمه، الا ترى أن رجلا
لو أقسم على أخيه ليشربن بالخمر، أو لعصين الله، لكان
فرضًا عليه أن لا يبر قسمه. وفيه: أنه لا بأس للتلميذ أن
يقسم على استاذه أن يدعه يفتى فى المسألة؛ لأن هذا القسم
إنما هو بمعنى الرغبة والتدرب. وفيه: جواز فتوى المفضول
بحضرة الفاضل إذا كان مشارًا إليه بالعلم والأمانة.
والظلة: سبحانه لها ظل. وتنطف: تمطر. والسبب: الحبل.
وقوله: (يتكففون) قال صاحب العين: تكفف واستكف: إذا بسط
كفه ليأخذ.
(9/562)
34 - باب تعبير
الرؤيا بعد الصبح
/ 38 - فيه: سَمُرَة، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأصْحَابِهِ: هَلْ
رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَيَقُصُّ
عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ
قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّهُ أَتَانِى اللَّيْلَةَ
آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِى، وَإِنَّهُمَا قَالا
لِى: انْطَلِقْ وَإِنِّى انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا
أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ
عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِى بِالصَّخْرَةِ
لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ
هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَأْخُذُهُ فَلا
يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ، كَمَا كَانَ
ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ
الْمَرَّةَ الأولَى، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ
اللَّهِ، مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالا لِى: انْطَلِقِ،
انْطَلِقْ. وذكر الحديث بطوله، إلى قوله: قلت: إِنِّى قَدْ
رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِى
رَأَيْتُ، قَالَ: قَالا لِى: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ،
أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ
يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ
يَأْخُذُ الْقُرْآنَ، فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ
الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى
أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ
وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ
فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ
الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِى مِثْلِ بِنَاءِ
التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِى،
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ
فِى النَّهَرِ، وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ
الرِّبَا، وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ
الَّذِى عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا،
فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ
الطَّوِيلُ الَّذِى فِى الرَّوْضَةِ، فَإِنَّهُ
إِبْرَاهِيمُ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَمَّا
الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ
عَلَى الْفِطْرَةِ، قَالَ: فَقَالَ: بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَأَوْلادُ
الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ
مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيح، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا
عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ
عَنْهُمْ) . قال المهلب: أما معنى الترجمة في سؤاله عليه
السلام عن الرؤيا
(9/563)
عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات
لحفظ صاحبها لها وقرب عهده لها، وأن النسيان قلما يعترض
عليه فيها ولجام ذهن العابر وقله ابتدائه بالفكره فى أخبار
معاشه ومداخلته للناس فى شعب دنياهم، وليعرف الناس مايعرض
لهم فى نومهم ذلك، فيستبشرون بالخير ويحذرون موارد الشر،
ويتأهبون لورود الأسباب الماوية عليهم، فربما كانت الرؤيا
تحذيرًا عن معصية لاتقع إن جهدت، وربما كانت إنذارًا لما
لابد من وقوعه، لا تقع إن جهدت، وربما كانت البشرى الخير
سببًا لسماعها إلى الازدياد منه وقويت فيه نبيته وانشرحت
له نفسه وتسبب إليه، وفى هذا الحديث حجة لمن قال إن أطفال
المشركين فى الجنة كأطفال المسلمين، وقد تقدم فى الجنائز.
وقوله: (يثلغ رأسه) يعنى: يشدخه، والمثلغ من الرطب والتمر:
ماأسقطه المطر، الدهدهة: فنزول الشىء دهده من أعلاه إلى
أسفل، والكلوب، والكلاب لغتان وقد تقدم تفسير الكلول
والدهدهة فى الجنائز بزيادة على ما فى هذا الباب. وشرشر:
قطع. من كتاب العين. والضوضاء: الصوت والجلبة، وقد ضوضا
الناس. وفغرفاه يفغر، إذا فتحه. وقوله: يحشها، قال صاحب
العين: حششت النار حشًا: أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل
ما قوى بشىء فقد حش به. ومغن إذا كثر شجرة ودغله. ولايعرف
الأصمعى إلا أغن وحده.
(9/564)
وقال صاحب العين: روضة غناء: كثيرة العشب
والذباب، وقرية غناء: كثيرة الأهل، وواد أغن. وقوله: (كأن
ماءه المحض فى البياض) ، قال صاحب العين المحض: اللبن بلا
رغوه، وكل شىء خالص فهو محض، وقال: الرباب: السحاب واحدتها
ربابة.
(9/565)
الجزء العاشر
(10/4)
كِتَاب الْفِتَنِ
- قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)
[الأنفال 25] وَمَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
يُحَذِّرُ مِنَ الْفِتَنِ / 1 - فيه: أَسْمَاءُ، قَالَتْ:
قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَنَا
عَلَى حَوْضِى أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَىَّ، فَيُؤْخَذُ
بِنَاسٍ مِنْ دُونِى، فَأَقُولُ: أُمَّتِى، فَيُقَالُ: لا
تَدْرِى، مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى) . وقَالَ ابْنُ
أَبِى مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ
نَرْد عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ. / 2 - وفيه:
عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلىَّ
رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأنَاوِلَهُمُ
اخْتُلِجُوا دُونِى، فَأَقُولُ: أَىْ رَبِّ، أَصْحَابِى،
يَقُولُ: لا تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) . / 3 -
وفيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ
شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ
بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَىَّ أَقْوَامٌ
أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى
وَبَيْنَهُمْ) . وزاد أَبُو سَعِيد قَالَ: (إِنَّهُمْ
مِنِّى) ، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا
بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ بَدَّلَ
بَعْدِي) .
(10/5)
قال المؤلف: كان النبي (صلى الله عليه
وسلم) يستعيذ من الفتن ومن شرها ويتخوف من وقوعها؛ لأنها
تذهب بالدين وتتلفه، وقال: قول الله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً)
[الأنفال: 25] قال: إن الفتنة إذا عمّت هلك الكل، وذلك عند
ظهور المعاصى وانتشار المنكر. وقد سألت زينب النبى (صلى
الله عليه وسلم) عن هذا المعنى فقالت: يا رسول الله أنهلك
وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث) وفسر العلماء
الخبث أولاد الزنا، فإذا ظهرت المعاصى ولم تُغير، وجب على
المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب
منها، فإن لم يفعلوا فقد تعرضوا للهلاك، إلا أن الهلاك
طهارة للمؤمنين ونقمة على الفاسقين، وبهذا قال السلف. وروى
ابن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التى يصنع فيها
المنكر جهارًا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبى الدرداء فى
خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا وهو من الكبائر،
وأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها فقال له أبو
الدرداء: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن
مثل هذا إلا مثلاً بمثل. فقال معاوية: ما أرى بمثل هذا
بأسًا. فقال أبو الدرداء: من يعذرنى من معاوية، أنا أخبره
عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويخبرنى عن رأيه لا
أساكنك بأرض أنت بها) . وأما أحاديث أهل هذا الباب فى ذكر
من يعرفهم النبى من أمته، ويحال بينهم وبينه، لما أحدثوا
بعده، فذلك كل حدث فى الدين لا يرضاه الله من خلاف جماعة
المسلمين، وجميع أهل البدع كلهم فيهم مبدلون محدثون، وكذلك
أهل الظلم والجور، وخلاف الحق وأهله كلهم محدث مبدل ليس فى
الإسلام داخل فى معنى هذا الحديث. وقوله: (اختلجوا دوني) .
قال صاحب العين: خلجت الشيء،
(10/6)
واختلجته: جذبته. وقوله: (فسحقًا سحقًا لمن
بدل بعدي) يعنى: بعدًا له والسحيق: البعيد ومنه قوله
تعالى: (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 11] ،
ومعنى ذلك: الدعاء على من بدّل وغيرّ كقوله: أبعده الله.
قال أبو جعفر الداودى: وليس هذا مما يحتم به للمختلجين
بدخول النّار؛ لأنه يحتمل أن يختلجوا وقتًا فيلحقهم من هول
ذلك اليوم وشدته ما شاء الله، ثم يتلقاهم الله بما شاء من
رحمته، ولا يدل قوله: (سحقًا سحقًا) أنه لا يشفع لهم بعد؛
لأن الله تعالى قد يلقى لهم ذلك فى قلبه وقتًا ليعاقبهم
بما شاء إلى وقت يشاء، ثم يعطف قلبه عليهم فيشفع لهم، وقد
جاء فى الحديث: (شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى) . وقد قال
بعض السلف: فالذين يعرفهم النبى ويحال بينهم وبينه أنهم هم
المرتدون، واستدل على ذلك بقوله: (أى رب أصحابى، فيقال:
إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى) ذكره فى باب الحوض
فى آخر الرقاق وفى هذه الأحاديث الإيمان بحوض النبى (صلى
الله عليه وسلم) على ما ذهب إليه أهل السنة.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) :
(سَتَرَوْنَ بَعْدِى أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) : (اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِ عَلَى
الْحَوْضِ) . / 4 - فيه: ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى
أَثَرَةً، وَأُمُورًا
(10/7)
تُنْكِرُونَهَا) ، قَالُوا: فَمَا
تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَدُّوا
إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ) . / 5
- وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا،
فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ
شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) . / 6 - وفيه:
عُبَادَة، بَايَعَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى مَنْشَطِنَا
وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً
عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، إِلا
أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ
فِيهِ بُرْهَانٌ. / 7 - وفيه: أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ،
أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا،
وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِى، قَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ
بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى) . قال
المؤلف: فى هذه الأحاديث حجة فى ترك الخروج على أئمة
الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم والفقهاء مجمعون على أن
الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد،
وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء
وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم)
لأصحابه: (سترون بعدى أثرةً وأمورًا تنكروها) فوصف أنهم
سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها،
ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم
بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر
على بن معبد، عن على بن أبى طالب أنه قال: لابد من إمامة
برة أو فاجرة. قيل له: البرة لابد منها،
(10/8)
فما بال الفاجرة؟ قال: تقام بها الحدود،
وتأمن بها السبل، ويقسم بها الفئ، ويجاهد بها العدو. ألا
ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن عباس: (من خرج
من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً) . وفى حديث عبادة:
(بايعنا رسول الله على السمع والطاعة) إلى قوله: (وألا
ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا) فدل هذا كله
على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا
يتسبب إلى سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفر الإمام
ويظهر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة لمخلوق عليه، وقد تقدم
فى كتاب الجهاد، وكتاب الأحكام هذا. قال الخطابى: (بواحًا)
يريد ظاهرًا باديًا، ومنه قوله: باح بالشىء يبوح به بوحًا
وبئوحًا، إذا أذاعه وأظهره ومن رواه (براحًا) فالبراح
بالشىء مثل البواح أو قريب منه، وأصل البراح الأرض القفر
التى لا أنيس ولا بناء فيها، وقال غيره: البراح: البيان،
يقال: برح الخفاء أى ظهر.
3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلاكُ
أُمَّتِى عَلَى يَدَي أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ من قريش
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِيّ (صلى
الله عليه وسلم) : (هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ
غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ) . فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِى فُلانٍ، وَبَنِى فُلانٍ
لَفَعَلْتُ.
(10/9)
قال المؤلف: وفى هذا الحديث أيضًا حجة
لجماعة الأمة فى ترك القيام على أئمة الجور ووجوب طاعتهم
والسمع والطاعة لهم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد
أعلم أبا هريرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ولم يأمره بالخروج
عليهم ولا بمحاربتهم، وإن كان قد أخبر أن هلاك أمته على
أيديهم، إذ الخروج عليهم أشدّ فى الهلاك وأقوى فى
الاستئصال، فاختار (صلى الله عليه وسلم) لأمته أيسر
الأمرين وأخف الهلاكين، إذ قد جرى قدر الله وعلمه أن أئمة
الجور أكثر من أئمة العدل وأنهم يتغلّبون على الأمة، وهذا
الحديث من أقوى ما يرد به على الخوارج. فإن قال قائل: (ما
أراد النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (هلاك أمتى)
أهلاكهم فى الدين أم هلاكهم فى الدنيا بالقتل؟ . قيل: أراد
الهلاكين معًا، وقد جاء ذلك بينًا فى حديث على بن معبد عن
إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه قال: سمعت
أبا هريرة يقول: قال رسول الله: (أعوذ بالله من إمارة
الصبيان. فقال أصحابه: وما إمارة الصبيان؟ فقال: إن
أطعتموهم هلكتم، وإن عصيتموهم أهلكوكم، فهلاكهم فى طاعتهم
هلاك الدين، وهلاككم فى عصيانهم هلاك الأنفس) . فإن قيل:
فلم ذكر البخارى فى الترجمة أغيلمة سفهاء من قريش، ولم
يذكر (سفهاء) فى حديث الباب؟ . قيل: كثيرًا ما يفعل مثل
هذا، وذلك أن تأتى فى حديث لا يرضى إسناده لفظة تبين معنى
الحديث فيترجم بها ليدل على المراد بالحديث، وعلى أنه قد
روى عن العلماء ثم لا يسعه أن يذكر فى حشو الباب إلا أصحّ
ما روى فيه لاشتراطه الصحةّ فى كتابه، وقد روى ذلك على بن
معبد قال حدثنا أشعث بن
(10/10)
سعيد، عن سماك، عن أبى هريرة قال: قال رسول
الله: (إن فساد أمتى، أو هلاك أمتى على رءوس غلمة سفهاء من
قريش) . فبان بهذا الحديث أن الغلمة سفهاء، وأن الموجب
لهلاك الناس بهم أنهم رؤساء وأمراء متغلبين.
4 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَيْلٌ
لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ
/ 9 - فيه: زَيْنَب، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ رسُول اللَّه
(صلى الله عليه وسلم) مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ،
يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ،
مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) ، وَعَقَدَ
سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً، قِيلَ: أَنَهْلِكُ
وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ
الْخَبَثُ) . / 10 - وفيه: أُسَامَة، أَشْرَفَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ
الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى) ؟
قَالُوا: لا، قَالَ: (فَإِنِّى لأرَى الْفِتَنَ تَقَعُ
خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ) . قال المؤلف: هذه
الأحاديث كلها مما أنذر النبى (صلى الله عليه وسلم) بها
أمته وعرّفهم قرب الساعة لكى يتوبوا قبل أن يهجم عليهم وقت
غلق باب التوبة حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من
قبل، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج من آخر الأشراط، فإذا
فتح من ردمهم فى وقته (صلى الله عليه وسلم) مثل عقد
التسعين أو المائة فلا يزال الفتح يستدير ويتسع على مرّ
الأوقات، وهذا الحديث فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(بعثت أنا والساعة كهاتين. وأشار بأصبعيه السبابة والتى
تليها) وقد روى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن أبى
سلمة، عن أبي
(10/11)
هريرة قال: قال رسول الله: (ويل للعرب من
شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم) وهذا غاية فى التحذير من
الفتن والخوض فيها حين جعل الموت خيرًا من مباشرتها، وكذلك
أخبر فى حديث أسامة بوقوع الفتن خلال بيوتهم ليتوقفوا ولا
يخوضوا فيها ويتأهبوا لنزولها بالصبر، ويسألوا الله العصمة
منها والنجاة من شرها. قال ابن قتيبة: والخبث: الفسوق
والفجور، والعرب تدعو الزنا خبثًا وخبيثة، وفى الحديث أن
رجلا وجد مع امرأة يخبث بها أى يزني. قال الله تعالى:
(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [النور: 26] والأطم: حصن
مبنى بالحجارة.
5 - باب ظُهُورِ الْفِتَنِ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) : (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ
الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ،
وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيُّمَ هُوَ؟ قَالَ: (الْقَتْلُ، الْقَتْلُ) . / 12 -
وفيه: عَبْدِاللَّهِ، وَأَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ
لأيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا
الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ) . وَالْهَرْجُ
بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ. / 13 - وَقَالَ عَبْدِ
اللَّهِ لأبِى مُوسَى: تَعْلَمُ الأيَّامَ الَّتِى ذَكَرَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَيَّامَ الْهَرْجِ،
قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ:
(مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمُ السَّاعَةُ
وَهُمْ أَحْيَاءٌ) .
(10/12)
قال المؤلف: هذا كله إخبار من النبي بأشراط
الساعة، وقد رأينا هذه الأشراط عيانًا وأدركناها، فقد نقص
العلم، وظهر الجهل، وألقى بالشح فى القلوب، وعمّت الفتن،
وكثر القتل، وليس فى الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله:
(يتقارب الزمان) ومعنى ذلك، والله أعلم، تقارب أحوال أهله
فى قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن
منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء فى الحديث: (لا يزال
الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا) يعنى لا يزالون
بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف لله يلجأ إليهم عند
الشدائد، ويستشفى بآرائهم، ويتبرك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم
وآثارهم. وقال الطحاوى: قد يكون معناه فى ترك طلب العلم
خاصةً والرضا بالجهل، وذلك أن الناس لا يتساوون فى العلم؛
لأن درج العلم تتفاوت، قال الله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ
ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف: 76] وإنما يتساوون إذا كانوا
جهالا. قال الخطابى: وأما حديثه الآخر: (أنه يتقارب الزمان
حتى تكون السنّة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم،
واليوم كالساعة) فإن حماد بن سلمة قال: سألت عنه أبا سلمان
فقال: ذلك من استلذاذ العيش. يريد، والله أعلم، خروج
المهدى ووقوع الأمنة فى الأرض ببسطه العدل فيها فيستلذ
العيش عند ذلك وتستقصر مدته، ولا يزال الناس يستقصرون أيام
الرخاء وإن طالت، ويستطيلون أيام المكروه وإن قصرت، وللعرب
فى مثل هذا: مر بنا يوم كالعرقوب القطا قصرًا. وقوله (صلى
الله عليه وسلم) : (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة
(10/13)
أحياء) فإنه وإن كان لفظه العموم فالمراد
به الخصوص، ومعناه: أن الساعة تقوم فى الأكثر والأغلب على
شرار الناس بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال
طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرها من ناوأها حتى
تقوم الساعة) . فدل هذا الخبر أن الساعة تقوم أيضًا على
قوم فضلاء، وأنهم فى صبرهم على دينهم كالقابض على الجمر،
وذكر فى مواضع.
6 - باب لا يَأْتِى زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ
مِنْهُ
/ 14 - فيه: الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِىٍّ، أَتَيْنَا أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ
الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى
عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ
حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ
(صلى الله عليه وسلم) . / 15 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ،
اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ
مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ،
يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ، لِكَىْ يُصَلِّينَ، رُبَّ كَاسِيَةٍ
فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ) . قال المؤلف:
حديث أنس من علامات النبوة لإخبار النبى (صلى الله عليه
وسلم) بتغير الزمان وفساد الأحوال، وذلك غيب لا يعلم
بالرأى، وإنما يعلم بالوحى، ودل حديث أم سلمة على الوجه
الذى يكون به الفساد، وهو ما يفتح الله عليهم من الخزائن
وأن الفتن مقرونة بها، ويشهد
(10/14)
لذلك قول الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6،
7] فمن فتنة المال ألا ينفق فى طاعة الله، وأن يمنع منه حق
الله، ومن فتنته السرف فى إنفاقه ألا ترى قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (رُبّ كاسية فى الدنيا عارية في الآخرة) .
قال المهلب: فأخبر أن فيما فتح من الخزائن فتنة الملابس،
فحذّر (صلى الله عليه وسلم) أزواجه وغيرهن أن يفتن فى لباس
رفيع الثياب التى يفتن النفوس فى الدنيا رقيقها وغليظها،
وحذّرهن التعرى يوم القيامة منها ومن العمل الصالح، وحضّهن
بهذا القول أن يقدمن ما يفتح عليهن من تلك الخزائن للآخرة
وليوم يحشر الناس عراةً، فلا يكسى إلا الأول فالأول فى
الطاعة والصدقة، والإنفاق فى سبيل الله، فمن أراد أن تسبق
إليه الكسوة فليقدمها لآخرته، ولا يذهب طيباته فى الدنيا
وليرفعها إلى يوم الحاجة. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات)
ندب بعض خدمه لذلك، كما قال يوم الخندق: (من يأتينى بخبر
القوم) وكذلك قال من يسهل عليه فى الليل أن يدور على حجر
نسائه، فيوقظهن للصلاة والاستعاذة مما أراه الله من الفتن
النازلة كى يوافقن الوقت المرجو فيه الإجابة، وأخبرنا (صلى
الله عليه وسلم) أن حين نزول البلاء ينبغى الفزع إلى
الصلاة والدعاء، فيرجى كشفه لقوله تعالى: (فَلَوْلا إِذْ
جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام: 42] الآية، وقد
تقدم حديث أم سلمة فى كتاب الصلاة فى باب تحريض النبى (صلى
الله عليه وسلم) على صلاة اللّيل وذكرنا فيه معنىً زائدًا.
(10/15)
7 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا
/ 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، قَالا: قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا
السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) . / 17 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ، فَإِنَّهُ
لا يَدْرِى، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ،
فَيَقَعُ فِى حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) . / 18 - وفيه:
سُفْيَانُ، قُلْتُ لِعَمْرٍو: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ،
سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَقُولُ: مَرَّ
رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا) ،
قَالَ: نَعَمْ. / 19 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا مَرَّ
أَحَدُكُمْ فِى مَسْجِدِنَا، أَوْ سُوقِنَا، وَمَعَهُ
نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ فَلْيَقْبِضْ
بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
مِنْهَا شَىْءٌ) . قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم)
: (فليس منا) يعنى ليس متبعًا لسُنتنا ولا سالكًا سبيلنا،
كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من شق الجيوب
ودعا بدعوى الجاهلية) لأن من حق المسلم على المسلم أن
ينصره ولا يخذله ولا يسلمه، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان
يشد بعضُه بعضًا، فمن خرج عليهم بالسيف بتأويل فاسدٍ رآه،
فقد خالف ما سَنّهُ النبى (صلى الله عليه وسلم) من نصرة
المؤمنين وتعاون بعضهم لبعض، والفقهاء مجمعون على أن
الخوارج من جملة المؤمنين لإجماعهم كلهم على أن الإيمان لا
يزيله غير الشرك بالله ورسوله والجحد لذلك، وأن المعاصى
غير الكفر لا يكفر مرتكبها، ذكر أسد بن موسى فى كتاب الكف
عن
(10/16)
أهل القبلة قال: حدثنا هشيم بن بشير قال:
حدثنا كوثر بن حكيم قال: حدثنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قال لابن مسعود: (أتدرى كيف حكم
الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال:
حكم الله فيها أن لا يقتل أسيرها ولا يقسم فيئها، ولا يجهز
على جريحها ولا يتبع مدبرها) . وبهذا عمل على بن أبى طالب،
ورضيت الأمة بفعله هذا فيهم، وقال الحسن بن على: لولا على
بن أبى طالب لم يعلم الناس كيف يقاتلون أهل القبلة،
فقاتلهم على بما كان عنده من العلم فيهم من النبى (صلى
الله عليه وسلم) فلم يكفرهم ولا سبَاهم ولا أخذ أموالهم،
فمواريثهم قائمة، ولهم حكم الإسلام. وقوله (صلى الله عليه
وسلم) : (لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح) وأمرهُ للذى مر
بالسهام فى المسجد أن يمسك نصالها، هو من باب الأدب وقطع
الذرائع ألا يشير أحد بالسلاح خوف ما يئول منها ويخشى من
نزع الشيطان. وقوله: (فيقع فى حفرة من النار) معناه: إن
أنفذ الله عليه الوعيد، وهذا مذهب أهل السنة، ومن روى فى
الحديث (ينزغ فى يده) فقال صاحب العين: نزغ بين القوم
نزغًا: حمل بعضهم على بعض بفساد بينهم، ومنه نزغ الشيطان.
وقال صاحب الأفعال: نزغ: طعن، ومن روى (ينزع) بالعين فهو
قريب من هذا المعنى. قال صاحب العين: نزعت الشىء نزعًا:
قلعته، ونزع بالسهم: من رمى به.
(10/17)
8 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ
بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ
/ 20 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ
كُفْرٌ) . / 21 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، وابْن عَبَّاس،
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْجِعُوا
بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) .
/ 22 - وفى حديث أَبِى بَكْرَةَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِىِّ، حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ
بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِى بَكْرَةَ،
قَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ. قَالَ
عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَحَدَّثَتْنِى أُمِّى عَنْ أَبِى
بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَىَّ مَا
بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ. قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى
قبله، فيه النهى عن قتل المؤمنين بعضهم بعضًا، وتفريق
كلمتهم وتشتيت شملهم، وليس معنى قوله: (لا ترجعوا بعدى
كفارًا) النهى عن الكفر الذى هو ضد الإيمان بالله ورسوله،
وإنما المراد بالحديث النهى عن كفر حق المسلم الذى أمر به
النبى (صلى الله عليه وسلم) من التناصر والتعاضد، والكفر
فى لسان العرب: التغطية، وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق،
وقتاله كفر) يعنى: قتاله كفر بحقه وترك موالاته، للإجماع
على أن أهل المعاصى لا يكفرون بارتكابها. وقال أبو سليمان
الخطابى: قيل: معناه لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا أن
تقاتلوا ويضرب بعضكم رقاب بعض، وقيل: إنه أراد بالحديث أهل
الردة أخبرنى إبراهيم بن فراس قال: سمعت موسى بن هارون
يقول: هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر. وقد تقدم في كتاب
(10/18)
الحج فى باب الخطبة فى أيام منى زيادة فى
معنى هذا الحديث من كلام الطبري. قال المهلب: وابن الحضرمى
رجل امتنع من الطاعة فأخرج إليه جارية بن قدامة جيشًا فظفر
به فى ناحية من العراق، وكان أبو بكرة يسكنها، فأمر جارية
بصلبه فصلب، ثم ألقى النار فى الجذع الذى صلب فيه بعد
أيام، ثم أمر جارية خيثمة أن يشرفوا على أبى بكرة ليختبر
إن كان يحارب فيعلم أنه على غير طاعة أو يستسلم فيعرف أنه
على الطاعة، فقال له خيثمة: هذا أبو بكرة يراك وما صنعت فى
ابن الحضرمى وما أنكر عليك بكلام ولا بسلاح، فلما سمع أبو
بكرة ذلك وهو فى عليّة له قال: لو دخلوا علىّ دارى ما بهشت
بقصبة فكيف أن أقاتلهم بسلاح؛ لأنى لا أرى الفتنة فى
الإسلام، ولا التحرك فيها مع إحدى الطائفتين. قال الطبرى:
(ما بهشت إليهم بقصبة) يعنى ما تناولتهم ولا مددت يدى
إليهم بسوء، يقال للرجل إذا أراد معروف الرجل أو أراد
مكروهه وتعرّض لخيره أو شره: بهش فلان إلى كذا وكذا، ومنه
قول النابغة: سبقت الرجال الباهشين إلى العلا
كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد
وفي كتاب الأفعال: بهشت إلى فلان: خففت إليه، ورجل بهش
وباهش.
(10/19)
9 - باب تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ
فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ
/ 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ
مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ
الْمَاشِى، وَالْمَاشِى فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِى،
مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ
مِنْهَا مَلْجًأ أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ) . قال
الطبرى: إن قال قائل: ما معنى هذا الحديث، وهل المراد به
كل فتنة بين المسلمين أو بعض الفتن دون البعض؟ فإن قلت:
المعنى به كل فتنةٍ، فما أنت قائل فى الفتن التى مضت، وقد
علمت أنه نهض فيها من خيار المسلمين خلق كثير، وإن قلت
المعنى به البعض، فأيتها المعنيّة به، وما الدليل على ذلك؟
قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: المراد به جميع
الفتن وغير جائز للمسلم النهوض فى شىء منها، قالوا: وعليه
أن يستسلم للقتل إن أريدت نفسه ولا يدفع عنها، والفتنة:
الاختلاف الذى يكون بين أهل الإسلام ولا إمام لهم مجتمع
على الرضا بإمامته لما يستنكر من سيرته فى رعيته، فافترقت
رعيته عليه حتى صار افتراقهم إلى القتال بأن رضيت منهم
فرقة إمامًا غيره، وأقامت فرقة على الرضا به، قالوا: وإذا
كان كل واحد من هذين المعنيين، فهى التى أمر النبى (صلى
الله عليه وسلم) بكسر السيوف فيها ولزوم البيوت وهى التى
قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم)
وممن قعد فى الفتنة حذيفة، ومحمد بن سلمة، وأبو ذر، وعمران
بن حصين، وأبو موسى الأشعرى، وأسامة بن زيد، وأهبان بن
صيفى، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو بكرة، ومن
التابعين شريح والنخعي،
(10/20)
وحجتهم من طريق النظر أن كل فريق من
المقتتلين فى الفتنة فإنه يقاتل على تأويل، وإن كان فى
الحقيقة خطأ فهو عند نفسه فيه محق وغير جائز لأحدٍ قتله،
وسبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضى بقضاء مما اختلف فيه
العلماء على ما يراه صوابًا، فغير جائز لغيره من الحكام
نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتابًا ولا سُنّةً ولا
جماعة، فكذلك المقتتلون فى الفتنة كل حزب منهم عند نفسه
محق دون غيره بما يدعون من التأويل، وغير جائز لأحد
قتالهم، وإن هم قصدوا لقتله فغير جائز دفعهم بضرب أو جرح،
لأن ذلك إنما يستحقه من قاتل وهو متعمد الإثم فى قتاله،
والواجب على الناس إذا اقتتل حزبان من المسلمين بهذه الصفة
ترك معاونة أحدهما على الآخر وعليهم لزوم البيوت، كما أمر
النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا ذر ومحمد بن سلمة وعبد
الله بن عمر، وما عمل به من تقدّم ذكرهم من الصحابة. وقال
آخرون: إذا كانت فتنة بين المسلمين، فالواجب على المسلمين
لزوم البيوت وترك معاونة أحد الحزبين، ولكن إن دخل على بعض
من قد اعتزل الفريقين منزله، فأتى من يريد نفسه، فعليه
دفعه عن نفسه وإن أتى الدفع على نفسه، روى ذلك عن عمران بن
حصين وابن عمر وعبيدة السلمانى، واحتجوا بعلة الذين تقدم
قولهم غير أنهم اعتلوا فى إباحة الدفع عن أنفسهم بالأخبار
الواردة عن النبى أنه قال: (من أريدت نفسه وماله فقتل فهو
شهيد) . فالواجب على كل من أريدت نفسه وماله ظلمًا دفع ذلك
ما وجد إليه السبيل، متأولا كان المريد أو معتمدًا للظلم،؛
لأن ذلك عندهم ظلم وعلى كل أحد دفع الظلم عن نفسه بما قدر
عليه.
(10/21)
وقال آخرون: كل فرقتين اقتتلتا فغير خارج
أحدهما من أحد وجهين من أن تكون الفرقتان مخطئتين فى قتال
لعضهم بعضًا، وذلك كقتال أهل الغصب والمقتتلين على النهب
وأشباه ذلك مما لا شبهة فى أن اقتتالهم حرام، وأن على
المسلمين الأخذ على أيديهم وعقوبتهم بما يكون نكالا لهم،
أو تكون إحداهما مخطئة والأخرى مصيبة، فالواجب على
المسلمين الأخذ على أيدى المخطئة ومعونة المصيبة؛ لأن
النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أمر بالأخذ على يدى الظالم
بقوله: (لتأخذن على يدى الظالم حتى تأطروه على الحق أطرًا
أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب
لهم) فإذا كان كما قلنا، وكان غير جائز أن تكون فرقتان
تقاتل كل واحدة منهما صاحبتها أو يسفك بعضها دماء بعض
كلاهما مصيبة؛ لأن ذلك لو جاز جاز أن يكون الشىء الواحد
حرامًا وحلالاً فى حالة واحدة، وإذا كان كذلك فالواجب على
المسلمين معونة المحقّة من الفئتين، وقتال المخطئة حتى
ترجع إلى حكم الله، فلا وجه لكسر السيوف والاختفاء فى
البيوت عند هيج الفتنة، روى ذلك عن على بن أبى طالب وعمار
بن ياسر وعائشة وطلحة، ورواية عن ابن عمر، روى الزهرى، عن
حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال: ما وجدت فى
نفسى من شىء ما وجدت أنى لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما
أمرنى الله. وروى سفيان عن يحيى بن هانئ أنه قال لعبد الله
بن عمرو: (على كان أولى أو معاوية؟ قال: علي. قال: فما
أخرجك؟ قال: إنى لم أضرب بسيفٍ ولم أطعن برمح، ولكن رسول
الله قال: أطع أباك فأطعته) . وقال إبراهيم بن سعد: قتل
أويس القرني
(10/22)
مع علي فى الرجالة. وقيل لإبراهيم النخعي:
من كان أفضل علقمة أو الأسود؟ فقال: علقمة؛ لأنه شهد صفّين
وخضب بسيفه فيها. وقال ابن إسحاق: شهد مع على عبيدة
السلمانى وعلقمة وأبو وائل وعمرو بن شرحبيل. وقال ابن
إسحاق: خرج مع ابن الأشعث فى الجماجم ثلاثة آلاف من
التابعين ليس فى الأرض مثلهم: أبو البخترى، والشعبى، وسعيد
بن جبير، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، والحسن البصري. وقال
آخرون: كل قتال وقع بين المسلمين ولا إمام لجماعتهم يأخذ
للمظلوم من الظالم فذلك القتال هو الفتنة التى أمر رسول
الله بالاختفاء فى البيوت فيها وكسر السيوف، كان الفريقان
مخطئين أو كان أحدهما مخطئًا والآخر مصيبًا، روى ذلك عن
الأوزاعى قال: ما كانت منذ بعث الله نبيه إلى اليوم
طائفتان من المؤمنين اقتتلتا إلا كان قتالهم خطأ ومعصية،
فإن كانتا فى سواد العامة، فإمام الجماعة المصلح بينهم
يأخذ من الباغية القصاص فى القتل والجراح كما كان بين تينك
الطائفتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله وإلى
الولاة بعده وإن كان قتالهم وليس للناس إمام يجمعهم فهى
الفتنة التى النجاة منها الأخذ بعهد النبى (صلى الله عليه
وسلم) أن يعتزل تلك الفرق كلها ولو أن يعض بأصل الشجرة حتى
يدركه الموت، وإن كانت خارجة فشهدت على أختها بالضلالة فى
إيمانها وبالكفر لم تسم فئة باغية، وقد برئت من ولايتها
قبل خروجها عليها، فكفى بالخروج براءة وبرجوع فلهم إذا
هزموا إلى مقرهم مروقًا.
(10/23)
قال الطبري: وأنا قائل بالصواب فى ذلك
ومبين معنى الفتنة التى القاعد فيها خير من القائم وأمره
(صلى الله عليه وسلم) بكسر السيوف ولزوم البيوت والهرب فى
الجبال، والخبر المعارض لهما وهو أمره (صلى الله عليه
وسلم) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين والأخذ على يد
السفهاء والظالمين، إذ غير جائز التعارض فى أخباره (صلى
الله عليه وسلم) ؛ إذ كل ما قال حق وصدق. فنقول: الفتنة فى
كلام العرب الابتلاء والاختبار، فقد يكون ذلك بالشدّة
والرخاء والطاعة والمعصية، وكان حقًا على المسلمين إقامة
الحق ونصرة أهله، وإنكار المنكر والأخذ على أيدى أهله، كما
وصفهم الله تعالى بقوله: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)
[الحج: 41] كان معلومًا أن من أعان فى الفتنة فريق الحق
على فريق الباطل فهو مصيب أمر الله تعالى ومن أنكر ما
قلناه قيل له: أرأيت المفتئتين. الملتمسين ولاية أمر الأمة
فى حال لا إمام لهم يقيم عليهم الحق هل خلوا عندك من أحد
أمور ثلاثة: إما أن يكون كلاهما محقين أو كلاهما مبطلين أو
أحدهما محقًا والآخر مبطلا؟ فإن قال: نعم. قيل له: أو ليس
الفريقان إذا كانوا مبطلين حق على المسلمين الأخذ على
أيديهما إن قدروا على ذلك، وإن لم تكن لهم طاقة؛ فكراهة
أمرهما والقعود عنهما وترك معونة أحدهما على الآخر فقد
أوجب معونة الظالم على ظلمه، وذلك خلاف حكم الله. وإن قال:
بل الواجب عليهم ترك الفريقين يقتتلون واعتزالهما، أباح
للمسلمين ترك إنكار المنكر وهم على ذلك قادرون، وسئل عن
رجل
(10/24)
غصب امرأة نفسها للفجور بها على أعين الناس
وهم على منعه قادرون، هل يجوز لهم تركه؟ فإن أجاز ذلك لم
يمكن خصمه الإبانة عن خطأ قوله بأكثر من ذلك، فإن أوجب
منعه والأخذ على يده، قيل له: فما الفرق بينه وبين من رآه
يريد قتل رجل ظلمًا وعدوانًا، وما الذى أوجب عليهم منع ذلك
ظاهرًا وأباح لهم ترك من يريد قتل النفس التى حرمها الله؟
ويقال له: أرأيت إن كان أحد الفريقين محقًا والآخر مبطلاً
أيجب على المسلمين معونة المحق على المبطل؟ فإن قال: لا
أوجب ترك الساعى فى الأرض بالفساد، وهذا خلاف قوله تعالى:
(إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) [المائدة: 33] الآية. فإن قال: تجب معونة
المحق على المبطل، أوجب قتال الفرقة الباغية. وأما الحالة
الثالثة فإنها حالة ممتنع فى العقل وجودها، وذلك حال حرب
فريقين من المسلمين يقتلان وهما جميعًا محقان فى ذلك، ولو
جاز أن يكون كل واحد منهما مصيب حقيقة حكم الله فى ذلك
لجاز أن يكون الشىء الواحد بحكم الله حلالاً وحرامًا فى
حالة واحدة وشخص واحد، وهذا ما لا يجوز أن يوصف به تعالى.
فإن قيل: فما تنكر أن يكون الفريقان المقتتلان مصيبين فى
قتال كل واحد منهما صاحبه حقيقة حكم الله إذا كان قتالهما
فى وجهة التأويل لا من وجهة الخلاف للنصّ الذى لا يحتمل
التأويل، فقد علمت قول من قال باجتهاد الرأى فيما لا نصّ
فيه من أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله فى الحادثة على كل
مجتهد ما أداهُ إليه اجتهاده، وأنه لا خطأ في شيء من ذلك.
(10/25)
صحة ذلك بما يكون من الصحابة، رضوان الله
عليهم، فيما لا نص فيه الله وللرسول من الاختلاف بينهم، ثم
لم يظهر واحد منهم لصاحبه البراء ولا الخروج من ولايته،
قال: فكذلك الفريقان المقتتلان إذا كانا كلاهما طالبى الحق
عند أنفسهما ورأى كل واحد منهما أنه محق كالمختلفين من
أصحاب رسول الله. قيل له: أما قول من قال: كل مجتهد وإن
كان غير مصيب فى خطئه حكم الله الذى طلبه فأضله فقد أخطأ،
وذلك كالملتمس عين القبلة للصلاة إليها فى يوم دخن فى فلاة
من الأرض بالدلائل غير موجب له التماسه إياها، وقد أخطأها
أن يكون مصيبًا فى طلب جهتها، فكذلك المقتتلان على التأويل
الذى يعذر فيه المخطئ؛ إذا أخطأ أحدهما حكم الله فى قتاله
الفريق المصيب حكم الله. وإن عذر بالخطأ الذى وضع عنه
الوزر فيه إذا كان سبيله فيما كلف فيه سبيل المحنة
والابتلاء، إذا لم يوقفوا على عينه بالنص الذى لا يحتمل
التأويل، وأما استشهاد من قال: كل مجتهد مصيب بإختلاف
أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) فيما لا نص فيه بعينه،
فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكروا فيما
قالوا فيه من الاجتهاد والاستنباط أن يكون فيهم مصيب
ومخطئ، فلا حجة لمحتج باختلافهم، فإذا بطل الوجه الثالث
وهو أن يكونا معًا محقين ثبت أن قوله (صلى الله عليه وسلم)
: (ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم) غير معنى به
القتال الذى هو معونة المسلمين للمحق والقتال الذى يكون من
المسلمين لأهل السّفُه والفسق للأخذ على أيديهم ومنعهم من
السعى فى الأرض بالفساد. فإن قيل: فأى حالة هى التى وصف
النبى (صلى الله عليه وسلم) من الفتنة أن القاعد فيها خير
من القائم؟ قيل: هذه
(10/26)
حالة لها ثلاث منازل: أحدها: أن يكون
الفريقان المقتتلان مبطلين، وسائر المسلمين مقهورين بينهما
لا طاقة لمن أراد الأخذ على أيديهما على النهوض فى ذلك،
فإن هو نهض عرض نفسه للهلاك ولم يرج إصلاحًا بينهما فهذه
حالة هو فيها معذور بالتخلف، والسلامة له فى الهرب وكسر
السيوف، وهذه التى قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد
فيها خير من القائم) يعنى القاعد عن هذه الفتنة خير من
القائم فيها للنهوض إليها معين أهلها؛ لأنه خير من القائم
بذكر الله والعمل بطاعته. والحالة الثانية: أن يكون أحد
الفريقين مخطئًا والآخر مصيبًا، وأمرهما مشكل على كثير من
الناس لا يعرفون المحق فيها من المبطل، فمن أشكل عليه
أمرهما فواجب عليه اعتزال الفريقين ولزوم المنازل حتى يتضح
له الحق ويتبين المحق منهما، وتنكشف عنه الشبهة فيلزمه من
معونة أهل الحق ما لزم أهل البصائر. وأما المنزلة الثالثة:
فأن يكون مخرج الكلام من رسول الله فى ذلك كان فى خاص من
الناس على ما روى عن عمار بن ياسر أنه قال لأبى موسى حين
روى عن النبى أنه قال: (إذا وقعت الفتنة فاضربوا سيوفكم
بالحجارة. . .) الحديث فقال له عمار: أنشدك الله يا أبا
موسى قال هذا رسول الله لك أنت خاصةً؟ قال: نعم. ولو كان
الواجب فى كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب
منه ولزوم المنازل وكسر السيوف؛ لما أقيم لله تعالى حق ولا
أبطل باطل، ولو وجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال
كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ونسائهم، وسفك
دمائهم بأن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن
يقولوا هذه
(10/27)
فتنة قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكفّ
الأيدى والهرب منها. وذلك مخالفة لقوله (صلى الله عليه
وسلم) : (خذوا على أيدى سفهائكم) ولقوله: (مثل القائم
والمنتهك والمدهن فى حدود الله مثل ثلاثة نفر اصطحبوا فى
سفينة، فقال أحدهم: نحفر لنأخذ الماء وقال الأخر: دعه
فإنما يحفر مكانه. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا جميعًا. .
.) الحديث. فإن قال قائل: فإنك قد ذكرت أنه لا فتنة تخلو
من الأسباب الثلاثة، ثم أوجبت فى جميعها على أهل البصائر
بالحق النهوض مع أهله على أهل الباطل لقمعه، وقد علمت أنه
لا فتنة كانت ولا تكون منذ بعث الله نبيّه (صلى الله عليه
وسلم) أفضل أهلا ولا أقوم بالحق ولا أطلب له من قوم نهضوا
فيها بعد مقتل عثمان فإنهم كانوا أهل السابقة والهجرة
وخيار الأمة، ولم تكن فتنة يرجى بالنهوض لمعونة أحد
فريقيها على الآخر ما كان يرجى فيها لو كان النهوض فى فتن
المسلمين جائزًا، وقد علمت من تثبط عن النهوض فيها، ونهى
عن المشى إليها وأمر بالجلوس عنها من جلة الصحابة كسعد
وأسامة ومحمد بن مسلمة وأبى مسعود الأنصارى وابن عمر وأبى
موسى وغيرهم يكثر إحصاؤهم. قيل له: إن سبيل كل ما احتج من
أمر الدين إلى الاستخراج بالقياس والاستنباط بالعقول
والأفهام سبيل ما كان من الأختلاف بين الذين نهضوا فى
الفتنة التى قعد عنها من ذكرت من القاعدين فيها، ولذلك عذر
أهل العلم من قعد عنها، ومن نهض فيها من أهل الدين، ولولا
ذلك
(10/28)
عظمت المصيبة وجسمت البلية، ولكن قعود من
قعد عنها لما كان بتأويل ونهوض من نهض فيها بمثله رجا
العالمون بالله للمصيب منهم الثواب الجزيل، وعذروا المخطئ
فى خطئه؛ إذ كان خطؤه بالتأويل، لا بالخلاف للنصّ المحكم
الذى لا يحتاج للتأويل، ولا شك أن الناهضين فى الفتنة التى
قعد عنها سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة كانوا أفضل وأعلم
بالله ممن قعد عنها، وذلك أن الناهضين فيها كان منهم من
يقر له جميع أهل ذلك الزمان بالفضل والعلم، ومنهم من لا
يدفعه جميعهم عن أنه إن لم يكن أفضل منه وأعلم أنه ليس
بدونه. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن المحتج إذا أغفل سبيل
الصواب، لتأويل تأوله وإن كان خطأ، حجةً على من خالفه فى
تأويله. فإن قال: فإن جلوس من جلس ممن ذكرنا لم يكن
تأويلا، ولكنه كان نصًا لا يحتمل التأويل لقوله: (القاعد
فيها خير من القائم) قيل: إنه لا أحد روى عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) فى الفتنة التى قعد عنها أنه (صلى الله
عليه وسلم) نهاه عن النهوض فيها بعينها نصًا، وإنما قال
(صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم) من
غير نص على فتنة بعينها أنها هى تلك الفتنة، من غير تسميته
بها باسم وتوقيته لها بوقت. وقد روى أهل العراق عن على
وعبد الله: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر عليًا
بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين) . وعن أبى سعيد وغيره
أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لتقاتلنّ على تأويله
كما قاتلت على تنزيله) وروى أهل الشام عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) فى معاوية أنه الذى يقاتل على الحق وأنه (صلى
الله عليه وسلم) ذكر فتنة فمرّ به عثمان، فقال: (هذا
وأصحابه يومئذ على الحق) . وكل راوٍ منهم لرواية يدعى أنها
الحق، وأن تأويله أولى، فإذا كان الأمر كذلك علم
(10/29)
أن القول فى ذلك من غير وجه النص الذى لا
يحتمل التأويل، وأن الاختلاف بينهم كان من جهة الاستنباط
والقياس، والذى لا يوجد فى مثله إجماع من الأمة على معنىً
واحد، ولذلك قيل فى قتلى الفريقين ما قيل من رجاء الفريق
الآخر الإصابة وأمن على فريق الشبهة. وكذلك ما حدثنا خلاد
بن أسلم قال: حدثنا النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن
سيرين: (أن عائشة سمعت صوتًا فقالت: من هذا أخالد ابن
الواشمة؟ قال: نعم. قالت: أنشدك الله إن سألت عن شىء
أتصدقني؟ قال: نعم. قالت: ما فعل طلحة؟ قال: قتل. قالت: ما
فعل الزبير؟ قال: قتل. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: قلت: بل نحن إنا لله وإنا إليه راجعون على زيد وأصحاب
زيد، والله لا يجمعهم الله وقد قتل بعضهم بعضًا. قالت: أو
لا تدري؟ وسعت رحمته كل شىء وهو على كل شىء قدير. قال:
فكانت أفضل منى) . وحدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا يزيد،
حدثنا العوّام بن حوشب، عن عمرو بن مرة، عن أبى وائل قال:
(رأى عمرو بن شرحبيل أبا ميسرة وكان من أفضل الناس عند
الله، قال: رأيت كأنى دخلت الجنّة، فإذا قباب مضروبة فقلت:
لمن هذه؟ فقالوا: لذى الكلاع وحوشب، كانا ممن قتل مع
معاوية. قلت: فأين عمار وأصحابه؟ فقال: أمامك. فقلت: قد
قتل بعضهم بعضًا؟ قيل: إنهم لقوا الله فوجدوه واسع
المغفرة. قلت: فما فعل أهل النهر؟ قال: لقوا برجاء) .
(10/30)
- باب إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ
بِسَيْفَيْهِمَا
/ 24 - فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ
بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ،
قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟
قَالَ: (إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ) . قال المؤلف:
ولهذا الحديث أيضًا قعد من قعد من الصحابة عن الدخول فى
الفتنة ولزموا بيوتهم، وفسر أهل العلم هذا الحديث فقالوا:
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (القاتل والمقتول فى النار)
ليس هو على الحتم لهما بالنار، وإنما معناه أنهما يستحقان
النار إلا أن يشاء الله أن يغفر لهما؛ لأنه (صلى الله عليه
وسلم) سمّاهما مسلمين وإن قتل أحدهما صاحبه، ومذهب جماعة
أهل السنة أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المؤمنين بالخيار
إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، وقد تقدّم فى كتاب
الإيمان. وقال المؤلف: فى حديث أبى بكرة أنه إذا التقى
المسلمان بسيفيهما واختلفت طائفتان على التأويل فى الدين،
ولم يتبين البغى من أحدهما أنه يجبُ القعود عنهما وملازمة
البيوت، ولهذا تخلف محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص،
وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وحذيفة وجماعة عن تلك
المشاهد؛ لأنه لم يتبين لهم ما قام فيه المقتتلون، وأخذوا
بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تكون فتن القاعد فيها خير
من القائم) فأما إذا ظهر البغى فى إحدى الطائفتين لم يحل
لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية لقوله تعالى: (فَقَاتِلُوا
الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)
[الحجرات: 9] ولو أمسك
(10/31)
المسلمون عن قتال أهل البغى لبطلت فريضة
الله تعالى وهذا يدل أن قوله: (فالقاتل والمقتول فى النار)
ليس فى أحد من أصحاب محمد؛ لأنهم قاتلوا على التأويل، وقال
بعض العلماء: فإن قال قائل: فبأى الطائفتين كانت أولى
بالحق؟ قيل: كلا الطائفتين عندنا محمودة مجتهدة برة تقية،
وقد قعد عنها أصحاب النبى ولم يروا فى ذلك بيانًا، وهم
كانوا أولى بمعرفة الحق فكيف يحكم لأحد الفريقين على
الآخر، ألا ترى أن النبى شهد لعلى وطلحة والزبير بالشهادة،
فكيف يكون شهيدًا من يحل دمه، وكيف يحكم لأحد الفريقين على
الآخر وكلاهما شهداء؟ روى خالد بن خداش، عن الدراوردى، عن
سهيل عن أبيه، عن أبى هريرة قال: (كان النبى (صلى الله
عليه وسلم) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير على
حراء فتحرك، فقال رسول الله: اسكن حراء، فإنه ليس عليك إلا
نبى وصديق وشهيد) وكل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يجب على المسلمين توقيرهم والإمساك عن ذكر زللهم
ونشر محاسنهم، وكل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور، وإن
كان بعضهم أفضل من بعض وأكثر سوابق.
- باب كَيْفَ الأمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ؟
/ 25 - فيه: حُذَيْفَة، كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْخَيْرِ،
وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ
يُدْرِكَنِى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا
كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ
بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ
شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ
الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) ،
قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ
بِغَيْرِ هَدْيِى، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) .
(10/32)
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ
مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ
جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) ،
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ:
(هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ
بِأَلْسِنَتِنَا) ، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ
أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ
الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟ قَالَ:
(فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ
تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ
وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) . قال المؤلف: هذا الحديث من أعلام
النبوة، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) أخبر حذيفة بأمور
مختلفة من الغيب لا يعلمها إلا من أوحى إليه بذلك من
أنبيائه الذين هم صفوة خلقه، وفيه حجة لجماعة الفقهاء فى
وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك القيام على أئمة الجور، ألا
ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وصف أئمة زمان الشر فقال:
(دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) فوصفهم
بالجور والباطل والخلاف لسنته؛ لأنهم لا يكونون دُعاةً على
أبواب جهنم إلا وهم على ضلال، ولم يقل فيهم تعرف منهم
وتنكر، كما قال فى الأولين، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة
المسلمين وإمامهم، ولم يأمر بتفريق كلمتهم وشق عصاهم. قال
الطبرى: اختلف أهل العلم فى معنى أمر النبى بلزوم الجماعة
ونهيه عن الفرقة، وصفة الجماعة التى أمر بلزومها، فقال
بعضهم: هو أمر إيجاب وفرض، والجماعة التى أمرهم بلزومها:
السواد الأعظم، وقالوا: كل ما كان عليه السواد الأعظم من
أهل الإسلام من أمر دينهم فهو الحق الواجب والفرض الثابت،
الذى لا يجوز لأحدٍ من المسلمين خلافه، وسواء خالفهم فى
حكم من الأحكام أو خالفهم فى إمامهم القيم بأمرهم
وسلطانهم، فهو للحق مخالف.
(10/33)
ذكر من قال ذلك: روى عن ابن سيرين قال: لما
قتل عثمان، رضى الله عنه، أتيت أبا مسعود الأنصارى، فسألته
عن الفتنة، فقال: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع
أمة محمد على ضلالة، والجماعة حبل الله، وإن الذى تكرهون
من الجماعة هو خير من الذى تحبون من الفرقة. واحتجوا بما
روى الأوزاعى قال: حدثنى قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله: (إن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقةً،
وإن أمتى على ثنتين وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة،
وهى الجماعة) . وروى معتمر بن سليمان، عن عبد الله بن
دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (لا يجمع الله أمتى
على ضلالةٍ أبدًا، ويد الله على الجماعة هكذا، فاتبعوا
السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ فى النار) . وقال آخرون:
الجماعة التى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بلزومها هى
جماعة أئمة العلماء، وذلك أن الله جعلهم حجةً على خلقه،
وإليهم تفزع العامة فى دينها، وهى تبع لها، وهم المعنيون
بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله لن يجمع أمتى على
ضلالة) . ذكر من قال ذلك: روى عن المسيب بن رافع قال:
كانوا إذا جاءهم شىء ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسول
الله سمّوه صوافى الأمر، فجمعوا له العلماء، فما اجتمع
عليه رأيهم فهو الحق. وسئل عبد الله بن المبارك عن الجماعة
الذين ينبغي
(10/34)
أن يقتدي بهم، فقال: أبو بكر وعمر. فلم يزل
يجئ حتى انتهى إلى محمد بن ثابت بن الحسين بن واقد، قلت:
هؤلاء قد ماتوا فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكرى. وقال
آخرون: الجماعة التى أمر رسول الله بلزومها: هم جماعة
الصحابة الذين قاموا بالدين بعد مضيّه (صلى الله عليه
وسلم) ، حتى أقاموا عماده وأرسوا أوتاده وردوه، وقد كاد
المنافقون أن ينزعوا أواخيه ويقلبوه من أواسيه إلى نصابه
وسلكوا فى الدعاء منهاجه، فأولئك الذين ضمن الله لنبيّه أن
لا يجمعهم على ضلالة، قالوا: ولو كان معناه لا تجتمع أمته
فى زمن من الأزمان من يوم بعثه الله إلى قيام الساعة على
ضلالة؛ بطل معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تقوم
الساعة إلا على شرار الناس) وشبه ذلك من الأخبار المرويّة
عنه (صلى الله عليه وسلم) أن من الأزمان أزمانًا تجتمع
فيها أمته على ضلالة وكفر. وقال آخرون: الجماعة التى أمر
رسول الله بلزومها: جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين
على أمر واجب على أهل الملل اتباعها، فإذا كان فيهم مخالف
منهم فليسوا بمجتمعين، ووجب تعرف وجه الصّواب فيما اختلفوا
فيه. قال الطبرى: والصواب فى ذلك أنه أمر منه (صلى الله
عليه وسلم) بلزوم إمام جماعة المسلمين ونهى عن فراقهم فيما
هم عليه مجتمعون من تأميرهم إياه فمن خرج من ذلك فقد نكث
بيعته ونقض عهده بعد وجوبه، وقد قال (صلى الله عليه وسلم)
: (من جاء إلى أمتى ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنًا من
كان) .
(10/35)
قال المؤلف: وحديث أبى بكرة حجة فى ذلك
لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمره بلزوم جماعة المسلمين
وإمامهم، فبان أن الجماعة المأمور باتباعها هى السواد
الأعظم مع الإمام الجامع لهم، فإذا لم يكن لهم إمام فافترق
أهل الإسلام أحزابًا فواجب اعتزال تلك الفرق كلها على ما
أمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا ذرّ ولو أن يعض
بأصل شجرة حتى يدركه الموت، فذلك خير له من الدخول بين
طائفة لا إمام لها خشية ما يئول من عاقبة ذلك من فساد
الأحوال باختلاف الأهواء وتشتت الآراء. وقال صاحب العين:
الدخن: الحقد، ويوم دخنان: شديد الغم.
- باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ
وَالظُّلْمِ
/ 26 - فيه: أَبُو الأسْوَدِ، قُطِعَ عَلَى أَهْلِ
الْمَدِينَةِ بَعْثٌ، فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ، فَلَقِيتُ
عِكْرِمَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَهَانِى أَشَدَّ
النَّهْىِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ
أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ
الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَأْتِى
السَّهْمُ، فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ،
أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ) [النساء: 97] . قال المؤلف: ثبت عن
النبى أنه قال: من كان مع قوم راضيًا بحالهم فهو منهم
صالحين كانوا أو فاسقين، هم شركاء فى الأجر أو الوزر، ومما
يشبه معنى هذا الحديث فى مشاركة أهل الظلم فى الوزر قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (من آوى محدثًا فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين) .
(10/36)
وأما مشاركة مجالس الصالحين فى الأجر فما
فى الحديث: (إن لله ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل
الذكر، فإن وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى
حاجتكم. .) وذكر الحديث بطوله (قال: فيقول الله: اشهدوا
أنى قد غفرت لهم. فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس
منهم إنما جاء لحاجته. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم) .
فإن كان مجالس أهل الفسق كارهًا لهم ولعملهم، ولم يستطع
مفارقتهم خوفًا على نفسه أو لعذر منعه فترجى له النجاة من
إثم ذلك، يدل على ذلك قوله فى آخر الآية التى نزلت فيمن
كثر سواد المشركين) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاء) [النساء: 98] الآية وقد كره السلف
الكلام فى الفتنة، ذكر ابن جريج عن ابن عباس قال: إنما
الفتنة باللسان. وقال سفيان عن شريح: ما أخبرت ولا استخبرت
تسعة أعوام منذ كانت الفتنة، فقال له مسروق: لو كنت مثلك
لسرّنى أن أكون قد مُتّ. قال: شريح: فكيف بأكثر من ذلك مما
فى الصدور تلتقى الفئتان إحداهما أحب إلىّ من الأخرى. وقال
الحسن: السلامة من الفتنة: سلامة القلوب والأيدى والألسن.
وكان إبراهيم يستخبر ولا يخبر.
- باب إِذَا بَقِىَ فِى حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ
/ 27 - فيه: حُذَيْفَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ
أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا:
(أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ
الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ
عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا،
فقَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ
(10/37)
النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ
قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ،
ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى فِيهَا
أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ
عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ
فِيهِ شَىْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلا
يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِى
بَنِى فُلانٍ رَجُلا أَمِينًا) ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ:
مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ،
وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ
إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَىَّ زَمَانٌ وَلا أُبَالِى
أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ
عَلَىَّ الإسْلامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ
عَلَىَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ
أُبَايِعُ إِلا فُلانًا وَفُلانًا. قال المؤلف: هذا الحديث
من أعلام النبوة؛ لأن فيه الإخبار عن فساد أديان الناس
وقلة أمانتهم فى آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل
كونه إلا من طريق الوحى، وهذا كقوله: (بدأ الإسلام غريبًا
وسيعود غريبًا كما بدأ) وروى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد
الرحمن، عن عمر مولى المطلب، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن
أبيه، عن أبى هريرة قال: (قال رسول الله لعبد الله بن
عمرو: كيف بك يا عبد الله إذا بقيت فى حثالة من الناس، قد
مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين
أصابعه؟ قال: قلت: يا رسول الله، فما تأمرني؟ قال: عليك
بخاصتك، ودع عنك عوامهم) ومن هذا الحديث ترجم البخارى
ترجمة هذا الباب، والله أعلم، وأدخل معناه فى حديث حذيفة
ولم يذكر الحديث بنص الترجمة؛ لأنه من رواية العلاء بن عبد
الرحمن عن أبيه، عن أبى هريرة، ولم يخرج عن العلاء حديثًا
فى كتابه. والحثالة: سفلة الناس، وأصلها فى اللغة ما تساقط
من قشور التمر والشعير وغيرها وهى الحفالة والسخافة.
(10/38)
وقوله فى حديث حذيفة: (فى جذر قلوب الرجال)
قال الأصمعى وأبو عمرو، وغيرهما: الجذر: الأصل. قال
الأصمعى: بفتح الجيم، وقال أبو عمرو: بكسر الجيم. وقال
صاحب العين: الوكت: شبيه نكتة فى العين، وعين موكوتة،
والوكت: سواد اللّون. وقال أبو عبيد: الوكت: أثر الشىء
اليسير منه. وقال الأصمعى: يقال للبُسر إذا بدا فيه
الإرطاب: بُسر موكت. والمجل: أثر العمل باليد يعالج به
الإنسان الشىء حتى تغلظ جلودها، يقال منه: مَجِلت يده
ومَجَلت لغتان، وذكر الحربى عن ابن الأعرابى: المجَل:
النفط باليد ممتلئ ماءً، وقال أبو زيد: إذا كان بين الجلد
واللحم ماء قيل: مجلت يده تمجل، ونفطت تنفط نفطًا ونفيطًا.
والمنتبر: المتنفط. قال الطوسى: انتبر الجرح: إذا ورم،
ويقال: سمعت نبرات من كلامه أى: ارتفاعات من صوته. قال أبو
عبيد: وقوله: (ما أبالى أيكم بايعت) حمله كثير من الناس
على بيعة الخلافة، وهذا خطأ فى التأويل، وكيف يكون على
بيعة الخلافة وهو يقول: (لئن كان يهوديًا أو نصرانيًا ردّه
على ساعيه) فهو يبايع على الخلافة اليهودى والنصرانى؟ ومع
هذا إنه لم يكن يجوِّز أن يبايع كل أحد فيجعله خليفة، وهو
لا يرضى بأحد بعد عمر، فكيف يتأول هذا عليه مع مذهبه فيه؟
إنما أراد مبايعة البيع والشراء؛ لأنه ذكر الأمانة وأنها
قد ذهبت من الناس يقول: فليس أثق اليوم بأحد أئتمنه على
البيع والشراء إلا فلانًا وفلانًا لقلة الأمانة فى الناس.
(10/39)
وقوله: (ردّه علىّ ساعيه) يعنى: الوالى
الذى عليه، يقول: ينصفنى منه، وإن لم يكن له إسلام، وكل من
ولى على قوم فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال هذا فى ولاة
الصدقة قال الشاعر: سعى عقالا فلم يترك لنا سَبَدًا
- باب التَّعَرُّبِ فِى الْفِتْنَةِ
/ 28 - فيه: سَلَمَةَ ابْنِ الأكْوَعِ، أَنَّهُ دَخَلَ
عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الأكْوَعِ،
ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ، تَعَرَّبْتَ؟ قَالَ: لا،
وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَذِنَ
لِى فِى الْبَدْوِ. وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ خَرَجَ
سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ، وَتَزَوَّجَ
هُنَاكَ امْرَأَةً، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلادًا، فَلَمْ
يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ،
فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ. / 29 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ
خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ
الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ
مِنَ الْفِتَنِ) . التعرب: معناه أن يرجع أعرابيًا بعد
الهجرة، وكانوا يستعيذون بالله أن يعودوا كالأعراب بعد
هجرتهم؛ لأن الأعراب لم يتعبدوا بالهجرة التى يحرم بها على
المهاجر الرجوع إلى وطنه، كما فرض على أهل مكة البقاء مع
النبى (صلى الله عليه وسلم) ونصرته، ولذلك قال الحجاج: (يا
ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت؟) أى: رجعت عن الهجرة
التى فعلتها لوجه الله تعالى بخروجك من المدينة، فأخبره أن
رسول الله أذن له فى سكنى البادية، فلم يكن خروجه من
المدينة فرارًا منها ولا رجوعًا فى الهجرة، وهذا لا يحل
لأحدٍ فعله،
(10/40)
ولذلك دعا النبى (صلى الله عليه وسلم)
لأصحابه ألا يموتوا فى غير المدينة التى هاجروا إليها لله
تعالى، فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على
أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة. يرثى له رسول الله أن
مات بمكة) فتوجع رسول الله حين مات بمكة فى الأرض التى
هاجر منها. وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم
انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين. وقوله: (يوشك
أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع
القطر يفر بدينه من الفتن) من أعلام نبوته (صلى الله عليه
وسلم) لأنه أخبر عما يكون فى آخر الزمان. وفيه أن اعتزال
الناس عند الفتن والهرب عنهم أفضل من مخالطتهم وأسلم
للدين، وسأذكر تفسير شعف الجبال فى حديث أبى سعيد فى كتاب
الرقاق فى باب العزلة راحة من خلطاء السوء.
- باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ
/ 30 - فيه: أَنَس، سَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ
الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (لا تَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلا
بَيَّنْتُ لَكُمْ) ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا
وَشِمَالا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِى
ثَوْبِهِ يَبْكِى، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاحَى
يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا نَبِىَّ
اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ فَقَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ؟
ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ
رَبًّا، وَبِالإسْلامِ
(10/41)
دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه
وسلم) رَسُولا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ،
فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا رَأَيْتُ فِى
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ
صُوِّرَتْ لِىَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى
رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ. . .) الحديث. وَقَالَ
قَتَادَة يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ
الآيَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا
عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة
101] . وَقَالَ: كُلُّ رَجُلٍ لافًّا رَأْسَهُ فِى
ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَقَالَ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ
الْفِتَنِ، أَوْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَوْأَى
الْفِتَنِ. وقَالَ مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَس، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ) . قال
صاحب الأفعال: أحفى الرجل فى السؤال: ألح، وفى التنزيل)
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) [محمد: 37]
أى يلح عليكم فيما يوجبه فى أموالكم، ولما ألحوا على النبى
(صلى الله عليه وسلم) فى المسألة كره مسائلهم وعز على
المسلمين ما رأوا من الإلحاح على النبى (صلى الله عليه
وسلم) والتعنيت له، وتوقعوا عقوبة الله أن تحل بهم؛ ولذلك
بكوا، فمثل الله له الجنة والنار، وأراه كل ما يسأل عنه فى
ذلك الوقت، فقال: (لا تسألونى عن شى إلا بينت لكم) وقال
للرجل: (أبوك حذافة) وروى أنّ أم ابن حذافة قالت له: (يا
بنى ما رأيت ابنًا أعق منك أن تكون أمك قد قارفت بعض ما
تقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فقال ابنها:
(والله لو ألحقنى بعبدٍ أسودٍ للحقت به) .
(10/42)
وفي هذا الحديث فضل عمر بن الخطاب وفهمه،
ومكانه من الحماية عن الدين والذّب عن رسول الله إذ قال:
(رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا ومحمد نبيًا) ومنع
تعنيته والإلحاح عليه؛ لأن الله تعالى قد أمر بتعزيزه
وتوقيره وألا يرفع الصوت فوق صوته، واستعاذ بالله من شر
الفتن، وكذلك استعاذ النبى بالله من شر الفتن، واستعاذ من
فتنة المحيا والممات، وإن كان قد أعاذه الله تعالى من كل
فتنة، وعصمه من شرها ليسن ذلك لأمته، فتستعيذ مما أستعاذ
منه نبينا (صلى الله عليه وسلم) وهذا خلاف ما يروى عن بعض
من قصر علمه أنه قال: اسألوا الله الفتنة فإنها حصاد
المنافقين، وزعم أن ذلك مروى عن رسول الله، وهو حديث لا
يثبت، والصحيح خلافه من رواية أنس وغيره عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) .
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْفِتْنَةُ
مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ
/ 31 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) ، قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ:
(الْفِتْنَةُ هَاهُنَا، الْفِتْنَةُ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ
يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، أَوْ قَالَ: قَرْنُ
الشَّمْسِ) . / 32 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ مرةً: (أَنَّهُ
سَمِعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ
مُسْتَقْبِلٌ، الْمَشْرِقَ يَقُولُ: (أَلا إِنَّ
الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ) . / 33 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ بَارِكْ
لَنَا فِى شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى
يَمَنِنَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِى
نَجْدِنَا، فَأَظُنُّهُ قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: (هُنَاكَ
الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ) . / 34 - وقيل لابْن عُمَرَ: حَدِّثْنَا
عَنِ الْقِتَالِ فِى الْفِتْنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ:
(10/43)
) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ) [البقرة: 193] ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِى مَا
الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ
(صلى الله عليه وسلم) يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ
الدُّخُولُ فِى دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ
كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ. قال المؤلف: قال الخطابى:
القرن فى الحيوان يضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور،
كقوله (صلى الله عليه وسلم) فى الفتنة وطلوعها من ناحية
المشرق: (ومنه يطلع قرن الشيطان) وقال فى الشمس أنها تطلع
بين قرنى الشيطان، والقرن: الأمة من الناس يُحدثون بعد
فناء آخرين، قال الشاعر: إذا ما مضى القرن الذى أنت منهم
وخلفت فى قرن فأنت غريب وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ
أهل كفر فأخبره (صلى الله عليه وسلم) أن الفتنة تكون من
تلك الناحية، وكذلك كانت الفتنة الكبرى التى كانت مفتاح
فساد ذات البين وهى مقتل عثمان، رضى الله عنه، وكانت سبب
وقعة الجمل وصفين، ثم ظهور الخوارج فى أرض نجد والعراق وما
وراءها من المشرق، ومعلوم أن البدع إنما ابتدأت من المشرق،
وإن كان الذين اقتتلوا بالجمل وصفين بينهم كثير من أهل
الشام والحجاز فإن الفتنة وقعت فى ناحية المشرق، وكان ذلك
سببًا إلى افتراق كلمة المسلمين وفساد نيات كثير منهم إلى
يوم القيامة، وكان رسول الله يحذر من ذلك ويعلمه قبل
وقوعه، وذلك دليل على نبوّته.
(10/44)
- باب الْفِتْنَةِ الَّتِى تَمُوجُ
كَمَوْجِ الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ:
كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ
الأبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً حَتَّى إِذَا
اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا شَمْطَاءَ يُنْكَرُ
لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ
جَهُولِ وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ / 35 - فيه:
حُذَيْفَةَ، قَالَ عُمر: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رسُول
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فِى الْفِتْنَةِ؟ قَالَ:
فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ
وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ:
لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَلَكِنِ الَّتِى تَمُوجُ
كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا
بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ
وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ
الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ
عُمَرُ: إِذًا لا يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْتُ: أَجَلْ،
قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ،
قَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً،
وَذَلِكَ أَنِّى حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ
بِالأغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ،
فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَنِ
الْبَابُ؟ فقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ. / 36 - وفيه: أَبُو
مُوسَى، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى
حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ
وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ،
جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ، وَقُلْتُ: لأكُونَنَّ الْيَوْمَ
بَوَّابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَمْ
يَأْمُرْنِى، فَذَهَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ،
فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ،
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ،
فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ،
فَوَقَفَ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
(10/45)
أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ؟
قَالَ: (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) ،
فَدَخَلَ، فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبيىِّ (صلى الله عليه
وسلم) فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ،
فَجَاءَ عُمَرُ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى
أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) ،
فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)
فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ،
فَامْتَلأ الْقُفُّ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ، ثُمَّ
جَاءَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى
أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، مَعَهَا
بَلاءٌ يُصِيبُهُ) ، فَدَخَلَ، فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ
مَجْلِسًا، فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى
شَفَةِ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ
دَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِى
وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِىَ. قَالَ ابْنُ
الْمُسَيَّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ
اجْتَمَعَتْ هَاهُنَا، وَانْفَرَدَ قبر عُثْمَانُ. / 37 -
وفيه: أَبُو وَائِل، قِيلَ لأسَامَةَ: أَلا تُكَلِّمُ
هَذَا؟ قَالَ: قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا لم أَفْتَحَ بَابًا
أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ، وَمَا أَنَا بِالَّذِى
أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى
رَجُلَيْنِ: أَنْتَ خَيْرٌ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يُجَاءُ
بِرَجُلٍ، فَيُطْرَحُ فِى النَّارِ، فَيَطْحَنُ فِيهَا
كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ
النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَىْ فُلانُ أَلَسْتَ كُنْتَ
تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟
فَيَقُولُ: إِنِّى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا
أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ) . /
38 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِى
اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا
ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا
أَمْرَهُمُ امْرَأَةً) . / 39 - وفيه: أَبُو مَرْيَم،
لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى
الْبَصْرَةِ بَعَثَ
(10/46)
عَليٌّ إلى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ
بْنَ عَلِىٍّ، فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ، فَصَعِدَا
الْمِنْبَرَ، فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ فَوْقَ
الْمِنْبَرِ فِى أَعْلاهُ، وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنَ
الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ
عَمَّارًا، يَقُولُ: إِنَّ عَائِشَةَ، قَدْ سَارَتْ إِلَى
الْبَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ
(صلى الله عليه وسلم) فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،
وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاكُمْ؛
لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِىَ. وَقَالَ مرةً:
وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ، يعنى عائشة. / 40 -
وفيه: أَبُو وَائِلٍ، دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو
مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِىٌّ إِلَى
أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ، فَقَالا: مَا
رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ
إِسْرَاعِكَ فِى هَذَا الأمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ
عَمَّارٌ: مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا
أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِى مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا
الأمْرِ، وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً، ثُمَّ رَاحُوا
إِلَى الْمَسْجِدِ. / 41 - وروى أيضًا قَالَ أَبُو
مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا: يَا غُلامُ، هَاتِ
حُلَّتَيْنِ، فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى
وَالأخْرَى عَمَّارًا، وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى
الْجُمُعَةِ. قال المؤلف: حديث حذيفة وأبى موسى من أعلام
النبوة؛ لأن فيهما الإخبار عما يكون من الفتن والغيب، وذلك
لا يعلم إلا بوحى من الله. وقال الخطابى: إنما كان يسأل
حذيفة عن الشر ليعرف موضعه فيتوقاه، وذلك أن الجاهل بالشر
أسرع إليه وأشد وقوعًا فيه وروى عن بعض السلف أنه قيل له:
إن فلانًا لا يعرف الشر. قال: ذاك أجدر أن يقع فيه، ولهذا
صار عامّة ما يروى من أحاديث الفتن وأكثر ما يذكر من أحوال
المنافقين ونعوتهم منسوبة إليه ومأخوذة عنه. وقال غيره:
وإنما تنكب حذيفة حين سأله عمر عن الفتنة
(10/47)
فجاوبه عن فتنة الرجل فى أهله وماله وولده
وجاره ولم يجاوبه عن الفتنة الكبرى التى تموج كموج البحر
لئلا يغمه ويشغل باله، ألا ترى قوله لعمر: (ليس عليك منها
بأس يا أمير المؤمنين فإن بينك وبينها بابًا مغلقًا) ولم
يقل له أنت الباب، وهو يعلم أن الباب عمر، فإنما أراد
حذيفة ألا يواجهه بما يشق عليه ويهمه، وعرض له بما فهم عنه
عمر أنه هو الباب ولم يصرح له بذلك، وهذا من حسن أدب
حذيفة، رضى الله عنه. قال المهلب: فإن قال قائل: فمن أين
علم عمر أن الباب إذا كسر لم يغلق أبدًا. فالجواب: أنه
استدل عمر على ذلك؛ لأن الكسر لا يكون إلا غلبةً، والغلبة
لا تكون إلا فى الفتنة، وقد علم عمر وغيره من النبى (صلى
الله عليه وسلم) أنه سأل ربه ألا يجعل بأس أمته بينهم
فمنعها، فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة، وروى معمر، عن
أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى الأشعث الصنعانى، عن أبى أسماء
الرحبى، عن شداد بن أوس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
قال: (إذا وضع السيف فى أمتى لم يرفع عنهم إلى يوم
القيامة) وفيه أن الصحابة كان يأخذ بعضهم العلم عن بعض،
ويصدق بعضهم بعضًا، وكلهم عدول رِضىً، وهم خير أمةٍ أخرجت
للناس. وفى حديث أبى موسى البُشرى بالجنة لأبى بكر وعمر
وعثمان، إلا أنه قال فى عثمان (مع بلاءٍ يصيبه) وكان ذلك
البلاء أنه قتل مظلومًا شهيدًا. فإن قيل: فكيف خص عثمان
بذكر البلاء؛ وقد أصاب عمر مثله؛ لأنه طعنه أبو لؤلؤة فمات
من طعنته شهيدًا كما مات عثمان شهيدًا؟ . فالجواب: أن عمر
وإن كان مات من الطعنة شهيدًا،
(10/48)
فإنه لم يمتحن بمثل محنة عثمان من تسلط
طائفة باغية متغلبة عليه، ومطالبتهم له أن ينخلع من
الإمامة، وهجومهم عليه فى داره، وهتكهم ستره، ونسبتهم إليه
الجور والظلم وهو برئ عند الله من كل سوء، بعد أن منع
الماء مع أشياء كثيرة يطول إحصاؤها، وعمر لم يلق مثل هذا،
ولا تسوّر عليه أحد داره، ولا هتك ستره، ولا قتله من شهد
شهادة التوحيد فيحاجه بها عند الله يوم القيامة؛ ولذلك حمد
الله عمر على ذلك، فكان الذى أصاب عثمان من البلاء غير
قتله بلاء شديدًا لم يصب عمر مثله. قال المهلب: وأما قول
أبى وائل: (قيل لأسامة: ألا تكلم هذا الرجل) يعنى عثمان بن
عفان ليكلمه فى شأن الوليد؛ لأنه ظهر عليه ريح نبيذ وشهر
أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان عثمان يستعمله على
الأعمال، فقيل لأسامة: ألا تكلمه فى أمره؛ لأنه كان من
خاصة عثمان، وممن يخف عليه، فقال: قد كلمته فيما بينى
وبينه، وما دون أن أفتح بابًا أكون أوّل من يفتحه، يريد لا
أكون أوّل من يفتح باب الإنكار على الأئمة علانيةً فيكون
بابًا من القيام على أئمّة المسلمين فتفترق الكلمة وتتشتت
الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفرق الكلمة بمواجهة عثمان
بالنكير، ثم عرفهم أنه لا يداهن أميرًا أبدًا بل ينصح له
فى السر جهده بعدما سمع النبى يقول فى الرجل الذى كان فى
النار كالحمار يدور برحاه، من أجل أنه كان يأمر بالمعروف
ولا يفعله وينهى عن الشر ويفعله يعرفهم أن هذا الحديث جعله
ألا يداهن أحدًا، يتبرأ إليهم مما ظنوا به من سكوته عن
عثمان في أخيه.
(10/49)
فإن قال قائل: فإن الإنكار على الأمراء فى
العلانية من السنة لما روى سفيان عن علقمة بن مرثد، عن
طارق بن شهاب: (أن رجلاً سأل النبى (صلى الله عليه وسلم)
أى الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر) . قال
الطبرى: قد اختلف السلف قبلنا فى تأويل هذا الحديث فقال
بعضهم: إنما عنى النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (كلمة
حق عند سلطان جائر) إذا أمن على نفسه القتل أو أن يلحقه من
البلاء ما لا قبل له به، هذا مذهب أسامة بن زيد، وروى ذلك
عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة، وروى عن مطرف بن الشخير
أنه قال: والله لو لم يكن لى دين حتى أقوم إلى رجل معه ألف
سيف فأنبذ إليه كلمة فيقتلنى إن دينى إذًا لضيق. وقال
آخرون: الواجبُ على من رأى
(10/50)
منكرًا من ذى سلطان أن ينكره علانيةً وكيف
أمكنه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وأبىّ بن كعب، واحتجوا
بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من رأى منكم منكرًا فليغيره
بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك
أضعف الإيمان) وبقوله: (إذا هابت أمتى أن تقول للظالم: يا
ظالم، فقد تودع منهم) . وقال آخرون: من رأى من سلطانه
منكرًا فالواجب عليه أن ينكره بقلبه دون لسانه، واحتجوا
بحديث أم سلمة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:
(يستعمل عليكم أمراء بعدى، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد
برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضى وتابع، قالوا: يا رسول
الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) . قال الطبرى:
والصّواب: أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم
يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله (صلى
الله عليه وسلم) : (لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا:
وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق) . فإن
قال قائل فى حديث أسامة: فكيف صار الذين كان يأمرهم
بالمعروف وينهاهم عن المنكر معه فى النار وهو لهم بالمعروف
آمر، وعن المنكر ناهٍ؟ قيل: لم يكونوا أهل طاعة، وإنما
كانوا أهل معصية. وأما حديث أبى بكرة فإن فى ظاهره توهية
لرأى عائشة فى الخروج. قال المهلب: وليس كذلك لأن المعروف
من مذهب أبى بكرة أنه كان على رأى عائشة وعلى الخروج معها،
ولم يكن خروجها على نيّة القتال، وإنما قيل لها: اخرجى
لتصلحى بين الناس فإنك أمهم ولم يعقوك بقتال. فخرجت لذلك،
وكان نية بعض أصحابها إن ثبت لهم البغى أن يقاتلوا التى
تبغى، وكان منهم أبو بكرة ولم يرجع عن هذا الرأى أصلا
وإنما تشاءم بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى تمليك
فارس امرأة أنهم يغلبون، لأن الفلاح فى اللغة البقاء؛ لا
أن أبا بكرة وهّن رأى عائشة، ولا فى الإسلام أحد يقوله إلا
الشيعة، فلم يرد أبو بكرة بكلامه إلا أنهم يغلبون إن
قوتلوا، وليس الغلبة بدلالة على أنهم على باطل؛ لأن أهل
الحق قد يُغلبون، وتكون لهم العاقبة كما وعد الله المتقين،
وذلك عيان فى أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين
وأحد، وجعل الله لهم العاقبة، كما جعلها لمن غضب لعثمان
وأنف من قتله وطلب دمه، وليس فى الإسلام أحد يقول: إن
عائشة دعت إلى أمير معها، ولا عارضت عليًا فى الخلافة، ولا
نازعته لأخذ الإمارة، وإنما أنكرت عليه منعه من قتلة
عثمان، وتركهم دون أن يأخذ منهم حدود الله ودون أن يقتصّ
لعثمان منهم، لا غير ذلك، فهم الذين خشوها وخشوا على
أنفسهم فورّشوا ودسوا فى جمع عائشة من
(10/51)
يقول لهم: إن عليا يقاتلكم فخذوا حذركم
وشكوا سلاحكم وعبئوا حربكم، وقالوا لعلى: إنهم يريدون أن
يخلعوك ويقاتلوك على الإمارة، ثم استشهدوا بما يرونه من
أخذ أصحاب الجمل بالحزم وتعبئتهم الصفوف وحمل السلاح ثم
يقولون له: هل يفعلون ذلك إلا لقتالك حتى حرّكوه، وكانوا
أول من رمى فيهم بالسّهام وضربوا بالسيوف والرماح حتى
اشتبك القتال ووقع ما راموه، وكان فى ذلك خلاصهم مما خشوه
من اجتماع الفريقين على الاستقادة لعثمان منهم، هذا أحسن
ما قيل فى ذلك. وأما حديث أبى موسى وأبى مسعود حين دخلا
على عمار، فإن عمارًا بعثه على إلى الكوفة ليستنفرهم، فجرى
بينهم ما جرى من تقبيح رأى عمار وإسراعه فى الفتنة بالخروج
وكشف الوجه وقد علم نهى النبى عن حمل السلاح على المسلمين،
ثم توبيخ عمار لأبى موسى وأبى مسعود على قعودهما عن ذلك،
وكل فريق منهم مجتهد له وجه فى الصّواب، وكان اجتماعهم عند
أبى مسعود بعد أن خطب عمار الناس على المنبر بالنفير، وكان
أبو مسعود كثير المال جوادًا وكان ذلك يوم جمعة فكساهما
حلتين ليشهدا بها الجمعة؛ لأن عمارًا كان فى ثياب السفر
وهيئة الحرب فكره أن يشهد الجمعة فى تلك الثياب، وكره أن
يكسوه بحضرة أبى موسى ولا يكسو أبا موسى؛ لأنه كان كريمًا.
والقف: ما ارتفع عن الأرض، عن صاحب العين.
(10/52)
- باب إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ
عَذَابًا
/ 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا
أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا
عَلَى أَعْمَالِهِمْ) . قال المؤلف: هذا الحديث يبين حديث
زينب بنت جحش أنها قالت: (يا رسول الله، أنهلك وفينا
الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) فيكون إهلاك جميع
الناس عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصى، ودلّ قوله: (ثم
بعثوا على أعمالهم) أن ذلك الهلاك العام يكون طهرةً
للمؤمنين ونقمةً للفاسقين وقد تقدّم هذا فى أول كتاب
الفتن.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لِلْحَسَنِ
بْنِ عَلِىٍّ: (إِنَّ ابْنِى هَذَا لَسَيِّدٌ، وَلَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ
/ 43 - فيه: إِسْرَائِيلُ، أنَّهُ جَاءَ إِلَى ابْنِ
شُبْرُمَةَ، فَقَالَ: أَدْخِلْنِى عَلَى عِيسَى أَعِظَهُ،
فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ، فَلَمْ
يَفْعَلْ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: لَمَّا
سَارَ الْحَسَنُ ابْنُ عَلِىٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ
بِالْكَتَائِبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَةً لا تُوَلِّى حَتَّى
تُدْبِرَ أُخْرَاهَا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ
لِذَرَارِىِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ
عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ
سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ، فَنَقُولُ لَهُ: الصُّلْحَ، قَالَ
الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، قَالَ:
بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ، جَاءَ
الْحَسَنُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إن
ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ
بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) . / 44 -
وفيه: حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ، قَالَ: أَرْسَلَنِى
أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ بْن أَبِي
(10/53)
طالب، وَقَالَ: إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ
الآنَ، فَيَقُولُ: مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ؟ فَقُلْ لَهُ:
يَقُولُ لَكَ: لَوْ كُنْتَ فِى شِدْقِ الأسَدِ لأحْبَبْتُ
أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ
أَرَهُ، فَلَمْ يُعْطِنِى شَيْئًا، فَذَهَبْتُ إِلَى
حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ، فَأَوْقَرُوا لِي
رَاحِلَتِي. قال المؤلف: فيه فضل السعى بين المسلمين فى
حسم الفتن والإصلاح بينهم وأن ذلك مما تستحق به السيادة
والشرف، وقول معاوية: (من لذرارى) يدل على أنه كره الحرب
وخشى سوء عاقبة الفتنة؛ ولذلك بعث عبد الله بن عامر وعبد
الرحمن بن سمرة إلى الحسن ابن على يسأله الصلح، فأجاب
الحسن بن على رغبةً فيه وحقنًا لدماء المسلمين وحرصًا على
رفع الفتنة، وقد تقدم فى الصلح. وأما قول إسرائيل لابن
شبرمة أدخلنى على عيسى أعظه يعنى: عيسى بن موسى، فخاف عليه
ابن شبرمة من ذلك، فدل أن مذهب ابن شبرمة أن من خاف على
نفسه لا يلزمه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأما حديث
أسامة فإنه أرسل مولاه إلى على بن أبى طالب يعرفه أنه من
أحبّ الناس إليه وأنه يحب مشاركته فى السراء والضراء،
ويعتذر إليه من تخلفه عن الحرب معه، وأنه لا يرى ذلك لما
روى عنه: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى
الحرقة أدرك رجلا بالسيف فقال له الرجل: لا إله إلا الله،
فقتله فأخبر النبى بذلك، فقال له: يا أسامة قتلته بعدما
قال: لا إله إلا الله. فقال: يا رسول الله إنما قالها
تعوّذًا.
(10/54)
فقال رسول الله: أقتلته بعدما قال: لا إله
إلا الله؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل
ذلك اليوم) فآلى أسامة على نفسه أن لا يقاتل مسلمًا أبدًا،
فلذلك قعد عن علىّ، رضى الله عنه، فى الجمل وصفين.
- باب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ
فَقَالَ بِخِلافِهِ
/ 45 - فيه: نَافِع، لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ
وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى
الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا
هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،
وَإِنِّى لا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ
يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ
يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ: وَإِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا
مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلا بَايَعَ فِى هَذَا الأمْرِ إِلا
كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ. / 46 - وفيه:
أَبُو الْمِنْهَالِ، لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ
وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ، وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ،
فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِى إِلَى أَبِى بَرْزَةَ
الأسْلَمِىِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِى دَارِهِ
وَهُوَ جَالِسٌ فِى ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ،
فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ أَبِى يَسْتَطْعِمُهُ
الْحَدِيثَ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَرْزَةَ، أَلا تَرَى مَا
وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ؟ فَأَوَّلُ شَىْءٍ سَمِعْتُهُ
تَكَلَّمَ بِهِ: إِنِّى احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّى
أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ
يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِى
عَلِمْتُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلالَةِ،
وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ
(صلى الله عليه وسلم) حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ،
وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِى أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ، إِنَّ
ذَلكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ، وَاللَّهِ إِنْ
(10/55)
يُقَاتِلُ إِلا عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ
ذَلكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلا
عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ، وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلا عَلَى
الدُّنْيَا. / 47 - وفيه: حُذَيْفَة، قَالَ: إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا يَوْمَئِذٍ
يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ. / 48 - وَقَالَ مرةً:
إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى
الله عليه وسلم) ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ
الْكُفْرُ بَعْدَ الإيمَانِ. قال المؤلف: معنى الترجمة
إنما هو فى خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعهم عن
بيعته وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا
بحضرته، وذلك أن ابن عمر بايع يزيد ابن معاوية فقال عنده
بالطاعة لخلافته، ثم خشى على بنيه وحشمه النكث مع أهل
المدينة حين نكثوا بيعة يزيد، فجمعهم ووعظهم وأخبرهم أن
النكث أعظم الغدر. وأما قول أبى برزة: (إنى أحتسبُ عند
الله أنى أصبحت ساخطًا على أحياء قريش) فوجه موافقته
الترجمة أن هذا قول لم يقله عند مروان حين بايعه بل بايع
واتبع، ثم سخط ذلك لما بعد عنه، وكأنه أراد منه أن يترك ما
نوزع فيه للآخرة ولا يقاتل عليه كما فعل عثمان فلم يقاتل
من نازعه، بل ترك ذلك لمن قاتله عليه، وكما فعل الحسن بن
على حين ترك القتال لمعاوية حين نازعه أمر الخلافة فسخط
أبو برزة من مروان تمسكه بالخلافة والقتال عليها، فقد تبين
أن قوله لأبى المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع
له، وأما يمينه أن الذى بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا،
فوجهه أنه كان يريد أن يأخذ بسيرة عثمان والحسن رضى الله
عنهما، وأمّا يمينه على الذى بمكة، يعنى ابن الزبير، فإنه
لما وثب بمكة بعد أن دخل فيما دخل فيه
(10/56)
المسلمون جعله نكثًا منه وحرصًا على
الدنيا، وهو فى هذه أقوى رأيًا منه فى الأولى، وكذلك
القراء بالبصرة؛ لأنه كان رحمه الله لا يرى الفتنة فى
الإسلام أصلا، فكان يرى أن يترك صاحب الحق حقه لمن نازعه
فيه لأنه مأجور فى ذلك، وممدوح بالإيثار على نفسه، وكان
يريد من المقاتل له أن يقتحم النار فى قيامه وتفريقه
الجماعة وتشتيته الكلمة، ولا يكون سببًا لسفك الدماء
واستباحة الحرم أخذًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا
التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) فلم
ير القتال البتة. وأما حديث حذيفة وقوله: (إن المنافقين
اليوم شر منهم على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم)) لأنهم
كانوا يسرون قولهم فلا يتعدّى شرهم إلى غيرهم، وأما اليوم
فإنهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج على الجماعة ويورثون
بينهم ويحزبونهم أحزابًا، فهم اليوم شر منهم حين لا يضرون
بما يسرونه. ووجه موافقته للترجمة أن المنافقين بالجهر
وإشهار السلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه حين
دخلوا فى بيعة من بايعوه من الأئمة؛ لأنه لا يجوز أن يتخلف
عن بيعة من بايعه الجماعة ساعة من الدهر؛ لأنها ساعة
جاهليّة، ولا جاهليّة فى الإسلام، وقد قال تعالى:
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ
تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103] فالتفرق محرّم فى الإسلام
وهو الخروج عن طاعة الأئمة. وأما قول أبى برزة واحتسابه
سخطه على أحياء قريش عند الله، فكأنه قال: اللهم إنى لا
أرضى ما تصنع قريش من التقاتل على الخلافة، فاعلم ذلك من
نيتى، وأنى أسخط فعلهم واستباحتهم للدماء
(10/57)
والأموال، فأراد أن يحتسب مما يكرهه من
إنكار القتال فى الإسلام عند الله أجرًا وذخرًا، فإنه لم
يقدر من التغيير عليهم إلا بالقول والنية التى بها يأجرُ
الله عباده.
- باب لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُغْبَطَ أَهْلُ
الْقُبُورِ
/ 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ
الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِى
مَكَانَهُ) . قال المؤلف: تغبيط أهل القبور وتمنى الموت
عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله
وظهور المعاصى والمنكر. وروى ابن المبارك عن سعيد بن عبد
العزيز، عن ابن عبد ربه أن أبا الدرداء كان إذا جاءه موت
الرجل على الحال الصالحة قال: هنيئًا له ليتنى بدله، فقالت
له أم الدرداء: لم تقول هذا؟ فقال: إن الرجل ليصبح مؤمنًا
ويمسى كافرًا، قالت: وكيف؟ قال: يسلب إيمانه وهو لا يشعر،
فلأنا أغبط لهذا بالموت أغبط من هذا فى الصوم والصلاة. وقد
روى عن النعمان بن بشير، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) :
(إن بين يدى الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل
فيها مؤمنًا ويمسى كافرًا، ويمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا،
يبيع فيها أقوام دينهم بعرض من الدنيا يسير) . ومن حديث
الحسن عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (بين يدى الساعة
فتن يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه) . وعن ابن مسعود
قال: سيأتى عليكم زمان لو وجد فيه أحدكم
(10/58)
الموت يباع لاشتراه، وسيأتى عليكم زمان
يغبط فيه الرجل بخفة الحاذ كما يغبط فيه بكثرة المال
والولد. وأما من لم يخف فساد دينه وذهاب إيمانه فلا يتمنى
الموت ذلك الزمان لمشابهته بأهله وحرصه فيما دخلوا فيه، بل
ذلك وقت يسود فيه أهل الباطل، ويعلو فيه سفلة الناس
ورذالتهم ويسعد بالدنيا لكع بن لكع.
- باب تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الأوْثَانُ
/ 50 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِى
الْخَلَصَةِ) ، وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ
الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ. / 51 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّاتم:
(لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ
قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ) . قال المؤلف: ذكر
مسلم فى كتابه ما يبين حديث أبى هريرة قال: حدثنا أبو كامل
الجحدرى قال: حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبد الحميد بن
جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبى سلمة، عن عائشة قالت:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا يذهب الليل
والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله إن كنت
لأظن حين أنزل الله: (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى (إلى) الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33] أن ذلك تام
قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء
(10/59)
الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبةً فيتوفى كل
من فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير
فيه فيرجعون إلى دين آبائهم) . قال المؤلف: هذه الأحاديث
وما جانسها معناها الخصوص، وليس المراد بها أن الدين ينقطع
كله فى جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شىء؛ لأنه قد ثبت
عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الإسلام يبقى إلى قيام
الساعة إلا أنه يضعف ويعود غريبًا كما بدأ، وروى حماد بن
سلمة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال: قال النبى
(صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون
على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) وكان مطرف
يقول: هم أهل الشام، فبين (صلى الله عليه وسلم) فى هذا
الخبر خصوصه سائر الأخبار التى خرجت مخرج العموم، وصفة
الطائفة التى على الحق مقيمة إلى قيام الساعة أنها بيت
المقدس دون سائر البقاع، فبهذا تأتلف الأخبار ولا تتعارض،
وقد تقدم فى كتاب العلم فى باب من يرد الله به خيرًا يفقهه
فى الدين. فإن قال قائل: فما وجه ذكر حديث القحطانى الذى
يسوق الناس بعصاه فى هذا الباب؟ قال المهلب: وجه ذلك أنه
إذا قام رجل من قحطان ليس من فخذ النبوة ولا من رهط الشرف
الذين جعل الله فيهم الخلافة فذلك من أكبر تغير الزمان
وتبديل أحكام الإسلام أن يدعى الخلافة، وأن يطاع فى الدين
من ليس أهل ذلك.
(10/60)
- باب خُرُوجِ النَّارِ
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ
مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ) . / 52 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ
الْحِجَازِ تُضِىءُ أَعْنَاقَ الإبِلِ بِبُصْرَى) . / 53 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ
مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ
شَيْئًا) . وَقَالَ مرة: (جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ) . / 54 -
وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ
يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَلا يَجِدُ مَنْ
يَقْبَلُهَا) . / 55 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ
يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا
وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ
قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ
رَسُولُ اللَّهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ
الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ
الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ،
وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى
يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ،
وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِى
يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِى بِهِ، وَحَتَّى
يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِى الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ
الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِى
مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا،
فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ، يَعْنِى آمَنُوا،
أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ) لا يَنْفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام: 185] ،
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ
ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلا
يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ
انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلا يَطْعَمُهُ،
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلا
يَسْقِى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ
أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلا يَطْعَمُهَا) .
(10/61)
قال المؤلف: ترجم البخارى فى باب خروج
النار ولم يسنده فى هذه المواضع اكتفاء بما تقدم من إسناده
فى كتاب الأنبياء، رواه عن ابن سلام، عن الفزارى، عن حميد،
عن أنس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وروى حسين
المروزى، عن عبد الوهاب حدثنا عبيد بن عمر، عن نافع، عن
عبد الله بن عمر، عن كعب قال: (تخرج نار من قبل اليمن تحشر
الناس تغدو معهم إذا غدوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتروح
معهم إذا راحوا، فإذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام) . وكل
ما ذكرناه فى هذا الحديث من الأشراط فهى علامات لقيام
الساعة كخروج النار ومعناها واحد، وقد جاء فى حديث أن
النار آخر أشراط الساعة، رواه ابن عيينة، عن فرات القزاز،
عن أبى الطفيل، عن أبى سريحة حذيفة بن أسيد قال: (أشرف
علينا النبى (صلى الله عليه وسلم) من غرفة فقال: ما
تذكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى يكون
قبلها عشر آيات: الدجال والدخان، والدابة وطلوع الشمس من
مغربها، ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم، وثلاثة خسوف:
خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار
تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) . وذكر ابن أبى
شيبة، حدثنا محمد بن بشر، عن أبى حيان، عن أبى زرعة، عن
عبد الله ابن عمرو، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن
أول الآيات
(10/62)
خروجًا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة
على الناس ضُحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على
إثرها قريبًا منها. وحديث أنس أصح من هذه الأحاديث، وقد
روى حماد بن سلمة عن أبى المهزم يزيد ابن سفيان، عن أبى
هريرة قال: (خروج الآيات كلها فى ثمانية أشهر) أبو المهزم
ضعيف، وقال أبو العالية: الآيات كلها فى ستة أشهر. وقوله:
(تضئ أعناق الإبل ببصرى) فالعرب تقول: أضاءت النار وأضاءت
النار غيرها.
- باب ذِكْرِ الدَّجَّالِ
/ 56 - فيه: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: (مَا سَأَلَ أحدٌ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الدَّجَّالِ
أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِى: (مَا
يَضُرُّكَ مِنْهُ) ؟ قُلْتُ: لأنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ
مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، وَنَهَرَ مَاءٍ، قَالَ: (هُوَ
أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) . / 57 - وفيه: ابْن
عُمَرَ، قَالَ: (أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا
عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) . / 58 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَجِىءُ الدَّجَّالُ
حَتَّى يَنْزِلَ فِى نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، فتَرْجُفُ
الْمَدِينَةُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ
كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) . / 59 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ
الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ، وَلَهَا يَوْمَئِذٍ
سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) . / 60
- وفيه: ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) فِى النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ
(10/63)
بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ
الدَّجَّالَ، فَقَالَ: (إِنِّى لأنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا
مِنْ نَبِىٍّ إِلا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّى
سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلا لَمْ يَقُلْهُ نَبِىٌّ
لِقَوْمِهِ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِأَعْوَرَ) . / 61 - وزاد ابْن عَبَّاس، وَأَنَس، وأَبُو
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) :
(بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ) . / 62 - وفيه:
ابْن عُمَرَ، أَنَّ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا
رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يَنْطُفُ، أَوْ يُهَرَاقُ
رَأْسُهُ مَاءً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ
مَرْيَمَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ
جَسِيمٌ أَحْمَرُ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ
كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قَالُوا: هَذَا
الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ
قَطَنٍ، رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ) . / 63 - وفيه: عَائِشَةَ،
سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَعِيذُ فِى
صَلاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. / 64 - وفيه:
حُذَيْفَة، وَأَبُو مَسْعُودٍ، أن النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (الدَّجَّالِ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا،
فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ) . إن قال قائل:
ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ترجف المدينة ثلاث
رجفات) وقد قال فى حديث أبى بكرة: (إنه لا يدخل المدينة
رعب المسيح) ؟ قال المهلب: فالجواب: أن رجفات المدينة ليست
من رعبه ولا من خوفه، وإنما ترجف المدينة لمن يتشوف إلى
الدجال من المنافقين فيخرجهم أهل المدينة كما قال (صلى
الله عليه وسلم) : (إنها تنفى خبثها) . والدليل على أن
المؤمنين فيها لا يرعبون من الدجال؛ أنه يخرج إليه
(10/64)
منهم رجل يناظره وهو الذى يقول له الدجال:
أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون فى الأمر؟ فيقولون:
لا. يعنى فيقول المنافقون الذين معه غير ذلك الرجل الصالح
فيقتله ثم يحييه، فيقول ذلك الرجل: والله ما كنت قط أشد
بصيرة منى اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه،
فهل يدخل رعبه المدينة وأحدهم يناظره ويقارعه ويجهر له
بأنه الدجال، ولا يوهن قلبه ما يراه من قدرة الله الذى
أقدره على أن يقتل رجلا ثم يحييه ولا يخافه على مهجته وهو
وحده لا يمتنع منه بعدد ولا عدة ولا جماعة. فإن قال قائل:
فإذا سلط الدجال على قتل رجل وإحيائه فهذا أن الله قد يعطى
آيات الأنبياء وقلب الأعيان أهل الكذب على الله وأشد
أعدائه فرية عليه. قال الطبرى: فنقول: إنه لا يجوز أن تعطى
أعلام الرسل أهل الكذب والإفك فى الحال التى لا سبيل لمن
عاين ما أتى به الفريقان إلى الفصل بين المحق منهم
والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى علم الصادق
ممن ظهر ذلك على يده من الكاذب، فلا ينكر إعطاه الله ذلك
الكذابين لعلة من العلل كالذى أعطى الدجال من ذلك فتنة لمن
شاهده، ومحنة لمن عاينه ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم
الكاذبين. فإن قيل: وما السبب الذى يصيب به من عاين ما
يظهر من ذلك على يد الدجال أنه مبطل؟ قيل: أبين الأسباب فى
ذلك أنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأليفه
(10/65)
عليه بكذبه شاهد، وأن تأثير الصنعة فيه لمن
ركب أعضاءه خلق ذليل وعبد مهين، مع آفة به لازمة من عور
إحدى عينيه، يدعو الناس إلى الإقرار بأنه ربهم الذى خلقهم،
فأسوأ حالات من يراه من ذوى العقول أن يعلم أنه لم يكن
ليسوى خلق غيره ويعدله ويحسنه، وهو على دفع العاهات عن
نفسه غير قادر. فأقل ما يجب أن يقول له من يدعوه إلى
الإقرار له بالألوهية: إنك تزعم أنك خالق السموات والأرض
وما فيهما وأنت أعور ناقص الصورة، فصور نفسك وعدلها على
صورة من أنت فى صورته إن كنت محقًا فى ذلك، فإن زعمت أن
الرب لا يحدث فى نفسه شيئًا فإنك راكب من الخطايا أرذلها،
فتحول من الجماد إلى أشرف منه وأزل ما هو مكتوب بين عينيك
من الكتاب الشاهد على كذبك. قال المهلب: وأما قوله فى حديث
المغيرة: (إنهم يقولون أن معه جبل خبر ونهر ماءٍ. قال (صلى
الله عليه وسلم) : هو أهون على الله من ذلك) . يريد والله
أعلم هو أهون من أن يفتن الناس به فيملكه معايش أرزاقهم
وحياة أرماقهم، فتعظم بذلك فتنتهم، بل تبقى عليه ذلة
العبودية بتحويجه إلى معالجة المعاش، وقد ملكه ما لا يضر
به إلا من قضى الله له بالشقاء فى أم الكتاب، وإنما يوهم
الناس أن هذه نار يشير إليها ليخافه من لا بصيرة له فى دين
الله فيتبعه مخافتها على نفسه، ولو أنعم النظر لرأى أنها
ماء بارد وكذلك لما توهن به وهو ماء لمن لا بصيرة له ولا
عنده علم بما قدمه الرسول من العلم لأمته بأن ناره ماء،
وماءه نار، ومن أعطى فتنته ثم جعل له على تلك الفتنة علم
بطلانها ومحالها لم تكن فتنة شاملة، ولا يفتتن
(10/66)
بها إلا الأول لافتضاحها بأول من يلقى فيها
فيجدها بخلاف ما أوهم فيها، ولولا انتقاله من بلد إلى بلد
لأمنت تلك الفتنة إلا على الأول، لكنه يرد كل يوم بلدة لا
يعرف أهلها ما افتضح من أمره فى غيرها فيظل يفتن، ويعصم
الله العلماء منه، ومن علم علامة الرسول وثبته الله واستدل
بأن من كان ذا عاهةٍ لا يكون إلهًا، فقد بان أنه أهون على
الله من أن يمكنه من المعجزات تمكينًا صحيحًا، لأن إقداره
على قتل الرجل وإحيائه لم يستمر له فى غيره ولا استضر به
المقتول إلا ساعة ألمه، وقد لا يجد لقتله ألمًا لقدرة الله
على دفع ألمه عنه، فإن آلمه آجره بذلك فى الآخرة، وإن لم
يؤلمه فقد أدام له الحياة بإحيائه، ثم لا يسلط على قتل أحد
ولا إحيائه. وذكر على بن معبد عن عبد الله بن عمر، وعن زيد
بن أبى أنيسة، عن أشعث بن أبى الشعثاء عن أبيه، عن ابن
مسعود قال: إن الدجال يرحل فى الأرض أربعين ليلة، وعن أبى
مجلز قال: إذا خرج الدجال فالناس ثلاث فرق: فرقة تقاتله،
وفرقة تفر منه، وفرقة تشايعه، فمن تحرز منه فى رأس جبل
أربعين ليلة أتاه رزقه، وأكثر من يشايعه أصحاب العيال
يقولون: إنا لنعرف ضلالته، ولكن لا نستطيع ترك عيالنا، فمن
فعل ذلك كان منه. وذكر الطبرى بإسناده عن أبى أمامة
الباهلى، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه حدثهم عن
الدجال: (أنه يخرج بين الشام والعراق فيقول أنه نبى، ثم
يثنِّى فيقول: أنا ربكم وإنه يأتى بجنة ونار، فناره جنة
وجنته نار.
(10/67)
فمن ابتلى بناره فليستعن بالله، فإنها تكون
عليه بردًا وسلامًا ومن ابتلى به فليقرأ عليه فواتح سورة
الكهف وليتفل فى وجهه، فإنه لا يعدو ذلك، ويقتل رجلاً ثم
يحييه وليس يحيى أحدًا بعده، وإن له أربعين يومًا يوم
كالسنة ويوم كالشهر ويوم كجمعة ويوم كسائر الأيام، ويعدو
الرجل من باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى تغيب
الشمس) . وروى الطبرى بإسناده عن قتادة، عن شهر بن حوشب،
عن أسماء بنت يزيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكر
عندها الدجال فقال: (إن قبل خروجه ثلاثة أعوام تمسك السماء
ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والعام الثانى تمسك السماء
ثلثى قطرها والأرض ثلثى نباتها، والعام الثالث تمسك السماء
قطرها والأرض نباتها حتى لا يبقى ذات ضرس ولا ذات ظلف إلا
مات، ومن أعظم فتنته أنه يأتى الرجل فيقول له: إن أحييت لك
أباك أو أخاك أو عمك تعلم أنى ربك؟ فيقول: نعم. فيمثل له
شياطين عنده. ويأتى الأعرابى فيقول: إن أحييت لك إبلك
عظامًا ضروعها، طوالاً أسنمتها؛ تعلم أنى ربك؟ فيقول: نعم.
فيتمثل له شياطين عنده. فبكى القوم فقال النبى (صلى الله
عليه وسلم) : إن يخرج فيكم فأنا حجيجه، وإلا فالله خليفتى
على كل مؤمن. قالت أسماء: ما يكفى المؤمن يومئذ من الطعام
يا رسول الله؟ قال: يكفيه ما يكفى أهل السماء التسبيح
والتقديس) . وذكر ابن أبى شيبة بإسناده عن عائشة أن النبى
(صلى الله عليه وسلم) قال: (يخرج مع الدجال يهود أصبهان
فيقتله عيسى ابن مريم بباب لد، ثم يمكث عيسى فى الأرض
أربعين سنة أو قريبًا منها إمامًا عدلاً وحكمًا مقسطًا) .
قال الخطابى: قال ثعلب: الطافية: العنبة التى قد خرجت عن
(10/68)
حد بنية أخواتها فعلت ونتأت وظهرت، يقال:
طفا الشىء إذا علا وظهر، ومنه الطافى من السمك.
- باب لا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ
/ 65 - فيه: أَبُو سَعِيد، حَدَّثَنِى النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ: (يَأْتِى
الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ
نِقَابَ الْمَدِينَةِ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ
الَّتِى تَلِى الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ
يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ
خِيَارِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ،
هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا،
فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا
كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ،
فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلا يُسَلَّطُ
عَلَيْهِ) . / 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى أَنْقَابِ
الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ،
وَلا الدَّجَّالُ) . قال المؤلف: قد تقدم الكلام فى حديث
أبى سعيد وأبى هريرة، وفيه فضل المدينة وأنها خصت بهذه
الفضيلة والله أعلم لبركة النبى (صلى الله عليه وسلم)
ودعائه لها، وقد أراد الصحابة أن يرجعوا إلى المدينة عندما
وقع الوباء بالشام ثقةً منهم بقول رسول الله الذى أمنهم
دخول الطاعون بلده، وكذلك توقن أن الدجال لا يستطيع دخولها
البتة، وفى ذلك من الفقه أن الله تعالى يوكل ملائكته بحفظ
بنى آدم من الآفات والفتن والعدو إذا أراد حفظهم وقد وصف
الله تعالى
(10/69)
ذلك فى قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن
بَيْنِ يَدَيْهِ) [الرعد: 11] يعنى بأمر الله لهم بحفظه.
وروى على بن معبد قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعى، عن
إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) : (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا
مكة والمدينة ليس من نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة
صافين يحرسونها، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات
يخرج إليه كل منافق) . والأنقاب: الطرق، واحدها نقب، ومنه
قوله تعالى: (فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ) [ق: 36] أى
جعلوا فيها طرقًا ومسالك، وقال صاحب العين: النقب والنُّقب
والمنقبة: الطريق فى رأس الجبل.
- باب يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
/ 67 - فيه: زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا
يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ،
مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) ، وَحَلَّقَ
بِإِصْبَعَيْهِ الإبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا، قَالَتْ
زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا
كَثُرَ الْخُبْثُ) . / 68 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُفْتَحُ الرَّدْمُ،
رَدْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذِهِ) ، وَعَقَدَ
تِسْعِينَ.
(10/70)
قال المؤلف: ذكر يحيى بن سلام، عن سعيد بن
أبى عروبة، عن قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هريرة: أن رسول
الله قال: (إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا
كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم: ارجعوا فتخرقونه
غدًا فيعيده الله كأشد ما كان إذا بلغت مدتهم وأراد الله
أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس
قال الذى عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدًا إن شاء الله.
فيغدون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه، فيخرجون على
الناس فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم فى حصونهم فيرمون
سهامهم فترجع إليهم والدماء فيها، فيقولون قهرنا أهل الأرض
وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفًا فى أقفائهم
فيقتلهم بها) . وذكر على بن معبد، عن أشعث بن شعبة، عن
أرطاة بن المنذر قال: إذا خرج يأجوج ومأجوج أوحى الله إلى
عيسى ابن مريم: إنى قد أخرجت خلقًا من خلقى لا يطيقهم أحد
غيرى، فمر بمن معك إلى جبل الطور ومعك من الذرارى اثنا عشر
ألفًا. قال: ويأجوج ومأجوج ذرء جهنم، وهم على ثلاث أثلاث:
ثلث على طور الأرز والسرس، وثلث مربع طوله وعرضه واحد وهم
أشد، وثلث يفترش أحدهم أذنه يلتحف بالأخرى وهم ولد يافث
ابن نوح. وعن الأوزاعى عن ابن عباس قال: الأرض ستة أجزاء
فخمسة أجزاء منها يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق. وعن
كعب الأحبار قال: معاقل المسلمين من يأجوج ومأجوج الطور.
(10/71)
كِتَاب الدَّعَاء
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) [غافر: 60] وقَوْلِ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ
دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى فِى الآخِرَةِ) . / 2 -
وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
: (كُلُّ نَبِىٍّ سَأَلَ سُؤْلا، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ
نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، قَدْ دَعَا بِهَا، فَاسْتُجِيبَت،
فَجَعَلْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) . قال المؤلف: أمر الله تعالى عباده بالدعاء
وضمن لهم الإجابة فى قوله: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ)
[غافر: 60] فإن قيل: فقد علمت تأويل من تأوّل قوله تعالى:
(ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] ادعونى بطاعتكم
إياى وعبادتكم لى: أستجب لكم فى الذى التمستم منى بعبادتكم
إياى. قال الطبرى: فالجواب: أن من طاعة العبد ربه دعاءه
إياه ورغبته فى حاجته إليه دون ما سواه، والمخلص له
العبادة المتضرع إليه فى حاجته موقن أن قضاءها بيده متعرض
لنجحها منه، ومن عبادته إياه تضرعه إليه فيها، وقد روى
وكيع عن سفيان، عن صالح مولى
(10/72)
التوءمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله:
(من لم يدع الله غضب الله عليه) . وروى شعبة، عن منصور، عن
ذَرِّ، عن يُسَيْعٍ الحضرمى، عن النعمان بن بشير عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) قال: (الدعاء هو العبادة) وقرأ:
(ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى) [غافر: 60] فسمى الدعاء
عبادة، وروى الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن الله يحب الملحين فى
الدعاء) . فإن ظن ظان أن قول أبى الدرداء يكفى من الدعاء
مع العمل ما يكفى من الملح. وقيل لسفيان: أدع الله؟ فقال:
إن ترك الذنوب هو الدعاء. مخالف لما جاء من فضل الإلحاح فى
الدعاء والأمر بالدعاء والضراعة إلى الله، فقد ظن خطئًا.
وذلك أن الذى جبلت عليه النفوس أن من طلب حاجةً ممن هو
عليه ساخط لأمر تقدّم منه استوجب به سخطه أنه بالحرمان
أولى ممن هو عنه راضٍ لطاعته له واجتنابه سخطه، فإذا علم
من عبده المطيع له حاجةً إليه كفاه اليسير من الدعاء. فإن
قيل: هل من علامة يعلم بها إجابة الله العبد فى دعائه؟ .
قيل: قد جاء فى ذلك غير شىء، منها ما روى شهر بن حوشب: (أن
أمّ الدرداء قالت له: يا شهر إن شفق المؤمن فى قلبه كسعفة
أحرقتها فى النار، ثم قالت: يا شهر ألا تجد القشعريرة؟
قلت: نعم. قالت: فادع الله فإن الدعاء يستجاب عند ذلك) .
وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى
الخير (أنه سمع أبا رهم السماعى يقول: ما يشعر به عند
الدعاء والعطاس) .
(10/73)
قال المؤلف: فإن قيل: ما معنى قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (لكل نبى دعوة مستجابة) . وقد قال الله
تعالى للناس كافة: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:
60] فعم كل الدعاء، وهذا وعد من الله لعباده وهو لا يخلف
الميعاد، وإنما خصّ كل نبى بدعوة واحدة مستجابة، فأين فضل
درجة النبوة؟ قيل: ليس الأمر كما ظننت، ولا يدل قوله
تعالى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] على أن
كل دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قتادة: إنما يستجاب من
الدعاء ما وافق القدر. وليس قوله: (لكل نبى دعوة مستجابة)
. مما يدل أنه لا يستجاب للأنبياء غير دعوة واحدة، وقد ثبت
عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أجيبت دعوته فى
المشركين حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف، ودعا على صناديد
قريش المعاندين له، فقتلوا يوم بدر، وغير ذلك مما يكثر
إحصاؤه مما أجيب من دعائه، بل لم يبلغنا أنه رُد من دعائه
(صلى الله عليه وسلم) إلا سؤاله أن لا يجعل الله بأس أمته
بينهم خاصةً، لما سبق فى أم الكتاب من كون ذلك، قال تعالى:
(وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253] . ومعنى قوله: (لكل
نبى دعوة مستجابة) . يريد أن لكل نبى عند الله من رفيع
الدرجة وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبّ من
الأمور ويبلغه أمنيته، فيدعو فى ذلك وهو عالم بإجابة الله
له على ما ثبت عنه: (أن جبريل قال له: يا محمد، إن أردت أن
يحول الله لك جبال تهامة ذهبًا فعل) . وخيَّره بين أن يكون
نبيًا عبدًا وبين أن يكون نبيًا ملكًا، فاختار الآخرة على
الدنيا، وليست هذه الدرجة لأحد من الناس، وإنما أمروا
بالدعاء راجين الإجابة غير قاطعين عليها؛ ليقفوا تحت
الرجاء والخوف.
(10/74)
وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا (صلى الله
عليه وسلم) على سائر الأنبياء عليهم السلام حين آثر أمته
بما خصّه الله به من إجابة الدعوة بالشفاعة لهم، ولم يجعل
ذلك فى خاصّة نفسه وأهل بيته فجزاه الله عن أمته أفضل
الجزاء، وصلى الله عليه أطيب الصلاة، فهو كما وصفه الله:
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] .
- باب فضل الاسْتِغْفَارِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ
كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا) [نوح: 10، 11] ) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران: 135]
الآية. / 3 - فيه: شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أن رسُول اللَّه
(صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ
تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ،
خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ
وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا
صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ
لَكَ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ
مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ
يُمْسِىَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا
مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ
أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . قال
المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وأنا على عهدك ووعدك
ما استطعت) يعنى: العهد الذى أخذه الله على عباده فى أصل
خلقهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذر، وأشهدهم على
أنفسهم:
(10/75)
) أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)
[الأعراف: 172] فأقروا له فى أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا
له بالوحدانية، والوعد: هو ما وعدهم تعالى أنه من مات لا
يشرك منهم بالله شيئًا وأدّى ما افترض الله عليه أن يدخل
الجنة، فينبغى لكل مؤمن أن يدعو الله تعالى أن يميته على
ذلك العهد، وأن يتوفاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد
تعالى من وفى بذلك اقتداءً بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى
دعائه بذلك، ومثل ذلك سأل الأنبياء عليهم السلام الله
تعالى فى دعائهم، فقال إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) :
(وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ)
[إبراهيم: 35] وقال يوسف: (تَوَفَّنِى مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101] وقال نبينا:
(وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون) . وأعلم
أمته بقوله: (أنا على عهدك ووعدك ما استطعت) . إن أحدًا لا
يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات
والشكر على النعم، إذ نعمه تعالى كثيرة ولا يحاط بها، ألا
ترى قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ
ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20] فمن يقدر مع هذا أن
يؤدى شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟ لكن قد رفق الله
بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم وتجاوز عما فوق ذلك،
وكان (صلى الله عليه وسلم) يمتثل هذا المعنى فى مبايعته
للمؤمنين، فيقول: أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم.
فإن قيل: أين لفظ الاستغفار فى هذا الدعاء، وقد سماه النبى
(صلى الله عليه وسلم) سيد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار فى
لسان العرب هو طلب المغفرة من الله تعالى وسؤاله غفران
الذنوب السالفة والاعتراف بها، وكل
(10/76)
دعاء كان فى هذا المعنى فهو استغفار، مع أن
فى الحديث لفظ الاستغفار وهو قوله: (فاغفر لى فإنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت) . وقال: (من قالها موقنًا بها) يعنى
مخلصًا من قلبه ومصدقًا بثوابها فهو من أهل الجنة، وهذا
كمعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قام رمضان إيمانًا
واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) . وقوله: (أبوء لك
بنعمتك وأبوء بذنبى) قال صاحب الأفعال: باء بالذنب: أقرّ.
3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى
الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) يَقُولُ: (وَاللَّهِ إِنِّى لأسْتَغْفِرُ
اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ
سَبْعِينَ مَرَّةً) . قال المؤلف: أولى العباد بالاجتهاد
فى العبادة الأنبياء، عليهم السلام، لما حباهم الله به من
معرفته، فهم دائبون فى شكر ربهم معترفون له بالتقصير لا
يدلون عليه بالأعمال، مستكينون خاشعون، روى عن مكحول عن
أبى هريرة قال: (ما رأيت أحدًا أكثر استغفارًا من رسول
الله (صلى الله عليه وسلم)) . وقال مكحول: ما رأيت أكثر
استغفارًا من أبى هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. وقال
أنس: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة. وروى أبو إسحاق
عن مجاهد، عن ابن عمر قال: (كنت مع النبى (صلى الله عليه
وسلم) فسمعته يقول: أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى
القيوم وأتوب إليه مائة مرة قبل أن يقوم) وروى عن حذيفة
أنه شكا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) ذرب لسانه على
أهله، فقال: أين
(10/77)
أنت يا حذيفة من الممحاة؟ قال: وما هى؟
قال: (الاستغفار، إنى لأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة)
وقال (صلى الله عليه وسلم) لعائشة وقت الإفك: (إن كنت
ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه) فإن التوبة من الذنب
الندم والاستغفار، وقالت عائشة: (كان النبى (صلى الله عليه
وسلم) قبل أن يموت يكثر من قوله سبحان الله وبحمده، أستغفر
الله وأتوب إليه، فسألته عن ذلك، فقال: أخبرنى ربى أنى
سأرى علامةً فى أمتى، فإذا رأيتها أكثرت من ذلك، فقد
رأيتها: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ()
[النصر: 1] . وقال أبو أيوب الأنصارى: ما من مسلم يقول:
(أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه
ثلاث مرات، إلا غفرت ذنوبه، وإن كانت أكثر من زبد البحر،
وإن كان فر من الزحف) وكان ابن عمر كثيرًا ما يقول: الحمد
لله وأستغفر الله، فقيل له فى ذلك، فقال: إنما هى نعمة
فأحمد الله عليها أو خطيئة فأستغفر الله منها. وقال عمر بن
عبد العزيز: رأيت أبى فى النوم كأنه فى بستان فقلت له: أى
عملك وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار. وروى أبو عثمان عن سلمان
قال: إذا كان العبد يدعو الله فى الرخاء، فنزل به البلاء
فدعا، قالت الملائكة: صوت معروف من امرئ ضعيف. فيشفعون له،
وإذا كان لا يكثر من الدعاء فى الرخاء، فنزل به البلاء
فدعا، فقالت الملائكة: صوت منكر من امرئ ضعيف، فلا يشفعون
له.
4 - باب) تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)
[التحريم: 8]
وقَالَ قَتَادَةُ: (تَوْبَةً نَصُوحًا (، الصَّادِقَةُ
النَّاصِحَةُ. / 5 - فيه: الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ،
حَدَّثَنَا ابْن مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ
النَّبِيِّ
(10/78)
- عليه السلام - وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ،
قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ
قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ،
وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى
أَنْفِهِ، فَقَالَ: بِهِ، هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ،
بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلا وَبِهِ
مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ
وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ نَوْمَةً،
فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا
اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ
اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى، فَرَجَعَ
فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا
رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ) . / 6 - وفيه: أَنَس، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَفْرَحُ
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى
بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِى أَرْضِ فَلاةٍ) . قال
صاحب العين: التوبة النصوحة: الصادقة. وقيل: إنما سمىّ
الله التوبة نصوحًا؛ لأن العبد ينصح فيه نفسه ويقيها النار
لقوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)
[التحريم: 6] ، وأصل قوله تعالى: (تَوْبَةً نَّصُوحًا)
[التحريم: 8] توبةً منصوحًا فيها، إلا أن أخبر عنها باسم
الفاعل للنصح على ما ذكره سيبويه عن الخليل فى قوله تعالى:
(عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [الحاقة: 21] أى ذات رضا، وذكر أمثلة
لهذا كثيرة عن العرب كقولهم: ليل نائم، وهم ناصب، أى: ينام
فيه وينصب، فكذلك) تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] أى:
ينصح فيها، والتوبة فرض من الله تعالى على كل من علم من
نفسه ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَّصُوحًا) [التحريم: 8] . وقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ
جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) [النور: 31] ، وقال تعالى: (إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) [النساء: 17] .
(10/79)
فكل مُذنب فهو عند مواقعة الذنب جاهل وإن
كان عالمًا، ومن تاب قبل الموت تاب من قريب، وقال النبى
(صلى الله عليه وسلم) : (الندم توبة) . وقال: (إن العبد
ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة. قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟
قال: يكون نصب عينيه تائبًا منه فارا حتى يدخل الجنة) .
وقال سفيان بن عيينة: التوبةُ نعمة من الله أنعم بها على
هذه الأمة دون غيرهم من الأمم، وكانت توبة بنى إسرائيل
القتل. وقال الزهرى: لما قيل لهم: (فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] قاموا
صفين وقتل بعضهم بعضًا، حتى قيل لهم: كفوا. فكانت لهم
شهادة للمقتول وتوبةً للحى، وإنما رفع الله عنهم القتل لما
أعطوا المجهود فى قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمة
نعمةً بعد الإسلام هى أفضل من التوبة. إن الرجل ليفنى عمره
أو ما أفنى منه فى المعاصى والآثام، ثم يندم على ذلك ويقلع
عنه ويقوم وهو حبيب الله، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:
222] ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (التائب من الذنب كمن
لا ذنب له) . وقال ابن المبارك: حقيقة التوبة لها ست
علامات: أولها: الندم على ما مضى. والثانية: العزم على أن
لا تعود. والثالثة: أن تعمد إلى كل فرض ضيعته فتؤديه.
والرابعة: أن تعمد إلى مظالم العباد، فتؤدّى إلى كل ذى حق
حقه. والخامسة: أن تعمد إلى البدن الذى ربيتهُ بالسحت
والحرام فتذيبه بالهموم والأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم،
ثم تنشىء بينهما لحمًا طيبًا إن هو نشأ. والسادسة: أن تذيق
البدن ألم الطاعة كما أذقته لذة
(10/80)
المعصية. وقال ميمون ابن مهران عن ابن
عباس: كم تائب يرد يوم القيامة يظن أنه تائب وليس بتائب،
لأنه لم يحكم أبواب التوبة. وقال عبد الله بن سُميط: ما
دام قلب العبد مصراّ على ذنبٍ واحد، فعمله معلق فى الهواء،
فإن تاب من ذلك الذنب وإلا بقىّ عمله أبدًا معلقًا. وروى
الأصيلى عن أبى القاسم يعقوب بن محمد بن صالح البصرى
إملاءً من حفظه قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا
عمران بن عبد الرحيم الأصبهانى، حدثنا خليفة، عن عبد
الوهاب، عن محمد بن زياد، عن على بن زيد بن جدعان، عن سعيد
بن المسيّب، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله: يقول الله
تعالى: (إذا تاب عبدى إلىّ نَسَّيت جوارحه، ونَسَّيت
البقاع، ونَسّيت حافظيه حتى لا يشهدوا عليه) . وأما الحديث
الذى حدث ابن مسعود عن نفسه فقوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه
كأنه قاعد تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، والفاجر يرى ذنوبه
كذباب مرّ على أنفه) . فينبغى لمن أراد أن يكون من جملة
المؤمنين أن يخشى ذنوبه، ويعظم خوفه منها، ولا يأمن عقاب
الله عليها فيستصغرها، فإن الله تعالى يعذّب على القليل
وله الحجة البالغة فى ذلك. وأمّا فرح الله بتوبة العبد
فقال أبو بكر بن فورك: الفرح فى كلام العرب بمعنى السرور،
من ذلك قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا)
[يونس: 22] أى سروا بها، فهذا المعنى لا يليق بالله تعالى
لأنه يقتضى جواز الحاجة عليه ونيل
(10/81)
المنفعة، والفرح بمعنى البطر والأشر ومنه
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)
[القصص: 76] . والوجه الثالث من الفرح الذى يكون بمعنى
الرضا من قوله تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53] أى راضون، ولما كان من بُشِّر
بالشىء قد رضيه، قيل: إنه قد فرح به على معنى أنه به راض،
وعلى هذا تتأول الآثار؛ لأن البطر والسرور لا يليقان بالله
عز وجل.
5 - باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ
/ 7 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً،
فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ
حَتَّى يَجِىءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ. هذه هيئة من
الهيئات كان يفعلها (صلى الله عليه وسلم) والله أعلم
للأرفق به فى الاضطجاع، أو كان يفعلها لفضل الميامن على
المياسر، وهذا كله مباح ليس من باب الوجوب.
6 - باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا
/ 8 - فيه: الْبَرَاء،، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ
وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ
الأيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهِى إِلَيْكَ،
وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى
إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا
مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ
الَّذِى أَنْزَلْتَ،
(10/82)
وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ
مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا
تَقُولُ) . وقد بين ابن عباس معنى المبيت على الطهارة، ذكر
عبد الرزاق عن أبى بكر بن عياش قال: أخبرنى أبو يحيى أنه
سمع مجاهدًا يقول: قال لى ابن عباس: لا تنامن إلا على
وضوء، فإن الروح تبعث على ما قبضت عليه. وهذا معنى قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (فإن مُتّ متّ على الفطرة) . وذكر
عن الأعمش أنه بال، ثم تيمّم بالجدار، فقيل له فى ذلك،
فقال: أخاف أن يدركنى الموت قبل أن أتوضأ. وعن الحكم بن
عتيبة أنه سأله رجل: أينام الرجل على غير وضوء؟ قال: يكره
ذلك وإنا لنفعله. وروى معمر عن سعيد الجريرى عن أبى السليل
عن أبى توبة العجلى قال: من أوى إلى فراشه طاهرًا أو نام
ذاكرًا كان فراشه مسجدًا، وكان فى صلاة أو ذكر حتى يستيقظ.
وقال طاوس: من بات على طهرٍ وذكرٍ كان فراشه له مسجدًا حتى
يصبح، ومثل هذا لا يدرك بالرأى وإنما يؤخذ بالتوقيف.
7 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ
/ 9 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ:
(بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا قَامَ قَالَ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا
أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . ينشرها: يخرجها. / 10
- وفيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
: (إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ
أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى
إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ،
(10/83)
وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً
وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَا وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا
إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ،
وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ، مُتَّ
عَلَى الْفِطْرَةِ) . ذكر الله مستحب عند النوم ليكون
الذكر آخر فعله، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(واجعلهن آخر ما تقول) أى لا تتكلم بعدهن بشىء من أحاديث
الدنيا، وليكن هذا الذكر خاتمة عملك، ألا ترى قوله: (فإن
مت مت على الفطرة) وقد تقدم حديث معمر عن الجريرى فى فضل
من بات على ذكر وطهر فى الباب قبل هذا.
8 - باب وَضْعِ الْيَدِ تَحْتَ الْخَدِّ اليمنى
/ 11 - فيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ
يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ
بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ
قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا
أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . يحتمل أن يكون وضع
النبى (صلى الله عليه وسلم) يده تحت خدّه عند النوم تذللاً
لله عز وجل واستشعارًا لحال الموت، وتمثيله لنفسه لتتأسى
أمته بذلك، ولا يأمنوا هجوم الموت عليهم فى حال نومهم،
ويكونوا على رقبة من مفاجأته فيتأهبوا له فى يقظتهم وجميع
أحوالهم، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) عند نومه:
(اللهم بك أموت وأحيا وإليك النشور) .
(10/84)
9 - باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ
بِاللَّيْلِ
/ 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ
مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
فَأَتَى حَاجَتَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ
نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَأَطْلَقَ
شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ
لَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ، فَصَلَّى فَقُمْتُ،
فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّى كُنْتُ
أَتَّقِيهِ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ يُصَلِّى، فَقُمْتُ
عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِى، فَأَدَارَنِى عَنْ
يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلاتُهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ،
وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَآذَنَهُ بِلالٌ بِالصَّلاةِ
فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِى
دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا، وَفِى
بَصَرِى نُورًا، وَفِى سَمْعِى نُورًا، وَاجْعَلْ لِى
نُورًا) . قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِى التَّابُوتِ،
فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، فَحَدَّثَنِى
بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِى، وَلَحْمِى، وَدَمِى،
وَشَعَرِى، وَبَشَرِى، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ. / 13 -
وفيه: ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ:
(اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ
قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ
الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ
حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ
حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ،
وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ،
وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ
أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ
فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا
أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ
وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا
إِلَهَ غَيْرُكَ) . قال المؤلف: كان النبى (صلى الله عليه
وسلم) يدعو الله عز وجل فى أوقات ليله ونهاره، وعند نومه
ويقظته بنوع من الدعاء يصلح لحاله تلك ولوقته
(10/85)
ذلك. فمنها: أوقات كان يدعو فيها إلى ربه
تعالى، ويعين له ما يدعو فيه فى أوقات الخلوة، وعند فراغ
باله وعلمه بأوقات الغفلة التى ترجى فيها الإجابة، فكان
يلح عند ذلك ويجتهد فى دعائه، ألا ترى سؤاله (صلى الله
عليه وسلم) ربه حين انتبه من نومه أن يجعل فى قلبه نورًا،
وفى بصره نورًا، وفى سمعه وجميع جوارحه؟ ومنها: أوقات كان
يدعو فيها بجوامع الدعاء ويقتصر على المعانى دون تعيين
وشرح، فينبغى الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى
دعائه فى تلك الأوقات، والتأسى به فى كل الأحوال، وقد
تقدّم حديث ابن عباس فى باب التهجد والكلام عليه. وقول
كريب: وسبع فى التابوت يعنى: أنه أنسى سبع خصال من الحديث
على ما يقال لمن لم يحفظ العلم؛ علمه فى التابوت، وعلمه
مستودع فى الصحف، وليس كريب القائل: فلقيت رجلاً من ولد
العباس فحدثنى بهنّ، وإنما قاله سلمة بن كهيل الراوى عن
كريب سأل العباس عنهن حين نسيهن كريب فحفظ سلمة منهن خمسًا
ونسى أيضًا خصلتين. قال المؤلف: وقد وجدت الخصلتين من
رواية داود بن على بن عبد الله بن عباس عن أبيه وهما:
(اللهم اجعل نورًا فى عظامى ونورًا فى قبرى) . وقوله:
(فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أبغيه) التمطى: التمدد،
وأبغيه: أرصده، قال الخليل: يقال: بغيت الشىء أبغيه إذا
نظرت إليه ورصدته، وإنما فعل ذلك ابن عباس ليُرىّ النبي -
عليه السلام - أنه كان نائمًا وأنه لم يرصده؛ إذ كل أحدٍ
إذا خلا في
(10/86)
بيته يأتى من الأفعال ما يحب أن لا يطلع
عليه أحد، وإنما حمل ابن عباس على ذلك الحرص على التعليم،
ومعرفة حركات النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ليله، وقد
تقدّم فى كتاب الصلاة أن أباه العباس كان أوصى لابنه بذلك.
وفيه: الحرص على التعليم والرفق بالعلماء، وترك التعرض إلى
ما يعلم أنه يشق عليهم. ذكر الطبرى عن معقل بن يسار، عن
أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، أن النبى (صلى الله عليه
وسلم) قال: (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل. فقلت: يا رسول
الله فكيف المنجا من ذلك؟ قال: ألا أعلمك شيئًا إذا فعلته
برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره. قلت: بلى يا رسول
الله. قال: قل: اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم،
وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مرات) .
- باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ
/ 14 - فيه: عَلِىّ: أَنَّ فَاطِمَةَ اشَتكَتْ مَا تَلْقَى
فِى يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تَجِدْهُ،
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ
أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا
مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ، فَقَالَ: (مَكَانَكِ)
فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ
عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ: (أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا
هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا
إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا،
فَكَبِّرَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا
وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَهَذَا
خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ) . وَقَالَ ابْنِ سِيرِينَ:
التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ.
(10/87)
وهذا نوع من الذكر عند النوم غير ما جاء فى
حديث البراء، وحديث حذيفة والأحاديث الأُخر، وقد يمكن أن
يكون النبي - عليه السلام - يجمع ذلك كله عند نومه، وقد
يمكن أن يقتصر منها على بعضها إعلامًا منه لأمته أن ذلك
معناه الحض والندب، لا الوجوب والفرض، وفى هذا الحديث حجة
لمن فضل الفقر على الغنى؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) قال:
(ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم) فعلمهما الذكر،
ولو كان الغنى أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم وعلمهما
الذكر، فلما منعهما الخادم وقصرهما على الذكر خاصةً علم
أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما اختار لهما الأفضل عند
الله، والله الموفق.
- باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ
/ 15 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِى يَدَيْهِ،
وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ. /
16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى
فِرَاشِهِ، فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ،
فَإِنَّهُ لا يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ
يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ
أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَارْحَمْهَا، وَإِنْ
أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ
الصَّالِحِينَ) . وهذه أنواع أخر أيضًا غير ما مرّ من
الأحاديث المتقدمة، وفيها استسلام لله وإقرار له بالإحياء
والإماتة، وفى حديث عائشة رد قول من زعم أنه لا تجوز الرقى
واستعمال العُوذ إلا عند حلول المرض ونزول ما يتعوذ بالله
منه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نفث فى يديه
وقرأ المعوذات ومسح بهما جسده، واستعاذ بذلك من شر ما يحدث
عليه فى ليلته مما يتوقعه وهذا من أكبر الرقى، وفي حديث
(10/88)
أبي هريرة أدب عظيم علمه النبى أمته، وذلك
أمره بنفض فراشه عند النوم خشية أن يأوى إليه بعض الهوام
الضارّة فيؤذيه سمها، والله أعلم.
- باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ
/ 17 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا، عزَّ وجلَّ،
كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى
ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى
فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ
يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ) . هذا وقت شريف مرغب فيه
خصّه الله تعالى بالتنزل فيه، وتفضّل على عباده بإجابة من
دعا فيه، وإعطاء من سأله، إذ هو وقت خلوة وغفلة واستغراق
فى النوم واستلذاذ به، ومفارقة الدعة واللذة صعب على
العباد، لا سيما لأهل الرفاهية فى زمن البرد، ولأهل التعب
والنصب فى زمن قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه
والتضرع إليه فى غفران ذنوبه، وفكاك رقبته من النار وسأله
التوبة فى هذا الوقت الشاق على خلوة نفسه بلذتها ومفارقة
دعتها وسكنها، فذلك دليل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما
عند ربه، فضمنت له الإجابة التى هى مقرونة بالإخلاص وصدق
النية فى الدعاء، إذ لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاهٍ.
وقد أشار النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى هذا المعنى
بقوله: (والصلاة بالليل والناس نيام) . فلذلك نبّه الله
عباده على الدعاء فى هذا الوقت الذى تخلو فيه النفس من
خواطر الدنيا، وعُلقها ليستشعر العبد الجدّ والإخلاص لربه
فتقع الإجابة منه تعالى رفقًا من الله بخلقه
(10/89)
ورحمةً لهم فله الحمد دائمًا والشكر كثيرًا
على ما ألهم إليه عباده من مصالحهم، ودعاهم إليه من
منافعهم لا إله إلا هو الكريم الوهاب. فإن قيل: كيف ترجم
باب الدعاء نصف الليل، وذكر فى الحديث أن التنزل فى ثلث
الليل الآخر؟ . قيل: إنما أخذ ذلك من قوله تعالى: (قُمِ
اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً) [المزمل: 2، 3] ، فالترجمة تقوم من دليل القرآن،
والحديث يدل على أن وقت الإجابة ثلث الليل إلا أن ذكر
النصف فى كتاب الله يدل على تأكيد المحافظة على وقت التنزل
قبل دخوله ليأتى أول وقت الإجابة، والعبد مرتقب له مستعد
للإنابة فيكون ذلك سببًا للإجابة، وينبغى ألا يمرّ وقت من
الليل والنهار إلا أحدث العبد فيه دعاءً وعبادةً لله
تعالى.
- باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ
/ 18 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى
أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ) . قال
المؤلف: الخبث والخبائث هو الشيطان الرجيم، روى هذا عن
الحسن ومجاهد، وقد جاء معنى أمره (صلى الله عليه وسلم)
بالاستعاذة عند دخول الخلاء فى حديث رواه معمر عن قتادة،
عن النضر بن أنس عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: (إن هذه
الحشوش محتضرة، فإذا دخلها أحدكم فليقل: اللهم إنى أعوذ بك
من الخبث والخبائث) . فأخبر فى هذا الحديث أن الحشوش مواطن
للشياطين، فلذلك أمر بالاستعاذة عند دخولها، وروى ابن وهب
عن
(10/90)
حيوة بن شريح، عن أبى عقيل أنه سمع سعيدًا
المقبرى يقول: إذا دخل الرجل الكنيف لحاجته، ثم ذكر اسم
الله كان سترًا بينه وبين الجن، فإذا لم يذكر الله نظر
إليه الجن يسخرون ويستهزئون به. وروى عن النبى أنه قال:
(إذا خرج أحدكم من الغائط فليقل: الحمد لله الذى أخرج عنى
ما يؤذينى وأمسك علىّ ما ينفعنى) .
- باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ
/ 19 - فيه: شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ) ، وذكر
الحديث (مَنْ قَالَهَا حين يُمْسِى، فَمَاتَ دخل
الْجَنَّةِ، وَإن قَالَهَا حين يُصْبِحَ، فَمَاتَ من يومه
دخل الْجَنَّةِ) . / 20 - وفيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَنَامَ قَالَ: (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا)
، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ، قَالَ: (الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . وَعَنْ أَبِى ذَرّ مثله. قال
المؤلف: معنى ذكر الله عند الصباح ليكون مفتتح الأعمال
وابتداؤها ذكر الله، وكذلك ذكر الله عند النوم ليختم عمله
بذكره تعالى، فتكتب الحفظة فى أول صحيفته عملا صالحًا
وتختمها بمثله، فيرجى له مغفرة ما بين ذلك من ذنوبه. وروى
الطبرى من حديث الحسن عن أبى هريرة قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله عز وجل: اذكرنى من أول
النهار ساعةً، ومن آخره ساعةً أكفيك ما بينهما) . وكان
الصالحون من السُّوقة يجعلون أول يومهم وآخره لأمر الآخرة،
ووسطه لمعيشة الدنيا، وإنما كانوا يعملون ذلك لترغيبه (صلى
الله عليه وسلم) على الدعاء طرفي النهار،
(10/91)
وكان عمر بن الخطاب يأمر التجار فيقول:
اجعلوا أوّل نهاركم لآخرتكم، وما سوى ذلك لدنياكم، وقد روى
عن النبي - عليه السلام - ما يدل على هذا المعنى، قال (صلى
الله عليه وسلم) : (يقول الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجزن
عن أربع ركعات أول النهار أكفيك آخره) .
- باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ
/ 21 - فيه: أَبُو بَكْر، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى
صَلاتِى، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ
نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا
أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ،
وَارْحَمْنِى إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . /
22 - وفيه: عَائِشَةَ،) وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110] نْزِلَتْ فِى الدُّعَاءِ.
/ 23 - وفيه: ابْن مسعود، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) أَنَّهُ ذكر التشهد، إلى قوله: (ثُمَّ يَتَخَيَّرُ
مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ) . قال الطبرى: فى حديث أبى بكر
من الفقه أن للمصلّى أن يدعو الله فى جميع صلواته بما بدا
له من حاجات دنياه وآخرته، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم)
علم أبا بكر مسألة ربه المغفرة لذنوبه فى صلاته، وذلك من
أعظم حاجات العبد إلى ربّه، فكذلك حكم مسألته إياه سائر
حاجاته. وقد روى عن أبى الدرداء أنه قال: إنى لأدعو وأنا
ساجد لسبعين أخًا من إخوتى أسمّيهم بأسمائهم وأسماء
آبائهم. وكان على يقول إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده:
اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد. وكان ابن مسعود يلبى فى
سجوده. ومعنى لبيك:
(10/92)
أجبتك يا رب إلى ما دعوتني إليه إجابةً بعد
إجابة، وأقمت عندك. وقد ذكرت من قال بهذا من الفقهاء فى
كتاب الصلاة. قال الطبرى: وفى حديث أبى بكر الدليل الواضح
على تكذيب مقالة من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من
كان لا خطيئة له ولا جُرم، لأن أهل الإجرام زعموا غير
مؤمنين، وزعموا أن كبائر الذنوب وصغائرها كبائر، وذلك أن
أبا بكر كان من الصديقين من أهل الإيمان، وقد أمره (صلى
الله عليه وسلم) أن يقول: اللهم إنى ظلمت نفسى ظلمًا
كثيرًا فاغفر لي) . وفيه: دليل أن الواجب على العبد أن
يكون على حذر من ربّه فى كل أحواله، وإن كان من أهل
الاجتهاد فى عبادته فى أقصى غاياته، إذ كان الصديق مع
موضعه من الدين لم يسلم مما يحتاج إلى استغفار ربه منه.
- باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلاةِ
/ 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ
وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: (كَيْفَ ذَاكَ) ؟
قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا
جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ،
وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، قَالَ: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ
بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ،
وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلا يَأْتِى أَحَدٌ
بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ،
تُسَبِّحُونَ فِى دُبُرِ كُلِّ
(10/93)
صَلاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا
وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا) . / 25 - وفيه: الْمُغِيرَةِ،
أنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيّ (صلى
الله عليه وسلم) كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ
إِذَا سَلَّمَ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا
أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ
ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) . فى حديث هذا الباب الحضّ
على التسبيح والتحميد فى أدبار الصلوات، وأن ذلك يوازي فى
الفضل إنفاق المال فى طاعة الله لقوله: (أفلا أخبركما بما
تدركون به من كان قبلكم) . وروى عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال: (وضعت الصلوات فى خير الساعات فاجتهدوا فى
الدعاء دبر الصلوات) . قال الطبري: حدثنا ابن المثني، وابن
بشار، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن
قتادة، عن أنس بن مالك قال: (إذا أقيمت الصلاة فتحت أبواب
السماء واستجيب الدعاء) . وروى الطبري عن جعفر بن محمد
قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل
المكتوبة على النافلة. فإن قال قائل: فقد روى عبد الرحمن
بن الأسود عن أبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: إنما هذه
القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره. فأى
الأمرين عندك أفضل، ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل،
أم قراءة القرآن؟ فالجواب: أن عمرو بن سلمة سأل الأوزاعي
عن ذلك، فقال له: سَلْ سعيدًا، فسأله فقال: بل القرآن.
فقال الأوزاعى لسعيد: إنه ليس بشىء يعدل القرآن، ولكن إنما
كان هدى من سلف يذكرون الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
قال الطبرى: والذى قال الأوزاعي أقرب إلى الصّواب لما روى
(10/94)
أنس وأبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد الفجر
إلى طلوع الشمس أحب إلىّ من الدنيا وما فيها، ولأن أقعد مع
قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحبُّ إلىّ
من الدنيا وما فيها) وقال عبد الله بن عمرو: وذكر الله
بالغداة والعشى أفضل من حطم السيوف فى سبيل الله وإعطاء
المال سحًا. وقد تقدم فى باب ما يقول إذا أصبح حديث الحسن
عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقول عز
وجل: ابن آدم اذكرنى من أوّل النهار ساعةً وآخره ساعةً،
أكفيك ما بينهما) . وترجم لحديث المغيرة باب: لا مانع لما
أعطى الله فى كتاب القدر، وسيأتى الكلام هناك إن شاء الله
تعالى، واحتج بحديث أبى هريرة من فضل الغنى على الفقر،
وسيأتى الكلام فيه فى كتاب الرقائق إن شاء الله.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)
[التوبة: 103] وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ
نَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ،
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ)
. / 26 - وفيه: سَلَمَة، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ (صلى
الله عليه وسلم) إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْقَوْمِ: أَيَا عَامِرُ، لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ
هُنَيْاتِكَ، فَنَزَلَ يَحْدُو لهِمْ: تَاللَّهِ لَوْلا
اللَّهُ مَا
(10/95)
اهْتَدَيْنَا، قَالَ النَّبِيّ - عليه
السلام -: (مَنْ هَذَا السَّائِقُ) ؟ قَالُوا: عَامِرُ
بْنُ الأكْوَعِ، قَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ) . / 27 -
وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ، قَالَ:
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ) ، فَأَتَاهُ أَبِى،
فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . /
28 - وفيه: جَرِير، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى
لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَصَكَّ فِى صَدْرِى،
فَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا
مَهْدِيًّا) . / 29 - وفيه: أَنَس، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ
لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَسٌ خَادِمُكَ،
قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ،
وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) . / 30 - وفيه:
عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا
يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (رَحِمَهُ اللَّهُ،
لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَن) .
/ 31 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدَ بِهَا
وَجْهُ اللَّهِ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه
وسلم) فَغَضِبَ، وَقَالَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى،
لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ) . قال
المؤلف: فى هذه الأحاديث كلها من الفقه دعاء المسلم لأخيه
دون نفسه كما ترجم، وقد جاء عن النبي - عليه السلام - أن
دعاء المرء لأخيه مجاب. روى الطبرى قال: حدثنا أبو هشام
الرفاعى قال: حدثنا ابن فضيل، حدثنا أبى، عن طلحة بن عبد
الله بن كريز، عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر
الغيب إلا قال له الملك: ولك مثل ذلك) . وروى سعيد بن جبير
عن ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خمس
(10/96)
دعوات مستجابات: دعوة المظلوم حتى ينتصر،
ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يقفل، ودعوة
المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه) . روى عن بعض السلف:
أنه قال: إذا دعا لأخيه فليبدأ بنفسه. قال سعيد بن يسار:
ذكرت رجلاً عند ابن عمر فترحمت عليه، فلهز فى صدرى وقال
لى: ابدأ بنفسك، وقال إبراهيم: كان يقال: إذا دعوت فابدأ
بنفسك، فإنك لا تدرى أى دعاء يستجاب لك.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِى الدُّعَاءِ
/ 32 - فيه: ابْن عَبَّاس، أنَّهُ قَالَ لعكرمة: حَدِّثِ
النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ
فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاثَ مِرَارٍ، وَلا
تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلا أُلْفِيَنَّكَ
تَأْتِى الْقَوْمَ، وَهُمْ فِى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ،
فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ،
فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ،
فَحَدِّثْهُمْ، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرِ السَّجْعَ
مِنَ الدُّعَاءِ، فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّى عَهِدْتُ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابَهُ لا
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قال المؤلف: إنما نهى عن السجع فى
الدعاء، والله أعلم؛ لأن طلب السجع فيه تكلف ومشقة، وذلك
مانع من الخشوع وإخلاص التضرع لله تعالى وقد جاء فى
الحديث: (إن الله لا يقبل من قلب غافلٍ لاهٍ) . وطالب
السجع فى دعائه همته في [تزويج]
(10/97)
الكلام وسجعه، ومن شغل فكره وكد خاطره
بتكلفه، فقلبه عن الخشوع غافل لاه لقول الله تعالى: (مَّا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ)
[الأحزاب: 4] . فإن قيل: فقد وجد فى دعاء النبى (صلى الله
عليه وسلم) نحو ما نهى عنه ابن عباس، وهو قوله: (اللهم
منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب) . وقال فى تعويذ
حسن أو حسين: (أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة) .
وإنما أراد مُلمّة فللمقاربة بين الألفاظ واتباع الكلمة
أخواتها فى الوزن قال: (لامة) . قيل: هذا يدل أن نهيه (صلى
الله عليه وسلم) عن السجع إنما أراد به من يتكلف السجع فى
حين دعائه، فيمنعه من الخشوع كما قدمنا، وأما إذا تكلم به
طبعًا من غير مؤنة ولا تكلف، أو حفظه قبل وقت دعائه
مسجوعًا فلا يدخل فى النهى عنه؛ لأنه لا فرق حينئذ بين
المسجوع وغيره؛ لأنه لا يتكلف صنعته وقت الدعاء فلا يمنعه
ذلك من إخلاص الدعاء والخشوع والله أعلم. وفيه من الفقه:
أنه يكره الإفراط فى الأعمال الصالحة خوف الملل لها
والانقطاع عنها، وكذلك كان النبى (صلى الله عليه وسلم)
يفعل، كان يتخول أصحابه بالموعظة فى الأيام كراهة السآمة
عليهم، وقال: (اكفلوا من العمل ما تطيقون، فإن الله تعالى
لا يمل حتى تملوا) . وفيه: أنه لا ينبغى أن يحدث بشىء من
كان فى حديث حتى يفرغ منه. وفيه: أنه لا ينبغى نشر الحكمة
والعلم ولا الحديث بهما من لا يحرص على سماعهما وتعلمهما،
فمتى حدث به من يشتهيه ويحرص عليه، كان أحرى أن ينتفع به
ويحسن موقعه عنده، ومتى حدث به
(10/98)
من لا يشتهيه لم يحسن موقعه عنده، وكان فى
ذلك إذلال للعلم وحط له، والله تعالى قد رفع قدره حين جعله
سببًا إلى معرفة توحيده وصفاته تعالى، والى علم دينه وما
تعبَّد به خلقه.
- باب لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لا مُكْرِهَ
لَهُ
/ 33 - فيه: أَنَس، أنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
قَالَ: (إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ، فَلْيَعْزِمِ
الْمَسْأَلَةَ) ، وَلا يَقُولَنَّ: (اللَّهُمَّ إِنْ
شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ) . /
34 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. قال المؤلف: فيه دليل
أنه ينبغى للمؤمن أن يجتهد فى الدعاء ويكون على رجاء من
الإجابة ولا يقنط من رحمه الله؛ لأنه يدعو كريمًا، فبذلك
تواترت الآثار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، روى شعبة
عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي - عليه السلام -
قال: (إذا دعا أحدكم فلا يقولن: اللهم إن شئت فأعطنى، ولكن
ليعظم رغبته، فإن الله تعالى لا يتعاظم عليه شىء أعطاه،
قال: قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا
دعاني، فإن تقرب منى شبرًا تقربت منه ذراعًا. . .) الحديث.
وروى أبو عاصم عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن
النبي - عليه السلام - قال: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو
حسن الظن بالله تعالى) . وقال ابن مسعود: والله الذى لا
إله إلا هو ما أعطى عبد مؤمن قط شيئًا خير من حسن الظن
بالله. والله الذى لا إله إلا هو لا يحسن عبد الظن إلا
أعطاه الله ظنه، وذلك أن الخير فى يديه. وقال سفيان بن
عيينة: لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه،
(10/99)
فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق
إبليس) قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ
إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ) [الأعراف: 14، 15] .
- باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ،
يَقُولُ: دَعَوْتُ، فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِى) . قال بعض
العلماء: قوله: (ما لم يعجل) يعنى يسأم الدعاء ويتركه
فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان يستحق
به الإجابة، فيصير كالمبخل لربّ كريم، لا تعجزه الإجابة،
ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب. وروى ابن وهب، عن
معاوية، عن ربيعة بن يزيد، عن أبى إدريس الخولانى، عن أبى
هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يزال
يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل.
قيل: يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد
دعوت، فلم يستجب لى، فيستحسر عند ذلك أو يدع الدعاء) .
وقال أبو هريرة: (مرةً يقول: لقد دعوت فما استجاب، أو ما
أغنيت شيئًا) . وقالت عائشة فى هذا الحديث: (ما لم يعجل أو
يقنط) . وقال بعضهم: إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من
الدعاء نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء،
ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله، والسؤال
منه، والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة
الرق، والانقياد للأمر والنهي
(10/100)
والاستسلام لربّه تعالى بالذّلة والخشوع،
فإن الله تعالى يحب الإلحاح فى الدعاء. وقال بعض السلف:
لأنا أشد خشيةً أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وذلك
أن الله تعالى يقول: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:
60] فقد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة وهو لا يخلف الميعاد،
وروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : (ما من داع يدعو إلا
كان بين إحدى ثلاث، إما أن يستجاب له، وإمّا أن يدخر له،
وإما أن يكفر عنه) . ففى هذا الحديث دليل أن الدعاء مجاب
إما معجلاً وإما مؤخرًا. وقد روى عن قتادة أنه قال: إنما
يجاب من الدعاء ما وافق القدر؛ لأن النبى (صلى الله عليه
وسلم) قد دعا ألا يجعل الله بأس أمته بينهم فمنعها، لما
سبق فى علم الله وقدره من كون الاختلاف والبأس بينهم.
- بَاب رَفْعِ الأيْدِى فِى الدُّعَاءِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ
إِبْطَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى
أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) . / 36 - وفيه:
أَنَس، أَنّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) رَفَعَ
يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. قال الطبرى:
اختلف الناس فى رفع اليدين فى الدعاء فى غير الصلاة، فكان
بعضهم يختار إذا دعا الله تعالى فى حاجته أن يشير
(10/101)
بأصبعه السباّبة، ويقول ذلك الإخلاص ويكره
رفع اليدين. ذكر من قال ذلك: روى شعبة وعبثر وخالد عن
حصين، عن عمارة بن روبية: (أنه رأى بشر بن مروان رافعًا
يديه على المنبر، فسبَّه وقال: لقد رأيت رسول الله لا يزيد
على هذا يعنى أن يشير بالسبّابة) . وروى سعيد عن قتادة
قال: رأى ابن عمر قومًا رفعوا أيديهم، فقال: من يتناول
هؤلاء فوالله لو كانوا على رأس أطول جبل ما ازدادوا من
الله قربًا. وكرهه جبير بن مطعم، ورأى شريح رجلاً رافعًا
يديه يدعو، فقال: من تتناول بها، لا أمّ لك. وقال مسروق
لقوم رفعوا أيديهم: قد رفعوها قطعها الله. وكره ابن المسيب
رفع الأيدى والصّوت فى الدعاء، وكان قتادة يشير بأصبعيه
ولا يرفع يديه، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يدعو رافعًا يديه
فقال: ليس فى ديننا تكفير. واعتلوا بحديث عمارة بن روبية
المتقدّم. وكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما، ثم
يختلفون فى صفة رفعهما، حذو صدره بطونهما إلى وجهه، روى
ذلك عن ابن عمر، وقال ابن عباس إذا رفع يديه حذو صدره فهو
الدعاء. وكان على بن أبى طالب يدعو بباطن كفيه، وعن أنس
مثله، واحتجوا بما رواه صالح بن كيسان عن محمد بن كعب
القرظى، عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال:
(إذا سألتم الله تعالى فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه
بظهورها، وامسحوا بها وجوهكم) . وكان آخرون يختارون رفع
أيديهم إلى وجوههم، روى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير،
واعتلوا بما رواه حماد بن سلمة عن بشر بن حرب قال: سمعت
أبا سعيد الخدرى يقول: (وقف رسول الله بعرفة، فجعل يدعو،
وجعل ظهر كفيه مما يلى وجهه ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من
منكبيه) .
(10/102)
وكان آخرون يختارون رفع أيديهم حتى يحاذوا
بها وجوههم وظهورها مما يلى وجوههم، وروى يحيى بن سعيد عن
القاسم قال: رأيت ابن عمرو بن العاص يرفع يديه يدعو حتى
يحاذى منكبيه ظاهرهما يليانه. وعن ابن عباس قال: إذا أشار
أحدكم بأصبع واحدة فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدره
فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه، وظاهرهما
يلى وجهه فهو الابتهال. واحتجوا بحديث أبى موسى وابن عمر
وأنس: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يرفع يديه فى
الدعاء حتى يرى بياض إبطيه) . قال الطبرى: والصواب أن يقال
إن كل هذه الآثار المروية عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
متفقة غير مختلفة المعانى، وللعمل بكل ذلك وجه صحيح، فأمّا
الدعاء بالإشارة بالأصبع الواحدة، فكما قال ابن عباس أنه
الإخلاص، والدعاء بسط اليدين، والابتهال رفعهما، وقد حدثنى
محمد بن خالد بن خراش قال: حدثنى مسلم عن عمر بن نبهان، عن
قتادة، عن أنس قال: (رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو
بظهر كفيه وبباطنهما) . وجائز أن يكون ذلك كان من النبى
لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس، وجائز أن يكون
إعلامًا منه بسعة الأمر فى ذلك، وأن لهم فعل أى ذلك شاءوا
فى حال دعائهم، غير أن أحبّ الأمر فى ذلك إلىّ أن يكون
اختلاف هيئة الداعى على قدر اختلاف حاجته، وأما الاستعاذة
والاستجارة، فأحب الهيئات إلى فيهما هيئة المبتهل؛ لأنها
أشبه بهيئة المستخبر، وقد قال شهر بن حوشب: المسألة ببطن
الكفين، والتعوذ مثل التكبير إذا افتتح الصلاة.
(10/103)
فإن قال: فقد جعلت للداعى رفع يديه فى كل
حال فما أنت قائل فيما روى يزيد بن زريع، حدثنا سعيد بن
أبى عروبة، عن قتادة، أن أنس بن مالك حدثه: (أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) كان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا
عند الاستسقاء، فأنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه. قيل:
قد روى ابن جريج، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) أنه قال: (لا ترفع الأيدى إلا فى سبعة
مواطن فى بدء الصلاة، وإذا رأيت البيت، وعلى الصفا
والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين) . وهذا مخالف
لحديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة، وقد ثبت عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) رفع الأيدى فى الدعاء مطلقًا من وجوه.
منها: حديث أبى موسى وابن عمر وأنس من طرق أثبت من حديث
سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن أنس، وذلك أن سعيد بن أبى
عروبة كان قد تغير عقله وحاله فى آخر عمره، وقد خالفه شعبة
قى روايته عن قتادة، عن أنس فقال فيه: (كان رسول الله يرفع
يديه حتى يُرى بياض إبطيه) . ولا شك أن شعبة أثبت من سعيد
بن أبى عروبة. وحدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبى عدى
عن جعفر بن ميمون صاحب الأنماط عن أبى عثمان، عن سلمان
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن ربكم حيى
كريم يستحى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا) .
فإن قيل: قد روى عن عطاء وجابر وطاوس ومجاهد أنهم كرهوا
رفع الأيدى فى دبر الصلاة قائمًا. قيل: يمكن أن يكون ذلك
إذا لم ينزل بالمسلمين نازلة يحتاجوا معها إلى الاستعانة
إلى الله تعالى بالتضرع والاستكانة، فالقول كما قال عطاء
وطاوس ومجاهد، وإن نزلت بهم نازلة احتاجوا معها إلى
الاستعانة إلى الله بالتضرع والاستكانة لكشفها عنهم، فرفع
الأيدى عند مالك حسن وجميل.
(10/104)
- باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ
الْقِبْلَةِ
(1) / 37 - فيه: أَنَس، بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. . .
الحديث. الدعاء حسن كيفما تيسر للمؤمنين على جميع أحوالهم،
ألا ترى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران:
191] فمدحهم الله تعالى ولم يشترط فى ذلك حالةً دون حالة،
ولذلك دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى خطبته يوم الجمعة
وهو غير مستقبل القبلة.
- باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
/ 38 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، خَرَجَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى
يَسْتَسْقِى، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. فإن قال قائل: ليس فى هذا
الحديث الدعاء إلا قبل استقبال النبى (صلى الله عليه وسلم)
القبلة لقوله: (فدعا ثم استقبل القبلة) فكيف ترجم له باب
الدعاء مستقبل القبلة؟ قيل: إنما أشار البخارى إلى الحديث
ليدل على المعنى المعروف منه، فقد جاء هذا الحديث فى كتاب
الاستسقاء فى باب كيف حوّل النبى (صلى الله عليه وسلم)
ظهره إلى الناس، وقال فيه: (واستقبل القبلة يدعو، ثم حول
رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما) .
(10/105)
- باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه
وسلم) لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَكَثْرَةِ مَالِهِ
/ 39 - فيه: أَنَس، قَالَتْ أُمِّى للنَّبِيّ (صلى الله
عليه وسلم) : خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ:
(اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ
فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) . وترجم له بعد هذا باب الدعاء وكثرة
المال مع البركة، وباب الدعاء بكثرة الولد مع البركة. فإن
قال قائل: كيف ترجم البخارى فى هذا الحديث باب دعوة النبى
(صلى الله عليه وسلم) لخادمه بطول العمر، وإنما فى الحديث
(اللهم أكثر ماله وولده) . وليس فيه وطول عمره؟ قيل: يحتمل
أن يكون ذلك من دليل الحديث من موضعين: أحدهما: أن دعوته
(صلى الله عليه وسلم) له بكثرة الولد يدل على أن ذلك لا
يكون إلا فى كثير من السنين، فدعاؤه له بكثرة الولد دعاء
له بطول العمر، والثانى: قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(وبارك له فيما أعطيته) ، فالعمر مما أعطاه الله هذا الوجه
للمهلب. فإن قيل: فما معنى دعائه له بطول العمر، وقد علم
(صلى الله عليه وسلم) أن الآجال لا يزاد فيها ولا ينقص
منها على ما كتب فى بطن أمّه؟ قيل: معنى ذلك والله أعلم أن
الله تعالى يكتب أجل عبده إن أطاع الله واتقاه فيكون عمره
مدة كذا، فإن لم يطع الله وعصاه كان أجله أقل منها. يدل
على صحة ذلك قوله عز وجل فى قصة نوح حين قال لقومه:
(اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ
لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى) [نوح: 3، 4] ، يريد أجلاً قد قضى به لكم إن
أطعتم، فإن عصيتم لم يؤخركم إلى ذلك الأجل، وكل قد سبق فى
علم الله مقدار أجله على ما يكون من فعله، قال ابن قتيبة:
ومثله ما روي أن
(10/106)
الصدقة تدفع القضاء المبرم، وأن الدعاء
يدفع البلاء، وقد ثبت أنه لا راد لقضاء الله، ومعنى ذلك أن
المرء قد يستحق بالذنوب قضاءً من العقوبة، فإن هو تصدّق
دفع عن نفسه ما استحق من ذلك، يدل على ذلك قوله: (إن صدقة
السر تطفئ غضب الرب) ألا ترى أن من غضبَ الله عليه قد تعرض
لعقابه، فإذا زال ذلك الغضب بالصدقة زال العقاب، وكذلك
الدعاء يرتفع إلى الله تعالى فيوافق البلاء نازلاً من
السماء فيزيله ويصرفه، وكل ذلك قد جرى به القلم فى علم
الله تعالى أنه إن تصدق أو دعا، صرف عنه غضب الله وبلاؤه،
وفى هذا الحديث حجة لمن قال. الغنى أفضل من الفقر، وهى
مسألة اختلف الناس فيها قديمًا، وسيأتى الكلام فيها فى
موضعها فى كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.
- باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ
/ 40 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِيُّ - عليه السلام
- يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) . /
41 - وَقَالَ مرةً: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ
الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ
وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . قال
المؤلف: وقد روى هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - علي
بن أبي
(10/107)
طالب بزيادة واختلاف فى لفظه ذكر ابن أبى
شيبة من حديث أبى إسحاق عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله
بن سلمة، عن على قال: (قال لى رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك مع أنه
مغفور لك: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله
العلى العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش
العظيم، الحمد لله رب العالمين) . قال الطبرى: وكان السلف
يدعون بهذا الدعاء، قال أبو أيوب: كتب إليه أبو قلابة
بدعاء الكرب، وأمره أن يعلمه ابنه. فإن قال قائل: فإن دعاء
الكرب إنما هو تهليل وتعظيم لله، فما معنى قول ابن عباس
كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو بدعاء الكرب وتسمية
السلف له بذلك؟ قيل: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقدم هذا
التهليل قبل الدعاء، ثم يدعو بعده بما أراد على ما روى
حماد بن سلمة، عن يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أبى
العالية، عن ابن عباس: (إن رسول الله كان إذا حزبه أمر
قال: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب
العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات السبع وربّ
العرش الكريم، ثم يدعو) . ويبين هذا المعنى ما روى الأعمش
عن النخعى قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل
الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على
الرجاء. وقد نبه على ذلك المعنى ابن مسعود فقال: إذا خشيتم
من أمير ظلمًا فقولوا: اللهم ربّ السماوات السبع
(10/108)
وربّ العرش العظيم كن لى جارًا من فلان
وأشياعه من الجن والإنس وأن يفرطوا علىّ وأن يطغوا، عزّ
جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك، فإنه لا يصل إليكم منه شىء
تكرهونه. والمعنى الثانى: ما روى عن حسين المروزى قال:
سألت ابن عيينة ما كان أكثر قول النبى (صلى الله عليه
وسلم) بعرفة؟ فقال: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد
لله، والله أكبر ولله الحمد، ثم قال لى سفيان: إنما هو ذكر
وليس فيه دعاء ثم قال لى: أما علمت قول الله حيث يقول: إذا
شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى
السائلين؟ قلت: نعم، حدثتنى أنت وابن مهدى بذلك عن منصور
ابن المعتمر، عن مالك بن الحارث، ثم قال سفيان: أما علمت
قول أميّة بن أبى الصلت حين أتى ابن جدعان يطلبه نائلة
وفضله؟ قلت: لا. قال: قال أمية: أأطلب حاجتى أم قد كفانى
إذا أثنى عليك المرء يومًا غناؤك إن شيمتك الحياء كفاه من
تعرضك الثناء قال سفيان: هذا مخلوق حين نسب إلى أن يكتفى
بالثناء عليه دون مسألته، فكيف بالخالق؟ . قال المؤلف:
وحدثنى أبو بكر الرازى قال: كنت بأصبهان عند الشيخ أبى
نعيم أكتب عنه الحديث، وكان هناك شيخ آخر يعرف بأبى بكر بن
على، وكان عليه مدار الفتيا، فحسده بعض أهل البلد فبغَّاه
عند السلطان، فأمر بسجنه، وكان ذلك فى شهر رمضان، قال أبو
(10/109)
بكر: فرأيت النبي - عليه السلام - فى
المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه لا يفتر من التسبيح،
فقال لى النبي - عليه السلام -: قل لأبى بكر بن على: يدعو
بدعاء الكرب الذى فى صحيح البخارى حتى يفرج الله عنه،
فأصبحت فأتيت إليه وأخبرته بالرؤيا، فدعا به فما بقى إلا
قليلاً حتى أخرج من السجن. ففى هذه الرؤيا شهادة النبى
(صلى الله عليه وسلم) لكتاب البخارى بالصحة بحضرة جبريل
(صلى الله عليه وسلم) والشيطان لا يتصور بصورة النبى فى
المنام.
- باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ
/ 42 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ
الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ.
قال المؤلف: كل ما أصاب الإنسان من شدّة المشقّة والجهد
مما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه عن نفسه فهو من
جهد البلاء، وروى عن ابن عمر أنه سُئل عن جهد البلاء،
فقال: قله المال وكثرة العيال. ودرك الشقاء ينقسم قسمين
فيكون فى أمور الدنيا وفى أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء
وهو عام أيضًا فى النفس والمال والأهل والخاتمة والمعاد.
وشماتة الأعداء مما ينكأ القلب، ويبلغ من النفس أشد مبلغ،
وهذه جوامع ينبغى للمؤمن التعوذ بالله منها كما تعوذ النبى
(صلى الله عليه وسلم) ، وإنما دعا بذلك (صلى الله عليه
وسلم) معلمًا لأمته ما يتعوّذ بالله منه، فقد كان أمنه
الله من كل سوء، وذكر عن أيوب صلى الله عليه أنه سئل عن أى
حال بلائه كان أشدّ عليه؟ قال: شماتة الأعداء. أعاذنا الله
من جميع ذلك بمنّه وفضله.
(10/110)
- باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ
/ 43 - فيه: خَبَّاب، أَنَّهُ اكْتَوَى سَبْعًا، قَالَ:
لَوْلا أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَانَا
أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ. / 44 - وفيه:
أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌكم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ،
فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ،
فَلْيَقُلِ، اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ
خَيْرًا لِى، وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ
خَيْرًا لِى) . معنى هذين الحديثين على الخصوص، وقد بين
(صلى الله عليه وسلم) ذلك فى الحديث فقال: (لا يتمنين
أحدكم الموت لضرّ نزل به) . فقد يكون له فى ذلك الضرّ خير
لدينه ودنياه، إما تمحيص لذنوب سلفت له وطهور من سيئات،
كما قال (صلى الله عليه وسلم) للشيخ الذى زاره فى مرضه وقد
أصابته الحمىّ فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا بأس طهور
إن شاء الله) . وقد يكون له فى المرض منافع، منها: أن يكون
المرض سببًا إلى امتناعه من سيئات كان يعملها لو كان
صحيحًا، أو بلاء يندفع عنه فى نفسه وماله، فالله أنظر
لعبده المؤمن فينبغى له الرضا عن الله تعالى فى مرضه وصحته
ولا يتهم قدره، ويعلم أنه أنظر له من نفسه، ولا يسأله
الوفاة عند ضيق نفسه بمرضه أو تعذّر أمور دنياه عليه. وقد
جاء وجه سؤال الموت فيه مباح، وهو خوف فتنة تكون سببًا
لإتلاف الدين، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (وإذا أردت
بقومٍ فتنةً فاقبضنى إليك غير مفتون) . وجه آخر وهو عند
خوف المؤمن أن يضعف عن القيام بما قلده
(10/111)
الله كما قال عمر: اللهم كبرت سنى وضعفت
قوتى وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط. فخشى
عمر رضى الله عنه أن يطول عمره ويزيد ضعفه، ولا يقدر على
القيام بما قلده الله وألزمه القيام به من أمور رعيته،
وكان سنه حين دعا بذلك ستين سنةً أو نحوها، وكذلك فعل عمر
بن عبد العزيز إذ سأل لنفسه الوفاة وسنّة فى الأربعين
حرصًا على السلامة من التغيير، فهذان الوجهان مباح أن يسأل
فيهما الموت، وقد تقدّم فى كتاب المرضى فى باب تمنى المريض
الموت.
- باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ
رُءُوسِهِمْ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وُلِدَ لِى غُلامٌ فَدَعَا
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) له بِالْبَرَكَةِ. / 45 -
وفيه: السَّائِب، ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى،
وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ. . . الحديث. / 46 - وفيه:
أَبُو عُقَيْل، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ،
عَبْدُاللَّهِ بْنُ هِشَامٍ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ،
فَيَلْقَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ،
فَيَقُولانِ له: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى
الله عليه وسلم) قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ،
فَيُشْرِكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا
هِىَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ. / 47 - وفيه:
مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الَّذِى مَجَّ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجْهِهِ وَهُوَ
غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. / 48 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ:
كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى
بِالصِّبْيَانِ، فَيَدْعُو لَهُمْ. فيه: الذهاب بالصبيان
إلى الصالحين وسؤالهم الدعاء لهم بالبركة، ومسح رءوسهم
تفاؤلاً لهم بذلك وتبركًا بدعائهم، وفي حديث
(10/112)
محمود بن الربيع مداعبة الأئمة وأهل الفضل
للصبيان، وأن ذلك من أخلاق الصالحين، وفى حديث أبى عقيل
رغبة السلف الصالح فى الربح الحلال، وحرصهم على بركة
التجارة، وأنهم كانوا يتحرّفون فى التجارات ويسعون فى طلب
الرزق ليستغنوا بذلك عن الحاجة إلى الناس، ولا يكونوا
عالةً ولا كلاً على غيرهم.
- باب الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
/ 49 - فيه: كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ،
فَكَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ
صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا
صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ،
إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) . / 50 - فيه: عَن أَبِى سَعِيدٍ
الْخُدْرِىِّ نحوه. اختلف العلماء فى الصلاة على النبى هل
هى فرض أم لا؟ فذهب جمهور العلماء إلى أنها ليست بفرض فى
الصلاة، وذكر ابن القصار عن ابن المواز أنها واجبة، قال:
والمشهور عن أصحابنا أنها واجبة فى الجملة على الإنسان أن
يأتى بالشهادتين مرةً فى دهره مع القدرة عليه، وشذّ
الشافعي فزعم أن ذلك فرض فى الصلاة، واحتج بحديث كعب بن
عجرة، رواه عن إبراهيم بن محمد عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن
عجرة، وفى حديثه: (وذلك فى الصلاة) . قال الطحاوي: وكان من
حجة من خالفه عليه أن إبراهيم بن محمد
(10/113)
ليس ممن يحتج بحديثه، ولو ثبت حديثه هذا لم
يكن فيه دليل أن ذلك فرض؛ لأنا قد وجدنا مثل ذلك عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) من آى القرآن ومن الأمر منه أن يجعل
ذلك فى الصلاة، فلم يكن مراده ذلك الفرض، وهو حديث عقبة بن
عامر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (أنه لما نزل:
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 74] ،
قال: اجعلوها فى ركوعكم، ولما نزلت: (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى: 1] قال: اجعلوها فى سجودكم،
وكان من ترك التسبيح فى الركوع والسجود غير مفسد لصلاته،
وكذلك روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه علمهم التشهد
فى الصلاة، وليس منه الصلاة على النبى (صلى الله عليه
وسلم) وقد تقدّم ذلك فى كتاب الصلاة فانتفى أن يكون على
المصلى فرض غير ما علمه النبى (صلى الله عليه وسلم) ودل
ذلك أن قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56] على
الندب، لا على الفرض، ونحو هذا ذكر الطبرى، وقال: الصلاة
على النبى (صلى الله عليه وسلم) ندب وفضل فى كل حال، وعلى
هذا تأويل هذه الآية.
30 - باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم)
وقوله تَعَالَى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103] / 50 - فيه: ابْن أَبِى
أَوْفَى، قَالَ: كَانَ إِذَا جَاء رَجُلٌ بِصَدَقَتِهِ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ
عَلَيْهِ) ، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ:
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . / 52 -
وفيه: أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي
(10/114)
عَلَيْكَ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ
صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ،
كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ
عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) . قال
الضحاك: صلاة الله: رحمته، وصلاة الملائكة: الدعاء،
والصلاة على غير النبى (صلى الله عليه وسلم) جائزة بدليل
الكتاب والسنة، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى
على من أتاه بصدقته، وفى حديث أبى حميد أمر بالصّلاة على
أزواجه وذريته وأزواجه من غير نسبة وهذا الباب رد لقول من
أنكر الصلاة على غير النبى (صلى الله عليه وسلم) . وروى
ابن أبى شيبة قال: حدثنا هشيم حدثنا عثمان بن حكيم، عن
عكرمة عن ابن عباس قال: ما أعلم الصلاة تنبغى من أحد على
أحد إلا على النبى (صلى الله عليه وسلم) والحجة فى السنة
لا فيما خالفها.
31 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ
آذَيْتُهُ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً
/ 53 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ، فَأَيُّمَا
مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً
إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . هذا الحديث يصدقه ما ذكره
الله تعالى فى كتابه من صفة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فى
قوله: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] وهو
(صلى الله عليه وسلم) لا يسبّ أحدًا ولا يؤذيه ظلمًا له،
وإنما يفعل من ذلك الواجب فى شريعته،
(10/115)
وقد يدع الانتقام لنفسه، لما جبله الله
عليه من العفو وكريم الخلق صلى الله عليه ومعنى هذا الحديث
والله أعلم، التأنيس للمسبوب لئلا يستولى عليه الشيطان،
ويقنطه ويوقع بنفسه أن سيلحقه من ضرر سبّه ما يحبط به عمله
إذا سبّه (صلى الله عليه وسلم) هو دعاء على المسبوب،
ودعاؤه مجاب، فسأل الله أن يجعل سبّه للمؤمنين قربة عنده
يوم القيامة وصلاةً ورحمةً، ولا يجعله نقمةً ولا عذابًا.
32 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ
/ 54 - فيه:. أَنَس، سُئل النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ، فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (لا تَسْأَلُونِى الْيَوْمَ عَنْ
شَىْءٍ إِلا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ) ، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ
لافٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَإِذَا رَجُلٌ
كَانَ إِذَا لاحَى الرِّجَالَ، يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ،
فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:
(حُذَافَةُ) . . . وذكر الحديث إلى قول عُمر: (نَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) . وقد تقدم فى كتاب الفتن.
33 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا
وَالْمَمَاتِ
55 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ
وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ،
وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ
مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)
(10/116)
/.
34 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
/ 56 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ
مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ،
وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ
فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ
فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ
الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ
الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّى خَطَايَاىَ
بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ
الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ
الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا
بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) . وترجم له
باب الاستعاذة من فتنة الغنى، وترجم له باب الاستعاذة من
فتنة الفقر، وترجم لحديث أنس باب الاستعاذة من الجبن
والكسل وفيه: اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن والبخل،
وضلع الدين وغلبة الرجال) . وترجم له باب التعوذ من البخل
وفيه سعد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنى أعوذ بك من
البخل والجبن، وأعوذ بك من الرد إلى أرذل العمر) ، وترجم
له ولحديث عائشة باب الاستعاذة من أرذل العمر، وترجم لحديث
أنس باب التعوذ من أرذل العمر، وفيه: (أعوذ بك من الهرم) .
قال المؤلف: جميع أبواب الاستعاذة التى ترجم بها تدل
آثارها على أنه ينبغى سؤال الله والرغبة إليه فى كل ما
ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعيّن كل ما يدعو فيه، ففى ذلك
إطالةُ الرغبة إلى الله تعالى والتضرع إليه وذلك طاعة الله
تعالى، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يتعوذ بالله من كل
ذلك ويعينه باسمه، وإن كان الله قد عصمه
(10/117)
من كل شر، ليلزم نفسه خوف الله تعالى
وإعظامه، وليسُنّ ذلك لأمته ويعلمهم كيف الاستعاذة من كل
شىء، وقد روى ثابت البنانى عن أنس قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) : (ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى
يسأله شسع نعله إذا انقطع) . ليستشعر العبد الافتقار إلى
ربه فى كل أمر وإن دق ولا يستحيى من سؤاله ذلك، فالتعوذ من
فتنة المحيا والممات دعاء جامع لمعان كثيرة لا تُحصى وكذلك
التعوذ من المأثم والمغرم، روى عن عائشة: (أن رجلاً قال
للنبى (صلى الله عليه وسلم) ما أكثر ما تستعيذ من المأثم
والمغرم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن الرجل
إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف) . وضلع الدين: هو الذى لا
يجد دينه من حيث يؤديه، وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع
أى: ثقيل، ودابة مضلع: لا تقوى على الحمل، عن صاحب العين،
فمن كان هكذا فلا محالة أنه يؤكد ذلك عليه الكذب فى حديثه،
والخلف فى وعده. قال الطبرى: فإن قال قائل: فإذا قد صح
تعوّذ النبى (صلى الله عليه وسلم) من المغرم، فما أنت قائل
فى ما روى جعفر بن محمد عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله مع الدائن
حتى يقضى دينه، ما لم يكن فيما كره الله عز وجل) . وكان
عبد الله بن جعفر يقول: اذهب فخذ لى بدين، فإنى أكره أن
أبيت ليلة إلا والله معى بعد ما سمعت من رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) . قيل: كلا الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما
دفع
(10/118)
للآخر فأما قوله - عليه السلام -: (إن الله
مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى)
. فهو المستدين الذى ينوى قضاء دينه، وعنده فى الأغلب ما
يقضيه فالله تعالى فى عونه على قضائه، وأما المغرم الذى
استعاذ منه (صلى الله عليه وسلم) ، فإنه الدين الذى استدين
على أحد ثلاثة أوجه: إما فيما يكرهه الله ولا يجد سبيلاً
إلى قضائه فحق الله تعالى أن يؤديه، ومستدين فيما لا
يكرهه؛ ولكنه لا وجه عنده لقضائه إن طالب به صاحبه، فهو
معرض لهلاك أموال الناس ومتلف لها، ومستدين له إلى القضاء
سبيل؛ غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاص لربه
وظالم لنفسه، فكل هؤلاء فى القضاء مخلفون وفى حديثهم
كاذبون. فكان معلومًا بذلك أن الحال التى كره (صلى الله
عليه وسلم) الدين فيها غير الحال التى ترخص لنفسه فيها،
وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) مات ودرعه رهن عند يهودى
بعشرين صاعًا من شعير، وأما فتنة الغنى فيخشى منها بطر
المال وما يئول من عواقب الإسراف فى إنفاقه، وبذله فيما لا
ينبغى، ومنع حقوق الله فيه، ففتنة الغنى متشعبة إلى ما لا
يحصى عده، وكذلك فتنة الفقر يخشى منها قلة الصبر على
الإقلال والتسخط له وتزيين الشيطان للمرء حال الغنى وما
يئول من عاقبة ذلك لضعف البشرية، وكذلك الاستعاذة من العجز
والكسل لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله وحقوق نفسه
وأهله، وتضييع النظر فى أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمر
المؤمن بالاجتهاد فى العمل والإجمال فى الطلب ولا
(10/119)
يكون عالةً ولا عيالاً على غيره ما متّع
بصحة جوارحه وعقله، وكذلك الجبن مهانة فى النفس وذلة، ولا
ينبغى للمؤمن أن يكون ذليلاً بالإيمان ولزوم طاعة الله
التى تؤدى إلى النعيم المقيم، فينبغى للمؤمن أن يكثر
التعوّذ من ذلك والهرم هو أرذل العمر الذى ينتهى بصاحبه
إلى الخوف وذهاب العقل، فيعود العالم جاهلاً ويصير إلى حال
من لا تمييز له، ولا يقدر على أداء ما يلزمه من حقوق الله
وحاجة نفسه، ومثل هذا خشى عمر رضى الله عنه حين قال: اللهم
كبرت سنى، وضعفت قوتى، وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير
مفرط ولا مضيّع. وكان سنه حينئذ فيما قال مالك ستين سنةً،
وقيل: خمس وخمسين. فخشى، رضى الله عنه، مزيد ضعفه فيضيع
مما قلده الله شيئًا، ومن متّعه الله بصحة لم يزده طول
العمر إلا خيرًا يستكثر من الحسنات ويستعتب من السيئات،
وكذلك الهم والحزن لا ينبغى للمؤمن أن يكون مهمومًا بشىء
من أمور الدنيا، فإن الله تعالى قد قدّر الأمور فأحكمها
وقدّر الأرزاق، فلا يجلب الهم للعبد فى الدنيا خيرًا، ولا
يأتيه بما لم يقدر له، وفى طول الهم قلة رضًا بقدر الله
وسخطه على ربّه. وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم
رضنى بالقضاء، وحّبب إلىّ القدر حتى لا أحب تقديم ما أخرت
ولا تأخير ما قدّمت. ومن آمن بالقدر فلا ينبغى له أن يهتم
على شىء فاته من الدنيا ولا يتهم، ربّه ففيما قضى له
الخيرة، وإنما ينبغى للعبد الاهتمام بأمر الآخرة ويفكر فى
معاده وعرضه على ربه، وكيف ينجو من سؤاله عن الفتيل
والقطمير ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (لو تعلمون ما
أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) . فهاهنا يحسن الهم
والبكاء.
(10/120)
وغلبة الرجال أشد من الموت؛ لأن المغلوب
يصير كالعبد لمن غلبه وقهره، وكذلك البخل استعاذ منه -
عليه السلام - لقوله تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9] ، وقال -
عليه السلام -: (وأى داء أدوى من البخل) . ومعنى ذلك أن
البخيل يمنع حقوق الله، وحقوق الآدميين، ويمنع معروفه
ورفده، ويسئ عشرة أهله وأقاربه. قال الطبرى: فإن قال قائل:
قد دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمفصّلات والجوامع،
وكان السلف يستحبون الدعاء إلى الله تعالى بالجوامع كنحو
الرغبة فى العفو والعافية، والمعافاة فى الدنيا والآخرة
اكتفاءً منهم بعلم الله بموضع حاجتهم ومبلغا. قيل: لكل نوع
من ذلك حالة يختار العمل به فيها على الآخر فالجوامع تحتاج
فى حال الحاجة إلى الإنجاز والاقتصاد، والمفصلات بالأسماء
والصفات فى حالة الحاجة إلى إدامة الرغبة إلى من بيده
مفاتيح خزائن السماوات والأرض استفتاحًا بذلك مغاليقها،
وقد دعا (صلى الله عليه وسلم) بكل ذلك فى مواضعه.
35 - بَاب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ
/ 57 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ
كَحبنا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى
الْجُحْفَةِ) . / 58 - وفيه: سعد، عَادَنِى رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ
شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْها عَلَى الْمَوْتِ. . . وذكر
الحديث.
(10/121)
لم يذكر فى حديث سعد فى هذا الباب دعاء
النبى (صلى الله عليه وسلم) له برفع الوجع، وذكر فى كتاب
المرضى، فى باب دعاء العائد للمريض وقال فيه: (اللهم اشف
سعدًا) . وفى دعائه (صلى الله عليه وسلم) برفع الوباء
والوجع رد على من زعم أن الولى لا يكره شيئًا مما قضى الله
عليه، ولا يسأله كشفه عنه، ومن فعل ذلك لم تصح له ولاية
الله، ولا خفاء بسقوط هذا لأنه قال: (اللهم حّبب إلينا
المدينة وانقل حماها) . فدعا بنقل الحمى عن المدينة، ومن
فيها، وهو (صلى الله عليه وسلم) داخل فى تلك الدعوة، ولا
توكل أحد يبلغ توكله، فلا معنى لقولهم، وقد استقصيت هذا فى
كتاب الحج.
36 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الاسْتِخَارَةِ
/ 59 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا
كما يعلمنا السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذَا هَمَّ
بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ:
(اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ،
وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ
فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ،
وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ،
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ
خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى،
أَوْ قَالَ: فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ
لِى، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ
لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ
قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى
وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ وَرَضِّنِى
بِهِ، وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ) .
(10/122)
فقه هذا الحديث أنه يجب على المؤمن رد
الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها والتبرؤ من الحول
والقوة إليه، وينبغى له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور
وجليلها، حتى يستخير الله فيه ويسأله أن يحمله فيه على
الخير ويصرف عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه فى كل أمر
والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا باتباع سُنّة نبيّه
(صلى الله عليه وسلم) فى الاستخارة، ولذلك كان النبى (صلى
الله عليه وسلم) يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من
القرآن لشدة حاجتهم إلى الاستخارة فى الحالات كلها كشدّة
حاجتهم إلى القراءة فى كل الصلوات، وفى هذا الحديث حجة على
القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يخلق الشر، تعالى
الله عما يفترون، وقد أبان النبى (صلى الله عليه وسلم) فى
هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشر والخالق له؛ إذ
هو المدعو لصرفه عن العبد، ومحال أن يسأله العبد أن يصرف
عنه ما يملكه العبد من نفسه، وما يقدر على اختراعه دون
تقدير الله عليه، وسيأتى فى كتاب القدر.
37 - بَاب الْوُضُوءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ
/ 60 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: (دَعَا النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ
يَدَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى
عَامِرٍ) ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ:
(اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ
مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ) . قال المؤلف: فيه استعمال
الوضوء عند الدعاء، وعند ذكر الله، وذلك من كمال أحوال
الداعى والذاكر، ومما يرجى له به الإجابة لتعظيمه لله
تعالى وتنزيهه له حين لم يذكره إلا على طهارة،
(10/123)
ولهذا المعنى تيمّم النبي - عليه السلام -
بالجدار عند بئر جمل حين سلم عليه الرجل، وكذلك ردّ السلام
- عليه السلام - على حال تيمم، ولم يكن له سبيل إلى الوضوء
بالماء، وعلى هذا مضى - عليه السلام - ومضى سلف الأمة،
كانوا لا يفارقون حال الطهارة ما قدروا لكثرة ذكرهم لله
تعالى وكثرة تنفلهم، وقد روى عن ابن عباس أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) كان يبول ويتيمم، فأقول: (إن الماء قريب،
فيقول: لعلىّ لا أبلغه) . وفيه حجة لمن استحب رفع اليدين
فى الدعاء.
38 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا عَلا عَقَبَةً
وقد تقدم فى كتاب الجهاد.
39 - باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ
منه
وقد تقدم أيضًا فى الجهاد.
40 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ
وقد تقدم فى النكاح.
41 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ؟
وقد تقدم فى كتاب الوضوء
42 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) :
(رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً
/ 61 - فيه: أَنَس بن مالك، كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله
عليه وسلم) أَكْثَرُ مَا يدعو: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا
آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِى الآخِرَةِ
حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .
(10/124)
اختلف المفسرون فى تأويل هذه الآية، فقال
الحسن: الحسنة فى الدنيا العلم والعبادة، وفى الآخرة
الجنة. وقال قتادة: فى الدنيا عافية، وفى الآخرة عافية.
وقيل: الحسنة فى الدنيا المال، وفى الآخرة الجنة، عن
السدى.
43 - بَاب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ
/ 62 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ
أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّىْءَ، وَمَا صَنَعَهُ، فَدَعَا
رَبَّهُ، ودَعَا. . . وذكر الحديث. تكرير الدعاء عند حال
الحاجة إلى إدامة الرغبة لله تعالى فى المهمات والشدائد
النازلة بالعبد، وفى تكرير العبد الدعاء إظهار لموضع الفقر
والحاجة إلى الله والتذلل له والخضوع، وقد قال (صلى الله
عليه وسلم) : (إن الله يحب الملحّين فى الدعاء) ، وإن
(الدعاء هو العبادة) ، و (من لم يدع غضب الله عليه) . وقد
تقدم فى أول كتاب الدعاء، من حديث ابن عيينة: (أن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أوصى رجلاً، فقال: عليك بالدعاء،
فإنك لا تدرى متى يستجاب لك) .
44 - بَاب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام
-: (اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ
يُوسُفَ) ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ)
.
(10/125)
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَعَا النَّبِيُّ -
عليه السلام - فِي الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا
وَفُلانًا) ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] . / 63 - فيه: ابْنَ
أَبِى أَوْفَى، دَعَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
عَلَى الأحْزَابِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ
الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ،
اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) . / 64 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا
قَالَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِى الرَّكْعَةِ
الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ: اللَّهُمَّ
اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا
عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . / 65 - وفيه:
أَنَس، بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سَرِيَّةً
يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، فَأُصِيبُوا، فَمَا رَأَيْتُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَجَدَ عَلَى شَىْءٍ مَا
وَجَدَ عَلَيْهِمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا فِى صَلاةِ
الْفَجْرِ، وَيَقُولُ: (إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ) . / 66 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَتْ
الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَغضبت عَائِشَةُ،
رضى الله عنها، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ
وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ
فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقَالَتْ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ،
أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: (أَوَلَمْ
تَسْمَعِى أَنِّى أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ:
وَعَلَيْكُمْ) . / 67 - وفيه: عَلِىّ، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْخَنْدَقِ: (مَلأ اللَّهُ
قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ
صَلاةِ الْوُسْطَى) . قال المؤلف: قد تقدم هذا فى كتاب
الجهاد والاستسقاء، ونذكر هاهنا طرفًا من معناه، إنما كان
(صلى الله عليه وسلم) يدعو على المشركين على حسب ذنوبهم
وإجرامهم، فكان يبالغ فى الدعاء على من اشتدّ أذاه
للمسلمين، ألا ترى
(10/126)
أنه لما يئس من قومه قال: (اللهم أشدد
وطأتك على مضر واجعلها كسنى يوسف) . وقال مرةً: (اللهم
أعنّى عليهم بسبع كسبع يوسف) . ودعا على أبى جهل بالهلاك
ودعا على الأحزاب بالهزيمة والزلزلة، فأجاب الله دعاءه
فيهم، ودعا على الذين قتلوا القراء شهرًا فى القنوت، ودعا
على أهل الأحزاب أن يحرقهم الله فى بيوتهم وقبورهم، فبالغ
فى الدعاء عليهم لشدّة إجرامهم، ونهى عائشة عن الرد على
اليهود باللعنة وأمرها بالرفق فى المقارضة لهم، والرد
عليهم مثل قولهم ولم يبح لها الزيادة والتصريح، فيمكن أن
يكون كان ذلك منه (صلى الله عليه وسلم) على وجه التألف لهم
والطمع فى إسلامهم والله أعلم. وأما قوله فى حديث ابن عمر
حين لعن النبى (صلى الله عليه وسلم) المنافقين فى الصلاة
فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل
عمران: 128] فذهب بعض أهل التأويل أن هذه الآية ناسخة للعن
النبى (صلى الله عليه وسلم) المنافقين فى الصلاة والدعاء
عليهم، وأنه عوض من ذلك القنوت فى الصبح، رواه ابن وهب
وغيره. وأكثر العلماء على أن الآية ليست ناسخة ولا منسوخة،
وأن الدعاء على المشركين بالهلاك وغيره جائز لدعاء النبى
(صلى الله عليه وسلم) عليهم فى هذه الآثار المتواترة
الثابتة.
45 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ
/ 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنّ طُّفَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ - عليه السلام - فَقَالَ:
(10/127)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ
عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ
النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:
(اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ) . قد تقدّم هذا
الباب فى كتاب الجهاد، ونبه البخارى على معناه فى الترجمة
فقال: باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومر هناك.
46 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ
/ 69 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (رَبِّ اغْفِرْ
لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى
كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِى خَطَايَاىَ وَعَمْدِى وَجَهْلِى وَهَزْلِى،
وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا
قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا
أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ،
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) . قال الطبرى: إن
قال قائل: ما وجه دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) الله أن
يغفر له خطيئته وجهله وما تقدّم من ذنبه، وقد أعلمه الله
تعالى أنه قد غفر له ذلك كله، فما وجه سؤاله ربه مغفرة
ذنوبه، وهى مغفورة، وهل يجوز إن كان كذلك أن يسأل العبد
ربه أن يجعله من بنى آدم، وهو منهم، وأن يجعل له يدين
ورجلين وقد جعلهما له؟ فالجواب: أنه (صلى الله عليه وسلم)
كان يسأل ربه فى صلاته حين اقترب أجله، وبعد أن أنزل عليه:
(إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1]
ناعيًا إليه نفسه فقال له: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] .
وكان - عليه السلام - يقول:
(10/128)
(إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم
سبعين مرة) . فكان هذا من فعله فى آخر عمره وبعد فتح مكة،
وقد قال الله تعالى له: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] ،
باستغفارك منه، فلم يسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) أن
يغفر له ذنبًا قد غفر له، وإنما غفر له ذنبًا وعده مغفرته
له باستغفاره، ولذلك قال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] .
قال غير الطبرى: وقد اختلف العلماء فى الذنوب هل تجوز على
الأنبياء؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا تجوز عليهم
الكبائر لعصمتهم، وتجوز عليهم الصغائر. وذهبت المعتزلة إلى
أنه لا تجوز عليهم الصغائر كما لا تجوز عليهم الكبائر،
وتأولوا قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] ،
فقالوا: إنما غفر له تعالى ما يقع منه من سهو وغفلةٍ،
واجتهاد فى فعل خير لا يوافق به حقيقة ما عند ربه، فهذا هو
الذى غفر له، وسمّاه: ذنبًا؛ لأن صفته صفة الذنب المنهى
عنه، إلا أن ذلك تعمد، وهذا بغير قصد. هذا تأويل بعيد من
الصواب، وذلك أنه لو كان السهو والغفلة ذنوبًا للأنبياء
يجب عليهم الاستغفار منها؛ لكانوا أسوأ حالاً من سائر
الناس غيرهم؛ لأنه قد وردت السنة المجمع عليها أنه لا
يؤاخذ العباد بالخطأ والنسيان فلا يحتاجون إلى الاستغفار
من ذلك، وما لم يوجب عليهم الاستغفار فلا يسمى عند العرب
ذنبًا. فالنبى (صلى الله عليه وسلم) المخبر لنا بذلك عن
ربه أولى بأن يدخل مع أمته فى معنى ذلك، ولا يلزمه حكم
السهو والخطأ، وإنما يقع استغفاره (صلى الله عليه وسلم)
كفارة
(10/129)
للصغائر الجائزة عليه، وهى التى سأل الله
غفرانها له بقوله: (اغفر لى ما قدمت وما أخرت) . وسأذكر
هذه المسالة فى حديث الشفاعة فى باب قوله تعالى: (لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] فى كتاب الاعتصام إن شاء الله
تعالى؛ لأن الحديث يقتضى ذلك. وفيها قول آخر يحتمل والله
أعلم، أن يكون دعاؤه (صلى الله عليه وسلم) ليغفر الله له
ذنبه على وجه ملازمة الخضوع لله تعالى، واستصحاب حال
العبودية والاعتراف بالتقصير شكرًا لما أولاه ربه تعالى
مما لا سبيل له إلى مكافأة بعمل، فكما كان يصلى (صلى الله
عليه وسلم) حتى ترم قدماه، فيقال له: قد غفر الله لك ما
تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) .
فكان اجتهاده فى الدعاء، والاعتراف بالذلل والتقصير،
والأعواز والافتقار إلى الله تعالى شكرًا لربه، كما كان
اجتهاده في الصلاة حتى ترم قدماه شكرًا لربه، إذ الدعاء
لله تعالى من أعظم العبادة له، وليسُنّ ذلك لأمته (صلى
الله عليه وسلم) فيستشعروا الخوف والحذر ولا يركنوا إلى
الأمن، وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم لله تعالى، وقد رأيت
المحاسبى أشار إلى هذا المعنى، فقال: خوف الملائكة
والأنبياء لله تعالى هو خوف إعظام لأنهم آمنون فى أنفسهم
بأمان الله لهم، فخوفهم تعبد لله إجلالاً وإعظامًا.
47 - بَاب الدُّعَاءِ فِى السَّاعَةِ الَّتِى فِى يَوْمِ
الْجُمُعَةِ
قد تقدم فى كتاب الصلاة.
(10/130)
48 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام
-: (يُسْتَجَابُ لَنَا فِى الْيَهُودِ، وَلا يُسْتَجَابُ
لَهُمْ فِينَا
/ 70 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا
النَّبِيَّ - عليه السلام - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ،
قَالَ: (وَعَلَيْكُمْ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ
عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَهْلا
يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ
وَالْعُنْفَ، أَوِ الْفُحْشَ) ، قَالَتْ: أَوَلَمْ
تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا
قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ،
وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ) . قال المؤلف: معنى هذا
الحديث، والله أعلم، أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما يستجاب
له فى اليهود؛ لأنهم على غير طريق الحق وضالين عن الهدى،
ومعاندين فى التمادى على كفرهم بعدما تبين لهم الحق
بالآيات الباهرات، فلذلك يستجاب له فيهم، ولهذا المعنى لم
يستجب لهم فى النبى (صلى الله عليه وسلم) لأنهم ظالمون فى
دعائهم عليه، قال تعالى: (وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ
إِلاَّ فِى ضَلاَلٍ) [الرعد: 14] ، وهذا أصل فى دعاء
الظالم أنه لا يستجاب فيمن دعا عليه، وإنما يرتفع إلى الله
تعالى من الدعاء ما وافق الحق وسبيل الصدّق.
49 - بَاب فَضْلِ التَّهْلِيلِ
/ 71 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ فِى يَوْمٍ
مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ،
وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ
مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ
الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَلَمْ
يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلا رَجُلٌ عَمِلَ
أَكْثَرَ مِنْهُ) .
(10/131)
قال المؤلف: روى جابر بن عبد الله عن النبي
- عليه السلام - أنه قال: (أفضل الذكر التهليل لا إله إلا
الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال - عليه السلام -:
(أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله) .
وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم، وذكر الطبرى من حديث سعيد
بن أبى عروبة، عن عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن
عمرو بن العاص قال: (إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله
فهى كلمة الإخلاص التى لا يقبل الله عملاً حتى يقولها،
فإذا قال: الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله
أحد حتى يقولها) . وروى عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس
قال: (من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله
رب العالمين) . وقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أول من يدخل الجنة
الحمادون، الذين يحمدون الله فى السراء والضراء) وقال (صلى
الله عليه وسلم) : (من قال: أشهدك أن ما أصبح بى من نعمة
فمنك وحدك، لا شريك لك، لك الحمد والشكر، فقد أدى شكر ذلك
اليوم) وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا أتاه أمر يكرهه قال:
(الحمد لله على كل حال، وإذا رأى أمرًا يسره قال: الحمد
لله الذى بنعمته تتم الصالحات) .
50 - بَاب فَضْلِ التَّسْبِيحِ
/ 72 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى
الله عليه وسلم) : (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ
وَبِحَمْدِهِ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ
خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) . /
73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه
السلام -: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ،
(10/132)
ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ،
حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ
وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) . معنى قولهم
فى لغة العرب سبحان الله تنزيه الله من الأولاد والصاحبة
والشركاء. وقال وهب بن منبه: ما من عبد يقول سبحان الله
وبحمده، إلا قال الله تعالى: (صدق عبدى سبحانى وبحمدى، فإن
سأل أعطى ما سأل، وإن سكت غفر له ما لا يحصى) . وروى عن
النبي - عليه السلام - أنه قال: (صلاة الملائكة التسبيح،
فأهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذى
الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة
يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة
قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحى الذى لا يموت) .
وروى الليث، عن ابن عجلان قال: جئت إلى القعقاع بن حكيم فى
السحر أسأله فلم يجبنى، فلمّا فرغ قال: هذه الساعة يوكل
الله الملائكة بالناس يقولون سبحان الملك القدوس. وروى عن
ابن عباس قى قوله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ)
[الكهف: 46] سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،
والله أكبر، وهو قول سعيد بن المسيّب ومجاهد. فإن قيل: هل
ينوب شىء عن تكرار التسبيح والتحميد؟ قيل: قد روى عن صفية
قالت: (مرّ بى النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنا أسبح
بأربعة آلاف
(10/133)
نواة، فقال: لقد قلت كلمة هى أفضل من
تسبيحك. قلت: وما قلت؟ قال: قلت: سبحان الله عدد ما خلق) .
وعن كريب عن ابن عباس: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مرّ
على جويرية فى مصلاها باكرًا تسبح وتذكر الله، فمضى
لحاجته، فرجع إليها بعد ما ارتفع النهار، فقال لها: ما زلت
فى مكانك هذا؟ قالت: نعم. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم)
: لقد تكلمت بكلمات لو وزنت بما قلت لرجحت، سبحان الله عدد
ما خلق، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان
الله مداد كلماته، والحمد لله مثل ذلك) . وقال بعض الناس:
هذه الفضائل التى جاءت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) :
(من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له. . .) وما
شاكلها إنما هى لأهل الشرف فى الدين والكمال والطهارة من
الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا وأصرّ على ما شاء
من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلحق بالسابقين
المطهرين، وينال منزلتهم فى ذلك بحكاية أحرف ليس معها تقى
ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه من يتأول دين الله على
هواه.
51 - بَاب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ
/ 74 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِى
لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ) . /
75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه
السلام -: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ
فِى الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا
وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا
هَلُمُّوا إِلَى
(10/134)
حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ
بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ:
فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا
يَقُولُ عِبَادِى؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ
وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ،
قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ:
لا، وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ
لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا
أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا
وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ
فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ،
قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا،
وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ:
فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ:
لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا
حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا
رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ:
يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ: قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ
رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ
مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟
قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ
مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ:
فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ
قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِيهِمْ: فُلانٌ
لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ
الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) . قال
المؤلف: هذا حديث شريف فى فضل ذكر الله، عز وجل، وتسبيحه
وتهليله، وقد وردت فى ذلك أخبار كثيرة منها ما روى زيد بن
أسلم: سمعت عبد الله بن عمر قال: قلت لأبى ذرّ: يا عمّ،
أوصنى. قال: سألت رسول الله كما سألتنى، فقال: (ما من يوم
وليلة إلا ولله فيه صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده،
وما مَنّ الله على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره) . وروى شعبة
وسفيان عن أبى إسحاق عن أبى مسلم الأغر أنه شهد على أبى
هريرة وأبى سعيد، أنهما شهدا على رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال:
(10/135)
(ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم
الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم
الله فيمن عنده) . وقال معاذ: ليس شىء أنجى من عذاب الله
من ذكر الله. وقال ابن عباس، يرفع الحديث: (من عجز منكم عن
الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن
يجاهده، فليكثر من ذكر الله) . وروى أبو سلمة عن أبى هريرة
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (سيروا، سبق
المستهترون. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين أُهتروا
واستهتروا بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، ويأتون يوم
القيامة خفافًا) . وروى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) قال: (ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم
يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة) . وعن جابر قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ارتعوا فى رياض الجنة.
قالوا: يا رسول الله، وما رياضُ الجنّة؟ قال: مجالس الذكر،
واغدوا وروحوا فى ذكر الله، واذكروهُ فى أنفسكم، من أحبّ
أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن
الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله من نفسه) . وروى الأعمش
عن سالم بن أبى الجعد قال: قيل لأبى الدرداء: إن رجلاً
أعتق مائة نسمةً قال: إن ذلك من مال رجل لكثير، وأفضل من
ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولا يزال لسان أحدكم
رطبًا من ذكر الله.
(10/136)
وعن ابن عباس قال: (سأل موسى صلوات الله
عليه ربه تعالى فقال: ربّ، أى عبادك أحبّ إليك؟ قال: الذى
يذكرنى ولا ينسانى) . ثم قال ابن عباس: ما جلس قوم فى بيت
من بيوت الله، يذكرون الله، إلا كانوا أضيافًا لله عز وجل
ما داموا فيه حتى يتصدعوا عنه، وأظلتهم الملائكة بأجنحتها
ما داموا فيه. ذكر هذه الآثار كلها الطبرى فى آداب النفوس،
قال المؤلف: وفقه هذا الباب أنّ معنى أمر الله تعالى العبد
بذكره وترغيبه فيه؛ ليكون ذلك سببًا لمغفرته تعالى له
ورحمته إياه، لقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ)
[البقرة: 152] وذكر الله للعبد رحمه له، قال ثابت البنانى:
قال أبو عثمان النهدى: إنى لأعلم الساعة التى يذكرنا الله
تعالى فيها. قيل: ومن أين تعلمتها؟ قال: يقول الله:
(فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] . وقال السدى:
ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله، لا يذكره مؤمن إلا
ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب.
وروى معناه عن ابن عباس وقيل: المعنى: اذكروا نعمتى عليكم
شكرًا لها، أذكركم برحمتى والزيادة من النعم. وروى عن عمر
بن الخطاب: إن الذكر ذكران: أحدهما: ذكر الله عند أوامره
ونواهيه، والثانى: ذكر الله باللسان، وكلاهما فيه الأجر،
إلا أن ذكر الله تعالى عند أوامره ونواهيه إذا فعل الذاكر
ما أمر به، وانتهى عما نُهى عنه؛ أفضل من ذكره باللسان مع
مخالفة أمره ونهيه، والفضل كله والشرف والأجر فى اجتماعهما
من الإنسان، وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره ونهيه فينتهى،
ولا ينساه من ذكره بلسانه، وسأذكر فى كتاب الرقاق فى باب
من همّ بحسنة أو سيئة،
(10/137)
هل يكتب الحفظة الذكر بالقلب؟ وما للسلف فى
ذلك إن شاء الله تعالى. وذكر البخارى فى كتاب الاعتصام فى
باب قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل
عمران: 28] حديث أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
قال: (إذا ذكرنى عبدى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرنى
فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم. . .) الحديث. قال الطبرى:
ومن جسيم ما يُرجى به للعبد الوصول إلى رضا ربه ذكره إياه
بقلبه، فإن ذلك من شريف أعماله عنده؛ لحديث أبى هريرة. فإن
قيل: فهل من أحوال العبد حال يجب عليه فيها ذكر الله فرضًا
بقلبه؟ قيل: نعم هى أحوال أداء فرائضه، من صلاة، وصيام،
وزكاة، وحج، وسائر الفرائض، فإن على كل من لزمه عمل شىء من
ذلك أن يكون عند دخوله فى كل ما كان من ذلك له تطاول
بابتداء بأوّل وانقضاء بآخر أن يتوجّه إلى الله تعالى
بعمله، ويذكره فى حال ابتدائه فيه، وما لم يكن له تطاول
منه، فعليه توجهه إلى الله بقلبه فى حال عمله وذكره، ما
كان مشتغلاً به، وما كان نفلاً وتطوعًا فإنه وإن لم يكن
فرضًا عليه فلا ينتفع به عامله إن لم يرد به وجه الله، ولا
ذكره عند ابتدائه فيه.
52 - بَاب قَوْلِ الرجل: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا
بِاللَّهِ
/ 76 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) فِى عَقَبَةٍ، أَوْ قَالَ: فِى ثَنِيَّةٍ،
قَالَ: فَلَمَّا عَلا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى، فَرَفَعَ
صَوْتَهُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ،
قَالَ: وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى
بَغْلَتِهِ، فَقَالَ: (فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ
وَلا غَائِبًا، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُوسَى، أَوْ يَا
عَبْدَاللَّهِ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ
الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: يَلَى قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ
إِلا بِاللَّهِ) .
(10/138)
قال الطبري: إن قال قائل: أى أنواع الذكر
أفضل؛ فإن ذلك أنواع كثيرة، منها التسبيح والتحميد
والتهليل والتكبير؟ قيل: أعلى ذلك وأشرفه الكلمة التى لا
يصح لأحدٍ عمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها، وذلك
التهليل، وهو لا إله إلا الله، على ما تقدّم فى حديث جابر
فى باب فضل التهليل، روى أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) : (الإيمان بضع وستون خصلة، أكبرها شهادة أن لا
إله إلا الله وأصغرها إماطة الأذى عن الطريق) . وقال (صلى
الله عليه وسلم) : (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا
إله إلا الله) . فإن قيل: ما معنى قول النبى (صلى الله
عليه وسلم) للذى رفع صوته بلا إله إلا الله، ألا أدلك على
كنز الجنة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا
الله تغنى عن غيرها، وهى المنجية من النار؟ فالجواب: أن
النبى (صلى الله عليه وسلم) كان معلمًا لأمته، وكان لا
يراهم على حالة من الخير، إلا أحبّ لهم الزيادة عليها فأحب
للذى رفع صوته بكلمة الإخلاص والتوحيد أن يردفها بالتبرؤ
من الحول والقوة لله تعالى وإلقاء القدرة إليه، فيكون قد
جمع مع التوحيد الإيمان بالقدر. وقد جاء نحو هذا المعنى فى
حديث عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن عمرو بن
العاص قال: إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهى كلمة
الإخلاص التى لا يقبل الله من أحدٍ عملاً حتى يقولها، فإذا
قال: الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله أحد حتى
يقولها، فإذا قال: الله أكبر فهى كلمة تملأ ما بين السماء
والأرض، فإذا قال: سبحان الله فهى صلاة الخلائق التي لم
يدع الله
(10/139)
أحدًا حتى قرره بالصلاة والتسبيح، وإذا
قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: استسلم عبدى. وروى عن
سالم بن عبد الله، عن أبى أيوب الأنصارى: (أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) ليلة أسرى به مَرّ على إبراهيم خليل الله،
فقال له: مُر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها
طيبة وأرضها واسعة. قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) :
وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) . ومن
حديث جابر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (أكثروا من
قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها تدفع تسعًا وتسعين
داءً أدناها الهم) . وقال مكحول: من قالها كشف عنه سبعون
بابًا من الضر، أدناها الفقر. ومعنى لا حول ولا قوة إلا
بالله: لا حول عن معاصى الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على
طاعة الله إلا بالله، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) :
(كذلك أخبرنى جبريل عن الله تعالى) . وروى عن علىّ بن أبى
طالب تفسير آخر قال تفسيرها: إنا لا نملك مع الله شيئًا،
ولا نملك من دونه شيئًا، ولا نملك إلا ما ملكنا مما هو
أملك به منا. وحكى أهل اللغة أن معنى لا حول: لا حيلة،
يقال: ما للرجل حيلة ولا قوة ولا احتيال ولا محتال ولا
محالة ولا محال، وقوله: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)
[الرعد: 13] ، يعنى المكر والقوة والشدّة.
53 - بَاب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ
/ 77 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ: (لِلَّهِ
تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلا وَاحِدًا، لا
يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ
يُحِبُّ الْوَتْرَ) .
(10/140)
قال المهلب: اختلف الناس فى الاستدلال من
هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن ظاهره يقتضى أن لا اسم لله
تعالى غير التسعة والتسعين اسمًا التى نص عليها النبى (صلى
الله عليه وسلم) إذ لو كان له غيرها لم يكن لتخصيص هذه
العدة معنى، قالوا: والشريعة متناهية والحكمة فيها بالغة،
وذهب آخرون إلى أنه يجوز أن تكون له أسماء زائدة على
التسعة والتسعين، إذا لا يجوز أن تتناهى أسماء الله تعالى،
لأن مدائحه وفواضله غير متناهية كما قال تعالى فى كلماته
وحكمه: (وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ
أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27] .
ومعنى ما أخبرنا به النبى من التسعة وتسعين اسمًا إنما هو
معنى الشرع لنا فى الدعاء بها، وغيرها من الأسماء لم يشرع
لنا الدعاء بها؛ لأن حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) مبنى
على قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180] ، فكان ذكر هذا العدد
إنما هو لشرع الدعاء به، وهذا القول أميلُ إلى النفوس؛
لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يبلغ كنهه الواصفون ولا
ينتهى إلى صفاته المقرظون دليل لازم أن له أسماء غير هذه
وصفات، وإلا فقد تناهت صفاته تعالى عن ذلك، وهذا قول أبى
الحسن الأشعرى، وابن الطيب وجماعة من أهل العلم. قال ابن
الطيب: وليس فى الحديث دليل على أن ليس لله تعالى أكثر من
تسعة وتسعين اسمًا، لكن ظاهر الحديث يقتضى من أحصى تلك
التسعة وتسعين اسمًا على وجه التعظيم لله دخل الجنة، وإن
كان له أسماء أخر. وقال أبو الحسن بن القابسى، رحمه الله:
أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف، والتوقيف كتاب
الله تعالى وسنة
(10/141)
نبيه - عليه السلام - أو اتفاق أمته، وليس
للقياس فى ذلك مدخل، وما أجمعت عليه الأمة، فإنما هو عن
سمع علموه من بيان الرسول. قال: ولم يذكر فى كتاب الله
لأسمائه تعالى عدد مسمّى، وقد جاء حديث أبى هريرة عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) (إن لله تسعة وتسعين اسمًا) . وقد
أخرج بعض الناس من كتاب الله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا،
والله أعلم بما خرج من هذا العدد إن كان كل ذلك أسماء، أو
بعضها أسماء وبعضها صفات، ولا يسلم له ما نقله من ذلك.
وقال الداودى: لم يثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه
نص على التسعة والتسعين اسمًا. قال ابن القابسى: وقد روى
مالك، عن سمى، عن القعقاع بن حكيم أن كعب الأحبار أخبره:
لولا كلمات أقولهن لجعلتنى يهود حمارًا. فقيل له: ما هن؟
فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذى ليس شىء أعظم منه،
وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر،
وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم؛ من شر
ما خلق وذرأ وبرأ. فهذا كعب على علمه واتساعه لم يتعاط أن
يحصر معرفة الأسماء فى مثل ما حصرها هذا الذى زعم أنه
عرفها من القرآن، والدعاء فى هذا بدعاء كعب أولى وأسلم من
التكلف، وسمعت أبا إسحاق الشيبانى يدعو بذلك كثيرًا،
وسيأتى تفسير الإحصاء، والمراد بهذا الحديث فى كتاب
الاعتصام فى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) باسم الله
الأعظم، فمنها ما رواه وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبد الله
بن بريدة، عن أبيه: (أن رسول الله سمع رجلاً يقول: اللهم
إنى أسألك بأنى أشهد أنك لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذى
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: لقد دعا باسم
الله الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى) .
(10/142)
ومنها حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد
عن النبي - عليه السلام - قال: (اسم الله الأعظم فى هاتين
الآيتين: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ () [البقرة: 163] . ومنها ما
رواه على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت
سعد بن مالك يقول: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول:
(اسم الله الذى إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب دعوة
يونس بن متى، ألم تسمع قوله: (فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ
أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ)
[الأنبياء: 87، 88] ، فهو شرط الله لمن دعا بها) . قال
الطبرى: قد اختلف من قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم فى ذلك ما
قال قتادة: اسم الله الأعظم: اللهم إنى أعوذ بأسمائك
الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وأعوذ بأسمائك التى
إذا دعيت بها أجبت، وإذا سئلت بها أعطيت. وقال آخرون: اسم
الله الأعظم: هو الله، ألم تسمع قوله: (هُوَ اللَّهُ
الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ
الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) [الحشر: 22، 23] إلى آخر
السورة. وقال آخرون بأقوال مختلفة لروايات رووها عن
العلماء قال الطبرى: والصواب فى كل ما روينا فى ذلك عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) وعن السلف أنه صحيح. فإن قيل:
وكيف يكون ذلك صحيحًا مع اختلاف ألفاظ ومعانيه؟ فالجواب:
أنه لم يرو عن أحد منهم أنه قال فى شىء من ذلك قد دعا
باسمه الأعظم الذى لا اسم له أعظم منه فيكون ذلك من
روايتهم اختلافًا، وأسماء الله تعالى كلها عندنا عظيمة
جليلة، ليس منها صغير وليس منها اسم أعظم من اسم، ومعنى
قوله (صلى الله عليه وسلم) : لقد دعا باسمه الأعظم؛ لقد
دعا باسمه العظيم، كما قال
(10/143)
تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27]
بمعنى وهو هين عليه، وكما قال ابن أوس: لعمرك ما أدرى وإنى
لأَوْجَل بمعنى إنى لوجِل، ويبين صحة ما قلناه حديث حفص
ابن أخى أنس بن مالك، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال: (لقد دعا باسمه العظيم الذى إذا دعى به
أجاب) . فقال: باسمه العظيم، إذ كان معنى ذلك ومعنى الأعظم
واحدًا. وقال أبو الحسن بن القابسى: لا يجوز أن يقال فى
أسماء الله وصفاته ما يُشبه المخلوقات، ولو كان فى أسماء
الله اسمًا أعظم من اسم لكان غيره ومنفصلاً منه، والاسم هو
المسمى على قول أهل السنة فلا يجوز أن يكون الاسمان
متغايرين، ومن جعل اسمًا أعظم من اسم صار إلى قول من يقول:
القرآن مخلوق. قال الطبرى: فإن قيل: فلو كان كما وصفت كل
اسم من أسماء الله عظيمًا، لا شىء منها أعظم من شىء، لكان
كل من دعا باسم من أسمائه مجابًا دعاؤه كما استجيب دعاء
صاحب سليمان (صلى الله عليه وسلم) الذى أتاه بعرش بلقيس من
مسيرة شهر قبل أن يرتدّ إلى سليمان طرفه؛ لأنه كان عنده
علم من اسم الله الأعظم، وكذلك عيسى، صلوات الله عليه، به
كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وقد يدعو أحدنا
الدهر الطويل بأسمائه فلا يستجاب له، فدل أن الأمر بخلاف
ذلك. قيل: بل الأمر فى ذلك كما قلناه، ولكن أحوال الداعين
تختلف، فمن داعٍ ربه تعالى لا ترد دعوته، ومن داعٍ محله
محل من غضب الله عليه وعرضه للبلاء والفتنة فلا يرد كثيرًا
من دعائه ليبتليه به ويبتلي به
(10/144)
غيره، ومن داعٍ يوافق دعاؤه محتوم قضائه
ومبرم قدره، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما من مسلم
يدعو إلا استجيب له ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، إما أن
يعجل له فى الدنيا، وإما أن يدخر له فى الآخرة، وإما أن
يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا) . ويبين ما قلناه أنا
وجدنا أنه يدعو بالذى دعا به الذين عجلت لهم الإجابة فلا
يجاب له، فدل إن الذى أوجب الإجابة لمن أُجيب، وترك
الاستجابة لمن لم يستجب له اختلاف حال الداعين، لا الدعاء
باسم من أسماء الله بعينه. وقد وقع فى هذا الحديث من رواية
سفيان عن أبى الزناد: (مائة إلا واحدة) . ولا يجوز فى
العربية، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الاعتصام: (مائة إلا
واحدًا) . من رواية شعيب عن أبى الزناد، وهو الصحيح فى
العربية؛ لأن الاسم مذكر، فلا يستثنى منه إلا مذكر مثله.
(10/145)
كِتَاب الرِّقَاقِ
- بَاب لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) . / 2 - وفيه: أَنَسٍ،
وسَهْل، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
بِالْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَحْفِرُ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ
التُّرَابَ، وَبصر بِنَا فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ
إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ
وَالْمُهَاجِرَهْ) قال المؤلف: قال بعض العلماء: إنما أراد
(صلى الله عليه وسلم) بقوله: (الصحة والفراغ نعمتان) ،
تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده فى الصحة
والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكيفًا مؤنة
العيش فى الدنيا، فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن
يغبنهما، ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أن
الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعم
الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمنّ عليهم بصحة الأجسام
وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف
عليهم السيئات وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأهم به
من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة،
وجعل مدة طاعتهم فى الدنيا منقضية بانقضاء
(10/146)
أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا
دائمًا فى جنات لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا
عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فمن أنعم النظر
فى هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا
وينفقه فى طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف
بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل
وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه فى سهو ولهو وعجز
عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم
حيث لا ينفعه الندم، وقد روى الترمذى من حديث ابن المبارك،
عن يحيى بن عبيد الله بن موهب، عن أبيه، عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من أحد يموت إلا
ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنًا
ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع) .
وأما قوله: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) . فإنه نبه بذلك
أمته على تصغير شأن الدنيا وتقليلها، وكدر لذاتها وسرعة
فنائها، وما كان هكذا فلا معنى للشغل به عن العيش الدائم
الذى لا كدر فى لذاته، بل فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ
الأعين.
- بَاب مَثَلِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: (إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
(إلى قوله تَعَالَى: (إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:
20]
. / 3 - فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
: (مَوْضِعُ سَوْطٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَا فِيهَا) .
(10/147)
قال المؤلف: قد بين رسول الله منزلة الدنيا
من الآخرة، بأن جعل موضع سوط من الجنة أو غدوة فى سبيل
الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وإنما أراد ثواب
الغدوة أو الروحة فى الآخرة؛ لينبه أمته على هوان الدنيا
عند الله تعالى وضعتها، ألا ترى أنه لم يرضها دار جزاءٍ
لأوليائه ولا نقمة لأعدائه؛ بل هى كما وصفها تعالى) لَعِبٌ
وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) [الحديد: 20] الآية. وقد روى الترمذى،
عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبى
خالد، عن قيس بن أبى حازم قال: سمعت مستورد بن شداد الفهرى
يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما الدنيا فى
الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بماذا
يرجع) . قال: وحدثنا قتيبة، حدثنا عبد الحميد بن سليمان،
عن أبى حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما
سقى كافرًا منها شربة) .
3 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُنْ
فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ
/ 4 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) بِمَنْكِبِى، وَقَالَ: (كُنْ فِى الدُّنْيَا
كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) . وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ
الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ
الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ
حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. قال أبو الزناد: معنى هذا الحديث
الحض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء والزهد فى الدنيا.
قال المؤلف: بيان ذلك أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس؛
بل هو مستوحش منهم؛ إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه فيأنس به،
ويستكثر بخلطته فهو ذليل فى نفسه خائف، وكذلك
(10/148)
عابر السبيل لا ينفذ فى سفره إلا بقوته
عليه وخفته من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره،
معه زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا يدل على
إيثار الزهد فى الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا
يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا
يحتاج المؤمن فى الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقوله:
(إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر
المساء) حض منه على أن يجعل الموت نصب عينيه، فيستعد له
بالعمل الصالح، وحض له على تقصير الأمل، وترك الميل إلى
غرور الدنيا. وقوله: (خذ من صحتك لمرضك) حض على اغتنام
أيام صحته فيمهد فيها لنفسه خوفًا من حلول مرض به يمنعه من
العمل. وكذلك قوله: (ومن حياتك لموتك) تنبيه على اغتنام
أيام حياته، ولا يمر عمره باطلاً فى سهوٍ وغفلة، لأن من
مات فقد انقطع عمله وفاته أمله وحضره على تفريطه ندمه، فما
أجمع هذا الحديث لمعانى الخير وأشرفه.
4 - بَاب فِى الأمَلِ وَطُولِهِ
وَقوله تَعَالَى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ) [الحجر: 15] . وَقَالَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى
طَالِبٍ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً،
وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ،
وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ
الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا
عَمَلٌ.
(10/149)
/ 5 - فيه: ابْن مسعود، قَالَ: خَطَّ
النَّبِيُّ - عليه السلام - خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ
خَطًّا فِى الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا
صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِى فِى الْوَسَطِ مِنْ
جَانِبِهِ الَّذِى فِى الْوَسَطِ، وَقَالَ: (هَذَا
الإنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ
أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِى خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ
الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا
نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا)
. / 6 - وفيه: أَنَس، خَطَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) خُطُوطًا، فَقَالَ: (هَذَا الأمَلُ، وَهَذَا
أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَهُ
الْخَطُّ الأقْرَبُ) . قال المؤلف: مثل النبى (صلى الله
عليه وسلم) فى حديث ابن مسعود أمل ابن آدم وأجله وإعراض
الدنيا التى لا تفارقه بالخطوط، فجعل أجله الخط المحيط،
وجعل أمله وإعراضه خارجة من ذلك الخط، ومعلوم فى العقول أن
ذلك الخط المحيط به الذى هو أجله؛ أقرب إليه من الخطوط
الخارجة منه، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث
أنس: (فبينا هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب) . يريد أجله؟
وفى هذا تنبيه من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته على
تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتة الأجل، ومن غيب عنه
أجله فهو حرى بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه فى حال غرة
وغفلة، ونعوذ بالله من ذلك، فَلْيُرِضْ المؤمن نفسه على
استشعار ما نُبه عليه، ويجاهد أمله وهواه ويستعين بالله
على ذلك، فإن ابن آدم مجبول على الأمل كما قال (صلى الله
عليه وسلم) فى الباب بعد هذا: (لا يزال قلب الكبير شابًا
فى حب الدنيا وطول الأمل) . وقال الطبرى: فى قوله:
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ
الأَمَلُ) [الحجر: 3] ، يعنى ذرِ المشركين يا محمد يأكلوا
فى هذه الدنيا ويتمتعوا من شهواتها ولذاتها إلى أجلهم الذى
أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ
(10/150)
بطاعة الله فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما
يقربهم من ربهم. فسوف يعلمون غدًا إذا وردوا عليه، وقد
هلكوا بكفرهم بالله حين يعاينون عذاب الله أنهم كانوا فى
تمتعهم بلذات الدنيا فى خسار وتبابٍ) .
5 - بَاب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ
اللَّهُ إِلَيْهِ فِى الْعُمُرِ
لِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37]
يَعْنِى الشَّيْبَ. / 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى
امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ
سَنَةً) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ
شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ: فِى حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ
الأمَلِ) . / 9 - وفيه: أَنَس، عن النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ
مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ) . /
10 - وفيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِك، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (لَنْ يُوَافِىَ عَبْدٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى
بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
النَّارَ) .
(10/151)
/ 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى
الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا
لِعَبْدِى الْمُؤْمِنِ عِنْدِى جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ
صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلا
الْجَنَّةُ) . قال المؤلف: روى عن على بن أبى طالب وابن
عباس وأبى هريرة فى قوله تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ
مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر: 37] قالوا:
يعنى: ستين سنةً، وروى عن ابن عباس أيضًا أربعون سنة، وعن
الحسن البصرى ومسروق مثله، وحديث أبى هريرة حجة لقول على
ومن وافقه فى تأويل الآية. وقول من قال: أربعون سنة. له
وجه صحيح أيضًا، والحجة له قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف:
15] الآية فذكر تعالى أن من بلغ الأربعين، فقد آن له أن
يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرهما. قال مالك:
أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم،
ويخالطون الناس حتى يأتى لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت
عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت.
فبلوغ الأربعين نقل لابن آدم من حالة إلى حالة أرفع منها
فى الاستبصار والإعذار إليه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) :
(أعذر الله إلى أمرئ أخرّ أجله حتى بلغ ستين سنة) . أى
أعذر إليه غاية الإعذار، الذى لا إعذار بعده، لأن الستين
قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام
لله تعالى وترقب المنية ولقاء الله تعالى فهذا إعذار بعد
إعذار فى عمر ابن آدم، لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من
حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم
يعاقبهم
(10/152)
إلا بعد الحجج اللائحة المبكتة لهم، وإن
كانوا قد فطرهم الله تعالى على حبّ الدنيا وطول الأمل، فلم
يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه، وأكبر الإعذار إلى
بنى آدم بعثه الرسل إليهم، واختلف السلف فى تأويل قوله
تعالى: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37] فروى عن على
ابن أبى طالب أنه محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو قول
ابن زيد وجماعة، وعن ابن عباس أنه الشيب. وحجة القول الأول
أن الله تعالى بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى عباده قطعًا
لحجتهم، وقال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15] ولقول ابن عباس
أن النذير: الشيب. وجه يصح، وذلك أن الشيب يأتى فى سن
الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذى هو سن اللهو
واللعب، فهو نذير أيضًا، ألا ترى قول إبراهيم (صلى الله
عليه وسلم) حين رأى الشيب قال: (يا رب ما هذا؟ فقال له:
وقار. قال: ربى زدنى وقارًا) . فبان رفق الله بعباده
المؤمنين وعظيم لطفه بهم حين أعذر إليهم ثلاث مرات: الأولى
بالنبى (صلى الله عليه وسلم) والمرتان فى الأربعين وفى
الستين؛ ليتم حجته عليهم، وهذا أصل لإعذار الحاكم إلى
المحكوم عليهم مرةً بعد أخرى. فإن قيل: فما وجه حديث عتبان
فى هذا الباب؟ قيل: له وجه صحيح المعنى، وذلك أنه لما كان
بلوغ الستين غاية الإعذار إلى ابن آدم خشى البخارى، رحمه
الله، أن يظن من لا يتسع فهمه أن من بلغ الستين، وهو غير
تائب، أن ينفذ عليه الوعيد، فذكر قول النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (لن يوافى عبد يوم القيامة بكلمة الإخلاص والتوحيد
يبتغى بها وجه الله؛ إلا حرمه الله على النار) . وسواء أتى
بها بعد الستين أو بعد المائة لو عمرها.
(10/153)
وقد ثبت بالكتاب والسنة أن التوبة مقبولة
ما لم يغرغر ابن آدم، ويعاين قبض روحه، وكذلك قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (يقول الله تعالى: ما لعبدى المؤمن عندى
جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة) .
وهذا عام المعنى فى كل عمر ابن آدم؛ بلغ الستين أو زاد
عليها، فهو ينظر إلى معنى حديث عتبان فى قوله: (ما لعبدى
المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيه إلا الجنة) دليل أن من مات
له ولد واحد فاحتسبه أن له الجنة، وهو تفسير قول المحدث:
(ولم نسأله عن الواحد) حين قال (صلى الله عليه وسلم) : (من
مات له ثلاثة من الولد أدخله الله الجنة. قيل: واثنان يا
رسول الله؟ قال: واثنان. ولم نسأله عن الواحد) ؛ إذ لا صفى
أقرب إلى النفوس من الولد، وقد ذكرته فى الجنائز.
6 - بَاب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا
وَالتَّنَافُسِ فِيهَا
/ 12 - فيه: عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ
إِلَى الْبَحْرَيْنِ، يَأْتِى بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ
بِالْمَالٍ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِهِ،
فَوَافَتْهُ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، تَعَرَّضُوا لَهُ،
فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: (أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ
أَبِى عُبَيْدَةَ) ؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ:
(فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ
مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى
عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا
بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا
كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ)
. / 13 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، خَرَجَ النَّبِيّ -
عليه السلام - يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ
صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ. . . الحديث، ثُمَّ قَالَ:
(وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ
تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنَافَسُوا فِيهَا) .
(10/154)
/ 14 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَكْثَرَ مَا
أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ
بَرَكَاتِ الأرْضِ) ، قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأرْضِ يَا
رسُول اللَّه؟ قَالَ: (زَهْرَةُ الدُّنْيَا. . .) ، الحديث
على ما جاء فى كتاب الزكاة، فى باب الصدقة على اليتامى. /
15 - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (خَيْر القرون قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ
بَعْدَهُمْ، قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ،
وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلا
يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) . / 16 - وفيه:
خَبَّاب، قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه
وسلم) مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا بِشَىْءٍ،
وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا لا نَجِدُ لَهُ
مَوْضِعًا إِلا التُّرَابَ. قال المؤلف: هذه الأحاديث
تنبيه فى أن زهرة الدنيا ينبغى أن يخشى سوء عاقبتها وشر
فتنتها من فتح الله عليه الدنيا، ويحذر التنافس فيها
والطمأنينة إلى زخرفها الفانى؛ لأن النبى (صلى الله عليه
وسلم) خشى ذلك على أمته، وحذرهم منه لعلمه أن الفتنة
مقرونة بالغنى، ودَلّ حديث عمران بن حصين أن فتنة الدنيا
لمن يأتى بعد القرن الثالث أشدّ لقوله (صلى الله عليه
وسلم) : (ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون) إلى قوله
(ويظهر فيهم السمن) . فجعل (صلى الله عليه وسلم) ظهور
السمن فيهم وشهادتهم بالباطل، وخيانتهم الأمانة، وتنافسهم
فى الدنيا وأخذهم لها من غير وجهها كما، قال (صلى الله
عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد: (ومن أخذه بغير حقه فهو
كالذى يأكل ولا يشبع) . وكذلك خشى عمر بن الخطاب فتنة
المال، فروى عنه أنه لما أتى بأموال كسرى بات هو وأكابر
الصحابة عليه فى المسجد، فلما أصبح وأصابته الشمس التمعت
تلك التيجان فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ليس هذا
حينُ بكاء، إنما هو حِينُ شكر. فقال عمر: إني
(10/155)
أقول: ما فتح الله هذا على قوم قط إلا
سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم وقال: اللهم منعت هذا رسولك
إكرامًا منك له، وفتحته علىّ لتبتلينى به، اللهم اعصمنى من
فتنته. فهذا كله يدل أن الغنى بلية وفتنة، ولذلك استعاذ
النبى (صلى الله عليه وسلم) من شر فتنته، وقد أخبر الله
تعالى بهذا المعنى فقال لرسوله: (وَلاَ تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131] ،
وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ
فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] ، ولهذا آثر أكثر سلف الأمة
التقلل من الدنيا وأخذ البلغة؛ إذ التعرض للفتن غرر. وقوله
(صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد: (وإن مما ينبت
الربيع يقتل حبطًا أو يلم) فهو أبلغ الكلام فى تحذير
الدنيا والركون إلى غضارتها، وذلك أن الماشية يروقها نبت
الربيع فيكثر أكلها فربما تفتقت سمنًا فهلكت، فضرب النبى
(صلى الله عليه وسلم) هذا المثل للمؤمن أن لا يأخذ من
الدنيا إلا قدر حاجته، ولا يروقه زهرتها فتهلكه. وقال
الأصمعى: والحبط: هو أن تأكل الدابة فتكثر، حتى تنتفخ بذلك
بطنها وتمرض عنه. وقوله: (أو يلمُ) يعني يُدنى من الموت،
وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى باب الصدقة على اليتامى
فى كتاب الزكاة.
وأمّا قول خباب: (إن أصحاب محمد مضوا ولم تنقصهم الدنيا
شيئًا) . فإنه لم يكن فى عهد النبي - عليه السلام - من
الفتوحات والأموال ما كان بعده، فكان أكثر الصحابة ليس لهم
إلا القوت، ولم ينالوا من طيبات العيش ما يخافون أن ينقصهم
ذلك من طيبات الآخرة،
(10/156)
ألا ترى قول عمر بن الخطاب حين اشترى لحمًا
بدرهم: أين تذهب هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ
فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا)
[الأحقاف: 20] ، فدل أن التنعم فى الدنيا والاستمتاع
بطيباتها تنقص كثيرًا من طيبات الآخرة. وقوله: (إنا أصبنا
من الدنيا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب) . قال أبو ذر:
يعنى البنيان، ويدل على صحّة هذا التأويل أن خبّابًا قال
هذا القول وهو يبنى حائطًا له، وقد تقدم فى كتاب المرضى فى
باب تمنى المريض الموت، فتأمله هناك فهو بين فى حديث خباب.
7 - بَاب قَوله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا (الآية [فاطر: 5]
قَالَ مُجَاهِدٌ: (الْغَرُورُ (: الشَّيْطَانُ. / 17 -
فيه: عُثْمَان، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ،
ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ،
ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ:
وَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا
تَغْتَرُّوا) . قال المؤلف: نهى الله عباده عن الاغترار
بالحياة الدنيا وزخرفها الفانى، وعن الاغترار بالشيطان،
وبيّن لنا تعالى عداوته لنا لئلا نلتفت إلى تسويله وتزيينه
لنا الشهوات المردية، وحذرنا تعالى طاعته وأخبر أن أتباعه
وحزبه من أصحاب السعير، والسعير: النار. فحق على المؤمن
العاقل أن يحذر ما حذّره منه ربه عز وجل ونبيه
(10/157)
- عليه السلام - وأن يكون مشفقًا خائفًا
وجلاً، وإن واقع ذنبًا أسرع الندم عليه والتوبة منه وعزم
ألا يعود إليه، وإذا أتى حسنة استقلها واستصغر عمله ولم
يدل بها، ألا ترى قول عثمان: (من أتى المسجد، فركع ركعتين
ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه) . وهذا لا يكون إلا من
قول النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم أتبع ذلك بقول النبى
(صلى الله عليه وسلم) : (لا تغتروا) . ففهم عثمان رضى الله
عنه من ذلك أن المؤمن ينبغى له ألا يتكل على عمله، ويستشعر
الحذر والإشفاق بتجنب الاغترار، وقد قال غير مجاهد فى
تفسير الغرور قال: هو أن يغتر بالله، فيعمل المعصية ويتمنى
المغفرة.
8 - بَاب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ
/ 18 - فيه: مِرْدَاس، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأوَّلُ فَالأوَّلُ،
وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ
التَّمْرِ، لا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً) . قال
المؤلف: ذهاب الصالحين من أشراط الساعة، إلا إنه إذا بقى
الناس فى حفالةٍ كحفالة الشعير أو التمر؛ فذلك إنذار بقيام
الساعة وفناء الدنيا، وهذا الحديث معناه الترغيب فى
الاقتداء بالصالحين والتحذير من مخالفة طريقهم خشية أن
يكون من خالفهم ممن لا يباليه الله ولا يعبأ به. وبَالة:
مصدر باليت محذوف منه الياء التى هى لام الفعل، وكان أصله
(بالية) فكرهوا ياءً قبلها كسرة، لكثرة استعمال هذه اللفظة
فى نفى كل ما لا يحفل به، وتقول العرب أيضًا فى مصدر باليت
مبالاةً كما تقول بالة. والحفالة: سفلة الناس وأصلها فى
اللغة ما
(10/158)
تساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما،
والحثالة والحشافة مثله، وقد ذكرت هذا فى كتاب الفتن فى
باب إذا بقى فى حثالة من الناس.
9 - بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ
وَقَوله تَعَالَى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَعِسَ عَبْدُ
الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ،
وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ
لَمْ يَرْضَ) . / 20 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كَانَ لابْنِ
آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا وَلا
يَمْلأ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ
اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) . / 21 - وَفِى رواية ابْن
عَبَّاس: (وَلا يَمْلأ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلا
التُّرَابُ) . وروى مثله ابن الزبير، وَأنَس، عن النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ أَنَس فِى حديثه: (وَلَنْ
يَمْلأ فَاهُ إِلا التُّرَابُ) . / 22 - وفيه: أَنَس، عَنْ
أُبَىٍّ، كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى
نَزَلَتْ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1] . قال
المؤلف: معنى الفتنة فى كلام العرب: الاختبار والابتلاء،
ومنه قوله تعالى: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) [طه: 40] أى
اختبرناك، والفتنة: الإمالة عن القصد، ومنه قوله تعالى:
(وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء: 73] أى
ليميلونك، والفتنة أيضًا: الإحراق من قوله تعالى: (يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات: 13] أى
يحرقون، هذا قول ابن الأنبارى. والاختبار
(10/159)
والابتلاء بجمع ذلك كله، وقد أخبر الله
تعالى عن الأموال والأولاد أنها فتنة، وقال تعالى:
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1] ، وخرج لفظ
الخطاب على العموم؛ لأن الله تعالى فطر العباد على حب
المال والولد، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو
كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا) . فأخبر عن حرص
العباد على الزيادة فى المال، وأنه لا غاية له يقنع بها
ويقتصر عليها، ثم أتبع ذلك بقوله: (ولا يملأ جوف ابن آدم
إلا التراب) ، يعنى إذا مات وصار فى قبره ملأ جوفه التراب،
وأغناه بذلك عن تراب غيره حتى يصير رميمًا. وأشار (صلى
الله عليه وسلم) بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا
والشره على الازدياد منها؛ ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من
الدنيا والقناعة والكفاف فرارًا من التعرض لما لا يعلم كيف
النجاة من شر فتنته، واستعاذ النبى (صلى الله عليه وسلم)
من شر فتنة الغنى، وقد علم كل مؤمن أن الله تعالى قد أعاذه
من شر كل فتنة، وإنما دعاؤه بذلك (صلى الله عليه وسلم)
تواضعًا لله وتعليمًا لأمته، وحضًا لهم على إيثار الزهد فى
الدنيا. وقوله: (تعس عبد الدينار. .) إلى آخر الحديث فيه
ذم مَنْ فتنه متاع الدنيا الفانى، وتعِس قيل: معناه هلك،
وقيل: التعس: أن يخر على وجهه، وقد ذكرت اختلاف أهل اللغة
فى تفسير هذه الكلمة فى كتاب الجهاد فى باب الحراسة فى
الغزو فى سبيل الله.
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إن
هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ (الآية [آل عمران: 14] . وقَالَ عُمَرُ:
اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ إِلا أَنْ نَفْرَحَ
بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ
أَنْ أُنْفِقَهُ فِى حَقِّهِ.
(10/160)
/ 23 - فيه: حَكِيم، سَأَلْتُ النَّبِيَّ -
عليه السلام - فَأَعْطَانِى ثلاثًا، ثُمَّ قَالَ لِى: (يَا
حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ
أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ
أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ،
وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ
الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) . قال المؤلف:
هذا الباب فى معنى الذى قبله يدل على أن فتنة المال والغنى
مخوفة على من فتحه الله عليه لتزيين الله تعالى له،
ولشهوات الدنيا فى نفوس عباده؛ فلا سبيل لهم إلى بعضته إلا
بعون الله على ذلك، ولهذا قال عمر: اللهم إنا لا نستطيع
إلا أن نفرح بما زينت لنا، ثم دعا الله أن يعينه على
إنفاقه فى حقه، فمن أخذ المال من حقه ووضعه فى حقه فقد سلم
من فتنته، وحصل على ثوابه، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (فمن أخذه بطيب نفس بورك فيه) ، وفى قوله أيضًا:
(ومن أخذه بطيب نفس) تنبيه لأمته على الرضا بما قسم لهم،
وفى قوله: (ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان
كالذى يأكل ولا يشبع) ذم الحرص والشره إلى الاستكثار، ألا
ترى أنه شبّه فاعل ذلك بالبهائم التى تأكل ولا تشبع وهذا
غاية الذم له لأن الله تعالى وصف الكفار بأنهم يأكلون كما
تأكل الأنعام، يعنى: أنهم لا يشبعون كما لا تشبع الأنعام؛
لأن الأنعام لا تأكل لإقامة أرماقها، وإنما تأكل للشره
والنهم. فينبغى للمؤمن العاقل الفهم عن الله تعالى وعن
رسوله أن يتشبه بالسلف الصالح فى أخذ الدنيا ولا يتشبه
بالبهائم التى لا تعقل، وقد فسرنا قوله: (خضرة حلوة) فى
كتاب الزكاة.
(10/161)
- بَاب مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ
لَهُ
/ 24 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه
(صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ
أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ
إِلَيْهِ، قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ
وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ) . قال المؤلف: هذا الحديث تنبيه
للمؤمن على أن يقدم من ماله لآخرته، ولا يكون خازنًا له
وممسكه عن إنفاقه فى طاعة الله، فيخيب من الانتفاع به فى
يوم الحاجة إليه، وربما أنفقه وارثه فى طاعة الله فيفوز
بثوابه. فإن قيل: هذا الحديث يدل على أن إنفاق المال فى
وجوه البر أفضل من تركه لوارثه، وهذا يعارض قوله (صلى الله
عليه وسلم) لسعد: (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن
تتركهم عالةً يتكففون الناس) . قيل: لا تعارض بينهما،
وإنما خص النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا على أن يترك
مالا لورثته؛ لأن سعدًا أراد أن يتصدق بماله كله فى مرضه،
وكان وارثه ابنته والابنة لا طاقة لها على الكسب، فأمره
(صلى الله عليه وسلم) بأن يتصدق منه بثلثه ويكون باقيه
لابنته ولبيت مال المسلمين، وله أجر فى كل من يصل إليه من
ماله شىء بعد موته. وحديث ابن مسعود إنما خاطب به (صلى
الله عليه وسلم) أصحابه فى صحتهم ونبّه به من شحّ على
ماله، ولم تسمح نفسه بإنفاقه فى وجوه البر أن ينفق منه فى
ذلك؛ لئلا يحصل وارثه عليه كاملاً موفرًا، ويخيب هو من
أجره، وليس فيه الأمر بصدقة المال كله فيكون معارضًا لحديث
سعد، بل حديث عبد الله مجمل يفسره حديث سعد، ويدل على صحةً
هذا التأويل ما ذكره أهل السير، عن ابن شهاب أن أبا لبابة
قال: (يا رسول، إن من توبتى أن أهجر دار قومى التى أصبت
فيها الذنب، وأنخلع من مالى صدقة إلى الله ورسوله. قال:
يجزئك الثلث) فلم يأمره بصدقة ماله كله.
(10/162)
- بَاب الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْمُقِلُّونَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ
فِيهَا (إلى) يَعْمَلُونَ) [هود: 15] . / 25 - فيه: أَبُو
ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ
الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِلا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ
يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ،
وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا) ، وذكر الحديث بطوله. قال المؤلف:
هذا الحديث يدل على أن كثرة المال تئول بصاحبه إلى الإقلال
من الحسنات يوم القيامة، إذا لم ينفقه فى طاعة الله، فإن
أنفقه فى طاعة الله كان غنيًا من الحسنات يوم القيامة، وقد
احتج بهذا الحديث من فضل الغنى على الفقر؛ لأنه استثنى فيه
من المكثرين من نفح بالمال عن يمينه وشماله وبين يديه، وقد
اختلف العلماء فى هذه المسألة، وسنذكر مذاهبهم فيها فى باب
فضل الفقر بعد هذا إن شاء الله. وقوله: (نفح فيه) قال صاحب
الأفعال: نفح بالعطاء: أعطى، والله نفاح بالخيرات، قال
صاحبُ العين: نفح بالمال، والسيف، ونفحات المعروف: دفعه،
ونفحت الدابة: رمحت بحافرها الأرض. وقوله تعالى: (مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) [هود:
15] الآيتين، قال أهل التأويل: هذا عام فى لفظ خاص فى
الكفار، بدليل قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ
فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا
فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 16] ،
(10/163)
وإنما ذكرها البخاري في هذا الباب تحذيرًا
للمؤمنين من مشابهة أفعال الكافرين فى بيعهم الآخرة
الباقية بزينة الدنيا الفانية، فيدخلوا فى معنى قوله
تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ
الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) [الأحقاف: 20] الآية.
- بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (مَا أُحِبُّ
أَنَّ لِي أُحُدٍ ذَهَبًا
/ 26 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ
ذَهَبًا، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ، وَعِنْدِى مِنْهُ
دِينَارٌ، إِلا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلا أَنْ
أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا
وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ. . .) الحديث بطوله، وروى أَبُو هُرَيْرَةَ مثله
مختصرًا. قال المؤلف: فى هذا الحديث أن المؤمن لا ينبغى له
أن يتمنّى كثرة المال إلا بشريطة أن يسلطه الله على إنفاقه
فى طاعته اقتداءً بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك.
وفيه: أن المبادرة إلى الطاعة أفضل من التوانى فيها، ألا
ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحب أن يبقى عنده من
مقدار جبل أحدٍ ذهبًا، لو كان له، بعد ثلاث إلا دينار
يرصده لدين. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يكون
عليه الدين لكثرة مواساته بقوته وقوت عياله، وإيثاره على
نفسه أهل الحاجة، والرضا بالتقلل والصبر على خشونة العيش،
وهذه سيرة الأنبياء والصالحين، وهذا كله يدل على أن فضل
المال فى إنفاقه فى سبيل الله لا فى إمساكه وادّخاره.
(10/164)
- بَاب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ
وَقَوله تَعَالَى: (أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ
بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ) [المؤمنون: 55] إِلَى)
عَامِلُونَ) [المؤمنون: 63] . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:
لَمْ يَعْمَلُوهَا لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. / 27
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ،
وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) . قال المؤلف: قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (ليس الغنى عن كثرة العرض) يريد
ليس حقيقة الغنى عن كثرة متاع الدنيا، لأن كثيرًا ممن وسع
الله عليه فى المال يكون فقير النفس لا يقنع بما أعطى فهو
يجتهد دائبًا فى الزيادة، ولا يبالى من أين يأتيه، فكأنه
فقير من المال؛ لشدة شرهه وحرصه على الجمع، وإنما حقيقة
الغنى غنى النفس، الذى استغنى صاحبه بالقليل وقنع به، ولم
يحرص على الزيادة فيه، ولا ألحّ فى الطلب، فكأنه غنى واجد
أبدًا، وغنى النفس هو باب الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم
لأمره علم أن ما عند الله خير للأبرار، وفى قضائه لأوليائه
الأخيار، روى الحسن، عن أبى هريرة قال: (قال لى رسول الله:
أرض بما قسم الله تكن أشكر الناس) . وقوله تعالى:
(أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ
وَبَنِينَ) [المؤمنون: 55] ، نزلت فى الكفار، فليست
بمعارضة لدعائه (صلى الله عليه وسلم) لأنس بكثرة المال
والولد، وقال أهل التأويل فى معناها: أيحسبون أنما نمدهم
به من مال وبنين مجازاة لهم وخيرًا لهم، بل هو استدراج
لهم، ولذلك قال تعالى: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ
مِّنْ هَذَا) [المؤمنون: 63] ، أى فى غطاء عن
(10/165)
المعرفة أن الذى نمدهم به من مال استدراج
لهم، وقال بعض أهل التأويل فى قوله تعالى: (أَنَّمَا
نُمِدُّهُمْ بِهِ) [المؤمنون: 55] هى الخيرات: فالمعنى
نسارع فيه ثم أظهر فقال: (فِى الْخَيْرَاتِ) [المؤمنون:
56] ، أى نسارع لهم به فى الخيرات.
- بَاب فَضْلِ الْفَقْرِ
/ 28 - فيه: سَهْل، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا
رَأْيُكَ فِى هَذَا) ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ
النَّاسِ هَذَا، وَاللَّهِ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ
يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا
رَأْيُكَ فِى هَذَا) ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا
حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ
لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا
خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا) . / 29 - وفيه:
خَبَّاب، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - عليه السلام
- نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى
اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ
شيئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ
أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ
بَدَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا
رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ
شَيْئًا مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ
ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا) .
(10/166)
/ 30 - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ،
فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ
فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ)
. / 31 - وفيه: أنس: أَنَس، لَمْ يَأْكُلِ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ
خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ. / 32 - وفيه: عَائِشَةَ،
قَالَتْ: لَقَدْ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) وَمَا فِى رَفِّى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو
كَبِدٍ، إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ
مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ. قال
المؤلف: فى ظاهر هذه الأحاديث فضل الفقر، كما ترجم
البخارى، وقد طال تنازع الناس فى هذه المسألة، فذهب قوم
إلى تفضيل الفقر، وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، واحتج من
فضل الفقر بهذه الآثار بغيرها، فمنها أنه (صلى الله عليه
وسلم) كان يقول فى دعائه: (اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى
مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) . من حديث ثابت بن
محمد العابد العوفى، عن الحارث بن النعمان الليثى، عن أنس
بن مالك، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكره الترمذى،
ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم من آمن بى وصدّق
ما جئت به، فأقلل له فى المال والولد) . وقوله (صلى الله
عليه وسلم) : (إن الفقراء يدخلون الجنة وأصحاب الجد
محبوسون) . روى الترمذى، عن محمود بن غيلان، عن قبيصة، عن
سفيان، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل
الأغنياء بخمسمائة سنة، نصف يوم) قال الترمذى: وهذا حديث
صحيح. واحتج من فضل الغنى بقوله (صلى الله عليه وسلم) :
(إن المكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا) .
وبقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حسد إلا فى اثنتين،
أحدهما: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)
الحديث.
(10/167)
وبقوله لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير
من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) . وقال لأبى لبابة حين
قال: يا رسول الله، إن توبتى أن أنخلع من مالى صدقةً إلى
الله ورسوله: (أمسك عليك بعض مالك فإنه خير لك) . وقال فى
معاوية: (إنه لصعلوك لا مال له) ، ولم يكن (صلى الله عليه
وسلم) ليذمّ حالة فيها الفضل. وأحسن ما رأيت فى هذه
المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودى قال: الفقر والغنى
محنتان من الله تعالى وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدى
صبر الصابرين وشكر الشاكرين وطغيان البطرين، وإنما أشكل
ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب فى تفضيل الغنى على
الفقر، ووضع آخرون فى تفضيل الفقر، وأغفلوا الوجه الذى يجب
الحض عليه والندب إليه، وأرجو لمن صحت نيته وخلصت لله
طويته، وكانت لوجهه مقالته أن يجازيه الله على نيته
ويعلمه، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ
زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) [الكهف: 7] ، وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُم
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35] ، وقال:
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى
بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء
عَرِيضٍ) [فصلت: 51] ، وقال: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ
هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19 - 21] ، وقال تعالى:
(فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ) [الفجر: 15، 16] ، وقال:
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا
فِي الأَرْضِ) [الشورى: 27]
(10/168)
الآية، وقال: (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ) [الزخرف: 33] الآية، وقال:
(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ
اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7] ، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8] ، يعنى لحب المال،
وقال (صلى الله عليه وسلم) : (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن
أخاف عليكم أن تفتح الدنيا عليكم. .) الحديث. وكان (صلى
الله عليه وسلم) يستعيذ من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، فدل
هذا كله أن ما فوق الكفاف محنة، لا يسلم منها إلا من عصمه
الله، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما قل وكفى خير مما
كثر وألهى) . وقال عمر ابن الخطاب لما أُوتى بأموال كسرى:
(ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم وقطعوا
أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت
لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته على
لتبتلينى به، اللهم سلطنى على هلكته فى الحق واعصمنى من
فتنته) . فهذا كله يدل على فضل الكفاف، لا فضل الفقر كما
خيلّ لهم، بل الفقر والغنى بليتان كان النبى (صلى الله
عليه وسلم) يستعيذ من فتنتهما، ويدل على هذا قوله تعالى:
(وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ
تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا
مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29] ، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا
أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67] ، وقال: (وَلاَ
تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِيَامًا) [النساء: 5] ، وقال فى ولى اليتيم:
(وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ
فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ
(10/169)
بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6] ، وقال:
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء: 9] ،
وقال (صلى الله عليه وسلم) لأبى لبابة: (أمسك عليك بعض
مالك) . وقال لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن
تذرهم عالةً يتكففون الناس) . وهذا من الغنى الذى لا يطغى،
ولو كان كل ما زاد كان أفضل لنهاه النبى (صلى الله عليه
وسلم) أن يوصى بشىء، واقتصرت أيدى الناس عن الصدقات وعن
الإنفاق فى سبيل الله، وقال لعمرو بن العاص: (هل لك أن
أبعثك فى جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبةً من المال؟
فقال: ما للمال كانت هجرتى، إنما كانت لله ولرسوله. فقال:
نعم المال الصالح للرجل الصالح) . ولم يكن (صلى الله عليه
وسلم) ليحض أحدًا على ما ينقص حظه عند الله، فلا يجوز أن
يقال إن إحدى هاتين الخصلتين أفضل من الأخرى؛ لأنهما
محنتان، وكأن قائل هذا يقول: إن ذهاب يد الإنسان أفضل عند
الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره؛ فليس
هاهنا موضع للفضل، وإنما هى محن يبلو الله بها عباده؛
ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهما، ولم يأت فى الحديث،
فيما علمنا، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو على
نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان
يدعو بالكفاف ويستعيذ بالله من شرّ فتنة الفقر وفتنة
الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها فى دعائه.
فأماّ ما روى عنه أنه كان يقول: (اللهم أحينى مسكينًا
وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) . فإن ثبت فى
النقل فمعناه
(10/170)
ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة
إلى الله، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ترك أموال بنى
النضير وسهمه من فدك وخيبر، فغير جائز أن يظن به أن يدعو
إلى الله ألا يكون بيده شىء، وهو يقدر على إزالته من يده
بإنفاقه. وما روى عنه أنه قال: (اللهم من آمن بى وصدّق ما
جئت به، فأقلل له من المال والولد) . فلا يصح فى النقل ولا
فى الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك فى المال وحده لكان
محتملا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بقلة الولد فكيف
يدعو أن يقل المسلمون، وما يدفعه العيان مدفوع عنه (صلى
الله عليه وسلم) ، وأحاديثه لا تتناقض. كيف يذمّ معاوية،
ويأمر أبا لبابة وسعدًا أن يبقيا ما ذكر من المال ويقول:
إنه خير، ثم يخالف ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك
وقال: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته) .
قال أنس: فلقد أحصت ابنتى أنى قدّمت من ولد صُلبى مقدم
الحجاج البصرة مائةً وبضعةً وعشرين نسمةً بدعوة رسول الله،
وعاش بعد ذلك سنين وولد له) . فلم يدع له بكثرة المال إلا
وقد أتبع ذلك بقوله: (وبارك له فيما أعطيته) . فإن قيل:
فأى الرجلين أفضل: المبتلى بالفقر، أو المبتلى بالغنى إذا
صلحت حال كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم؛ إذ
قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه والآخر
كذلك، وقد يكون هذا الذى صلح حاله على الفقر لا يصلح حاله
على الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر والغنى. فإن قيل:
فإن كان كل واحد منهما يصلح حاله فى الأمرين، وهما فى غير
ذلك من الأعمال متساويان قد أدّى الفقير ما يجب عليه فى
فقره من الصبر والعفاف والرضا، وأدّى الغنى ما يجب عليه من
الإنفاق والبذل
(10/171)
والشكر والتواضع، فأى الرجلين أفضل؟ قيل:
علم هذا عند الله. وأمّا قوله: (وأصحاب الجد محبوسون) .
فإنما يحبس لهذا أهل التفاخر والتكاثر، وإنما من أدّى حق
الله فى ماله، ولم يرد به التفاخر وأرصد باقيه لحاجته
إليه، فليس أولئك بأولى منه فى السبق إلى شىء، ويدل على
هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حسد إلا فى اثنتين:
رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق) . فبين أنه
لا شىء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله تعالى
معنى ما أراد، ولو كان من هذه حاله مسبوقًا فى الأخرى لما
حضّ النبى (صلى الله عليه وسلم) على أن يتنافس فى عمله،
ولحضّ أبا لبابة على الحالة التى يسبق بها إلى الجنة، ألا
ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث: (الخيل لثلاثة:
لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذى هى عليه وزر
فرجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام) . فهذا من
المحبوسين للحساب، والأولان فهو كفافهما، غير أن آفات
الغنى أكثر، والناجون من أهل الغنى أقل، إذ لا يكاد يسلم
من آفاته إلا من عصمه الله؛ فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه؛
لأن الشيطان يسول فيه إما فى الأخذ بغير حقه، أو فى الوضع
فى غير حقه، أو فى منعه من حقه، أو فى التجبر والطغيان من
أجله، أو فى قلة الشكر عليه أو فى المنافسة فيه إلى ما لا
يبلغ صفته. قال المهلب: وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم)
: (يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام)
تفضيل للفقر؛ لأن تقديم دخول الجنة لا تستحق به الفضيلة،
ألا ترى أن النبي - عليه السلام - أفضل البشر ولا يتقدم
بالدخول فى الجنّة حتى يشفع فى أمته، وكذلك صالح المؤمنين
(10/172)
يشفعون فى قوم دونهم فى الدرجة، وإنما ينظر
يوم القيامة بين الناس فيقدم الأقل حسابًا فالأقل، فلذلك
قدم الفقراء، لأنهم لا علقة عليهم فى حساب الأموال،
فيدخلون الجنة قبل الأغنياء، ثم يحاسب أصحاب الأموال
فيدخلون الجنة، وينالون فيها من الدرجات ما قد لا يبلغه
الفقراء، وكذلك ليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اطلعت
فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء) . ما يوجب فضل
الفقراء، وإنما معناه أن الفقراء فى الدنيا أكثر من
الأغنياء، فأخبر عن ذلك كما نقول أكثر أهل الدنيا الفقراء،
لا من جهة التفضيل، وإنما هو إخبار عن الحال، وليس الفقر
أدخلهم الجنة، إنما أدخلهم الله الجنة بصلاحهم مع الفقر؛
أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحًا فلا فضل له فى الفقر، وأما
حديث سهل فلا يخلو أن يكون فضل الرجل الفقير على الغنى من
أجل فقره أو من أجل فضله، فإن كان من أجل فضله فلا حجة فيه
لمن فضل الفقر، وإن كان من أجل فقره فكان ينبغى أن يشترط
فى ملء الأرض مثله لا فقير فيهم. ولا دليل فى الحديث يدل
على تفضيله عليه مع جهة فقره؛ لأنا نجد الفقير إذا لم يكن
صالحًا؛ فكل غنى صالح خير منه، وفى حديث خباب أن هجرتهم لم
تكن لدنيا يصيبونها، ولا نعمة يستعجلونها، وإنما كانت لله؛
ليثبتهم عليها فى الآخرة بالجنة والنجاة من النار، فمن قتل
منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مرّ ولم يأخذ
من أجره شيئًا فى الدنيا، وكان أجره فى الآخرة موفرًا له
وكان الذى بقى منهم حتى فتح الله عليهم الدنيا، ونالوا من
الطيبات؛ خشوا أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم وهجرتهم فى
الدنيا بما نالوا
(10/173)
منها من النعيم؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة
أحرص. وتركه (صلى الله عليه وسلم) الأكل على الخوان وأكل
المرقق، فإنما فعل ذلك كأنه رفع الطيبات للحياة الدائمة فى
الآخرة، ولم يرض أن يستعجل فى الدنيا الفانية شيئًا منها
أخذًا منه بأفضل الدارين، وكان قد خيره الله بين أن يكون
نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا، فأختار عبدًا، فلزمه أن يفى
الله بما اختاره، والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين
ليستعان به على الآخرة، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد
غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من
هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله: (نَّحْنُ
نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132] . وقول
عائشة: (لقد توفى رسول الله وما فى بيتى شىء يأكله ذو كبد،
إلا شطر شعير) هو فى معنى حديث أنس الذى قبله من الأخذ
بالاقتصاد وبما يسد الجوعة، وفيه بركة النبى (صلى الله
عليه وسلم) . وفيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلومًا
للعلم بكيله وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير
معلوم مقداره.
- بَاب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) ، وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا
/ 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
(أَاللَّهِ الَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنْ كُنْتُ
لأعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ
كُنْتُ لأشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ،
وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمِ الَّذِى
يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ
عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا
لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِى
عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا
سَأَلْتُهُ إِلا لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ،
ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم)
فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى، وَعَرَفَ مَا فِى نَفْسِى،
وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ،
(10/174)
قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: الْحَقْ وَمَضَى، فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ،
فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِى، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا
فِى قَدَحٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟
قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ أَوْ فُلانَةُ، قَالَ:
أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ لِى،
قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإسْلامِ، لا
يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلا مَالٍ وَلا عَلَى أَحَدٍ،
إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ
يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ
أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ
فِيهَا فَسَاءَنِى ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا
اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا
أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى
بِهَا، فَإِذَا جَاءَ، أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا
أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا
اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ
رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ،
فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ
لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ:
يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ،
فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى
يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ
الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ، يَرُدُّ
عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ
يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ رَوِىَ
الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ، فَوَضَعَهُ
عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ:
أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ، قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ
فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ
يَقُولُ: اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ: لا، وَالَّذِى بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: فَأَرِنِى،
فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى،
وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ) . / 34 - وفيه: سَعْد قَالَ: إِنِّى
لأوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ،
وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ
الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا
لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ
أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإسْلامِ،
خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِى. / 35 - وفيه: عَائِشَةَ،
مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ
قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ
تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ.
(10/175)
/ 36 - وَقَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ
مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) أَكْلَتَيْنِ فِى يَوْمٍ
إِلا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. / 37 - وَقَالَتْ: كَانَ
فِرَاشُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَدَمٍ
وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ. / 38 - وعن: أَنَس، كنّا نأتيه
وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَغِيفًا
مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلا رَأَى شَاةً
سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. / 39 - وفيه: عَائِشَةَ،
قَالَتْ: كَانَ يَأْتِى عَلَيْنَا الشَّهْرُ وَمَا نُوقِدُ
فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلا
أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ. / 40 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا) . قال الطبري:
فى اختيار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخيار السلف من
الصحابة والتابعين شظف العيش، والصبر على مرارة الفقر
والفاقة ومقاساة خشونة خشن الملابس والمطاعم على خفض ذلك
ودعته، وحلاوة الغنى ونعيمه ما أبان عن فضل الزهد فى
الدنيا وأخذ القوت والبلغة خاصة. وكان نبينا (صلى الله
عليه وسلم) يطوى الأيام، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع؛
إيثارًا منه شظف العيش والصبر عليه، مع علمه بأنه لو سأل
ربه أن يسير له جبال تهامة ذهبًا وفضة لفعل، وعلى هذه
الطريقة جرى الصالحون، ألا ترى قول أبى هريرة أنه كان يشد
الحجر على بطنه من الجوع، وخرج يتعرض من يمر به من الصحابة
يسأله عن آى القرآن ليحمله ويطعمه. وفيه أن كتمان الحاجة
أحرى بإظهارها وأشبه بأخلاق الصابرين، وإن كان جائزًا له
الإخبار بباطن أمره وحاجته لمن يرجوه لكشف فاقته.
(10/176)
وهذا الحديث علم عظيم من أعلام النبوة،
وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرف ما فى نفس أبى
هريرة، ولم يعلم ذلك أبو بكر ولا عمر. وفيه شرب العدد
الكثير من اللبن القليل حتى شبعوا ببركة النبوة. وفيه ما
كان (صلى الله عليه وسلم) من إيثار البلغة وأخذ القوت فى
كرم نفسه وأنه لم يستأثر بشىء من الدنيا دون أمته. وقوله:
(اللهم ارزق آل محمد قوتًا) . فيه دليل على فضل الكفاف
وأخذ البلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك رغبةً فى
توفير نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى لتقتدى
بذلك أمته، ويرغبوا فيما رغب فيه نبيهم (صلى الله عليه
وسلم) . وروى الطبرى بإسناده عن ابن مسعود قال: حبذا
المكروهان الموت والفقر، والله ما هو إلا الغنى والفقر وما
أبالى بأيهما ابتليت، إن حق الله فى كل واحد منها واجب، إن
كان الغنى ففيه التعطف، وإن كان الفقر ففيه الصبر، قال
الطبرى: فمحنة الصابر أشد من محنة الشاكر، وإن كانا شريفى
المنزلة، غير أنى أقول كما قال مطرف بن عبد الله: لأن
أعافى فأشكر أحب إلىَّ من أن أبتلى فأصبر. ومن فضل قلة
الأكل ما روى يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة
قال: قال رسول الله: (إن أهل البيت ليقل طعمهم فتستنير
بيوتهم) . وروى إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، عن محمد بن
على، عن أبيه، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من
سرّه أن يكون حكيمًا فليقل طعمه، فإنه يغشى جوفه نور
الحكمة) . وقال مالك ابن دينار: سمعت
(10/177)
عبد الله الرازي يقول: كان أهل العلم بالله
والقبول عنه يقولون: إن الشبع يقسى القلب، ويفتر البدن.
ومن سير السلف فى تخليهم من الدنيا ما روى وكيع، عن
الأعمش، عن شقيق بن سلمة عن مسروق، عن عائشة قالت: قال أبو
بكر في مرضه الذى مات فيه: انظروا ما زاد فى مالى منذ دخلت
فى الخلافة؛ فابعثوا به إلى الخليفة بعدى، فإنى قد كنت
أستحله، وقد كنت أصيب من الودك نحوًا مما كنت أصيب من
التجارة. قالت عائشة: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبى يحمل
صبيانه وناضح كان يسنى عليه، فبعثناهما إلى عمر فأخبرنى
جدى أن عمر بكى وقال: رحمة الله على أبى بكر لقد أتعب من
بعده. والحُبلة والسمر: نوعان من الشجر أو النبات، عن أبى
عبيد. وقد تقدم الكلام فى حديث سعد وما فيه فى كتاب
الأطعمة فى باب ما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه
يأكلون وتقدّم فيه أيضًا الكلام فى حديث عائشة وأنس وأبى
هريرة مع الأحاديث المعارضة لها.
- بَاب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ، سُئلت أَىُّ الْعَمَلِ كَانَ
أَحَبَّ إِلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ؟
قَالَتِ: الدَّائِمُ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَىَّ حِينٍ كَانَ
يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ.
/ 42 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لَنْ يُنَجّيَ أَحَدًا
(10/178)
مِنْكُمْ عَمَلُهُ) ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا أَنَا، إِلا أَنْ
يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا،
وَقَارِبُوا وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ
الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا) . / 43 -
وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ
أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ
الأعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ) . /
44 - وَقَالَ فِى حديث آخر: (اكْلَفُوا مِنَ العمل مَا
تُطِيقُونَ) . / 45 - وَقَالَ عَلْقَمَة: سَأَلْتُ
عَائِشَةَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأيَّامِ؟
قَالَتْ: لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ
يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
يَسْتَطِيعُ. / 46 - وفيه: أَنَس، صَلَّى لَنَا النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا الصَّلاةَ، ثُمَّ رَقِىَ
الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ
الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (قَدْ أُرِيتُ الآنَ مُنْذُ
صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ
مُمَثَّلَتَيْنِ فِى قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ
كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) ، مرتين. قال
المؤلف: إنما حضّ النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته على
القصد والمداومة على العمل، وإن قلّ خشية الانقطاع عن
العمل الكثير فكأنه رجوع فى فعل الطاعات، وقد ذمّ الله
ذلك، ومدح من أوفى بالنذر، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى
أبواب صلاة الليل فى آخر كتاب الصلاة. فإن قال قائل: إن
قول عائشة: إن النبى لم يكن يخص شيئًا من الأيام بالعمل؛
يعارضه قولها: ما رأيت رسول الله أكثر صيامًا منه فى
شعبان. قيل: لا تعارض بين شىء من ذلك، وذلك أنه كان كثير
الأسفار فى الجهاد، فلا يجد سبيلا إلى صيام
(10/179)
الثلاثة الأيام من كل شهر، فيجمعها فى
شعبان، ألا ترى قول عائشة: كان يصوم حتى نقول لا يفطر،
ويفطر حتى نقول لا يصوم فهذا يبين أنه كان لا يخصّ شيئًا
من الزمان؛ بل كان يوقع العبادة على قدر نشاطه، وفراغه
لذلك من جهاده وأسفاره، فيقل مرةً ويكثر أخرى، هذا قول
المهلب، وقد قيل فى معنى كثرة: صيامه فى شعبان وجوه آخر قد
ذكرتها فى باب صوم شعبان فى كتاب الصيام. فإن قيل: فما
معنى ذكر حديث أنس فى هذا الباب؟ قيل: معناه أن يوجب
ملازمة العمل وإدمانه ما مثل له من الجنة للرغبة، ومن
النار للرهبة، فكان فى ذلك فائدتان: إحداهما: تنبيه للناس
أن يتمثلوا الجنة والنار بين أعينهم إذا وقفوا بين يدى
الله، كما مثلها الله لنبيه، وشغله بالفكرة فيهما عن سائر
الأفكار الحادثة عن تذكير الشيطان بما يسهيه حتى لا يدرى
كم صلّى، والثانية: أن يكون الخوف من النار الممثلة
والرغبة فى الجنة نصب عينى المصلى فيكونا باعثين له على
الصبر، والمداومة على العمل المبلغ إلى رحمة الله والنجاة
من النار برحمته. فإن قال قائل: فإن قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (لن يدخل أحدكم عمله الجنة) يعارض قوله تعالى:
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] . قيل: ليس كما توهمت،
ومعنى الحديث غير معنى الآية، أخبر النبى (صلى الله عليه
وسلم) فى الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله، وإنما
يدخلها العباد برحمة الله، وأخبر الله تعالى فى الآية أن
الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلوم أن درجات العباد
فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم، فمعنى الآية فى
ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث فى
الدخول فى الجنة والخلود فيها، فلا تعارض بين شيء من ذلك.
(10/180)
فإن قيل: فقد قال تعالى فى سورة النحل:
(سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] ، فأخبر أن دخول الجنة بالأعمال
أيضًا. فالجواب: أن قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] كلام مجمل يبينه الحديث،
وتقديره ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون،
فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث. وللجمع بين الحديث وبين
الآيات وجه آخر هو أن يكون الحديث مفسرًا للآيات، ويكون
تقديرها: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] ، و) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:
19] ، و) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)
[النحل: 32] مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن فضله
تعالى ورحمته لعباده فى اقتسام المنازل فى الجنة، كما هو
فى دخول الجنة لا ينفك منه، حين ألهمهم إلى ما نالوا به
ذلك، ولا يخلو شىء من مجازاة الله عباده من رحمته وتفضله،
ألا ترى أنه تعالى جازى على الحسنة عشرًا، وجازى على
السيئة واحدة، وأنه ابتدأ عباده بنعم لا تحصى، لم يتقدم
لهم فيها سبب ولا فعل، منها أن خلقهم بشرًا سويا، ومنها
نعمة الإسلام ونعمة العافية ونعمة تضمنه تعالى لأرزاق
عباده، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته سبقت غضبه،
إلى ما لا يهتدى إلى معرفته من ظاهر النعم وباطنها. وقوله:
(إلا أن يتغمدنى الله) قال أبو عبيد: لا أحسب يتغمدنى إلا
مأخوذ من غمد السيف، لأنك إذا غمدته فقد ألبسته إياه
وغشيته به. وقول عائشة: (كان عمله ديمةً) يعنى دائمًا،
وأصل الديمة: المطر الدائم مع سكون، قال لبيد:
(10/181)
باتتْ وأسبلَ واكف من ديمةٍ
يروى الخمائلَ دائمًا تسجامها
فأخبر أن الديمة: الدائم، فشبهت عائشة عمله (صلى الله عليه
وسلم) فى دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بديمة المطر.
- بَاب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ
وَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] . وَقَالَ عُمَرُ:
وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ. / 47 - فيه:
أَبُو سَعِيد، أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَسْأَلْهُ
أَحَدٌ إِلا أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ،
فَقَالَ: (لَهُمْ مَا يَكُونْ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ لا
أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ
يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ
اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ
تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) . /
48 - وفيه: الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) يُصَلِّى حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ،
فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا
شَكُورًا) . قال المؤلف: أرفع الصابرين منزلة عند الله من
صبر عن محارم الله، وصبر على العمل بطاعة الله، ومن فعل
ذلك فهو من خالص عباد الله وصفوته، ألا ترى قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (لن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر) وسئل
الحسن عن قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سئل عن الإيمان
فقال: (الصبر والسماح) فقيل للحسن: ما الصبر والسماح؟
فقال: السماح بفرائض الله، والصبر عن محارم الله.
(10/182)
وقال الحسن: وجدت الخير فى صبر ساعةٍ.
وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من يستعفف يعفه الله ومن
يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله) معناه من يعفه
الله يستعفف، ومن يصبره الله يتصبر، ومن يغنه الله يستغن،
وهذا مثل قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل: 5، 6] الآية. يبين صحة
هذا قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)
[التوبة: 118] ، فلولا ما سبق فى علمه أنه قضى لهم بالتوبة
ما تابوا، وكذلك لولا ما سبق فى علم الله أنهم ممن يستعفف
ويستغنى ويصبر ما قدروا على شىء من ذلك بفعلهم. يبين ذلك
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسرّ لما خلق
له) وهذا حجة فى أن أفعال العباد خلق لله تعالى والصبر فى
حديث المغيرة صبر على العمل بطاعة الله، لأنه كان (صلى
الله عليه وسلم) يصلى بالليل حتى ترم قدماه، ويقول: (أفلا
أكون عبدًا شكورًا) . قال الطبرى: وقد اختلف السلف فى حد
الشكر فقال بعضهم: شكر العبد لربه على أياديه عنده رضاؤه
بقضائه، وتسليمه لأمره فيما نابه من خير أو شر، ذكره
الربيع بن أنس عن بعض أصحابه. وقال آخرون: الشكر لله هو
الإقرار بالنعم أنها منه، وأنه المتفضل بها، وقالوا الحمد
والشكر بمعنى واحد روى ذلك عن ابن عباس وابن زيد. قال
الطبرى: والصّواب فى ذلك أن شكر العبد هو إقراره بأن ذلك
من الله دون غيره وإقرار الحقيقة الفعل، ويصدقه العمل،
فأما
(10/183)
الإقرار الذى يكذبه العمل، فإن صاحبه لا
يستحق اسم الشاكر بالإطلاق، ولكنه يقال شكر باللسان
والدليل على صحة ذلك قوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شُكْرًا) [سبأ: 13] ، ومعلوم أنه لم يأمرهم، إذ قال لهم
ذلك، بالإقرار بنعمه؛ لأنهم كانوا لا يجحدون أن يكون ذلك
تفضلا منه عليهم، وإنما أمرهم بالشكر على نعمه بالطاعة له
بالعمل، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) حين تفطرت قدماه
فى قيام الليل: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فإن قال قائل:
فأى المنزلتين أعلى درجةً: الصبر أو الشكر؟ قيل: كل رفيع
الدرجة شريف المنزلة، وما ذو العافية والرخاء كذى الفاقة
والبلاء، وفى قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] ،
وخصوصه إياهم من الأجر على صبرهم دون سائر من ضمن له
ثوابًا على عمله ما يبين عن فضل الصبر. وقد روى الأعمش، عن
أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : (يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم فى الدنيا
كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله تعالى لأهل
البلاء) وذكر ابن أبى الدنيا من حديث أم هانئ قالت: (دخل
علىّ رسول الله فقال: أبشرى، فإن الله قد أنزل لأمتى الخير
كله، قد أنزل) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] ، قلت: بأبى وأمى وما الحسنات؟
قال الصلوات الخمس ودخل علىّ فقال: أبشرى فإنه قد أنزل خير
لا شر بعده. قلت: بأبى وأمى ما هو؟ قال: أنزل الله) مَن
جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:
160] ، فقلت: يا رب زد أمتى، فأنزل الله تعالى: (مَّثَلُ
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ
سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة: 261] ،
(10/184)
فقلت: يا رب زد أمتى. فأنزل الله:
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ
حِسَابٍ) [الزمر: 10] .
- بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)
، وَقول اللَّه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]
. / 49 - فيه: سَهْلِ بْن سَعْدٍ، قَالَ رَسُول اللَّه
(صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَضْمَنْ لِى مَا بَيْنَ
لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ
الْجَنَّةَ) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ
خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ) . ورواه أبو شريح، عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) . / 51 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ
بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِى
النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغرب)
. / 52 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ
بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا
بَالا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ
الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ
اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا بَالا، يَهْوِى بِهَا فِى
جَهَنَّمَ) . قال المؤلف: ما أحق من علم أن عليه حفظةً
موكلين به، يحصون عليه سقط كلامه وعثرات لسانه، أن يحزنه
ويقل كلامه فيما لا يعنيه،
(10/185)
وما أحراه بالسعى فى أن لا يرتفع عنه ما
يطول عليه ندمه من قول الزور والخوض فى الباطل، وأن يجاهد
نفسه فى ذلك ويستعين بالله ويستعيذ من شر لسانه، وقوله
(صلى الله عليه وسلم) : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيرًا أو ليصمت) يعنى من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر الإيمان التام فإنه ستبعثه قوة إيمانه على محاسبة
نفسه فى الدنيا والصمت عما يعود عليه ندامةً يوم القيامة،
وكان الحسن يقول: ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن
أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك. وقال
عمر بن عبد العزيز لرباح بن عبيد: بلغنى أن الرجل ليظلم
بالمظلمة، فما زال المظلوم يشتم ظالمه حتى يستوفى حقه
ويفضل للظالم عليه. وروى أسد عن الحسن البصرى قال: لا يبلغ
أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب أحدًا بعيب هو فيه، وحتى
يبتدئ بصلاح ذلك العيب من نفسه، فإنه إن فعل ذلك لم يصلح
عيبًا إلا وجد فى نفسه عيبًا آخر، فينبغى له أن يصلحه،
فإذا كان المرء كذلك شغله فى خاصته واجبًا، وأحب العباد
إلى الله من كان كذلك. وقوله: (من ضمن لى ما بين لحييه)
يعنى لسانه فلم يتكلم بما يكتبه عليه صاحب الشمال (وما بين
رجليه) يعنى فرجه فلم يستعمله فيما لا يحل له (ضمنت له
الجنة) . ودل بهذا الحديث أن أعظم البلاء على العبد فى
الدنيا اللسان والفرج، فمن وقى شرهما فقد وقى أعظم الشر،
ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن العبد ليتكلم
بالكلمة لا يلقى لها بالاً يزل بها فى النار أبعد مما بين
المشرق والمغرب) . وقال أهل العلم: هى الكلمة عند السلطان
بالبغي والسعي على
(10/186)
المسلم، فربما كانت سببًا لهلاكه، وإن لم
يرد ذلك الباغى، لكنها آلت إلى هلاكه، فكتب عليه إثم ذلك،
والكلمة التى يكتب الله له بها رضوانه الكلمة يريد بها وجه
الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه
المسلم، ويفرج عنه بها كربةً من كرب الدنيا، فإن الله
تعالى يفرج عنه كربةً من كرب الآخرة، ويرفعه بها درجات يوم
القيامة.
- بَاب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
/ 53 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظله:
رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. . .) الحديث.
قال المؤلف: قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب
المحاربين فى باب فضل من ترك الفواحش، ونذكر فى هذا الباب
ما روى فى البكاء من خشية الله تعالى عن الأنبياء، عليهم
السلام، وعن السلف أيضًا، روى أسد بن موسى، عن عمران بن
زيد، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) : (أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا
فتباكوا، فإن أهل النار يبكون فى النار حتى تسيل دموعهم فى
وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع وتسيل الدماء فتقرح
العيون، فلو أن السفن أجرين فيها لجرت) وكان (صلى الله
عليه وسلم) إذا قام إلى الصلاة سمع لجوفه أزيز كأزيز
المرجل من البكاء، وهذه كانت سيرة الأنبياء والصالحين كأن
خوف الله أُشرب قلوبهم واستولى عليهم الوجل حتى كأنهم
عاينوا الحساب، وعن يزيد
(10/187)
الرقاشى قال: يا لهفاه سبقنى العابدون،
وقطع بى نوح؛ يبكى على خطيئته، ويزيد لا يبكى على خطيئته،
إنما سُمّى نوحًا لطول ما ناح على نفسه فى الدنيا. وذكر
ابن المبارك عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب،
وكان يبكى من خشية الله، ما لو كان القار على عينيه لخوفه
ولقد كانت الدموع اتخذت فى وجهه مجرى. وقال ابن عباس: قال
النبي - عليه السلام -: (كان مما ناجى الله موسى أنه لم
يتعبد العابدون بمثل البكاء من خيفتى، أما البكاءون من
خيفتى فلهم الرفيق لا يشاركون فيه) . وعن وهيب بن الورد أن
زكريا قال ليحيى ابنه شيئًا فقال له: يا أبة، إن جبريل
أخبرنى أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء.
وقال الحسن: أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: أكحل عينيك
بالبكاء إذا رأيت البطالين يضحكون. وعن وهب بن منبه عن
النبي - عليه السلام - قال: (لم يزل أخى داود باكيًا على
خطيئته مدة حياته كلها) ، وكان يلبس الصوف ويفترش الشعر
ويصوم يومًا ويفطر يومًا، ويأكل خبز الشعير بالملح
والرماد، ويمزج شرابه بالدموع، ولم يُر ضاحكًا بعد
الخطيئة، ولا شاخصًا ببصره إلى السماء حياءً من ربه وهذا
بعد المغفرة، وكان إذا ذكر خطيئته خر مغشيا عليه يضطرب
كأنه أعجب به، فقال: وهذه خطيئة أخرى. وروى عن محمد بن كعب
فى قوله تعالى: (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى
(10/188)
وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] ، قال: الزلفى:
أول من يشرب من الكأس يوم القيامة داود وابنه. قال بعض
الناس: أرى هذه الخاصة لشربه دموعه من خشية الله عز وجل
وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته،
فقيل له: قد تذكر الجنة والنار ولا تبكى وتبكى من هذا؟
قال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لى: (إن القبر
أول منزلة من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر
منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) . وقال أبو رجاء:
رأيت مجرى الدموع من ابن عباس كالشراك البالى من البكاء.
- بَاب الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ
/ 54 - فيه: حُذَيْفَةَ، وَأَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ يُسِىءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ
لأهْلِهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَخُذُونِى، فَذَرُّونِى فِى
الْبَحْرِ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ،
فَجَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى
الَّذِى صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا حَمَلَنِى إِلا مَخَافَتُكَ،
فَغَفَرَ لَهُ) . / 55 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد فِى حديثه:
(إِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا،
فَسَّرَهَا قَتَادَةُ، لَمْ يَدَّخِرْ، وَإِنْ يَقْدَمْ
عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ
فَأَحْرِقُونِى حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا،
فَاسْحَقُونِى، أَوْ قَالَ: فَاسْهَكُونِى، ثُمَّ إِذَا
كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَأَذْرُونِى فِيهَا، فَأَخَذَ
مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي، فَفَعَلُوا،
(10/189)
فَقَالَ اللَّهُ: كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ
قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَىْ عَبْدِى، مَا حَمَلَكَ عَلَى
مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ،
فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ) . قال المؤلف: ذكر
البخارى فى باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، قال حذيفة: (وكان
نباشًا) . قال المؤلف: فغفر الله له بشدة مخافته، وأقرب
الوسائل إلى الله خوفه وألا يأمن المؤمن مكره، قال خالد
الربعى: وجدت فاتحة زبور داود: رأس الحكمة خشية الربّ.
وكان السلف الصالح قد أشرب الخوف من الله قلوبهم واستقلوا
أعمالهم ويخافون ألا يقبل منهم مع مجانبتهم الكبائر، فروى
عن عائشة: (أنها سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن قوله
تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] ، قال: يا ابنة الصديّق، هم
الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألا يقبل منهم) .
وقال مطرف بن عبد الله: كاد خوف النار يحول بينى وبين أن
أسأل الله الجنة. وقال بكر، لما نظر إلى أهل عرفات: ظننت
أنه قد غفر لهم لولا أنى كنت معهم. فهذه صفة العلماء بالله
الخائفين له، يعدون أنفسهم من الظالمين الخاطئين، وهم
أنزاه برآه مع المقصرين، وهم أكياس مجتهدون لا يدلون عليه
بالأعمال فهم مروّعون خاشعون وجلون
(10/190)
وقال عبد الله بن مسعود: وددت أنى انفلقت
عن روثة لا أنتسب إلا إليها، فيقال: عبد الله بن روثة، وأن
الله قد غفر لى ذنبًا واحدًا. وقال الحسن البصري: يخرج من
النار رجل بعد ألف عام، وليتنى كنت ذلك الرجل، لقد شهدت
أقوامًا كانوا أزهد فيما أحل لهم منكم فيما حرم عليكم،
ولهم كانوا أبصر بقلوبهم منكم بأبصاركم، ولهم كانوا أشفق
أن لا تقبل حسناتهم منكم ألا تؤخذوا بسيئاتكم. وقال حكيم
من الحكماء: إذا أردت أن تعلم قدرك عند الله فاعلم قدر
طاعة الله فى قلبك. وقال ميمون بن مهران: ما فينا خير إلا
أنا نظرنا إلى قوم ركبوا الجرائم وعففنا عنها، فظننا أن
فينا خيرًا وليس فينا خير. فإن قال قائل: كيف غفر لهذا
الذى أوصى أهله بإحراقه وقد جهل قدرة الله على إحيائه،
وذلك أنه قال: (إن يقدر على الله يعذبنى) وقال فى رواية
أخرى: (فوالله لئن قدر الله علىَّ ليعذبنى) . قال الطبري:
قيل: قد اختلف الناس فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم: أما
ما كان من عفو الله عما كان منه فى أيام صحتّه من المعاصى؛
فلندمه عليها وتوبته منها عند موته، ولذلك أمر ولده
بإحراقه وذروه فى البر والبحر خشية من عقاب ربه
(10/191)
والندم توبة، ومعنى رواية من روى: (فوالله
لئن قدر الله عليه) أى ضيق عليه، كقوله: (وَمَن قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق: 7] ، وقوله: (وَأَمَّا إِذَا
مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر: 16] ،
لم يرد بذلك وصف بارئه بالعجز عن إعادته حيًا، ويبين ذلك
قوله فى الحديث حين أحياه ربه (قال: ما حملك على ما صنعت؟
قال: مخافتك يا رب) . وبالخوف والتوبة نجا من عذابه عز
وجل. وقال آخرون فى معنى قوله (لئن قدر الله علىَّ) :
معناه القدرة التى هى خلاف العجز، وكان عنده أنه إذا أحرق
وذرى فى البر والبحر أعجز ربه عن إحيائه، قالوا: وإنما غفر
له جهله بالقدرة؛ لأنه لم يكن تقدم من الله تعالى فى ذلك
الزمان بأنه لا يغفر الشرك به، وليس فى العقل دليل على أن
ذلك غير جائز فى حكمة الله؛ بل الدليل فيه على أنه ذو
الفضل والإحسان والعفو عن أهل الآثام، وإنما نقول: لا يجوز
أن يغفر الشرك بعد قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ
أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48] ، فأما جواز غفران الله
ذلك لولا الخبر فى كتابه فهو كان الأولى بفضله والأشبه
بإحسانه لأنه لا يضره كفر كافر، ولا ينفعه إيمان مؤمن.
وقال آخرون: بل غفر له وإن كان كفرًا من قوله، من أجل أنه
قاله على جهل منه بخطئه؛ فظن أن ذلك صواب. قالوا: وغيرجائز
فى عدل الله وحكمته أن يسّوى بين من أخطأ وهو يقصد الصواب،
وبين من تعمّد الخطأ والعناد للحق فى العقاب. وقال آخرون:
إنما غفر له، وإن كان كفرًا ممن قصد قوله وهو يعقل
(10/192)
ما يقول؛ لأنه قاله وهو لا يعقل ما يقول.
وغير جائز وصف من نطق بكلمة كفر وهو لا يعلمها كفرًا
بالكفر، وهذا قاله وقد غلب على فهمه من الجزع الذى كان
لحقه لخوفه من عذاب الله تعالى وهذا نظير الخبر الذى روى
عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الذى يدخل الجنة آخر من
يدخلها فيقال له: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها) فيقول
للفرح الذى يدخله: (يا رب أنت عبدى وأنا ربك مرتين) قالوا
فهذا القول لو قاله على فهم منه بما يقول كان كفرًا، وإنما
لم يكن منه كفرًا لأنه قاله وقد استخفه الفرح مريدًا به أن
يقول: أنت ربى وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال من ذلك.
ويشهد لصحة هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5] . قال المؤلف: وسأذكر كلام
الأشعرى ومذهبه فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام فى باب
قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ)
[الفتح: 15] ، فهو حديث أكثر الناس فيه القول إن شاء الله.
وقوله: (لم يبتئر خيرًا) فإن الأصمعى والكسائى كانا يقولان
فيه: لم يقدم خيرًا. وقال غيرهما: معناه أنه لم يقدم لنفسه
خيرًا خبأه لها، وقال: إن أصل الابتئار الإخفاء، يقال منه:
بأرت الشىء وابتأرته ابتئارًا، ومنه سميت الحفرة: البؤرة،
وفيه لغتان ابتأرت وابتيرت، ومصدره ابتئارًا. وقال صاحب
العين: البئرة بوزن فعلة: ما ادخرت من شيء.
(10/193)
- بَاب الانْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِى
/ 56 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ به
كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: رَأَيْتُ
الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ،
فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ،
فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ، فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ
طَائِفَةٌ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ، فَاجْتَاحَهُمْ) . /
57 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ
كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ
مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ
الَّتِى تَقَعُ فِى النَّارِ، يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ
يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا،
فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ
يَقْتَحِمُونَ فِيهَا) . / 58 - وفيه: عَبْدَ اللَّه بْنَ
عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ
وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ) . قال المؤلف: هذه أمثال ضربها النبى (صلى الله
عليه وسلم) لأمته لينبههم بها على استشعار الحذر، خوف
التورّط فى محارم الله والوقوع فى معاصيه، ومثل لهم ذلك
بما عاينوه وشاهدوه من أمور الدنيا؛ ليقرب ذلك من أفهامهم،
ويكون أبلغ فى موعظتهم، فمثل (صلى الله عليه وسلم) اتباع
الشهوات المؤدية إلى النار بوقوع الفراش فى النار؛ لأن
الفراش من شأنه اتباع ضوء النار حتى يقع فيها، فكذلك متبع
شهوته يئول به ذلك إلى العذاب، وشبهّ جهل راكب الشهوات
بجهل الفراش؛ لأنها لا تظن أن النار تحرقها حتى تقتحم
فيها. والنذير العريان: رجل من خثعم حمل عليه يوم ذى
الخلصة فقطع
(10/194)
يده ويد امرأته، فرجع إلى قومه، فضرب -
عليه السلام - المثل لأمته لأنه تجردّ لإنذارهم، لما يصير
إليه من اتبعه من كرامة الله، وبما يصير إليه من عصاه من
نقمته وعذابه؛ تجرد من رأى من الحقيقة ما رأى النذير
العريان الذى قطعت يده ويد امرأته حتى ضرب به المثل فى
تحقيق الخبر. وقوله: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)
يعنى المهاجر التام الهجرة من هجر المحارم، كما قال (صلى
الله عليه وسلم) أن جهاد النفس أكبر من جهاد العدو.
- بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (لَوْ
تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا
/ 59 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَس، عن النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ
لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . قال
المؤلف: روى سنيد، عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن
ابن عمر قال: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى
المسجد، فإذا قوم يتحدثون ويضحكون، قال: أكثروا ذكر الموت،
أما والذى نفسى بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً
ولبكيتم كثيرًا) . وخشية الله إنما تكون على مقدار العلم
به، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28] ، ولما لم يعلم أحد
كعلم النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يخش كخشيته، فمن نور
الله قلبه وكشف الغطاء عن بصيرته، وعلم ما حباه الله من
النعم، وما يجب عليه من الطاعة والشكر، وأفكر فيما يستقبل
من أهوال يوم القيامة،
(10/195)
وما يلقى العباد فى تلك المواقف من
الشدائد، وما يعاينوه من مساءلة الله عباده عن مثاقيل
الذر، وعن الفتيل والقطمير كان حقيقًا بكثرة الحزن وطول
البكاء، ولهذا قال أبو ذرّ: لو تعلمون العلم ما ساغ لكم
طعام ولا شراب، ولا نمتم على الفرش، ولاجتنبتم النساء،
ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون. وقال عبد الله بن
عمرو: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاءً فتباكوا، فلو تعلمون
العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته.
وقال الفضيل: بلغنى عن طلحة أنه ضحك يومًا فوثب على نفسه،
وقال: فيم تضحك، إنما يضحك من قطع الصراط، ثم قال: آليت
على نفسى ألا أكون ضاحكًا حتى أعلم متى تقع الواقعة، فلم
ير ضاحكًا حتى صار إلى الله. وقال الحسن: يحق لمن عرف أن
الموت مورده والقيامة موعده، وأن الوقوف بين يدى الله
مشهده، أن يطول فى الدنيا حزنه. وقال سفيان فى قوله تعالى:
(وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 91] ، قال: الحزن
الدائم فى القلب، وقال: إنما الحزن على قدر البصر. وقال
بعضهم: الحزن والخشية هى مواريث القلوب التى تُنال بما
قبلها من الأعمال، فمن رام أن يقيم فرضه تامًا فيصلى لله
بكمال الصلاة، ويصوم بكمال الصيام، ويؤدى كذلك سائر
الفرائض، ويقوم بالحق على نفسه وأهله ومن يسأل عنه فى
مداخلته ومخالطته، ويقيم ما أمر به فى لسانه وسمعه وبصره،
وجميع
(10/196)
جوارحه حتى يدخل فى قوله تعالى: (إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
[فصلت: 30] ، وجد نفسه عن ذلك عاجزًا مقصرًا، فإذا رأى ذلك
بعين جلية وعلم قرب أجله وعظيم خطبه، وأن الوقوف بين يدى
الله من ورائه حزن على نفسه، بتخلفه عن السابقة التى
يسمعها لغيره، ووجب عليه الجد فى أمره واستجلاب معونة الله
بالاعتصام به، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ
فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا
وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90] . وقال مطرف
بن عبد الله: دع أعمال الشر؛ فإن فى الخير شرًا كثيرًا فلو
لم تكن لنا ذنوب إلا أن الله تعالى يؤاخذنا بصحة أعمالنا
وإتقانها وإحكامها وإصلاحها وصوابها لكان فى هذا شغل كثير
لمن يعقل. وقد تقدم فى كتاب الإيمان فى باب خوف المؤمن أن
يحبط عمله ولا يشعر ما يشبه هذا المعنى.
- بَاب حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
/ 60 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ،
وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ) . / 61 - وفيه:
ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ
نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ) . / 62 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَصْدَقُ كلمة قَالَها الشَّاعِرُ: أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا
خَلا اللَّهَ بَاطِلُ) .
(10/197)
قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(حجبت النار بالشهوات والجنة بالمكاره) من جوامع الكلم
وبديع البلاغة فى ذم الشهوات والنهى عنها، والحض على طاعة
الله، وإن كرهتها النفوس وشق عليها؛ لأنه إذا لم يكن يوم
القيامة غير الجنة والنار ولم يكن بد من المصير إلى
إحداهما فواجب على المؤمنين السعى فيما يدخل إلى الجنة
وينقذ من النار، وإن شق ذلك عليهم؛ لأن الصبر على النار
أشق، فخرج هذا الخطاب منه (صلى الله عليه وسلم) بلفظ الخبر
وهو من باب النهى والأمر. وقوله: (الجنة أقرب إلى أحدكم من
شراك نعله، والنار مثل ذلك) فدليل واضح أن الطاعات الموصلة
إلى الجنة والمعاصى المقربة من النار قد تكون فى أيسر
الأشياء، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الرجل
ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله
له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من
سخط الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله له بها سخطه إلى يوم
يلقاه) . فينبغى للمؤمن ألا يزهد فى قليل من الخير يأتيه،
ولا يستقل قليلاً من الشر يجتنيه فيحسبه هينًا، وهو عند
الله عظيم، فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التى يرحمه الله
بها، ولا يعلم السيئة التى يسخط الله عليه بها، وقد قال
الحسن البصرى: من تقبلت منه حسنة واحدة دخل الجنة. وقوله
(صلى الله عليه وسلم) : (أصدق كلمة قالها الشاعر: ألا كل
شىء ما خلا الله باطل) فالمراد به الخصوص؛ لأن كل ما قرب
من الله فليس بباطل، وإنما أراد أن كل شىء من أمور الدنيا
التى لا تئول إلى طاعة الله، ولا تقرب منه فهى باطل.
(10/198)
- بَاب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ
أَسْفَلَ مِنْهُ
/ 63 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ
عَلَيْهِ فِى الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى
مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ) . قال الطبرى: وهذا حديث جامع
لمعانى الخير، وذلك أن العبد لا يكون بحال من عبادة ربه
مجتهدًا فيها؛ إلا وجد من هو فوقه فى ذلك، فمتى طلب نفسه
باللحاق بمن هو فوقه استقصر حاله التى هو عليها، فهو أبدًا
فى زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حالةٍ خسيسةٍ من
دنياه إلا وجد من أهلها من هو أخسّ منه حالا، فإذا تأمل
ذلك وتفكره وتبين نعم الله عليه؛ علم أنها وصلت إليه ولم
تصل إلى كثير من خلقه، فضله الله بها من غير أمر أوجب ذلك
له على خالقه، ألزم نفسه من الشكر عليها أن وفق لها ما
يعظم به اغتباطه فى معاده.
- بَاب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ
/ 64 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ
بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ
عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا
فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ
حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ
كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا
كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً،
فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ
لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) . قال المؤلف: هذا حديث شريف
بينّ فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار تفضل الله على
عباده بأن جعل هموم العبد بالحسنة، وإن لم يعملها حسنة،
وجعل همومه بالسيئة إن لم يعملها حسنة، وإن عملها
(10/199)
كتبت سيئة واحدة، وإن عمل الحسنة كتبت
عشرًا، ولولا هذا التفضل العظيم لم يدخل أحد الجنة؛ لأن
السيئات من العباد أكثر من الحسنات، فلطف الله بعباده بأن
ضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيئات، وإنما جعل
الهموم بالحسنة حسنةً، لأن الهموم بالخير هو فعل القلب
بعقد النية على ذلك. فإن قيل: فكان ينبغى على هذا القول أن
يكتب لمن همّ بالشرّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهموم بالشرّ
عمل من أعمال القلب للشرّ. قيل: ليس كما توهمت، ومن كفّ عن
فعل الشرّ فقد نسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به
الخير وعصى هواه المريد للشرّ، فذلك عمل للقلب من أعمال
الخير، فجوزى على ذلك بحسنة، وهذا كقوله (صلى الله عليه
وسلم) : (على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: يمسك
عن الشرّ فإنه صدقة) ذكره فى كتاب الأدب فى باب كل معروف
صدقة. وحديث ابن عباس معناه الخصوص لمن همّ بسيئة، فتركها
لوجه الله تعالى وأما من تركها مكرهًا على تركها بأن يحال
بينه وبينها، فلا تكتب له حسنة ولا يدخل فى معنى الحديث.
قال الطبرى: وفى هذا الحديث تصحيح مقالة من يقول: إن
الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم
اعتقاده لذلك، وردّ مقالة من زعم أن الحفظة، إنما تكتب ما
ظهر من عمل العبد وسمع، واحتجوا بما روى ابن وهب، عن
معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى
معاوية، عن عائشة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) قالت:
(لأن أذكر الله تعالى فى نفسى أحب إلي من أن أذكره
(10/200)
بلساني سبعين مرةً، وذلك لأن ملكًا لا
يكتبها، وبشرًا لا يسمعها) والصواب فى ذلك ما صح به الحديث
عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من همّ بحسنةٍ فلم
يعملها كتبت له حسنة) والهم بالحسنة إنما هو فعل العبد
بقلبه دون سائر الجوارح، كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذى به
يصل الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه؛ هو
المعنى الذى به يصل إلى علم ذكر ربه بقلبه، ويجوز أن يكون
جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلاً كما جعل لكثير من
أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله عن
عيسى ابن مريم أنه قال لبنى إسرائيل: (وَأُنَبِّئُكُم
بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ)
[آل عمران: 49] ، وقد أخبر نبينا (صلى الله عليه وسلم)
بكثير من علم الغيب، قالوا: فغير مستنكر أن يكون الكاتبان
الموكلان بابن آدم، قد جعل لهما سبيلاً إلى علم ما فى قلوب
بنى آدم من خير أو شرٍّ، فيكتبانه إذا حدث به نفسه أو عزم
عليه. وقد قيل: إن ذلك بريح يظهر لهما من القلب، سئل أبو
معشر عن الرجل يذكر الله بقلبه، كيف يكتب الملك؟ قال: يجد
الريح. وسأذكر اختلاف السلف فى أى الذكرين أعظم ثوابًا
الذكر الذى هو بالقلب أو الذكر الذى هو باللسان عند قوله
(صلى الله عليه وسلم) عن الله تعالى: (وإن ذكرنى عبدى فى
نفسه ذكرته فى نفسى) فى باب قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] فى كتاب الاعتصام.
(10/201)
- بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقرَاتِ
الذُّنُوبِ
/ 65 - فيه: أَنَس، إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا
هِىَ أَدَقُّ فِى أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ
كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله
عليه وسلم) مِنَ الْمُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْد
اللَّهِ: يَعْنِى الْمُهْلِكَاتِ. قال المؤلف: إنما كانوا
يعدون الصغائر من الموبقات لشدة خشيتهم لله، وإن لم تكن
لهم كبائر، ألا ترى أن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) إذا
سئل الشفاعة يوم القيامة يذكر ذنبه، وأنه كذب ثلاث كذبات،
وهى قوله فى زوجته: هذه أختى. وهى أخته فى الدين، وقوله:
إنى سقيم. أى: سأسقم، وقوله: فعله كبيرهم هذا. يعنى الصنم،
فرأى ذلك (صلى الله عليه وسلم) من الذنوب، وإن كان لقوله
وجه صحيح، فلم يقنع من نفسه إلا بظاهر يطابق الباطن، وهذا
غاية الخوف. والمحقرات إذا كثرت صارت كبائر بالإصرار عليها
والتمادى فيها، وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن
يزيد بن أبى حبيب، عن أسلم أبى عمران أنه سمع أبا أيوب
يقول: إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها ويغشى المحقرات،
فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئته، وإن الرجل
ليعمل السيئة، فما يزال منها مشفقًا حذرًا حتى يلقى الله
يوم القيامة آمنًا. وذكر أسد بن موسى عن ابن مسعود قال:
إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تهلك صاحبها، وإن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد ضرب لنا مثلاً كمثل ركب
نزلوا بأرض فلاة، فلم يجدوا فيها حطبًا، فانطلق كل واحدٍ
منهم، فجاء بعود حتى اجتمعت أعواد،
(10/202)
فأوقدوا نارًا أنضجت ما جعل فيها) ورواه
سهل بن سعد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقال أبو عبد
الرحمن الحبلى: مثل الذى يجتنب الكبائر ويقع فى المحقرات،
كرجل لقاه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه
فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى
اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذى يجتنب الكبائر ويقع فى
المحقرات. وقال أبو بكر الصديق: إن الله يغفر الكبائر فلا
تيئسوا، ويعذب على الصغائر فلا تغتروا.
- بَاب الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا
/ 66 - فيه: سَهْل، نَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ
مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ، فَقَالَ:
(مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ،
فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ
الْمَوْتَ، فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ، فَوَضَعَهُ
بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ
مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى
النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ
أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ
أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ،
وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم) . قال المؤلف: فى
تغييب الله عن عباده خواتيم أعمالهم حكمة بالغة وتدبير
لطيف، وذلك أنه لو علم أحد خاتمة عمله لدخل الإعجاب والكسل
من علم أنه يختم له بالإيمان، ومن علم أنه يختم له بالكفر
يزداد غيًا وطغيانًا وكفرًا فاستأثر الله تعالى بعلم ذلك
ليكون العباد بين خوف ورجاء، فلا يعجب المطيع لله بعمله
ولا
(10/203)
ييأس العاصي من رحمته، ليقع الكل تحت الذل
والخضوع لله والافتقار إليه، وقال حفص بن حميد: قلت لابن
المبارك: رأيت رجلاً قتل رجلاً، فوقع فى نفسى أنى أفضل
منه. فقال عبد الله: أمنك على نفسك أشد من ذنبه. قال
الطبرى: ومعنى قوله: إن أمنه على نفسه أنه من الناجين عند
الله من عقابه أشد من ذنب القاتل؛ لأنه لا يدرى إلى ما
يئول إليه أمره وعلى من يموت، ولا يعلم أيضًا حال القاتل
إلى ما يصير إليه، لعله يتوب فيموت تائبًا فيصير إلى عفو
الله، وتصير أنت إلى عذابه لتغير حالك من الإيمان بالله
إلى الشرك به، فالمؤمن فى حال إيمانه وإن كان عالمًا بأنه
محسن فيه، غير عالم على ما هو ميت عليه، وإلى ما هو صائر
إليه، فغير جائز أن يقضى لنفسه، وإن كان محسنًا بالحسنى
عند الله، ولغيره وإن كان مسيئًا بالسوء، وعلى هذا مضى
خيار السلف.
- بَاب الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلطاء السُّوءِ
/ 67 - فيه: أَبُو سَعِيد، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (رَجُلٌ جَاهَدَ
بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِى شِعْبٍ مِنَ
الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ، النَّاسَ مِنْ
شَرِّهِ) . / 68 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ،
خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ، يَتْبَعُ
بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ
بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) . فيه: أن اعتزال الناس عند
ظهور الفتن والهرب عنهم أسلم للدين من مخالطتهم، ذكر على
بن معبد، عن الحسين بن واقد قال: قال
(10/204)
النبي - عليه السلام - (إذا كانت سنة
ثمانين ومائة فقد أحللت لأمتي العزبة والعزلة والترهب فى
رءوس الجبال) . وذكر على بن معبد عن عبد الله بن المبارك
عن مبارك بن فضالة، عن الحسن يرفعه إلى رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) قال: (يأتى على الناس زمان لا يسلم لذى
دين دينه، إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق وحجر إلى
حجر، فإذا كان كذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله، فإذا
كان كذلك حلت العزلة، قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزلة
وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: إذا كان كذلك كان هلاك الرجل
على يدى أبويه، فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدى
زوجته، فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدى ولده، فإن لم
يكن له ولد كان هلاكه على يدى القرابات والجيران. قالوا:
وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يعيرونه بضيق المعيشة
ويكلفونه ما لا يطيق، فعند ذلك يورد نفسه الموارد التى
يهلك فيها) . وقال صاحب العين: شعف الجبال: رءوسها، وكذلك
شعف الأثافى، وشعفة كل شىء: أعلاه، ومواقع القطر: بطون
الأودية، والشعب: ما انفرج بين جبلين، عن صاحب العين.
30 - بَاب رَفْعِ الأمَانَةِ
/ 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ، فَانْتَظِرِ
السَّاعَةَ) ، قَالَ:
(10/205)
كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ،
فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) . / 70 - وفيه: حُذَيْفَة، قَالَ:
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ
الآخَرَ، حَدَّثَنَا: (أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى
جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ
الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) .
وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، قَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ
النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ،
فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ
يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا
مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ،
فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ،
فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلا يَكَادُ أَحَدٌ
يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِى بَنِى فُلانٍ
رَجُلا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ،
وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِى قَلْبِهِ
مِثْقَالُ حَبَّةِ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. . .)
الحديث. / 71 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإبِلِ
الْمِائَةِ، لا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) . قال
المؤلف: حديث أبى هريرة وحذيفة من أعلام النبوة؛ لأنه (صلى
الله عليه وسلم) ذكر فيها فساد أديان الناس وتغير
أماناتهم، وقد ظهر كثير من ذلك. وقوله: (إذا ضيعت الأمانة
فانتظر الساعة) هو كلام مجمل أحب الأعرابى السائل النبي -
عليه السلام - شرحه له فقال له: (كيف إضاعتها يا رسول
الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله) فأجابه (صلى الله
عليه وسلم) بجواب عام دخل فيه تضييع الأمانة، وما كان فى
معناها مما لا يجرى على طريق الحق، كاتخاذ العلماء
(10/206)
الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة
الجور وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله، وقد ذكر ابن أبى
شيبة من حديث المقبرى عن أبى هريرة قال: قال النبى (صلى
الله عليه وسلم) : (سيأتى على الناس سنوات خداّعات يصدق
فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن،
ويخون فيها الأمين، وينطق الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟
قال: الرجل التافه فى أمر العامة) وقد رأينا أكثر هذه
العلامات وما بقى منها فغير بعيد، روى ابن عيينة عن عبد
العزيز بن رفيع قال: سمعت شداد بن معقل قال: سمعت ابن
مسعود يقول: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما
تفقدون الصلاة. وروى يونس بن زيد، عن الزهرى، عن الصنابحى،
عن حذيفة قال: لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول
نقضه الخشوع. وقد تقدّم معنى حديث حذيفة وما فيه من غرائب
اللغة فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس فى كتاب الفتن.
وقوله: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) يريد
(صلى الله عليه وسلم) أن الناس كثير والمَرْضِّى منهم
قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة
الواحدة وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة فى آخر
الزمان، ولذلك ذكره البخارى فى رفع الأمانة، ولم يرد به
(صلى الله عليه وسلم) زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد
لهم بالفضل فقال: (خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم
الذين يلونهم، ثم يجئ بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون،
ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون. .) الحديث،
فهؤلاء أراد بقوله: (الناس كإبل مائة) والله الموفق.
(10/207)
31 - بَاب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
/ 72 - فيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ
يُرَائِى يُرَائِى اللَّهُ بِهِ) . قال المؤلف: قوله: (من
سمع) معناه من سمع بعمله الناس وقصد به اتخاذ الجاه
والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله، فإن الله تعالى يسمع
به خلقه، أى يجعله حديثًا عند الناس الذى أراد نيل المنزلة
عندهم بعمله، ولا ثواب له فى الآخرة عليه، وكذلك من راءى
بعمله الناس راءى الله به، أى أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم
ولم يفعله لوجهه، فاستحق على ذلك سخط الله وأليم عقابه،
وقد جاء فى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:
(يقال للعبد يوم القيامة: فعلت كذا وكذا ليقال فقد قيل،
اذهبوا به إلى النار) . قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف
يسلم من الرياء فى العمل الظاهر، وقد روى عن عمر وعثمان
وابن مسعود وجماعة من السلف أنهم كانوا يتهجدون من الليل
فى مساجدهم بحيث يعلم ذلك من فعلهم معارفهم، وكانوا
يتذاكرون إظهار المحاسن من أعمالهم مع ما تواترت به الآثار
أن أفضل العمل ما استّسر به صاحبه، وذلك على نوعين: فأما
من كان إمامًا يقتدى به ويُستن بعمله، عالمًا بما لله عليه
فى فرائضه ونوافله، قاهرًا لكيد عدوه، فسواء عليه ما ظهر
من عمله وما خفى منه؛ لإخلاصه نيته لله وانقطاعه إليه
بعمله، بل إظهاره ما يدعو عباد الله إلى الرغبة فى مثل
حاله من أعماله السالمة أحسن إن شاء الله تعالى. وإن كان
ممن لا يقتدى به، ولا يأمن من عدوه قهره، ومن هواه غلبته
حتى يفسد عليه عمله؛ فإخفاؤه
(10/208)
النوافل أسلم له، وعلى هذا كان السلف
الصالح، روى حماد، عن ثابت، عن أنس، عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) أنه: (سمع رجلاً يقرأ ويرفع صوته بالقرآن فقال:
أواب. وسمع آخر يقرأ فقال: مرائى. فنظروا فإذا الأوّاب
المقداد بن عمرو) وروى الزهرى، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة:
(أن عبد الله بن حذافة صَلّى فجهر بالقراءة، فقال له رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : يا ابن حذافة، لا تسمعنى
وأسمع الله) . قال وهيب بن الورد: لقى عالم عالمًا هو فوقه
فى العلم، فقال: يرحمك الله ما الذى أخفى من عملى؟ قال:
حتى يظن بك أنك لم تعمل حسنةً قط إلا الفرائض. قال: يرحمك
الله فما الذى أعلن؟ قال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وقال الحسن: لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدر على أن
يُسر عمله فيعلنه، قد علموا أن أحرز العملين من الشيطان
عمل السرّ، قال: وإن كان أحدهم ليكون عنده الزور وإنه
ليصلى وما يشعر به زوره. وكان عمل الربيع بن خثيم سرًا كان
يقرأ فى المصحف، ويدخل عليه الداخل فيغطيه. وقال بشر بن
الحارث: لما ودع الخضر داود، عليهما السلام، قال له: ستر
الله عليك بطاعته. وروى عن ابن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر
كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وكان عمر يرفع صوته، فقيل لأبى
بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجى ربى وقد علم حاجتى. قيل:
أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ
الوسنان. قال: أحسنت. فلما نزلت: (وَلاَ تَجْهَرْ
بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ
ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110] ، قيل لأبى بكر: ارفع
شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا. فهؤلاء الأئمة المقتدى بهم.
(10/209)
32 - بَاب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِى
طَاعَةِ اللَّهِ
/ 73 - فيه: مُعَاذ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ رسُول
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ
إِلا آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ:
لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثلاث مرات،
قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ)
؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (حَقُّ
اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا) ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: (يَا
مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ
إِذَا فَعَلُوهُ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،
قَالَ: (حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا
يُعَذِّبَهُمْ) . قال المؤلف: جهاد المرء نفسه هو الجهاد
الأكبر وحرب العدو الأضر قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41] . وروى عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا
من الجهاد: (أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: مجاهدة
النفس) . وقال سفيان الثورى: ليس عدوك الذى إن قتلته كان
لك به أجر، إنما عدوك نفسك التى بين جنبيك، فقاتل هواك أشد
مما تقاتل عدوك. وقال أويس القرني لهرم بن حيان: ادع الله
أن يصلح قلبك ونيتك فإنك لن تعالج شيئًا هو أشدّ عليك
منهما، بينما قلبك مقبل إذ هو مدبر، فاغتنم إقباله قبل
إدباره، والسلام عليك. وقال علي بن أبي طالب: أول ما
تفقدون من دينكم جهاد
(10/210)
أنفسكم. وقد يكون جهاد النفس منعها الشهوات
المباحة توفيرًا لها فى الآخرة؛ لئلا تدخل فى معنى قوله:
(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)
[الأحقاف: 20] الآية، وعلى هذا جرى سلف الأمّة، وقال سالم
الخواص: أوحى الله إلى داود: لا تقرب الشهوات، فإنى خلقتها
لضعفاء خلقى، فإن أنت قربتها، أهون ما أصنع بك أسلبك حلاوة
مناجاتى، يا داود، قل لبنى إسرائيل، لا تقربوا الشهوات،
فالقلب المحجوب بالشهوات حجبت صوته عنى. قد تقدم معنى
قوله: (هل تدرى ما حق الله على عباده) فى باب من أجاب
بلبيك وسعديك فى كتاب الاستئذان، وسنأتى بزيادة فى بيانه
فى باب قوله تعالى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء)
[هود: 7] فى كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى.
33 - بَاب التَّوَاضُعِ
/ 74 - فيه: أَنَس، كَانَتْ نَاقَة النَّبِىّ، لا
تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ
فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَقَالُوا: سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لا
يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ) . / 75 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِى
وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ
إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا
افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ
إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا
أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ،
وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى
يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ
(10/211)
الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى
لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأعِيذَنَّهُ،
وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى
عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا
أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) . قال المؤلف: فى حديث أنس بيان
مكان الدنيا عند الله من الهوان والضعة، ألا ترى قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (إن حقًا على الله ألا يرفع شيئًا من
الدنيا إلا وضعه) فنبّه بذلك أمته (صلى الله عليه وسلم)
على ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، وأن ما كان عند
الله فى منزلة الضعة، فحق على كل ذى عقل الزهد فيه وقلة
المنافسة فى طلبه، وترك الترفع والغبطة بنيله، لأن المتاع
به قليل والحساب عليه طويل. وفى حديث أبى هريرة من معنى
الباب أن التقرب إلى الله بالنوافل حتى تستحق المحبة منه
تعالى لا يكون ذلك إلا بغاية التواضع والتذلل له. وفيه أن
النوافل إنما يزكو ثوابها عند الله لمن حافظ على فرائضه
وأداها. ورأيت لبعض الناس أن معنى قوله تعالى: (فأكون
عينيه اللتين يبصر بهما وأذنيه ويديه ورجليه) قال: وجه ذلك
أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا فى الله ولله، فجوارحه
كلها تعمل بالحق، فمن كان كذلك لم تُردّ له دعوة. وقد جاء
فى فضل التواضع آثار كثيرة، روى الطبرى من حديث شعبة، عن
العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما تواضع رجل إلا رفعه
الله بها درجةً) وعن عكرمة، عن ابن عباس أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) قال: (ما من بنى آدم أحد إلا وفى رأسه
سلسلتان: إحداهما فى السماء السابعة، والأخرى فى الأرض
السابعة، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التى فى السماء،
(10/212)
وإذا أراد أن يرفع رأسه وضعه الله) وقالت
عائشة: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: التواضع. قال
الطبرى: والتواضع من المحن التى امتحن الله بها عباده
المؤمنين، لينظر كيف طاعتهم إياه فيها، ولما علم تعالى من
مصلحة خلقه فى ذلك فى عاجل دنياهم وآجل أخراهم، فمصلحة
الدنيا به لو استعمله الناس لارتفع والله أعلم الشحناء
بينهم والعداوة، واستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة
والتذوا بما قسم لهم، وكان لهم فيه صلاح ذات البين وارتفاع
الحسد والشح. روى النعمان بن بشير عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال: (للشيطان مَضاَل وفخوخ، منها البطر بأنعم
الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله) .
وتواضعه (صلى الله عليه وسلم) معلوم لا يحصى، ومنه أنه لما
دخل مكة جعل الناس يقولون: هو هذا، هو هذا، فجعل يُحنى
ظهره على الرحل ويقول: (الله أعلى وأجل) وهذه سيرة السلف
المهديين. روى سفيان، عن أيوب الطائى، عن قيس بن مسلم، عن
طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل
عن بعيره ونزع خفيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه
بعيره، فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا
عند أهل الأرض. فصكّ فى صدره وقال: لو غيرك قالها يا أبا
عبيدة، إنكم كنتم أذّل الناس وأحقر الناس، فأعزكم الله
بالإسلام، فمهما تطلبون العز فى غيره يذلكم الله.
(10/213)
وروى ابن وهب بإسناده عن أبى هريرة أنه
أقبل فى السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال:
أوسع الطريق للأمير. فقيل له: تكفى، أصلحك الله. فقال:
أوسع الطريق، والحزمة عليه. وعن عبد الله بن سلام أنه خرج
من حائط له بحزمة حطب يحملها فقيل له: لقد كان فى ولدك
وعبيدك من يكفيك هذا. قال: أردت أن أجرب قلبى هل ينكر هذا.
وعن سالم بن عبد الله أنه كان يخرج إلى السوق فيشترى حوائج
نفسه. وكان الربيع بن خثيم يكنس الحشّ بنفسه، فقيل له: إنك
تكفى هذا. فقال: أحب أن آخذ نصيبى من المهنة. ولو تقصينا
تواضعهم، رضى الله عنهم، لطال به الكتاب، وفيما ذكرناه
دليل على ما تركناه إن شاء الله.
(10/214)
كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ
- باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْىُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ الأمِينُ، الْقُرْآنُ
أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ. / 1 - فيه:
عَائِشَة، وَابْنُ عَبَّاس، لَبِثَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا. / 2 - وَقَالَ أَبُو
عُثْمَان: أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ
يَتَحَدَّثُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
لأمِّ سَلَمَةَ: (مَنْ هَذَا) ؟ أَوْ كَمَا قَالَ،
قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، فَلَمَّا قَامَ، قَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلا إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ
خُطْبَةَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُخْبِرُ خَبَرَ
جِبْرِيلَ، أَوْ كَمَا قَالَ. / 3 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا
مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ مَا مِثْلهُ
آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى
أُوتِيتُ وَحْيًا، أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو
أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
. / 4 - وفيه: أَنَس، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ
عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ وَفَاتِهِ
حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْىُ، ثُمَّ
تُوُفِّىَ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ. / 5 - وفيه:
جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ
يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ،
فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلا
قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالضُّحَى
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى) [الضحى: 2] .
(10/215)
قال المؤلف: معنى هذا الباب إثبات نزول
الوحي على النبي - عليه السلام - وأن جبريل - عليه السلام
- نزل عليه به، ومصداق هذه الأحاديث في قوله تعالى:
(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ) [الشعراء: 192 - 194]
. وقال أهل التفسير: الروح الأمين جبريل. وذكر أبو عبيد عن
يزيد بن هارون، عن داود بن أبى هند، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا فى ليلة
القدر، ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة، وقرأ: (وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106] . وقال أبو
عبيد: وحدثنا ابن أبى عدى، عن داود بن أبى هند قال: قلت
للشعبى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىَ أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] ، أما نزل عليه القرآن فى سائر
السنة إلا فى شهر رمضان؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض
محمدًا بما نزل عليه فى سائر السنة فى شهر رمضان. وذكر أبو
عبيد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: أول شىء نزل من
القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ)
[المدثر: 1، 2] . قال ابن عباس: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)
[العلق: 1] هى أول شىء نزل على محمد. وهو قول مجاهد وزاد:
(ن وَالْقَلَمِ) [القلم: 1] . وأما آخر القرآن نزولاً،
فقال عثمان بن عفان: كانت براءة من آخر
(10/216)
القرآن نزولاً، وقال البراء: آخر آية نزلت:
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِى
الْكَلاَلَةِ) [النساء: 176] . وقال ابن عباس: وآخر ما
أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آية الربا. وقال
عطاء وابن شهاب آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية
الدين) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)
[البقرة: 281] . واختلف فى مدة بقاء النبى بمكة، فروى أبو
سلمة عن ابن عباس وعائشة فى هذا الباب: أنه (صلى الله عليه
وسلم) أقام بمكة عشر سنين. وذكر البخارى فى كتاب مبعث
النبى (صلى الله عليه وسلم) فى باب الهجرة، من رواية
عكرمة، وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه (صلى الله عليه
وسلم) أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. ولم يختلف فى
مدة بقائه (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة أنه كان عشرًا،
وسيأتى فى كتاب الاعتصام الكلام فى حديث أبى هريرة إن شاء
الله.
- باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا (،)
بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 195]
/ 6 - فيه: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَأَمَرَ
عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ،
وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ
بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنْ يَنْسَخُوهَا فِى
الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ
أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى عَرَبِيَّةٍ مِنْ
عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ
قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ
فَفَعَلُوا.
(10/217)
/ 7 - وفيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ
يَقُولُ: لَيْتَنِى أَرَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، فَلَمَّا كَانَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْجِعْرَانَةِ
عَلَيْهِ، ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَهُ نَاسٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ
بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى
رَجُلٍ أَحْرَمَ فِى جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ
بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى
يَعْلَى، أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى، فَأَدْخَلَ
رَأْسَهُ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، يَغِطُّ
كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ
الَّذِى يَسْأَلُنِى عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا) ؟
فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ، فَجِىءَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (أَمَّا الطِّيبُ الَّذِى
بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ
فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا
تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . قال المهلب: فى حديث أنس عن عثمان
بن عفان معنى الترجمة. فإن قال قائل: فما وجه حديث يعلى بن
أمية فى هذا الباب؟ . قيل: معناه أن الوحى كله من قرآن
وسنة نزل بلسان العرب قريش وغيرهم من طوائف العرب كلها،
وأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخاطب من الوحى كله إلا
بلسان العرب، وبه تكلم النبى للسائل له عن الطيب للمحرم،
وبين هذا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4] . فهذا حتم من
الله تعالى لكل أمة بعث إليها رسولاً ليبين لهم ما أنزل
إليهم من ربهم، فإن عزب معناه على بعض من سمعه؛ بينه
الرسول له بما يفهمه المبين له، ودل قول عثمان:
(10/218)
إذا اختلفتم في عربية من عربية القرآن
فاكتبوها بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم على تشريف قريش على
سائر الناس وتخصيصهم بالفضيلة الباقية إلى الأبد حين اختار
الله إثبات وحيه الذى هدى به من الضلالة بلغتهم تعبيره
بلسانهم وحسبك بهذا من شرف باق. قال أبو بكر بن الطيب:
ومعنى قول عثمان: فإنه نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره،
ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش
فقط، وأنه لا شىء فيه من لغة غيرهم؛ فإنه قد ثبت أن فى
القرآن همزًا كثيرًا وثبت أن قريشًا لا تهمز وثبت فيه
كلمات وحروف هى خلاف لغة قريش، وقد قال تعالى: (إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [الزخرف: 3] ، ولم يقل
قرشيًا، وهذا يدل أنه منزل بجميع لسان العرب؛ وليس لأحد أن
يقول أراد قريشًا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن
يقول أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر؛ لأن اسم
العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولاً واحدًا. ولو ساغ
لمدع أن يدعى أنه أراد قبيلة من قبائل العرب لساغ لآخر أن
يقول: إن قوله أنه منزل بلسان قريش أنه أريد به قبيلة من
قريش دون غيرها، ومن قال هذا فقد ظهر تخليطه. وقد قال سعيد
بن المسيب: نزل القرآن بلغة هذا الحى من لدن هوازن وثقيف
إلى ضربه. وقال ابن عباس: نزل القرآن بلغة قريش ولسان
خزاعة، وذلك أن الدار كانت واحدة، وقد قال (صلى الله عليه
وسلم) : (أنا أفصحكم لأنى من قريش، ونشأت فى بنى سعد بن
بكر) .
(10/219)
فلا يجب لذلك أن يكون القرآن منزلاً بلغة
بنى سعد بن بكر؛ بل لا يمتنع أن ينزل بلغة أفصح العرب
وبلغة من هو دونهم فى الفصاحة؛ إذا كانت فصاحتهم غير
متفاوتة. وقد جاءت الروايات بأن النبى (صلى الله عليه
وسلم) كان يقرأ بلغة قريش وغير لغتها. فروى ابن أبى شيبة
عن الفضل بن أبى خلدة قال: سمعت أبا العالية يقول: قرئ
القرآن على النبى (صلى الله عليه وسلم) من خمسة رجال
فاختلفوا فى اللغة فرضى قراءتهم كلها. وكانت بنو تميم أعرب
القوم، فهذا يدل أنه كان يقرأ بلغة تميم وخزاعة وأهل لغات
مختلفة، قد أقر جميعها ورضيها.
3 - باب جَمْعِ الْقُرْآنِ
/ 8 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو
بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ
عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ
قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ
الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ
بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ
الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا
لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟
قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ
عُمَرُ يُرَاجِعُنِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى
لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ،
قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ
عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ
لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَتَبَّعِ
الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِى
نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ
مِمَّا
(10/220)
أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ،
قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: هُوَ
وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ
يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي
شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي اللَّهُ
عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ
الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى
وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِى خُزَيْمَةَ
الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ:
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ
بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ
حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ
حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. / 9 -
وفيه: أَنَس أنّ حُذَيْفَة قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ،
وَكَانَ يُغَازِى أَهْلَ الشَّأْمِ فِى فَتْحِ
إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ،
فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ،
فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأمَّةَ قَبْلَ أَنْ
يَخْتَلِفُوا فِى الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ
أَرْسِلِى إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِى
الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ
بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ
الْعَاصِ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ
لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا
اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى شَىْءٍ
مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ،
فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا
نَسَخُوا الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ
الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ
بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ
الْقُرْآنِ فِى كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ
يُحْرَقَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِى خَارِجَةُ
بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أنَّهُ سَمِعَ أباه زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ، قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأحْزَابِ حِينَ
نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ،
(10/221)
قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا
فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ
الأنْصَارِىِّ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23] ،
فَأَلْحَقْنَاهَا فِى سُورَتِهَا فِى الْمُصْحَفِ. قال أبو
بكر بن الطيب: فإن قال قائل: ما وجه نفور أبى بكر وزيد بن
ثابت مع فضلهما عن جمع القرآن؟ فالجواب: أنهما لم يجدا
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بلغ فى جمعه إلى هذا
الحد من الاحتياط من تجليده، وجمعه بين لوحين، فكرها أن
يجمعاه جزعًا من أن يحلا أنفسهما محل من يجاوز احتياطه
للدين احتياط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما
أنبههما عمر، وقال: هو والله خير. وخوفهما من تغير حال
القرآن فى المستقبل؛ لقلة حفظته، ومصيره إلى حالة الخفاء
والغموض بعد الاستفاضة والظهور، علما صواب ما أشار به وأنه
خير، وأن فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس على
الوجوب، ولا تركه لما تركه على الوجوب إلا أن يكون قد بين
فى شريعته أن مثل فعله لما فعله، أو تركه لمثل ما تركه
لازم لنا وواجب علينا، فلما علما أنه لم يحظر جمع القرآن
ولا منع منه بسنة ولا بنص آية، ولا هو مما يفسده العقل
ويحيله، ولا يقتضى فساد شىء من أمر الدين ولا مخالفة رأى
صواب ما أشار به عمر، وأسرعا إليه كما فعل عمر وسائر
الصحابة فى رجوعهم إلى رأى أبى بكر فى قتاله أهل الردة،
ورأوا ذلك صوابًا لم يشكوا فيه. وربما يشمئز الإنسان
أحيانًا من فعل المباح المطلق ويسبق إلى قلبه أنه ليس مما
له فعله لفرط احتياطه وتحريه، ثم تبين له بعد
(10/222)
ذلك أنه مما له فعله، كرجل قيل له: قد سقط
عنك فرض الجهاد والصيام والصلاة قائما لزمانتك وعجزك.
فأنكر مفارقة العادة عند أول وهلة، فلما رجع إلى نفسه،
وعلم أن الصيام يجهده والحركة والقيام يزيده فى مرضه علم
جواز تركه. وقد تقدم فى كتاب الأحكام فى باب يستحب للكاتب
أن يكون أمينًا عاقلاً زيادة بيان فى تصويب جمع الصديق
للقرآن وأنه من أعظم فضائله. قال أبو بكر بن الطيب: فإن
قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر
إلى ذلك وفرغ منه؟ قيل لهم: إن عثمان لم يقصد بما صنع جمع
الناس على تأليف المصحف فقط، ولا كان التشاجر الواقع فى
أيامه فى إقرارهم أنه كتاب الله بأسره، وإنما اختلفوا فى
القراءات، فاشتد الأمر فى ذلك بينهم وعظم اختلافهم
وتشتتهم، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وتلاعن أهل
الشام وأهل العراق، وكتب الناس بذلك إلى عثمان من الأمصار
وناشدوه الله فى جمع الكلمة ورفع الشتات والفرقة، فجمع
عثمان المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم فى ذلك
فاتفقوا على جمع القرآن وعرضه وأخذه للناس بما صح وثبت من
القراءات المشهورة عن النبي - عليه السلام -، وطرح ما
سواها واستصوبوا رأيه، وكان رأيًا سديدًا موفقا، فرحمة
الله عليه وعليهم. وقد ذكر أبو عبيد بإسناده عن على بن أبى
طالب قال: لو وليت لفعلت فى المصاحف الذى فعل عثمان.
(10/223)
قال غيره وقوله: (حتى وجدت آخر التوبة مع
أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره) يدل على تصحيح
الروايات الأخر أن الصديق أمر زيدًا ألا يثبت آية فى
المصحف إلا بشاهدين يشهدان عليها. وقال أبو بكر بن الطيب:
وجه طلبه للشاهدين أن إثبات القرآن حكم من أحكام الشريعة،
ولا يجب إمضاء حكم فى الشريعة إلا بشاهدين عدلين. ويحتمل
أن يكون أمره بطلب الشاهدين فيما لا يحفظه زيد من كلمات
القرآن، وقد ورد بذلك خبر. وروى أسامة بن زيد عن القاسم بن
محمد قال: قال أبو بكر لزيد بن ثابت: اقعد فمن آتاك من
القرآن بما لا تحفظه ولم تقرأه بشاهدين فاقبله. ولسنا ننكر
أن يكون أبو بكر أمر زيدًا بطلب الشاهدين على كل ما يؤتى
به مما يحفظه ومما لا يحفظه؛ لأجل حاجته إلى إمضاء الحكم
من جهة الظاهر. قال المؤلف: وأفضل ما قيل فى ذلك، ما حدثنا
به عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، قال: حدثنا على بن
محمد بن لؤلؤ ببغداد، قال: حدثنا أحمد بن الصقر بن ثوبان،
قال: حدثنا محمد بن عبيد بن حساب، حدثنا حماد بن زيد، عن
أيوب، عن أبى قلابة، عن رجل من بنى تميم يقال له، أحسب،
أنس بن مالك، قال: اختلف المعلمون فى القرآن حتى اقتتلوا،
(10/224)
فبلغ ذلك عثمان، فقال: عندى تختلفون
وتكذبون به وتلحنون فيه؟ يا أصحاب محمد اجتمعوا، فاكتبوا
للناس إمامًا يجمعهم، فكانوا فى المسجد فكثروا، فكانوا إذا
تماروا فى الآية يقولون: إنه أقرأ رسول الله هذه الآية
فلان بن فلان، وهو على رأس أميال من المدينة، فيبعث إليه
فيجئ، فيقولون: كيف أقرأك رسول الله آية كذا وكذا؟ فيكتبون
كما قال. رواه إسماعيل بن إسحاق، عن سليمان بن حرب، حدثنا
حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، قال: حدثنى من كان
يكتب معهم، قال حماد: أظنه أنس بن مالك القشيرى، قال:
كانوا يختلفون فى الآية، فيقولون: أقرأها رسول الله فلان
بن فلان، فعسى أن يكون على ثلاث أميال من المدينة، فيرسل
إليه فيجاء به. وذكر الحديث سواء وقد أشار أبو بكر بن
الطيب إلى هذا المعنى غير أنه لم يذكر الرواية بذلك، وقد
ذكرته فى كتاب الجهاد فى باب قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)
[الأحزاب: 23] . فإن قيل: فى حديث زيد بن ثابت أنه وجد آخر
سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى، وفى آخر الباب قول ابن
شهاب عن خارجة بن زيد أنه سمع أباه زيد بن ثابت قال: فقدت
آية من الأحزاب كنت أسمع النبى (صلى الله عليه وسلم) يقرأ
بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت: (مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ) [الأحزاب: 23] وهذا اختلاف يوجب
التضاد. قال المهلب: ولا تضاد فى هذا، وهذه غير قصة
الأحزاب؛
(10/225)
لأن الآية التي في التوبة مع أبي خزيمة،
وهو معروف من الأنصار وقد عرفه أنس، وقال: نحن ورثناه.
والتى فى الأحزاب ليست صفة النبى (صلى الله عليه وسلم)
وهذه وجدت مع خزيمة بن ثابت، وهو غير أبى خزيمة، فلا تعارض
فى هذا، والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس
والسورة غير السورة، والتى فى الأحزاب سمعها زيد وخزيمة من
النبى فهما شاهدان على سماعها منه، وإنما أثبتت التى فى
التوبة بشهادة أبى خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها فى
صفة النبى فهى قرينة تغنى عن طلب شاهد آخر. وفى أمر عثمان
بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب
التى فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها، وصيانة من
الوطء بالأقدام وطرحها فى ضياع من الأرض. وروى معمر، عن
ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده
الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم، وحرق عروة بن الزبير
كتب فقه كانت عنده يوم الحرة، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف
إذا كان فيها ذكر الله، وقول من حرقها أولى بالصواب. وقد
قال أبو بكر بن الطيب: جائز للإمام تحريق الصحف التى فيها
القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك. وقال أبو عبيد: اللخاف:
الحجارة الرقاق، والعسب: جمع عَسيب وهى جريدة من النخل،
وجمعه عسبان وأعسب من كتاب العين.
(10/226)
4 - باب ذكر كَاتِبِ النَّبِيِّ (صلى الله
عليه وسلم)
/ 10 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَىَّ
أَبُو بَكْرٍ الصديق، قَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ
الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
فَاتَّبِعِ الْقُرْآنَ، فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ
آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِى
خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ
غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [التوبة: 128] . / 11 -
وفيه: الْبَرَاء، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى
الضَّرَرِ) [النساء: 95] ،) وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ
اللَّهِ (قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (ادْعُ
لِى زَيْدًا، وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ
وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ
اكْتُبْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ (وَخَلْفَ ظَهْرِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَمْرُو بْنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ الأعْمَى، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا
تَأْمُرُنِى؟ فَإِنِّى رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ؟
فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (،) وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
(،) غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. قال أبو بكر بن الطيب: فيه
أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سن جمع القرآن وكتابته وأمر
بذلك وأملاه على كتبته، وأن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق
وزيد بن ثابت وجماعة الأمة أصابوا فى جمعه وتحصينه
وإحرازه، وجروا فى كتابته على سنن الرسول وسنته، وأنهم لم
يثبتوا منه شيئًا غير معروف، وما لم تقم الحجة به. قال
المهلب: وفيه أن السنة للخليفة والإمام أن يتخذ كاتبًا
يقيد له ما يحتاج إلى النظر فيه من أمور الرعية، ويعينه
على تنفيذ أحكام الشريعة، لأن الخليفة يلزمه من الفكرة
والنظر فى أمور من استرعاه الله أمرهم ما يشغله عن الكتاب
وشبهه من أنواع المهن، ألا ترى قول عمر بن الخطاب: (لولا
الخلافة لأذنت) يريد أن
(10/227)
الخلافة حالة شغل بأمور المسلمين عن الأذان
وغيره؛ لأن هذا يوجد فيه من يقوم مقام الخليفة وينوب عنه،
ولا ينوب عنه أحد فى الإمامة، وقد استدل بقوله تعالى:
(لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ
أُوْلِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] الآية. ومن قال: إن الغنى
أفضل من الفقر. قال: ألا ترى قوله تعالى: (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى)
[النساء: 95] ففضيلة الجهاد وبذل المال فى إعلاء كلمة الله
درجة لا يبلغها الفقير أبدًا، وقوله تعالى: (غَيْرُ
أُوْلِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] يدل أن أهل الأعذار لا
حرج عليهم فيما لا سبيل لهم إلى فعله من الفرائض اللازمة
للأصحاء القادرين، وفى هذا حجة للفقهاء فى قولهم: إنه لا
يجوز تكليف ما لا يطاق. وهو قول جمهور الفقهاء.
5 - باب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
/ 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (أَقْرَأَنِى جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ
فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِى
حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) . / 13 - وفيه:
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ،
يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَمَعْتُ
لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ
كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ،
فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ،
فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى
سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ،
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ
أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ
بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقُلْتُ: إِنِّي
(10/228)
سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ
الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْسِلْهُ،
اقْرَأْ يَا هِشَامُ) ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ
الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ) ، ثُمَّ
قَالَ: (اقْرَأْ يَا عُمَرُ) ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ
الَّتِى أَقْرَأَنِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا
الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا
مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) . قال المؤلف: قد أكثر الناس فى
تأويل هذا الحديث ولم أجد فيه قولاً يسلم من المعارضة،
وأحسن ما رأيت فيه ما نقله أبو عمر عثمان بن سعيد المقرئ
فى بعض كتبه، ولم يسم قائله، قال: إنى تدبرت معنى هذا
الحديث وأمعنت النظر فيه بعد وقوفى على أقاويل السلف
والخلف، فوجدته متعلقًا بخمسة أوجه، هى محيطة بجميع
معانيه: فأولها: أن يقال: ما معنى الأحرف التى أرادها
النبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ وكيف تأويلها؟ والثانى: ما
وجه إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما المراد بذلك؟
والثالث: فى أى شىء يكون اختلاف هذه السبعة الأحرف؟
والرابع: على كم معنى تشتمل هذه السبعة الأحرف؟ والخامس:
هل هذه السبعة الأحرف كلها متفرقة فى القرآن، موجودة فيه
فى ختمة واحدة، حتى إذا قرأ القارئ بأى حرف من حروف أئمة
القراء بالأمصار المجتمع على إمامتهم فقد قرأ بها كلها؟ أو
ليست كلها متفرقة فيه وموجودة فى ختمة واحدة؟ وأنا مبين
ذلك إن شاء الله. فأما معنى الأحرف التى أوردها النبى (صلى
الله عليه وسلم) هاهنا فإنه يتوجه إلى وجهين: أحدهما: أن
يكون أراد سبعة أوجه من اللغات بدليل قوله تعالى: (وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ
أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) [الحج: 11] ،
(10/229)
فالمراد بالحرف هاهنا الوجه الذى تقع عليه
العبادة. والمعنى: ومن الناس من يعبد الله على النعمة
تصيبه، والخير يناله من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطاء
السؤل، ويطمئن إلى ذلك ما دامت له هذه الأمور واستقامت،
فإن تغيرت حاله، وامتحنه الله بالشدة فى عيشه والضر فى
بدنه ترك عبادة ربه وكفر به، فهذا عَبَد الله على وجه
واحد، وذلك معنى الحرف والوجه. الثانى: أن يكون النبى (صلى
الله عليه وسلم) سمى القراءات أحرفًا على طريق السعة كنحو
ما جرت عليه عادة العرب فى تسميتهم الشىء باسم ما هو منه
وما قاربه وما جاوره، وتعلق به ضربًا من التعلق وتسميتهم
الجملة باسم البعض منها، فسمى النبى القراءة حرفًا، وإن
كان كلامًا كثيرًا من أجل أن منها حرفًا قد غير بضمة أو
كسر أو قلب إلى غيره، أو أميل أو زيد فيه أو نقص منه على
ما جاء فى المختلف فيه من القراءات، فنسب النبى القراءة
والكلمة التامة إلى ذلك الحرف المغير، فسمى القراءة به؛ إذ
كان ذلك الحرف منها على عادة العرب فى ذلك كما يسمون
القصيدة قافية، إذ كانت القافية كقول الخنساء: وقافية مثل
حد السنان تبقى ويهلك من قالها تعنى: قصيدة، فسميت قافية
على طريق الاتساع، كما يسمون الرسالة والخطبة: كلمة، إذ
كانت الكلمة منها. قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
الْحُسْنَى) [الأعراف: 137] ،
(10/230)
وقيل: إنه تعالى عنى بالكلمة هاهنا قوله فى
سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ) [القصص: 5] الآية. وقال
مجاهد: قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)
[الفتح: 26] ، قال: لا إله إلا الله. فخاطبهم (صلى الله
عليه وسلم) بما جرى تعارفهم عليه فى خطابهم. وأما وجه
إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما أراد الله بذلك،
فإنما ذلك توسعة من الله على عباده ورحمة لهم وتخفيفًا
عنهم لما هم عليه من اختلاف اللغات واستصعاب مفارقة كل
فريق منهم لطبعه وعادته فى الكلام إلى غيره، فخفف الله
عنهم بأن أقرأهم على مألوف طبعهم وعادتهم فى كلامهم، يدل
على ذلك ما روى أبو عبيدة من حديث حذيفة عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) قال: (لقيت جبريل عند أحجار المرى فقلت:
يا جبريل، إنى أرسلت إلى أمة أمية: الرجل والمرأة والغلام
والجارية والشيخ الفانى الذى لم يقرأ كتابًا قط. قال: إن
القرآن أنزل على سبعة أحرف) . روى حماد بن سلمة من حديث
أبى بكرة (أن جبريل أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال:
اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ
على حرفين. فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف كل كاف
شاف) . ويمكن أن تكون هذه السبعة أوجه من اللغات هى أفصح
اللغات، فلذلك أنزل القرآن عليها. ذكر ثابت السرقطى فى هذا
المعنى: قوله: (سبعة أحرف) يريد والله أعلم على لغات شعوب
من العرب سبعة أو
(10/231)
جماهيرها كما قال الكلبي: خمسة منها لهوازن
وحرفان لسائر الناس. وقال ابن عباس: نزل القرآن على سبعة
أحرف صارت فى عجز هوازن منها خمسة. وقال أبو حاتم: عجز
هوازن ثقيف، وبنو سعد ابن بكر، وبنو جشم، وبنو مضر، قال
أبو حاتم: خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من
مولد النبي - عليه السلام - ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة
أخوان. قال قتادة عن سعيد بن المسيب: نزل القرآن على لغة
هذا الحي من لدن هوازن وثقيف إلى ضربه. وأما فى أى شيء
يكون اختلاف هذه السبعة أحرف فإنه يكون فى أوجه كثيرة منها
تغير اللفظ نفسه وتحويله إلى لفظ آخر، كقوله تعالى:
(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] بغير ألف، و) مالك
(بألف، والسراط بالسين والصاد والزاى ومنها الإثبات والحذف
كقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) [البقرة:
116] ،) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)
[آل عمران: 133] ،) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا)
[التوبة: 107] بالواو وبغير واو، ومنها تبديل الأدوات
كقوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)
[الشعراء: 217] فى الشعراء بالفاء، وتوكل بالواو (فلا يخاف
عقابها) بالفاء، ولا يخاف عقابها بالواو، ومنها التوحيد
والجمع، كقوله تعالى: (الريح (و) الرياح (، ومنها) فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] ، و) رسالاته (و)
آية للسائلين (و) آيات (. ومنها: التذكير والتأنيث كقوله
تعالى: (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) [البقرة: 48]
بالياء والتاء، و (فناداه الملائكة) و) فَنَادَتْهُ) [آل
عمران: 39] ، و (استهواه الشياطين) و) اسْتَهْوَتْهُ)
[الأنعام: 71] ، ومنها التشديد والتخفيف كقوله تعالى:
(بِمَا كَانُوا
(10/232)
يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10] بتشديد الذال
وتخفيفها، ومنها الخطاب والإخبار كقوله تعالى: (وَمَا
اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 144] و)
أَفَلاَ يَعْقِلُونَ) [يس: 68] ،) وَلَكِن لاَّ
يَعْلَمُونَ) [البقرة: 13] ، وشبه ذلك بالتاء على الخطاب،
وبالياء على الإخبار، ومنها الإخبار عن النفس، والإخبار عن
غير النفس، كقوله تعالى: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ
حَيْثُ نَشَاء) [الزمر: 74] بالنون وبالياء،) وَيَجْعَلُ
الرِّجْسَ) [يونس: 100] بالنون والياء، ومنها التقديم
والتأخير كقوله تعالى: (وقتلوا وقاتلوا) ،) وَقَاتَلُوا
وَقُتِلُوا) [آل عمران: 195] و) فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ) [التوبة: 111] ، وكذلك (زين لكثير من
المشركين قتل أولادهم شركائهم) و) قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ
شُرَكَآؤُهُمْ) [الأنعام: 137] وشبهه. ومنها: النهى والنفى
كقوله تعالى: (ولا تسل عن أصحاب الجحيم) بالجزم على النهى)
وَلاَ تُسْأَلُ) [البقرة: 119] بالرفع على النفى، (ولا
تشرك فى حكمه أحدًا) بالتاء والجزم على النهى) وَلاَ
يُشْرِكُ) [الكهف: 26] بالياء والرفع على النفى. ومنها:
الأمر والإخبار كقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125] بكسر الخاء على
الأمر (واتخَذوا) بالفتح على الإخبار، و (قل سبحان الله) و
(قل ربى يعلم) على الأمر، وقال على الخبر، وشبهه. ومنها:
تغير الإعراب وحده كقوله تعالى: (وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم)
[البقرة: 240] بالنصب وبالرفع و) تِجَارَةً حَاضِرَةً)
[البقرة: 282] بالرفع والنصب،) وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَينِ) [المائدة: 6] بالنصب والجر، وما أشبهه.
ومنها: تغيير الحركات اللوازم كقوله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ)
[آل عمران: 169] بكسر السين
(10/233)
وفتحها) وَمَن يَقْنَطُ) [الحجر: 56] ، و)
يَقْنَطُونَ) [الروم: 36] بكسر النون وفتحها، و)
يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137] و) يَعْكُفُونَ) [الأعراف:
138] بكسر الراء والكاف وضمها و) الْوَلاَيَةُ) [الكهف:
44] بكسر الواو وفتحها. ومنها: التحريك والتسكين كقوله:
(خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) [البقرة: 168] بضم الطاء
وإسكانها، و) عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ) [البقرة: 236] بفتح الدال وإسكانها.
ومنها: الاتباع وتركه كقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ)
[البقرة: 174] ، و) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة: 117]
،) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) [الأنعام: 10] ، بالضم والكسر؛
فالضم لالتقاء الساكنين اتباعًا لضم ما بعدهن، وبالكسر
للساكنين من غير اتباع، ومنها الصرف وتركه كقوله: (وَعَادٍ
وَثَمُودَ) [التوبة: 70] ، و) أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ)
[هود: 68] بالتنوين وتركه. ومنها: اختلاف اللغات كقوله:
(جِبْرِيلَ (بكسر الجيم من غير همز، وبفتحها كذلك،
وجَبرئيَل بفتح الجيم والراء مع الهمز من غير مد، وبالهمز
والمد. ومنها: التصرف فى اللغات نحو الإظهار والإدغام،
والمد والقصر والإمالة، والفتح وبين بين والهمز وتخفيفه
بالحذف والبدل وبين بين، والإسكان والروم والإشمام عند
الوقف على أواخر الكلم، والسكون على الساكن قبل الهمزة وما
أشبهه، وقد ورد التوقيف عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
بهذا الضرب من
(10/234)
الاختلاف وأذن فيه لأمته بالأخبار الثابتة،
وفيما روى أبو عبيد قال: حدثنا نعيم بن حماد حدثنا بقية بن
الوليد، عن حصين بن مالك قال: سمعت شيخًا يكنى أبا محمد،
عن حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :
(اقرءوا القرآن بلحن العرب وأصواتها) ولحونها وأصواتها:
مذاهبها وطباعها. ووجه هذا الاختلاف فى القرآن أن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) كان يعرض القرآن على جبريل فى
كل عام عرضة، فلما كان العام الذى توفى فيه عرضه عليه
مرتين، فكان جبريل يأخذ عليه فى كل عرضة بوجه من هذه
الوجوه والقراءات المختلفة، ولذلك قال (صلى الله عليه
وسلم) : (إن القرآن أنزل عليها، وإنها كلها كاف شاف) وأباح
لأمته القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعها؛ إذ كانت
كلها من عند الله منزلة، ومنه (صلى الله عليه وسلم)
مأخوذة، ولم يلزم أمته حفظها كلها ولا القراءة بأجمعها؛ بل
هى مخيرة فى القراءة بأى حرف شاءت منها كتخييرها إذا حنثت
فى يمين أن تكفر إن شاءت بعتق أو بإطعام أو بكسوة،
وكالمأمور فى الفدية بالصيام أو الصدقة أو النسك، ألا ترى
أن النبى (صلى الله عليه وسلم) صوب من قرأ ببعضها كما صوب
قراءة هشام بن حكيم وقراءة عمر بن الخطاب حين تناكرا
القراءة وأقر أنه كذلك قرئ عليه، وكذلك أنزل عليه. وأما
على كم وجه يشتمل اختلاف هذه السبعة الأحرف؛ فإنه يشتمل
على ثلاثة معان: أحدها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد، نحو
قوله تعالى: (الصِّرَاطَ) [الفاتحة: 6] بالصاد والسين
والزاى و) عليهم (و) إليهم (بضم الهاء مع إسكان الميم،
وبكسر الهاء مع ضم الميم وإسكانها وشبه ذلك. والثانى:
اختلاف اللفظ، والمعنى جميعًا مع جواز أن يجتمعا فى شىء
واحد، لعدم تضاد اجتماعهما فيه، نحو قوله: (ملك يوم الدين)
بغير الألف، و) مالك (بالألف لأن المراد
(10/235)
بهاتين القراءتين هو الله سبحانه، وذلك أنه
مالك يوم الدين وملكه، فقد اجتمع له الوصفان جميعًا فأخبر
بذلك فى القراءتين ونحو ذلك: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
[البقرة: 10] ، بتخفيف الذال وتشديدها؛ لأن المراد بهاتين
القراءتين جميعًا هم المنافقون، وذلك أنهم كانوا يكذبِون
فى أخبارهم ويكذبون النبي (صلى الله عليه وسلم) . والثالث:
اختلاف اللفظ والمعنى جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما فى
شىء واحد كقوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا) [يوسف: 110] بالتشديد؛ لأن المعنى: وتيقن الرسل
أن قومهم قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنه إن لم يؤمنوا
بهم نزل العذاب بهم، فالظن فى القراءة الأولى يقين والضمير
الأول للرسل، والثانى للمرسل إليهم، والظن فى القراءة
الثانية شك، والضمير الأول للمرسل إليهم والثانى للرسل،
ويشبه ذلك من اختلاف القراءتين اللتين لا يصح أن تجتمعا فى
شىء واحد لتضاد المعنى، وكل قراءة منهما بمنزلة آية قائمة
بنفسها. وأما هذه السبعة الأحرف؛ فإنه لا يمكن القراءة بها
فى ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية من رواية القراء،
فإنما قرأ ببعضها لا بكلها؛ لأنا قد أوضحنا قبل أن المراد
بالسبعة أحرف سبعة أوجه من اللغات كنحو اختلاف الإعراب
والحركات والسكوت، والإظهار والإدغام، والمد والقصر وغير
ذلك مما قدمناه. وإذا كان كذلك فمعلوم أنه من قرأ بوجه من
هذه الأوجه، فإنه لا يمكنه أن يحرك الحرف ويسكنه فى حالة
واحدة أو يقدمه ويؤخره، أو يظهره ويدغمه، أو يمده ويقصره،
أو يفتحه ويمليه وشبه ذلك، غير أنا لا ندري أى هذه السبعة
أحرف كان آخر العرض، وأن جميع هذه الأحرف قد ظهر واستفاض
عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وضبطتها الأمة
(10/236)
على اختلافها عنه، وأن معنى إضافة كل حرف
إلى من أضيف إليه كأُبى وزيد وغيرهم من قبل أنه كان أضبط
له وأكثر قراءة وأقرأ به، وكذلك إضافة القراءات إلى أئمة
القراء بالأمصار، على معنى أن ذلك الإمام اختار القراءة
بذلك الحرف، وآثره على غيره، ولزمه وأخذ عنه فلذلك أضيف
إليه، وهذه إضافة اختيار لا إضافة اختراع. قال أبو جعفر
الداودى: والسبع المقارئ التى يتعلمها الناس اليوم ليس كل
حرف منها هو أحد السبعة التى أنزلت على رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) ، قد يكون فى حرف من هذه شىء من إحدى
أولئك السبع، وشىء من الأخرى. وقال أبو عبد الله بن أبى
صفرة: وهذه السبع القراءات التى بأيدى الناس إنما تفرعت من
حرف واحد من السبعة التى فى الحديث وهو الحرف الذى جمع
عليه عثمان المصحف ذكر ذلك ابن النحاس وغيره.
6 - باب تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَهَا عِرَاقِىٌّ، فَقَالَ:
أَىُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ، وَمَا
يَضُرُّكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَرِينِى
مُصْحَفَكِ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّى أُوَلِّفُ
الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ
مُؤَلَّفٍ، قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ
قَبْلُ؟ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ
سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإسْلامِ
نَزَلَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ
شَىْءٍ لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لا نَدَعُ
الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لا تَزْنُوا،
لَقَالُوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ
بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) وَإِنِّى
لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 46]
(10/237)
وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ
وَالنِّسَاءِ إِلا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ
لَهُ الْمُصْحَفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آىَ السُّوَرِ. /
15 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ
وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأنْبِيَاءِ: إِنَّهُنَّ
مِنَ الْعِتَاقِ الأوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلادِى. / 16 -
وفيه: الْبَرَاء، قَالَ: تَعَلَّمْتُ: (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأعْلَى) [الأعلى: 1] قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . / 17 - وفيه: ابْن
مَسْعُود، قَالَ: لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِى
كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَؤُهُنَّ
اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ، فَسَأَلنا
عَلْقَمَة، فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ
الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ
الْحَوَامِيمُ (حم الدُّخَانِ) ، و (َعَمَّ
يَتَسَاءَلُونَ) . قال أبو بكر بن الطيب: إن قال قائل: قد
اختلف السلف فى ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب فى مصحفه
السور على تاريخ نزولها وقدم المكى على المدنى، ومنهم من
جعل فى أول مصحفه) الْحَمْدُ للهِ) [الفاتحة: 2] ، ومنهم
من جعل فى أوله) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] ،
وهذا أول مصحف علىّ. وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله (ملك
يوم الدين) ، ثم البقرة ثم النساء على ترتيب يختلف. روى
ذلك طلحة بن مصرف أنه قرأه على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن
وثاب على علقمة، وقرأ علقمة على عبد الله، ومصحف أُبىّ كان
أوله: الحمد لله ثم البقرة، ثم النساء ثم آل عمران، ثم
الأنعام ثم الأعراف، ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد.
قال أبو بكر: فالجواب: أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على
ما هى عليه اليوم فى المصحف كان على وجه الاجتهاد من
الصحابة، وقد قال قوم من أهل العلم:
(10/238)
إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه فى
مصحفنا كان على توقيف من النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم
على ذلك وأمر به. وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ
وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل
ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: إنما
أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله، ومن
قال هذا القول لا يقول: إن تلاوة القرآن فى الصلاة والدرس
يجب أن يكون مرتبًا على حسب الترتيب الموقف عليه فى
المصحف؛ بل إنما يجب تأليف سوره فى الرسم والكتابة خاصة.
ولا نعلم أن أحدًا منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب فى الصلاة،
وفى قراءة القرآن ودرسه وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف
قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف، ألا ترى قول عائشة للذى
سألها أن تريه مصحفها ليكتب مصحفًا على تأليفه: لا يضرك
أيه قرأت قبل؟ وأن ما روى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما
كرها أن يقرأ القرآن منكوسًا، وقالا: ذلك منكوس القلب.
فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها
إلى أولها؛ لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا
فى القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك، ويقتدر على الحفظ وهذا
مما حظره الله ومنعه فى قراءة القرآن؛ لأنه إفسادٌ لسوره،
ومخالفة لما قصد بها، ومما يدل أنه لا يجب إثبات القرآن فى
المصاحف على تاريخ نزوله؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن
يجعلوا بعض آية سورة فى سورة أخرى وأن ينقصوا ما وقفوا
عليه من سياقه ترتيب السور ونظامها؛ لأنه قد صح وثبت أن
الآيات كانت تنزل بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السورة
(10/239)
المكية، ويقال لهم: ضعوا هذه الآية فى
السورة التى يذكر فيها كذا. ألا ترى قول عائشة: وما نزلت
سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، يعنى بالمدينة، وقد
قدمنا فى المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو
ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور،
وقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقرأ بالناس فى الصلاة
السورة فى الركعة ثم يقرأ فى ركعة أخرى بغير السورة التى
تليها، وقول ابن مسعود فى بنى إسرائيل والكهف ومريم وطه
والأنبياء: هى من العتاق الأول وهن من تلادى، يعنى هن مما
نزل من القرآن أولاً. قال صاحب العين: العتيق القديم من كل
شىء، والتلاد: ما كسب من المال قديمًا فيريد أنهن من أول
ما حفظه من القرآن. وقوله: (ثاب الناس إلى الإسلام) :
رجعوا إليه. قال صاحب العين: ثاب الشىء يثوب ثؤوبا رجع.
ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ) [البقرة: 125] ، أى يرجعون إليه.
7 - باب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم)
/ 18 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ذكر ابْن
مَسْعُود، فَقَالَ: لا أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (خُذُوا
الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ) .
/ 19 - وَقَالَ فيه مسروق: خَطَبَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِى
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِضْعًا وَسَبْعِينَ
سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابى أَنِّى مِنْ
أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أَنَا
بِخَيْرِهِمْ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِى الْحِلَقِ
أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ
غَيْرَ ذَلِكَ. / 20 - وَقَالَ فيه عَلْقَمَةَ: كُنَّا
بِحِمْصَ، فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ،
فَقَالَ
(10/240)
رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، قَالَ:
قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَ: (أَحْسَنْتَ) ، وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ،
فَقَالَ: أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ
وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ؟ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ. / 21 - وفيه:
مَسْرُوق، قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ: وَاللَّهِ الَّذِى
لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ إِلا أَنَا أَعْلَمُ، أَيْنَ أُنْزِلَتْ؟ وَلا
أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا أَنَا
أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا
أَعْلَمَ مِنِّى بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الإبِلُ
لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ. / 22 - وفيه: أَنَس، جَمَعَ
الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟
أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصَارِ: أُبَىُّ بْنُ
كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،
وَأَبُو زَيْدٍ. / 23 - وَقَالَ أَنَس مرة: مَاتَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَمْ يَجْمَعِ
الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ،
وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو
زَيْدٍ. وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ. / 24 - وفيه: ابْن عَبَّاس،
قَالَ عُمَرُ: أُبَىٌّ أَقْرَؤُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ
مِنْ لَحَنِ أُبَىٍّ، وَأُبَىٌّ يَقُولُ: أَخَذْتُهُ مِنْ
فِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلا أَتْرُكُهُ
لِشَىْءٍ. قَالَ تَعَالَى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)
[البقرة 106] . قال أبو بكر بن الطيب: لا تدل هذه الآثار
على أن القرآن لم يحفظه فى حياة النبى (صلى الله عليه
وسلم) غير عبد الله وسالم، ومعاذ وأُبىّ ابن كعب، وأنه لم
يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك، فقد ثبت
بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلىّ، وتميم
الدارى وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص،
وثبت أنه
(10/241)
سأل النبي في كم يقرأ القرآن؟ فقال: في
شهر. فقال: إني أطيق أكثر من ذلك. .) الحديث. فجمعه عمرو
بن العاص وغيره. روى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقرأ
خمس عشرة سجدة فى القرآن، منها ثلاث فى المفصل، وفى الحج
سجدتان. ذكر الأسانيد بذلك أبو بكر بن الطيب فى كتاب
الانتصار. فقول أنس: لم يجمع القرآن غير أربعة. قول يتعذر
العلم بحقيقة ظاهره، وله وجوه من التأويل: أحدها: أنه لم
يجمعه على جميع الوجوه والأحرف، والقراءات التى نزل بها
إلا أولئك النفر فقط وهذا غير بعيد؛ لأنه لا يجب على
سائرهم ولا على أولئك النفر أيضًا أن يجمعوا القرآن على
جميع حروفه ووجوهه السبعة، والثانى: أنه لم يجمع القرآن
ويأخذه تلقينًا من فىّ النبى (صلى الله عليه وسلم) غير تلك
الجماعة فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره، والثالث:
أن يكون لم يجمع القرآن على عهد النبى من انتصب لتلقينه،
وأقرأ الناس له غير تلك الطبقة المذكورة. وقد تظاهرت
الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبى
(صلى الله عليه وسلم) لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام
الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم، وقد ثبت عن الصديق
بقراءته فى المحراب بطوال السور التى لا يتهيأ حفظها إلا
لأهل القدرة على الحفظ والإتقان، فروى ابن عيينة، عن
الزهرى، عن أنس أن أبا بكر الصديق قرأ فى الصبح بالبقرة
فقال عمر: كادت الشمس أن تطلع فقال: لو طلعت لم تجدنا
غافلين، وقد علم أن كثيرًا من الحفاظ وأهل الدربة بالقرآن
يتهيبون الصلاة بالناس بمثل
(10/242)
هذه السور الطوال وما هو دونها، وهذا يقتضى
أن أبا بكر كان حافظًا للقرآن، وقد صح الخبر أنه بنى
مسجدًا بفناء داره بمكة قبل الهجرة، وأنه كان يقوم فيه
بالقرآن ويكثر بكاؤه ونشيجه عند قراءته فتقف عليه نساء
المشركين وولدانهم يسمعون قراءته، لولا علم النبى (صلى
الله عليه وسلم) بذلك من أمره لم يقدمه لإمامة المسلمين مع
قوله: يؤم القوم أقرؤهم. وكذلك تظاهرت الروايات عن عمر أنه
كان يؤم الناس بالسور الطوال، وقد أمهم بسورة يوسف فى
الصبح فبلغ إلى قوله: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ
الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84] ، فنشج حتى سمع
بكاؤه من وراء الصفوف. وقرأ مرة سورة الحج فسجد فيها
سجدتين. وروى عبد الملك بن عمير عن زيد بن وهب، عن ابن
مسعود قال: كان عمر أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله
وأفقهنا فى دين الله، ولولا أن هذه كانت حالته، وأنه من
أقرأ الناس لكتاب الله لم يكن أبو بكر الصديق بالذى يضم
إليه زيد بن ثابت، ويأمرهما بجمع القرآن واعتراض ما عند
الناس، ويجعل زيدًا تبعًا له؛ لأنه لا يجوز أن ينصب لجمع
القرآن واعتراضه من ليس بحافظ. وأما عثمان فقد اشتهر أنه
كان ممن جمع القرآن على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم)
وأنه كان من أهل القيام به، وقد قال حين أرادوا قتله
فضربوه بالسيف على يده فمدها وقال: والله إنها لأول يد خطت
المفصل، وقالت نائلة زوجته: إن نقتلوه فإنه كان يحيى الليل
بجميع القرآن فى ركعة. وكذلك على بن أبى طالب، قد عرفت
حاله فى فضله وثاقب فهمه، وسعة علمه ومشاورة الصحابة له،
وإقرارهم لفضله وتربية النبي له
(10/243)
وأخذه له بفضائل الأخلاق، وترغيبه (صلى
الله عليه وسلم) فى تخريجه وتعليمه، وما كان يرشحه له
ويثيبه عليه من أمره نحو قوله: أقضاكم علىّ، ومن البعيد أن
يقول هذا فيه وليس من قراء الأمة، وقد كان يقرأ القرآن،
وقرأ عليه أبو عبد الرحمن السلمى وغيره، وروى همام، عن ابن
أبى نجيح، عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن حدثه قال:
ما رأيت رجلاً أقرأ للقرآن من علىّ بن أبى طالب، صلى بنا
الصبح، فقرأ سورة الأنبياء فأسقط آية، فقرأ ثم رجع إلى
الآية التى أسقطها فقرأها، ثم رجع إلى مكانه الذى انتهى
إليه لا يتتعتع. فإذا صح ما قلناه مع ما ثبت من تقدمهم
وتقدمة الرسول لهم وجب أن يكونوا حفاظًا للقرآن، وأن يكون
ذلك أولى من الأخبار التى ذكر فيها أن الحفاظ كانوا على
عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أربعة ليس منهم أحد من
هؤلاء الأئمة القادة الذين هم عمدة الدين وفقهاء المسلمين.
8 - باب فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
/ 25 - فيه: أَبُو سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، كُنْتُ
أُصَلِّى، فَدَعَانِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
فَلَمْ أُجِبْهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى
كُنْتُ أُصَلِّى، قَالَ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ:
(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ()
[الأنفال: 24] ، ثُمَّ قَالَ: (أَلا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ
سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ
الْمَسْجِدِ) ، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ
نَخْرُجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ:
لأعَلِّمَنَّكَ
(10/244)
أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ:
() الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2] ،
هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ
الَّذِي أُوتِيتُهُ) . / 26 - وفيه: أَبُو سَعِيد
الْخُدْرِىِّ، كُنَّا فِى مَسِيرٍ لَنَا، فَجَاءَتْ
جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ سَلِيمٌ،
وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ
مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ،
فَرَقَاهُ، فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً،
وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ، قُلْنَا لَهُ:
أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِى؟ قَالَ:
لا، مَا رَقَيْتُ إِلا بِأُمِّ الْكِتَابِ، قُلْنَا: لا
تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فذَكَرْنَاهُ
لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (وَمَا كَانَ
يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى
بِسَهْمٍ) . قال المؤلف: إن قال قائل: قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (لأعلمنك أعظم سورة من القرآن) يدل على تفاضل
القرآن، قيل له: ليس كما توهمت؛ لأنه يحتمل أن يكون معنى
قوله (صلى الله عليه وسلم) : أعظم سورة فى القرآن، أى أعظم
نفعًا للمتعبدين؛ لأن أم القرآن لا تجزئ الصلاة إلا بها،
وليس ذلك لغيرها من السور، ولذلك قيل لها: السبع المثانى؛
لأنها تثنى فى كل صلاة هذا قول على بن أبى طالب، وأبى
هريرة وغيرهما، ويشهد لهذا قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) . وفيه: قوله (صلى الله عليه
وسلم) : هى السبع المثانى تفسير لقوله تعالى: (وَلَقَدْ
آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى) [الحجر: 87] ، أن
المراد بها فاتحة الكتاب، وقد روى عن السلف أقوال أخر فى
تفسير السبع المثانى، فروى عن ابن عباس وابن مسعود أنها
السبع الطوال؛ لأن الفرائض والقصص تثنى فيها، ويجوز أن
يكون المثانى القرآن كله كما قال تعالى: (كِتَابًا
مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ) [الزمر: 23] ؛ لأن الأخبار تثني
فيه.
(10/245)
ومما يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(لأعلمنك أعظم سورة) لا يوجب تفاضل القرآن بعضه على بعض فى
ذاته. قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] ،
ولم يختلف أهل التأويل فى أن الله تعالى لم يرد بقوله:
(نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) [البقرة: 106] ، تفضيل بعض
الآيات على بعض، وإنما المراد بخير منها لعباده المؤمنين
التالين لها، إما بتخفيف وعفو، أو بثواب على عمل، ولو قال
قائل: أيما أفضل: آية رحمة، أو آية عذاب، أو آية وعد، أو
آية وعيد؟ لم يكن لهذا جواب. ومن اختار التفاضل فى القرآن
فقد أوجب فيه النقص، وأسماء الله تعالى وصفاته وكلامه لا
نقص فى شىء منها فيكون بعضه أفضل من بعض، وكيف يجوز أن
يكون شىء من صفاته منقوصًا غير كامل وهو قادر على أن يتم
المنقوص حتى يكون فى غاية الكمال، فلا يلحقه فى شىء من
صفاته نقص، تعالى الله عن ذلك، وسأزيد فى بيان هذا فى فضل)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] . ويحتمل قوله:
لأعلمنك أعظم سورة وجهًا آخر، وهو أن يكون أعظم بمعنى سورة
عظيمة كما قيل الله أكبر، بمعنى: كبير، وكما قيل فى اسم
الله الأعظم بمعنى: عظيم، وقد تقدم الكلام فى حديث أبى
سعيد الخدرى فى كتاب الإجازة فى باب ما يعطى في الرقية
بفاتحة الكتاب ومعنى قوله ما يدريك أنها رقية فتأمله هناك.
(10/246)
وقوله: ما كنا نأبنه، قال صاحب الأفعال:
أبنت الرجل بخير أو شر نسبتهما إليه. أبنه أبنًا.
9 - باب فَضْلِ الْبَقَرَةِ
/ 27 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ
سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) . / 28 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِى رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ،
فَأَتَانِى آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ،
فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . . فَقَصَّ الْحَدِيثَ،
فَقَالَ: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ
آيَةَ الْكُرْسِىِّ، فَإنَّهُ لن يَزَالَ عليك مِنَ
اللَّهِ حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى
تُصْبِحَ) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ) . قال المؤلف:
إذا كان من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه، ومن قرأ
آية الكرسى كان عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى
يصبح، فما ظنك بمن قرأها كلها من كفاية الله له وحرزه
وحمايته من الشيطان وغيره، وعظيم ما يدخر له من ثوابها.
وقد روى هذا المعنى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى
معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى أمامة
قال: قال رسول الله: (تعلموا القرآن؛ فإنه شافع لأصحابه
يوم القيامة، تعلموا البقرة وآل عمران، تعلموا الزهراوين،
فإنهما تأتيان يوم
(10/247)
القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو
كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، وتعلموا
البقرة فإن تعلمها بركة وإن فى تركها حسرة ولا تطيقها
البطلة) . وقال ابن مسعود: إن الشيطان يخرج من البيت الذى
يقرأ سورة البقرة فيه.
- باب فَضْلِ الْكَهْفِ
/ 29 - فيه: الْبَرَاء، كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ
الْكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ
بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَ يَدْنُو
وَيَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ
أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ
لَهُ، فَقَالَ: (تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ
بِالْقُرْآنِ) . قال المؤلف: روى الثورى، عن أبى هاشم
الواسطى، عن أبى مجلز، عن قيس بن عبادة عن أبى سعيد الخدرى
قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم أدرك الدجال لم يسلط
عليه، ومن قرأ آخر سورة الكهف أضاء نوره من حيث قرأها ما
بينه وبين مكة. وقال قتادة: من قرأ عشر آيات من أول سورة
الكهف عصم من فتنة الدجال. والحصان: الفحل من الخيل،
والشطن: الحبل، عن صاحب العين. واختلف أهل التأويل فى
تفسير السكينة، فروى عن علىّ بن أبى طالب أنه قال: هى ريح
هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
(10/248)
وروي عنه أنها ريح حجوج ولها رأسان. وقال مجاهد: السكينة
لها رأس الهر وجناحان وذنب كذنب الهر. وعن ابن عباس
والربيع: هى دابة مثل الهر، لعينها شعاع فإذا التقى
الجمعان أخرجت يدها فنظرت إليهم فيهزم إليهم ذلك الجيش من
الرعب. وعن ابن عباس والسدى: هى طست من ذهب من الجنة يغسل
فيها قلوب الأنبياء. وعن أبى مالك: طست من ذهب ألقى موسى
فيه التوراة والألواح والعصا , وعن وهب: السكينة: روح من
الله تتكلم إذا اختلفوا فى شىء بين لهم ما يريدون. وعن
الضحاك: السكينة: الرحمة. وعن عطاء: السكينة: ما تعرفون من
الآيات فتستكينون إليها. وهذ اختيار الطبرى. وتنزل السكينة
لسماع القرآن يدل على خلاف قول السدى أنها طست من ذهب،
ويشهد لصحة قول من قال: أنها روح أو شيء فيه روح، والله
أعلم. |