شرح صحيح
البخارى لابن بطال - باب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ
/ 30 - فيه: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أنَّهُ كَانَ يَسِيرُ
مَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى بعض
أسفاره ليلاَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثلاثًا،
فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، نَزَرْتَ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ
ذَلِكَ لا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِى
حَتَّى كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ
فِىَّ قُرْآنٌ، فَمَا فَجِئْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقَالَ: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ
سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ
الشَّمْسُ) ، ثُمَّ قَرَأَ) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا
مُبِينًا) [الفتح: 1] .
(10/249)
قال الطبري: فإن قال قائل: ما معنى قوله
(صلى الله عليه وسلم) : لهى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس؟
أكان النبى يحب الدنيا الحب الذى يقارب حبه، ما أخبره الله
به أنه أعطاه من الكرامة، وشرفه به من الفضيلة بقوله:
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1]
الآية، وقد علمت أن المخبر إنما أراد المبالغة فى الخبر عن
رفعة قدر النبى عنده على غيره أنه يجمع بين رفيعين من
الأشياء عنده، وعن المخبرين به فيخبرهم عن فضل مكان أحدهما
على الآخر عنده، وقد علمت أن النبى (صلى الله عليه وسلم)
لم يكن للدنيا عنده من القدر ما يعدك أدنى كرامة أكرمه
الله تعالى بها فما وجه قوله: هى أحب إلىّ من الدنيا مع
خساسة قدر الدنيا عنده وضعة منزلتها. قيل: لذلك وجهان
أحدهما: أن يكون معنى قوله: هى أحب إلىّ مما طلعت عليه
الشمس، هى أحب إلىّ من كل شىء؛ لأنه لا شىء إلا الدنيا
والآخرة، فأخرج الخبر عن ذكر الشىء بذكر الدنيا؛ إذ كان لا
شىء سواها إلا الآخرة. والوجه الثانى: أن يكون خاطب أصحابه
بذلك، على ما قد جرى من استعمال الناس بينهم فى مخاطبتهم،
من قولهم إذا أراد أحدهم الخبر عن نهاية محبته للشئ: هو
أحب إلىّ من الدنيا، وما أعدل به من الدنيا شيئًا، كما قال
تعالى: (كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ) [العلق: 15] ، ومعنى ذلك: لنهيننه
ولنذلنه؛ لأن الذين خوطبوا هذا الخطاب كان فى إذلالهم من
أرادوا إذلاله
(10/250)
السفع بالناصية، فخاطبهم بالذى كانوا
يتعارفون بينهم، ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أحب
إلىّ مما طلعت الشمس) .
- باب فَضْلِ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]
/ 31 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا
يَقْرَأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]
يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ
الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا
لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) . / 32 - وَقَالَ أَبُو
سَعِيد فِى حديثه مرة: إن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
لأصْحَابِهِ: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ
الْقُرْآنِ فِى لَيْلَةٍ) ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ،
وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: (اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ
الْقُرْآنِ) . اختلف العلماء فى معنى قوله: إنها تعدل ثلث
القرآن، فقال أبو الحسن بن القابسى: لعل الرجل الذى بات
يردد) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] كانت منتهى
حفظه، فجاء يقلل عمله، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم)
: إنها لتعدل ثلث القرآن ترغيبًا له فى عمل الخير وإن قل،
ولله تعالى أن يجازى عبدًا على يسير بأفضل مما يجازى آخر
على كثير، وقال غيره: معنى قوله: إنها تعدل ثلث القرآن أن
الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء: أحدها: القصص والعبر
والأمثال، والثانى: الأمر والنهى والثواب والعقاب،
والثالث: التوحيد والإخلاص، وتضمنت هذه السورة صفة توحيده
تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد، فجعل لقارئها من
الثواب كثواب من قرأ ثلث القرآن.
(10/251)
واحتجوا بحديث أبى الدرداء أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) قال لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ كل ليلة
ثلث القرآن؟ قالوا: نحن أعجز. قال: إن الله جزء القرآن
فجعل) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] جزءًا من
أجزاء القرآن. قال المهلب: وحكاه عن الأصيلى، وهو مذهب
الأشعرى وأبى بكر بن الطيب، وابن أبى زيد والداودى، وابن
القابسى وجماعة علماء السنة: أن القرآن لا يفضل بعضه على
بعض؛ إذ كله كلام الله وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز
التفاضل إلا فى المخلوقات؛ لأن المفضول ناقص عن درجة
الفاضل وصفات الله تعالى لا نقص فيها؛ ولذلك لم يجز فيها
التفاضل وقد قال إسحاق بن منصور: سألت إسحاق بن راهويه عن
هذا الحديث فقال لى: معناه: أن الله جعل لكلامه فضلاً على
سائر الكلام، ثم فضل بعض كلامه على بعض بأن جعل لبعضه
ثوابًا أضعاف ما جعل لبعض تحريضًا منه (صلى الله عليه
وسلم) على تعليمه وكثرة قراءته، وليس معناه: أنه لو قرأ:
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (ثلاث مرات، كان كأنه قرأ
القرآن كله، ولو قرأها أكثر من مائتى مرة.
- باب الْمُعَوِّذَاتِ
/ 33 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ
بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ
كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ
بَرَكَتِهَا. / 34 - وَقَالَتْ أَيْضًا: كَانَ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ
كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا،
فَقَرَأَ فِيهِمَا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
(وَالمعوذات، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ
جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ
وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ،
(10/252)
يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ. وقد تقدم حديث
عائشة فى كتاب الطب فى باب الرقى بالمعوذات. ودل فعل النبى
(صلى الله عليه وسلم) فى رقية نفسه عند شكواه وعند نومه
متعوذًا بهما على عظيم البركة فى الرقى بهما، والتعوذ
بالله من كل ما يخشى فى النوم، وقد روى عبد الرزاق، عن
الثورى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن
عقبة بن عامر قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : أنزل
علىّ آيات لم أسمع بمثلهن: المعوذتين. وقال عقبة فى حديثه
مرة أخرى: قال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] و) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ) [الفلق: 1] ، و) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ) [الناس: 1] تعوذ بهن، فإنه لم يتعوذ بمثلهن قط.
وقد تقدم فى كتاب المرضى فى باب النفث فى الرقية من كره
النفث من العلماء فى الرقية ومن أجازه.
- باب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلائِكَةِ عِنْدَ
القِرَاءَةِ
/ 35 - وفيه: مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أن أُسَيْدِ
بْنِ حُضَيْرٍ، بَيْنَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ
سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ؛
إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، ثُمَّ
قَرَأَ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ
ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ
تُصِيبَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِىَّ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)
، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ تَطَأَ
يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِى،
فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى إِلَى
السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ
الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لا أَرَاهَا، قَالَ:
(وَتَدْرِى مَا ذَاكَ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (تِلْكَ
الْمَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ
لأصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لا تَتَوَارَى
مِنْهُمْ) .
(10/253)
في هذا الحديث أن أسيد بن حضير رأى مثل
الظلة فيها أمثال المصابيح فقال النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (تلك الملائكة تنزلت للقرآن) ، وقال (صلى الله
عليه وسلم) فى حديث البراء فى سورة الكهف: (تلك السكينة
نزلت للقرآن) . فمرة أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن نزول
السكينة، ومرة أخرى عن نزول الملائكة، فدل على أن السكينة
كانت فى تلك الظلة وأنها تنزل أبدًا مع الملائكة، والله
أعلم، ولذلك ترجم البخارى باب نزول السكينة والملائكة عند
القراءة. وفى هذا الحديث أن الملائكة تحب أن تسمع القرآن
من بنى آدم لا سيما قراءة المحسنين منهم، وكان أسيد بن
حضير حسن الصوت بالقرآن ودل قوله (صلى الله عليه وسلم)
لأسيد: لو قرأت لأصبحت تنظر الناس إليها لا تتوارى منهم
على حرص الملائكة على سماع كتاب الله من بنى آدم. وقد جاء
فى الحديث أن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يضئ لأهل السماء
كما يضئ النجم لأهل الأرض وتحضره الملائكة، وهذا كله ترغيب
فى حفظ القرآن، وقيام الليل به، وتحسين قراءته. وفيه جواز
رؤية بنى آدم للملائكة إذا تصورت فى صورة يمكن للآدميين
رؤيتها، كما كان جبريل (صلى الله عليه وسلم) يظهر للنبى
(صلى الله عليه وسلم) فى صورة رجل فيكلمه، وكثيرًا ما كان
يأتيه فى صورة دحية الكلبى وقد تقدم فى باب الكهف تفسير
السكينة بما أغنى عن إعادته. وقوله: (لو قرأت لأصبحت ينظر
الناس إليها لا تتوارى منهم) حجة لمن قال: إن السكينة روح
أو شىء فيه روح؛ لأنه لا يصح حب استماع القرآن إلا لمن
يعقل.
(10/254)
15 - باب مَنْ قَالَ: لَمْ يَتْرُكِ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا مَا بَيْنَ
الدَّفَّتَيْنِ / 36 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ سُئل:
هل تَرَكَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ شَىْءٍ؟
قَالَ: مَا تَرَكَ إِلا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.
ومُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مثله.
- باب الْوَصاةِ بِكِتَابِ اللَّهِ
/ 37 - فيه: طَلْحَةُ، أَنَّهُ سَأَل عَبْدَاللَّهِ بْنَ
أَبِى أَوْفَى: آوْصَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ؟
فَقَالَ: لا، قُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ
الْوَصِيَّةُ؟ أُمِرُوا بِهَا وَلَمْ يُوصِ، قَالَ:
(أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ) . هذان البابان يردان قول من
زعم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصى إلى أحد، وأن على
بن أبى طالب الوصى، وكذلك قال على بن أبى طالب حين سئل عن
ذلك فقال: ما عندنا إلا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة،
الصحيفة مقرونة بسيفه، فيها العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل
مؤمن بكافر، وقد تقدم ذلك فى غير موضع.
- باب فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ
/ 38 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَثَلُ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
كَالأتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ،
وَالَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا
طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا،
(10/255)
وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ
وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لا
يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا
مُرٌّ وَلا رِيحَ لَهَا) . / 39 - وفيه: ابْن عُمَرَ،
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا
أَجَلُكُمْ فِيما خَلا مِنَ الأمَمِ كمثل مَا بَيْنَ
صَلاةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَمَثَلُكُمْ
وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ
اسْتَعْمَلَ عُمَّالا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى إِلَى
نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ،
فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى
الْعَصْرِ، عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ
أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ
بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ
عَمَلا، وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ
حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَذَاكَ فَضْلِى أُوتِيهِ
مَنْ شِئْتُ) . قال المؤلف: وجه ذكر البخارى لهذين
الحديثين فى هذا الباب هو أنه لما كان ما جمع طيب الريح
وطيب المطعم أفضل المأكولات، وشبه النبى المؤمن الذى يقرأ
القرآن بالأترجة التى جمعت طيب الريح وطيب المطعم؛ دل ذلك
أن القرآن أفضل الكلام، ودل هذا الحديث على مثل القرآن
وحامله والعامل به والتارك له، وكذلك حديث ابن عمر، لما
كان المسلمون أكثر أجرًا من أهل التوراة وأهل الإنجيل دل
ذلك على فضل القرآن على التوراة والإنجيل؛ لأن المسلمين
إنما استحقوا هذه الفضيلة بالقرآن الذى فضلهم الله به،
وجعل فيه للحسنة عشر أمثالها وللسيئة واحدة، وتفضل عليهم
بأن أعطاهم على تلاوته لكل حرف عشر حسنات كما قال ابن
مسعود، وقد أسنده عن النبى أيضًا، وقد وردت آثار كثيرة فى
فضائل القرآن والترغيب فى قراءته. روى سفيان عن عاصم، عن
زر عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل
فى الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) .
(10/256)
وقالت عائشة: جعلت درج الجنة على عدد آى
القرآن، فمن قرأ ثلث القرآن كان على الثلث من درج الجنة،
ومن قرأ نصفه كان على النصف من درج الجنة، ومن قرأ القرآن
كله كان فى عاليه لم يكن فوقه أحد إلا نبى أو صديق أو
شهيد. وروى أبو قبيل: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن القرآن والصيام يشفعان
يوم القيامة لصاحبهما، فيقول الصيام: يا رب، إنى منعته
الطعام والشراب فشفعنى فيه، ويقول القرآن: يا رب، إنى
منعته النوم بالليل فشفعنى فيه فيشفعان فيه) . وروى أبو
نعيم، عن بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه
قال: كنت جالسًا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فسمعته
يقول: إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره
كالرجل الشاب فيقول: هل تعرفنى؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول:
أنا صاحبك القرآن الذى أظمأتك فى الهواجر وأسهرت ليلك، وإن
كل تاجر من وراء تجارته، وإنك من وراء كل تجارة، فيعطى
الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار،
ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بما
كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ
واصعد فى درج الجنة وغرفها، فهو فى صعود ما دام يقرأ هذا
كان أو ترتيلاً. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يرد إلى
أرذل العمر.
(10/257)
- باب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)
[العنكبوت: 51]
. / 40 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ
لِلنَّبِىِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) . وَقَالَ
صَاحِبٌ لَهُ: يُرِيدُ: يَجْهَرُ بِهِ. / 41 - وَقَالَ
مرة: مَا أَذِنَ لنَّبِىّ مَا أَذِنَ اللَّه لِلنَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ. قَالَ
سُفْيَانُ: تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِى بِهِ. وذكر فى كتاب
الاعتصام حديث أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وزاد غيره: (يجهر به)
. وذكره فى باب قوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ) [الملك: 13] . واختلف الناس فى معنى
التغنى بالقرآن؛ ففسره ابن عيينة على أن المراد
بالاستغناء، الذى هو ضد الافتقار، ورواه عن سعد ابن أبى
وقاص، ذكر الحميدى، عن سفيان، حدثنا ابن جريج، عن ابن أبى
مليكة، عن عبد الله بن أبى نهيك قال: لقينى سعد بن أبى
وقاص فى السوق فقال: أتجار كبسة، سمعت رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) يقول: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وهكذا
فسره وكيع، ومن تأول هذا التأويل كره قراءة القرآن
بالألحان والترجيع. روى ذلك عن أنس بن مالك وسعيد بن
المسيب، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير والنخعى، وقال
النخعى: كانوا يكرهون القراءة بتطريب، وكانوا إذا قرأوا
القرآن قرأوه حدرًا ترتيلاً بحزن، وهو قول مالك: روى ابن
القاسم عنه أنه سئل عن الإلحان فى الصلاة فقال: لا يعجبنى،
وأعظم القول فيه، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا
عليه الدراهم.
(10/258)
وقد روي عن ابن عيينة وجه آخر، ذكره إسحاق
بن راهويه قال: كان ابن عيينة يقول: معنى قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى أن يتغنى
بالقرآن) . يريد يستغنى به عما سواه من الأحاديث. وقالت
طائفة: معنى التغنى بالقرآن: تحسين الصوت به والترجيع
بقرائته، والتغنى بما شاء من الأصوات واللحون وهو معنى
قوله: وقال صاحب له يريد: يجهر به. قال الخطابى: والعرب
تقول: سمعت فلانا يغنى بهذا الحديث، أى يجهر به، ويصرح لا
يكنى. وقال أبو عاصم: أخذ بيدى ابن جريج ووقفنى على أشعب
الطماع وقال: عن ابن أخى، ما بلغ من طمعكم؟ قال: ما زفت
امرأة بالمدينة إلا كشحت بيتى رجاء أن تهدى إلىّ. يقول
أخبر ابن أخى بذلك مجاهدًا غير مساتر ومنه قول ذى الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أننى بها أتغنى باسمها غير معجم
أى أجهر بالصوت بذكرها، لا أكنى عنها حذار كاشح أو خوف
رقيب. قال المؤلف: ذكر عمر بن شيبة قال: ذكرت لأبى عاصم
النبيل تأويل ابن عيينة فى قوله (صلى الله عليه وسلم) :
يتغنى بالقرآن: يستغنى به. فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئًا،
حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير قال: كانت لداود
نبى الله معزفة يتغنى عليها وتبكى ويبكى. وقال ابن عباس:
إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنًا، يلون فيهن، ويقرأ قراءة
يطرب منها المحموم، فإذا أراد أن يبكى نفسه لم تبق دابة فى
بر أو بحر إلا أنصتن يسمعن ويبكين.
(10/259)
ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث ابن معقل
فى وصف قراءة رسول الله وفيه (ثلاث مرات) وهذا غاية
الترجيع ذكره البخارى فى كتاب الاعتصام وسئل الشافعى عن
تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا، لو أراد (صلى الله
عليه وسلم) الاستغناء لقال: من لم يستغن بالقرآن. ولكن لما
قال (صلى الله عليه وسلم) : يتغن بالقرآن. علمنا أنه أراد
به التغنى، وكذلك فسر ابن أبى مليكة التغنى أنه تحسين
الصوت به، وهو قول ابن المبارك والنضر بن شميل. وممن أجاز
الإلحان فى القراءة: ذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب أنه كان
يقول لأبى موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن. وقال
مرة: من استطاع أن يغني بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل.
وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتًا بالقرآن. فقال له
عمر: اعرض علىّ سورة كذا، فقرأ عليه فبكى عمر وقال: ما كنت
أظن أنها نزلت. وأجازه ابن عباس وابن مسعود، وروى عن عطاء
بن أبى رباح، واحتج بحديث عبيد بن عمير، وكان عبد الرحمن
بن الأسود بن يزيد يتتبع الصوت الحسن فى المساجد فى شهر
رمضان. وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وأصحابه أنهم كانوا
يسمعون القرآن بالألحان، وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت أبى
والشافعى ويوسف بن عمير يسمعون القرآن بالألحان. واحتج
الطبرى لهذا القول، وقال: الدليل على أن معنى الحديث:
تحسين الصوت والغناء المعقول الذى هو تحزين القارئ سامع
قراءته، كما الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذى يطرب
السامع؛ ما روى سفيان عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة
أن النبي - عليه السلام - قال: (ما أذن الله لشىء ما أذن
لنبي
(10/260)
حسن الترنم بالقرآن) ، ومعقول عند ذوى
الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب
به. وروى فى هذا الحديث: ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن
الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به، رواه يزيد بن الهاد عن محمد
بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) . قال الطبرى: وهذا الحديث أبين البيان أن ذلك
كما قلنا، ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن كذلك، وحسن
الصوت والجهر به معنى. والمعروف فى كلام العرب أن التغنى
إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، وقال الشاعر:
تغن بالشعر أما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار قال:
وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش فى كلام
العرب وأشعارها، فلا نعلم أحدًا من أهل العلم بكلام العرب
قاله، وأما احتجاجه ليصح قوله بقول الأعشى: وكنت امرءًا
زمنًا بالعراق عفيف المناح طويل التغن وزعم أنه أراد
بقوله: طويل التغن: طويل الاستغناء، أى الغنى، فإنه غلط،
وإنما عنى الأعشى بالتغنى فى هذا الموضع الإقامة من قول
العرب: غنى فلان بمكان كذا إذا أقام به، ومنه قوله تعالى:
(كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا) [الأعراف: 92] ، وأما
استشهاده بقوله: كلانا غنى عن أخيه حياته ونحن إذا متنا
أشد تغانيا فإنه إغفال منه، وذلك أن التغانى تفاعل من
نفسين، إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال: تضارب
الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، وتشاتما وتقاتلا،
ومن قال هذا القول فى فعل اثنين لم يجز أن يقول مثله فى
فعل الواحد، وغير جائز
(10/261)
أن يقال: تغاني زيد وتضارب عمرو، وكذلك غير
جائز أن يقال: تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد قائله
أنه أظهر الاستغناء وهو به غير مستغن كما يقال: تجلد فلان
إذا أظهر الجلد من نفسه، وهو غير جليد، وتشجع وهو غير
شجاع، وتكرم وهو غير كريم، فإن وجه موجه الغنى بالقرآن إلى
هذا المعنى على بعده عن مفهوم كلام العرب كانت المصيبة فى
خطابه فى ذلك أعظم؛ لأنه لا يوجب ذلك من تأويله أن يكون
الله تعالى لم يأذن لنبيه أن يستغنى بالقرآن، وإنما أذن له
أن يظهر للناس من نفسه خلاف ما هو به من الخلال، وهذا لا
يخفى فساده. قال: ومما بين فساد تأويل ابن عيينة أيضًا ألا
يستغنى عن الناس بالقرآن. من المحال أن يوصف أحد بأنه يؤذن
له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الإذن عند ابن عيينة بمعنى
الإذن الذى هو إطلاق وإباحة، فإن كان كذلك فهو غلط من
وجهين: أحدهما: من اللغة، والثانى: من إحالة المعنى عن
وجهه، فأما اللغة فإن الإذن مصدر قوله أذن فلان لكلام
فلان، فهو يأذن له إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى:
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق: 2] ، بمعنى
سمعت لربها وحق لها ذلك، كما قال عدى بن يزيد: إن همى فى
سماع وأذن يمعنى: فى سماع واستماع. فمعنى قوله: ما أذن
الله لشىء إنما هو ما استمع الله إلى شىء من كلام الناس
إلى نبى يتغنى بالقرآن. وأما الإحالة فى المعنى فلأن
الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع
ومأذون له.
(10/262)
قال المؤلف: وقد رفع الإشكال فى هذه
المسألة أيضًا ما رواه ابن أبى شيبة قال: حدثنا يزيد بن
الحباب قال: حدثنا موسى بن على بن رباح عن أبيه عن عقبة بن
عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (تعلموا
القرآن وتغنوا به واكتبوه، فوالذى نفسى بيده لهو أشد
تقصيًا من المخاض من العقل) . وذكر أهل التأويل فى قوله
تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت: 51] أن هذه
الآية نزلت فى قوم أتوا النبى بكتاب فيه خبر من أخبار
الأمم. فالمراد بالآية الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار
الأمم على ما ذكره إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة، وليس
المراد بالآية الاستغناء الذى هو ضد الفقر واتباع البخارى
الترجمة بهذه الآية يدل أن هذا كان مذهبه فى الحديث، والله
أعلم. وسيأتى شىء من هذا المعنى فى آخر كتاب الاعتصام فى
باب ذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) وروايته عن ربه عز
وجل، وفى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الماهر
بالقرآن مع الكرام البررة، إن شاء الله، عز وجل) .
- باب اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآنِ
/ 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (لا حَسَدَ إِلا عَلَى اثْنَتَيْنِ:
رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ
اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالا، فَهُوَ
يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) . / 43 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ
(10/263)
اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ
لَهُ، فَقَالَ: لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ
فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ مَالا، فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِى الْحَقِّ، فَقَالَ
رَجُلٌ: لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلانٌ،
فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) . قال المؤلف: ذكر أبو
عبيد بإسناده عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: من جمع
القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، وقد استدرجت النبوة بين
جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغى لصاحب القرآن أن
يرفث فيمن يرفث ولا يجهل فيمن يجهل، وفى جوفه كلام الله.
وقال سفيان بن عيينة: من أعطى القرآن فمد عينيه إلى شىء ما
صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يسمع قوله عز وجل:
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87] الآية. قال: يعنى
القرآن، وقوله عز وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا) [السجدة: 16]
الآية. قال: هو القرآن. قال أبو عبيد: ومن ذلك قول النبى
(صلى الله عليه وسلم) : (ما أنفق عبد من نفقة أفضل من نفقة
فى قول) . ومنه قول شريح لرجل سمعه يتكلم فقال له: أمسك
عليك نفقتك. وفى حديث ابن عمر وأبى هريرة: أن حامل القرآن
ينبغى له القيام به آناء الليل والنهار، ومن فعل ذلك فهو
الذى يحسد على فعله فيه، وكذلك من آتاه الله مالاً وتصدق
به آناء الليل والنهار، فهو المحسود عليه، ومن لم يتصدق به
وشح عليه فلا ينبغى حسده عليه لما يجتنى من سوء عاقبته
وحسابه عليه.
(10/264)
- باب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ
الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
/ 44 - فيه: عُثْمَان، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) قَالَ: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ
وَعَلَّمَهُ) . قَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَذَاكَ
الَّذِى أَقْعَدَنِى مَقْعَدِى هَذَا. وَقَالَ مرة: (إِنَّ
أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) . /
45 - وفيه: سَهْل بْنِ سَعْد، أن امْرَأَةٌ قَالَ: (أَتَتِ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّى قَدْ
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (صلى الله عليه
وسلم) . . . الحديث، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. . .
إلى قوله: (قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ
الْقُرْآنِ) . قال المؤلف: حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن
أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان من تعلم القرآن أو
علمه أفضل الناس وخيرهم دل ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما
وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل
التعليم جاريًا ما دام كل من علمه تاليًا. وحديث سهل إنما
ذكره فى هذا الباب؛ لأنه زوجه المرآة لحرمة القرآن. ومما
روى فى فضل تعلم القرآن وحمله ما ذكره أبو عبيد من حديث
عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله ونحن فى الصفة،
فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأخذ
ناقتين كوماوين زهراوين فى غير إثم ولا قطيعة رحم. قلنا:
كلنا يا رسول الله نحب ذلك قال: فلأن بعد يغدو أحدكم كل
يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من
ناقتين ومن ثلاث ومن أعدادهن من الإبل. وذكر عن كعب
الأحبار أن فى التوراة أن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حديث
السن وعمل به وحرص عليه وتابعه؛ خلطه الله بلحمه
(10/265)
ودمه وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة،
وإذا تعلم الرجل القرآن وقد دخل فى السن وحرص عليه، وهو فى
ذلك يتابعه وينفلت منه كتب له أجره مرتين. وروى عن الأعمش
قال: مر أعرابى بعبد الله بن مسعود وهو يقرئ قومًا القرآن
فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد
(صلى الله عليه وسلم) . وقال عبد الله بن عمرو: عليكم
بالقرآن، فتعلموه وعلموه أبنائكم، فإنكم عنه تسألون، وبه
تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقل. وقال ابن مسعود: لا يسأل
أحد عن نفسه غير القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله
ورسوله، وعن أنس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن
لله أهلين من الناس. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم أهل
القرآن، أهل الله وخاصته) .
- باب الْقِرَاءَةِ عَلى ظَهْرِ قَلبه
/ 46 - فيه: سَهْل بْنِ سَعْدٍ، وذكر حديث الموهوبة،
وَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للرجل (مَاذَا
مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا،
وَسُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّهَا، قَالَ:
(أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ،
قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ
الْقُرْآنِ) . قال المؤلف: هذا الحديث يدل على خلاف ما
تأوله الشافعى فى إنكاح النبى (صلى الله عليه وسلم) الرجل
بما معه من القرآن، أنه إنما زوجه إياها بأجرة تعليمها.
وقوله فى هذا الحديث: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم.
فزوجه لذلك. فدل أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما زوجها منه
لحرمه استظهاره
(10/266)
للقرآن. وقد روى عن النبي - عليه السلام -
تعظيم حامل القرآن وإجلاله وتقديمه. ذكر أبو عبيد من حديث
طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) : (إن من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة: الإمام
المقسط، وذى الشيبة المسلم، وحامل القرآن) . وكان (صلى
الله عليه وسلم) يأمر يوم أحد بدفن الرجلين والثلاثة فى
قبر واحد، ويقول: قدموا أكثرهم قرآنًا. وقد روى عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بالقراءة فى المصحف نظرًا من
حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أعطوا أعينكم حظها
من العبادة، قالوا: يا رسول الله، وما حظها من العبادة؟
قال: النظر فى المصحف والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه)
. وقال يزيد بن أبى حبيب: من قرأ القرآن فى المصحف خفف عن
والديه العذاب وإن كانا كافرين. وعن عبد الله بن حسان قال:
اجتمع اثنا عشر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
على أن من أفضل العبادة قراءة القرآن نظرًا، وقال أسد بن
وداعة: ليس من العبادة شىء أشد على الشيطان من قراءة
القرآن نظرًا. وقال وكيع: قال الثورى: سمعنا أن تلاوة
القرآن فى الصلاة أفضل من تلاوته فى غير الصلاة، وتلاوة
القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الصدقة، والصدقة
أفضل من الصوم، والقراءة فى المصحف أفضل من القراءة
ظاهرًا؛ لأنها رياء. هذه الآثار من رواية ابن وضاح.
- باب اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ
/ 47 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ
كَمَثَلِ صَاحِبِ الإبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ
عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ) .
(10/267)
/ 48 - وفيه: ابْن مسعود، عن النَّبِيّ
(صلى الله عليه وسلم) : (اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ،
فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ
مِنَ النَّعَمِ من عقلها) . أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ
(صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ)
. قال المؤلف: إنما شبه (صلى الله عليه وسلم) صاحب القرآن
بصاحب الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها وأنه يتفصى من
صدور الرجال؛ لقوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ
قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5] ، فوصفه تعالى بالثقل،
ولولا ما أعان على حفظه ما حفظوه، فقال: (إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17] ، وقال: (وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] ، فبتيسير
الله وعونه لهم عليه بقى فى صدورهم، فهذان الحديثان يفسران
آيات التنزيل؛ فكأنه قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17] ،) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] ، إذا تعوهد وقرئ
أبدًا وتذكر. وقوله: أشد تفصيًا، أى تفلتًا، قال صاحب
العين: فصى اللحم عن العظم إذا انفسخ، والإنسان يتفصى من
الشىء إذا تخلص منه، والاسم الفصية.
- باب الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 49 - فيه: ابْنَ مُغَفَّل، رَأَيْتُ النَّبِيّ (صلى الله
عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى
رَاحِلَتِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ. إنما أراد بهذا الباب
والله أعلم ليدل أن القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل
هذه السنة فى كتاب الله تعالى، وهو قوله:
(10/268)
) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ
عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] .
- باب تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ
/ 50 - فيه: ابْن جُبَيْر، قَالَ: إِنَّ الَّذِى
تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاس: تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَدْ قَرَأْتُ
الْمُحْكَمَ. قيل لَهُ: وَمَا الْمُحْكَمُ؟ قَالَ:
الْمُفَصَّلُ. ذكر ابن أبى زيد قال: روى أن تعليم القرآن
الصبيان يطفئ غضب الرب، وإنما سمى المفصل لكثرة السور
والفصول فيه، عن ابن عباس. وقيل: إنما سمى بالمحكم أيضًا؛
لأن أكثره لا نسخ فيه. واختلف فى سن ابن عباس حين مات
النبي (صلى الله عليه وسلم) فروى أبو بشير، عن سعيد بن
جبير فى هذا الباب ما تقدم.
وقال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قبض النبى
(صلى الله عليه وسلم) وأنا ختين. وروي شعبة، عن أبي إسحاق،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: توفي النبي (صلى الله عليه
وسلم) وأنا ابن خمس عشرة سنة. وذكر الزبير والواقدى أن ابن
عباس ولد فى الشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن
ثلاث عشرة سنة حين توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) .
(10/269)
- باب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ
نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: 6]
/ 51 - فيه: عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ:
(يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا
آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا) . / 52 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ،
قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لأحَدِهِمْ،
يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ
نُسِّىَ) . قال المؤلف: قد نطق القرآن بإضافة النسيان إلى
العبد فى قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى)
[الأعلى: 6] وشهد ذلك بصدق حديث عائشة أنه (صلى الله عليه
وسلم) قال: (يرحمه الله، لقد أذكرنى كذا وكذا آية أسقطتهن
من سورة كذا) . فأضاف الإسقاط إلى نفسه، والإسقاط هو
النسيان بعينه. وحديث عبد الله خلاف هذا، وهو قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل
هو نسى) . فاستحب (صلى الله عليه وسلم) أن يضيف النسيان
إلى خالقه الذى هو الله تعالى وقد جاء فى القرآن عن موسى
(صلى الله عليه وسلم) أنه أضاف النسيان مرة إلى نفسه ومرة
إلى الشيطان فقال: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا
أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف:
63] . وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنى لأنسى أو
أنسى) ، يعنى إنى لأنسى أنا أو ينسينى ربى، فنسب النسيان
مرة إلى نفسه، ومرة إلى الله تعالى هذا على قول من لم يجعل
قوله: إنى لأنسى أو أنسى شكا من المحدث فى أى الكلمتين
قال. وهو قول عيسى بن دينار، وليس فى شىء من ذلك اختلاف
ولا تضاد فى المعنى، لأن لكل إضافة منها معنى صحيحًا فى
كلام العرب، فمن أضاف النسيان إلى الله فلأنه خالقه وخالق
الأفعال كلها، ومن نسبه إلى نفسه فلأن النسيان
(10/270)
فعل منه مضاف إليه من جهة الاكتساب
والتصرف، ومن نسبه إلى الشيطان فهو بمعنى الوسوسة فى
الصدور وحديث الأنفس بما جعل الله للشيطان من السلطان على
هذه الوسوسة، فلكل إضافة منها وجه صحيح، وإنما أراد (صلى
الله عليه وسلم) بقوله والله أعلم: (ما لأحدهم يقول نسيت
آية كذا وكذا؛ بل هو نسى) أن يجرى على ألسن العباد نسبة
الأفعال إلى بارئها وخالقها، وهو الله؛ ففى ذلك إقرار له
بالعبودية واستسلام لقدرته، وهو أولى من نسبة الأفعال إلى
مكتسبها فإن نسبها إلى مكتسبها فجائز بدليل الكتاب والسنة.
- باب مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ: سُورَةُ
الْبَقَرَةِ
/ 53 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأنْصَارِىِّ، قال (صلى الله
عليه وسلم) : (الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
مَنْ قَرَأَ بِهِمَا كَفَتَاهُ) . / 54 - وفيه: عُمَرَ،
أَنَّهُ سَمع هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ، يَقْرَأُ سُورَةَ
الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) ، عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ. . . الحديث. / 55 -
وفيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِى الْمَسْجِدِ،
فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا
وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا)
. فى هذه الأحاديث رد قول من يقول أنه لا يجوز أن يقول
سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، وزعم أن الصواب فى ذلك أن
يقال: السورة التى يذكر فيها البقرة ويذكر فيها آل عمران،
وهو قول يروى عن بعض السلف. وقالوا: إذا قال سورة البقرة
وسورة آل عمران فقد أضاف السورة
(10/271)
إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وقد تقدم
فى كتاب الحج فى باب يكبر مع كل حصاة.
- باب التَّرْتِيلِ فِى الْقِرَاءةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) [المزمل: 4] ،
وَقَوْلِهِ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونزلناه تنزيلا) [الإسراء: 106]
، وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَرَقْنَاهُ (فَصَّلْنَاهُ. / 56 - فيه:
عَبْدِاللَّهِ، أن رَجُلاً قَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ
الْبَارِحَةَ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّا
قَدْ سَمِعْنَا الْقِرَاءَةَ، وَإِنِّى لأحْفَظُ
الْقُرَنَاءَ الَّتِى كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) ثَمَانِىَ عَشْرَةَ سُورَةً مِنَ
الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم. / 57 - وفيه:
ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة: 16] ، قَالَ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا نَزَلَ
جِبْرِيلُ بِالْوَحْىِ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ
لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ
يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ (الحديث. قال المؤلف: ذكر أبو
عبيد عن مجاهد فى قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلا) [المزمل: 4] ، قال: ترسل ترسلاً. وقال أبو
حمزة: قلت لابن عباس: إنى سريع القرآءة، وإنى أقرأ القرآن
فى ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة فى ليلة فأتدبرها
(10/272)
وأرتلها خير من أن أقرأ كما تقول. وقال
مرة: خير من أجمع القرآن هذرمة، وأكثر العلماء يستحبون
الترتيل فى القراءة ليتدبره القارئ ويتفهم معانيه. روى
علقمة عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ
الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم
أحدكم آخر السورة. وذكر أبو عبيد أن رجلاً سأل مجاهداَ عن
رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة قيامهما واحد
وركوعهما واحد وسجودهما واحد، أيهما أفضل؟ قال: الذى قرأ
البقرة. وقرأ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) [الإسراء: 106] . الآية. وقال
الشعبى: إذا قرأتم القرآن فاقرءوه قراءة تسمعه آذانكم،
وتفهمه قلوبكم، فإن الأذنين عدل بين اللسان والقلب، فإذا
مررتم بذكر الله فاذكروا الله، وإذا مررتم بذكر النار
فاستعيذوا بالله منها، وإذا مررتم بذكر الجنة فاسألوها
الله. وفيها قول آخر؛ روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك فى
الهذ قى القراءة قال: من الناس من إذا هذ أخف عليه وإذا
رتل أخطأ، ومن الناس من لا يحسن الهذ، والناس فى هذا على
قدر حالاتهم وما يخف عليهم، وكل واسع. وقد روى عن جماعة من
السلف أنهم كانوا يختمون القرآن فى ركعة، وهذا لا يتمكن
إلا بالهذ، والحجة لهذا القول حديث أبى هريرة عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خفف على داود القرآن، فكان
يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ القرآن قبل أن تسرح) ، وهذا لا
يتم إلا بالهذ وسرعة القراءة، والمراد بالقرآن فى هذا
الحديث الزبور.
(10/273)
ذكره البخاري في كتاب الأنبياء وداود (صلى
الله عليه وسلم) ممن أنزل الله فيه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90] ،
وإنما ذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا الفعل من داود
(صلى الله عليه وسلم) على وجه الفضيلة له والإعجاب بفعله،
ولو ذكره على غير ذلك لنسخه ولأمر بمخالفته، فدل على إباحة
فعله والله أعلم، وسأذكر من كان يقرأ القرآن فى ركعة بعد
هذا فى باب: فى كم يقرأ القرآن، إن شاء الله.
- باب مَدِّ الْقِرَاءَةِ
/ 58 - فيه: أَنَس أنَّهُ سُئل عن قِرَاءَةُ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: كَانَ يمد مَدًّا، ثُمَّ
قَرَأَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَمُدُّ
بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ
بِالرَّحِيمِ. وذكر أبو عبيد عن الليث عن ابن أبى مليكة،
عن يعلى بن مالك عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله
قراءة مفسرة حرفًا حرفًا. وقالت أم سلمة أيضًا: كان النبى
(صلى الله عليه وسلم) يقطع قراءته، وإنما كان يفعل ذلك
والله أعلم لأمر الله له بالترتيل، وأن يقرأه على مكث،
وألا يحرك به لسانه ليعجل به، فامتثل أمر ربه تعالى فكان
يقرؤه على مهل ليبين لأمته كيف يقرءون، وكيف يمكنهم تدبر
القرآن وفهمه. وذكر أبو عبيد عن إبراهيم قال: قرأ علقمة
على عبد الله فكأنه عجل؛ فقال عبد الله: فداك أبى وأمى،
رتل قراءته، زين القرآن. وكان علقمة حسن الصوت بالقرآن.
(10/274)
- باب التَّرْجِيعِ
/ 59 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَلَى
نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ
الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ، وَيُرَجِّعُ.
فذكر البخارى هذا الحديث فى آخر كتاب الاعتصام، وزاد فيه:
ثم قرأ معاوية قراءة لينة ورجع، ثم قال: لولا أنى أخشى أن
يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل، يعنى عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) ، فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه قال:
آاثلاث مرات. وفى هذا الحديث من الفقه إجازة قراءة القرآن
بالترجيع والإلحان؛ لقوله فى وصف قراءته (صلى الله عليه
وسلم) : آاثلاثًا، وهذا غاية الترجيع، وقد تقدم فى باب: من
لم يتغن بالقرآن.
30 - باب حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ
/ 60 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) قَالَ لَهُ: (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ
مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) . وروى ابن شهاب عن أبى سلمة قال:
كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى.
فيقرأ عنده. وقال أبو عثمان النهدى: كان أبو موسى يصلى بنا
فلو قلت: إنى لم أسمع صوت صنج قط ولا صوت بربط ولا شيئًا
قط أحسن من صوته. قال أبو عبيد: ومحمل الأحاديث التى جاءت
فى حسن الصوت إنما هو على طريق الحزن والتخويف والتشويق.
(10/275)
يبين ذلك حديث أبى موسى أن أزواج النبى
سمعوا قراءته فأخبر بذلك فقال: لو علمت لشوقت تشويقًا
وحبرت تحبيرًا، فهذا وجهه، لا الألحان المطربة الملهية.
روى سفيان، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سئل
رسول الله، أى الناس أحسن صوتًا بالقرآن؟ قال: الذى إذا
سمعته رأيته يخشى الله. وعن ابن أبى مليكة عن عبد الرحمن
بن السائب قال: قدم علينا سعد بعد ما كف بصره فأتيته
مسلمًا فانتسبنى فانتسبت له، فقال: مرحبًا بابن أخى، بلغنى
أنك حسن الصوت بالقرآن، وسمعت النبى (صلى الله عليه وسلم)
يقول: إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن
لم تبكوا فتباكوا. وذكر أبو عبيد بإسناده قال: كنا على
سطح، ومعنا رجل من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال
المحدث: ولا أعلمه إلا عيسى الغفارى، فرأى الناس يخرجون فى
الطاعون يفرون فقال: يا طاعون، خذنى إليك، فقيل: أتتمنى
الموت وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك؟ قال:
إنى أبادر خصالاً، سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم)
يتخوفهن على أمته: بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة
الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس
بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء، وقال أبو سليمان
الخطابى: قوله: آل داود، فإنه أراد داود نفسه لأنا لا نعلم
أحدًا من آله أعطى من حسن الصوت ما أعطى داود قال غيره:
والآل عند العرب: الشخص. قال أبو سليمان: وسئل أبو عبيدة
معمر بن المثنى عن رجل أوصى لآل فلان، ألفلان نفسه المسمى
من هذا شىء؟ قال: نعم. قال
(10/276)
تعالى: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ) [غافر: 46] ، ففرعون أولهم وأنشد: ولا تبك
ميتا بعد ميت أحبه علىّ وعباس وآل أبى بكر يريد أبا بكر
نفسه، وقال ابن عون: كان الحسن إذا صلى على النبى قال:
اللهم اجعل صلواتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم،
إنك حميد مجيد. يريد بآل محمد نفسه؛ لأن الأمر من الله
بالصلاة إنما يتوجه إليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب: 56] الآية.
وقد يكون آل الرجل أهل بيته الأدنين، وقال زيد بن أرقم: آل
محمد آل عباس وآل عقيل، وآل جعفر وآل على. وقال أبو عبيد
فى قوله تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ
فِرْعَوْنَ) [البقرة: 49] ، قال: هم أهل دينه قال: ولا
يجوز ذلك إلا فى الرئيس الذى الباقون له تبع، وكذلك آل
محمد إنما هم أمته وأهل دينه قال: فإذا جاوزت هذا فآل
الرجل: أهل بيته خاصة. وقال بعض الناس: قول أبى عبيدة خطأ
عند الفقهاء لم يقل به أحد منهم.
31 - باب مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ
غَيْرِهِ
/ 61 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قال لِى النَّبِيُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (اقْرَأْ عَلَىَّ الْقُرْآنَ) ، قُلْتُ:
آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (إِنِّى
أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِى) . معنى استماعه
القرآن من غيره والله أعلم ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل
أن يكون كى يتدبره ويفهمه، وذلك أن المستمع أقوى
(10/277)
على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط من نفس
القارئ؛ لأنه فى شغل بالقراءة وأحكامها. فإن قيل: فقد يجوز
أن يكون سماعه (صلى الله عليه وسلم) للقرآن من غيره كما
قلت، فما وجه قراءته (صلى الله عليه وسلم) القرآن على أبى،
وقد ذكره البخارى فى فضائل الصحابة فى فضائل أبىّ. قيل:
يحتمل أن يكون وجه ذلك ليتلقنه أبى من فيه (صلى الله عليه
وسلم) ، فلا يتخالجه شك فى اختلاف القراءات بعده، وذلك أنه
خاف عليه الفتنة فى هذا الباب؛ لأنه لا يجوز أن يكون أحد
أقرأ للقرآن من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا أوعى له
وأعلم به؛ لأنه نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من
المنذرين بلسان عربى مبين، قاله الخطابى، وقال أبو بكر بن
الطيب نحوه، قال: قرأ النبى على أبىّ وهو أعلم بالقرآن منه
وأحفظ؛ ليأخذ أبىّ نمط قراءته وسنته ويحتذى حذوه. وقد روى
هذا التأويل عن أبىّ وابنه.
32 - باب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ
/ 62 - فيه: عَبْدِ اللَّه، قال لِى النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (اقْرَأْ عَلَىَّ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ:
(نَعَمْ) ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ
إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ
شَهِيدًا) [النساء: 41] قَالَ: (حَسْبُكَ الآنَ) ،
فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
قال المؤلف: فى جواز قطع القراءة على القارئ إذا حدث على
المقرئ عذر أو شغل بال؛ لأن القراءة على نشاط المقرئ أولى
ليتدبر معانى القرآن ويتفهم عجائبه، ويحتمل أن يكون أمره
(صلى الله عليه وسلم) بقطع القراءة تنبيهًا له على الموعظة
والاعتبار فى قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء: 41] الآية. ألا ترى أنه
(صلى الله عليه وسلم) بكى عندها، وبكاؤه
(10/278)
إشارة منه إلى معنى الوعظ؛ لأنه مثل لنفسه
أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته
بتصديقه، والإيمان به وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول
الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن.
33 - باب فِى كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ وَقَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل:
20]
. / 63 - فيه: سُفْيَانُ، قَالَ لِى ابْنُ شُبْرُمَةَ:
نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِى الرَّجُلَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَلَمْ
أَجِدْ سُورَةً أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ آيَاتٍ، فَقُلْتُ: لا
يَنْبَغِى لأحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ
آيَاتٍ. / 64 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ
سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) . / 65 -
وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْكَحَنِى
أَبِى امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ
كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ:
نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا،
وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ،
فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (الْقَنِى بِهِ) ، فَلَقِيتُهُ
بَعْدُ، فَقَالَ: (كَيْفَ تَصُومُ) ؟ قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ،
قَالَ: (وَكَيْفَ تَخْتِمُ) ؟ قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ،
قَالَ: (صُمْ من كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةً، وَاقْرَأِ
الْقُرْآنَ فِى كُلِّ شَهْرٍ) ، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ
أَكْثَرَ، قَالَ: (اقْرَأْ فِى كُلِّ سَبْعِة لَيَالٍ
مَرَّةً) ، فَلَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) . . . الحديث. قال البخارى: قال
بعضهم: فى ثلاث أو فى خمس أو فى سبع وأكثرهم على سبع، وقال
(صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو: اقرأه فى سبع ولا
تزد على ذلك.
(10/279)
قال المؤلف: ذكر أهل التفسير فى تأويل قوله
تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] ،
قالوا: ثلاث آيات فصاعدا. ويقال: أقصر سورة فى القرآن كما
قال ابن شبرمة. قوله (صلى الله عليه وسلم) : من قرأ
بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه. نص فى أن قارئ الآيتين
داخل فى معنى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)
[المزمل: 20] ، وفى حديث عبد الله بن عمرو أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) أمره أن يقرأ فى سبع ليال، وكان جماعة من
السلف يأخذون بهذا الحديث. روى ذلك عن عثمان بن عفان وابن
مسعود وتميم الدارى، وعن إبراهيم النخعى مثله. وذكر أبو
عبيد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن قراءة القرآن فى سبع فقال:
حسن، ولأن أقرأه فى عشرين أو فى النصف أحب إلىّ من أن
أقرأه فى سبع، وسلنى لم ذلك؟ أردده واقف عليه، وكان أبى بن
كعب يختمه فى ثمان، وكان الأسود يختم القرآن فى ست، وكان
علقمة يختمه فى خمس، وروى الطيب بن سليمان، عن عمرة، عن
عائشة أن رسول الله كان لا يختم القرآن فى أقل من ثلاث.
وعن قتادة عن يزيد بن عبد الله الشخير عن عبد الله بن عمرو
قال: قال رسول الله: (لا يفقه من قرأه فى أقل من ثلاث) .
وروى عن معاذ بن جبل: وكانت طائفة تقرأ القرآن كله فى ليلة
أو ركعة. روى ذلك عن عثمان بن عفان وتميم الدارى، وعن
علقمة وسعيد بن جبير أنهما قرأا القرآن فى ليلة بمكة، وكان
ثابت البنانى يختم القرآن فى كل يوم وليلة من شهر رمضان،
وكان سليمان يختم القرآن فى ليلة ثلاث مرات، ذكر ذلك كله
أبو عبيد وقال: الذى أختار من ذلك ألا يقرأ القرآن فى أقل
من ثلاث، لما روى عن النبى وأصحابه من الكراهة لذلك.
(10/280)
34 - باب الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ
/ 66 - فيه: ابْن مسعود، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) قال: (اقْرَأْ عَلَىَّ) ، قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ
وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا
بَلَغْتُ: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)
[النساء: 41] قَالَ لِى: (كُفَّ، أَوْ أَمْسِكْ)
فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ. قال المؤلف: البكاء
عند قراءة القرآن حسن، قد فعله النبي (صلى الله عليه وسلم)
وكبار الصحابة، وإنما بكى (صلى الله عليه وسلم) عند هذا
لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له
إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم
ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول
البكاء والحزن. ذكر أبو عبيد عن مطرف بن عبد الله بن
الشخير، عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله وهو يصلى
ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وعن الأعمش عن أبى
صالح قال: لما قدم أهل اليمن فى زمن أبى بكر سمعوا القرآن
فجعلوا يبكون قال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست القلوب. وقال
الحسن: قرأ عمر بن الخطاب: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ) [الطور: 7، 8] فربا ربوة
عيد منها عشرين يومًا. وقال عبيد بن عمير: صلى بنا عمر
صلاة الفجر فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ: (وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84] بكى
حتى انقطع فركع.
(10/281)
وفي حديث آخر لما قرأ: (إِنَّمَا أَشْكُو
بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللهِ) [يوسف: 86] ، بكى حتى سمع
نشيجه من وراء الصفوف. وعن ابن المبارك، عن مسعر، عن عبد
الأعلى التيمى قال: من أوتى من العلم ما لا يبكيه، فليس
بخليق أن يكون أوتى علمًا ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت
العلماء فقال: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا) [الإسراء: 107] الآيتين. وقرأ عبد
الرحمن بن أبى ليلى سورة مريم؛ فلما انتهى إلى قوله:
(خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58] ، فسجد بها،
فلما رفع رأسه قال: هذه السجدة فأين البكاء؟ وكره السلف
الصعق والغشى عند قراءة القرآن. ذكر أبو عبيد بإسناده عن
أبى حازم قال: مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس
حوله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: إذا قرئ عليه القرآن أو سمع
الله يذكر خر من خشية الله، فقال ابن عمر: والله إنا لنخشى
الله وما نسقط. وعن عكرمة قال: سئلت أسماء: هل كان أحد من
السلف يغشى عليه من القراءة؟ فقالت: لا، ولكنهم كانوا
يبكون. وقال هشام بن حسان: سئلت عائشة عمن يصعق عند قراءة
القرآن فقالت: القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال،
ولكنه كما قال الله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23] .
(10/282)
وسُئل ابن سيرين عن ذلك فقال: ميعاد بيننا
وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن وقع
فهو كما قال.
35 - باب مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ
تَأَكَّلَ بِهِ، أَوْ فَخَرَ بِهِ
/ 67 - فيه: عَلِىّ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) : (يَأْتِى فِى آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ
الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ
قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ
إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ
قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 68 - وفيه: أَبُو
سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَخْرُجُ
فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ،
وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ
عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ
حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِى النَّصْلِ فَلا
يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِى الْقِدْحِ فَلا يَرَى
شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِى الرِّيشِ فَلا يَرَى شَيْئًا،
وَيَتَمَارَى فِى الْفُوقِ) . / 69 - وفيه: أَبُو مُوسَى،
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ
الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. . .) ، الحديث إلى قوله:
(وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
كَالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ) .
قال المؤلف: قوله: يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم. يعنى:
لا يرتفع إلى الله، ولا يؤجرون عليه لعدم خلوص النية
بقراءته لله تعالى ولذلك شبه قراءة المنافق لما كانت رياء
وسمعة بطعم الريحانة المر الذى لا يلتذ به آكله، كما لا
يلتذ المنافق والمرائى بأجر قراءته وثوابها.
(10/283)
وقال حذيفة: أقرأ الناس بالقرآن منافق
يقرؤه، لا يترك منه ألفًا ولا واوًا، لا يجاوز ترقوته،
وقال ابن مسعود: أعربوا القرآن، فإنه يأتى عربى فسيأتى قوم
يتقفونه ليسوا بخياركم. وروى أبو عبيد من حديث أبى سعيد
الخدرى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: تعلموا القرآن
واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن
القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به، ورجل يستأكل به
الناس، ورجل يقرأ لله. وذكر أيضًا عن زادان قال: من قرأ
القرآن ليستأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس
عليه لحم. وقال ابن مسعود: سيجئ على الناس زمان يسئل فيه
بالقرآن، فإذا سألوكم فلا تعطوهم. وقوله: (ينظر فى النصل)
فالنصل: حديدة السهم. والقدح: عوده والفرق منه: موضع
الوتر. وجمعه أفواق وفوق وقفًا.
36 - باب اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ
قُلُوبُكُمْ
/ 70 - وفيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ
قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ) . /
71 - وفيه: عَبْدِاللَّه، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ
آيَةً سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ
خِلافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (كِلاكُمَا
مُحْسِنٌ، فَاقْرَآ أَكْبَرُ عِلْمِى) ، قَالَ: (فَإِنَّ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَأهلِكهم اللَّه) .
قال المؤلف: قوله: اقرءوا ما ائتلفت قلوبكم. فيه الحض
(10/284)
على الألفة والتحذير من الفرقة فى الدين،
فكأنه قال: اقرءوا القرآن والزموا الائتلاف على ما دل عليه
وقاد إليه، فإذا اختلفتم فقوموا عنه، أى فإذا عرض عارض
شبهة توجب المنازعة الداعية إلى الفرقة فقوموا عنه: أى
فاتركوا تلك الشبهة الداعية إلى الفرقة، وارجعوا إلى
المحكم الموجب للألفة، وقوموا للاختلاف وعما أدى إليه،
وقاد إليه لا أنه أمر بترك قراءة القرآن باختلاف القراءات
التى أباحها لهم لأنه قال لابن مسعود والرجل الذى أنكر
عليه مخالفته له فى القراء: كلاكما محسن، فدل أنه لم ينهه
عما جعله فيه محسنًا، وإنما نهاه عن الاختلاف المؤدى إلى
الهلاك بالفرقة فى الدين.
(10/285)
كِتَاب التَّمَنِّى
- بَاب مَنْ يتمنى الشَّهَادَةَ
/ 1 - فيه أبو هريرة: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ،
لَوْلا أَنَّ رِجَالا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
بَعْدِى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ،
لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ
أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ،
ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) . فيه من الفقه: جواز تمنى
الخير وأفعال البر والرغبة فيها، وإن علم أنه لا ينالها
حرصًا على الوصول إلى أعلى درجات الطاعة. وفيه: فضل
الشهادة على سائر أعمال البر لأنه (صلى الله عليه وسلم)
تمناها دون غيرها، وذلك لرفيع درجتها، وكرامة أهلها لأن
الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وذلك والله أعلم لسماحة
أنفسهم ببذل مهجتهم فى مرضاة الله وإعزاز دينه، ومحاربة من
حاده وعاداه، فجازاهم بأن عوضهم من فقد حياة الدنيا
الفانية الحياة الدائمة فى الدار الباقية، فكانت المجازاة
من حسن الطاعة.
- باب تَمَنِّى الْخَيْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - عليه
السلام -: (لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم)
: (لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا
(10/286)
، لأحْبَبْتُ أَنْ لا يَأْتِىَ عَلَىَّ
ثَلاثٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، لَيْسَ شَىْءٌ
أَرْصُدُهُ فِى دَيْنٍ عَلَىَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ) .
فى هذا الحديث من الفقه جواز تمنى الخير وأفعال البر لأنه
(صلى الله عليه وسلم) تمنى لو كان له مثل أحد ذهبًا لأحب
أن ينفقه فى طاعة الله قبل أن يأتى عليه ثلاث ليال. وقد
تمنى الصالحون ما يمكن كونه وما لا يمكن حرصًا منهم على
الخير، فتمنى بنو الزبير منازل من الدنيا لتنفذ أموالهم فى
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. روى أن عبد الله وعروة
وصعبًا بنى الزبير بن العوام اجتمعوا عند الكعبة، فقال عبد
الله: أحب أن لا أموت حتى أكون خليفة. وقال مصعب: أحب أن
ألى العراقين: الكوفة والبصرة، وأتزوج سكينة بنت الحسين
وعائشة بنت طلحة. وقال عروة: لكننى أسأل الله الجنة، فصار
عبد الله ومصعب إلى تمنيا، وترون أن عروة صار إلى الجنة إن
شاء الله، وما تمنوه مما لا سبيل إلى كونه تصغيرًا لأنفسهم
وتحقيرًا لأعمالهم، فتمنوا أنهم لم يخلقوا وأنهم أقل
الموجودات. روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: وددت أنى خضرة
تأكلنى الدواب. وتناول عمر بن الخطاب تبنة من الأرض فقال:
ليتنى كنت هذه، ليتنى لم أك شيئًا، ليت أمى لم تلدنى،
ليتنى كنت نسيًا منسيًا. وقرأ عمر: (هَلْ أَتَى عَلَى
الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا
مَّذْكُورًا) [الإنسان: 1] ، فقال: يا ليتها تمت. وقال
عمران بن حصين: وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى
يوم عاصف.
(10/287)
وقال أبو ذر: وددت أن الله خلقنى شجرة
تقضم. ومرت عائشة بشجرة فقالت: يا ليتنى كنت ورقة من هذه
الشجرة. وقال أبو عبيدة: وددت أنى كبش فيذبحنى أهلى
فيأكلون لحمى ويحسون مرقى. وإنما حملهم على ذلك شدة الخوف
من مسائلة الله والعرض عليه، وعلى قدر العلم بالله يكون
الخشية منه، ولذلك قال الفضيل: من مقت نفسه فى الله أمنه
الله من مقته.
3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوِ
اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ
الْهَدْىَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا
وذكره من حديث جابر أيضًا. قوله: (لو استقبلت من أمرى ما
استدبرت) أى لو علمت أن أصحابى يأتون من العمرة فى أشهر
الحج ما أحرمت بالحج مفردًا، ولأحرمت بالعمرة فلو أحرمت
بالعمرة لم يكرهها أحد منهم، وللانت نفوسهم لفعلى لها
واختيارى فى نفسى، فكرهوها حين أمرهم بها؛ لكونهم على خلاف
فعل نبيهم؛ مع أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون العمرة فى
أشهر الحج فتمنى (صلى الله عليه وسلم) موافقة أصحابه وكره
ما ظهر منهم من الإشفاق لمخالفتهم له، ففى هذا من الفقه أن
الإمام والعالم ينبغى له أن يسلك سبيل الجمهور وألا يخالف
الناس فى سيرته وطريقته.
(10/288)
4 - باب قَول النَّبِيّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لَيْتَ كَذَا وَكَذَا
/ 3 - فيه: عَائِشَة، قَالَتْ: أَرِقَ النَّبِىُّ - عليه
السلام - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: (لَيْتَ رَجُلا
صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِى يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ) ؛ فأتى
سَعْد: فحرسه. وَقَالَ بِلالٌ: أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ
أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
فَأَخْبَرْت عَائِشَة النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) .
قال المؤلف: فيه أباحة تمنى ما ينتفع به فى الدنيا، ويمكن
أن يكون هذا الحديث قبل أن ينزل عليه: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67] ، فلما علم ذلك لم يحتج إلى
حارس بعد، ويمكن أن يفعله (صلى الله عليه وسلم) بعد نزول
الآية عليه ليستن به الأمراء، ولا يضيعوا حرس أنفسهم فى
أوقات الغرة والغفلة، والله أعلم.
5 - باب تَمَنِّى الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لا تَحَاسُدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ
آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ
مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ
آتَاهُ اللَّهُ مَالا يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ، فَيَقُولُ:
لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ لَفَعَلْتُ كَمَا
يَفْعَلُ) . هذا من الحسد الحلال، والحاسد فيه مشكور؛ لأنه
إنما حسده على العمل بالقرآن والعلم، وحسد صاحب المال على
نفقته له فى حقه فلم يقع الحسد على شيء من أمور الدنيا،
وإنما وقع على ما يرضى الله ويقرب منه، فلذلك كان تمنيه
حسنًا، وكذلك تمنى سائر أبواب
(10/289)
الخير إنما يجوز منه ما كان فى معنى هذا
الحديث إذا خلصت النية فى ذلك لله، وخلص ذلك من البغى
والحسد.
6 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَنِّى قول اللَّه
تَعَالَى: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ
بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) [النساء: 32]
/ 5 - فيه: أَنَس: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى
الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
لَتَمَنَّيْتُ) . / 6 - فيه: خباب مثله. / 7 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتَمَنَّى
أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ
يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ) .
قال المهلب: بين الله تعالى فى هذه الآية ما لا يجوز
تمنيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهه. قال الطبرى:
وقيل: إن هذه الآية نزلت فى نساء تمنين منازل الرجال، وأن
يكون لهن ما لهم فنهى الله تعالى عن الأمانى الباطلة؛ إذ
كانت الأمانى الباطلة تورث أهلها الحسد والبغى بغير الحق.
وقال ابن عباس فى هذه الآية: لا يتمنى الرجل يقول: ليت لى
مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك وأمر عباده أن يسألوه من
فضله. وسئل الحسن البصرى فقيل له: الرجل يرى الدار فتعجبه
والدابة فتعجبه فيقول: ليت لي مثل هذه الدار، ليت لى مثل
هذه الدابة. قال الحسن: لا يصلح هذا. قيل له: فيقول: ليت
لى مثل هذه الدار. فقال: ولا هذا. قيل له: إنا كنا لا نرى
بأسًا بقوله: ليت لي مثل
(10/290)
هذا. فقال الحسن: ألا ترى قوله عز وجل:
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ) [العنكبوت: 62] أتدرى ما يقدر له؟ ينظر
إن كان خيرًا أن يبسطه له بسطه، وإن كان خيرًا أن يمسكه
عنه أمسكه، فينطلق إلى شىء نظر الله فيه أنه خير لك فأمسكه
عنك فتسأله إياه، فلعلك لو أعطيت ذلك كان فيه هلكة فى دينك
ودنياك، ولكن إذا سألت فقل: اللهم إنى أسألك من فضلك، فإن
أعطاك أعطاك خيارًا، وإن أمسك عنك أمسك خيارًا. ومعنى نهيه
(صلى الله عليه وسلم) عن تمنى الموت، فإن الله قد قدر
الآجال فمتمنى الموت غير راضٍ بقدر الله ولا مسلم لقضائه،
وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) ما للمحسن والمسئ فى
أن لا يتمنى الموت، وذلك ازدياد المحسن من الخير ورجوع
المسئ عن الشر، وذلك نظر من الله للعبد وإحسان منه إليه
خير له من تمنيه الموت، وقد تقدم فى كتاب المرضى حيث يجوز
تمنى الموت، وحيث لا يجوز، والأحاديث المعارضة فى ذلك
وبيان معانيها فى باب تمنى الموت.
7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ: لَوْلا اللَّهُ مَا
اهْتَدَيْنَا
/ 8 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ
الأحْزَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ
بَيَاضَ بَطْنِهِ، يَقُولُ: (لَوْلا أَنْتَ مَا
اهْتَدَيْنَا، نَحْنُ وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا)
. لولا عند العرب يمتنع بها الشىء لوجود غيره يقول: لولا
زيد ما صرت إليك: أى كان مصيرى إليك من أجل زيد، وكذلك
قوله: (لولا الله ما اهتدينا) . أى كان هدانا من أجل هداية
الله لنا
(10/291)
فوجود الهدى منع وقوع الضلال، وذلك كله من
فعل الله بعباده فلا يفعل العبد الطاعة ولا يجتنب المعصية
إلا بقدر الله وقضائه على العبد.
8 - باب كَرَاهَةِ التَمَنِّى لِقَاءِ الْعَدُوِّ
/ 9 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَتَمَنَّوْا
لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) . قد
تقدم هذا الباب فى كتاب الجهاد، وجملة معناه: النهى عن
تمنى المكروهات والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف
العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على
البلاء.
9 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80]
/ 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، ذكر الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ
عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: أَهِىَ الَّتِى قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا
امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟) قَالَ: لا، تِلْكَ
امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. / 11 - وفيه: ابْن عَبَّاس،
أَعْتَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ،
فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ الصَّلاةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ
يَقْطُرُ، يَقُولُ: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى
لأمَرْتُهُمْ بِالصَّلاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ) .
(10/292)
/ 12 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى
أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ) . / 13 - وفيه:
أَنَس، وَاصَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) آخِرَ
الشَّهْرِ، وَوَاصَلَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَوْ مُدَّ
بِىَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالا يَدَعُ
الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ) . وَقَالَ مرة: (لَوْ
تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ) . / 14 -
وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ
بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ
أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ، وَأَنْ أَلْصِقْ
بَابَهُ فِى الأرْضِ) . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،
قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا الْهِجْرَةُ؛
لَكُنْتُ امْرًَا مِنَ الأنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ
وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا
لَسَلَكْتُ وَادِىَ الأنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأنْصَارِ) .
/ 16 - وعن عبد الله بن زيد، مثله. (لو) : تدل عند العرب
على امتناع الشىء لامتناع غيره كقوله: لو جاءنى زيد
لأكرمتك. معناه: أنى امتنعت من كرامتك لامتناع زيد من
المجئ. وقوله: (لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80]
جواب لو محذوف كأنه قال: لحلت بينكم وبين ما جئتم له من
الفساد، وحذفه أبلغ؛ لأنه يحصر النفى بضروب المنع. فإن
قيل: لم قال: (أو آوى إلى ركن شديد) مع أنه يأوى إلى الله؟
فالجواب: أنه إنما أراد العدة من
(10/293)
الرجال، وإلا فله ركن وثيق مع معونة الله
ونصره، وتضمنت الآية البيان عما يوجبه حال المحق إذا رأى
منكرًا لا يمكنه إزالته مع التحسر على قوة أو معين على
دفعه لحرصه على طاعة ربه، وجزعه من معصيته، فامتنع من
الانتقام من قومه لامتناع من يعينه على ذلك. وقوله: (لو
كنت راجعًا بغير بينة) : امتنع من رجم المرأة لامتناع وجود
البينة، وكذلك امتنع من معاقبتهم بالوصال لامتناع امتداد
الشهر، ومثله: لو سلك الناس واديًا لسلكت وادى الأنصار.
قال المهلب: وإنما قال ذلك للأنصار تأنيسًا لهم ليغبطهم
بحالهم، وأنها مرضية عنده وعند ربهم، لكنه أعلمهم بأنه
امتنع من أن يساويهم فى حالهم لوجود الهجرة التى لا يمكنه
تركها، وسائر ما فى الباب من الأحاديث؛ فإنها بلفظ لولا
التى تدل على امتناع الشىء لوجود غيره كقوله: (لولا أن أشق
على أمتى لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة) ، و (لأمرتهم
بالسواك مع كل صلاة) فامتنع من أمرهم بذلك لوجود المشقة
بهم عند امتثالهم أمره. وقوله: (لولا أن قومك حديث عهدهم
بالكفر فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر فى البيت) .
فامتنع (صلى الله عليه وسلم) من هدم البيت وبنيانه على
قواعد إبراهيم من أجل الإنكار الحاصل لذلك. قال الطبرى:
فإن قال قائل: فقد روى ابن عيينة عن ابن عجلان عن الأعرج
عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (احرص
على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شىء فلا
تقل: لو أنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء
فعل، فإن لو مفتاح
(10/294)
الشيطان) . فنهى عن لو فى هذا الحديث، وهذا
معارض لما جاء من إباحة لو فى كتاب الله، وفى الأحاديث
المروية فى ذلك. قيل له: لا تعارض بين شىء من ذلك، ولكل
وجه ومعنى غير معنى صاحبه؛ فأما نهيه عن اللو فى حديث ابن
عجلان فمعناه: لا تقل أنى لو فعلت كذا لكان كذا على القضاء
والحتم، فإنه كائن لا محالة، فأنت غير مضمر فى نفسك شرط
مشيئة الله، هذا الذى نهى عنه؛ لأنه قد سبق فى علم الله كل
ما يناله المرء. قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ
فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ
مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) [الحديد: 22] . فأما إذا
كان قائله ممن يوقن بأن الشرط إذا وجد لم يكن المشروط إلا
بمشيئة الله وإرادته، فذلك هو الصحيح من القول، وقد قال
أبو بكر الصديق للنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو فى الغار:
لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا. فقال: يا أبا بكر ما ظنك
باثنين الله ثالثهما، ولم ينكر ذلك عليه صلى الله عليه؛
إذا كان عالما بمخرج كلامه، وأنه إنما قال ذلك على ما جرت
به العادة، واستعمله الناس علة ما الأغلب كونه عند وقوع
السبب الذى ذكره، وإن كان قد كان جائزًا أن يرفع جميع
المشركين الذين كانوا فوق الغار أقدامهم ثم ينظروا فيحجب
الله أبصارهم عن رسوله، وعن صاحبه فلا يراهما منهم أحد،
وكان جائز أن يحدث الله عمىً فى أبصارهم، فلا يبصرونهما،
مع أسباب غير ذلك كثيرة، وأن أبا بكر لم يقل ذلك إلا على
إيمان منه بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروا رسول الله إلا
أن يشاء الله ذلك، فهذا مفسرًا لحديث ابن عجلان وناف
للتعارض فى ذلك، والله الموفق.
(10/295)
كِتَاب الْقَدَرِ
- باب فِى الْقَدَرِ
/ 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ الصَّادِقُ
الْمَصْدُوقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ
أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ
ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ
يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ،
بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ،
فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ، أَوِ الرَّجُلَ، يَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا) . / 2 - وفيه: أَنَس، عَنِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَكَّلَ اللَّهُ
بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، نُطْفَةٌ،
أَىْ رَبِّ، عَلَقَةٌ، أَىْ رَبِّ، مُضْغَةٌ، فَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهَا، قَالَ: أَىْ
رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟
فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِى
بَطْنِ أُمِّهِ) . قال المهلب: فى هذا الحديث رد لقول
القدرية واعتقادهم أن العبد يخلق أفعاله كلها من الطاعات
والمعاصى، وقالوا: إن الله منزه
(10/296)
عن أن يخلق المعاصي والزنا والكفر وشبهه،
فبان فى هذا الحديث تكذيب قولهم، بما أخبر (صلى الله عليه
وسلم) أنه يكتب فى بطن أمه شقى أو سعيد مع تعريف الله
العبد أن سبيل الشقاء هو العمل بالمعاصى والكفر، فكيف يجوز
أن يعمل بما أعلمه الله أنه يعذبه عليه، ويشقيه به، مع
قدرة العبد على اختياره لنفسه، وخلقه لأعماله دون الله،
تعالى الله أن يكون معه خالق غيره. ثم قطع القدرية بقوله:
فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلو كان
الأمر إلى اختياره أتراه كان يختار خسارة عمله طول عمره
بالخير، ثم يخلق لنفسه عملاً من الشر والكفر، فيدخل به
النار؟ وهل السابق له إلا فعل ربه وخلقه له، وخلق عمله
للشئ كسبًا له فاكتسبه العبد لشهوة نفسه الأمارة بالسوء
مستلذًا بذلك العمل الذى أقدره الله عليه بقدرة خلقها له
بحضرة الشيطان المغوى لنفسه الأمارة له مع الشيطان بالسوء
فاستحق العقاب على ذلك. فانقطعت حجة العبد بالنذارة،
وانقطعت حجة القدرية بسابق كتاب الله على العبد العارف بما
آل أمره، باكتسابه للعمل القبيح، لخلق الله له قدرة على
عمله بحضرة عدويه: نفسه وشيطانه، ولذلك نسب الشر إلى
الشيطان لتزيينه له، ونسب الخير إلى الله لخلقه لعبده،
وإقداره للعبد عليه بحضرة الملك المسدد له، الدافع لشيطانه
عنه بعزة الله وعصمته. هذا هو أصل الكلام على القدرية ثم
يلزم القدرية أن يكون العبد شريكًا لله فى خلقه بأن يكون
العبد يخلق أفعاله والله قد أبى من ذلك بقوله تعالى:
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ
وَكِيلٌ) [الزمر: 62] ، وقوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ
اللَّهِ) [فاطر: 3] ، فخالفوا النص
(10/297)
وأوجبوا للعبد من القدرة على خلق أعماله ما
أوجبه الله لنفسه تعالى من الانفراد بالخلق، ولذلك سميت
القدرية: مجوس هذه الأمة لقولها بخالقين مثل ما قالته
المجوس من اعتبارها لأرباب من الشمس والقمر والنور، والنار
والظلمة، كل على اختياره، وقد نص الله سبحانه وتعالى على
إبطال قول القدرية لعلمه بضلالتهم ليهدى بذلك أهل سنته
فقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:
96] . وقوله: يجمع فى بطن أمه: قد فسره ابن مسعود، سئل
الأعمش عن قوله: يجمع فى بطن أمه قال: حدثنى خيثمة قال:
قال عبد الله: إن النطفة إذا رفعت فى الرحم، فأراد الله أن
يخلق منها بشرًا طارت فى بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم
تمكث أربعين ليلة ثم تصير دمًا فى الرحم فذلك جمعها.
- بَاب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ قوله
تَعَالَى: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) [الجاثية:
23]
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) : (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]
سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ. / 3 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ
أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: (نَعَمْ)
، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ
يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ) .
قال المهلب: غرض البخارى فى هذا الباب غرضه المتقدم من
(10/298)
إدحاض حجة القدرية بهذه النصوص من كلام
رسوله، فأخبر أنه قد فرغ من الحكم على كل نفس، وكتب القلم
ما يصير إليه العبد من خير أو شر فى أم الكتاب، وجف مداده
على المقدور من علم الله. فأضله الله على علم به، ومعرفة
بما كان يصير إليه أمره لو أهمله ألا يسمعه قد بين ذلك فى
كتابه حيث يقول: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم
مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32] . فعرفنا أنه كان بنا عالمًا
حين خلق آدم من طينة الأرض المختلفة وأحاط علمًا بما يقع
من تلك الطينة لكل شخص من أشخاص ولده إلى يوم القيامة،
المتناسلين من صلب إلى صلب فى أعداد لا يحيط بها إلا
محيصها، وعلم ما قسمه من تلك الطينة من طيب أو خبيث، وعلم
ما يعمل كل واحد من الطاعة والمعصية ليشاهد أعماله بنفسه،
وكفى بنفسه شهيدًا عليه، وتشهد له عليه ملائكته وما عاينه
من خلقه، فتنقطع حجته، وتحقق عقوبته ولذلك قال لأبى هريرة
حين أراد أن يختصى خشية الزنا على نفسه: (قد جف القلم بما
أنت لاق) . فاختص على ذلك أبو ذر، فعرفه أنه لا يعدو ما
جرى به القلم عليه من خير أو شر، فإنه لابد عامله ومكتسبه،
فنهاه عن الاختصاء بهذا القول الذى ظاهره التخيير، ومعنى
النهى والتبكيت لمن أراد الهروب عن القدر والتعريف له أن
إن فعل، فإنه أيضًا من القدر المقدور عليه فيما جف به
القلم عليه.
(10/299)
وقد سئل الحسن البصرى عن القدر فقال: إن
الله خلق الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه منه، ولم يعصوه
بغلبة، ولم يهملهم من المملكة؛ بل كان المالك لما ملكهم
فيه، والقادر لما قدره عليهم، فإن تأثم العباد بطاعة الله
لم يكن الله صادًا عنها، ولا مبطئا؛ بل يزيدهم هدى إلى
هداهم، وتقوى إلى تقواهم، وإن تأثم العباد بمعصية الله كان
القادر على صرفهم؛ إن شاء فعل وإن شاء خلى بينهم وبين
المعصية فيكسبونها، فمن بعد الإعذار والإنذار لله الحجة
البالغة، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، فلو شاء لهداكم
أجمعين. وقال المهلب: فى حديث عمران حجة لأهل السنة على
المجبرة من أهل القدر وذلك قوله: (اعملوا، فكل ميسر لما
خلق له) . ولم يقل: فكل مجبر على ما خلق له، وإنما أراد
لما خلق له من عمله للخير أو للشر. وقيل: إنما أراد بقوله:
لما خلق له الإنسان من جنة أو نار، فقد أخبر أنه ميسر
لأعمالها ومختار لا مجبر؛ لأن الخبر لا يكون باختيار،
وإنما هو بإكراه.
3 - باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
/ 4 - فيه: ابْن عَبَّاس، سُئِلَ النَّبِيُّ (صلى الله
عليه وسلم) عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ:
(اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . / 5 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. وقَالَ عن النَّبِىّ - عليه
السلام -: (مَا
(10/300)
مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ
وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ. . .)
إلى قوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟
قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . قال
المؤلف: غرضه فى هذا الباب الرد على الجهمية فى قولهم: إن
الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها. فرد النبى (صلى
الله عليه وسلم) ذلك من قولهم، وأخبر فى هذا الحديث أن
الله تعالى يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون،
ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا
لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام: 28] ، وقال فى
آية أخرى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا
لأَّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم
مُّعْرِضُونَ) [الأنفال: 23] ، فإذا ثبت بهاتين الآيتين
المصدقتين لحديثه (صلى الله عليه وسلم) أنه يعلم ما لا
يكون لو كان كيف كان يكون، فأحرى أن يعلم ما يكون، وما
قدره وقضاه فى كونه. وهذا يقوى ما يذهب إليه أهل السنة أن
القدر هو علم الله وغيبه الذى استأثر به فلم يطلع عليه
ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً. وروى روح بن عبادة عن
حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال: ما ينكر هؤلاء، يعنى
القدرية، أن يكون الله علم علمًا فجعله كتابًا. وقد قيل:
إن بعض الأنبياء كان يسأل الله عن القضاء والقدر، فمحى من
النبوة. وروى ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه
قال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) . وقال بلال بن أبى بردة
لمحمد بن واسع: ما تقول فى القضاء والقدر؟ فقال: أيها
الأمير، إن الله لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه
وقدره، وإنما يسألهم عن أعمالهم. وكتب عمر بن عبد العزيز
إلى الحسن البصرى: إن الله لا يطالب
(10/301)
خلقه بما قضى عليهم، ولكن يطالبهم بما
نهاهم عنه، وأمرهم به، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك. وسئل
أعرابى عن القدر، فقال: الناظر فى قدر الله كالناظر فى عين
الشمس يعرف ضوءها، ولا يقف على حدودها. وقوله: (كما تنتجون
الناقة) . قال أبو عبيد: يقال: تنتجت الناقة إذا أعنتها
على النتاج.
4 - بَاب) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)
[الأحزاب: 38]
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم)
: (لا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛
لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّ لَهَا
مَا قُدِّرَ لَهَا) . / 7 - وفيه: أُسَامَةَ، أتى إِلَى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولُ إِحْدَى
بَنَاتِهِ، أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهَا: (لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى،
فكُلٌّ بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) . / 8 -
وفيه: أَبُو سَعِيد، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ إذ
جَاءَه رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِى
الْعَزْلِ؟ فَقَالَ لَيْس بِنَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ
تَخْرُجَ إِلا هِىَ كَائِنَةٌ) . / 9 - وفيه: حُذَيْفَةَ،
خَطَبَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خُطْبَةً مَا
تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلا
ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ
جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لأرَى الشَّىْءَ قَدْ نَسِيتُ
فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ
فَرَآهُ فَعَرَفَهُ. / 10 - وفيه: عَلِىّ، كُنَّا مَعَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ
فِى الأرْضِ، فَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا
قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنَ
الْجَنَّةِ) ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ
(10/302)
الْقَوْمِ: أَفلا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: (لا اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَّا
خُلِقَ لَهُ) ، ثُمَّ قَرَأَ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى (الآيَة [الليل: 5] . وقال المهلب: غرضه فى هذا
الباب أن يبين أن جميع مخلوقات الله من المكونات بأمره
بكلمة كن من حيوان أو غيره، أو حركات العباد واختلاف
إرادتهم وأعمالهم بمعاص أو طاعات؛ كل مقدر بالأزمان
والأوقات، لا مزيد فى شىء منها، ولا نقصان عنها، ولا تأخير
لشىء منها عن وقته، ولا تقديم قبل وقته، ألا ترى قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (لا تسأل المرأة طلاق أختها) لتصرف حظها
إلى نفسها، ولتنكح، فإنها لا تنال من الرزق إلا ما قدر
لها، كانت له زوجة أخرى أو لم تكن. وقوله: (اعملوا فكل
ميسر لما خلق له) . فيه دليل على إبطال قول أهل الجبر؛ لأن
التيسير غير الجبر، واليسرى العمل بالطاعة، والعسرى العمل
بالمعصية. قال الطبرى: فى حديث علىّ أن الله لم يزل عالمًا
بمن يطيعه فيدخله الجنة، وبمن يعصيه فيدخله النار، ولم يكن
استحقاق من يستحق الجنة منهم بعلمه السابق فيهم، ولا
استحقاقه النار لعلمه السابق فيهم، ولا اضطر أحدًا منهم
علمه السابق إلى طاعة أو معصية، ولكنه تعالى نفذ علمه فيهم
قبل أن يخلقهم، وما هم عاملون وإلى ما هم صائرون، إذ كان
لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقهم، ولا بعد ما خلقهم،
ولذلك وصف أهل الجنة فقال: (ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ
وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ) [الواقعة: 13، 14] ، إلى
قوله: (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ
(10/303)
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة: 22 - 24] ، وقال تعالى:
(فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ
أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]
. وكذلك قال فى أهل النار: (ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء
اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء
بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت: 28] ،
فأخبر أنه أثاب أهل طاعته جنته بطاعته، وجازى أهل معصيته
النار بمعصيتهم إياه، ولم يخبرنا أنه أدخل من أدخل منهم
النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق فى علمه أن هذا
من أهل السعادة والجنة وأنه يعمل بطاعته. وفى هذا أنه من
أهل الشقاء وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته؛
فلذلك أمر تعالى ونهى؛ ليطيعه المطيع منهم فيستوجب بطاعته
الجنة ويستحق العقاب منهم بمعصيته العاصى فيدخل بها النار،
ولتتم حجة الله على خلقه. فإن قال قائل: فما معنى قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) إن
كان الأمر كما وصف من أن الذى سبق لأهل السعادة والشقاء لم
يضطر واحدًا من الفريقين إلى الذى كان يعمل ويمهد لنفسه فى
الدنيا ولم يجبره على ذلك؟ قيل: هو أن كل فريق من هذين
مسهل له العمل الذى اختاره لنفسه، مزين ذلك له كما قال
تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ
وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 7] الآية. وأما
أهل الشقاء، فإنه زين لهم سوء أعمالهم لإيثارهم لها على
(10/304)
الهدى كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ
فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل: 4] ، وكما قال تعالى:
(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)
[فاطر: 8] ، وهذا يصحح ما قلناه من أن علم الله النافذ فى
خلقه بما هم به عاملون، وكتابه الذى كتبه قبل خلقه إياهم
بأعمالهم لم يضطر أحدًا منهم إلى عمله ذلك؛ بل هو أن
المضطر إلى الشىء لا شك أنه مكره عليه، لا محب له؛ بل هو
له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفره أهل الإيمان،
والفاسق يناصب دون فسقه الأبرار؛ محاماة من هذا عن كفره
الذى اختاره على الإيمان، وإيثارًا من هذا لفسقه على
الطاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجته دون إيمانه، ويؤثر العناء
والنصب دون ملاذه وشهواته حبًا لما هو له مختار من طاعة
ربه على معاصيه، وأنى يكون مضطرًا إلى ما يعمله من كانت
هذه صفاته؟ فبان أن معنى قوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق
له) هو أن كل فريقى السعادة والشقاوة مسهل له العمل الذى
اختاره، مزين ذلك له.
5 - باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، شَهِدْنَا مَعَ النَّبِيّ -
عليه السلام - خَيْبَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ يَدَّعِى الإسْلامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ)
، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ، قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ
أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَقَالَ
النَّبِيُّ
(10/305)
- عليه السلام -: (أَمَا إِنَّهُ مِنْ
أَهْلِ النَّارِ) ، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ
يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ وَجَدَ
الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى
كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا، فَانْتَحَرَ
بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: صدق اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ
انْتَحَرَ فُلانٌ، وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (قُمْ يَا بِلالُ، فَأَذِّنْ: لا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ
لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) . /
12 - وروى: سَهْل، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ،
وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ
أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ،
وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) . قال المهلب:
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالخواتيم) هو
حكم الله فى عباده فى الخير والشر، فيغفر الكفر وأعماله
بكلمة الحق يقولها العبد قبل الموت قبل المعاينة لملائكة
العذاب، وكذلك يحبط عمل المؤمن إذا ختم له بالكفر. ثم كذلك
هذا الحكم موجود فى الشرع كله كقوله: (من أدرك ركعة من
الصلاة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعةً من الصبح قبل أن
تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) فكذلك فى العصر فجعله مدركًا
لفضل الوقت بإدراك الخاتمة، وإن كان لم يدرك منه إلا أقله،
وكذلك من أدرك ليلة عرفة الوقوف بها قبل طلوع الفجر فقد
أدرك الحج، وتم له ما فاته من مقدماته، كما عهد الذى لم
يعمل خيرًا قط أن يحرق ويذرى فكانت خاتمة سوء عمله خشية
أدركته لربه، تلافاه الله بها فغفر له سوء عمله طول عمره،
هذا فعل من لا تضره الذنوب، ولا تنفعه العبادة، وإنما تنفع
وتضر المكتسب لها الدائم عليها إلى أن يموت. وفى قوله:
(العمل بالخواتيم) حجة قاطعة على أهل القدر في
(10/306)
قولهم: إن الإنسان يملك أمر نفسه، ويختار
لها الخير والشر، فمهما اتهموا اختيار الإنسان لأعماله
الشهوانية واللذيذة عنده، فلا يتهمونه باختيار القتل لنفسه
الذى هو أوجع الآلام، وأن الذى طيب عنده ذلك غير اختياره،
والذى يسره له دون جبر عليه، ولا مغالب له هو قدر الله
السابق فى عمله، والحتم من حكمه.
6 - باب إِلْقَاءِ النَّذْرِ الْعَبْدَ إِلَى الْقَدَرِ
/ 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَرُدُّ
شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) .
/ 14 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لا يَأْتِى ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ
لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ،
الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، وَلَكِنْ أَسْتَخْرِجُ
بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) . قال المهلب: هذا أبين شىء فى
القدر وأنه شىء قد فرغ الله منه وأحكمه، لا أنه شىء يختاره
العبد، فإذا أراد أن يستخرج به من البخيل شيئًا ينفعه به
فى آخرته أو دنياه سبب له شيئًا مخيفًا أو مطمعًا فيحمله
ذلك الخوف أو الطمع على أن ينذر لله نذرًا من عتق أو صدقة
أو صيام، إن صرف الله عنه ذلك الخوف أو أتاه بذلك المطموع
فيه، فلا يكون إلا ما قد قضى الله فى أم الكتاب، لا يحيله
النذر الذى نذره عما قدره، وقد استخرج به منه ما لم يسمح
به
(10/307)
لولا المخوف الذى هرب منه، أو المطموع الذى
حرص عليه حتى طابت نفسه بما لم تكن تطيب قبل ذلك. ونهيه
(صلى الله عليه وسلم) عن النذر، وهو من أعمال الخير أبلغ
زاجر عن توهم العبد أنه يدفع عن نفسه ضرًا أو يجلب إليها
نفعًا، أو يختار لها ما يشاء، ومتى اعتقد ذلك فقد جعل نفسه
مشاركًا لله فى خلقه ومجوزًا عليه ما لم يقدره، تعالى الله
عما يقولون. ودل هذا أن اعتقاد القلب لما لا يجب اعتقاده
أعظم فى الإثم من أن يكفر بالصدقة والصلاة والصوم والحج،
وسائر أعمال الجوارح التى ينذرها؛ لأن نهيه (صلى الله عليه
وسلم) عن هذا النذر، وإن كان خيرًا ظاهرًا يدل على أنه
حابط من الفعل حين توهم به الخروج عما قدره الله تعالى فإن
سلم من هذا الظن واعترف أن نذره لا يرد عنه شيئًا قد قدره
الله عليه وأن الله تسبب له بما أخافه به استخراج صدقة هو
شحيح بمثلها، فإنه مأجور بنذره ولم يكن حيئذ نذره منهيًا
عنه، ولذلك والله أعلم عرف الله نبيه بهذا الحديث ليعرف
أمته بما يجب أن يعتقدوا فى النذر فلا يحبط عملهم به.
7 - باب لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ
/ 15 - فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) فِى غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لا
نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلا نَهْبِطُ وَاديًا، إِلا رَفَعْنَا
أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنَّا
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا
تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ
سَمِيعًا بَصِيرًا) ، ثُمَّ قَالَ: (يَا عَبْدَاللَّهِ
بْنَ قَيْسٍ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِىَ مِنْ كُنُوزِ
الْجَنَّةِ؟ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) .
(10/308)
هذا باب جليل فى الرد على القدرية، وذلك أن
معنى لا حول ولا قوة إلا بالله: لا حول للعبد، ولا قوة له
إلا بالله أى: بخلق الله له الحول والقوة، التى هى القدرة
على فعله للطاعة والمعصية. قال المهلب: فأخبر (صلى الله
عليه وسلم) أن البارئ خالق لحول العبد وقدرته على مقدوره،
وإذا كان خالقًا للقدرة، فلا شك أنه خالق للشىء المقدور،
فيكون المقدور كسبًا للعبد خلقًا لله تعالى بدليل قوله
تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام: 102] ، وقوله
تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
[القمر: 49] ، وقال محمد بن كعب القرظى: نزلت هذه الآية
يعنى الأخيرة تعبيرًا لأهل القدر. والدليل على أن أفعالهم
خلق لله أن أيديهم التى هى عندهم خالقة لأعمال الشر من
التعدى والظلم وفروجهم التى هى خالقة للزنا قد توجد عاطلة
عن الأعمال، عاجزة عنها، ألا ترى أن من الناس من يريد
الزنا وهو يشتهيه بعضو لا آفة فيه، فلا يقدر عليه عند
إرادته للزنا، ولو كان العبد خالقًا لأعماله لما عجزت
أعضاؤه عند إرادته ومستحكم شهوته؛ فثبت أن القدرة ليست
لها، وأنها لمقدر يقدرها إذ شاء، ويعطلها إذا شاء، لا إله
إلا هو. وإنما أمرهم (صلى الله عليه وسلم) بالربع على
أنفسهم على جهة الرفق بهم، وقد بينا هذا المعنى فى باب: ما
يكره من رفع الصوت بالتكبير فى كتاب الجهاد، وعرفهم أن ما
يعلنون به من التكبير ويجتهدون فيه من الجهاد هو من فضل
الله عليهم إذ لا حول لهم ولا قوة في شيء
(10/309)
منه إلا بالله الذى أقدرهم عليه، وحببه
إليهم، وإن كان فيه إتلاف نفوسهم؛ رغبة فى جزيل الأجر
وعظيم الثواب. وفيه: أن التكبير يسمى دعاء؛ لقوله (صلى
الله عليه وسلم) : (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) فجعل
قولهم: الله أكبر دعاء لله تعالى من أجل أنهم كانوا يريدون
به إسماعه الشهادة له بالحق.
8 - باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عَاصِمٌ:
مَانِعٌ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: (سَدًّا) [الكهف: 94] عَنِ الْحَقِّ،
يَتَرَدَّدُونَ فِى الضَّلالَةِ،) دَسَّاهَا) [الشمس: 10]
أَغْوَاهَا. / 16 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلا لَهُ
بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ،
وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ،
وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمه
اللَّهُ) . قال المهلب: عرض البخارى فى هذا الباب إثبات
الأمور لله، فهو الذى يعصم من نزعات الشيطان، ومن شر كل
وسواس خناس من الجنة والناس، وليس من خليفة ولا أمير إلا
والناس حوله رجلان: رجل يريد الدنيا والاستكثار منها، فهو
يأمره بالشر ويحضه عليه ليجد به السبيل إلى انطلاق اليد
على المحظورات ومخالفة الشرع، ويوهمه أنه إن لم يقتل ويغضب
ويخف الناس لم يتم له شىء، ولم يرض بسياسة الله لعباده
ببسط العدل وبخمد الأيدى، وأن فى ذلك صلاحًا لعباد
والبلاد.
(10/310)
ولا يخلو سلطان أن يكون فى بطانته رجل يحضه
على الخير، ويأمره به لتقوم به الحجة عليه من الله فى
القيامة، وهم الأقل، والمعصوم من الأمراء من عصمه لا من
عصمته نفسه الأمارة بالسوء بشهادة الله عليها الخالق لها،
ومن أصدق من الله حديثًا.
9 - بَاب) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 95] وقوله: (أَنَّهُ
لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود:
36] ،) وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 27]
.
قَالَ ابْن عَبَّاسٍ: (وَحِرْمٌ (بِالْحَبَشِيَّةِ:
وَجَبَ. / 17 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا رَأَيْتُ
شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ، مِمَّا قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ
اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا،
أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ
النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ
تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَوْ
يُكَذِّبُهُ) . قال المهلب: معنى قوله تعالى: (وَحَرَامٌ
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
[الأنبياء: 95] ، أى وجب عليهم أنهم لا يتوبون، وحرام وحرم
معناها واحد، والتقدير: وحرام على قرية أردنا إهلاكها
التوبة من كفرهم، وهذا كقوله تعالى: (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود: 36] ،
أى قد نفذ علم الله فى قوم نوح أنه لا يؤمن منهم إلا من قد
آمن، ولذلك قال نوح: (رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ
مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26] ،
(10/311)
إذ قد أعلمتني أنه لن يؤمن منهم إلا من قد
آمن، فأهلكهم لعلمه أنهم لا يرجعون إلى الإيمان، وموافقة
الترجمة للحديث هو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله
كتب على ابن آدم حظه من الزنا) فأخبر أن الزنا ودواعيه كل
ذلك مقدر على العبد غير خارج من سابق قدره. وقوله: (أدرك
ذلك لا محالة) إدراكه له من أجل أن الله كتبه عليه، وإنما
سمى النظر والمنطق ومنى النفس وشهوتها زنا لما كانت دواعى
إلى الزنا، والسبب قد يسمى باسم المسبب مجازًا واتساعًا
لما بينهما من التعلق، غير أن زنا العين وزنا اللسان وتمنى
النفس غير مؤاخذ به من اجتنب الزنا بفرجه؛ لأنه كذب زنا
جوارحه بترك الزنا بفرجه، فاستخف زنا عينه ولسانه وقلبه؛
لأن ذلك من اللمم الذى يغفر باجتناب الكبائر، وزنا الفرج
من أكبر الكبائر، فمن فعله فقد صدق زنا عينه ولسانه وقلبه؛
فيؤاخذ بإثم ذلك كله. وفى قوله: (النفس تمنى وتشتهى) دليل
على أن فعل العبد ما نهاه الله عنه، مع تقدم تقديره تعالى
وسابق علمه بفعله له باختيار منه أو إيثار، وليس بمجبر
عليه ولا مضطر إلى فعله، وعلى هذا علق الثواب والعقاب،
فسقط قول جهم بالإجبار بنص قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(والنفس تمنى وتشتهى) لأن المجبر مكره مضطر، وهو بخلاف
المتمنى والمشتهى، واللمم صغار الذنوب وهى مغفورة باجتناب
الكبائر، وقد تقدم فى كتاب الأدب.
(10/312)
- باب قوله تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)
[الإسراء: 60]
/ 18 - فيه: ابْن عَبَّاس، قِى هذه الآية هِىَ رُؤْيَا
عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ
أُسْرِىَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ:
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) [الإسراء: 60] ؟ هِىَ
شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. قال المهلب: معنى ذكر هذا الحديث فى
كتاب القدر هو ما ختم الله على الناس المكذبين لرؤياه من
المشركين حين جعلها فتنة لهم فى تكذيب النبى الصادق فكانت
زيادة فى طغيانهم، وكذلك جعل الشجرة الملعونة فى القرآن
فتنة فقالوا: كيف يكون فى النار شجرة؟ النار تحرق الشجر
اليابس والأخضر، فجعل ذلك فتنة تزيد فى ضلالهم، فلا يؤمنوا
على ما سبق فى علمه. قال غيره: وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)
[الإسراء: 60] يقتضى خلق الله للكفر به، ودواعى الكفر هى
الفتنة، وذلك عدل منه تعالى. وهذا مثل قوله تعالى:
(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 27] ، فهذا عام
فى فعله كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين ودواعى الإيمان
والكفر خلافًا لمن زعم أن الله غير خالق أعمال العباد.
وقوله: (الشجرة الملعونة يعنى: الملعون آكلها، وهم الكفار،
كما قال تعالى: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ
الأَثِيمِ) [الدخان: 43، 44] ، وقال تعالى: (إِنَّهَا
شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 64] ،
فأخبر أنها تنبت فى النار،
(10/313)
وأما قول الكفار: كيف يكون فى النار شجرة،
والنار تأكل الشجر، فإن هذه الشجرة التى أخبر الله أنها فى
أصل الجحيم هى مخلوقة من جوهر لا تأكله النار كسلاسل النار
وأغلالها وعقاربها وحياتها، وليس شىء من ذلك من جنس ما فى
الدنيا مما لا يبقى على النار، وإنما خلقت من جنس لا تأكله
النار، وكما خلق الله فى البحار من الحيوان ما لا يهلك فى
الماء، وخلق فى الخل دودًا يعيش فيه ولا يهلكه، على أن
الخل يفت الحجارة ويهرى الأجسام، ولم يكن ذلك إلا لموافقة
ذلك الدود لجنس الخل وموافقة حيوان البحر جنس الماء، فكذلك
ما خلق فى النار من الشجر والحيوان موافق لجنس النار،
والله تعالى قادر أن يجعل النار بردًا وسلامًا، وأن يجعل
الماء نارًا؛ لأنه على كل شىء قدير، فما أنكره الكفار من
خلق الشجر فى النار عناد بين، وضلال واضح، أعاذنا الله من
الضلال برحمته.
- باب محاجة آدَمُ مُوسَى
/ 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه
السلام -: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى:
يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا
مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى،
اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ،
أَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَىَّ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ
آدَمُ مُوسَى، قاله ثَلاثًا) . قال المؤلف: معنى قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (احتج آدم وموسى) : أى التقت أرواحهما
فى السماء، فوقع هذا الحجاج بينهما، وقد جاءت الرواية
بذلك.
(10/314)
روى الطبرى، عن يونس بن عبد الأعلى، حدثنا
ابن وهب، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن
عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله: (إن موسى قال: يا رب،
أبونا آدم الذى أخرجنا ونفسه من الجنة. فأراه الله آدم
فقال: أنت آدم؟ قال: نعم. قال: أنت الذى نفخ الله فيك من
روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر ملائكته أن يسجدوا لك، فما
حملك أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا
موسى. قال: أنت نبى بنى إسرائيل الذى كلمك الله من وراء
حجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولاً؟ قال: نعم. قال: فما وجدت
فى كتاب الله أن ذلك كائن قبل أن أخلق؟ قال: نعم. .) وذكر
الحديث. قال المهلب وغيره: (فحج آدم موسى) أى: غلبه
بالحجة. قال الليث بن سعد: وإنما صحت الحجة فى هذه القصة
لآدم على موسى؛ من أجل أن الله قد غفر لآدم خطيئته، وتاب
عليه، فلم يكن لموسى أن يعير بخطيئة قد غفرها الله له،
ولذلك قال له آدم: أنت موسى الذى آتاك الله التوراة، وفيها
علم كل شىء فوجدت فيها أن الله قد قدّر علىّ المعصية، وقدر
علىّ التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عنى، أتلومنى أنت،
والله لا يلومنى. وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذى قال له:
إن عثمان فرّ يوم أحد، فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب؛
لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله: (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ
عَنْهُمْ) [آل عمران: 155] ، وأما من عمل الخطايا ولم تأته
المغفرة، فإن العلماء مجمعون أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل
حجة آدم
(10/315)
فيقول: أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو
سرقت، وقد قدر الله علىّ ذلك. والأمة مجمعة على جواز حمد
المحسن على إحسانه، ولوم المسئ على إساءته وتعديد ذنوبه
عليه. فإن قال قائل: فإن القدرية احتجت بقول موسى: أنت
آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فنسب التخييب والإخراج
إليه، قالوا: هذا يدل أن العباد يخلقون أفعالهم طاعتها
ومعصيتها، ولو كانت خلقًا لله لم يصح أن يأمرهم ولا
ينهاهم، قال: وكذلك احتجت الجهمية على صحة الجبر بقول آدم:
أتلومني على أمر قدر عليّ. فالجواب: أنه ليس فى قول موسى
دليل قاطع على اعتقاد القول بالقدر، وأن العبد خالق
لأفعاله دون ربه كما زعمت القدرية؛ لأنه ليس فى قوله: (أنت
آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) . أكثر من إضافة التخييب
والإخراج إليه، وإضافة ذلك إليه لا يقتضى كونه خالقًا
لهما؛ إذ يصح فى اللغة إضافة الفعل إلى من يقع منه على
سبيل الخلق، وإلى من يقع منه على سبيل الاكتساب، وإذا
احتملت إضافة التخييب والإخراج الوجهين جميعًا لم يقبض
بظاهره على أحد الاحتمالين دون الآخر إلا بدليل قاطع، وقد
قام الدليل الواضح على استحالة اختراع المخلوق أفعاله دون
إقدار الله له على ذلك بقوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ
شَىْءٍ) [الأنعام: 102] ، وبقوله تعالى: (وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ، وليس يجوز
أن يريد تعالى بهذا الحجارة؛ لأن الحجارة أجسام، والأجسام
لا يجوز أن يعملها العباد فدل أنه تعالى خالق أعمالهم
وقوله تعالى:
(10/316)
) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ
عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ) [الشورى: 29] ،
واجتماعهم فعل لهم، وقد أخبر أنه تعالى خلقهم، وقد ثبت أنه
تعالى قادر على جميع أجناس الحركات التى يحدثها العباد
بدلالة أنه أقدرهم عليها، وما أقدرهم عليه فهو عليه أقدر،
كما أنه ما أعلمهم إياه فهو به أعلم، فثبت أن الله خالق
للأفعال، والعبد مكتسب لها، كما تقول: إن الله منفرد بخلق
الولد، والوالد منفرد بكون الولد له لا شركة فيه لغيره.
فنسبة الأفعال إلى الله تعالى من جهة خلقه لها، ونسبتها
إلى العباد من جهة اكتسابهم لها، هذا مذهب أهل السنة
والحق، وهو مذهب موسى (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (إِنْ
هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء
وَتَهْدِى مَن تَشَاء) [الأعراف: 155] ، فأضاف موسى
الهداية والإضلال إلى الله تعالى، ولا تصح هذه الإضافة إلا
على سبيل خلقه لها دون من وجدت منه، وأما قول الجهمية: إن
الله أجبر العباد على أفعالهم، وهم مكرهون على الطاعة
والمعصية. واحتجوا بقول آدم: أتلومنى على أمر قد قدر على
قبل أن أخلق. فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأن الموجود
بالاعتبار والمشاهدة خلاف قولهم، وذلك أن العباد لا يأتون
الذنوب إلا مشتهين لها، راغبين فيها، والإجبار عند أهل
اللغة: هو اضطرار المرء إلى الفعل وإدخاله فيه غير راغب
فيه ولا محب له كالمحسوب على وجهه، والمرتعش من الحمى،
والفالج. وأهل الجبر معتقدون لوم من وقعت منه معصية الله
وتأنيبه عليها أشد التأنيب، ومدح من وقعت منه الطاعة
وإثباته عليها،
(10/317)
وإذا كان هذا اعتقادهم؛ فاحتجاجهم بتأنيب
آدم موسى على لومه له على أمر قد قدره عليه، وكرهه عليه
فاسد متناقض على مذهبهم، ومحاجة آدم موسى هى أنه ذاكره ما
قد عرفه ووقف عليه فى التوراة من توبة الله على آدم من
خطيئته وإسقاطه اللوم عليها؛ فوجب على موسى ترك لومه
وعتابه على ما كان منه. وقد ثبت أن جعفر بن محمد الصادق
قيل له: قد أجبر الله العباد؟ قال: الله أعدل من ذلك. قيل:
هل فوض إليهم؟ قال: الله أغير من ذلك، لو أجبرهم ما عذبهم،
ولو فرض إليهم ما كان للأمر والنهى معنى. قلت: فكيف تقول
إذًا؟ قال: منزلة بين منزلتين هى أبعد مما بين السماء
والأرض؛ ولله فى ذلك سرّ لا تعلمونه. واحتجت أيضًا طائفة
من القدرية المجبرة غير الجهمية بهذا الحديث، فقالت: إن
كان صحيحًا قول آدم لموسى: أتلومنى على أمر قدره الله على
قبل أن أخلق؛ فلا لوم على كافر فى كفره، ولا فاسق فى فسقه،
ولا يجوز أن يجور عليهم ويعذبهم على ما اضطرهم إليه. قال
الطبرى: فالجواب أنه ليس معنى قوله: أتلومنى على أمر كتبه
الله علىّ قبل أن أخلق، كما توهمته، وكيف يجوز أن يكون ذلك
معناه، وقد عاقبه الله على خطيئته تلك بإخراجه من الجنة،
ولو لم يكن ملومًا لكان وكنا فى الجنة كما أسكنه الله؛
ولكنه جل جلاله أخرجه منها لخطيئته تلك عقوبةً عليها، ولم
يعاقبه على ما قضى
(10/318)
عليه؛ لأنه لو عاقبه عليه لما كان يسكنه
الجنة حين أسكنه إياها، وذلك أن القضاء عليه بذلك قد كان
مضى قبل أن يخلقه؛ فإنما استحق العقوبة على فعله، لا على
ما قضى عليه؛ وبمثل هذا أقر موسى لآدم بصحة حجته، ولم يقل
له كما زعمت القدرية: ليس الأمر كما تزعم؛ لأن الله لو قضى
عليك ذلك قبل أن يخلقك لم يعاقبك، ولكن لما كان من دين
الله الذى أخذ بالإقرار به عهود أنبيائه ومواثيقهم أنه لا
شىء كان فيما مضى ولا فيما يحدث إلا قد مضى به قضاؤه؛ فإنه
غير معاقبهم على قضائه، ولكن على طاعتهم ومعاصيهم، وكان
ذلك معلومًا عند الأنبياء والرسل، أقر موسى لآدم صلى الله
عليهما بأن الذى احتج به عليه له حجة؛ وحقق صحة ذلك نبينا
(صلى الله عليه وسلم) بقوله: فحج آدم موسى. قال غير
الطبرى: وفى حديث أبى هريرة حجة لما يقوله أهل السنة: أن
الجنة التى أهبط منها أبونا آدم (صلى الله عليه وسلم) هى
جنة الخلد، ورد قول من زعم أنها لم تكن جنة الخلد، قالوا:
وإنما كانت جنة بأرض عدن، واحتجوا على بدعتهم فقالوا: أن
الله خلق الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد لغا فيها إبليس
حين كذب لآدم، وأثم فى كذبه، وأنه لا يسمع أهلها لغوًا ولا
كذبًا، وأنه لا يخرج منها أهلها، وقد أخرج منها آدم وحواء
بمعصيتهم، قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله
وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد، وهو فى دار الخلود والملك
الذى لا يبلى؟ وأيضًا فإن جنة الخلد دار القدس: قدست عن
الخطايا والمعاصى كلها تطهيرًا لها؛ فيقال لهم:
(10/319)
الدليل على إبطال قولكم قول موسى لآدم: أنت
الذى أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام
ليدل على أنها الجنة المعروفة؛ جنة الخلد التى وعد الله
المؤمنين بها، التى لا عوض لها فى الدنيا فلم ينكر ذلك آدم
عليه من قوله، ولو كانت غير جنة الخلد لرد آدم على موسى،
وقال: إنى أخرجتهم من دار فناء وشقاء وزوال وعرى إلى
مثلها، فلما سكت آدم على ما قرره موسى؛ صح أن الدار التى
أخرجهم الله منها بخلاف الدار التى أخرجوا إليها فى جميع
الأحوال، ويقال لهم فيما احتجوا به: إن الله خلق الجنة لا
لغو فيها ولا تأثيم، ولا كذب، ولا يخرج منها أهلها هذا كله
بما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، وقد
أخبر: أن آدم إن عصاه فيما نهاه عنه أخرجه عنها، ولا يمتنع
أن تكون دار الخلد فى وقت لمن أراد تخليده فيها، وقد يخرج
منها من قضى عليه الفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن
الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وأنها
كانت بيد إبليس مفاتيحها ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد
دخلها النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء، ثم خرج
منها وأخبر بما رأى فيها، وأنها هى جنة الخلد حقًا، وقولهم
كيف يجوز على آدم فى كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو فى
دار الخلد؛ فيرد عليهم،، ويقال لهم: كيف يجوز على آدم فى
كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد فى دار الفناء؛ هذا لا يجوز
على من له أدنى مسكة من عقل، وأما عقولهم: إن الجنة دار
القدس وقد طهرها الله من الخطايا؛ فهو جهل منهم، وذلك أن
الله سبحانه أمر بنى إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهى
بالشام، وأجمع أهل
(10/320)
الشرائع على أن الله قدسها، وقد شاهدوا
فيها المعاصى، والكفر، والكذب، ولم يكن تقديسها مما يمنع
فيها المعاصى فكذلك دار الخلد، وأهل السنة مجمعون على أن
جنة الخلد هى التى أهبط منها آدم، فلا معنى لقول من
خالفهم، قاله بعض شيوخنا.
- باب لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ
/ 20 - فيه: الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاةِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا
أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ
ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) . قال المؤلف: المراد بهذا
الحديث إثبات خلق الله تعالى جميع أعمال العباد؛ لأن قوله:
(لا مانع لما أعطيت) يقتضى نفى جميع المانعين سواه، وكذلك
قوله: (ولا معطى لما منعت) يقتضى نفى جميع المعطين سواه،
وأنه لا معطى ولا مانع على الحقيقة بفعل المنع والعطاء
سواه، وإذا كان كذلك ثبت أن من أعطى أو منع من المخلوقين
فإعطاؤه ومنعه خلق لله وكسب للعبد، والله تعالى هو المعطى
وهو المانع لذلك، حقيقة من حيث كان مخترعًا خالقًا للإعطاء
والمنع، والعبد مكتسب لهما بقدرة محدثة، فبان أنه إنما نفى
مانعًا ومعطيًا مخترعًا للمنع والإعطاء ويخلقهما. قال
الطبرى: وقوله: (لا ينفع ذا الجد منك الجدَ) ، بفتح الجيم
فى الحرفين جميعًا يقول: لا ينفع ذا الحظ فى الدنيا من
المال والولد منك حظه فى الآخرة؛ لأنه إنما ينفع فى الآخرة
عند الله العمل
(10/321)
الصالح لا المال والبنون، كما قال تعالى:
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
[الكهف: 46] الآية. وحكى عن أبى عمرو الشيبانى أنه كان
يقول: إنما هو الجِد، بكسر الجيم فى الحرفين جميعًا،
بمعنى: ولا ينفع ذا الاجتهاد فى العمل منك اجتهاده. قال
الطبرى: وهذا خلاف ما يعرفه أهل النقل والرواة لهذا
الحديث، ولا نعلم أحدًا قال ذلك غيره مع بُعد تأويله من
الصحة.
- باب نَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ
الْقَضَاءِ
وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ
شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 1] . / 21 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ
الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ)
. قال المؤلف: المستفاد من قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق: 1] إلى آخر السورة، خلق الله
تعالى لشر ما خلق، ولشر غاسق، ولشر النفاثات، ولشر حاسد؛
لأنه لو كان هذا الشر كله خلقًا لمن أضافه إليه من الغاسق
والنفاثات والحاسد، مخترعًا لا كسبًا؛ لم يكن لأمر الله
تعالى لنبيه ولعباده بالتعوذ به من شر ذلك كله معنى، وإنما
يصح التعوذ به عز وجل مما هو قادر عليه دون من أضافه
(10/322)
إليه، فتعبدنا تعالى بسؤاله دفع شر خلقه
عنا؛ لأنه إذا كان قادرًا على فعل ما أضافه إلى من ذكر فى
السورة كان قادرًا على فعل ضده وتعبدنا بسؤاله تعالى فعل
ضد ما أمرنا بالاستعاذة منه، فبان أن الخير والشر بهذا
النص خلق الله تعالى. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء،
وشماتة الأعداء) ، فإنما أمرنا بالتعوذ به تعالى من أن
ينزل بنا فعلاً من أفعاله سبق علينا نزوله بنا لما يقتضيه
من الشدة والمشقة، وذلك بلاء وشقاء وسوء قضاء وشماتة
أعداء، فالشقاء يكون فى دين ودنيا، وإذا كان فى الدنيا كان
تضييقًا فى العيش، وتقتيرًا فى الرزق، وذلك فعل الله وإن
كان فى الدين فذلك كفر أو معاصٍ، وذلك فعل الله أيضًا،
وكذلك سوء القضاء عام فى جميع ما قضاه تعالى من أمر الدين
والدنيا، وشماتة الأعداء، وإن كانت مضافة إليهم إضافة
الفعل إلى فاعله فى الظاهر، فإنما ذلك على سبيل إضافة
الكسب إلى مكتسبه، لا على سبيل الاختراع، إذ لا يصح فى
المخلوق اختراع عين، فبان أن جميع ما أمرنا بالتعوذ منه به
خلق الله بدليل قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام:
102] .
- باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
/ 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَثِيرًا مَا كَانَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) يَحْلِفُ: (لا، وَمُقَلِّبِ
الْقُلُوبِ) . / 23 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبيىُّ
(صلى الله عليه وسلم) لابْنِ صَيَّادٍ: (اخْسَأْ، فَلَنْ
تَعْدُوَ قَدْرَكَ) ، قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي
فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: (دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ
فَلا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَلا خَيْرَ
لَكَ فِي قَتْلِهِ) .
(10/323)
وقوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ) [الأنفال: 24] ، يقتضى النص منه تعالى على
خلقه الكفر والإيمان بأن يحول بين قلب الكافر والإيمان
الذى أمره به، فلا يكتسبه إذ لم يقدره عليه؛ بل أقدره على
ضده وهو الكفر، ويحول بين المؤمن وبين الكفر الذى نهاه عنه
بأن لم يقدر عليه؛ أقدره على الإيمان الذى هو به ملتبس
وإذا خلق تعالى لهما القدرة على ما هما مكتسبان له مختاران
لاكتسابه، فلا شك أنه خالق لكفرهما وإيمانهما؛ لأن خلقه
لكفر أحدهما، وإيمان الآخر من جنس خلق قدرتيهما عليهما،
ومحال كونه قادرًا على شىء غير قادر على خلافه أو ضده أو
مثله، فبان أنه خالق بهذا النص لجميع كسب العباد، خيرها
وشرها، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا ومقلب
القلوب) لأن معنى ذلك تقليبه قلب عبده عن إيثار الإيمان
إلى إيثار الكفر، وعن إيثار الكفر إلى إيثار الإيمان، وكان
فعل الله ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله؛ لأنه لم يمنعهم حقًا
وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل
به عليهم لا ما وجب لهم وأضلهم؛ لأنهم ملك من ملكه خلقهم
على إرادته، لا على إرادتهم، فكان ما خلق فيهم من قوة
الهداية والتوفيق على وجه الفضل، وقد بين هذا المعنى إياس
بن معاوية؛ ذكر الآجرى بإسناده عن حبيب بن الشهيد قال:
(جاءوا برجل يتكلم فى القدر إلى إياس بن معاوية فقال له
إياس: ما تقول؟ قال: أقول إن الله أمر العباد ونهاهم فإن
الله لا يظلمهم شيئًا. فقال له إياس: أخبرنى عن الظلم،
تعرفه أو لا تعرفه. قال: بل
(10/324)
أعرفه. قال: ما الظلم؟ قال: أن يأخذ الرجل
ما ليس له. قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال: لا. قال إياس:
فإن لله تعالى كل شىء. وقال عمران بن حصين لأبى الأسود
الدؤلى: لو عذب الله أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير
ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم، ولو أنفقت مثل
أُحد ذهبًا ما تقبل منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. وروى
مثل ذلك عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وسعد بن أبى وقاص،
وزيد بن ثابت، وقال زيد: سمعته من رسول الله إلا أنه قال:
(ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم) . وموافقة
الحديث للترجمة قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (إن
يكن هو فلا تطيقه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) يعنى
إنه إن كان الدجال قد سبق فى علم الله خروجه وإضلاله
للناس، فلن يقدرك خالقك على قتل من سبق فى عمله أنه يخرج
ويضل الناس؛ إذ لو أقدرك على ذلك لكان فيه انقلاب علمه،
والله تعالى منزه عن ذلك.
- باب) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَنَا) [التوبة: 51]
قَالَ مُجَاهِدٌ: (بِفَاتِنِينَ (: بِمُضِلِّينَ إِلا مَنْ
كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ،) قَدَّرَ
فَهَدَى) [الأعلى: 3] : قَدَّرَ الشَّقَاءَ
وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الأنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا. / 24
- فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيّ (صلى الله
عليه وسلم) عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَالَ: (كَانَ عَذَابًا
يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ
اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ
يَكُونُ فِي بَلَدٍة
(10/325)
يَكُونُ فِيهِ، وَيَمْكُثُ فِيهِ لا
يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ
أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلا
كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ) . معنى هذا الباب أن
الله أعلم عباده أن ما يصيبهم فى الدنيا من الشدائد والمحن
والضيق والخصب والجدب، أن ذلك كله فعل الله يفعل من ذلك ما
يشاء بعباده ويبتليهم بالخير والشر، وذلك كله مكتوب فى
اللوح المحفوظ، ولا خلاف فى هذا بين جماعة الأمة من قدرى
وسُنى، وإنما اختلفوا فى أفعال العباد الواقعة منهم على ما
تقدم وهذه الآية إنما جاءت فيما أصاب العباد من أفعال الله
التى اختص باختراعها دون خلقة، ولم يقدرهم على كسبها دون
ما أصابوه مكتسبين له مختارين.
- باب) وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا
اللَّهُ) [الأعراف: 43] و) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى
لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر: 57]
/ 25 - فيه: الْبَرَاء، رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَقُولُ:
(وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلا صُمْنَا
وَلا صَلَّيْنَا) . فى هاتين الآيتين وفى الحديث نص أن
الله تعالى انفرد بخلق الهدى والضلال، وإنما قدر العباد
على اكتساب ما أراد منهم اكتسابهم له من إيمان أو كفر، وأن
ذلك ليس بخلق للعباد كما زعمت القدرية. وروى أن على بن أبى
طالب لقى رجلاً من القدرية فقال له: خالفتم الله وخالفتم
الملائكة، وخالفتم أهل الجنة وخالفتم أهل النار، وخالفتم
الأنبياء وخالفتم الشيطان، فأما خلافكم الله فقوله:
(إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِى مَن يَشَاء) [القصص: 56] ، وأما خلافكم
(10/326)
الملائكة فقولهم: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ
مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة: 32] ، وأما خلافكم الأنبياء،
فقول نوح: (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ
أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ)
[هود: 34] ، وأما خلافكم أهل الجنة، فقولهم: (الْحَمْدُ
لِلّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) [الأعراب: 43] ،
وأما خلافكم لأهل النار، فقولهم: (رَبَّنَا غَلَبَتْ
عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ)
[المؤمنون: 106] ، وأما خلافكم الشيطان، فقول إبليس:
(رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى) [الحجر: 39] . وذكر الآجرى
بإسناده عن على بن أبى طالب أن رجلاً أتاه فقال: أخبرنى عن
القدر، فقال: طريق مظلم فلا تسلكه. قال: أخبرنى عن القدر.
قال: بحر عميق فلا تلجه، قال: أخبرنى عن القدر، قال: سر
الله فلا تكلفه، ثم ولى الرجل غير بعيد، ثم رجع فقال لعلى:
فى المشيئة الأولى أقوم وأقعد، وأقبض وأبسط فقال له على:
إنى سائلك عن ثلاث خصال ولن يجعل الله لك مخرجًا، قال:
أخبرنى أخلقك الله لما شاء أم لما شئت؟ قال: بل لما شاء،
قال: أخبرنى أتجئ يوم القيامة كما يشاء أو كما شئت؟ قال:
بل كما يشاء. قال: أخبرنى أجعلك الله كما شاء أو كما شئت؟
قال: بل كما شاء. قال: فليس لك من المشيئة شىء. وقال محمد
بن كعب القرظى: لقد سمى الله المكذبين بالقدر باسم نسبهم
إليه فى القرآن فقال: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ
وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 47 - 49] فهم المجرمون.
(10/327)
كِتَاب الاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ
/ 1 - فيه: طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْيَهُودِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ
أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) [المائدة:
3] لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ:
إِنِّى لأعْلَمُ أَىَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ: هَذِهِ الآيَةُ
نَزَلَتْ: يَوْمَ عَرَفَةَ، فِى يَوْمِ جُمُعَةٍ. / 2 -
وفيه: أَنَس، سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ
الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، تَشَهَّدَ قَبْلَ
أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْتَارَ اللَّهُ
لِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّذِى عِنْدَهُ عَلَى
الَّذِى عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِى هَدَى
اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ، ن فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا،
وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. / 3 - وفيه:
ابْن عَبَّاس، ضَمَّنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
إِلَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ) . /
4 - وفيه: أَبُو بَرْزَةَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
يُغْنِيكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه
وسلم) . / 5 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى
عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ، وَأُقِرُّ
لَكَ: بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ. لا عصمة لأحد إلا
فى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) أو فى إجماع
العلماء على معنى فى أحدهما. والسنة تنقسم قسمين: منها
واجبة، ومنها غير واجبة، فأما الواجبة فما كان تفسيرًا من
النبى (صلى الله عليه وسلم) لفرض الله، وكل ما أمر به
النبى أو نهى عنه أو فعله فهو سنة، ما
(10/328)
لم يكن خاصًا له، وأما غير الواجب من سنته
(صلى الله عليه وسلم) فما كان من فعله تطوعًا ولا يحرج أحد
فى تركه كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سمعتم المؤذن
فقولوا مثلما يقول) . وكقوله: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا
فى الدنيا) . وأكثر أصحابه كان لهم ضياع، فدل أنه أدب منه
نستعين به على دفع الرغبة فى الدنيا، ومثل ذلك مما أمر به
تأديبًا لأمته بأكرم الأخلاق من غير أن يوجب ذلك عليهم،
ومثل ذلك ما فعله فى خاصة نفسه من أمر الدنيا كاتخاذه
لنعله قبالين، ولبسه النعال السبتية، وصبغه إزاره بالورس،
وحبه القرع، وإعجابه الطيب، وحبه من الشاة الذراع، ونومه
على الشق الأيمن، وسرعته فى المشى، وخروجه فى السفر يوم
الخميس، وقدومه فى الضحى وشبه ذلك، فلم يسنه لأمته، ولا
دعاهم إليه ومن تشبه به (صلى الله عليه وسلم) حبًا له كان
أقرب إلى ربه كفعل ابن عمر فى ذلك.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ
بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ
/ 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله
عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ
بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى
أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِلا
يَدِى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا،
أَوْ تَرْغَثُونَهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا. / 7 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ
مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عَلَيْهِ
الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا
أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو أَنِّى أَكْثَرُهُمْ
تَابِعًا يَوْمَ
(10/329)
الْقِيَامَةِ) . أى: صدق بتلك الآيات
لإعجازها لمن شهدها، كقلب العصا حية، وفلق البحر لموسى
وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، وكان الذى
أعطيت أنا وحيًا أوحاه الله إلىّ فكان آية باقية دعى إلى
الإتيان بمثله أهل التعاطى له، ومن نزل بلسانهم، فعجزوا
عنه ثم بقى آية ماثلة للعقول إلى من يأتى إلى يوم القيامة،
يرون إعجاز الناس عنه رأى العين، والآيات التى أوتيها غيره
من الأنبياء قبله رئى إعجازها فى زمانهم، ثم لم تصحبهم إلا
مدة حياتهم، وانقطعت بوفاتهم، وكان القرآن باقيًا بعد
النبى (صلى الله عليه وسلم) يتحدى الناس إلى الإتيان
بمثله، ويعجزهم على مرور الأعصار فكان آية باقية لكل من
أتى، فلذلك رجا أن يكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة، مع أن
الله تعالى قد ضمن هذه الآية ألا يدخلها الباطل إلى أن
تقوم الساعة بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] ، وضمن
نبينا (صلى الله عليه وسلم) بقاء شريعته وإن ضيع بعضها قوم
بقوله: (لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من
خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك) . وقوله: وأنتم
تلغثونها أو ترغثونها. شك فى أى الكلمتين قال النبى (صلى
الله عليه وسلم) فأما لغث باللام فلم أجده فيما تصفحت من
اللغة، وأما رغث بالراء فهو معروف عندهم يقال: رغثت كل
أنثى ولدها وأرغثته أرضعته فهى رغوث.
(10/330)
3 - باب الاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74]
وَقَالَ: أَيِمَّةً نَقْتَدِى بِمَنْ قَبْلَنَا،
وَيَقْتَدِى بِنَا مَنْ بَعْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ:
ثَلاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِى وَلإخْوَانِى: هَذِهِ
السُّنَّةُ، أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا، وَيَسْأَلُوا عَنْهَا،
وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ،
وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلا مِنْ خَيْرٍ. / 8 - فيه: أَبُو
وَائِل، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِى هَذَا
الْمَسْجِدِ، قَالَ: جَلَسَ إِلَىَّ عُمَرُ فِى مَجْلِسِكَ
هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا
صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، قَالَ:
لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ: هُمَا
الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا. / 9 - وفيه: حُذَيْفَةَ،
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَّ الأمَانَةَ
نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ،
وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَعَلِمُوا
مِنَ السُّنَّةِ) . / 10 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ: إِنَّ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ
الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ،
وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ
لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام: 134] . / 11
- وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأقْضِيَنَّ
بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) . / 12 - وفيه: جَابِر،
قَالَ: جَاءَتْ مَلائِكَةٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ
نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ،
وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ،
(10/331)
فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا
مَثَلا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلا، فَقَالُوا: مَثَلُهُ
كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا
مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِىَ
دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ
لَمْ يُجِبِ الدَّاعِىَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ
يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا
لَهُ: يَفْقَهْهَا، َقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ،
وَالدَّاعِى مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَنْ
أَطَاعَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم)
فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم)
فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ. / 13 - وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ:
يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْتَقِيمُوا، فَقَدْ
سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا
وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلالا بَعِيدًا. / 14 -
وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ
بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ
إِنِّى رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَإِنِّى أَنَا
النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى
مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ
فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ
أَطَاعَنِى فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ
عَصَانِى وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ) . /
15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ
كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى
عِقَالا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. / 16 -
وفيه: ابْن عَبَّاس، أن عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ قَالَ
لعُمر: وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا
(10/332)
الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا
بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ
بِهِ، فَقَالَ الْحُرُّ بن قيس: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:
199] وَهَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَوَاللَّهِ مَا
جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ
وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. / 17 - وفيه: أسماء فى
حديث الخسوف: قَالَ النَّبِي - عليه السَّلام -: (فَأَمَّا
الْمُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ فَآمَنَّا، واتبعنا)
الحديث. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ
(صلى الله عليه وسلم) : (فدَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ،
إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ
وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا
أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
. قال المؤلف: أمر الله عباده باتباع نبيه والاقتداء بسنته
فقال: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ
الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158] ،
وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِىَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157] ، وتوعد من خالف
سبيله ورغب عن سنته فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] ، وهذه الآيات
مصدقة لأحاديث هذا الباب. وأما قول عمر: (لقد هممت ألا أدع
فيها صفراء ولا بيضاء) يعنى: ذهبًا ولا فضة، أراد أن يقسم
المال الذى يجمع بمكة،
(10/333)
وفضل عن نفقتها ومؤنتها ويضعه فى مصالح
المسلمين، فلما ذكره شيبة أن النبى (صلى الله عليه وسلم)
وأبا بكر بعده لم يعرضا له؛ لم يسعه خلافهما، ورأى أن
الاقتداء بهما واجب، فربما تهدم البيت أو خلق بعض آلاته
فصرف ذلك المال فيه، ولو صرف ذلك المال فى منافع المسلمين
لكان كأنه قد خرج من وجهه الذى سبل فيه. قال المهلب: وأما
الأمانة التى فى حديث حذيفة، فإنها الإيمان وجميع شرائعه،
والتنزه عن الخيانة وشبهها. والجذر: أصل الشىء، فدل ذلك أن
الإيمان مفروض على القلب ولابد من النية فى كل عمل ما يذهب
إليه الجمهور. وقوله: (نزلت فى جذر قلوب الرجال) يعنى: بعض
الرجال الذين ختم الله لهم بالإيمان، وأما من لم يقدر له
به فليس بداخل فى معنى ذلك، ألا ترى قوله: (ونزل القرآن ثم
قرءوا من القرآن وعلموا من السنة) يعنى المؤمنين خاصة
المذكورين فى أول الحديث. وقوله: (جاءت الملائكة، فقال
بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان) يدل أن رؤيا الأنبياء
وحى لثبات القلب، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن
عينى تنامان ولا ينام القلب) وفيه دليل أن الفهم والمعرفة
فى القلب. وقول الملك: (أولوها له) . يدل أن الرؤيا على ما
عبرت فى النوم. ومعنى قول الحر (فما جاوزها عمر وكان
وقافًا عند كتاب الله) . فهو معنى الترجمة، والإعراض عن
الجهل إن صح أنه جهل مرغب فيه مندوب إليه، وأما إذا كان
الجفاء على السلطان تعمدًا أو استخفافًا بحقه فله تغييره
والتشديد فيه.
(10/334)
واستعمال عمر لهذه الآية يدل على أنها غير
منسوخة، وهو قول مجاهد وقتادة، وروى هشام بن عروة عن أبيه،
وعن عبد الله ابن الزبير قالا: نزلت هذه الآية فى أخذ
العفو من أخلاق الناس وأعمالهم وما لا يجهدهم. فعلى هذا
القول هى محكمة وهذا لفظه لفظ الأمر، وهو تأديب من الله
لنبيه، وفيه تأديب لأمته، فهو تعليم للمعاشرة الجميلة
والأخذ بالفضل، وقد روى عن ابن عباس فى قوله: (خُذِ
الْعَفْوَ) [الأعراف: 199] ، يعنى الفضل من أموال الناس،
ثم نسخ ذلك وهو قول الضحاك والسدى. وفيها قول ثالث عن ابن
زيد قال: أمر الله نبيه بالعفو عن المشركين وترك الغلظة
عليهم، قبل أن يفرض عليه قتالهم ثم نسخت بالقتال. فأما
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه
وإذا أمرتكم بشىء فائتوا منه ما استطعتم) فقد احتج به من
قال: إن الأمر موضوع على الندب دون الإيجاب، قالوا: ألا
تراه (صلى الله عليه وسلم) علق الأمر بمشيئتنا واستطاعتنا،
وألزمنا الاتنهاء عما نهى عنه، فوجب حمل النهى على الوجوب
دون الأمر. قال أبو بكر بن الطيب: والتعلق بهذا غير صحيح
ومعنى قوله: (فائتوا منه ما استطعتم) إذا كنتم مستطيعين،
وقد يأمر بالفعل الذى يستطيعه على طريق الوجوب كما يأمر به
على وجه الندب، ولا يدل على أنه ليس بواجب قال الله تعالى:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16] ،
ولم يرد به ندبنا إلى التقوى دون إيجابه، ومعنى الآية
والخبر: أن اتقوه إذا كنتم سالمين
(10/335)
غير عجزة قادرين، ولم يرد أنه لا يؤمر إلا
من قد وجدت قدرته على الفعل كما تقول القدرية. وقال
المهلب: من احتج بهذا الحديث أن النواهى أوجب من الأوامر
فهو خطأ؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم ينه بهذا الحديث عن
المحرمات التى نهى الله عنها فى كتابه بأن حرم الفواحش ما
ظهر منها وما بطن، وإنما أراد فإذا نهيتكم عما هو مباح لكم
أن تأتوه، فإنما نهيتكم رفقًا بكم، كنهيه عن الوصال إبقاءً
عليهم، وكنهيه عبد الله بن عمرو عن صيام الدهر وقيام الليل
كله، وكنهيه عن إضاعة المال؛ لئلا يكون سببًا لهلاكهم،
وكنهيه عن كسب الحجام وعسب الفحل تنزهًا واعتلاءً عن
الأعمال الوضيعة. وأما الأمر الذى أمرهم أن يأتوا منه ما
استطاعوا، فهو الأمر من التواصى بالخير، والصدقات وصلة
الرحم، وغير ذلك مما سنه، وليس بفرض ولذلك قال لهم: فائتوا
ما استطعتم أى: لم آمركم بذلك أمر إلزام ولا أمر حتم أن
تبلغوا غاياته لكن ما استطعتم من ذلك؛ لأن الله تعالى عفا
عما لا يستطاع. وعلى هذا المعنى خرج معنى الحديث منه (صلى
الله عليه وسلم) ؛ لأن أصحابه كانوا يكثرون سؤاله عن
أعماله من الطاعات يحرصون على فعلها فكان ينهاهم عن
التشديد ويأمرهم بالرفق؛ خشية الانقطاع وسأتقصى مذاهب
العلماء فى الأمر والنهى فى باب النهى على التحريم إلا ما
يعرف إباحته بعد هذا إن شاء الله تعالى.
(10/336)
4 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ
السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لا يَعْنِي وَقوله اللَّه: (لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)
[المائدة: 101]
/ 19 - فيه: سَعْد، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم)
: (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ
عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ
مَسْأَلَتِهِ) . / 20 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اتَّخَذَ حُجْرَةً فِى
الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِىَ
حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ
لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ
بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ؛ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:
(مَا زَالَ بِكُمِ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ
حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ
عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا
النَّاسُ فِى بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ
الْمَرْءِ فِى بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ) .
/ 21 - وفيه: أَبُو مُوسَى، سُئِلَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا
عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ، وَقَالَ: (سَلُونِى) ،
فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ
أَبِى؟ قَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ فَقَالَ:
(أَبُوكَ، سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ) ، فَلَمَّا رَأَى
عُمَرُ مَا بِوَجْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ
الْغَضَبِ، قَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ. / 22 -
وذكر قصة حذافة من رواية أَنَس وفيه: فَقَامَ رَجُلٌ،
فَقَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
(النَّارُ) ، فَقَامَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ،
فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَبُوكَ
حُذَافَةُ) ، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ،
فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ
دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا،
فَسَكَتَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عند ذَلِكَ،
ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ
عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِلا
عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ. . .) الحديث. وَقَالَ أَنَس، لما
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبُوكَ فُلانٌ)
، نَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)
[المائدة: 101] الآيَةَ.
(10/337)
/ 23 - وفيه: الْمُغِيرَةِ، أنّ النَّبيّ
(صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ،
وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ. . . الحديث.
/ 24 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَأَلون حَتَّى يَقُولُوا:
هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ
اللَّهَ؟) . / 25 - وفيه: ابْن مَسْعُود، أن النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) مَرَّ عليه نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ، عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ لا يُسْمِعُكُمْ فيه مَا
تَكْرَهُونَ. . . الحديث. قال ابن عون: سألت نافعًا عن
قوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] ، فقال: لم تزل كثرة
السؤال منذ قط تكره. وقال الحسن البصرى: فى هذه الآية
سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أمور الجاهلية التى
عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقيل:
كان الرجل الذى سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أبيه
يتنازعه رجلان فأخبره النبى (صلى الله عليه وسلم) بأبيه
منهما، وأعلم (صلى الله عليه وسلم) أن السؤال عن مثل هذا
لا ينبغى، وأنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك السائل، وأدّى
ذلك إلى فضيحته لا سيما وقت سؤال النبى ونزول الآيات فى
ذلك. وقد تقدم فى كتاب الفتن كراهية أم حذافة لسؤاله النبى
(صلى الله عليه وسلم) عن أبيه وما قالت له فى ذلك.
فلسؤالهم له (صلى الله عليه وسلم) عما لا ينبغى وتعنيته
(صلى الله عليه وسلم) للذى قال له: أين مدخلى يا رسول
الله؟ قال: النار؛ لأن تعنيته (صلى الله عليه وسلم) يوجب
النار، وقد أمر الله المسلمين بتعزيزه وتوقيره وألا يرفع
الصوت فوق صوته، وتوعد على ذلك بحبوط العمل بقوله تعالى:
(أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ
(10/338)
تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، ألا ترى فهم
عمر لهذا الأمر وتلافيه له؛ بأن برك على ركبتيه، وقال:
رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيا وقال مرة:
إنا نتوب إلى الله. فسكت (صلى الله عليه وسلم) وسكن غضبه،
ورضى قول عمر حين ذب عن نبيه ونبّه على التوبة مما فيه
إغضابه أن يؤدى إلى غضب الله، وقد ذكرنا شيئًا من هذا
المعنى فى كتاب الفتن فى باب التعوذ من الفتن الدليل على
صواب فعل عمر قول النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك:
(أولى والذى نفسى بيده) يعنى: أولى لمن عنَّت نبيه فى
المسألة وأغضبه، ومعنى أولى عند العرب التهدد والوعيد.
وقال المهلب: يقال للرجل: إذا أفلت من عظيمة: أولى لك. أى:
كدت تهلك ثم أَفْلَتَّ، ويروى عن ابن الحنفية أنه كان
يقول: إذا مات ميت فى جواره: أولى لى، كدت والله أن أكون
السواد المخترم. قال المهلب: وأصل النهى عن كثرة السؤال
والتنطع فى المسائل مبين فى كتاب الله تعالى فى بقرة بنى
إسرائيل أمرهم الله بذبح بقرة فلو ذبحوا أى بقرة كانت
لكانوا مؤتمرين غير عاصين، فلما سألوا ما هى وما لونها؟
قيل لهم: لا فارض ولا بكر. ضيق عليهم وقد كان ذلك مباحٌ،
وكذلك ضيق عليهم فى لونها فقيل لهم: صفراء. فمنعوا من سائر
الألوان، وقد كان ذلك مباحًا لهم، ثم لما قالوا: إن البقر
تشابه علينا، قيل لهم: لا ذلول حرّاثه ولا ساقية للحرث أى
معلمة لاستحراج الماء وقد كان ذلك مباحًا لهم، فعز عليهم
وجود هذه الصفة المضيق عليهم فيها حتى أمرهم أن يشتروها
بأضعاف ثمنها عقوبة بسؤالهم عما لو يكن لهم به حاجة.
(10/339)
وقوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101]
يحذر مما نزل بهؤلاء القوم ثم وعد أنه إن سألوا عنها حين
نزول القرآن ضيق عليهم، وقد قال بعض أصحابنا: إنه بقيت منه
بقية مكروهة وهو أن التنطع فى المسألة والبحث عن حقيقتها
يلزم منها أن يأتى بذلك الشرع على الحقيقة التى انكشفت له
فى البحث وذلك مثل أن يسأل عن سلع الأسواق الممكن فيها
الغصب والنهب هل له شراء ذلك فى سوق المسلمين، وهو يمكن
فيه ذلك المكروه أم لا؟ فيفتى بأن له أن يبتاع ذلك، ثم إن
تنطع، فقال: إن قام الدليل على السلعة أنها من نهب أو غصب
هل لى أن أشتريها؟ فيفتى بأن لا يشتريها فهذا الذى بقى من
كراهة السؤال والتنطع حتى الآن فى النسخ الذى كان يمكن حين
نزول القرآن والتضيق المشروع. وقد سئل مالك عن قيل وقال
وكثرة السؤال؟ فقال: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة
المسائل، فقد كره رسول الله المسائل وعابها، أو هو مسألة
الناس أموالهم. وكان زيد ابن ثابت وأبى بن كعب وجماعة من
السلف يكرهون السؤال فى العلم عما لم ينزل، ويقولون: إذا
نزلت النازلة وفق المسئول عنها، ويرون الكلام فيما لم ينزل
من التكلف. وقال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عند أحدهم
علم غير الكتاب والسنة، فإدا نزلت النازلة جمع الأمير لها
من حضر من العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون
المسائل وقد كرها رسول الله. فإن قيل: فإذا ثبت النهى عن
كثرة السؤال والبحث فى هذه الأحاديث، فقد جاء فى كتاب الله
ما يعارض ذلك، وهو
(10/340)
الأمر بسؤال العلماء والبحث عن العلم؛
بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] . فالجواب عنه: أن الذى أمر
الله عباده بالسؤال عنه هو ما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب
عليهم العمل به، والذى جاء فيه النهى هو ما لم يتعبد الله
عباده به، ولم يذكره فى كتابه، وقد سئل ابن عباس عن قوله
تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ) [المائدة: 101] الآية قال: ما لم يذكر فى القرآن
فهو مما عفا الله عنه، ألا ترى أن الله لم يجب اليهود عن
سؤالهم عن الروح لما لم يكن مما لهم به الحاجة إلى علمه،
وكان من علم الله الذى لم يطلع عليه أحدًا فقال لنبيه (صلى
الله عليه وسلم) : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى
وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)
[الإسراء: 85] ، فنسبهم تعالى فى سؤالهم عما لم ينبغى لهم
السؤال عنه إلى قلة العلم، وقال مالك: قيل وقال هو هذه
الأخبار والأراجيف فى رأيى، أعطى فلان كذا ومنع كذا بقوله:
(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة: 65] ، فهؤلاء يخوضون، رواه
عنه أشهب فى جامع المستخرجة. وأما قول بعض اليهود حين
سألوه عن الروح: لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون. فإنما قال
ذلك لعلمه أنهم كانوا معنتين والمعنت من عقوبته أن يخاطب
بما يكره. وأما قول (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (لن
يبرح الناس يسألون:
(10/341)
هذا الله خالق كل شىء فمن خلق الله؟) هذا
من السؤال الذى لا يحل وقد جاء هذا الحديث بزيادة فيه من
حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا
يزال الشيطان يأتى أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا،
حتى يقول: من خلق الله، فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت
بالله) . وفى حديث آخر: فذلك (صريح الإيمان) . رواه أبو
داود حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا سهيل، عن
أبيه، عن أبى هريرة (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جاءه
ناس من أصحابه فقالوا: يا رسول الله، نجد فى أنفسنا الشىء
يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به،
فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أو قد وجدتموه، ذلك
صريح الإيمان) . وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث الأعمش، عن
ذر، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: (جاء رجل إلى
النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إنى أحدث نفسى بالأمر
لأن أكون حممة أحب إلى من أن أتكلم به. فقال له رسول الله:
الحمد لله الذى رده إلى الوسواس) . فإن قيل: كيف سمّى هذه
الخطرة الفاسدة من خطرات الشيطان على القلب صريح الإيمان؟
قال الخطابى: يريد أن صريح الإيمان هو الذى يعظم ما تجدونه
فى صدوركم ويمنعكم من قول ما يلقيه الشيطان فى قلوبكم
ولولاه لم يتعاظموه، ولم ينكروه ولم يرد أن الوسوسة نفسها
صريح الإيمان، وكيف تكون إيمانًا وهى من قبل الشيطان
وكيده، ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) حين سئل عن هذا قال:
(الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة) . وفيه وجه آخر، قال
المهلب: قوله: (صريح الإيمان) يعنى: الانقطاع فى إخراج
الأمر إلى ما لا نهاية له فلابد عند ذلك من إيجاب
(10/342)
خالق لا خالق له، لأن المفكر يجد المخلوقات
كلها لها خالق بأثر الصنعة فيها والحدث الجارى عليها والله
تعالى بخلاف هذه الصفة لمباينته صفات المخلوقين، فوجب أن
يكون خالق الكل، فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الذى هو
من كيد الشيطان المؤدى إلى هذا الانقطاع ليحير العقول،
فنبه (صلى الله عليه وسلم) على موضع كيده وتحييره. قال
غيره: فإن وسوس الشيطان فقال: ما المانع أن يخلق الخالق
نفسه. قيل له: هذه وسوسة ينقض بعضها بعضا؛ لأن بقولك يخلق
قد أوجبت وجوده تعالى، وبقولك نفسه قد أوجبت عدمه، والجمع
بين كونه موجودًا ومعدومًا معًا تناقض فاسد؛ لأن من شرط
الفاعل تقدم وجوده على وجود فعله فيستحيل كون نفسه فعلاً
له؛ لاستحالة أن يقال إن النفس تخلق النفس التى هى هو وهذا
بين فى حل هذه الشُبه وهو صريح الإيمان. وقال غيره: إن سأل
سائل عن حديث سعد وزيد بن ثابت، فقال: فى هذين الحديثين
دلالة على أن الله تعالى يفعل شيئًا من أجل شىء وسببه،
وهذا يؤدى إلى قول القدرية. فالجواب: أنه قد ثبت أن الله
على كل شىء قدير، وأنه بكل شىء عليم، وأنه لا يكون من
أفعاله التى انفرد بالقدرة عليها ولا تدخل تحت قدرة
العباد، ولا تكون من مقدورات العباد التى هى كسب لهم وخلق
لله إلا والله مريد لجميع ذلك، فسواء كان أمرًا بذلك عباده
أو ناهيًا لهم عنه، فغير جائز أن يقال أنه فعل فعلاً من
أفعاله بسبب من الأسباب أو من أجل داع يدعوه إلى فعله؛
(10/343)
لأن السبب والداعى فعل من أفعاله، والقول
أنه فاعل بسبب يقضى إلى تعجيزه لحاجته إلى ما لا يصح وقوعه
من فعله إلا بوقوع غيره تعالى الله عن ذلك، فإذا فسد ذلك
وجب حمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أعظم المسلمين
جُرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله) . على غير
ظاهره وصرفه إلى أن الله تعالى فاعل بسؤال السائل الذى
نهاه عنه، ومقدر أن يحرم الشىء المسئول عنه إذا وقع السؤال
فيه، كل ذلك قد سبق به القضاء والقدر لا أن السؤال موجه
للتحريم وعلة له. وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما
زال بكم الذى رأيت من صنيعكم) يعنى: من كثرة مطالبتكم
بالخروج إلى الصلاة حتى خشيت أن تكتب عليكم عقابًا لكم على
كثرة ملازمتكم لى فى مداومة الصلاة بكم، لا أن ملازمتهم له
موجبة لكتاب الله عليهم الصلاة؛ لما ذكرناه من أن الملازمة
والكتب فعلان لله تعالى غير جائز وقوع أحدهما شرطًا فى
وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمة ووقع كتاب الصلاة عليهم
لكان ذلك مما قد سبق به القضاء والقدر فى علم الله. وإنما
نهاهم، عليه السلام، عن مثل هذا وشبهه تنبيهًا لهم على ترك
الغلو فى العبادة وركوب القصد فيها؛ خشية الانقطاع والعجز
عن الإتيان بما طلبوه من الشدة فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى
فيمن فعل مثل ذلك: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن
قَبْلِكُمْ) [المائدة: 102] ، ففرضت عليهم، فعجزوا عنها
فأصبحوا بها كافرين وكان (صلى الله عليه وسلم) رءوفًا
بالمؤمنين
(10/344)
رفيقًا بهم، وقد تقدم مثل حديث زيد من
رواية عائشة فى أبواب قيام الليل فى كتاب الصلاة، وذكرنا
فى توجيهه ما لم يذكر فى هذا الباب فتأمله هناك. فإن قيل:
فإذا حمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أعظم المسلمين
جرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله) على غير ظاهره
ما وجه ذلك وإثم الجرم به؟ . قيل: هو على ما تقرر علمه من
نسبة اللوم والمكروه إلى من تعلق بسبب من فعل ما يلام
عليه، وإن قل تحذيرًا من موافقته له فعظم جرم فاعل ذلك
لكثرة الكارهين لفعله. وعرض الحائط: وسطه، وكذلك عرض البحر
وعرض النهر وسطهما، واعترضت عرضه نحوت نحوه عن صاحب العين.
5 - باب الاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم)
/ 26 - فيه: ابْن عُمَر، اتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ
خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِنِّى اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ
فَنَبَذَهُ) ، وَقَالَ: (إِنِّى لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا)
، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. قال أبو تمام
المالكى، وأبو بكر بن الطيب: ما كان من أفعال الرسول
بيانًا لمجمل كالصلاة، والصيام، والحج، وما دعا إلى فعله
كقوله: (خذوا عنى مناسككم، وصلوا كما رأيتمونى أصلى) . فلا
خلاف بين العلماء أنها على الوجوب، واختلفوا فيما كان منها
واقعًا موقع القرب لا على وجه البيان والامتثال لتمثيل أمر
لزمه، فقال مالك وأكثر أهل العراق: إنها على الوجوب،
(10/345)
إلا أن يمنع من ذلك دليل، وهو قول ابن سريج
وابن خيران من أصحاب الشافعى، وقال بعض أصحاب الشافعى:
إنها على الندب وإن المتأسى به فيها مندوب إليه أن يقوم
دليل على وجوبها، وقال كثير من أهل الحجاز والعراق وأصحاب
الشافعى: إنها على الوقف إلا أن يقوم دليل على كونها ندبًا
أو إباحة أو محظورة. قال أبو بكر بن الطيب: وبهذا نقول.
واحتج لذلك بأنه لما كانت القربة الواقعة محتملة لكونها
فرضًا ونفلاً لم يجز أن يكون الفعل منه دليلاً على أننا
متعبدون مثله، ولا على كونه واجبًا علينا دون كونه نفلاً؛
لأن فعله مقصور عليه دون متعدٍ إلى غيره، وأمره لنا ونهيه
متعديان إلى الغير والغرض فيهما امتثالهما فافترقا. وحجة
من قال: إنها على الوجوب. أن النبى (صلى الله عليه وسلم)
خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم وأنه خلع نعليه فى الصلاة،
فخلعوا نعالهم، وأنه أمرهم عام الحديبية بالتحلل فوقفوا،
فشكا ذلك إلى أم سلمة فقالت له: اخرج إليهم واذبح واحلق.
ففعل ذلك، فذبحوا وحلقوا اتباعًا لفعله، فعلم أن الفعل أكد
عندهم من القول، وقال لأم سلمة حين سألتها المرأة عن
القبلة للصائم: (ألا أخبرتيها أنى أقبّل وأنا صائم) . وقال
للرجل مثل ذلك، فقال: إنك لست مثلنا. فقال: (إنى لأرجو أن
أكون أتقاكم لله) . فدل هذا على أن الأسوة واقعة إلا ما
منع منه الدليل، ويدل على ذلك أنه لما نهاهم عن الوصال
قالوا: إنك تواصل. قال: (إنى لست مثلكم، إنى أطعم وأسقى) .
فلولا أن لهم الاقتداء به لقال لهم: وما فى مواصلتى ما
يبيح لكم فعل ذلك،
(10/346)
وأفعالي مخصوصة بي، فلم يقل لهم ذلك، ولكن
بين لهم المعنى فى اختصاصه بالمواصلة، وهو أن الله يطعمه
ويسقيه، وأنهم بخلافه فى ذلك، وكذلك خص الله الموهوبة أنها
خالصة له من دون أمته، ولولا ذلك لكانت مباحًا لهم.
6 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ
وَالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلا
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ (الآية [النساء:
171]
/ 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ
تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّى لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّى
أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِى. . .) الحديث،
ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ
الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ) . / 28 -
وفيه: عَلِىّ، أنه خطب وَعَلَيْهِ سَيْفٌ وفِيهِ صَحِيفَةٌ
مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ
كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِى هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ. . . وذكر الحديث. / 29 - وفيه: عَائِشَة،
صَنَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) شَيْئًا تَرَخَّصَ
فِيهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ
قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ
الشَّىْءِ، أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّى أَعْلَمُهُمْ
بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) . / 30 - وفيه:
ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ، كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ
يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، لَمَّا قَدِمَ عَلَى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَفْدُ بَنِى تَمِيمٍ
أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ
التَّمِيمِىِّ الْحَنْظَلِىِّ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ،
وَأَشَارَ الآخَرُ
(10/347)
بِغَيْرِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
لِعُمَرَ: إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلافِى، فَقَالَ عُمَرُ: مَا
أَرَدْتُ خِلافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَنَزَلَتْ: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ (الآية [الحجرات: 2] ، فَكَانَ
عُمَرُ إِذَا حَدَّثَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِى السِّرَارِ لاَ يُسْمِعْهُ
حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. / 31 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ فِى مَرَضِهِ:
(مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فليُصَلّ بِالنَّاسِ) ، إلى قوله:
(إِنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ. . .) الحديث. /
32 - وفيه: حديث مالك بن أوس، أن العباس وعليًا جاءا إلى
عمر يطلبان ميراثهما من النَّبِىّ، عليه السَّلام،
وتنازعهما فِى ذلك مَعَ عُمر. . . الحديث بطوله. قال
المهلب فى قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى
دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ)
[النساء: 171] : الغلو مجاوزة الحد. فهذا يدل أن البحث عن
أسباب الربوبية من نزغات الشيطان، ومما يؤدى إلى الخروج عن
الحق؛ لأن هؤلاء غلوا فى الفكرة حتى آل بهم الأمر أن جعلوا
الآلهة ثلاثة، وأما الذين غلوا فى صيام فهو اتباعهم للوصال
بعد أن نهاهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فعاقبهم بأن
زادهم مما تعمقوا به. وقول على: (ما عندنا إلا كتاب الله،
وما فى هذه الصحيفة) فإنه أراد به تبكيت من تنطع وجاء بغير
ما فى كتاب الله وغير ما فى سنة رسول الله فهو مذموم.
وحديث القبلة للصائم الذى تنزه قوم عنها ورخص فيها النبى
(صلى الله عليه وسلم) فذمهم بتعمقهم ومخالفته - عليه
السلام -.
(10/348)
وقصة بني تميم لما آل التنازع بين أبي بكر
وعمر إلى المخاشنة فى التفاضل بين الأقرع بن حابس وعيينة
بن حصن، ورمى بعضهم بعضًا بالمناواة والقصد إلى المخالفة
والفرقة، كذلك ينبغى أن تذم كل حالة تخرج صاجبها إلى
افتراق الكلمة واستشعار العداوة. وقوله: (مروا أبا بكر
يصلى بالناس) . ذم عائشة لتعمقها فى المعانى التى خشيتها
من مقام أبيها فى مقام رسول الله مما روى عنها أنها قصدته
بذلك، وذكرتها فى كتاب الصلاة، وذم حفصة أيضًا؛ لأنها
أدخلتها فى المعارضة للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك
كراهية رسول الله مسائل اللعان وعيبه لها وهو نص فى هذا
الباب؛ لأنه خشى أن ينزل من القرآن ما يكون تضييقًا، فنزل
فيه اللعان وهو وعيد عظيم وسبب إلى عذاب الآخرة لمن أراد
الله إنفاذه عليه. وحديث العباس وعلى خشى أن يئول ما ذم من
تنازعهما إلى انقطاع الرحم التى بينهما بالمخاصمة فى هذا
المال الموقوف لا سيما بعدما نص عليه حديث رسول الله، فلم
ينتهيا عن طلب هذا الوقف ليلياه كما كان يليه الخليفة من
توزيعه حيث يحب، وانفرادهما بالحكم وقد تقدم الكلام فى
معناه فى كتاب فرض الخمس من كتاب الجهاد والحمد لله
كثيرًا.
(10/349)
7 - باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا
رَوَاهُ عَلِىٌّ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)
. / 33 - فيه: أَنَس، حَرَّم النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) الْمَدِينَةَ؟ فقَالَ: لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا،
وَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ
مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عن أبيه: أَوْ آوَى مُحْدِثًا. فى هذا
الحديث فضل عظيم للمدينة، وذلك تغليظ الوعيد بلعنة الله
والملائكة والناس أجمعين لمن أحدث فيها حدثًا أو آوى
محدثًا، وفى حديث على: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) . ذكره
فى آخر كتاب الحج، ودل الحديث على أنه من آوى أهل المعاصى
والبدع أنه شريك فى الأثم، وليس يدل الحديث على أن من أحدث
حدثًا أو آوى محدثًا فى غير المدينة أنه غير متوعد ولا
ملوم على ذلك؛ لتقدم العلم بأن من رضى فعل قوم وعملهم أنه
منهم، وإن كان بعيدًا عنهم. فهذا الحديث نص فى تحذير فعل
شىء من المنكر فى المدينة وهو دليل فى التحذير من إحداث
مثل ذلك فى غيرها، وإنما خصت المدينة بالذكر فى هذا
الحديث؛ لأن اللعنة على من أحدث فيها حدثًا أشد والوعيد له
آكد؛ لانتهاكه ما حذر عنه، وإقدامه على مخالفة رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) فيما كان يلزمه من تعظيم شأن المدينة
التى شرفها الله بأنها منزل وحيه وموطن نبيه (صلى الله
عليه وسلم) ، ومنها انتشر الدين فى أقطار الأرض فكان لها
بذلك فضل مزيّة على سائر البلاد، وقد تقدم اختلاف العلماء
فيما يجوز قطعه من شجر المدينة، وما يجوز من الصيد فى
حرمها فى آخر كتاب الحج.
(10/350)
8 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْىِ
وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ وقوله تَعَالَى: (وَلا تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36]
/ 34 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْزِعُ
الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا،
وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ
بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ
فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ) . /
35 - وفيه: أَبُو وَائِل، شهدت صفين، فسمعت سَهْلُ بْنُ
حُنَيْفٍ يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا
رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى يَوْمَ
أَبِى جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهِ
لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى
عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلا أَسْهَلْنَ
بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأمْرِ،
قَالَ: وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: شَهِدْتُ صِفِّينَ،
وَبِئْسَتْ صِفُّونَ. قال الطبرى: روى مبارك بن فضالة، عن
عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: يا
أيها الناس اتهموا الرأى على الدين. كقول سهل سواء. قال
المهلب: وغيره: إذا كان الرأى والقياس على أصل من كتاب
الله وسنة رسول الله أو إجماع الأمة فهو محمود، وهو
الاجتهاد والاستنباط الذى أباحه الله للعلماء، وأما الرأى
المذموم والقياس المتكلف المنهى عنه، فهو ما لم يكن على
هذه الأصول؛ لأن ذلك ظن ونزع من الشيطان، والدليل على صحة
هذا قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) [الإسراء: 36] . قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك
به علم. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم
(10/351)
تسمع، وعلمت ولم تعلم. وأصل القفو العضه
والبهت، فنهى الله عباده عن قول ما لا علم لهم به، فإنه
سائل السمع والبصر والفؤاد عما قال صاحبها فتشهد عليه
جوارحه بالحق، ومثل هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن
الله يقبض العلم بقبض العلماء فيبقى ناس جهال فيفتون
برأيهم فيضلون ويضلون) . ألا ترى أنه وصفهم بالجهل، فلذلك
جعلهم ضالين هو خلاف الذين قال فيهم: (لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، وأمر
بالرجوع إلى قولهم. قال الطبرى: فإن قيل: فإن قول سهل بن
حنيف، وعمر بن الخطاب: اتهموا الرأى. ويرد قول من استعمل
الرأى فى الدين، وأنه لا يجوز شىء من الرأى والقياس لأنهم
أخطئوا يوم أبى جندل فى مخالفتهم رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) فى صلحه المشركين، ورده لأبى جندل لأبيه وهو يستغيث،
وكان قد عذب فى الله، وهم يظنون أنهم محسنون فى مخالفة
رسول الله. قيل: وجه قولهما: اتهموا الرأى الذى هو خلاف
لرأى رسول الله وأمره على الدين، الذى هو نظير آرائنا التى
كنا خالفنا بها رسول الله يوم أبى جندل، فإن ذلك خطأ، فأما
الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة
فذلك هو الحق الواجب والفرض اللازم لأهل العلم، وبنحو هذا
جاءت الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وعن جماعة
الصحابة والتابعين، روى ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه
وسلم) لما انصرف من الأحزاب قال: (لا يصلين أحد العصر إلا
فى بنى قريظة فأبطأ ناس فتخوفوا فوت الصلاة، فصلوا، وقال
آخرون: لا نصلى إلا حيث أمرنا رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) ، وإن فاتنا العصر، فما عنف
(10/352)
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحد
الفريقين) . وهذا الخبر نظير خبر سهيل بن حنيف، ومن حرص
يوم أبى جندل على القتال اجتهادًا منهم ورسول الله يرى ترك
قتالهم فى أنه لم يؤثمهم كما لم يؤثم أحد الفريقين: لا
الذين صلوا قبل وصولهم إلى بنى قريظة؛ لأن معنى ذلك كان
عندهم ما لم يخشوا فوت وقتها، وكذلك لم يؤثم أيضًا الذين
لم يصلوا حتى فاتهم وقتها إلى أن صاروا إلى بنى قريظة؛ لأن
معنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بذلك كان عندهم لا يصلوها
إلا فى بنى قريظة، وإن فاتكم وقتها، فعذر كل واحد منهم
لهذه العلة، وروى سفيان، عن الشيبانى عن الشعبى، عن شريح
(أنه كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما
فى كتاب الله، فإن لم يكن فى كتاب الله ففى سنة رسول الله،
فإن لم يكن فيما قضى الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت تقدم
وإن شئت تأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام) .
وروى هشيم، حدثنا سيار، عن الشعبى قال: (لما بعث عمر
شريحًا على قضاء الكوفة قال: انظر ما تبين لك فى كتاب الله
ولا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك فى كتاب الله فاتبع
فيه سنة رسول الله وما لم يتبين لك فى السنة فاجتهد رأيك
فقد أنبأت هذه الأخبار عن عمر أن معنى قوله: اتهموا الرأى
على الدين. أنه الرأى الذى وصفنا؛ لأنه محال أن يقول:
اتهموا واستعملوه، لأن النهى عن الشىء والأمر به فى حالة
واحدة ينقض بعضه بعضًا، ولا يجوز أن يظن ذلك بعمر ونظرائه،
ويزيد ذلك بيانًا روى مجاهد، عن الشعبي، عن
(10/353)
عمرو بن حريث قال: قال عمر بن الخطاب:
(إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث
أن يحفظوها، فقالوا بالرأى، فضلوا وأضلوا) . فقد بين هذا
القول من عمر أنه أمر باتهام الرأى فيما خالف أحكام رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) وسنته، وذلك أنه قال: (إنهم
أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها) . وأخبر أنه لما أعياهم
حفظ سنن رسول الله قالوا بآرائهم وخالفوها، جهلا منهم
بأحكام رسول الله وسننه وذلك هو الجرأة على الله بما لم
يأذن به فى دينه، والتقدم بين يدى رسول الله، فأما اجتهاد
الرأى فى استنباط الحق من كتاب الله وسنة رسوله فذلك الذى
أوجب الله على العلماء فرضًا، وعمل به المسلمون بمحضر من
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يعنفهم ولا نهاهم
عنه؛ إذ كان هو الحق عنده والدين، واقتفى أثرهم فيه الخلف
من بعدهم، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وروى أبو
معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال
ابن مسعود: (ومن عرض له منكم قضاء بما فى كتاب الله، فإن
جاء أمرًا ليس فى كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه (صلى
الله عليه وسلم) ، فإن جاءه أمر ليس فى سنة نبيه فليقض بما
قضى به الصالحون، فإن جاءه ما ليس فى ذلك، فليجتهد رأيه،
ولا يقل: إنى أرى وإنى أخاف فإن الحلال بين والحرام بين
وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) .
وقد تقدم حديث سهل فى أخر كتاب الجهاد ومر فيه من معناه ما
لم أذكره هنا خوف التكرار. وقول أبى وائل: (وبئست الصفون)
. سمى المكان بالجمع المسلم كما سمى الرجل يزيدين أو عمرين
فيجريه فى حال التسمية به مجراه في
(10/354)
حال الجمع، وما كان من الواحد عن بناء
الجمع فإعرابه كإعراب الجمع كقولك دخلت فلسطين وهذه فلسطون
وأتيت قنسرين وهذه قنسرون، وأنشد المبرد: وشاهدنا الحل
والياسمون والمستعاب بقضائها ومن هذا قول الله تعالى:
(كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ) [المطففين: 18، 19] ،
فيه مذهب آخر كقولك: هذه السلحين، ومررت بالسلحين، ورأيت
السلحين.
9 - باب مَا كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام،
يُسْأَلُ فمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْىُ
فَيَقُولُ: (لا أَدْرِى) ، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى
يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْىٍ وَلا
بِقِيَاسٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)
[النساء: 105]
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) عَنِ الرُّوحِ، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتِ
الآيَةُ. / 36 - فيه: جَابِر، مَرِضْتُ، فَجَاءَنِى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ
وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ،
فَتَوَضَّأَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ صَبَّ
وَضُوءَهُ عَلَىَّ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى؟ قَالَ: فَمَا
أَجَابَنِى بِشَىْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمواريث. قال
المهلب: هذا الباب ليس على العموم فى أمر النبى (صلى الله
عليه وسلم) ؛ لأنه قد علم أمته كيفية القياس والاستنباط فى
مسائل لها أصول ومعانى فى كتاب الله ومشروع سنته؛ ليريهم
كيف يصنعون فيما عدموا فيه
(10/355)
النصوص؛ إذ قد علم أن الله تعالى لابد أن
يكمل له الدين. والقياس: هو تشبيه ما لا حكم فيه بما حكم
فى المعنى فشبه (صلى الله عليه وسلم) الحمر بالخيل، فقال:
ما أنزل على فيها شىء غير هذه الآية الفاذة الجامعة:
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7،
8] ، وشبه دين الله بدين العباد فى اللزوم، وقال للتى
أخبرته أن أباها لم يحج: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت
قاضيته؟ فالله أحق بالقضاء) وهذا هو نفس القياس عند العرب،
وعند العلماء بمعانى الكلام. وأما سكوت النبى حتى نزل عليه
الوحى، فإنما سكت فى أشياء معضلة ليست لها أصول فى الشريعة
فلابد فيها من إطلاع الوحى، ونحن الآن قد فرغت لنا الشرائع
واكتمل لنا الدين، وإنما ننظر ونقيس على موضاعاتها فيما
أعضل من النوازل. وقد اختلف العلماء: هل يجوز للأنبياء
الاجتهاد؟ فقالت طائفة: لا يجوز لهم ذلك ولا يحكمون إلا
بوحى منه. وقال آخرون: يجوز أن يحكموا بما يجرى مجرى من
منام وشبهه. قال أبو التمام المالكى: ولا أعلم فيه نصًا
لمالك، والأشبه عندى جوازه لوجود ذلك من رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) . والاجتهاد علو درجة وكمال فضيلة
والأنبياء أحق الناس به؛ بل لا يجوز أن يمتنعوا منها لما
فيها من جزيل الثواب، وقال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِى الأَبْصَارِ) [الحشر: 2] ، والأنبياء أفضل أولى
الأبصار وأعلمهم، وقد ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه
اجتهد فى أمر الحروب وتنفيذ الجيوش، وقدر الإعطاء للمؤلفة
قلوبهم وأمر بنصب العريش يوم بدر فى موضع، فقال له الحباب
بن المنذر: أبوحى نصبته هنا أم برأيك؟ فقال: بل برأيى.
قال: الصواب نصبه بموضع
(10/356)
كذا. فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) :
ذا الرأيين. فعمل برأيه ولم ينتظر الوحى وحكم بالمفاداة
والمن على الأسرى يوم بدر بعد المشورة، وقال تعالى:
(وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ) [آل عمران: 159] ، ولا تكون
المشورة إلا فيما لا نص فيه. وروى أنه (صلى الله عليه
وسلم) أراد أن يضمن لقوم من الأعراب ثلث ثمر المدينة، فقال
له سعد بن المعاذ: والله يا رسول الله كنا كفارًا فما طمع
أحد أن يأخذ من ثمارنا شيئًا، فلما أعزنا الله بك نعطيهم
ثلث ثمارنا فعمل بذلك رسول الله، وقد ذكر الله فى كتابه
قصة داود وسليمان حين اجتهدا فى الحكم فى الحرث، ولا يجوز
أن يختلفا مع ما فيه من نص موجود.
- باب تَعْلِيمِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ
اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْىٍ وَلا تَمْثِيلٍ
/ 37 - فيه: َبُو سَعِيد، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا
مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا، نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا
مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ فِى
يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا،
فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ،
ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ
يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً إِلا كَانَ لَهَا
حِجَابًا مِنَ النَّارِ) ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَأَعَادَتْهَا
مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ،
وَاثْنَيْنِ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن العالم إذا
أمكنه أن يحدث بالنصوص عن الله ورسوله فلا يحدث بنظره ولا
قياسه، هذا معنى
(10/357)
الترجمة؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم)
حدثهم حديثًا عن الله لا يبلغه قياس ولا نظر، وإنما هو
توقيف ووحى، وكذلك ما حدثهم به من سنته فهو عن الله أيضًا؛
لقوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم: 3] ،
وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أوتيت الكتاب ومثله معه) قال
أهل العلم: أراد بذلك السنة التى أوتى. وفيه سؤال الطلاب
العالم أن يجعل لهم يومًا يسمعون فيه عليه العلم، وإجابة
العالم إلى ذلك، وجواز الإعلام بذلك المجلس للاجتماع فيه،
وترجم له فى كتاب العلم هل يجعل للنساء يومًا على حده فى
العلم.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ) ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ
/ 38 - فيه: الْمُغِيرَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ
حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ) .
/ 39 - وفيه: مُعَاوِيَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأمَّةِ
مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ حَتَّى
يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى) . قال المؤلف: إن قيل:
إن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى
ظاهرين على الحق) لفظه لفظ الخصوص فى بعض الناس دون بعض،
وقال فى حديث معاوية: (لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى
تقوم الساعة) . فعم الأمة وهذا معارض للحديث الأول، مع ما
يقوّى ذلك مما رواه محمد بن بشار قال: ثنا ابن أبى عدى، عن
حميد، عن أنس قال:
(10/358)
(لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله
الله) وما رواه شعبة عن على بن الأقمر، عن أبى الأحوص، عن
عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا
تقوم الساعة إلا على شرار الناس) وهذه أخبار معارضة لحديث
معاوية. قال الطبرى: ولا معارضة بين شىء منها، بل بعضها
يدل على صحة بعض، ولكن بعضها خرج على العموم، والمراد به
الخصوص، فقوله: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض
الله) ، و (لا تقوم إلا على شرار الناس) يعنى: فى موضع
كذا، فإن به طائفة من أمتى لا يضرهم من خالفهم وهم الذين
عنى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لن يزال أمر هذه الأمة
مستقيمًا) يريد: فى موضع دون موضع. فإن قيل: وما الدليل
على ذلك؟ قيل: هو أنه لا يجوز، وأن يكون فى الخبر ناسخ ولا
منسوخ، وإذا ورد منه القولان من أن أمته طائفة على الحق،
وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق بالأسانيد الصحاح،
وكان غير جائز أن توصف الطائفة التى على الحق بأنها شرار
الناس، وأنها لا توحد الله، على أن الموصوفين بأنهم شرار
الناس غير هؤلاء الموصوفين بأنهم على الحق، وقد بين ذلك
أبو أمامة فى حديثه حدثنا أحمد بن الفرح الحمصى قال: ثنا
ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، عن عمرو بن
عبد الله الحمصى، عن أبى أمامة الباهلى أن النبى (صلى الله
عليه وسلم) قال: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق،
لعدوّهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قيل: يا
رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)
. فثبت أنه ليس أحد هذه الأخبار معارضًا لصاحبه.
(10/359)
- باب قوله تَعَالَى: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعًا) [الأنعام: 65]
/ 40 - فيه: جَابِر، لَمَّا نَزَلَت عَلَى النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ (، قَالَ:
(أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)) أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (،
قَالَ: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)
[الأنعام: 65] ، قَالَ: (هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ)
. ذكر المفسرون فى قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ
(، قالوا: يحصبكم بالحجارة، أو يغرقكم بالطوفان الذى غرق
به قوم نوح) أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، الخسف الذى
نال قارون ومن خسف به، وقيل: الريح) أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعًا (يعنى: يخلط أمركم فيجعلكم مختلفى الأهواء، يقال:
لبست عليكم الأمر ألبسته إذا لم أبينه، ومعنى شيعًا أى:
فرقًا، لا نكون شيعة واحدة.) وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ
بَعْضٍ) [الأنعام: 65] ، يعنى بالحرب والقتل، ويروى أن
النبى (صلى الله عليه وسلم) سأل ربه عز وجل أن لا يستأصل
أمته بعذاب، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فأجابه عز وجل فى صرف
العذاب ولم يجبه فى أن لا يذيق بعضهم بأس بعض وأن لا
تختلف؛ فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (هاتان أهون
وأيسر) أى: الاختلاف والفتنة أيسر من الاستئصال والانتقام
بعذاب الله، وإن كانت الفتنة من عذاب الله لكن هى أخف؛
لأنها كفارة للمؤمنين، أعاذنا الله من عذابه ونقمه.
- باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ
فَبَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ
/ 41 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّ
امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلامًا
(10/360)
أَسْوَدَ، وَإِنِّى أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ
لَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ لَكَ مِنْ
إِبِلٍ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَمَا أَلْوَانُهَا) ؟
قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) ؟
قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: (فَأَنَّى تُرَى
ذَلِكَ جَاءَهَا) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ
نَزَعَهَا، قَالَ: (وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ) ،
وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِى الانْتِفَاءِ مِنْهُ. / 42 -
وفيه: بْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ
أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ
تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، حُجِّى
عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ
أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ:
(اقْضُوا اللَّهَ الَّذِى لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ
بِالْوَفَاءِ) . قال المؤلف: قوله: من شبه أصلا معلومًا
بأصل مبين، فبين ليفهم السائل. هذا هو القياس بعينه
والقياس فى لغة العرب: التشبيه والتمثيل، ألا ترى أن النبى
(صلى الله عليه وسلم) شبه له ما أنكر من لون الغلام بما
عرف فى نتاج الإبل فقال له: (هل لك من إبل؟) إلى قوله:
(لعل عرقًا نزعه) فأبان له (صلى الله عليه وسلم) بما يعرف
أن الإبل الحمر تنتج الأورق أن كذلك المرأة البيضاء تلد
الأسود، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للمرأة التى
سألته الحج عن أمها فقال لها: (أرأيت لو كان على أمك دين
أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالوفاء) .
فشبه لها (صلى الله عليه وسلم) دين الله بما يعرف من دين
العباد، غير أنه قال لها: (فدين الله أحق) . وهذا كله هو
عين القياس وبهذين الحديثين احتج المزنى على من أنكر
القياس، قال أبو تمام المالكى: اجتمعت الصحابة على القياس،
فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب على ورق فى الزكاة.
وقال أبو بكر الصديق: أقيلونى بيعتى. فقال على: والله لا
نقيلك، رضيك رسول الله لديننا، فلا نرضاك لدنيانا؟ فقياس
الإمامة على الصلاة، وقياس الصديق الزكاة على الصلاة،
وقال: والله لا أفرق بين
(10/361)
ما جمع الله. وصرح على بالقياس فى شارب
الخمر بمحضر الصحابة، وقال: إنه إذا سكر هذى وإذا هذى
افترى، فحده حد القاذف. وكذلك لما قال له الخوارج: لم
حكمت؟ قال: قد أمر الله تعالى بالحكمين فى الشقاق الواقع
بين الزوجين فما بين المسلمين أعظم. وهذا ابن عباس يقول:
ألا اعتبروا، الأصابع بالأسنان اختلفت منافعها واستوت
أورشها، وقال: ألا يتقى الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا،
ولا يجعل أبا الأب أبًا، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى
الأشعرى يعلمه القضاء فقال له: اعرف الأشباه والأمثال وقس
الأمور عند ذلك. واختلف على وزيد فى قياس الجد على الإخوة،
فقاسه علىّ بسبيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة
شعبتان، وقاس ذلك زيد بشجرة انشعب منها غصن، وانشعب من
الغصن غصنان. وقال ابن عمر: وقت النبى (صلى الله عليه
وسلم) لأهل نجد قرنًا ولم يوقت لأهل العراق، فقال عمر:
قيسوا من نحو العراق كنحو قرن. قال ابن عمر: فقاس الناس من
ذات عرق. ولو ذكرنا كل ما قاسه الصحابة لكثر به الكتاب غير
أنه موجود فى الكتب لمن ألهمه الله رشده، وقد قيل للنخعى:
هذا الذى تفتى به أشيئًا سمعته؟ قال: سمعت بعضه فقست ما لم
أسمع على ما سمعت. وربما قال: إنى لأعرف بالشىء الواحد
مائة شىء. قال المزنى: فوجدنا بعد النبى (صلى الله عليه
وسلم) أئمة الدين فهموا عن الله تعالى ما أنزل إليهم وعن
الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما أوجب عليهم، ثم الفقهاء
إلى اليوم هلم جرا، استعملوا المقاييس والنظائر فى أمر
دينهم، فإذا ورد عليهم ما لم ينص عليه نظروا، فإن وجدوه
مشبهًا لما سبق الحكم فيه من النبى (صلى الله عليه وسلم)
أجروا حكمه عليه، وإن كان مخالفًا له
(10/362)
فرقوا بينه وبينه، فكيف يجوز لأحد إنكار
القياس؟ ولا ينكر ذلك إلا من أعمى الله قلبه وحبب إليه
مخالفة الجماعة. قال المؤلف: وإنما أنكر القياس: النظام،
وطائفة من المعتزلة، واقتدى بهم فى ذلك من ينسب إلى الفقه
داود بن على، والجماعة هم الحجة ولا يلتفت إلى من شذ عنها.
- باب اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
[المائدة: 44] وَمَدَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا
لا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَل نفسه، وَمُشَاوَرَةِ
الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ. / 43 - فيه:
عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا
فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ
اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) .
/ 44 - وفيه: الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: (سَأَلَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ، هِىَ
الَّتِى يُضْرَبُ بَطْنُهَا، فَتُلْقِى جَنِينًا، فَقَالَ:
أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
فِيهِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: مَا هُوَ؟
قُلْتُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
يَقُولُ: (فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) ، فَقَالَ:
لا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِى بِالْمَخْرَجِ فِيمَا
قُلْتَ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ،
فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ
أَمَةٌ) . الاجتهاد فرض واجب على العلماء عند نزول
الحادثة، والواجب على الحاكم أو العالم إذا كان من أهل
الاجتهاد أن يلتمس حكم الحادثة فى الكتاب أو السنة، ألا
ترى أن عمر ابن الخطاب لما احتاج إلى أن يقضى فى إملاص
المرأة سأل الصحابة من عنده علم من النبي (صلى الله عليه
وسلم) فى ذلك؟ فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة
(10/363)
بحكم النبي (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك،
فحكم به ولم يسغ له الحكم فى ذلك باجتهاده إلا بعد طلب
النصوص من السنة، فإذا عدم النص رجع إلى الإجماع، فإن لم
يجده نظر هل يصح حمل حكم الحادثة على بعض الأحكام المتقررة
لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها إذا لم
تعارضها علة أخرى. ولا فرق بين أن يجعل العلة مما هو من
باب الحادثة أو غيره؛ لأن الأصول كلها يجب القياس عليها
إذا صحت العلة، فإن لم يجد العلة استدل بشواهد الأصول
وغلبة الأشباه إذا كان ممن يرى ذلك، فإن لم يتوجه له وجه
من بعض هذه الطرق وجب أن يقر الأمر فى النازلة على حكم
العقل، ويعلم أنه لا حكم لله فيها شرعيًا زائدًا على
العقل. هذا قول ابن الطيب. قال غيره: وهذا هو الاستنباط
الذى أمر الله عباده بالرجوع إلى العلماء فيه بقوله تعالى:
(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، والاستنباط هو الاستخراج، ولا
يكون إلا فى القياس؛ لأن النص ظاهر جلى وليس يجوز أن يقال:
إن عدم النص على الحادثة من كتاب الله أو سنة رسوله. يوجب
حكم لله فيها لقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ
مِن شَىْءٍ) [الأنعام: 38] ، إذ لو خلا بعض الحوادث أن
تكون لا حكم لله فيها بطل إخباره إيانا بقوله: (مَّا
فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ) [الأنعام: 38] ، وفى
علمنا أن النصوص لم تحط بجميع الحوادث دلالة أن الله تعالى
قد أبان لنا حكمها بغير جهة النص، وهو القياس على علة
النص، ولو لم
(10/364)
يتعبدنا الله إلا بما نص عليه فقط لمنع
عباده الاستنباط الذى أباحه لهم، والاعتبار فى كتابه الذى
دعاهم إليه، ولو نص على كل ما يحدث إلى قيام الساعة لطال
الخطاب، وبعُد إدراك فهمه على المكلفين، بل كانت بنية
الخلق تعجز عن حفظه، فالحكمة فيما فعل من وجوب الاجتهاد
والاستنباط والحكم للأشياء بأشباهها ونظائرها فى المعنى،
وهذا هو القياس الذى نفاه أهل الجهالة القائلون بالظاهر
المنكرون للمعانى والعلل ويلزمهم التناقض فى نفيهم القياس؛
لأن أصلهم الذى بنوا عليه مذهبهم أنه لا يجوز إثبات فرض فى
دين الله إلا بإجماع من الأمة، والاجتهاد والقياس فرض على
العلماء عند عدم النصوص فيلزمهم أن يأتوا بإجماع من الأمة
على إنكار القياس، وحينئذ يصح قولهم، ولا سبيل لهم إلى
ذلك.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) :
(لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
/ 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ
أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا
بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ: وَمَنِ النَّاسُ
إِلا أُولَئِكَ) . / 46 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا
بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ
تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ؟) .
(10/365)
قال المهلب: قوله: (لتتبعن سنن من كان
قبلكم) . بفتح السين هو أولى من ضمها؛ لأنه لا يستعمل
الشبر والذراع إلا فى السنن وهو الطريق فأخبر (صلى الله
عليه وسلم) أن أمته قبل قيام الساعة يتبعون المحدثات من
الأمور، والبدع والأهواء المضلة كما اتبعتها الأمم من فارس
والروم حتى يتغير الدين عند كثير من الناس، وقد أنذر (صلى
الله عليه وسلم) فى كثير من حديثه أن الآخر شر، وأن الساعة
لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا
عند خاصة من المسلمين لا يخافون العداوات، ويحتسبون أنفسهم
على الله فى القول بالحق، والقيام بالمنهج القويم فى دين
الله وفى رواية الأصيلى: (بما أخذ القرون) . وللنسفى وابن
السكن: (بأخذ القرون) . وقال ثعلب: أخَذَ أَخْذ الجهة: إذا
قصد نحوها.
- باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ أَوْ سَنَّ
سُنَّةً سَيِّئَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وَمِنْ
أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ (الآيَةَ [النحل: 25]
/ 47 - فيه: عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلا
كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ، الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا
وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ دَمِهَا لأنَّهُ أَوَّلُ
مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) . قال المهلب: فيه الأخذ بالمآل،
والحديث على معنى الوعيد. وهذا الباب والذى قبله فى معنى
التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور فى الدين،
والنهى عن مخالفة سبيل المؤمنين المتبعين لسنة الله وسنة
رسوله التى فيها النجاة.
(10/366)
- باب مَا ذَكَرَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ
وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأنْصَارِ، وَمُصَلَّى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ
/ 48 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ الرسول
(صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ. . . الحديث.
فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى. . . الحديث. فَقَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَدِينَةُ
كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا) . /
49 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كُنْتُ أُقْرِئُ
عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ
حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ
بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ
رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلانًا، فَقَالَ عُمَرُ:
لأقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ، فَأُحَذِّرَ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ
الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ، قُلْتُ: لا
تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ
يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لا
يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ
مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ
الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ، وَيُنْزِلُوهَا
عَلَى وَجْهِهَا. . . الحديث. / 50 - وفيه: مُحَمَّد،
كُنَّا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ
مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ: بَخْ
بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَتَمَخَّطُ فِى الْكَتَّانِ،
لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنِّى لأخِرُّ فِيمَا بَيْنَ
مِنْبَرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَحُجْرَةِ
عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيه، فَيَجِىءُ الْجَائِى
فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِى، وَيُرَى أَنِّى
مَجْنُونٌ، وَمَا بِى مِنْ جُنُونٍ مَا بِى إِلا الْجُوعُ.
/ 51 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قيل له: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ
مَعَ النَّبِيِّ - عليه السلام -؟ قَالَ:
(10/367)
نَعَمْ، وَلَوْلا مَنْزِلَتِى مِنْهُ مِنَ
الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ، فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِى
عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، فَصَلَّى، وَخَطَبَ.
. . الحديث. / 52 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْتِى قُبَاءً رَاكِبًا
وَمَاشِيًا. / 53 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ
لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ادْفِنِّى مَعَ
صَوَاحِبِى، وَلا تَدْفِنِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) فِى الْبَيْتِ، فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ
أُزَكَّى. / 54 - وفيه: أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى
عَائِشَةَ: ائْذَنِى لِى أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ،
فَقَالَتْ: إِى وَاللَّهِ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا
أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ: لا
وَاللَّهِ، لا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا. / 55 - وفيه:
أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ
يُصَلِّى الْعَصْرَ، فَيَأْتِى الْعَوَالِىَ، وَالشَّمْسُ
مُرْتَفِعَةٌ. وَقَالَ يُونُسَ: وَبُعْدُ الْعَوَالِىَ
أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاثَةٌ. / 56 - وفيه:
السَّائِب، كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ،
وَقَدْ زِيدَ فِيهِ. / 57 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ
فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى صَاعِهِمْ
وَمُدِّهِمْ) ، يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ. / 58 - وفيه:
ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا،
فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ
الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ. / 59 - وفيه: أَنَس،
أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ،
فَقَالَ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ،
اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّى
أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا) . / 60 - وفيه: سَهْلٍ،
أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِى
الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ.
(10/368)
/ 61 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى
الله عليه وسلم) : (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي
رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى
حَوْضِي) . / 62 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَابَقَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الْخَيْلِ، فَأُرْسِلَتِ
الَّتِى ضُمِّرَتْ مِنْهَا، وَأَمَدُهَا إِلَى
الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَالَّتِى لَمْ
تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ
بَنِى زُرَيْقٍ. / 63 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ
عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) .
/ 64 - وفيه: أن السَّائِبُ، سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) . / 65 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ يُوضَعُ لِى
وَلِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَذَا
الْمِرْكَنُ، فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا. / 66 - وفيه:
أَنَس، حَالَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ
الأنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِى دَارِى الَّتِى بِالْمَدِينَةِ،
وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى
سُلَيْمٍ. / 67 - وفيه: أَبُو بُرْدَةَ، قَدِمْتُ
الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِى عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ،
فَقَالَ لِى: انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَأَسْقِيَكَ
فِى قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
وَتُصَلِّى فِى مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَسَقَانِى
سَوِيقًا، وَأَطْعَمَنِى تَمْرًا، وَصَلَّيْتُ فِى
مَسْجِدِهِ. / 68 - وفيه: عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى،
وَهُوَ بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى
الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ) . وروى
(عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ) . / 69 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أن
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُرِىَ وَهُوَ فِى
مُعَرَّسِهِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ
بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ.
(10/369)
/ 70 - وفيه: ابْن عُمَرَ، وَقَّتَ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) قَرْنًا لأهْلِ نَجْدٍ،
وَالْجُحْفَةَ لأهْلِ الشَّأْمِ، وَذَا الْحُلَيْفَةِ
لأهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ،
وَذُكِرَ له الْعِرَاقُ؟ فَقَالَ: (لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ
يَوْمَئِذٍ) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب تفضيل
المدينة بما خصها الله به من معالم الدين، وأنها دار الوحى
ومهبط الملائكة بالهدى والرحمة، وبقعة شرفها الله بسكنى
رسوله وجعل فيه قبره ومنبره وبينهما روضة من رياض الجنة،
وجعلها كالكير تنفى خبث الفضة وتخلص من بقى فيها من أن
يشوبهم ميل عن الحق، ألا ترى قول ابن عوف لعمر بن الخطاب:
إنها دار الهجرة والسنة، وإن أهلها أصحاب النبى الذين خصهم
الله بفهم العلم وقوة التمييز والمعرفة بإنزال الأمور
منازلها. وأما حديث أبى هريرة فإنما ذكر وقوعه بين المنبر
وحجرة عائشة الذّين هما من معالم الدين وروضة من رياض
الجنة، إعلامًا منه بصبره على الجوع فى طلب العلم، ولزوم
النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى حفظ من العلم ما كان حجة
على الآفاق ببركة صبره على المدينة. فأما قول ابن عباس:
شهدت العيد ولولا مكانى من الصغر ما شهدته. فمعناه: أن
صغير أهل المدينة وكبيرهم ونسائهم وخدمهم ضبطوا العلم
والسنن معاينة منهم فى مواطن العمل من شارعها المبين عن
الله تعالى وليس لغيرهم هذه المنزلة. وأما إتيان النبى
(صلى الله عليه وسلم) قُباء فمعناه: معاينة النبى ماشيًا
وراكبًا فى قصده مسجد قباء، وهو معلم من معالم الفضل ومشهد
من مشاهده (صلى الله عليه وسلم) وليس ذلك لغير المدينة.
(10/370)
وأما حديث عائشة وأمرها أن تدفن مع صواحبها
كراهة أن تزكى بالدفن فى بيتها مع النبى (صلى الله عليه
وسلم) وصاحبيه؛ لئلا يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبى
وصاحبيه، ألا تسمع قول مالك للرشيد حين سأله عن منزلة أبى
بكر وعمر من النبى فى حياته، فقال له: منزلتهما منه فى
حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. فزكاهما بالقرب منه فى
البقعة المباركة والتربة التى خلق الله منها خير البرية،
وأعاده فيها بعد مماته. فقام لمالك الدليل من دفنهما معه
على أنهما أفضل الصحابة لاختصاصهما بذلك. وقد احتج الأبهرى
على أن المدينة أفضل من مكة، فإن النبى (صلى الله عليه
وسلم) مخلوق من تربة المدينة، وهو أفضل البشر؛ فكانت تربته
أفضل الترب. قال المهلب: وأما حديث أنس أن النبى (صلى الله
عليه وسلم) كان يصلى العصر فيأتى العوالى والشمس مرتفعة
فمعناه: أن بين العوالى ومسجد المدينة للماشى معلم من
معالم ما بين الصلاتين يستغنى الماشى فيها يوم الغيم عن
معرفة الشمس، وذلك معدوم فى سائر الأرض، فإذا كانت مقادير
الزمان معينة بالمدينة لمكان بادٍ للعيان ينقله العلماء
إلى أهل الآفاق ليتمثلوه فى أقاصى البلدان، فكيف يساويهم
أهل بلدة غيرها، وكذلك دعاؤه لهم بالبركة فى مكيالهم خصهم
من بركة دعوته ما اضطر أهل الآفاق إلى القصد إلى المدينة
فى ذلك المعيار المدعو له بالبركة، ليمتثلوه ويجعلوه سنة
فى معاشهم وما فرض الله عليهم فى عيالهم، وظهرت البركة
لأهل كل بلدة فى ذلك المكيال. وأما رجمه اليهوديين عند
موضع الجنائز، فإن الموضع قد صار علمًا
(10/371)
لإقامة الحدود وللصلاة على الجنائز خارج
المسجد، وبه قال مالك فهمًا من الحديث. وأما قوله: (هذا
جبل يحبنا ونحبه) فمحبته للجبل توجب له بركة ترغب فى
مجاورته لها، وعلى هذا التأويل تكون محبته للجبل ومحبة
الجبل له حقيقة لا مجازًا بأن يحدث الله فى الجبل محبة،
ويكون ذلك من آيات نبوته، وقيل فيه وجه آخر: أن قوله: (هذا
جبل يحبنا ونحبه) . هو على المجاز يريد أهل الجبل كقوله:
(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيْرَ) [يوسف: 82] ، يريد أهل القرية. وأما مقدار
ممر الشاة بين الجدار والمنبر، فذلك معلم للناس وسنة
ممتثلة فى موضع المنابر ليدخل إليها من ذلك الموضع فينقض
من القبر وينظف. وأما ذكر مدى ما بين الحفياء وثنية
الوداع، فمسافة ذلك سنة ممتثلة ميدانًا لخيل الله المضمرة.
وأما خطبة عمر، وعثمان على منبر النبى (صلى الله عليه
وسلم) فإن ذلك سنة ممتثلة، فإن الخطبة تكون على المنابر لا
بجانبها ليوصل الموعظة إلى أسماع الناس إذا أشرف عليهم،
وكذلك مركن الماء الذى كانت تشرع فيه عائشة مع النبى (صلى
الله عليه وسلم) للغسل، ومقدار ما يكفيها من الماء سنة،
ولا يوجد ذلك المركن إلا بالمدينة، وكذلك موضع مخالفته
(صلى الله عليه وسلم) بين قريش والأنصار بالمدينة معروف
ثبتت ببقائه جواز المحالفة فى الإسلام على أمر الدين
والتعاضد فيه على المخالفين، وقد ذكر فى كتاب الأدب ما
يجوز من الحلف في الإسلام
(10/372)
وما لا يجوز، في باب الإخاء والحلف، فتأمله
فيه، وكذلك قدحه (صلى الله عليه وسلم) ومكان صلاته لا يوجد
فى غير المدينة، وكذلك وادى العقيق المبارك يوحى الله إلى
رسوله وأن الله أنزل فيه بركة إحلال الاعتمار فى أشهر
الحج، وكان محرمًا قبل ذلك على الأمم، وأمره بالصلاة فيه
لبركته، وليس ذلك مأمورًا به إلا فى هذا الوادى الذى يقصده
أهل الآفاق للصلاة فيه والتبرك به. وكذلك توقيت النبى (صلى
الله عليه وسلم) المواقيت لأهل الآفاق معالم للحج وللعمرة
رفقًا من الله بعباده وتيسيرًا عليهم مشقة الإحرام من كل
فج عميق، فهذه بركة من الله فى الحجاز موقوفة للعباد وليست
فى غيره من البلاد، وفى جعل الله بطحاء العقيق المباركة
مهلا للنبى (صلى الله عليه وسلم) ولأهل المدينة، وهى آخر
جزائر المدينة، على رأس عشرة أيام من مكة وغيرها من
المواقيت على رأس ثلاثة أيام من مكة فضل كبير ولأهل
المدينة؛ لحمله تعالى عليهم من مشقة الإحرام أكثر مما حمل
على غيرهم، وذلك لعلمه بتبصرهم على العبادة واحتباسهم
لتحملها. وكذلك صبرهم على لأواء المدينة وشدتها حرصًا على
البقاء فى منزل الوحى ومثبت الدين؛ ليكون الناس فى موازنهم
إلى يوم القيامة كما صاروا فى موازنهم بإدخالهم أولا فى
الدين؛ لما وضع فيهم من القوة والشجاعة التى تعاطوا بها
مقارعة أهل الدنيا، وضمنوا عن أنفسهم نصرة نبى الهدى فوفى
الله بضمانهم على أعدائهم، وتمت كلمة ربك ودينه بهم فكانوا
أفضل الناس؛ لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وعلمهم بأحوالهم وأحكامه وآدابه وسيره.
(10/373)
ووجب لمن كان على مذاهب أهل المدينة حيث
كان من أهل الأرض نصيب وافر من بركة المدينة واستحقوا أن
يكونوا من أهلها لاتباعهم سنن رسوله الثابتة عندهم من
علمائهم والمتبعين لهم بإحسان قال تعالى: (وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ) [التوبة: 100] ، والمرء مع من أحب. ووجب أيضًا أن
يكون لأهل مكة من ذلك نصيب؛ لأن عندهم معالم فريضة الحج
كلها، وقد عاينوا من صلاته وأقواله (صلى الله عليه وسلم)
فى المرات التى دخلها ما صاروا به عالمين، ولهم من بركة
ذلك نصيب وافر وحظ جزيل، وقد اختلف أهل العلم فيما هم فيه
أهل المدينة حجة على غيرهم من الأمصار، فكان الأبهرى يقول:
أهل المدينة حجة على غيرهم من طريق الاستنباط، ثم رجع
فقال: قولهم من طريق النقل أولى من طريق غيرهم، وهم وغيرهم
سواء فى الاجتهاد. وهذا قول الشافعى. وذهب أبو بكر بن
الطيب إلى أن قولهم أولى من طريق الاجتهاد والنقل جميعًا.
وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنهم ليسوا حجة على غيرهم لا من
طريق النقل، ولا من طريق الاجتهاد، واحتج من قال: هم أولى
بالاجتهاد من غيرهم بأنهم شاهدوا التنزيل وأقاويل النبى
(صلى الله عليه وسلم) وعرفوا معانى خطابه وفحوى كلامه،
فلذلك هم أولى من غيرهم بالاستنباط. واحتج أصحاب الشافعى
فقالوا: من قال هذا القول فقد قال بالتقليد وقد أخذ علينا
النظر فى أقاويل الصحابة والترجيح فى اختلافهم، فإذا قام
لنا الدليل على أحد القولين وجب المصير إليه، وإذا صح هذا
بطل التقليد، وإنما هم أولى من غيرهم من طريق النقل لصحة
عدالتهم ومعاينتهم التنزيل ومشاهدتهم للعمل فأما الاستنباط
فالناس فيه كلهم سواء.
(10/374)
وقوله بخ بخ: كلمة تقال عند الإعجاب
بالتخفيف والتثقيل. والمركن: شبيه تور من خزف يستعمل
للماء.
- باب قَوله تَعَالَى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ)
[آل عمران: 128]
/ 71 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) يَقُولُ فِى صَلاةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ
رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ، فِى الأخِيرَةِ) ، ثُمَّ قَالَ:
(اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا) ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ () [آل عمران: 128] . قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] ، يعنى ليس لك من أمر
خلقى شىء، وإنما أمرهم والقضاء فيهم بيدى دون غيرى فيهم،
وأقضى الذى أشاء من التوبة على من كفر بى وعصانى أو
العذاب: إما فى عاجل الدنيا بالقتل والنقم، وإما فى الآجل
بما أعددت لأهل الكفر بى. ففى هذا من الفقه أن الأمور
المقدرة لا تغير عما أحكمت عليه؛ لقوله: (مَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَىَّ) [ق: 29] ، وقوله: (يَمْحُو اللهُ مَا
يَشَاء (فإنما هو فى النسخ أى: ينسخ مما أمر به ما يشاء،)
وَيُثْبِتُ (أى: ويبقى من أمره ما يشاء. وعن ابن عباس،
وقتادة، وغيرهما. وقيل: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء (مما
يكتبه الحفظة على العباد مما لم يكن خيرًا أو شراَ كل يوم
اثنين وخميس، ويثبت ما سوى ذلك. وعن ابن عباس أيضًا:
(يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ (أى من آتى أجله
محى، ومن لم يمض أجله أُثبت، وعن الحسن.) وَعِندَهُ أُمُّ
الْكِتَابِ) [الرعد: 39] ، يعنى أصل الكتاب وهو اللوح
المحفوظ.
(10/375)
والدعاء جائز من جميع الأمم، لكن ما ختم
الله به من الأقدار على ضربين: منه ما قدر وقضى، وإذا دعى
وتضرع إليه صرف البلاء، وضرب آخر: وهو الذى فى هذا الحديث
الذى ختم بإمضائه، وقال لنبيه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ
شَىْءٌ) [آل عمران: 128] فى الدعاء على هؤلاء؛ لأن منهم من
قد قضيت له بالتوبة، ومنهم من قد قضيت عليه بالعقاب فلابد
منه لكن لانفراد الله بالمشيئة، وتعذر علم ذلك على العقول
جاز الدعاء لله تعالى إذ الدعوة من أوصاف العبودية، فعلى
العبد التزامها، ومن صفة العبودية الضراعة والمسكنة، ومن
صفة الملك الرأفة والرحمة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (لا يقولن أحدكم: اللهم ارحمنى إن شئت، وليعزم
المسألة، فإنه لا مكره له) إذ كان السائل إنما يسأل الله
من حيث له أن يفعل لا من حيث له ترك الفعل، وهذا الباب وإن
كان متعلقًا بباب القدر فله مدخل فى كتاب الاعتصام لدعاء
النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم إلى الإيمان الذى الاعتصام
به يمنعهم القتل ويحقن الدم.
- باب قَول اللَّه تَعَالَى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ
شَىْءٍ جَدَلا (وَقَوْلِهِ: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ (الآية
[العنكبوت: 46]
/ 72 - فيه: عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْة النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقَالَ لَهُمْ: (أَلا تُصَلُّونَ) ؟ فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ
اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ
(10/376)
أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ يَرْجِعْ
إِلَيْهِ شَيْئًا، وَهُوَ مُدْبِرٌ، يَضْرِبُ فَخِذَهُ،
وَيَقُولُ: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا)
[الكهف: 54] . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ) ،
فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا، بَيْتَ الْمِدْرَاسِ،
فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا
مَعْشَرَ الْيَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) ، قالها
ثلاثًا، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ،
فَقَالَ: (ذَلِكَ أُرِيدُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) ،
قَالَهَا ثلاثًا، فَقَالَ: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ
مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ
شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا
الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) . قال المهلب: الجدال موضوعه
فى اللغة المدافعة، فمنه مكروه، ومنه حسن، فما كان منه
تثبيتًا للحقائق وتثبيتًا للسنن والفرائض، فهو الحسن وما
كان منه على معنى الاعتذار والمدافعات للحقائق فهو
المذموم. وأما قول على فهو من باب المدافعة، فاحتج عليه
النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى: (وَكَانَ
الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . وقال
غيره: وجه هذه الآية فى كتاب الاعتصام أن النبى (صلى الله
عليه وسلم) عرض على على وفاطمة الصلاة فاحتج عليه على
بقوله: إنما أنفسنا بيد الله. فلم يكن له أن يدفع ما دعاه
النبى إليه بقوله هذا بل كان الواجب عليه قبول ما دعاه
إليه، وهذا هو نفس الاعتصام بسنته (صلى الله عليه وسلم) ؛
فلأجل تركه الاعتصام بقبول ما دعاه إليه من الصلاة قال
تعالى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا)
[الكهف: 54] ، ولا حجة لأحد فى ترك أمر الله، وأمر رسوله
بمثل ما احتج به على. وأما حديث أبى هريرة، فموضع الترجمة
منه أن اليهود لما بلغهم النبي (صلى الله عليه وسلم)
(10/377)
ما لزمهم العمل به والإيمان بموجبه قالوا
له: قد بلغت يا أبا القاسم. رادين لأمره فى عرضه عليهم
الإيمان، فبالغ فى تبليغهم، وقال: ذلك أريد. ومن روى (ذلك
أريد) بمعنى: أريد بذلك بيانًا بتكرير التبليغ، وهذه
مجادلة من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل الكتاب بالتى
هى أحسن. وقد اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت
طائفة: هى محكمة، ويجوز مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن
على معنى الدعاء لهم إلى الله والتنبيه على حججه وآياته
رجاء إجابتهم إلى الإيمان وقوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة: 150] ، معناه: إلا الذين
نصبوا للمؤمنين الحرب، فجادلوهم بالسيف حتى يُسلموا أو
يعطوا الجزية. هذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير. وقال ابن
زيد: معناه: ولا تجادلوا أهل الكتاب. يعنى: إذا أسلموا
وأخبروكم بما كان فى كتبهم. إلا بالتى هى أحسن: فى
المخاطبة، إلا الذين ظلموا: بإقامتهم على الكفر فخاطبوهم
بالشر، وقال: وهى محكمة. وقال قتادة: هى منسوخة بآية
القتال.
- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا (وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ
. / 74 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا
رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ، هَلْ بَلَّغَكُمْ؟
فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ
يشهد لك؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَقَالَ رسُول
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (فَيُجَاءُ بِكُمْ
فَتَشْهَدُونَ) ،
(10/378)
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
[البقرة: 143] أى عَدْلا، إلى قوله: (شَهِيدًا) [البقرة:
143] . (معنى هذا الباب) الاعتصام بالجماعة، ألا ترى قوله:
(لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143] ،
ولا يجوز أن يكونوا شهداء غير مقبولى القول، ولما كان
الرسول واجبًا اتباعه وجب اتباع قولهم؛ لأن الله جمع بينه
وبينهم فى قبول قولهم وزكاهم وأحسن الثناء عليهم بقوله:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]
يعنى عدلاً. والاعتصام بالجماعة كالاعتصام بكتاب الله وسنة
رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لقيام الدليل على توثيق الله
ورسوله صحة الإجماع وتحذيرهما من مفارقته بقوله تعالى:
(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى) [النساء: 115] الآية، وقوله: (كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]
الآية. وهاتان الآيتان قاطعتان على أن الأمة لا تجتمع على
ضلال، وقد أخبر الرسول بذلك فهمًا من كتاب الله فقال: (لا
تجتمع أمتى على ضلال) ولا يجوز أن يكون أراد جميعها من
عصره إلى قيام الساعة؛ لأن ذلك لا يفيد شيئًا؛ إذ الحكم لا
يعرف إلا بعد انقراض جميعها، فعلم أنه أراد أهل الحل
والعقد من كل عصر.
(10/379)
- باب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوِ
الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ
عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ، لِقَوله (صلى الله عليه
وسلم) : (مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ
/ 75 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ
النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ أَخَا بَنِي
عَدِيٍّ الأنْصَارِيَّ، إِلَى خَيْبَرَ، وَاسْتَعْمَلَهُ
عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكُلُّ تَمْرِ
خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِى الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ
الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
: (لا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا
هَذَا، وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ
الْمِيزَانُ) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الأحكام وفى
كتاب الاعتصام ومعناه أن الواجب على من حكم بغير السنة
جهلا وغلطًا، ثم تبين له أن سنة الرسول خلاف حكمه فإن
الواجب عليه الرجوع إلى حكم السنة وترك ما خالفها امتثالا
لأمره تعالى بوجوب طاعته وطاعة رسوله ألا يحكم بخلاف سنته،
وهذا هو نفس الاعتصام بالسنة، وقد تقدم فيه، وأن الرسول
أمر برد هذا البيع فى البيوع. وقوله: (وكذلك الميزان)
معناه: وكذلك ما يوزن أن يباع مثلا بمثل مثل ما يكال.
(10/380)
- باب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ
فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ
/ 76 - فيه: عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِذَا
حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ
أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ
فَلَهُ أَجْرٌ) . قال ابن المنذر: وإنما يكون الأجر للحاكم
المخطئ إذا كان عالمًا بالاجتهاد والسنن، وأما من لم يعلم
ذلك فلا يدخل فى معنى الحديث، يدل على ذلك ما رواه الأعمش،
عن سعيد ابن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : (القضاة ثلاثة: قاضيان فى
النار، وقاض فى الجنة، فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم، فذلك
فى النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك فى
النار، وقاض قضى بالحق، فذلك فى الجنة) . قال ابن المنذر:
إنما يؤجر على اجتهاده فى طلب الصواب لا على الخطأ، ومما
يؤيد هذا قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ)
[الأنبياء: 78] الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم
داود. وذكر أبو التمام المالكى أن مذهب مالك أن الحق فى
واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك فى جميع أقاويل
المتخلفين وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه
سأل مالكًا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب وليس الحق
فى جميع أقاويلهم. قال أبو بكر ابن الطيب: اختلفت الروايات
عن أئمة الفتوى فى هذا الباب كمالك وأبى حنيفة والشافعى:
فأما مالك، فالمروى عنه منعه المهدى من حمله الناس على
العمل والفتيا بما فى الموطأ، وقال له: دع الناس يجتهدون
وظاهر هذا إيجابه على كل مجتهد القول بما يؤديه الاجتهاد
إليه، ولو رأى أن الحق فى قوله فقط، أو قطع عليه لكان
الواجب عليه
(10/381)
المشورة على السلطان بالعمل به، ويبعد أن
يعتقد مالك أن كل مجتهد مأمور بالحكم والفتيا باجتهاده،
وإن كان مخطئًا فى ذلك، وذكر عن أبى حنيفة والشافعى
القولين جميعًا. واحتج من قال: إن الحق فى واحد من أقاويل
المجتهدين بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الحاكم
فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . قالوا: وهذا
نص على أن فى المجتهدين وفى الحاكمين مخطئًا ومصيبًا،
قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدى إلى كون الشىء حلالا
حرامًا وواجبًا ندبًا ويلزم الحاكم اعتقاد كونه حلالا إذا
رأى ذلك بعض أهل الاجتهاد، وحرامًا إذا رأى ذلك غيره، وأن
تكون الزوجة محللة محرمة، والمال ملك الإنسان وغير ملك له
إذا اختلف فى ذلك أهل الاجتهاد. واحتج كل من قال: كل مجتهد
مصيب، فقالوا: اتفق الكل من الفقهاء على أن فرض كل عالم
الحكم والفتيا بما أداه الاجتهاد إليه، وما هو الحق عنده
وفى غالب ظنه، وأنه حرام عليه أن يفتى ويحكم بقول مخالفه،
ولو كان فى الأقاويل المختلف فيها ما هو خطأ وخلاف دين
الله لم يجز أن تجمع الأمة على أن فرض القائل به؛ لأن
إجماعها على ذلك إجماع على خطأ، وقد نهى الله عنه وشرع
خلافه. ولو جاز أن يكون أحدهما مخطئًا لأدى ذلك إلى أن
الله تعالى أمر أحدهما بإصابة عين الباطل، وفى هذا القولُ
بأن الله أمر بالباطل، وإذا فسد هذا مع كونه مأمورًا
بالاجتهاد وجب كونه بفتياه ممتثلا أمر ربه وطائعًا له
ومصيبًا عند الله، فثبت أن الحق مع كل واحد منهما بدليل
قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء)
[الأعراف: 28] ، ومع قيام الدليل على أن طاعة البارى إنما
كانت طاعة لأمره بها كما أن المعصية كانت معصية لنهيه
عنها.
(10/382)
وقد أجاب الشافعي عن هذا الحديث فى الرسالة
بنحو هذا فقال: لو كان فى الاجتهاد خطأ وصواب فى الحقيقة
لم يجز أن يثاب على أحدهما أكثر من الآخر؛ لأن الثواب لا
يجوز فيما لا يسوغ ولا فى الخطأ الموضوع إثمه عنا. وقال
ابن الطيب: هذا الخبر يدل على أن كل مجتهد مصيب أولى
وأقرب؛ لأن المخطئ لحكم الله والحاكم بغيره مع الأمر له به
لا يجوز أن يكون مأجورًا على الحكم بالخطأ بل أقصى حالاته
أن يكون إثمه موضوعًا عنه فأما أن يكون بمخالفة حكم الله
مأجورًا فإنه باطل باتفاق، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد
جعله مأجورًا، فدل ذلك على أن هذا ليس بخطأ فى شىء من
الأحكام وجب عليه ولزمه الحكم به. ويحتمل أن يكون معناه
إذا اجتهد فى البحث والطلب للنص فأصابه وحكم بموجبه فله
أجران: أحدهما على البحث والطلب، والآخر على الحكم بموجبه،
وأراد بقوله: (إن حكم فأخطأ) أى: أخطأ الخبر، بأن لم يبلغه
مع الاجتهاد فى طلبه، ثم حكم باجتهاده المخالف لحكم النص
كان مخطئًا للنص ومصيبه لا محالة فى الحكم؛ لأن الحكم
بالاجتهاد عند ذلك هو فرضه. ولهذا كان يقول عمر عندما كان
يبلغه الخبر: لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولم يقل له أحد
من الصحابة: لو قضيت فيه برأيك ولم يبلغك الخبر لكنت بذلك
عاصيًا، ولم أردت أن تقضى بالرأى وهذا الخبر كان موجودًا،
فدل إمساك الكل عن ذلك أن فرض الحاكم والمجتهد الحكم
والفتيا برأيه، وإن خالف موجب الخبر، فإذا بلغه تغيرَ عند
ذلك فرضُه ولزمه الحكم بموجبه. ولا نقول: إن كل مجتهد مصيب
إلا فى الفروع ومسائل الاجتهاد
(10/383)
التي يجوز للعامى فيها التقليد، وأما القول
بوجوب الصلوات الخمس والصيام والحج وكل فرض يثبت العمل به
بالتواتر والاتفاق فأصل من أصول الدين الذى يحرم خلافه
كالتوحيد والنبوة وما يتصل بها.
- باب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْكَامَ
النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَتْ ظَاهِرَةً، وَمَا
كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) وَأُمُورِ الإسْلامِ
/ 77 - فيه: أَبُو مُوسَى أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى
عُمَرَ، فَوَجَدَهُ مَشْغُولا، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ
أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا
لَهُ، فَدُعِىَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا
صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا،
قَالَ: فَأْتِنِى عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ
لأفْعَلَنَّ بِكَ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ
الأنْصَارِ، فَقَالُوا: لا يَشْهَدُ إِلا أَصَاغِرُنَا،
فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، فَقَالَ: قَدْ كُنَّا
نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: خَفِىَ عَلَىَّ هَذَا
مِنْ أَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَلْهَانِى
الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ. / 78 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،
إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ
الْحَدِيثَ عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَاللَّهُ
الْمَوْعِدُ، إِنِّى كُنْتُ امْرًَا مِسْكِينًا أَلْزَمُ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى،
وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ
بِالأسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ
الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَالَ:
(مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى،
ثُمَّ يَقْبِضْهُ، فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ
مِنِّى) ، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً، كَانَتْ عَلَىَّ،
فَوَالَّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا نَسِيتُ شَيْئًا
سَمِعْتُهُ مِنْهُ. هذا الباب يرد به على الرافضة وقوم من
الخوارج زعموا بأن أحكام
(10/384)
النبي وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا
سبيل إلى العمل بما لم ينقل نقل تواتر، وقولهم فى غاية
الجهل بالسنن وطرقها، فقد صحت الآثار أن أصحاب النبى (صلى
الله عليه وسلم) أخذ بعضهم السنن من بعض ورجع بعضهم إلى ما
رواه غيره عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وانعقد الإجماع
على القول بالعمل بأخبار الآحاد، وبطل قول من خرج عن ذلك
من أهل البدع، هذا أبو بكر الصديق على مكانه لم يعلم النص
فى الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة والمغيرة بالنص فيها،
فرجع إليه، وأخذ عمر بن الخطاب بما رواه عبد الرحمن بن عوف
فى حديث الوباء، فرجع إليه، وكذلك أخذ أيضًا عمر بما رواه
أبو موسى فى دية الأصابع، فرجع إليه وأخذ أيضًا عمر بما
رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فى دية الجنين، ورجع
عمر إلى أبى موسى وأبى سعيد فى الاستئذان، وابن عمر يحكى
عن رافع بن خديج النهى عن المخابرة فرجع إليه، والصحابة
ترجع إلى قول عائشة: (إذا التقى الختانان وجب الغسل)
وأيضًا ترجع إليها فى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان
يصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وأبو موسى يرجع
إلى حديث ابن مسعود فى ابنة وابنة ابن وأخت وهذا الباب
أكثر من أن يحصى.
- باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) حُجَّةً لا مِنْ غَيْرِه
/ 79 - فيه: ابْن الْمُنْكَدِرِ، رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِاللَّهِ، يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ
الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّى
سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ (صلى
الله عليه وسلم) .
(10/385)
قال المؤلف: ترك النكير من النبى (صلى الله
عليه وسلم) حجة وسنة يلزم أمته العمل بها لا خلاف بين
العلماء فى ذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز
أن يرى أحدًا من أمته يقول قولا أو يفعل فعلا محظورًا
فيقره عليه لأن الله تعالى فرض عليه النهى عن المنكر، فإذا
كان كذلك علم أنه لا يرى أحدًا عمل شيئًا فيقره عليه إلا
وهو مباح له، وثبت أن إقرار النبى (صلى الله عليه وسلم)
عمر على حلفه أن ابن صياد الدجال إثبات أنه الدجال، وكذلك
فهم جابر بن عبد الله من يمين عمر. فإن اعترض بما روى من
قول عمر للنبي: دعنى أضرب عنقه. فقال: (إن يكن هو فلن تسلط
عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) فهذا يدل على شكه
(صلى الله عليه وسلم) فيه، وترك القطع عليه أنه الدجال.
قيل: عن هذا جوابان: أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا الشك منه
(صلى الله عليه وسلم) كان متقدمًا ليمين عمر أنه الدجال،
ثم أعلمه الله أنه الدجال فلذلك ترك إنكار يمينه عليه
لتيقنه بصحة ما حلف عليه. الوجه الآخر: أن الكلام وإن خرج
مخرج الشك فقد يجوز أن يراد به التيقن والقطع كقوله:
(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] ،
وقد علم تعالى أنه لا يقع منه الشرك، وإنما خرج منه هذا
(صلى الله عليه وسلم) على المتعارف عند العرب فى تخاطبها.
قال الشاعر: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل بين النقا آأنت أم
أم سالم
(10/386)
فأخرج كلامه مخرج الشك مع كونه غير شاك فى
أنها ليست بأم سالم، وكذلك خرج كلامه (صلى الله عليه وسلم)
مخرج الشك لطفًا منه بعمر فى صرفه عن عزمه على قتله، وقد
ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر
قال: لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه
قد طفت وهى خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت: أنشدك
الله يا ابن صياد، متى طفت عينك؟ قال: لا أدرى والرحم.
فقلت: كذبت، لا تدرى وهى فى رأسك؟ قال: فمسحها ونخر ثلاثًا
فزعم اليهودي أني ضربت بيدي على صدره وقلت له: أخسأ فلن
تعدو قدرك، فذكرت ذلك لحفصة فقالت: اجتنب هذا الرجل، فإنا
نتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها. فإن قيل: هذا كله
يدل على الشك فى أمره. قيل: إن وقع الشك فى أنه الدجال
الذى يقتله عيسى ابن مريم (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يقع
الشك فى أنه أحد الدجالين الذين أنذر بهم النبي (صلى الله
عليه وسلم) من قوله: (إن بين يدى الساعة دجالين كذابين
أزيد من ثلاثين) فلذلك لم ينكر على عمر يمينه والله أعلم؛
لأن الصحابة قد اختلفوا فى مسائل: فمنهم من أنكر على
مخالفة قوله، ومنهم من سكت عن إنكار ما خالف اجتهاده
ومذهبه، فلم يكن سكوت من سكت رضا بقول مخالفه، إذ قد يجوز
أن يكون الساكت لم يبين له وجه الصواب فى المسألة وأخرها
إلى وقت آخر ينظر فيها، وقد يجوز أن يكون سكوته ليبين
خلافها فى وقت آخر إذا كان ذلك أصلح فى المسألة. فإن اعترض
أن سكوت البكر حجة عليها.
(10/387)
قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدم؛ لأن من شرط
كون سكوتها حجة عليها تقديم الإعلام لها بذلك؛ فسكوتها بعد
الإعلام أنه لازم لها رضا منها وإقرار.
- باب الأحْكَامِ الَّتِى تُعْرَفُ بِالدَّلائِلِ وَكَيْفَ
مَعْنَى الدِّلالَةِ وَتَفْسِيرُهَا؟
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَمْرَ
الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ،
فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] ،
وَسُئِلَ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: (لا آكُلُهُ، وَلا
أُحَرِّمُهُ) ، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) الضَّبُّ، فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ
بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ. / 80 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ
سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. . .) ، الحديث وَسُئِلَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ:
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةَ
الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ () . / 81 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ
امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ
الْحَيْضِ، كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ؟ قَالَ: (تَأْخُذِينَ
فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِينَ بِهَا) ، قَالَتْ:
كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
(تَوَضَّئِى) ، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا؟ قَالَ:
(تَوَضَّئِينَ بِهَا) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَرَفْتُ
الَّذِى يُرِيدُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
فَجَذَبْتُهَا إِلَىَّ فَعَلَّمْتُهَا. / 82 - وفيه: ابْن
عَبَّاس، أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِىِّ
- عليه السلام - سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا،
(10/388)
فَدَعَا بِهِنَّ النَّبيُِّ - عليه السلام
- فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَتَرَكَهُنَّ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّ
حَرَامًا مَا أُكِل عَلَى مَائِدَتِهِ، وَلا أَمَرَ
بِأَكْلِه) . / 83 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِيُّ -
عليه السلام -: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلا،
فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا،
وَلْيَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ) ، وَإِنَّهُ أُتِىَ بِبَدْرٍ،
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِى طَبَقًا، فِيهِ خَضِرَاتٌ
مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ عَنْهَا،
فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ:
(قَرِّبُوهَا) ، فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ
كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ:
(كُلْ، فَإِنِّى أُنَاجِى مَنْ لا تُنَاجِى) . وعَنِ ابْنِ
وَهْبٍ: بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ. / 84 - وفيه: جُبَيْرَ
بْنَ مُطْعِمٍ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيّ - عليه
السلام - وَكَلَّمَتْهُ بِشَىْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ،
فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ
أَجِدْكَ؟ قَالَ: (إِنْ لَمْ تَجِدِينِى فَأْتِى أَبَا
بَكْرٍ) . زَادَ الْحُمَيْدِىُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
سَعْدٍ، كَأَنَّهَا تَعْنِى الْمَوْتَ. قال المهلب وغيره:
هذا كله بيِّن فى جواز القياس والاستدلال وموضع الاستدلال
على أن فى الحمر أجرًا قوله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] ، فحمل
(صلى الله عليه وسلم) الآية على عمومها استدلالا بها. وأما
استدلال ابن عباس أن الضب حلال على مائدته (صلى الله عليه
وسلم) بحضرته، ولم ينكره ولا منع منه بقوله: (ولا أحرمه) .
فيحتمل أن يكون استدلالا لا نصًا لاحتمال قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (ولا أحرمه) الندب إلى ترك أكله، فلما أكل
بحضرته استدل ابن عباس بذلك على أنه لم يحرمه ولا ندب إلى
تركه، ويحتمل أن يكون نصًا؛ لأن قوله: (ولا أحرمه) فلا
يتضمن الندب إلى ترك أكله فيكون نصًا في تحليله.
(10/389)
وأما حديث الحائض فهو استدلال صحيح؛ لأن
السائلة لم تفهم غرض النبي (صلى الله عليه وسلم) حين أعرض
عن ذكر موضع الأذى والدم حياء منه (صلى الله عليه وسلم)
ولم تدر أن التتبع لأثر الدم بالحرقة سمى توضؤًا ففهمت ذلك
عائشة من إعراضه فهو استدلال صحيح. وأما حديث جابر فى
الثوم والبصل فهو نص منه (صلى الله عليه وسلم) على جواز
أكله بقوله: (كل، فإنى أناجى من لا تناجى) . وأما حديث
المرأة فهو استدلال صحيح استدل النبى بظاهر قولها: فإن لم
أجدك. أنها أرادت الموت، فأمرها بإتيان أبى بكر. قيل له:
قد يمكن أنه اقترن بسؤالها إن لم أجدك؟ حالة من الأحوال،
وإن لم يكن نقلها دلته (صلى الله عليه وسلم) على مرادها،
فوكلها إلى أبى بكر، وفى هذا دليل على استخلاف أبى بكر،
وقد أمر الله عباده بالاستدلال والاستنباط من نصوص الكتاب
والسنة وفرض ذلك على العلماء القائمين به.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ
/ 85 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ، سَمِعَ مُعَاوِيَةَ،
يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ
كَعْبَ الأحْبَارِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ
هَؤُلاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو
عَلَيْهِ الْكَذِبَ. / 86 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،
قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ
بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ
لأهْلِ الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : (لا تُصَدِّقُوا
(10/390)
أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ،)
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ
إِلَيْكُمْ) [العنكبوت: 46] الآيَةَ) . / 87 - وفيه: ابْن
عَبَّاس، قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ
عَنْ شَىْءٍ وَكِتَابُكُمِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى رسوله
(صلى الله عليه وسلم) أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا
لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا
بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ؛ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، أَلا
يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ
مَسْأَلَتِهِمْ؟ لا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ
رَجُلا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.
قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسألوا أهل
الكتاب عن شئ) إنما هو فى الشرائع لا تسألوهم عن شرعهم
فيما لا نعرفه من شرعنا لنعمل به؛ لأن شرعنا مكتف وما لا
نص فيه عندنا ففى النظر والاستدلال ما يقوم الشرع منه.
وأما سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، وما جاء به نبينا
(صلى الله عليه وسلم) من الأخبار عن الأمم السالفة فلم ننه
عنه. فإن قيل: فقد أمر الله رسوله بسؤال أهل الكتاب فقال
تعالى: (فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا
إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن
قَبْلِكَ) [يونس: 94] . قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدم من
النهى عن سؤالهم؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن شاكًا
ولا مرتابًا، وقال أهل التأويل: الخطاب للنبى (صلى الله
عليه وسلم) والمراد به غيره من الشكاك كقوله تعالى: (يَا
أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء)
[الطلاق: 1] ، وتقديره: إن كنت أيها السامع فى شك مما
أنزلنا على نبينا. كقولهم: إن كنت ابنى فبرنى. وهو يعلم
أنه ابنه.
(10/391)
فإن قيل: فإذا كان المراد بالخطاب غير
النبى (صلى الله عليه وسلم) فكيف يجوز سؤال الذين يقرءون
الكتاب مع جحدهم النبوة؟ ففيه قولان: أحدهما: سل من آمن من
أهل الكتاب كابن سلام، وكعب الأخبار. عن ابن عباس والضحاك،
ومجاهد وابن زيد. الثانى: سلهم عن صفة النبى (صلى الله
عليه وسلم) المبشر به فى كتبهم، ثم انظر ما يوافق تلك
الصفة.
- بَاب النَهْىِ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلا مَا تُعْرَفُ
إِبَاحَتُهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ: حِينَ
أَحَلُّوا: أَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ
وَقَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ
أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا
عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
/ 88 - فيه: جَابِر، أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) فِى الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ
عُمْرَةٌ، فَقَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ، فَلَمَّا
قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ
نَحِلَّ، وَقَالَ: (أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنَ
النِّسَاءِ) ، قَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ،
وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ:
لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلا
خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا،
فَنَأْتِى عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْىَ،
قَالَ: وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا،
فَقَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قَدْ
عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ
وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلا هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا
تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى
مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ) ، فَحَلَلْنَا،
وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. / 89 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ
الْمُزَنِىُّ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) :
(صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ) قَالَ فِى
الثَّالِثَةِ: (لِمَنْ شَاءَ) ، كَرَاهِيَةَ أَنْ
يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً.
(10/392)
/ 90 - وفيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِيّ
(صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، مَا
ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ،
فَقُومُوا عَنْهُ) . / 91 - وفيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا
حُضِرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ وَفِى
الْبَيْتِ رِجَالٌ منهِمْ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ،
قَالَ: (هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا
بَعْدَهُ) ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: إِنَّ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) غَلَبَهُ الْوَجَعُ،
وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ،
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ
تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا قَالَ
عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالاخْتِلافَ
عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قُومُوا
عَنِّى) . قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ
بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ
أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ
اخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ. اختلف العلماء فى هذا الباب
فذكر ابن الباقلانى، عن الشافعى أن النهى عنده على التحريم
والإيجاب وقاله كثير من الناس، قال الجمهور من أصحاب مالك
وأبى حنيفة والشافعى وجميع أهل الظاهر: النهى عن الشىء يدل
على فساد المنهى عنه. قال المؤلف: وهذا يدل على أنه عندهم
على التحريم والإيجاب، وكذلك الأمر عند الدهماء من الفقهاء
وغيرهم موضوع لإيجاب المأمور وحتمه إلا أن يقوم الدليل على
أنه ندب، وحكى أبو تمام عن مالك أن الأمر عنده على الوجوب،
وإلى هذا ذهب البخارى فى هذا الباب إلى أن النهى والأمر
على الوجوب إلا ما قام الدليل على خلاف ذلك فيه، وذهبت
الأشعرية إلى أن النهى لا يقتضى التحريم؛ بل يتوقف فيه إلى
أن يرد الدليل. قال ابن الطيب: وقال هذا فريق من الفقهاء.
قال: وقال
(10/393)
كثير من أصحاب الشافعي: إن الأمر موضوع
للندب إلى الفعل فإن اقترن به ما يدل على كراهية تركه من
ذم أو عقاب كان واجبًا، وقال به كثير من الفقهاء، واستشهد
عليه الشافعى بقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوْا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ) [البقرة: 282] ، وأمثاله مما ورد الأمر به
على سبيل الندب. قال ابن الطيب: وقد دل بعض كلامه على أن
مذهبه الوقف. وقال أبو الحسن الأشعرى وكثير من الفقهاء
والمتكلمين: إنه محتمل للأمرين. قال ابن الطيب: وهذا الذى
نقول به. قال غيره: والحجة للجماعة أن النهى على التحريم
أنه موجب اللغة ومقتضاها، فإن من فعل ما نهى عنه استحق اسم
العصيان؛ لأنه لا ينهى إلا عن قبيح قبل النهى، وعما هو له
كاره، وقد فهمت الأمة تحريم الزنا، ونكاح المحرمات، والجمع
بين الأختين، وتحريم بيع الغرر، وبيع ما لم يقبض بمجرد نهى
الله تعالى ونهى رسوله عن ذلك لا شىء سواه. قال أبو
التمام: وأما الحجة لوجوب الأمر فإن الله تعالى أطلق
أوامره فى كتابه ولم يقرنها بقرينة، وكذلك فعل النبى (صلى
الله عليه وسلم) فعلم أن إطلاق الأمر يقتضى وجوبه، ولو
افتقر إلى قرينة لقرنت به. والعرب لا تعرف القرائن، وإنما
هو شىء أحدثه متأخرو المتكلمين فلا يجوز أن يقال: إن لفظ
الأمر لا تأثير له فى اللغة وأنه يحتاج إلى قرينة، وقد قال
تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] ، فوجب بهذا الوعيد حمل
الأمر على الوجوب. وحجة الذين قالوا بالوقف وطلب الدليل
على المراد بالأمر أن الأمر قد يرد على معان، فالواجب أن
ينظر فإن وجد ما يدل على غير الواجب حمل عليه، وإلا فظاهره
الوجوب؛ لأن قول القائل: افعل
(10/394)
لا يفهم منه لاتفعل ولا افعل إن شئت، إلا
أن يصله بما يعقل به التخيير، فإذا عدم ذلك وجب تنفيذ
الأمر، واحتجوا على وجوب طلب الدليل والقرينة على المراد
بالأمر، فقالوا: اتفق الجميع على جنس الاستفهام عن معنى
الأمر غذا ورد هل هو على الوجوب أو الندب؟ ولو لم يصلح
استعماله فيه لقبح الاستفهام عنه؛ لأنه لا يحسن أن يستفهم
هل أريد باللفظ ما لا يصلح إجراؤه عليه إذا لا يصلح إذا
قال القائل: رأيت إنسانًا. أن يقال له: هل رأيت إنسانًا أو
حمارًا. وحسن أن يقال له: أذكرًا رأيت أم أنثى لصلاح وقوعه
عليهما. وقد ثبت قبح الاستفهام مع القرائن الدالة بالمحتمل
من اللفظ، وإنما يسوغ الاستفهام مع التباس الحال وعدم
القرائن الكاشفة عن المراد. قال المؤلف: وما ذكر البخارى
فى هذا الباب من الآثار يبطل هذا القول؛ لأنه (صلى الله
عليه وسلم) حين أمرهم بالحل وإصابة النساء بين لهم أن أمره
إياهم بإصابة النساء ليس على العزم، ولولا بيانه ذلك لكانت
إصابتهم للنساء واجبة عليهم وكذلك بين لهم (صلى الله عليه
وسلم) بنهيه النساء عن اتباع الجنائز أنه لم يكن نهى عزم
ولا تحريم، ولولا بيانه ذلك لفهم من النهى بمجرده التحريم،
وكذلك بين لهم بالقيام عن القراءة عند الاختلاف ليس على
الوجوب؛ لأنه أمرهم بالائتلاف على ما دل عليه القرآن
وحذرهم الفرقة. فإذا حدثت شبهة توجب المنازعة فيه أمرهم
بالقيام عن الاختلاف ولم يأمرهم بترك قراءة القرآن إذا
اختلفوا فى تأويله لإجماع الأمة على قراءة القرآن لمن فهمه
ولمن لم يفهمه، فدل أن قوله: (قوموا
(10/395)
عنه) على وجه الندب لا على وجه التحريم
للقراءة عند الاختلاف. وكذلك رآى عمر فى ترك كتاب رسول
الله لهم حين غلبه الوجع من أجل تقدم العلم عنده وعند
جماعة المؤمنين أن الدين قد أكمله الله، وأن الأمة قد
اكتفت بذلك، فلا يجوز أن يتوهم أن هناك شيئًا بقى على
النبى تبليغه فلم يبلغه لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)
[المائدة: 67] ، وبقوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ
بِمَلُومٍ) [الذاريات: 54] ، وقد أنبأنا الله أنه أكمل به
الدين فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
[المائدة: 3] . وإذا ثبت هذا بأن قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (هلموا اكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده) محمول على
ما أشار به عمر بأنه قول من قد غلبه الوجع وشغل بنفسه،
واكتفى بما أخبر الله تعالى به من إكمال الدين، وبأن بهذا
مقدار علم عمر وتبريزه على ابن عباس فكل أمر لله تعالى
وللرسول لم يكن واجبًا على العباد قد جاء معه من بيان
النبى (صلى الله عليه وسلم) بتصريح أو بدليل ما فهم به أنه
على غير اللزوم. وقد فهم الصحابة ذلك من فحوى خطابه (صلى
الله عليه وسلم) وكل أمر عرى عن دليل يخرجه عن الوجوب، وجب
حمله على الوجوب؛ إذ لو كان مراد الله به غير الوجوب لبينه
النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته، فوجب أن يكون ما عرى من
بيانه (صلى الله عليه وسلم) أنه على غير الوجوب غير مفتقر
إلى طلب دليل أو قرينة أن المراد به الوجوب؛ لقيام لفظ
الأمر بنفسه، وكذلك ما عرى من نهيه (صلى الله عليه وسلم)
من دليل
(10/396)
يخرجه عن التحريم وجب حمله على التحريم
كحكم الأمر سواء، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. ووقع فى
بعض الأمهات فى هذا الباب النهى عن التحريم وهو غلط من
الناسخ والصواب فيه باب النهى على التحريم يعنى أن النهى
محمول على التحريم إلا ما علمت إباحته على حديث أم عطية.
- باب قَوله تَعَالَى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)
[الشورى: 38] ) وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ (
وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ،
لِقَوْلِهِ: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)
[آل عمران: 159] فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه
وسلم) لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَشَاوَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ،
فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لأمَتَهُ
وَعَزَمَ، قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ
بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: لا يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ
يَلْبَسُ لأمَتَهُ، فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ،
وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ
الإفْكِ عَائِشَةَ، فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ
الْقُرْآنُ، فَجَلَدَ الرَّامِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ
إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ
اللَّهُ. وَكَانَتِ الأئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) يَسْتَشِيرُونَ الأمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ فِى الأمُورِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَأْخُذُوا
بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ
لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ اقْتِدَاءً
بِالنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ
قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ
تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ
حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا
قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّى
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا
وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ تَابَعَهُ
بَعْدُ عُمَرُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى
مَشُورَةٍ؛ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) فِى الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ
الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ
وَأَحْكَامِهِ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ
أَصْحَابَ مَشُورَةِ
(10/397)
عُمَرَ كُهُولا كَانُوا، أَوْ شُبَّانًا،
وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. / 92 - فيه:
عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا،
وَدَعَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلِيًا،
وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ
يَسْأَلُهُمَا، وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِى فِرَاقِ أَهْلِهِ،
فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ بِالَّذِى يَعْلَمُ مِنْ
بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَأَمَّا عَلِىٌّ فَقَالَ: لَمْ
يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا
كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. . . الحديث.
اختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه أن يشاور
أصحابه، فقالت طائفة: أمر الله أن يشاورهم فى مكائد الحروب
وعند لقاء العدو تطييبًا لنفوسهم وتألفًا لهم على دينهم
وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله قد أغناه
عن رأيهم بوحيه. روى هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق.
وقال آخرون: إنما أمر بمشورتهم فيما لم يأته فيه وحى،
ليبين لهم صواب الرأى. روى ذلك عن الحسن البصرى والضحاك
قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم،
وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشورة من الفضل. قال الحسن:
وما شاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم. وقال آخرون: إنما
أمره الله بمشاورة أصحابه مع غناه عنهم بتدبيره تعالى له
وسياسته إياه؛ ليستن به من بعده ويقتدوا به فيما ينزل بهم
من النوازل. قال سفيان الثورى: وقد سن رسول الله الاستشارة
فى غير موضع، استشار أبا بكر وعمر فى أسارى بدر، واستشار
أصحابه فى يوم الحديبية.
(10/398)
وأما قوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159] قال قتادة:
أمر الله نبيه إذا عزم على أمر أن يمضى فيه ويتوكل على
الله. قال المهلب: وامتثل هذا النبى (صلى الله عليه وسلم)
فقال: (لا ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله)
أى: ليس ينبغى له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض التوكل الذى
شرط الله مع العزيمة، فلبسه لأمته دال على العزيمة، وفى
أخذ النبى (صلى الله عليه وسلم) بما أمره الله من الرأى
بعد المشورة حجة لمن قال من الفقهاء أن الأنبياء يجوز لهم
الاجتهاد فيما لا وحى عندهم فيه. وقد تقدم بيان ذلك قبل
هذا. وفيه من الفقه: أن للمستشير والحاكم أن يعزم من الحكم
على غير ما قال به مشاوره إذا كان من أ (صلى الله عليه
وسلم) ل الرسوخ فى العلم، وأن يأخذ بما يراه كما فعل النبى
(صلى الله عليه وسلم) فى مسألة عائشة فإنه شاور عليًا
وأسامة، فأشار عليه أسامة بإمساكها، وأشار عليه على
بفراقها، فلم يأخذ بقول أحدهما وتركها عند أهلها حتى نزل
القرآن فأخذ به، وكذلك فعل أبو بكر الصديق فإنه شاور
أصحابه فى مقاتلة من منع الزكاة، وأخذ بخلاف ما أشاروا به
عليه من ترك قتالهم لما كان عنده متضحًا من قول النبى (صلى
الله عليه وسلم) : (إلا بحقها) وفهمه هذه النكتة مع ما
يعضدها من قوله: (من غير دينه فاقتلوه) . وأما قول
البخارى: فكان الأمة بعد النبى (صلى الله عليه وسلم)
يستشيرون الأمناء من أهل العلم، فبذلك تواصى العلماء
والحكماء. قال سفيان الثورى: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى
والأمانة ومن يخشى الله، فإذا أشار أحد برأى سأله: من أين
قاله؟ فإن اختلفوا أخذ بأشبههم قولا بالكتاب والسنة، ولا
يحكم بشىء حتى يتبين له حجة يجب الحكم بها.
(10/399)
وقول البخاري: فإذا وضح الكتاب والسنة
يعنى: إن وجد فيهما نص لم يتعدوه، وإن لم يوجد نص وسعهم
الاجتهاد. وقال الشافعى: وإنما يؤمر الحاكم بالمشورة؛ لأن
المشير ينبهه لما يغفل عنه ويدله من الأخبار على ما يجهله،
فأما أن يقلد مشيرًا فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو الحسن بن القابسى: قوله:
فجلد الرامين لها. لم يأت فيه بإسناد وذكره غير مسندًا
وقوله: فسمع منهما. يعنى: فسمع قول على وأسامة على
اختلافهما فيه. وقوله: لم يلتفت إلى تنازعهم. يعنى: عليًا
وأسامة، وأراد: تنازعهما. وأظن الألف سقطت من الكتّاب.
(10/400)
كِتَاب التَّوْحِيدِ والرد على الجهمية
وغيرهم
- باب مَا جَاءَ فِى دُعَاءِ النَّبِيِّ - عليه السلام -
أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام،
بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فقَالَ لَهُ: (إِنَّكَ
تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ
أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ
تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى
يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا،
فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ
زَكَاةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ،
فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ،
فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ)
. / 2 - وفيه: مُعَاذ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى
الْعِبَادِ) ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،
قَالَ: (أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،
أَتَدْرِى مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) . /
3 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا
يَقْرَأُ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) [الإخلاص: 1]
يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ
الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا
لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) .
(10/401)
/ 4 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -
عليه السلام - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ
يَقْرَأُ لأصْحَابِهِ فِى صَلاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ: بِقُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَرُوا ذَلِكَ
لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (سَلُوهُ لأىِّ
شَىْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ) ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأنَّهَا
صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا،
فَقَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ
اللَّهَ يُحِبُّهُ) . قال المؤلف: أمر الله تعالى نبيه
بدعاء العباد إلى دينه وتوحيده ففعل ما ألزمه من ذلك، فبلغ
ما أمره بتبليغه وأنزل عليه: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا
أَنتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات: 54] ، ووجه ذكر حديث قل هو
الله أحد فى هذا الباب؛ لأنها سورة تشتمل على توحيد الله
وصفاته الواجبة له وعلى نفى ما يستحيل عليه من أنه لم يلد
ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد وتضمنت ترجمة هذا الباب أن
الله واحد وأنه ليس بجسم؛ لأن الجسم ليس بشىء واحد بل هو
أشياء كثيرة مؤلفة، ففى نفس الترجمة الرد على الجهمية فى
قولها أنه تعالى جسم. والدليل على استحالة كونه جسمًا أن
الجسم موضوع فى اللغة للمؤلف المجتمع، وذلك محال عليه
تعالى؛ لأنه لو كان كذلك لم ينفك من الأعراض المتعاقبة
عليه الدالة بتعاقبها عليه على حدثها لفناء بعضها عند مجئ
أضدادها، وما لم ينفك من المحدثات فمحدث مثلها، وقد قام
الدليل على قدمه تعالى، فبطل كونه جسمًا.
(10/402)
- باب قَوله تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا
فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء: 110]
/ 5 - فيه: جَرِير، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ) . / 6 -
وفيه: أُسَامَة، جَاءَ النَّبِىِّ، النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى
ابْنِهَا فِى الْمَوْتِ، فَقَالَ: (ارْجِعْ إِلَيْهَا،
فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا
أَعْطَى، وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى،
فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) ، فَأَعَادَتِ
الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا،
فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَامَ مَعَهُ
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ
الصَّبِىُّ إِلَيْهِ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا
فِى شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ
جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا
يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . غرضه فى
هذا الباب إثبات الرحمة وهى صفة من صفات ذاته لا من صفات
أفعاله، والرحمن وصف به نفسه تعالى وهو متضمن لمعنى الرحمة
كتضمن وصفه لنفسه بأنه عالم وقادر وحى وسميع وبصير ومتكلم
ومريد للعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام
والإرادة، التى جميعها صفات ذاته لا صفات أفعاله، لقيام
الدليل على أنه تعالى لم يزل ولا يزال حيًا عالمًا قادرًا
سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا، ومن صفات ذاته الغضب
والسخط، والمراد برحمته تعالى إرادته لنفع من سبق فى علمه
أنه ينفعه ويثنيه على أعماله، فسماها رحمة، والمراد بغضبه
وسخطه إرادته لإضرار من سبق فى علمه إضراره وعقابه على
ذنوبه فسماها غضبًا وسخطًا،
(10/403)
ووصف نفسه بأنه راحم ورحيم ورحمن وغاضب
وساخط بمعنى أنه مريد لما تقدم ذكره. وإنما لم يعرف بعض
العرب الرحمن من أسماء الله تعالى لأن أسماءه كلها واجب
استعمالها ودعاؤه بها سواء؛ لكون كل اسم منها راجعًا إلى
ذات واحدة، وهو البارى تعالى وإن دل كل واحد منها على صفة
من صفاته تعالى يختص الاسم بالدلالة عليها، وأما الرحمة
التى جعلها الله فى قلوب عباده يتراحمون بها فهى من صفات
أفعاله، ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) قد وصفها بأن الله
خلقها فى قلوب عباده، وجعله لها فى القلوب خلق منه تعالى
لها فيها، وهذه الرحمة رقة على المرحوم، والله تعالى أن
يوصف بذلك.
3 - باب قَول تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ
ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58]
/ 7 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ
اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ
وَيَرْزُقُهُمْ) . قال المؤلف: تضمن هذا الباب صفتين لله
تعالى: صفة فعل، وصفة ذات. فصفة الفعل ما تضمنه اسمه الذى
أجراه تعالى عليه وهو قوله تعالى: (الرَّزَّاقُ (والصفة
الرزق، والرزق فعل من أفعاله لقيام الدليل على استحالة
كونه تعالى فيما لم يزل رازقًا، إذ رازق يقتضى مرزوقًا،
والبارى تعالى مذ كان ولا مرزوق، فمحال كونه فاعلا للرزق
فيما لم يزل،
(10/404)
فثبت أن ما لم يكن ثم كان محدث مخلوق،
فرزقه إذًا صفة من صفات أفعاله، وأما وصفه بأنه الرزاق فلم
يزل البارى واصفًا لنفسه بأنه الرزاق، ومعنى ذلك أنه سيرزق
إذا خلق المرزوقين، وأما صفة الذات فالقوة، والقوة والقدرة
اسمان مترادفان على معنى واحد، والبارى تعالى لم يزل
قادرًا قويًا ذا قدرة وقوة، وإذا كان معنى القوة معنى
القدرة، فالقدرة لم تزل موجودة قائمة به موجبة له حكم
القادرين. وقوله تعالى: (الْمَتِينُ (: الثابت الصحيح
الوجود، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحد أصبر
على أذىً سمعه من الله ترك المعاجلة بالنقمة والعقوبة، لا
أن الصبر منه معناه كمعناه منا، كما أن رحمته تعالى لمن
يرحمه ليس معناها معنى الرحمة منا؛ لأن الرحمة منا رقة
وميل طبع إلى نفع المرحوم، والله عز وجل يتعالى عن وصفه
بالرقة وميل الطبع؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) ليس بذى طبع
وإنما ذلك من صفات المحدثين. وقوله: (على أذى سمعه) معناه:
أذى لرسله وأنبيائه والصالحين من عباده لاستحالة تعلق أذى
المخلوقين به تعالى؛ لأن الأذى من صفات النقص التى لا تليق
بالله إذ الذى يلحقه العجز والتقصير على الانتصار ويصبر
جبرًا هو الذى يلحقه الأذى على الحقيقة، والله تعالى لا
يصبر خبرًا وإنما يصبر تفضلا، والكناية فى الأذى راجعة إلى
الله والمراد بها أنبياؤه ورسله؛ لأنهم جاءوا بالتوحيد لله
تعالى ونفى الصاحبة والولد عنه، فتكذيب الكفار لهم فى
إضافة الولد له تعالى أذى لهم ورد
(10/405)
لما جاءوا به، فلذلك جاز أن يضاف الأذى فى
ذلك إلى الله تعالى إنكارًا لمقالتهم وتعظيمًا لها؛ إذ فى
تكذيبهم للرسل فى ذلك إلحاد فى صفاته تعالى، ونحوه قوله
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
[الأحزاب: 57] ، تأويله الذين يؤذون أولياء الله وأولياء
رسوله، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فى الإعراب،
والمحذوف مراد، نحو قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف:
82] ، يعنى أهل القرية. وقد تضمن هذا الباب الرد على من
أنكر أن لله صفة ذات هى قدرة وقوة لاعتقادهم أنه قادر
بنفسه لا بقدرة، والله تعالى قد نص على أن له قدرة بخلاف
ما تعتقد القدرية من أنه قوى بنفسه لا بقوة. وفيه: رد على
المجسمة القائسين للغائب على الشاهد قالوا: كما لم نجد
قويا ولا ذا قوة فيما بيننا إلا جسمًا كذلك الغائب حكمه
حكم الشاهد، فيقال لهم: إن كنتم على الشاهد تقولون وعليه
تعتمدون فى قياس الغائب عليه، فكذلك لم تجدوا جسمًا إلا ذا
أبعاض وأجزاء مؤلفة، فيصح عليه الموت والحياة والعلم
والجهل والقدرة والعجز، فاقضوا على أن الغائب حكمه حكم هذا
فإن مروا عليه ألحدوا وأبطلوا الحدوث والمحدث، وإن أبوه
نقضوا استدلالهم ولا انفكاك لهم من أحد الأمرين. ومن هذه
الجهة دخل على المعتزلة الخطأ فى قياسهم صفات الله على
صفات المخلوقين، والله تعالى لا يشبه المخلوقين؛ لأنه
الخالق ولا خالق له وقد أعلمنا الله تعالى بالحكم فى ذلك
فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) [الشورى: 11] ، فكيف
يشبه الخالق بالمخلوق، ومن ليس كمثله شىء كمن له مثل من
الأشياء المخلوقة؟ وهذا ما لا يخفى فساده وإبطاله.
(10/406)
4 - باب قَوله تَعَالَى: (عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) [الجن:
26]
وَ) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (و)
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ () وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى
وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ () إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ
السَّاعَةِ (قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ
عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا. / 8 -
فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
: (مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا
اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأرْحَامُ إِلا
اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلا اللَّهُ، وَلا
يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِى الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلا اللَّهُ،
وَلا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللَّهُ،
وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ) . /
9 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ
مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ
كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ)
[الأنعام: 103] وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ
الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا يَعْلَمُ
الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ (. غرضه فى هذا الباب إثبات علم
الله تعالى صفة لذاته؛ إذ العلم حقيقة فى كون العالم
عالمًا، إذ من المحال كون العالم عالمًا ولا علم له، وكذلك
سائر أوصافه المقتضية للصفات التى هى حقيقة فى ثبات
الأوصاف المجرأة عليه تعالى من كونه حيًا وقادرًا وما شابه
ذلك خلافًا لما تقوله القدرية من أنه عالم قادر حى بنفسه
لا بقدرة ولا بعلم ولا بحياة، ثم إذا ثبت كون علمه قديمًا
وجب تعلقه بكل معلوم على حقيقته، وقد نص البارى تعالى على
إثبات
(10/407)
علمه بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان: 34] ، وبقوله تعالى:
(أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] ، وبقوله: (وَلاَ
تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ) [فاطر: 11] ، وبقوله: (إِلَيْهِ
يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) [فصلت: 47] ، فمن دفع علم
البارى تعالى الذى هو حقيقة فى كونه عالمًا، وزعم أنه عالم
بنفسه لا بعلم فقد رد نصه تعالى على إثبات العلم الذى هو
حقيقة فى كونه عالمًا ولا خلاف بين رد نصه على أنه ذو علم
وبين نصه على أنه عالم، فالنافى لعلمه كالنافى لكونه
عالمًا، واجتمعت الأمة على أن من نفى كونه عالمًا فهو
كافر، فينبغى أن يكون من نفى كونه ذا علم كافرًا؛ إذ من
نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، والقول فى العلم بهذا كاف
من القول به فى جميع صفاته، وتضمن هذا الباب الرد على هشام
بن الحكم ومن قال بقوله من أن علمه تعالى محدث وأنه لا
يعلم الشىء قبل وجوده. وقد نبه الله تعالى على خلاف هذا
بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)
[لقمان: 34] الآية، وجميع الآيات الواردة بذلك، وأخبرنا
النبى (صلى الله عليه وسلم) بمثل ذلك فى حديث ابن عمر
وعائشة فلا يلتفت إلى من رد نصوص الكتاب والسنة.
5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ
المهيمن (
/ 10 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّى خَلْفَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَنَقُولُ: السَّلامُ
عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، وَلَكِنْ قُولُوا:
التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. .
.) الحديث.
(10/408)
غرضه في هذا الباب إثبات اسمًا من أسماء
الله، فالسلام اسم من أسمائه، ومعناه: السالم من النقائص
والآفات الدالة على حدث من وجدت به متضمن لمعنى السلامة من
ذلك كله، وقوله تعالى: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ
السَّلاَمِ) [يونس: 25] ، مختلف فى تأويله فقيل: معناه:
والله يدعو إلى دار السلامة، يعنى: الجنة؛ لأنه لا آفة
فيها ولا كدر فالسلام على هذا والسلامة بمعنى، كاللذاذ
واللذاذة، والرضاع والرضاعة وقيل: السلام اسم لله تعالى
قال قتادة: الله السلام وداره الجنة. فأما المؤمن فهو على
وجهين: أحدهما: أن يكون صفة ذات، وهو أن يكون متضمنًا
لكلام الله الذى هو تصديقه لنفسه فى أخباره ولرسله فى صحة
دعواهم الرسالة عليه، وتصديقه هو قوله، وقوله صفة من صفات
ذاته لم يزل موجودًا به حقيقة فى كونه قائلا متكلمًا
مؤمنًا مصدقًا. والوجه الثانى: أن يكون متضمنًا صفة فعل هى
أمانة رسله وأوليائه المؤمنين به من عقابه وأليم عذابه من
قولك: آمنت فلانًا من كذا، وأمنته منه، كأكرمت وكرمت،
وأنزلت ونزلت، ومنه قوله تعالى: (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)
[قريش: 4] . وأما المهيمن: فهو راجع إلى معنى الحفظ
والرعاية، وذلك صفة فعل له تعالى، وأما منعه (صلى الله
عليه وسلم) من القول السلام على الله. فقد بين (صلى الله
عليه وسلم) معنى ذلك بقوله: (إن الله هو السلام) ويستحيل
أن يقال السلام على الله؛ لاستحالة القول الله على الله،
وعلى قول من جعل السلام بمعنى السلامة يستحيل أيضًا أن
يدعو له
(10/409)
بالسلامة. وقوله: قولوا: التحيات لله. . .
إلى آخر الحديث فهو صرف منه (صلى الله عليه وسلم) لهم بما
يستحيل الكلام به إلى ما يحسن، ويجمل لما فى ذلك من
الإقرار لله بملك كل شىء، وشرع ما شرعه لعباده مما أوجبه
عليهم من الصلوات المفروضة، وندبه إليهم من النوافل
والتقرب إليه بالدعاء والكلام الطيب الذى وصف تعالى أنه
يصعد إليه بقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] . والتحية فى كلام العرب الملك.
قال الشاعر: ولكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية يعنى:
الملك. فمعنى قوله: التحيات لله: الملك لله.
6 - بَاب قَوله تَعَالَى: (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس: 2]
/ 11 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام. / 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) : (يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِى السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ
يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ) ؟ .
قوله تعالى: (مَلِكِ النَّاسِ (هو داخل فى معنى ما أمرهم
به النبى (صلى الله عليه وسلم) من قولهم: التحيات لله.
يريد: الملك لله، وكأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أمرهم
بذلك من حيث أمره الله بالاعتراف بذلك بقوله تعالى: (قُلْ
(يا محمد: (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ
(ووصفه
(10/410)
تعالى لنفسه أنه ملك الناس على وجهين:
أحدهما: أن يكون راجعًا إلى صفة ذاته وهو القدرة؛ لأن
الملك بمعنى القدرة. والثانى: أن يكون راجعًا إلى صفة فعل
وذلك بمعنى: القهر والصرف لهم عما يريدونه إلى ما أراده
تعالى، فتكون أفعال العباد ملكًا له تعالى لا قدرة لهم
عليها. وفيه إثبات اليمين لله صفة من صفات ذاته ليست
بجارحة خلافًا لما تعتقده الجسمية فى ذلك لاستحالة جواز
وصفه بالجوارح والأبعاض، واستحالة كونه جسمًا، وقد تقدم
القول فى حل شبههم فى ذلك.
7 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ () سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ) [الصافات: 180] ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ (وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ
وَصِفَاتِهِ
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَقُولُ
جَهَنَّمُ: قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ) . وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، آخِرُ
أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ
اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، لا وَعِزَّتِكَ، لا
أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) . وَقَالَ أَيُّوبُ: وَعِزَّتِكَ لا
غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ. / 13 - فيه: ابْن عَبَّاس،
قَالَ - عليه السلام -: (أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لا
إِلَهَ إِلا أَنْتَ الَّذِي لا تَمُوتُ، وَالإنْسُ
وَالْجِنُّ يَمُوتُونَ) .
(10/411)
/ 14 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (يُلْقَى فِى النَّار) وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِى بَعْضُهَا إِلَى
بَعْضٍ، فتَقُولُ: قَدْ قَدْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ،
وَلا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ
لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ أفَضْلَ الْجَنَّةِ) . قال
المؤلف: فالكلام فى هذا الباب على معنى العزيز الحكيم
والعزة والحكمة والقدم. أحدهما: أن تكون صفة ذات بمعنى
القدرة والعظمة. والثانى: أن تكون صفة فعل بمعنى القهر
لمخلوقاته والغلبة لهم، ولهذا صح إضافته تعالى اسمه إليها
فقال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) [الصافات:
180] ، والمربوب مخلوق لا محالة. والحكيم متضمن لمعنى
الحكمة، وهو على وجهين أيضًا: صفة ذات تكون بمعنى العلم،
والعلم من صفات ذاته. والثانى: أن تكون بمعنى الإحكام
للفعل والإتقان له، وذلك من صفات الفعل وإحكام الله
لمخلوقاته فعل من أفعاله، وليس إحكامه لها شيئًا يزيد على
ذواتها؛ بل إحكامه لها جعلها نفسًا وذاتًا ما ذهب إليه أهل
السنة إن خلق الشىء وإحكامه هو نفس الشىء، وإلا أدّى القول
بأن الإحكام والخلق غير المحكم المخلوق إلى التسلسل إلى ما
لا نهاية له، والخروج إلى ما لا نهاية له إلى الوجود
مستحيل، فبان الفرق بين الحالف بعزة الله
(10/412)
التي هي صفة ذاته، وبين من حلف بعزة الله
التي هي صفة فعله أنه حانث فى حلفه بصفة الذات دون صفة
الفعل؛ بل هو منهى عن الحلف بصفة الفعل كقول الحالف: وحق
السماء وحق زيد؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان
حالفًا فليحلف بالله) وقد تضمن كتاب الله العزة التى هى
بمعنى القوة، وهو قوله: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) [يس: 14]
، أى قوينا والعزة التى هى الغلبة والقهر وهو قوله:
(وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ) [ص: 23] ، أى غلبنى وقهرنى.
وأما القدم فلفظ مشترك يصلح استعماله فى الجارحة وفيما ليس
بجارحة فيستحيل وصفه تعالى بالقدم الذى هو الجارحة؛ لأن
وصفه بذلك يوجب كونه جسمًا والجسم مؤلف حامل للصفات
وأضدادها غير متوهم خلوه منها، وقد بان أن المتضادات لا
يصح وجودها معًا، وإذا استحال هذا ثبت وجودها على طريق
التعاقب، وعدم بعضها عند مجئ بعض وذلك دليل على حدوثها،
وما لا يصح خلوه من الحوادث فواجب كونه محدثًا، فثبت أن
المراد بالقدم فى هذا الحديث خلق من خلقه تقدم علمه أنه لا
تملأ جهنم إلا به. وقال النضر بن شميل: القدم هاهنا: هم
الكفار الذين سبق فى علم الله أنهم من أهل النار وأنه تملأ
النار بهم حتى ينزوى بعضها إلى بعض من الملئ لتضايق أهلها
فتقول: قط قط، أى امتلأت. ومنه قوله تعالى: (وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ
رَبِّهِمْ) [يونس: 2] ، أى سابقة صدق. وقال ابن الأعرابى:
القدم: هو التقدم فى الشرف والفضل. وقد قد، وقط قط، بمعنى:
(10/413)
حسبي أي: كفاني، ويقال: قدني، وقطني بمعنى
ذلك، واختلفت الرواية فى قوله: فيسكنهم أفضل الجنة، وروى
فضل الجنة، فمن روى فضل الجنة فهو أحسن يعنى: ما فضل منها
وبقى. ومن روى أفضل الجنة فمعناه: فاضل الجنة. وفضل وفاضل
الجنة عائدان إلى معنى واحد، وليس بمعنى أفضل من كذا الذى
هو بمعنى المفاضلة قال تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)
[الروم: 27] ، على أحد التأويلين. قال الشاعر: لعمرك لا
أدرى وإنى لأوجل يريد: لوجل.
8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ (
/ 15 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) يَدْعُو مِنَ اللَّيْلِ: (اللَّهُمَّ لَكَ
الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، لَكَ
الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمَنْ
فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ، قَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ،
وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ،
وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ
آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ،
وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى
مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ،
وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِى لا إِلَهَ لِى غَيْرُكَ) .
وَقَالَ سُفْيَان مرة: أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ
الْحَقُّ. قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
بِالْحَقِّ) [الأنعام: 73] ، كقوله:
(10/414)
خالق السموات والأرض بالحق أى: أبدعهما
وأنشأهما بالحق. وقوله: (رب السموات والأرض) كقوله: خالق
السموات والأرض، وأما قوله: (أنت الحق) . فعلى معنيين:
يكون اسمًا راجعًا إلى ذاته فقط لقوله (صلى الله عليه
وسلم) : أنت الحق. أى: أنت الموجود الثابت حقًا الذى لا
يصح عليك تغيير ولا زوال. والمعنى الثانى: يكون الحق
راجعًا إلى صفة ذاته؛ لقوله: خلق السموات والأرض بالحق أى
قال لها: كونى فكانت. وقوله صفة من صفات ذاته عند أهل الحق
والسنة على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله. وأما قوله:
(أنت نور السموات والأرض) وقوله: (اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور: 35] ، فواجب صرفه عن
ظاهره لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يوصف بأنه نور،
والمعنى: أنت منور السموات والأرض بأن خلقتهما دلالة
لعبادك على وجودك وربوبيتك بما فيهما من دلائل الحدث
المفتقرة إلى محدث فكأنه نور السموات والأرض بالدلائل عليه
منهما وجعل فى قلوب الخلائق نورًا يهتدون به إليه، وقال
ابن عباس: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)
[النور: 35] ، أى هاديهن، وعنه أيضًا مدبرهما، ومدبر ما
فيهما وتقديره: الله نور السموات والأرض. وأما قيم السموات
والأرض، فالكلام فيه من وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى
العالم بمعلوماته، فتكون صفة ذات.
(10/415)
والوجه الثاني: أن يكون بمعنى الحفظ
لمخلوقاته، والرزق للحى منها، فتكون صفة فعل.
9 - باب قوله تَعَالَى: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
بَصِيرًا) [النساء: 58]
وَقَالَتْ عَائِشَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ
سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا (الآية
[المجادلة: 1] . / 16 - فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، فَكُنَّا
إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ: (ارْبَعُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا
غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. . .) الحديث. / 17
- وفيه: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى
صَلاتِى، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ
نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا
أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً، إِنَّكَ
أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . / 18 - وفيه: عَائِشَةَ،
قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ جِبْرِيلَ
نَادَانِى، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ
قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ) . غرضه فى هذا الباب أن
يرد على من يقول: إن معنى سميع بصير. معنى عليم لا غير؛
لأن كونه كذلك يوجب مساواته تعالى للأعمى والأصم الذى يعلم
أن السماء خضراء ولا يراها، وأن فى العالم أصواتًا ولا
يسمعها ولا شك أن من سمع الصوت وعلمه ورأى خضرة السماء
وعلمها أدخل فى صفات الكمال ممن انفرد بإحدى هاتين
الصفتين، وإذا استحال كونه أحدنا ممن لا آفة به أكمل
(10/416)
صفة من خالقه وجب كونه تعالى سميعًا بصيرًا
مفيدًا أمرًا زائدًا على ما يفيده كونه عليما. ثم نرجع إلى
ما تضمنه كونه سميعًا بصيرًا، فنقول: هما منضمنتان لسمع
وبصر بهما كان سميعًا بصيرًا كما تضمن كونه عالمًا علمًا
لأجله كان عالمًا وكما أنه لا خلاف بين إثباته عالمًا وبين
إثباته ذا علم، فإن من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر،
وهذا مذهب أهل السنة والحق. ومعنى قول عائشة: (الحمد لله
الذى وسع سمعه الأصوات) . أدرك سمعه الأصوات، لا أنه اتسع
سمعه لها؛ لأن الموصوف بالسعة يصح وصفه بالضيق بدلا منه
والوصفان جميعًا من صفات الأجسام، وإذا استحال وصفه بما
يؤدى إلى القول بكونه جسمًا، وجب صرف قولها عن ظاهره إلى
ما اقتضى صحته الدليل، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) . نفى الآفة المانعة من
السمع، ونفى الجهل المانع من العلم وفى هذا القول منه (صلى
الله عليه وسلم) دليل على أنه لم يزل سميعًا بصيرًا
عالمًا، ولا تصح أضداد هذه الصفات عليه. وقوله: قريبًا.
إخبار عن كونه عالمًا بجميع المعلومات لا يعزب عنه شىء،
ولم يرد بوصفه بالقرب قرب المسافة؛ لأن الله تعالى لا يصح
وصفه بالحلول فى الأماكن؛ لأن ذلك من صفات الأجسام والدليل
على ذلك قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ
إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) [المجادلة: 7] الآية معناه: إلا
هو عالم بهم وبجميع أحوالهم ما يسرُّونه وما يظهرونه،
ومعنى حديث أبى بكر فى هذا الباب هو أن
(10/417)
دعاءه الله بما علمه النبي - عليه السلام -
يقتضى اعتقاد كونه تعالى سميعا لدعائه ومجازيًا له عليه.
- باب قَوله تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ) [الأنعام:
65]
/ 19 - فيه: جَابِر، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الاسْتِخَارَةَ فِى
الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ
الْقُرْآنِ، يَقُولُ: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ،
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ،
ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ
بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ
مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ، وَلا أَقْدِرُ
وَتَعْلَمُ، وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. .
.) . القادر والقدرة من صفات الذات، وقد تقدم فى باب قوله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] ، أن القوة والقدرة بمعنى
واحد، وكذلك القادر والقوى بمعنى واحد، وذكر الأشعرى أن
القدرة والقوة والاستطاعة معناها واحد، لكن لم يشتق لله
تعالى من الاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع
لعدم التوقيف بذلك، وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة
فقال: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) [المائدة: 112] ، فإنما
هو خبر عنهم ولا يقتضى إثباته صفة له تعالى فدل على ذلك
أمران: تأنيبه لهم عقيب هذا، وقراءة من قرأ: (هل تستطيع
ربك) بمعنى: هل تسطيع ربك، وقد أخطئوا فى الأمرين جميعًا
لاقتراحهم على نبيهم وخالقه ما لم يأذن لهم فيه ربهم
تعالى.
(10/418)
- بَاب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَقَوله
تَعَالَى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ)
[الأنعام: 110]
/ 20 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) أَكْثَرُ مَا يَحْلِفُ: لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ)
. قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، ومر فيه أن
تقليبه لقلوب عباده صرفه لها من إيمان إلى كفر، ومن كفر
إلى إيمان وذلك كله مقدور لله تعالى وفعل له، بخلاف قول
القدرية.
- باب قول النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ
لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلا وَاحِدًامَنْ أَحْصَاهَا
دَخَلَ الْجَنَّةَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (ذُو الْجَلالِ) [الرحمن: 27] ذو
الْعَظَمَةِ) الْبَرُّ (اللَّطِيفُ. / 21 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا
وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) .)
أَحْصَيْنَاهُ (حَفِظْنَاهُ. الإحصاه فى اللغة على وجهين:
أحدهما بمعنى: الإحاطة بعلم عدد الشىء وقدره، ومنه قوله
تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا) [الجن: 28] وهذا
قول الخليل. والثانى: بمعنى: الإطاقة له، كقوله تعالى:
(عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ) [المزمل: 20] ، أى لن تطيقوه.
وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (استقيموا ولن تحصوا)
أى: لن تطيقوا العمل بكل ما لله عليكم، والمعنى فى ذلك كله
متقارب، وقد يجوز أن يكون المعنى: من أحصاها عددًا
(10/419)
وحفظًا وعلمًا بما يمكن علمه من معانيها
المستفاد منها علم الصفات التى تفيدها؛ لأن تحت وصفنا له
بعالم إثبات علم له تعالى لم يزل موصوفًا به لا كالعلوم،
وتحت وصفنا له بقادر إثبات قدرة لم يزل موصوفًا بها لا
كقدرة المخلوقين، وكذلك القول فى الحياة وسائر صفاته، وفيه
وجه آخر يحتمل أن يكون الإحصاء المراد فى هذا الحديث والله
أعلم العمل بالأسماء والتعبد لمن سمى بها. فإن قال قائل:
كيف وجه إحصائها عملا؟ قيل له: وجه ذلك أن ما كان من أسماء
الله تعالى مما يجب على المؤمن الاقتداء بالله تعالى فيه
كالرحيم والكريم والعفو والغفور والشكور والتواب وشبهها،
فإن الله تعالى يحب أن يرى على عبده حلاها ويرضى له
معناها، والاقتداء به تعالى فيها. فهذا العمل بهذا النوع
من الأسماء وما كان منها مما لا يليق بالعبد معانيها كالله
والأحد والقدوس والجبار والمتعال والمتكبر والعظيم والعزيز
والقوى وشبهها، فإنه يجب على العبد الإقرار بها والتذلل
لها والإشفاق منها، وما كان بمعنى الوعيد كشديد العقاب،
وعزيز ذى انتقام وسريع الحساب وشبهها، فإنه يجب على العبد
الوقوف عند أمره واجتناب نهيه. واستشعار خشية الله تعالى
من أجلها خوف وعيده، وشديد عقابه هذا وجه إحصائها عملا
فهذا يدخل الجنة إن شاء الله، وأخبرنى بعض أهل العلم عن
أبى محمد الأصيلى أنه أشار إلى هذا المعنى غير
(10/420)
أنه لم يشرحه فقال: الإحصاء لأسمائه تعالى
هو العمل بها لا عدّها وحفظها فقط؛ لأنه قد يعدها المنافق
والكافر وذلك غير نافع له. قال المؤلف: والدليل على أن
حقيقة الإحصاء والحفظ فى الشريعة إنما هو العمل قوله (صلى
الله عليه وسلم) فى وصف الخوارج: (يقرءون القرآن لا يجاوز
حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية) فبين أن
من قرأ القرآن ولم يعمل به لم ترفع قراءته إلى الله، ولا
جازت حنجرته، فلم يكتب له أجرها وخاب من ثوابها كما قال
تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10] ، يعنى أن
العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى. وكما قال
ابن مسعود لرجل: إنك فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ
فيه حدود القرآن وتضيع فيه حروفه، وسيأتى على الناس زمان
قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده.
فذم من حفظ الحروف وضيع العمل ولم يقف عند الحدود، ومدح من
عمل بمعانى القرآن وإن لم يحفظ الحروف، فدل هذا على أن
الحفظ والإحصاء المندوب إليه هو العمل. ويوضح هذا أيضًا ما
كتب به عمر بن الخطاب إلى عماله: إن أهم أموركم عندى
الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها دينه. ولم يرد عمر بحفظها
إلا المبالغة فى إتقان العمل بها من إتمام ركوعها وسجودها
وإكمال حدودها لا حفظ أحكامها وتضييع العمل بها، والله
الموفق.
(10/421)
- باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالاسْتِعَاذَةِ بِهَا
/ 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ
فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ،
وَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ
أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى، فَاغْفِرْ لَهَا،
وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ
عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) . / 23 - وفيه: حُذَيْفَةَ،
كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى
فِرَاشِهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا
وَأَمُوتُ) ، وَإِذَا أَصْبَحَ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ) . / 24 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ،
فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا
الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا،
فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ
لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) . / 25 - وفيه: عَدِىّ،
سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ:
أُرْسِلُ كِلابِى الْمُعَلَّمَةَ؟ قَالَ: (إِذَا
أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ
اللَّهِ، فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ. . .) الحديث. / 26 - وفيه:
عَائِشَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَاهُنَا
أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَا
بِلُحْمَانٍ، لا نَدْرِى أيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا أَمْ لا؟ قَالَ: (اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ
اللَّهِ، وَكُلُوا) . / 27 - وفيه: أَنَس، ضَحَّى
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّى
وَيُكَبِّرُ. / 28 - وفيه: جُنْدَب، أن النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْ ذَبَحَ
قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى،
وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) .
(10/422)
/ 29 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحْلِفُوا
بِآبَائِكُمْ، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
بِاللَّهِ) . غرضه فى هذا الباب أن يثبت أن الاسم هو
المسمى فى الله على ما ذهب إليه أهل السنة، وموضع
الاستدلال منه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (باسمك ربى
وضعت جنبى، وبك أرفعه) وقوله فى حديث حذيفة: (باسمك أحيا
وأموت) ومعناه: بإقدارك إياى على وضع جنبى وضعته، وبإقدارك
إياى على رفعه أرفعه، وبإحيائك أحيا وبإماتتك أموت، فحذف
(صلى الله عليه وسلم) باسمك ربى وضعت جنبى، ثم قال: وبك
أرفعه، فذكر الاسم مرة، ولم يذكره أخرى، فدل أن معنى قوله:
باسمك. معنى قوله: بك؛ إذ لو كان ذكره للاسم يفيد غير ما
يفيد ترك ذكره لتخالف المعنيان، ولوجب أن يكون اسمه غيره
وذلك محال؛ لأن ذلك يؤدى إلى أن يكون قوله (صلى الله عليه
وسلم) : باسمك وضعت جنبى كقوله: بغيرك وضعت جنبى. وقوله:
وباسمك أحيا وأموت: بغيرك أحيا وأموت. وهذا كفر بالله
تعالى. ويكون قوله: وبك أرفعه، وقوله: الحمد لله الذى
أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور يراد به الله فيكون بعض
الدعاء لله وصرف الأمر فيه إليه، ويكون بعض الدعاء وصرف
الأمر فيه إلى غير الله، وهذا كفر صريح لا يخفى، ومما يدل
على أن اسم الله هو قوله سبحانه: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 74] أى سبح ربك العظيم
ونزهه باسمائه الحسنى، ولو كان اسمه غيره لكان الله أمر
نبيه بتنزيه معنى هو غير الله وهذا مستحيل، ومما يدل على
ذلك قوله تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلاَلِ
وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 78] فى قراءة من قرأ) ذو (
(10/423)
وذو وصف الاسم لا شك فيه فإذا قد وصف الاسم
بالجلال والإكرام، وهذا خلاف قول القدرية التى تزعم كون
كلامه محدثًا، وأنه تعالى لم يزل غير ذى اسم ولا صفة حتى
خلق الخلق وخلق كلامه فسماه خلقه بأسماء محدثة وسمى نفسه
بمثلها، وهذا بين الفساد بما قدمناه أنه تعالى لا يجوز أن
يأمر نبيه بتنزيه غيره. فإن قال قائل: فإن قلتم: إن اسم
الله هو هو فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن لله
تسعة وتسعين اسمًا) وكيف تكون الذات الواحدة تسعة وتسعون
شيئًا؟ قالوا: وهذا كفر ممن قال به، فبان من هذا الحديث أن
اسمه غيره. فالجواب: أنه لو كان اسمه غيره لم يأمر نبيه
بتنزيه مخلوق غيره على ما قدمناه، ونرجع إلى تأويل الحديث
فنقول: إن المراد بقوله: تسعة وتسعين اسمًا التسمية؛ لأنه
فى نفسه واحد والاسم يكون بمعنيين يكون بمعنى المسمى،
ويكون بمعنى التسمية التى هى كلامه فالذى بمعنى المسمى
يقال فيه: هو المسمى، والذى بمعنى التسمية لا يقال فيه: هو
المسمى، ولا هو غيره، وإنما لم نقل فيه أيضًا: هو غيره؛
لأن تسميته لنفسه كلام له ولا يقال فى كلامه أنه غيره.
ومعنى الترجمة معنى قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء
الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180] ، فأمر
بدعائه بها ووصفه لها بالحسنى يقتضى نفى تضمن كل اسم منها
نقيض ما يوصف أنه حسن، ونقيض الحسن قبيح
(10/424)
لا يجوز على الله، ومعنى هذا أن عالمًا من
أسمائه يقتضى علمًا ينفى نقيضه من الجهل وقادرًا يقتضى
قدرة تنفى نقيضها من العجز، وحيا يقتضى حياة تنفى ضدها من
الموت، وكذلك سائر صفاته كلها ففائدة، كل واحدة منها خلاف
فائدة الأخرى، فأمر تعالى عباده بالدعاء بأسمائه كلها لما
يتضمن كل اسم منها ويخصه من الفائدة ليجتمع للعباد الداعين
له بجميعها فوائد عظيمة، ويكون معبودًا بكل معنى.
- باب مَا يُذْكَرُ فِى الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِى
اللَّهِ
وَقَالَ خُبَيْبٌ: وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ، فَذَكَرَ
الذَّاتَ بِاسْمِهِ. / 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَشَرَةً، مِنْهُمْ
خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُاللَّهِ
بْنُ عِيَاضٍ، أَنَّ ابْنَةَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ
أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا، اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى
يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ
لِيَقْتُلُوهُ، قَالَ خُبَيْبٌ: مَا أُبَالِى حِينَ
أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ
يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ
ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه
وسلم) أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا.
(10/425)
اعلم أن أسماء الله تعالى على ثلاث أضرب:
ضرب منها يرجع إلى ذاته ووجوده فقط لا إلى معنى يزيد على
ذلك كقولنا: شىء وموجود وذات نفس. والضرب الثانى: يرجع إلى
إثبات معان قائمة به تعالى هى صفات له كقولنا: حى وقادر
وعالم ومريد، يرجع ذلك كله إلى حياة وقدرة وعلم وإرادة؛
لأجلها كان حيا قادرًا عالمًا مريدًا. والضرب الثالث: يرجع
إلى صفات من صفات أفعاله كقولنا: خالق ورزاق ومحيى ومميت،
يرجع بذلك إلى خلق ورزق وحياة وموت، وذلك كله فعل له
تعالى. فأما إثباته ذاتًا وشيئًا ونفسًا فطريقه السمع، وقد
سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) قول خبيب (وذلك فى ذات
الإله) فلم ينكره، فصار طريق العلم به التوقيف من الرسول
(صلى الله عليه وسلم) وذاته هو هى، ومعنى قوله فى ذات
الإله: أى فى دين الله وطاعته، فجميع هذه الأضرب الثلاثة
أسماء لله فى الحقيقة كان منها ما يتضمن صفة ترجع إلى ذاته
أو إلى فعل من أفعاله أم لا، فكل صفة اسم لله تعالى وليس
كل اسم صفة. ومذهب أهل السنة أنه محال أن يقال فى صفات
ذاته أن كل واحدة منها غير الأخرى، كما استحال القول عندهم
بأنها غيره تعالى؛ لأن حد الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع
عدم الآخر، ولما لم يجز على شىء من صفاته عدم إحداهما مع
وجود سائرها استحال وصفها بالتغاير كما استحال وصفه بأنه
غيرها؛ لقيام الدليل على استحالة وجوده تعالى مع عدم
صفاته، التى هى حياته وعلمه وقدرته وسائر وجود بعضها مع
عدم سائرها كالرزق والإحياء والإماتة، وسائر
(10/426)
صفات أفعاله التى تتضمنها أسماء له أطلقها
تعالى على نفسه كرازق وخالق ومحيى ومميت وبديع، وما شاكل
ذلك، فهذه كلها أسماء له تعالى سمى نفسه بها، وتسميته:
قوله، وقوله ليس غيره كسائر صفات ذاته، ومتضمن هذه الأسماء
متغاير على ما ذكرنا وغير له تعالى لقيام الدليل على وجوده
فى أزله مع عدم جميع أفعاله.
- باب قَوله تَعَالَى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
[آل عمران: 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (تَعْلَمُ مَا فِى
نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ (
/ 31 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ
إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ) . / 32 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابِهِ،
وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ
عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى) . /
33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى،
وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى
نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى
مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ
تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ
ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ
إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ
هَرْوَلَةً) . قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل
عمران: 28] ، وقوله: (وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ)
[المائدة: 116] ، وما ذكر فى الأحاديث من ذكر النفس،
فالمراد به إثبات نفس لله، والنفس لفظة تحتمل معانٍ،
والمراد بنفسه تعالى ذاته، فنفسه ليس بأمر يزيد عليه، فوجب
أن تكون نفسه
(10/427)
هي هو، وهذا إجماع، وللنفس وجوه أخر لا
حاجة بنا إلى ذكرها؛ إذ الغرض من الترجمة خلاف ذلك. أما
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحد أغير من الله) . فليس
هذا موضع الكلام فيه، وسيأتى. وأما قوله: (وضع عنده) فعند
فى ظاهر اللغة تقتضى أنها للموضع، والله يتعالى عن الحلول
فى المواضع؛ لأن ذلك من صفات الأجسام إذ الحالّ فى موضع لا
يكون بالحلول فيه بأولى منه بالحلول فى غيره إلا لأمر يخصه
حلوله فيه، والحلول فيه عرض من الأعراض يفنى بمجىء حلول
آخر يحل به فى غير ذلك المكان. والحلول محدث والحوادث لا
تليق به تعالى، لدلالتها على حدث من قامت به فوجب صرف
(عند) عن ظاهرها إلى ما يليق به تعالى، وهو أنه أراد (صلى
الله عليه وسلم) إثبات علمه بإثابة من سبق علمه أنه عامل
بطاعته، وعقاب من سبق علمه بأنه عامل بمعصيته. (وعند) وإن
كان وضعها فى اللغة للمكان فقد يتوسع فيها فتجعل لغير
المكان كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أنا عند ظن عبدى بى)
ولا مكان هناك. وأما قوله: (إن رحمتي تغلب
(10/428)
غضبي) . فقد تقدم أن رحمته تعالى إرادته
لإثابة المطيعين له وغضبه لعقاب العاصين له، وإذا كان ذلك
كذلك كان معنى قوله: (إن رحمتى تغلب غضبى) إن إرادتى ثواب
الطائعين لى هى إرادتى ألا أعذبهم. وهو معنى قوله تعالى:
(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، فإرادته بهم اليسر هى إرادته
ألا يريد بهم العسر، وما كان ما أراد من ذلك بهم، ولم يكن
ما لم يرده فعبر (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المعنى
بقوله: (إن رحمتى تغب غضبى) وتسبق غضبى، فظاهر قوله يفيد
أن رحمته وغضبه معنيان أحدهما غالب للآخر وسابق له، وإذا
ثبت أن إرادته واحدة وصفة من صفات ذاته، وأن رحمته وغضبه
ليستا بمعنى أكثر من إرادته التى هى متعلقة بكل ما يصح
لأكونه مرادًا وجب صرف كلامه عن ظاهره؛ لأن إجراء الكلام
على ظاهره يقتضى حدث إرادته لو كانت له إرادات كثيرة
متغايرة. وقوله: (فى ملأ خير منهم) هذا نص من النبى (صلى
الله عليه وسلم) أن الملائكة أفضل من بنى آدم، وهو مذهب
جمهور أهل العلم وعلى هذا شواهد من كتاب الله منها قوله
تعالى: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا
مِنَ الْخَالِدِينَ) [الأعراف: 20] ، ولا شك أن الخلود
أفضل من الفناء فكذلك الملائكة أفضل من بنى آدم وإلا فلا
يصح معنى الكلام. وأما وصفه تعالى بأنه يتقرب إلى عبده
ووصفه بالتقرب إليه ووصفه بإتيانه هرولة، فإن التقرب
والإتيان والمشى والهرولة محتملة للحقيقة والمجاز، وحملها
على الحقيقة يقتضى قطع المسافات وتواتى الأجسام، وذلك لا
يليق بالله تعالى فاستحال حملها على الحقيقة، ووجب حملها
على المجاز؛ لشهرة ذلك فى كلام العرب، فوجب أن يكون وصف
العبد بالتقرب إليه شبرًا وذراعًا وإتيانه ومشيه معناه:
التقرب إليه بطاعته وأداء مفترضاته، ويكون تقربه تعالى من
عبده قوله تعالى: (أتيته هرولة) أى: أتاه ثوابى مسرعًا.
قال الطبرى: وإنما مثل القليل من الطاعة بالشبر من الدنو
منه
(10/429)
والضعف من الكرامة والثواب بالذراع، فجعل
ذلك دليلا على مبلغ كرامته لمن أكرم عليه مجاوز حده إلى ما
بينه عز وجل. فإن قيل: فما معنى قوله: (إذا ذكرنى فى نفسه
ذكرته فى نفسى؟) قيل: معنى ذلك: وإذا ذكرنى بقلبه مخفيًا
ذلك عن خلقى ذكرته برحمتى وثوابى مخفيًا ذلك عن خلقى حتى
لا يطلع عليه أحد منهم، وإذا ذكرنى فى ملأ من عبادى، ذكرته
فى ملأ من خلقى أكثر منهم وأطيب. قال الطبرى: فإن قيل: أى
الذكرين أعظم ثوابًا الذكر الذى هو بالقلب، أو الذكر الذى
هو باللسان؟ قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن عائشة
أنها قالت: لأن أذكر الله فى نفسى أحب إلىَّ أن أذكره
بلسانى سبعين مرة. وقال آخرون: ذكر الله باللسان أفضل. روى
عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: ما دام قلب الرجل
يذكر الله تعالى فهو فى صلاة، وإن كان فى السوق، وإن تحرك
بذلك اللسان والشفتان فهو أعظم. قال الطبرى: والصواب عندى
أن إخفاء النوافل أفضل من ظهورها لمن لم يكن إمامًا يقتدى
به، وإن كان فى محفل اجتمع أهله لغير ذكر الله أو فى سوق
وذلك أنه أسلم له من الرياء، وقد روينا من حديث سعد بن أبى
وقاص عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خير الرزق
ما يكفى، وخير الذكر الخفى) ولمن كان بالخلاء أن يذكر الله
بقلبه ولسانه؛ لأن شغل جارحتين بما يرضى الله تعالى أفضل
من شغل
(10/430)
جارحة واحدة، وكذلك شغل ثلاث جوارح أفضل من
شغل جارحتين، وكلما زاد فهو أفضل إن شاء الله تعالى.
- باب قَوله تَعَالَى: (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا
وَجْهَهُ) [القصص: 88]
/ 34 - فيه: جَابِر، لَمَّا نَزَلَتْ على النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) [الأنعام:
65] ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)
، فَقَالَ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، قَالَ عليه
السّلام: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، قَالَ: (أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا (، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (هَذَا أَيْسَرُ) . استدلاله من هذه الآية والحديث
على أن لله تعالى وجهًا هو صفة ذاته لا يقال: هو هو، ولا
هو غيره بخلاف قول المعتزلة، ومحال أن يقال: هو جارحة
كالذى نعلمه من الوجوه، كما لا يقال: هو تعالى فاعل وحى
وعالم، كالفاعلين والأحياء والعلماء الذين نشاهدهم، وإذا
استحال قياسه على المشاهدين فالحكم له بحكمهم مع مشاركتهم
له فى التسمية كذلك يستحيل الحكم لوجهه الذى هو صفة ذاته
بحكم الوجوه التى نشاهدها، وإنما لم يجز أن يقال: إن وجهه
جارحة لاستحالة وصفه بالجوارح لما فيها من أثر الصنعة، ولم
يقل فى وجهه أنه هو لاستحالة كونه تعالى وجهًا، وقد أجمعت
الأمة على أنه لا يقال: يا وجه، اغفر لى، ولم يجز أن يكون
وجهه غيره؛ لاستحالة مفارقته له بزمان أو مكان أو عدم أو
وجود، فثبت أن له وجهًا لا كالوجوه؛ لأنه ليس كمثله شىء.
(10/431)
- باب قَوله تَعَالَى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِى) [طه: 39]
يعنِى: تُغَذَّى، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (تَجْرِى
بِأَعْيُنِنَا (/ 35 - فيه: ابْن عُمَرَ، ذُكِرَ
الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ
اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى
عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ
الْعَيْنِ الْيُمْنَى) . / 36 - وفيه: أَنَس، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَعَثَ اللَّهُ
مِنْ نَبِىٍّ إِلا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأعْوَرَ
الْكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ
بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ) .
استدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله صفة سماها عينًا
ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح المعقولة بيننا؛ لقيام
الدليل على استحالة وصفه بأنه ذو جوارح وأعضاء. خلافًا لما
تقوله المجسمة من أنه جسمٌ لا كالأجسام، واستدلوا على ذلك
بهذه الآيات كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه
واليدين، ووصفه لنفسه بالإتيان والمجئ والهرولة فى حديث
الرسول، وذلك كله باطل وكفر من متأوله؛ لقيام الدليل على
تساوى الأجسام فى دلائل الحدث القائمة بها واستحالة كونه
من جنس المحدثات، إذْ المحدث إنما كان محدثًا من حيث هو
متعلق بمحدث أحدثه، وجعله بالوجود أولى منه بالعدم. فإن
قالوا: الدليل على صحة ما نذهب إليه من أنه تعالى جسم قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (إن الله ليس بأعور، وإشارته إلى
عينه بيده، وأن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى) ففى
إشارته إلى عينه بيمينه تنبيه منه على أن عينه كسائر
الأعين.
(10/432)
قلنا: تقدم فى دليلنا استحالة كونه جسمًا؛
لاستحالة كونه محدثًا، وإذا صح ذلك وجب صرف قوله (صلى الله
عليه وسلم) وإشارته إلى عينه إلى معنى يليق به تعالى وهو
نفى النقائص والعور منه، وأنه ليس كمن لا يرى ولا يبصر، بل
هو منتف عنه جميع النقائص والآفات التى هى أضداد السمع
والبصر وسائر صفات ذاته التى يستحيل وصفه بأضدادها؛ إذ
الموصوف بها تارة وأضدادها أخرى محدث مربوب، لدلالة قيام
الحوادث به على محدثه.
- باب قَوله تَعَالَى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر: 24]
/ 37 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا
فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَرَادُوا أَنْ
يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ، وَلا يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ:
(مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
وَقَالَ أَبُو سَعِيد مرة، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلا اللَّهُ
خَالِقُهَا) . الكلام فى معنى قوله تعالى: (الْخَالِقُ (من
وجهين: أحدهما أن يكون بمعنى المبدع والمنشىء لأعيان
المخلوقات، وهذا معنى لا يشاركه فيه أحد من خلقه، لم يزل
الله مسميًا لنفسه خالقًا ورازقًا على معنى أنه سيخلق
وسيرزق، لا على معنى أنه خلق الخلق فى أزله لاستحالة قدم
الخلق. والثانى: أن يكون الخلق بمعنى التصوير، وهذا أمر
يصح مشاركة الخلق فيه له، فالخلق المذكور فى هذا الباب
بمعنى الإبداع والاختراع
(10/433)
لأعيان السموات والأرض، والخلق بمعنى
التصوير فى قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة: 110] ، أى تصور لا تخترع
ومنه قول الشاعر: ولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم
لا يفرى
- باب قَوله تَعَالَى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75]
/ 38 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَجْمَعُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ،
فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى
يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ،
فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَمَا تَرَى النَّاسَ؟ خَلَقَكَ
اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ،
وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى
رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا،
فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكَ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ
الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ
أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ،
فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ،
وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ
إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ
لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا
مُوسَى، عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ
تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ
هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى
أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ
وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى،
فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا
(صلى الله عليه وسلم) ، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِى،
فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ
لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ لَهُ
سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ
(10/434)
اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ
لِى: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ
تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى
بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى
حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ،
فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ، سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى
مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ
مُحَمَّدُ، ن وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ
تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى، بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا
رَبِّى، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا،
فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا
رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ
مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ
تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا،
ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا
بَقِىَ فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ،
وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ، لا
إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ
مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ
قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ
الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ
النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى
قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الْخَيْرِ ذَرَّةً) . / 39 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (يَدُ اللَّهِ مَلأى، لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ
سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ
مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ؟
فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِى يَدِهِ، وَقَالَ: عَرْشُهُ
عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ
وَيَرْفَعُ) . / 40 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ،
عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّه يَقْبِضُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الأرْضَين، فَإِنَّهُ لَم يغض مَا فِى يده،
وَقَالَ: عرشه عَلى الْماء وَبِيَدِهِ الأخْرَى
الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ) . / 41 - وفيه: ابْن
عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّ اللَّهَ
يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرْضَين، وَتَكُونُ
السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا
الْمَلِكُ) . / 42 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِيّ - عليه السلام -: (يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ) .
(10/435)
/ 43 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، أَنَّ
يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، ُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالْخَلائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ:
أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 92] . وَقَالَ
مرة: فَضَحِكَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَعَجُّبًا
وَتَصْدِيقًا لَهُ. استدلاله من قوله تعالى: (لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] ، وسائر أحاديث الباب على
إثبات يدين الله هما صفتان من صفات ذاته ليستا بجارحتين
بخلاف قول المجثمة المثبتة أنهما جارحتان وخلاف قول
القدرية النفاة لصفات ذاته، ثم إذا لم يجز أن يقال: إنهما
جارحتان لم يجز أن يقال: إنهما قدرتان، ولا إنهما نعمتان؛
لأنهما لو كانتا قدرتين لفسد ذلك من وجهين: أحدهما: أن
الأمة أجمعت من بين نافٍ لصفات ذاته، وبين مثبت لها أن لها
تعالى ليس له قدرتان بل له قدرة واحدة فى قول المثبتة، ولا
قدرة له فى قول النافية لصفاته؛ لأنهم يعتقدون كونه قادرًا
لنفسه لا بقدرة والوجه الآخر أن الله تعالى قال لإبليس:
(مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) [ص: 75] ،
قال إبليس مجيبًا له: أنا خير منه. فأخبر بالعلة التى من
أجلها لم يسجد، وأخبره تعالى بالعلة التى لها أوجب عليه
السجود، وهو أن خلقه بيديه، فلو كانت اليد القدرة التى خلق
آدم بها وبها خلق إبليس لم يكن لاحتجاجه
(10/436)
تعالى عليه بأن خلقه بما يوجب عليه السجود
معنى؛ إذ إبليس مشارك لآدم فيما خلقه به تعالى من قدرته،
ولم يعجز إبليس بأن يقول له: أى رب، وأى فضل له علىّ وأنا
خلقتنى بقدرتك كما خلقته؟ ولم يعدل إبليس عن هذا الجواب
إلى أن يقول: أنا خير منه؛ لأنه خلقه من نار وخلق آدم من
طين، فعدول إبليس عن هذا الاحتجاج مع وضوحه دليل على أن
آدم خصه الله تعالى من خلقه بيديه بما لم يخص به إبليس.
وكيف يسوغ للقدرية القول بأن اليد هنا القدرة مع نفيهم
للقدرة؟ وظاهر الآية مع هذا يقتضى يدين، فينبغى على الظاهر
إثبات قدرتين، وذلك خلاف لأمة. ولا يجوز أن يكون المراد
باليدين نعمتين لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق مثله؛ لأن
النعم مخلوقة كلها وإذا استحال كونهما جارحتين، وكونهما
نعمتين، وكونهما قدرتين ثبت أنهما يدان صفتان لا كالأيدى
والجوارح المعروفة عندنا، اختص آدم بأن خلقه بهما من بين
سائر خلقه تكريمًا له وتشريفًا. وفى هذا الحديث دليل على
إثبات شفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل الكبائر من
أمته خلافًا لقول من أنكرها من المعتزلة والقدرية
والخوارج، وهذا الحديث فى غاية الصحة والقوة تلقاه
المسلمون بالقبول إلى أن حدث أهل العناد والرد لسنن
الرسول، وفى كتاب الله تعالى ما يدل على صحة الشفاعة قوله
تعالى إخبارًا عن الكفار؛ إذ قيل لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِى
سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ
الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر: 42 - 47] ، فأخبروا
عن أنفسهم بالعلل التى من أجلها سلكوا فى سقر، ثم قال
تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)
[المدثر: 48]
(10/437)
زجرًا لأمثالهم من الكافرين وترغيبًا
للمؤمنين فى الإيمان لتحصل لهم به شفاعة الشافعين، وهذا
دليل قاطع على ثبوت الشفاعة. فإن عارض الشفاعة معارض بقوله
(صلى الله عليه وسلم) : (من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى
نار جهنم خالدًا، ومن تحسى سمًا. .) الحديث. قيل له: يمكن
الجمع بين هذا الحديث، وحديث الشفاعة بوجوه صحاح: فيجوز أن
يكون فيمن قتل نفسه وأنفذ الله عليه الوعيد بأن خلده فى
النار مدة أكثر من مدة من خرج بالشفاعة، ثم خرج من النار
بعد ذلك مدة بشفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) بما فى
قلبه من الإيمان المنافى للكفر؛ لأن الخلود الأبدى الدائم
إنما يكون فى الكفار الجاحدين وما جاء فى كتاب الله من ذكر
الخلود للمؤمنين كقوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)
[النساء: 93] ، فإنما يراد بالتخليد تطويل المدة عليه فى
العذاب ولا يقتضى التأبيد كما يقتضى خلود الكافرين، ويحتمل
أن يكون تأويل الحديث من قتل نفسه على وجه الاستحلال
والردة فجزاؤه ما ذكر فى الحديث؛ لأن فاعل ذلك كافر لا
محالة، ويشهد لهذا ما قاله قبيصة فى البخارى فى تأويل قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (فسحقًا سحقًا) . قال: هو من
المرتدين. وقد سلمت طائفة من المعتزلة شفاعة الرسول على
الأمة لها ولشهادة ظواهر كتاب الله لها، فقالوا: تجوز
شفاعته (صلى الله عليه وسلم) للتائب من الكبائر، ولمن أتى
صغيرة مع اجتنابه الكبائر أو
(10/438)
مؤمن لا ذنب له لتائب، وهذا كله فاسد على
أصولهم لاعتقادهم أن الله يستحيل منه تعذيب التائب من
كبيرته أو فاعل الصغائر إذا اجتنب الكبائر، أو تأخير ما
استحق الذى لا ذنب له من الثواب؛ لأنه لو عذب من ذكرنا
وأخر ثواب الآخر ولم يوف التائب والمجتنب للكبائر مع فعله
الصغائر ثوابه على أعماله، لكان ذلك خارجًا عن الحكمة
وظالمًا، وذلك من صفات المخلوقين. وإذا كان هذا أصلهم،
فإثباتهم الشفاعة على هذا الوجه لا معنى له فبطل قولهم
ولزمهم الشفاعة على الوجه الذى تقول به أهل السنة والحق،
وهذا بين والحمد لله. وذكر الأنبياء (صلى الله عليه وسلم)
فى حديث الشفاعة لخطاياهم، فإن الناس اختلفوا هل يجوز وقوع
الذنوب منهم؟ فأجمعت الأمة على أنهم معصومون فى الرسالة،
وأنه لا تقع منهم الكبائر، واختلفوا فى جواز الصغائر عليهم
فأطبقت المعتزلة والخوارج على أنه لا يجوز وقوعها منهم،
وزعموا أن الرسل لا يجوز أن تقع منهم ما ينفر الناس عنهم
وأنهم معصومون من ذلك. وهذا باطل لقيام الدليل مع التنزيل
وحديث الرسول: (أنه ليس كل ذنب كفرًا) . وقولهم: إن البارى
تجب عليه عصمة الأنبياء، عليهم السلام، من الذنوب فلا ينفر
الناس عنهم بمواقعهم لها هو فاسد بخلاف القرآن له، وذلك أن
الله تعالى قد أنزل كتابه وفيه متشابه مع سابق علمه أنه
سيكون ذلك سببًا لكفر قوم، فقال تعالى: (فَأَمَّا
الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ) [آل عمران: 7] ، وقال
(10/439)
تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ
آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا
أَنتَ مُفْتَرٍ) [النحل: 101] فكان التبديل الذى هو النسخ
سببًا لكفرهم كما كان إنزاله متشابهًا سببًا لكفرهم، وقال
أهل السنة: جائز وقوع الصغائر من الأنبياء، واحتجوا بقوله
تعالى مخاطبًا لرسوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] فأضاف
إليه الذنب، وقد ذكر الله فى كتابه ذنوب الأنبياء فقال
تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 121] ، وقال
نوح لربه: (إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى) [هود: 45] ، فسأله
أن ينجيه، وقد كان تقدم إليه تعالى فقال: (وَلاَ
تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم
مُّغْرَقُونَ) [هود: 37] ، وقال إبراهيم: (وَالَّذِى
أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ)
[الشعراء: 82] ، وفى كتاب الله تعالى من ذكر خطايا
الأنبياء ما لا خفاء به، وقد تقدم الاحتجاج فى هذه المسألة
فى كتاب الدعاء فى باب قول النبى: (أللهم اغفر لى ما تقدم
وتأخر) ما لم أذكره هاهنا. فإن قال قائل: ما معنى قول آدم:
ولكن ائتوا نوحًا؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
وقد تقدم آدم قبله؟ فالجواب: أن آدم لم يكن رسولا؛ لأن
الرسول يقتضى مرسلا إليه فى وقت الإرسال وهو أهبط إلى
الأرض وليس فيها أحد. فإن قيل: لما تناسل منه ولده وجب أن
يكون رسولا إليهم؟ قيل: إنما أهبط (صلى الله عليه وسلم)
إلى الأرض وقد علمه الله أمر دينه وما يلزمه من طاعة ربه
فلما حدث ولده بعده حملهم على دينه، وما هو
(10/440)
عليه من شريعة ربه، كما أن الواحد منا إذا
ولد له ولد يحمله على سنته وطريقته، ولا يستحق بذلك أن
يسمى رسولا، وإنما سمى نوح رسولا؛ لأنه بعث إلى قوم كفار
ليدعهم إلى الإيمان. وأما حديث الإصبع فإنه لما لم تصح أن
تكون جارحة لما قدمنا من إبطال التجسيم فتأويله ما قال أبو
الحسن الأشعرى: من أن هذا وشبهه مما أثبته الرسول لله
ووصفه به راجع إلى أنه صفة ذات لا يجوز تحديدها ولا
تكييفها. وقال أبو بكر بن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقًا
لله يخلقه يحمله ما حملت الإصبع، ويحتمل أن يكون المراد
بالإصبع: إذا أراد الإخبار عن جريان قدرته عليه فذكر معظم
المخلوقات، وأخبر عن قدرة الله على جميعها معظمًا لشأن
الرب تعالى فى قدرته وسلطانه، فضحك رسول الله كالمتعجب منه
أنه يستعظم ذلك فى قدرته، وأنه ليسير فى جنب ما يقدر عليه،
ولذلك قرأ عليه قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ
قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] ، أى ليس قدره فى القدرة على ما
يخلق على الحد الذى ينتهى إليه الوهم ويحيط به الحد
والحصر؛ لأنه تعالى يقدر على إمساك جميع مخلوقاته على غير
شىء كما هى اليوم، لقوله تعالى: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) [الرعد: 2] . وقوله: (لا
يغيضها) أى: لا ينقصها. وقال أبو زيد: غاض ثمن السلعة أى:
نقص، ومنه قوله تعالى: (وَغِيضَ الْمَاء) [هود: 44] .
(10/441)
وقوله: سحاء. يقال: سح المطر والدمع
وغيرهما سحوحًا وسحا: انصب وسال.
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا أحد
أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ
/ 44 - فيه: الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سَعْد: لَوْ
رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ
غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرسول (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقَالَ: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ،
وَاللَّهِ لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ
مِنِّى، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا
أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ،
وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ،
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ) .
وَقَالَ عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ
عَبْدِالْمَلِكِ: (لا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) .
اختلفت ألفاظ هذا الحديث فروى ابن مسعود، عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) : (لا أحد أغير من الله) ذكره فى آخر كتاب
النكاح، وفى رواية عبيد الله، ورواية ابن مسعود مبينة أن
لفظ الشخص موضوع موضع أحد على أنه من باب المستثنى من غير
جنسه وصفته كقوله تعالى: (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [النساء: 157] ، وليس الظن من
نوع العلم بوجه، وأجمعت الأمة على أن الله لا يجوز أن يوصف
بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به، وقد منعت المجسمة من
إطلاق الشخص عليه مع قولهم: إنه جسم. وأحد لفظ موضوع
للأشتراك بين الله تعالى وبين خلقه، وقد نص الله على تسمية
نفسه
(10/442)
فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
[الإخلاص: 1] ، وقد تقدم فى كتاب النكاح فى باب الغيرة،
معنى الغيرة من الله أنها معنى: الزجر عن الفواحش والتحريم
لها، ومعنى الحديث: أن الأشخاص الموصوفة بالغيرة لا تبلغ
غيرتها غيرة الله وإن لم يكن شخصًا. وقوله: (لا أحد أحب
إليه المدحة من الله) فالمحبة من الله تعالى للمدحة:
إرادته من عباده طاعته وتنزيهه والثناء عليه؛ ليجازيهم على
ذلك. وقوله: (لا أحد أحب إليه العذر من الله) فمعناه ما
ذكر فى قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى:
25] ، فالعذر فى هذا الحديث: التوبة والإنابة.
- باب قوله: (قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ
اللَّهُ) [الأنعام: 19]
فَسَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ شَيْئًا، وَسَمَّى النَّبِىُّ،
عليه السَّلام، الْقُرْآنَ شَيْئًا، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ
صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَالَ: (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا
وَجْهَهُ) [القصص: 88] . / 45 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ،
قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِرَجُلٍ:
(أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ) ؟ قَالَ: نَعَمْ
سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا. قال
عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة: إنما سمى الله نفسه شيئًا
إثباتًا للوجود ونفيًا
(10/443)
للعدم، وكذلك أجرى على كلامه ما أجراه على
نفسه فلم يتسم بالشئ ولم يجعل الشىء من أسمائه، ولكنه دل
على نفسه أنه شىء أكبر الأشياء، إثباتًا للوجود ونفيًا
للعدم، وتكذيبًا للزنادقة والدهرية ومن أنكر ربوبيته من
سائر الأمم فقال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ أَىُّ
شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِى
وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام: 19] ، فدل على نفسه أنه شىء لا
كالأشياء لعلمه السابق أن جهمًا وبشرًا ومن وافقهما
سيلحدون فى أسمائه ويشبهون على خلقه ويدخلونه وكلامه فى
الأشياء المخلوقة فقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ)
[الشورى: 11] ، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته عن الأشياء
المخلوقة بهذا الخبر تكذيبًا لمن ألحد فى كتابه، وشبهه
بخلقه. ثم عدد أسماءه فى كتابه فلم يتسم بالشىء، ولم يجعله
من أسمائه فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لله تسعة
وتسعون اسمًا) ثم ذكر كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بما دل
على نفسه ليعلم الخلق أنه صفة من صفات ذاته فقال تعالى:
(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا
أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ) [الأنعام: 91] ،
فذم الله اليهود حين نفت أن تكون التوراة شيئًا، وقال:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا
أَوْ قَالَ أُوْحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ
شَىْءٌ) [الأنعام: 93] ، فدل أن الوحى شىء بالمعنى، والذم
لمن جحد أن كلامه شىء، فكل صفة من صفاته باسم الشىء، وإنما
أظهره باسم الهدى والنور والكتاب، ولم يقل من أنزل الشىء
الذى جاء به موسى. قال غيره: وتسمية الله نفسه بشىء، يرد
قول من زعم من أهل
(10/444)
البدع لا يجوز أن يسمى الله بشىء وهو قول
الناشىء ونظراته، وقولهم خلاف ما نص الله عليه فى كتابه
وهو القائل: شىء إثبات موجود، ولا شىء نفى. فبان أن
المعدوم ليس بشىء خلافًا لقول المعتزلة من أن المعدمات
أشياء وأعيان على ما تكون عليه فى الوجود، وهذا قول يقتضى
بقائله إلى قدم العالم ونفى الحدث والمحدث؛ لأن المعدومات
إذا كانت على ما تكون عليه فى الوجود أعيانًا لم تكن لقدرة
الله على خلقها وحدثها تعلق، وهذا كفر ممن قال به.
- باب) وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) [هود: 7] )
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 129]
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)
[البقرة: 29] : ارْتَفَعَ،) فَسَوَّاهُنَّ (. خَلَقَهُنَّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (اسْتَوَى (عَلا عَلَى الْعَرْشِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الْمَجِيدُ (الْكَرِيمُ، وَ)
الْوَدُودُ) [البروج: 14] الْحَبِيبُ، يُقَالُ: (حَمِيدٌ
مَجِيدٌ) [هود: 73] كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ
مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ. / 46 - فيه: عِمْرَان، قَالَ:
إِنِّى عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ
جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ، فَقَالَ: (اقْبَلُوا
الْبُشْرَى يَا بَنِى تَمِيمٍ) ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا،
فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ،
فَقَالَ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى، يَا أَهْلَ الْيَمَنِ) ،
إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَبِلْنَا
جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِى الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ
عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: (كَانَ
اللَّهُ، وَلَمْ
(10/445)
يَكُنْ شَىْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ،
وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ) . / 47 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَمِينَ اللَّهِ مَلأى. . .) الحديث (وَعَرْشُهُ عَلَى
الْمَاءِ. . .) الحديث. / 48 - وفيه: أَنَس، جَاءَ زَيْدُ
بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) يَقُولُ: (اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ) ، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ
أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَوَاتٍ. / 49 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ
كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِى
سَبَقَتْ غَضَبِى) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ،
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ،
هَاجَرَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ
الَّتِى وُلِدَ فِيهَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَفَلا نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ، قَالَ: (إِنَّ فِى
الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ
لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا
بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا
سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ
أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ
عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ
الْجَنَّةِ) . / 51 - وفيه: أَبُو ذَرّ، دَخَلْتُ
الْمَسْجِدَ وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ،
فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ،
هَلْ تَدْرِى أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (إِنَّهَا تَذْهَبُ
تَسْتَأْذِنُ فِى السُّجُودِ، يُؤْذَنُ لَهَا،
وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: ارْجِعِى مِنْ حَيْثُ
جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا) ، ثُمَّ قَرَأَ:
(ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا (فِى قِرَاءةِ عَبْدِاللَّهِ.
(10/446)
/ 52 - وفيه: زَيْد، أَرْسَلَ إِلَىَّ
أَبُو بَكْرٍ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ
آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ، أَوْ أَبِى
خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ
غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
[التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةٌ، يعنِى) وَهُو
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (. / 53 - وفيه: ابْن عَبَّاس،
كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عِنْدَ
الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَلِيمُ
الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ،
وَرَبُّ الأرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . / 54 -
وفيه: أَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
قَالَ: (النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ
الْعَرْشِ) . / 55 - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَأَكُونُ أَوَّلَ
مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ) . غرضه فى
هذا الباب إثبات حديث العرش بدليل قوله تعالى: (وَهُو
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 129] ، وبدليل قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم
العرش) فوصفه تعالى بأنه مربوب كسائر المخلوقات ووصفه (صلى
الله عليه وسلم) بأنه ذو أبعاض وأجزاء منها ما سمى قائمة،
والمتبعض والمتجزئ لا محالة جسم، والجسم مخلوق، لقيام
دلائل الحدث به من التأليف خلافًا لما تقوله الفلاسفة أن
العرش هو الصانع الخالق. وأما الاستواء فاختلف الناس فى
معناه: فقالت المعتزلة: إنه بمعنى الاستيلاء والقهر
والغلبة، واحتجوا بقول الشاعر:
(10/447)
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
بمعنى: قهر وغلب، ثم اختلف من سواهم فى العبارة عن
الاستواء. فقال أبو العالية: استوى: ارتفع. وقال مجاهد:
استوى: علا. وقال غيرهما: استوى: استقر. فأما قول من جعل
الاستواء بمعنى القهر والاستيلاء فقول فاسد؛ لأن الله
تعالى لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا. وقوله تعالى: (ثُمَّ
اسْتَوَى (يقتضى استفتاح هذا الوصف واستحقاقه بعد أن لم
يكن، كما أن المذكور فى البيت إنما حصل له هذا الوصف بعد
أن لم يكن، وتشبيههم أحد الاستواءين بالآخر غير صحيح، ومؤد
إلى أنه تعالى كان مغالبًا فى ملكه، وهذا منتف عن الله؛
لأن الله تعالى هو الغالب لجميع خلقه، وأما من قال تأويله:
استقر. فقول فاسد أيضًا؛ لأن الاستقرار من صفات الأجسام،
وأما قول من قال: تأويله: ارتفع. فنقول مرغوب عنه لما فى
ظاهره من إيهام الانتقال من سفل إلى علو، وذلك لا يليق
بالله، وأما قول من قال: علا. فهو صحيح وهو مذهب أهل السنة
والحق. فإن قيل: ما ألزمته فى ارتفع مثله يلزم فى علا.
قيل: الفرق بينهما أن الله وصف نفسه بالعلو بقوله:
(سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس: 18] ،
فوصف نفسه بالتعالى والتعالى من صفات الذات، ولم يصف نفسه
بالارتفاع. وقال غيره: الاستواء ينصرف فى لسان العرب إلى
ثلاثة أوجه: فالوجه الأول: قوله تعالى فى ركوب الأنعام:
(ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
(10/448)
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] ،
فهذا الاستواء بمعنى الحلول، وهو منتف عن الله تعالى لأن
الحلول يدل على التحديد والتناهى، فبطل أن يكون حلاً على
العرش لهذا الوجه. والوجه الثانى: الاستواء بمعنى الملك
للشىء والقدرة عليه كما قال بعض الأعراب، وسئل عن الاستواء
فقال: خضع له ما فى السموات وما فى الأرض، ودان له كل شىء
وذل، كما نقول للملك إذا دانت له البلاد بالطاعة: قد استوت
له البلاد. والوجه الثالث: الاستواء بمعنى التمام للشىء
والفراغ منه كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ)
[الأحقاف: 15] ، فالاستواء فى هذا الموضع: التمام، كقوله
تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] ،
أراد التمام للخلق كله، وإنما قصد بذكر العرش؛ لأنه أعظم
الأشياء، ولا يدل قوله تعالى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْمَاء) [هود: 7] أنه حال عليه، وإنما أخبر عن العرش خاصة
أنه على الماء ولم يخبر عن نفسه أنه جعله للحلول، لأن هذا
كان يكون حاجة منه إليه، وإنما جعله ليعبد به ملائكته فقال
تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [غافر: 7] الآية. وكذلك
تعبد الخلق بحج بيته الحرام ولم يسمه بيته، بمعنى أنه سكنه
وإنما سماه بيته بأنه الخالق له والمالك، وكذلك العرش سماه
عرشه؛ لأنه مالكه والله تعالى ليس لأوليته حد ولا منتهى،
وقد كان فى أزليته وحده ولا عرش معه سبحانه وتعالى، ثم
اختلف أهل السنة: هل الاستواء صفة
(10/449)
ذات أو صفة فعل؟ فمن قال هو بمعنى علا جعله
صفة ذات، وأن الله تعالى لم يزل مستويًا بمعنى أنه لم يزل
عاليًا. ومن قال: إنه صفة فعل قال: إن الله تعالى فعل
فعلاً سماه استواء على عرشه لا أن ذلك الفعل قائم بذاته
تعالى لاستحالة قيام الحوادث به. وأما قول بنى تميم للنبى
(صلى الله عليه وسلم) : (بشرتنا فأعطنا) فإنما قالوه جريًا
على عاداتهم فى أن البشرى إنما كانت تستعمل فى فوائد
الدنيا. قال المهلب: وفى حديث عمران أن السؤال عن مبادئ
الأشياء والبحث عنها جائز فى الشريعة وجائز للعالم أن يجيب
السائل عنها بما انتهى إليه علمه فيها إذا كان تثبيتًا
للإيمان وأما إن خشى من السائل إيهام شك أو تقصير فهم، فلا
يجيب فيه ولينهه عن ذلك، ويزجره. وقول عمران: (وددت أن
ناقتى ذهبت) ، ولم أقم فيه دليل على جواز إضاعة المال فى
طلب العلم بل فى مسألة منه. قال غيره: وأما قوله: (يمين
الله ملأى) ففيه إثبات اليمين صفة ذات الله تعالى لا صفة
فعل، وليست بجارحة لما تقدم قبل هذا. وقوله: (ملأى) ليس
حلول المال فيها؛ لأن ذلك من صفات الأجسام وإنما هو إخبار
منه (صلى الله عليه وسلم) عن أن ما يقدر عليه من النعم
وإرزاق عباده لا غاية له ولا نفاذ، لقيام الديل على تعلق
وجوب قدرته بما لا نهاية له من مقدوراته؛ لأنه لو تعلقت
قدرته متناهية لكان ذلك نقصًا لا يليق به.
(10/450)
وأما قوله: (فإن حقًا على الله أن يدخله
الجنة) ففيه تعلق للمعتزلة والقدرية القائلين بأن واجب
عليه الوفاء لعبده الطائع بأجر عمله، وأنه لو أخره عنه فى
الآخرة كان ظلمًا له. هذا متقرر عندهم فى العقول، قالوا:
وجاءت السنة بتأكيد ما فى العقول من ذلك. وقولهم فاسد،
ومذهب أهل السنة أن لله تعالى أن يعذب الطائعين من عباده
وينعم على الكافرين، غير أن الله تعالى أخبرنا فى كتابه
وعلى لسان رسوله أنه لا يعذب إلا من كفر به، ومن وافاه
بكبيرة ممن شاء لله تعذيبه عليها. فمعنى قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (إن حقًا على الله أن يدخلها الجنة) . ليس
على أن معنى ذلك واجب عليه؛ لأن واجبًا يقتضى موجبًا له
عليه والله تعالى ليس فوقه آمر ولا ناه يوجب عليه ما يلزمه
المطالبة به، وإنما معناه: إنجاز ما وعد به من فعل ما ذكر
فى الحديث؛ لأن وعده تعالى عبده على فعل تقدم إعلامه قبل
فعله، ووعده خبر ولا يصح منه تعالى إخلاف عبده ما وعده
لقيام الدليل على أن الصدق من صفات ذاته، فعبر (صلى الله
عليه وسلم) فى هذا المعنى بقوله: (فإن حقا على الله أن
يدخله الجنة) بمعنى: أنه يستحيل عليه إخلاف ما وعد عبده
على عمله. وأما استئذان الشمس فى السجود، فالاستئذان قول
لها، والله على كل شىء قدير، فيمكن أن يخلق الله فيها حياة
توجد القول عندها فتقبل الأمر والنهى؛ لأن الله قادر على
إحياء الجماد والموت، وأعلم (صلى الله عليه وسلم) أن
طلوعها من مغربها شرط من أشراط الساعة.
(10/451)
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 4]
وَقَوْلِهِ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)
[فاطر: 10]
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لأخِيهِ: اعْلَمْ
لِى عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ
يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
(الْعَمَلُ الصَّالِحُ (يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ،
يُقَالُ: (ذِى الْمَعَارِجِ (: الْمَلائِكَةُ تَعْرُجُ
إِلَى اللَّهِ. / 56 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ
مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ
وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ الْعَصْرِ، وَصَلاةِ
الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ،
فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ، كَيْفَ
تَرَكْتُمْ عِبَادِى؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ
يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) . / 57 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ
طَيِّبٍ، وَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلا الطَّيِّبُ. .
.) الحديث. / 58 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ
الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ
الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . / 59 - وفيه: أَبُو
سَعِيد، بَعَثَ عَلِىٌّ إِلَى النَّبِيِّ - عليه السلام -
من الْيَمَن بِذُهَيْبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا
بَيْنَ أربعة، فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ وَالأنْصَارُ،
وَقَالُوا: يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ،
وَيَدَعُنَا، قَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ، فَأَقْبَلَ
رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ
اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ
الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ،
فَقَالَ: (فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ،
فَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأرْضِ، وَلا تَأْمَنُونِي. .
.) الحديث.
(10/452)
/ 60 - وفيه: أَبُو ذَرّ، سَأَلْتُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) [يس: 38]
قَالَ: (مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ) . غرضه فى هذا
الباب رد شبهة الجهمية المجسمة فى تعلقها بظاهر قوله: (ذِى
الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ) [المعارج: 3، 4] ، وقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] ، وما تضمنته أحاديث
الباب من هذا المعنى، وقد تقدم الكلام فى الرد عليهم وهو
أن الدلائل الواضحة قد قامت على أن البارى تعالى ليس بجسم
ولا محتاجًا إلى مكان يحله ويستقر فيه؛ لأنه تعالى قد كان
ولا مكان وهو على ما كان، ثم خلق المكان فمحال كونه غنيا
عن المكان قبل خلقه إياه، ثم يحتاج إليه بعد خلقه له هذا
مستحيل، فلا حجة لهم فى قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (لأنه
إنما أضاف المعارج إليه إضافة فعل، وقد كان لا فعل له
موجود، وقد قال ابن عباس فى قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (هو
بمعنى: العلو والرفعة، وكذلك لا شبهة لهم فى قوله تعالى:
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] ،
لأن صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضى كونه فى جهة العلو
لأن البارى تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجودًا ولا جهة،
وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛
لبطلان إجرائه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويل قوله: (ذِى
الْمَعَارِجِ (رفعته واعتلاؤه على خليقته وتنزيهه عن الكون
فى جهة؛ لأن فى ذلك ما يوجب كونه جسمًا تعالى الله عن ذلك،
وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضًا واتساع؛ لأن
الكلم عرض والعرض لا يصح أن يفعل؛ لأن من
(10/453)
شرط الفاعل كونه حيًا قادرًا عالمًا
مريدًا، فوجب صرف الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة
الصاعدين به.
- بَاب قَول تَعَالَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23]
/ 61 - فيه: جَرِير، كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ، فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ
كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُونَ فِى
رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا
عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا) . وَقَالَ جَرِير مرة:
قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكُمْ
سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا) . / 62 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: هَلْ نَرَى رَبَّنَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النَّبِىّ - عليه السلام -:
(هَلْ تُضَارُّونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) .
قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: (فَهَلْ
تُضَارُّونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ) ؟
قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ
تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا
فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ
الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ
الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ،
الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا
شَافِعُوهَا، أَوْ مُنَافِقُوهَا، شَكَّ إِبْرَاهِيمُ،
فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ،
فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا
رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ،
فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى صُورَتِهِ الَّتِى يَعْرِفُونَ،
فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ
رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ
ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِى أَوَّلَ
مَنْ يُجِيزُهَا، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلا
الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ
سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِى جَهَنَّمَ
(10/454)
كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ،
هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ
السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ
عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ
بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بَقِىَ
بِعَمَلِهِ، أَوِ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ
الْمُخَرْدَلُ، أَوِ الْمُجَازَى، أَوْ نَحْوُهُ، ثُمَّ
يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ
بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ
مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ
أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ
بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،
فَيَعْرِفُونَهُمْ فِى النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ،
تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ
السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ
امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ،
فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى
حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ
الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ
مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ
النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ،
اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِى
رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ
بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ هَلْ
عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ: ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِى
غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ
غَيْرَهُ، وَيُعْطِى رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ
مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ،
فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ، وَرَآهَا سَكَتَ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ،
قَدِّمْنِى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ،
لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ
أَنْ لا تَسْأَلَنِى غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ أَبَدًا،
وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ:
أَىْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ: هَلْ
عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟
فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ،
وَيُعْطِى مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ،
فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ
إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ،
(10/455)
انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا
فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ،
أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلَسْتَ قَدْ
أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ: أَنْ لا تَسْأَلَ
غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ
آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، لا
أَكُونَنَّ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى
يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ، قَالَ
لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا، قَالَ
اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى
حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا
حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِىُّ، قَالَ اللَّهُ:
ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ) . مَعَهُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ
يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، مَعَ أَبِى
هُرَيْرَةَ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا
حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ
مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: وَعَشَرَةُ
أَمْثَالِهِ مَعَهُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلا قَوْلَهُ ذَلِكَ: لَكَ
وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ،
أَشْهَدُ أَنِّى حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) قَوْلَهُ: ذَلِكَ، لَكَ وَعَشَرَةُ،
أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَذَلِكَ الرَّجُلُ
آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ. / 63 - وفيه:
ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ
رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ) ، إلى قوله: (أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ
الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ. . .) الحديث. / 64 - وفيه:
عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا
سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
تُرْجُمَانٌ، وَلا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ) . / 65 - وفيه:
أَبُو سَعِيد، مثل حديث أبى هريرة الطويل، إلى قوله:
فِيَذْهَبْ أَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ،
حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ
أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ
يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا
(10/456)
سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ
ابْنَ اللَّهِ: فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ
لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟
قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا،
فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ
لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ:
كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ:
كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ،
فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ
تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِى
جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ
مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا
يَحْبِسُكُمْ: وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فَيَقُولُونَ:
فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ
الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى:
لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ،
وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ
الْجَبَّارُ فِى صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِى
رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا
رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَلا
يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ: هَلْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ:
السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ
مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً
وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ، فَيَعُودُ
ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ،
فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، قُلْنَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْجَسْرُ؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ
مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ
مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ
بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ
عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ
وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ
مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ
جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ، يُسْحَبُ سَحْبًا،
فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِى مُنَاشَدَةً فِى الْحَقِّ
قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ
لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِى
إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا
يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ
مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ
وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ
فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى
النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ
(10/457)
غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى
أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ
يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى
قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ،
فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ،
فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ،
فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ
لَمْ تُصَدِّقُونِى فَاقْرَءُوا: (إِنَّ اللَّهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا) [النساء: 40] فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ
وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ:
بَقِيَتْ شَفَاعَتِى فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ،
فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِى
نَهَرٍ، بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: مَاءُ
الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِى حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ
الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا
إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ،
فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ،
وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ،
فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِى
رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ،
فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ
الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ
عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ:
لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) . / 66 - وفيه:
أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُحشر
النَّاس يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ،
فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا
فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ. . .)
فذكر حديث الشفاعة، (فَيَأْتُونِى، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى
رَبِّى فِى دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا
رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا. . .) ، الحديث، (فأَشْفَعُ،
فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ، وَأُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ، فلا يَبْقَى فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ
الْقُرْآنُ، أَىْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ) ، ثُمَّ
تَلا:
(10/458)
) عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا) [الإسراء: 79] ، قَالَ: وَهَذَا الْمَقَامُ
الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ. / 67 - وفيه:
أَنَس، أَنَّ النَّبِيّ - عليه السلام - أَرْسَلَ إِلَى
الأنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ، وَقَالَ لَهُمُ:
(اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
فَإِنِّى عَلَى الْحَوْضِ) . / 68 - وفيه: أَبُو مُوسَى
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (جَنَّتَانِ مِنْ
فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ
ذَهَبٍ كذلك، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ
يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى
وَجْهِهِ فِى جَنَّةِ عَدْنٍ) . / 69 - وفيه: عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ
اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ
لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ قَرَأَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
(الآيَةَ [آل عمران: 77] ) . / 70 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (ثَلاثَةٌ
لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ:
رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ، لَقَدْ أَعْطَى بِهَا
أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِيَقْتَطِعَ
بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ
مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى،
كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ) . / 71
- وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -:
(إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ) ، الحديث
(وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ
أَعْمَالِكُمْ) .
(10/459)
قال المؤلف: استدل البخارى بقوله تعالى:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)
[القيامة: 22، 23] ، وبأحاديث هذا الباب على أن المؤمنين
يرون ربهم فى جنات النعيم وهذا باب اختلف الناس فيه، فذهب
أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى فى
الآخرة، ومنعت من ذلك الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة
واستدلوا على ذلك بأن الرؤية توجب كون المرئى محدثًا وحالا
فى مكان فى شبه أخر نقض بعضها مغن عن نقض سائرها وزعموا أن
قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ (بمعنى منتظرة. فيقال لهم: هذا جهل بموضع اللغة؛
لأن النظر فى كلام العرب ينقسم أربعة أقسام: يكون بمعنى
الانتظار، ويكون بمعنى التفكر والاعتبار، ويكون بمعنى
التعطف والرحمة، ويكون بمعنى الرؤية للأبصار؛ فخطأ كونه فى
الآية بمعنى الانتظار من وجهين: أحدهما أنه قد عدى إلى
مفعوله (بإلى) وهو إذا كان بمعنى الانتظار لا يتعدى بها،
وإنما يتعدى بنفسه قال تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ
السَّاعَةَ) [الزخرف: 66] فعداه بنفسه لما كان بمعنى
ينتظرون. قال الشاعر: فإنكما إن تنظرانى ساعة من الدهر
تنفعنى أرى أم جندب بمعنى: تنتظرانى. والوجه الثانى: أن
حمله على معنى الانتظار لا يخلو إما أن يراد به منتظرة
ربها أو منتظرة ثوابه، وعلى أى الوجهين حُمل فهو خطأ؛ لأن
المنتظر لما ينتظره فى تنغيص وتكدير، والله تعالى قد
(10/460)
وصف أهل الجنة بغير ذلك وأن لهم فيها ما
يشاءون. فبطل كون النظر فى الآية بمعنى الاعتبار والتفكر؛
لأن الآخرة ليست بدار اعتبار وتفكر؛ إذ ليست بدار محنة
وعبادة؛ ولأن ذاته تعالى ليست مما يعتبر بها؛ فبطل قولهم.
ويبطل كون النظر فى الآية بمعنى التعطف والرحمة؛ لأن ذاته
تعالى ليست مما يتعطف عليها وترحم. فإذا بطلت هذه الأقسام
الثلاثة؛ صح القسم الرابع وهو النظر إلى ربها بمعنى الرؤية
بالأبصار له تعالى، وهو ما ذهب إليه جمهور المسلمين قبل
حدوث القائلين بهذه الضلالة، وشهدت له السنن الثابتة من
الطرق المختلفة. وما احتج به من نفى الرؤية من أنها توجب
كون المرئى محدثًا فهو فاسد؛ لقيام الدلائل على أن الله
تعالى موجود وأن الرؤية منزلتها فى تعلقها بالمرئى منزلة
العلم فى تعلقه بالمعلوم، فكما أن العلم المتعلق بالموجود
لا يختص بموجود دون موجود، ولا توجب تعلقه به حدثه كذلك
للرؤية فى تعلقها بالمرئى لا يوجب حدثه. واحتج نفاة الرؤية
بقوله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام:
103] ، وبقوله تعالى لموسى: (لَن تَرَانِى) [الأعراف: 143]
فى جوابه سؤاله الرؤية، وهذا لا تعلق لهم فيه؛ لأن قوله:
(لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (وقوله: (لَن تَرَانِى (لفظ
عام، وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23] ، خاص، والخاص يقضى
على العام ويبينه، فمعنى الآية لا تدركه الأبصار فى
الدنيا؛ لأنه تعالى قد أشار إلى أن المراد بقوله: (وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (الآخرة؛
لقوله:
(10/461)
يومئذ، وكذلك يكون معنى قوله لموسى: (لَن
تَرَانِى (فى الدنيا، ولأنه قد ثبت أن نفى الشىء لا يقتضى
إحالته؛ بل قد يتناول المستحيل وجوده والجائز وجوده، فلا
تعلق لهم بالآيتين مع ما يشهد لصحة الرؤية لله تعالى من
الأحاديث الثابتة التى تلقاها المسلمون بالقبول من عصر
الصحابة والتابعين، رضى الله عنهم أجمعين إلى حدوث
المارقين المنكرين للرؤية. وأما وصفه (صلى الله عليه وسلم)
لله تعالى بالإتيان بقوله: (فيأتيهم الله) . فليس على معنى
الإتيان المعهود فيما بيننا الذى هو انتقال وحركة؛
لاستحالة وصفه بما توصف به الأجسام، فوجب حمله على أنه
يفعل فعلا يسميه إتيانًا وصف تعالى به نفسه، ويحتمل أن
يكون الإتيان المعهود فيما بيننا خلقه تعالى لغيره من
ملائكة فأضافه إلى نفسه كما يقول القائل: قطع الأمير اللص،
وهو لم يل ذلك بنفسه إنما أمر به. وأما وصفه تعالى بالصورة
فى قوله: فيأتيهم الله فى صورته. ففيه إيهام للمجسمة أنه
تعالى ذو صورة، ولا حجة لهم فيه؛ لأن الصورة هاهنا يحتمل
أن تكون بمعنى العلامة وضعها الله تعالى دليلا لهم على
معرفته والتفرقة بينه وبين مخلوقاته، فسمى الدليل والعلامة
صورة مجازًا كما تقول العرب: صورة حديثك كيت وكيت، وصورة
أمرك كذا وكذا، والحديث والأمر لا صورة لهما، وإنما يريدون
حقيقة حديثك وأمرك كذا وكذا. قال المهلب: وأما قوله: (فإذا
رأينا ربنا عرفناه) فإنما ذلك أن الله
(10/462)
تعالى يبعث إليهم ملكًا ليفتنهم ويختبرهم
فى اعتقاد صفات ربهم الذى ليس كمثله شىء فإذا قال لهم
الملك: أنا ربكم، رأوا عليه دليل الخلقة التى تشبه
المخلوقات فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاءنا
عرفناه. أى أنك لست ربنا، فيأتيهم الله فى صورته التى
يعرفون أى يظهر إليهم فى ملك لا ينبغى لغيره وعظمة لا تشبه
شيئًا من مخلوقاته، فيعرفون أن ذلك الجلال والعظمة لا تكون
لغيره، فيقولون: أنت ربنا لا يشبهك شىء. فالصورة يعبر بها
عن حقيقة الشئ. وأما قوله: (فيقال: هل بينكم وبينه آية
تعرفونها؟ فيقولون: الساق) فهذا يدل والله أعلم أن الله
عرف المؤمنين على ألسنة الرسل يوم القيامة أو على ألسنة
الملائكة المتلقين لهم بالبشرى أن الله قد جعل علامة تجلبه
لكم الساق وعرفهم أنه سيبتلى المكذبين بأن يرسل إليهم من
يقول: أنا ربكم. فتنة لهم ويدل على ذلك قوله تعالى:
(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ)
[إبراهيم: 27] ، فى سؤال القبر، وفى هذا الموطن، وقال ابن
عباس فى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) [القلم:
42] عن شدة الأمر، وروى عن عمر بن الخطاب فى قوله تعالى:
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) [القيامة: 29] أى:
أعمال الدنيا بمحاسبة الآخرة. وذلك أمر عظيم، والعرب تقول:
قامت الحرب على ساق. إذا كانت شديدة فيظهر الله على
الخلائق هذه الشدة التى لا يكون مثلها من مخلوق ليبكت بها
الكافرين، وينزع عنهم قدرتهم التى كانوا يدعونها، فيعلمون
حينئذ أنه الحق، فيذهبون إلى السجود مع المؤمنين لما يرون
من العظمة والشدة فلا
(10/463)
يستطيعون؛ فيثبت الله المؤمنين فيسجدون له،
وذكر ابن فورك قال: روى أبو موسى الأشعرى عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) فى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن
سَاقٍ (قال: عن نور عظيم قال: ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين
عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف، ويظهر لهم من
فضل سرائرهم التى لم يطلع عليها غيره تعالى. قال المهلب:
هذا يدل على أن كشف الساق للكافرين نقمة وعذاب، وللمؤمنين
نور ورحمة ونعمة، والضحك منه تعالى بخلاف ما هو فينا وهو
بمعنى إظهاره لعباده لطائف وكرامة لم تكن تظهر لهم قبل
ذلك، والضحك المعهود فيما بيننا هو إظهار الضاحك لمن شاهده
ما لم يكن يظهر له منه قبل من كشره عن أسنانه. وأما قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (ويبقى من كان يسجد لله رياء
وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا) هذا
استدل به من أجاز تكليف عباده ما لا يطيقون، واحتجوا على
ذلك بأن الله تعالى قد كلف أبا لهب الإيمان به مع إعلامه
تعالى له أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكفر الذى له يصلى
نارًا ذات لهب. ومنع الفقهاء من ذلك، وقالوا: لا يجوز أن
يكلف الله عباده ما لا يطيقون واحتجوا بقوله تعالى: (لاَ
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]
، قالوا: وقدا أخبر فلا يجوز أن يقع بخلاف خبره، وقالوا:
ليس فى
(10/464)
قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ)
[القلم: 42] حجة لمن خالفنا؛ لأنهم إنما يدعون إلى السجود
تبكيتًا لهم؛ إذ أدخلوا أنفسهم بزعمهم فى جملة المؤمنين
الساجدين فى الدنيا وعلم الله منهم الرياء فى سجودهم،
فدعوا فى الآخرة إلى السجود كما دعى المؤمنون المحقون؛
فتعذر السجود عليهم وعادت ظهورهم طبقًا واحدًا، وأظهر الله
عليهم نفاقهم؛ فأخزاهم وأوقع الحجة عليهم، فلا حجة فى هذه
الآية لهم، ومثل هذا من التبكيت قوله تعالى للكفار:
(ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ
بَيْنَهُم بِسُورٍ) [الحديد: 13] ، وليس فى هذا شىء من
تكليف ما لا يطاق، وإنما هو خزى وتوبيخ. ومثله قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (من كذب فى حلمه كلف يوم القيامة أن
يعقد بين شعيرتين وليس بعاقدهما) فهذه عقوبة وليس من تكليف
ما لا يطاق. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيشفع
النبيون والملائكة والمؤمنون) ففيه حجة لأهل السنة فى
إثباتهم الشفاعة، وقد تقدم. وقوله: (فأستأذن على ربى فى
داره) فداره جنته، ولا تعلق فيه للمجسمة أنه تعالى فى
مكان؛ لأن قوله: (فى داره) يحتمل أن تكون هذه الإضافة لله
إضافة إلى نفسه تعالى من أفعاله، ويحتمل أن يكون قوله فى
داره. راجعًا إلى النبى تأويله: فأستأذن على ربى وأنا فى
داره. فالظرف والمكان هاهنا للنبى (صلى الله عليه وسلم) لا
لله تعالى لقيام الدليل على استحالة حلوله فى المواضع.
(10/465)
وقوله: (حتى تلقوا الله ورسوله فإنى على
الحوض) ففيه إثبات الحوض له (صلى الله عليه وسلم) خلافًا
لمنكريه من المعتزلة وغيرهم ممن يدفع أخبار الآحاد، وجمهور
الأمة على خلافهم مؤمنون بالحوض على ما ثبت فى السنن
الصحاح. وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه
وبينه حجاب ولا ترجمان) ففيه إثبات الرؤية لله تعالى
وإثبات كلامه لعباده. ورفع الحجاب بينه تعالى وبين خلقه هو
تجليه لهم، وليس ذلك بمعنى الظهور والخروج من سواتر وحجب
حائلة بينه وبين عباده؛ لأن ذلك من أوصاف الأجسام وهو
مستحيل على الله، وإنما رفع الحجاب بمعنى إزالته الآفات من
أبصار خلقه المانعة لهم من رؤيته؛ فيرونه لارتفاعها عنهم
بخلق ضدها فيهم، وهو الرؤية، وبخلاف هذا وصف الله الكفار
فقال: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَّمَحْجُوبُونَ) [المطففين: 15] ، فالحاجب هنا الآفة
المانعة من رؤيته التى لو فعل تعالى ضدها فيهم لرأوه، وهى
التى فعل فى المؤمنين. وقوله فى الحديث الآخر: (وما بين
القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه
فى جنة عدن) فلا تعلق فيه للمجسمة فى إثبات الجسم والمكان
لما تقدم من استحالة كونه جسمًا أو حالا فى مكان؛ فوجب أن
يكون تأويل الرداء مصروفًا إلى أن المراد به الآفة المانعة
لهم من رؤيته الموجودة بأبصارهم، وذلك فعل من أفعاله تعالى
يفعله فى محل رؤيتهم له بدلا من فعله الرؤية، فلا يرونه ما
دام ذلك المانع لهم من رؤيته وسماه رداء مجازًا واتساعًا؛
إذ منزلته في
(10/466)
المنع من رؤيته منزلة الرداء وسائر ما
يحتجب به والله تعالى لا يليق به الحجب والستار؛ إذ ذاك من
صفات الأجسام. وقوله: (على وجهه) المراد به: أن الآفة
المانعة لهم من رؤية وجهه تعالى التى هى صفة من صفات ذاته
كأنها على وجهه؛ لكونها فى أبصارهم ومانعة لهم من رؤيته،
فعبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ، والمراد به غير ظاهره؛ إذ
يستحيل كون وجهه محجوبًا برداء أو غيره من الحجب؛ إذ ذاك
من صفات الأجسام. وقوله: (فى جنة عدن) ليس بمكان له تعالى،
وإنما هو راجع إلى القوم كأنه قال: وما بين القوم وبين أن
ينظروا إلى ربهم وهم فى جنة عدن إلا المانع المخلوق فى محل
رؤيتهم له من رؤيته فلا حجة لهم فيه. وقوله فى حديث أبى
سعيد: (ونحن أحوج منا إليه اليوم) . لا يخرج معناه إلا أن
يكون بمعنى محتاجين، وهذا موجود فى القرآن قال تعالى:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ)
[النحل: 125] ، بمعنى عالم، فسقط على هذا التأويل شيئًا من
تقدير الكلام، ومعناه: فارقناهم: يريد من لم يعبد الله.
ونحن أحوج ما كنا إليه: يعنون الله. وقوله: (فما أنتم بأشد
لى مناشدة فى الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار،
فإذا راوا أنهم قد نجوا فى إخوانهم) يريد أن المؤمنين إذا
نجوا من الصراط يناشدون الله فى إخوانهم ويشفعون فيهم
فيقول الله عز وجل: (اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال
(10/467)
نصف دينار. . إلى مثقال ذرة من إيمان
فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا من النار) وفى هذا إثبات شفاعة
المؤمنين بعضهم لبعض. وقوله: (فى جهنم كلاليب) جمع كلوب،
وهو الذى يتناول به الحداد الحديد من النار، والخطاطيف جمع
خطاف، والخطاف حديدة معوجة الطرف يجذب بها الأشياء، قال
النابغة: خطاطيف حجن فى حبال متينة والحسك: معروف، وهو شىء
مضرس ذو شوك ينشب به كل ما مر به. وقوله: (فمنهم الموبق
بعمله) يعنى: الهالك بذنوبه. يقال: أوبقت فلانًا ذنوبه أى:
أهلكته. وقوله: (ومنهم المخردل) قال صاحب العين: خردلت
اللحم: فصلته، وخردلت الطعام: أكلت خياره. وقال غيره:
خردلته: صرعته، وهذا الوجه يوافق معنى الحديث، والجردلة
بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة. وقوله: (امتحشوا) قال
صاحب العين: المحش: إحراق الجلد، وامتحش الجلد احترق،
وألسنة المحوش: اليابسة. وقال صاحب الأفعال: محشت النار
الشىء محشًا: أحرقته لغة،
(10/468)
والمعروف أمحشته، وكان أبو زيد ينكر محشته،
وقعد يومًا إلى أبى حنيفة فسمعه يقول: قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) : (يخرج من النار قوم قد محشتهم النار) .
فقال أبو زيد: ليس كذلك الحديث، يرحمك الله، إنما هو:
(أمحشتهم النار) فقال أبو جنيفة: من أى موضع أنت؟ قال أبو
زيد: من البصرة. قال أبو حنيفة: أبالبصرة مثلك؟ قال أبو
زيد: إنى لمن أخس أهلها. فقال أبو حنيفة: طوبى لبلد أنت
أخس أهلها. والحبة: بزور البقل، وقد ذكرته فى كتاب الإيمان
فى باب تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال وقال أبو عبيد: وأما
الحبة فكل ما ينبت له حب فاسم الحب منه الحبة. وقال
الفراء: الحبة بزور البقل. وقال أبو عمرو: الحبة نبت ينبت
فى الحشيش صغار. وقال الكسائى: الحبة حب الرياحين وواحد
الحبة حبة. وأما الحنطة ونحوها فهو الحب لا غير. وقال
الأصمعى: الحميل ما حمله السيل من كل شىء وكل محمول فهو
حميل كما يقال للمقتول قتيل. وقوله: (قشبنى ريحها) تقول
العرب: قشبت الشئ: قذرته وقشبت الشىء، بكسر الشين، قشبًا
قذر صاحب الأفعال. وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها من القشب
والقشب: السم كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم قشيب.
وقال الخطابى: قشبه الدخان إذا مل خياشيمه وأخذ يكظمه وإن
كانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال: قشبه
إذا سمه وقشبتنا الدنيا فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على
هذا قشبه الدخان والريح الذكية إذا بلغت منه الكظم.
(10/469)
وقوله: انفهقت يعنى: اتسعت وفهق الغدير
فهقًا إذا امتلأ ومنه التفيهق فى القول، وهو كثرة الكلام.
وغبرات: بقايا وكذلك غبر الشىء بقيته؛ وقوله: الجسر مدحضة
مزلة. يقال دحضت رجله دحضًا زلفت، والدحض ما يكون عنه
الزلق، ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت، ودحضت حجته:
بطلت، والمزلة: موضع الزلل، فزلت القدم: سقطت، وقوله:
مكدوس فى نار جهنم. قال صاحب العين: التكدس فى سير الدواب:
ركوب بعضها بعضًا، والكدس ما يجمع من طعام وغيره، وأفواه
الجنة: أبوابها واحدها فوهة، وفى كتاب العين الفوهة: فم
النهر وفم الزقاق.
- بَاب قَوله تَعَالَى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]
/ 72 - فيه: أُسَامَة، كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْضِى، إلى قوله:
(فَبَكَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ سَعْدُ:
أَتَبْكِى؟ فَقَالَ: (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ
عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،
قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَصَمَتِ
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا، فَقَالَتِ
الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لَهَا لا يَدْخُلُهَا إِلا
ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ:
يَعْنِى أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِى، وَقَالَ
لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِى، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ
وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قَالَ: فَأَمَّا
الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ
أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ،
فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَ) تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق:
30] ثَلاثًا، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ،
فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ،
وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، قَطْ) .
(10/470)
/ 74 - وفيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه
وسلم) : (لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ
بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، يُقَالُ لَهُمُ:
الْجَهَنَّمِيُّونَ) . قال المؤلف: الرحمة تنقسم قسمين:
تكون صفة ذات لله، وتكون صفة فعل، فصفة الذات مرجوع بها
إلى إرادته تعالى إثابة الطائعين من عباده، وقوله تعالى:
(إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
[الأعراف: 56] ، يحتمل الرحمة هاهنا أن تكون صفة ذات ترجع
إلى إرادته إثابة المحسنين كما قلنا وإرادته صفة ذاته.
ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما يرحم الله من
عباده الرحماء) معناه إنما يريد إثابة الرحماء لعباده من
خلقه، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون المعنى أن نعمة الله
على عباده ورزقه لهم ونزول المطر وشبهه قريب من المحسنين،
فسمى ذلك رحمة لهم لكونه بقدرته وعن إرادته مجازًا
واتساعًا؛ لأن من عادة العرب تسمية الشىء باسم سببه وما
يتعلق به ضربًا من التعلق، وعلى هذا المعنى سمى الله الجنة
رحمةً فقال: (أنت رحمتى) فسماها مع كونها فعلاً من أفعاله
رحمةً؛ إذ كانت حادثةً بقدرته وإرادته تنعيم الطائعين من
عباده. قال المهلب: وأما اختصام الجنة والنار فيجوز أن
يكون حقيقةً، ويجوز أن يكون مجازًا، فكونه حقيقةً يخلق
الله فيهما حياةً وفهمًا وكلامًا لقيام الدليل على كونه
تعالى قادرًا على ذلك، وكونه مجازًا واتساعًا فهو على ما
تقوله العرب من نسبة الأفعال إلى ما لا يجوز وقوعها منه فى
تلك الحال كقولهم: امتلأ الحوض وقال قطنى. والحوض لا يقول،
وإنما ذلك عبارة عن امتلائه، وأنه لو
(10/471)
كان ممن يقول لقال ذلك، وقولهم: قالت
الضفدع، وعلى هذين التأويلين يحمل قوله تعالى: (وَتَقُولُ
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] ، واختصام الجنة والنار هو
افتخار بعضهما على بعض بمن يسكنهما، فالنار تتكبر بمن يلقى
فيها من المتكبرين وتظن أنها آثر بذلك عند الله من الجنّة
وسقط قول النار من هذا الحديث فى جميع النسخ، وهو محفوظ فى
الحديث: (وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين) رواه
ابن وهب، عن مالك، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة
من رواية الدارقطنى، وتظن الجنة ضد ذلك لقولها: (ما لى لا
يدخلنى إلا ضعفاء الناس وسقطهم) فكأنها أشفقت من إيضاع
المنزلة عند الرب تعالى. فحكم تعالى للجنة بأنها رحمته لا
يسكنها إلا الرحماء من عباده، وحكم للنار بأنها عذابه يصيب
بها من يشاء من المتكبرين، وأنه ليس لإحديهما فضل من طريق
من يسكنها الله تعالى من خلقه، إذ هما اللتان للرحمة
والعذاب، ولكن قد قضى لهما بالملء من خلقه. وقوله: (وينشىء
للنار خلقًا) يريد من قد شاء أن يلقى فيها ممن قد سبق له
الشقاء ممن عصاه وكفر به، قاله المهلب. وقال غيره: ينشىء
الله لها خلقًا لم يكن فى الدنيا، قال: وفيه حجة لأهل
السنة فى قولهم إن لله أن يعذب من لم يكن يكلفه عبادته فى
الدنيا ولا يخرجه إليها لقوله: (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا
يَشَاء) [إبراهيم: 27] بخلاف
(10/472)
من يقول إن الله لو عذّب من لم يكلفه لكان
ظالمًا، وهذا الحديث حجة عليهم. وقوله: (حتى يضع فيها
قدمه) قد تقدم فى باب قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) [إبراهيم: 4] من كتاب التوحيد.
- بَاب قَوله تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا (الآية [فاطر: 41]
/ 75 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْن مسعود، جَاءَ حَبْرٌ إِلَى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ،
إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ،
وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأنْهَارَ
عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ،
ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] . وقد تقدّم تفسير
هذا الحديث فى باب قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ)
[ص: 75] ، قال المهلب: فإن قيل: ما وجه حديث الحبر فى هذا
الباب مع قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر: 41] ، وظاهر الآية وعمومها
يقتضى أن السموات والأرض ممسكة بغير آلة يعتمد عليها، وقد
ذكر الحبر للنبى (صلى الله عليه وسلم) أن الله يمسك
السموات على إصبع والأرض على إصبع، فدل أن حديث الحبر
وتفسيره الإمساك بالأصابع هذا لبيان المجمل من الإمساك فى
الآية؟ قيل له: ليس كما توهمت، وتفسير النبى ورده على
الحبر، وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)
[الأنعام: 91] هو رد لما توهمه الحبر من
(10/473)
الأصابع أى أن الله أجل مما قدرت، وذلك أن
اليهود تعتقد التجسيم، فنفى النبى (صلى الله عليه وسلم)
ذلك عنه بقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (.
فإن قيل: فإن تصديق النبى للحبر وتعجبه من قوله يدل أنه لم
ينكر قوله كل الإنكار، ولو لم يكن لقوله بذكر الأصابع وجه
لأعلن بإبطاله. فالجواب: أنه لو كانت السموات وغيرها
مفتقرة إلى الأصابع لكانت الأصابع مفتقرة إلى أمثالها
تعتمد عليها، وأمثال أمثالها إلى مثلها، ثم كذلك إلى ما لا
نهاية له، وهذا فاسد، وقد تقدم قول الأشعرى وابن فورك وأن
الإصبع يجوز أن تكون صفة ذات لله تعالى ويجوز أن تكون صفة
خلق له من بعض ملائكته كلفهم حمل الخلائق وتعبدّهم بذلك من
غير حاجة إليهم فى حملها، بل البارى ممسكهم وممسك ما
يحملونه بقدرته تعالى، ويصدق هذا التأويل قوله:
(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة: 17] .
- بَاب مَا جَاءَ فِى خلق السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
وَغَيْرِهَما مِنَ الْمخلوقات
وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ
بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَقَوله، وَهُوَ
الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ
بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ،
فَهُوَ مَفْعُولٌ مُكَوَّنٌ مَخْلُوقٌ. / 76 - فيه: ابْن
عَبَّاس، بِتُّ فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً،
وَالنَّبِيُّ - عليه السلام - عِنْدَهَا؛ لأنْظُرَ كَيْفَ
صَلاةُ النَّبِىّ - عليه السلام - فَتَحَدَّثَ النَّبِيّ -
عليه السلام - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ،
فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ،
قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ: (إِنَّ فِى
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) [آل عمران: 190] إِلَى
قَوْلِهِ: (لأولِى الألْبَابِ (الحديث.
(10/474)
غرضه فى هذا الباب أن يعرفك أن السموات
والأرض وما بينهما كل ذلك مخلوق دلائل الحدث بها من الآيات
المشاهدات، من انتظام الحكمة واتصال المعيشة للخلق فيهما،
وقام برهان العقل على ألا خالق غير الله وبطل قول من يقول:
إن الطبائع خالقة العالم، وأن الأفلاك السبعة هى الفاعلة،
وأن النور والظلمة خالقان، وقول من زعم أن العرش هو
الخالق. وفسدت جميع هذه الأقوال لقيام الدليل على حدوث ذلك
كله وافتقاره إلى محدث لاستحالة وجود محدث لا محدث له،
كاستحالة وجود مضروب لا ضارب له، وكتاب الله شاهد بصحة
هذا، وهو قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)
[فاطر: 3] ، فنفى خالقًا سواه، وقال تعالى: (أَمْ جَعَلُوا
لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد: 16] ، وقال
عقيب ذلك: (فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد: 16]
، ثم قال لنبيه: (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16] ، ودلّ على ذلك أيضًا
بقوله تعالى: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِى
الألْبَابِ) [آل عمران: 190] . فاستدل بآيات السموات
والأرض على قدرة الله ووحدانيته فوجب أن يكون الخلاق
العليم بجميع صفاته من الخلق والأمر والفعل والسمع والبصر
والتكوين للمخلوقات كلها خالقًا غير مخلوق الذات والصفات،
وأن القرآن صفة له غير مخلوق، ووجب أن يكون الخالق مخالفًا
لسائر المخلوقات، ووجه خلافه لها انتفاء قيام الحوادث عنه
الدالة على حدث من تقوم به، ولزم أن يكون ما سواه من
مخلوقاته التى كانت عن قوله وأمره وفعله وتكوينه مخلوقات
له، هذا موجب العقل.
(10/475)
- بَاب قَوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا
لِشَىْءٍ) [النحل: 40]
/ 77 - فيه: الْمُغِيرَة، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه
السَّلام، يَقُولُ: (لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى قَوْمٌ
ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ
اللَّهِ) . وَقَالَ مرة: (لا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِى
أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ
كَذَّبَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ) . وَقَالَ
مُعَاوِيَة: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. / 78 - وفيه: ابْن
عَبَّاس، وَقَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى
مُسَيْلِمَةَ فِى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (لَوْ سَأَلْتَنِى
هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ
أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ
لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ) . / 79 - وفيه: ابْن مَسْعُود،
بَيْنَما أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ،
فَمَرَرْنَا عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فسَألُوهُ عَنِ
الرُّوحِ، فَأَنَزل عليه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] الآية.
غرضه فى هذا الباب الرد على المعتزلة فى قولهم: إن أمر
الله الذى هو كلامه مخلوق، فأراد البخارى أن يعرفك أن
الأمر هو قوله للشىء إذا أراده كن فيكون بأمره له وأن أمره
وقوله فى معنى واحد، وذلك غير مخلوق وأنه سبحانه يقول كن
على الحقيقة، وأن الأمر غير الخلق لقوله تعالى: (أَلاَ
لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54] ، ففصل بينهما
بالواو وهو قول جميع أهل السنة، وزعمت المعتزلة أن وصفه
نفسه بالأمر
(10/476)
وبالقول فى هذه الآية مجاز واتساع على نحو
ما تقول العرب: قال الحائط فمال وامتلأ الحوض، وقال قطنى.
وقولهم فاسد؛ لأنه عدول عن ظاهر الآية وحملها على غير
حقيقتها، وإنما وجب حمل الآية على ظاهرها وحقيقتها لثبات
كونه حيًا، والحى لا يستحيل أن يكون متكلمًا. وقوله (صلى
الله عليه وسلم) : (حتى يأتيهم أمر الله) يعنى أمر الله
بالساعة. وقوله: (لن تعدو أمر الله فيك) أى ما قدر فيك من
الشقاء أو السعادة. وقوله: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّى) [الإسراء: 85] أى من أمره المتقدّم بما سبق فى
علمه من القضاء المحتوم الذى أمر به الملك أن يكتبه فى بطن
أمه قبل نفخ الروح فيه.
- بَاب فِى الْمَشِيئَةِ وَالإرَادَةِ
وقوله تَعَالَى: (تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) [آل
عمران: 26] ،) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
رب العالمين) [الإنسان: 30] ،) وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ
إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
[الكهف: 23] ) إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ) [القصص: 56] .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ: نَزَلَتْ
فِى أَبِى طَالِبٍ. معنى هذا الباب: إثبات المشيئة
والإرادة لله تعالى وأن مشيئته وإرادته ورحمته وغضبه وسخطه
وكراهيته كل ذلك بمعنىً واحد أسماء مترادفة هى راجعة كلها
إلى معنى الإرادة، كما يسمى الشىء الواحد بأسماء كثيرة،
وإرادته تعالى هى صفة من صفات ذاته خلافًا لمن يقول من
المعتزلة أنها مخلوقة من أوصاف أفعاله، وقولهم فاسد لأنهم
إذا أثبتوه تعالى مريدًا، وزعموا أن إرادته محدثة لم تخل
من أن يحدثها في
(10/477)
نفسه أو فى غيره، أو لا فى نفسه ولا فى
غيره، وهذا الذى ذهبوا إليه، فيستحيل إحداثه لها فى نفسه؛
لأنه لو أحدثها فى نفسه لم يخل منها ومن ضدها على سبيل
التعاقب، ولا يجوز تعاقب الحوادث على الله تعالى لقيام
الدليل على قدمه قبلها، ويستحيل أن يحدثها فى غيره؛ لأنه
لو أحدثها فى غيره لوجب أن يكون ذلك الغير مريدًا بها
دونه، فبطل كونه مريدًا بإرادة أحدثها فى غيره كما يبطل
كونه عالمًا بعلم يحدثه فيه، أو قادرًا بقدرة يحدثها فيه؛
لأن قياس ذلك كله واحد، ومن شرط المريد وحقيقته أن تكون
الإرادة موجودةً فيه دون من سواه، ويستحيل إحداثه لها إلا
فى نفسه ولا فى غيره؛ لأن ذلك يوجب قيامها بنفسها
واحتمالها للصفات وأضدادها، ولو صح ذلك لم تكن إرادته له
أولى أن تكون لغيره، وإذا فسدت هذه الأقسام الثلاث وجب أن
الإرادة قديمةً قائمةً به تعالى لأجل قيامها به وصح كونه
مريدًا، ووجب تعلقها بكل ما يصحّ كونه مرادًا له، وهذه
المسألة مبنية على صحة القول بكونه تعالى خالقًا لأفعال
العباد، وأنهم لا يفعلون إلا ما يشاء، وقد دلّ الله على
ذلك بقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ)
[الإنسان: 30] ، وما تلاه من الآيات، وبقوله: (وَلَوْ شَاء
اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ (فنصّ الله تعالى على أنه لو شاء أن لا يقتتلوا
لما اقتتلوا، فدل أنه تعالى شاء ما شاءوه من اقتتالهم،
وأنه لو لم يشأ اقتتالهم لم يشاءوه ولا كان موجودًا، ثم
أكد ذلك بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
(يدل أنه فعل اقتتالهم الواقع منهم لكونه شائيًا له، وإذا
كان شائيًا
(10/478)
لاقتتالهم وفاعلا له، ووجب كونه شائيًا
لمشيئتهم وفاعلا لها، فثبت بهذه الآية أنه لا كسب للعباد
طاعة ومعصية إلا وهو فعل له ومراد له تعالى، وإن لم يرده
منهم لم يصح وقوعه، وما أراده منهم فواجب قول القدرية أنه
مريد للطاعة من عباده، وغير مريد للمعصية وقد بان فساد هذا
من قولهم أن أفعال العباد خلق لله فى هذا الباب وغيره.
30 - باب: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]
/ 80 - فيه: أَنَس، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ
فَاعْزِمُوا فِى الدُّعَاءِ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ:
إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّ اللَّهَ لا مُسْتَكْرِهَ
لَهُ) . / 81 - وفيه: عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْته، فَقَالَ لَهُمْ:
(أَلا تُصَلُّونَ) ؟ قَالَ عَلِىٌّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا
شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. . . الحديث. / 82 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ
يَفِىءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ
تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ
الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ
كَمَثَلِ الأرْزَةِ، صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى
يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ) . / 83 - وفيه: ابْن
عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّمَا
بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ
(10/479)
مِنَ الأمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلاةِ
الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. . .) وذكر الحديث إلى
قوله: (فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . / 84 -
وفيه: عُبَادَة، قَالَ: (بَايَعْتُ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) فِى رَهْطٍ، فَقَالَ: (أُبَايِعُكُمْ عَلَى
أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا،
وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا
تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ
وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِى فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ
وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِى الدُّنْيَا،
فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ
اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ،
وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) . / 85 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ سِتُّونَ
امْرَأَةً، فَقَالَ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى
نِسَائِى، فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ، وَلْتَلِدْنَ
فَارِسًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَطَافَ عَلَى
نِسَائِهِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ
وَلَدَتْ شِقَّ غُلامٍ) ، قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : (ولَوْ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ
امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِى
سَبِيلِ اللَّهِ) . / 86 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، حِينَ
نَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ،
وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ. . .) الحديث. / 87 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ
مِنَ الْيَهُودِ. . . وذكر الحديث إلى قول النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (لا تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى،
فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ
يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ
(10/480)
الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ
صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى
اللَّهُ) . / 88 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ - عليه
السلام -: (الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ
الْمَلائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلا يَقْرَبُهَا
الدَّجَّالُ، وَلا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) . / 89
- وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) :
(لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
أَنْ أَخْتَبِىَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) . / 90 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ،
رَأَيْتُنِى عَلَى قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ
أَنْ أَنْزِعَ. . .) الحديث. / 91 - وفيه: أَبُو مُوسَى،
كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ
السَّائِلُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: (اشْفَعُوا
فَلْتُؤْجَرُوا، ولَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نبيه
مَا شَاءَ) . / 92 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن أُبَىُّ بْنُ
كَعْبٍ حدثه بحديث الخضر. . . إلى قوله: (فَإِنِّى نَسِيتُ
الْحُوتَ) [الكهف: 63] الحديث. / 93 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نَنْزِلُ غَدًا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ
تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ) ، يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ. /
94 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ عُمَرَ، حَاصَرَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَهْلَ الطَّائِفِ،
فَلَمْ يَفْتَحْهَا، فَقَالَ: (إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. . .) ، وذكر الحديث. معنى هذا الباب
كمعنى الذى قبله فى إثبات الإرادة لله تعالى والمشيئة، وأن
العباد لا يريدون شيئًا إلا وقد سبقت إرادة الله له،
(10/481)
وأنه خالق لأعمالهم: طاعة كانت أو معصية،
وأما تعلقهم بقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] فى أنه لا
يرد المعصية فليس على العموم؛ وإنما هو خاص فيمن ذكر، ولم
يكلفه ما لا يطيق. مثل هذا للمؤمنين المفترض عليهم الصيام،
ومن هداه الله إلى دينه فقد يسره وأراد به اليسر، فكان
المعنى: يريد الله بكم اليسر الذى هو التخيير بين صومكم فى
السفر، وإفطاركم فيه بشرط قضاء ما أفطرتموه من أيام أخر،
ولا يريد بكم العسر، الذى هو إلزامكم الصوم فى السفر على
كل حال؛ فبان من نفس الآية أن الله رفع هذا العسر عنا ولم
يرد وقوعه بنا، إذ لم يلزمنا الصيام فى السفر على كل حال،
ورحمةً منه ورأفةً بنا؛ فسقط تعلقهم بالآية، وكذلك تأويل
قوله تعالى: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)
[الزمر: 7] هو على الخصوص فى المؤمنين الذين أراد منهم
الإيمان، فكان ما أراده من ذلك، ولم يرد منهم الكفر فلم
يكن، فلا تعلق لهم فى هذه الآية أيضًا. فإن قيل: قد تقدم
من قولكم أن الله تعالى خالق لأعمال العباد، فما وجه إضافة
فتى موسى نسيان الحوت إلى نفسه مرةً، وإلى الشيطان أخرى.
فالجواب: أن فتى موسى نبى وخادم نبى، وقد تقدم من قول موسى
أن أفعاله مخلوقة لله تعالى: (إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء) [الأعراف:
155] ، فثبت أن إضافة النسيان إلى نفسه لأجل قيامه به، لا
أنه مخترع له، والعرب تضيف الفعل إلى
(10/482)
من وجد منه، وإن لم يكن مخترعًا له، وقد
نطق بذلك القرآن فى مواضع كثيرة، وكذلك إضافته النسيان إلى
الشيطان، فليس على معنى أن الشيطان فاعل لنسيانه، وإنما
تأويله أنه وسوس إلىّ حتى نسيت الحوت؛ لأن فتى موسى إذ لم
يمكنه أن يفعل نسيانه القائم به كان الشيطان أبعد من أن
يفعل فيه نسيانًا، وكانت إضافته إليه على سبيل المجاز
والاتساع. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يقولن أحدكم، إن شئت فاعطنى) فمعناه والله أعلم أن سؤاله
الله على شرط المشيئة يوهم أن إعطاءه تعالى يمكن على غير
مشيئته، وليس بعد المشيئة وجه إلا الإكراه؛ والله لا مكره
له كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، والعبارة الموهمة فى
صفات الله غير جائزة عند أهل السنة؛ لما فى ذلك من الزيغ
بأقل توهم يقع فى نفس السامع لنلك العبارة ثم إن حقيقة
السؤال من الله تعالى، هو أن يكون السائل محتاجًا إلى ما
سأل، محققًا فى سؤاله، ومتى طلب بشرط لم يحقق الطلب؛ فلذلك
أمره بالعزم فى طلب الحاجة. وأما قول على: (إن أنفسنا بيد
الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا) ففيه: أن إرادة العبد
للعمل ولتركه لا يكون إلا عن إرادة الله ومشيئته، بخلاف
قول القدرية أن للإنسان إرادةً ومشيئةً دون إرادة الله،
وقد تقدم أن ذلك كله من عمل العبد مخلوق لله، مراد له على
حسب ما أراد
(10/483)
من طاعة أو معصية، ومعنى قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (المؤمن كخامة الزرع) فى هذا الباب: أن
المؤمن يألم فى الدنيا بما يبتليه الله به من المراض التى
يمتحنه بها، فييسره للصبر عليها والرضا بحكم ربه واختياره
له؛ ليفرح بثواب ذلك فى الآخرة، والكافر كلما صح فى الدنيا
وسلم من آفاتها كان موته أشد عذابًا عليه، وأعظم ألمًا فى
مفارقة الدنيا، فثبت أن الله تعالى قد أراد بالمؤمن بكل
عسر يسرًا، وأراد بكل ما آتاه الكافر من اليسر عسرًا، وقد
تقدم فى أول كتاب المرضى. وقوله: (فذلك فضلى أوتيه من
أشاء) فذلك بين فى أن الإرادة هى المشيئة على ما تقدم
بيانه؛ إذ الفضل عطاء من له أن يتفضل به، وله ألا يتفضل،
وليس من كان عليه حق فأداه أو فعل ما عليه فعله يسمى
متفضلاً، وإنما هو من باب الأداء والوفاء بحق ما لزمه.
وقوله: (فلو قال إن شاء الله لقاتلوا فرسانًا أجمعون)
فوجهه أنه لما نسى أن يرد الأمر لله الخالق العليم، ويجعل
المشيئة إليه كما شرط فى كتابه، إذ يقول: (وَمَا
تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الإنسان: 30] ،)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ) [الكهف: 23] . فأشبه قوله:
(لأطوفن الليلة) قول من جعل لنفسه الحول والقوة؛ فحرمه
الله تعالى مراده وما أمله. وأما قوله للأعرابى: (لا بأس
عليك طهور إن شاء الله) فإنما أراد تأنيسه من مرضه بأن
الله يكفر ذنوبه، ويقيله، ويؤخر وفاته فوقع الاستثناء على
ما رجا له من الإقالة والفرج؛ لأن المرض معلوم أنه كفارة
للذنوب، وإن كان الاستثناء قد يكون بمعنى رد المشيئة إلى
(10/484)
الله تعالى، وفى جواب الأعرابي ما يدل على
ما قلناه، وهو قوله: حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور.
أى ليس كما رجوت من الإقالة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) :
(فنعم إذًا) دليل على أن قوله: (لا بأس عليك) ، أنه على
طريق الرجاء لا على طريق الخبر عن الغيب، وكذلك قوله: (إن
الله قبض أرواحنا حين شاء، وردها حين شاء) . وحديث عبادة،
وحديث أبى هريرة فى قصة موسى (صلى الله عليه وسلم) ، وقوله
(صلى الله عليه وسلم) : (لا أدرى أكان فيمن صعق، فأفاق
قبلى، أو ممن استثنى الله) ، فيها كلها إثبات المشيئة لله
تعالى، وفيه فضيلة موسى؛ لأن الأمة أجمعت على أن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أفضل البشر، فإن كان لم يصعق موسى
حين صعق الناس، ففيه من الفقه أن المفضول قد يكون فيه
فضيلة خاصة لا تكون فى الفاضل. واستثناء النبى (صلى الله
عليه وسلم) فى دخول الدجال والطاعون المدينة، هو من باب
التأدب لا على الشك الذى لا يجوز على الله تعالى ووجه
التحريض على سكنى المدينة لأمته؛ ليحترسوا بها من الفتنة
فى الدين؛ لأن المدينة أصل دينه فلم يسلط الله على سكانها
المعتصمين بها فتنة الدجال، ولا الطاعون لاعتصام سكانها
بها من الفتنة الكبرى، وهى الكفر المستأصل عقوبته، فكذلك
لا يستأصلهم بالموت بالطاعون الذى كان من عقوبات بنى
إسرائيل. وأما قوله فى الصديق (أنه نزع من البئر ما شاء
الله أن ينزع) ، فهذا استثناء صحيح، وأن حركات العباد لا
تكون إلا عن مشيئة الله
(10/485)
وإرادته، وكذلك قوله: ويقضى الله على لسان
رسوله ما شاء، أى أن الإنسان لا يتكلم إلا بمشيئة الله
المحرك للسانه، والمقلب لقلبه، وكذلك قوله: (إنا قافلون
غدا إن شاء الله) . فاستثنى فيما يستقبل من الأفعال، كما
أمره الله برد الحول والقوة إليه فى قوله: (وَلا
تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23] .
31 - بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 171]
/ 95 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم)
: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ
فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) . /
96 - وفيه: ابْن مَسْعُود، حَدَّثَنَا النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (أَنَّ خَلْقَ
أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ. . .) إلى قوله:
(ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْذَنُ
بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ. . .) الحديث، (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لا يَكُونُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ،
فَيَدْخُلُهَا. . .) الحديث. / 97 - وفيه: ابْن عَبَّاس،
أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَا
جِبْرِيلُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا، فَنَزَلَتْ:
(وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم: 64]
الآيَةِ. / 98 - وفيه: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِيّ (صلى
الله عليه وسلم) فَمَرَّ بِنفر مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ
(10/486)
بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ فَقَامَ
مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ، وَأَنَا خَلْفَهُ،
فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ (إلى) قَلِيلاً) [الإسراء:
85] . / 99 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله
عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى
سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ
وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. .
.) الحديث. / 100 - وفيه: أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: الرَّجُلُ
يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ
رِيَاءً، فَأَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ:
(مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: الكلمة
السابقة: هى كلمة الله بالقضاء المتقدم منه قبل أن يخلق
خلقه فى أم الكتاب؛ الذى جرى به القلم للمرسلين إنهم لهم
المنصورون فى الدنيا والآخرة، وقد تقدم فى كتاب القدر،
ومعنى هذا الباب إثبات الله متكلما وذا كلام، خلافًا لمن
يقول من المعتزلة: أنه غير متكلم فيما مضى، وكذلك هو فيما
بقى. وهذا كفر قد نص الله على إبطاله بقوله: (وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا) [الصافات: 171] فى آيات أخر، وقد نص
النبى (صلى الله عليه وسلم) على بيان هذا المعنى فى أحاديث
هذا الباب، فقال: (كتب عنده فوق عرشه) ، وقال: ثم يبعث
الله إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات يوحيها الله إلى الملك،
فيكتبها فى أم الكتاب، وقال: فيسبق عليه الكتاب بالقضاء
المتقدم فى سابق علمه، والكتاب يقتضي كلامًا مكتوبًا، ودل
ذلك على
(10/487)
أنه لم يزل عالمًا بما سيكون قبل كونه،
خلافًا لمن يقول: لا يعلم الأشياء قبل كونها، ووجه مشاكلة
حديث ابن عباس للترجمة، هو أن الذى يتنزل به جبريل هو كلام
الله ووحيه، وكذلك قوله فى حديث ابن مسعود) قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] يريد أن الروح خلق من
خلقه تعالى، خلقه بقوله: كن وكن: كلامه الذى هو أمره الذى
لم يزل ولا يزال. وقوله: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ
إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85] فيه دليل على أنه لا تبلغ
حقيقة العلم بالمخلوقات فضلا عن العلم بالخالق سبحانه، وأن
من العلم ما يلزم التسليم فيه لله تعالى ويجب الإيمان
بمشكله، وأن الراسخين فى العلم لا يعلمون تأويل المتشابه
كما يزعم المتكلمون، إذ قد أعلمنا الله أن السؤال عن الروح
ابتغاء ما لم يؤته من العلم، مع أنه وصف قلوب المتبعين ما
تشابه منه بالزيغ وابتغاء الفتنة، ووصف الراسخين فى العلم
بالإيمان به، وأن كله من عند ربهم، مستعيذين من الزيغ الذى
وسم الله به من اتبع تأويل المتشابه منه، داعين إلى الله
لا يزيغ قلوبهم بابتغاء تأويله، بعد إذ هداهم إلى الإيمان
به. وأما قوله: (كتب عنده: إن رحمتى سبقت غضبى) فهو والله
أعلم كتابه فى أم الكتاب الذى قضى به وخطه القلم، فكان من
رحمته تلك أن ابتدأ خلقه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى
الوجود،
(10/488)
وبسط لهم من رحمته فى قلوب الأبوين على
الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشرة أقذارهم ما إذا
تدبره متدبر أيقن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته
السابقة أنه يرزق الكفار وينعمهم، ويدفع عنهم الآلام ثم
ربما أدخلهم الإسلام رحمة منه لهم، وقد بلغوا من التمرد
عليه والخلع لربوبيته غايات تغضبه، فتغلب رحمته ويدخلهم
جنته، ومن لم يتب عليه حتى توفاه فقد رحمه مدة عمره بتراخى
عقوبته عنه، وقد كان له ألا يمهله بالعقوبة ساعة كفره به
ومعصيته له، لكنه أمهله رحمةً له، ومع هذا فإن رحمة الله
السابقة أكثر من أن يحيط بها الوصف.
32 - بَاب قَوله تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ
مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى (إلى قوله: (مَدَدًا) [الكهف:
109] وقوله: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِى الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ
أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27]
/ 101 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه
وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ
لا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلا الْجِهَادُ فِى
سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ
الْجَنَّةَ) . قال مجاهد: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ
مِدَادًا (للقلم يستمد منه للكتاب) لِّكَلِمَاتِ رَبِّى)
[الكهف: 109] ، أى لعلم ربى. وقال قتادة: لنفد ماء البحر
قبل أن ينفد كلام ربى وحكمه. ومعنى هذا الباب إثبات الكلام
لله صفةً لذاته، وأنه لم يزل
(10/489)
متكلمًا ولا يزال، كمعنى الباب الذى قبله،
وإن كان قد وصف كلامه تعالى بأنه كلمات فإنه شىء واحد لا
يتجزأ ولا يقسم، وكذلك يعبر عنه بعبارات مختلفة: تارةً
عربيةً، وتارةً سريانيةً، وبجميع الألسنة التى أنزلها الله
على أنبيائه، وجعلها عبارةً عن كلامه القديم الذى لا يشبه
كلام المخلوقين، ولو كانت كلماته مخلوقة لنفدت كما تنفد
البحار والأشجار وجميع المحدثات، فكما لا يحاط بوصفه
تعالى، كذلك لا يحاط بكلماته وجميع صفاته.
33 - بَاب قَوله تَعَالَى: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (الآية) قَالُوا مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ
الْكَبِيرُ) [سبأ: 23] وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ
رَبُّكُمْ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: (مَنْ ذَا الَّذِى
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ) [البقرة: 255]
وَقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ
اللَّهُ بِالْوَحْىِ، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا،
فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَ الصَّوْتُ
عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا: (مَاذَا قَالَ
رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23] . وَيُذْكَرُ عَنْ
جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، سَمِعْتُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَحْشُرُ
اللَّهُ الْعِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ
مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا
الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ) . / 102 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِذَا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ فِى السَّمَاءِ،
ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا،
لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ) .
(10/490)
/ 103 - قال على بن المدينى، وَقَالَ
غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا)
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ) [سبأ: 23]
. وَقَالَ عكرمة مرةً عن أبى هريرة يرفعه: أنه قرأ:
فُزِّغَ. / 104 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا
أَذِنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَغَنَّى
بِالْقُرْآنِ) . / 105 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: يَا
آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى
بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ
ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ) . / 106 - وفيه:
عَائِشَةَ، مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى
خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا
بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ. قال المهلب: استدل البخارى بقوله
تعالى: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) [سبأ: 23] . ولم يقل:
ماذا خلق ربكم. على أن قوله تعالى قائم بذاته، صفة من
صفاته، لم يزل موجودًا ولا يزال، وأنه لا يشبه كلام
المخلوقين، وليس بذى حروف، خلافًا للمعتزلة التى نفت كلام
الله تعالى، وقالت: إن كلامه كناية عن الفعل والتكوين،
قالوا: وهذا سائغ فى كلام العرب، ألا ترى أن الرجل يعبر عن
حركته بيده فيقول: قلت بيدى هكذا، وهم يريدون حركت يدى،
ويحتجون بأنه كلام لا يعقل منا إلا بأعضاء ولسان،
(10/491)
والباري تعالى لا يجوز أن يكون له أعضاء
وآلات الكلام؛ إذ ليس بجسم. فرد البخارى عليهم بقوله (صلى
الله عليه وسلم) : (إذا قضى الله الأمر فى السماء، فزعت
الملائكة وضربت بأجنحتها فكان لها صوت، كأنه سلسلة على
صفوان خضعانًا) لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن
قُلُوبِهِمْ) [سبأ: 23] ، أى أذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا
للذى فوقهم: ماذا قال ربكم؟ فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا
لم يفهموا معناه من أجل فزعهم، فقالوا: ماذا قال ربكم؟ ولم
يقولوا: ماذا خلق ربكم، وأكد ذلك بما حكاه عن الملائكة
أيضًا؟) قَالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23] ، والحق إحدى صفتى
القول الذى لا يجوز على الله غيره؛ لأنه لا يجوز على كلامه
الباطل. ولو كان القول منه خلقًا وفعلا لقالوا حين سألوا
ماذا قال، أخلق خلقًا كذا، إنسانًا، أو جبلا، أو شيئًا من
المخلوقات، فلما وصفوا قوله بما يوصف به الكلام من الحق،
لم يجز أن يكون القول بمعنى الخلق والتكوين، وكذلك قوله
لآدم: يا آدم، وهو كلام مسموع، ولو كان بمعنى الخلق
والتكوين ما أجاب بلبيك وسعديك، التى هى جواب المسموعات،
وكذلك قول عائشة: (ولقد أمره ربه أن يبشرها) هو كلام، وقول
مسموع من الله تعالى ولو كان خلقًا لما فهم منه عن ربه له
بالبشرى.
(10/492)
34 - بَاب كَلامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ
وَنِدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ وَقَالَ
مَعْمَرٌ: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) [النمل: 6]
أَىْ يُلْقَى عَلَيْكَ، وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ: أَىْ
تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) [البقرة: 37]
. / 107 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا
نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا،
فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِى
جِبْرِيلُ فِى السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ
فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ،
وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأرْضِ) . / 108 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ،
وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ
الْعَصْرِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ
بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ،
كَيْفَ تَرَكْتُمْ. . .) الحديث. / 109 - وفيه: أَبُو
ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَانِى
جِبْرِيلُ، فَبَشَّرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ
بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ
سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى)
. هذا باب كالباب الذى قبله فى إثبات كلام الله وإسماعه
إياه جبريل والملائكة، فيسمعون عند ذلك الكلام القديم
القائم بذاته الذى لا يشبه كلام المخلوقين، إذ ليس بحرف
ولا تقطيع نغم وليس من شرطه أن يكون بلسان وشفتين وآلات،
وحقيقته أن يكون مسموعًا مفهومًا، ولا يليق بالبارى تعالى
أن يستعين فى كلامه بالجوارح والأدوات، فمن قال: لم أشاهد
كلامًا إلا بأدوات، لزمه التشبيه؛ إذ حكم على الله بحكم
المخلوقين، وخالف قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)
[الشورى: 11] .
(10/493)
35 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ)
[النساء: 166]
قَالَ مُجَاهِدٌ: (يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ)
[الطلاق: 12] بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأرْضِ
السَّابِعَةِ. / 110 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (يَا فُلانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى
فِرَاشِكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى
إِلَيْكَ. . . إلى قوله: (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى
أَنْزَلْتَ. . .) الحديث. / 111 - وفيه: ابْن أَبِى
أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَوْمَ
الأحْزَابِ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ: سَرِيعَ
الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، وَزَلْزِلْ بِهِمْ) . /
112 - وفيه: ابْن عَبَّاس،) وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110] أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ،
وَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ، سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ،
فَسَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ
بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ
(يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ،) وَلا تُخَافِتْ بِهَا (عَنْ
أَصْحَابِكَ، فَلا تُسْمِعُهُمْ،) وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلا (أَسْمِعْهُمْ، وَلا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا
عَنْكَ الْقُرْآنَ. ولا تعلق للقدرية فى قوله تعالى:
(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] أن القرآن مخلوق؛
لأن كلامه قديم قائم بذاته، ولا يجوز أن تكون صفة ذات
القديم إلا قديمة، فالمراد بالإنزال إفهام عباده المكلفين
معانى كتابه وفرائضه التى افترضها عليهم، وليس إنزاله
كإنزال الأجسام المخلوقة التى يجوز عليها الحركة والانتقال
من مكان إلى مكان؛ لأن القرآن ليس بجسم ولا مخلوق،
والأفعال التى يعبر بها
(10/494)
عن الأجسام كالحركة والانتقال من الأمكنة
تستحيل على الله وعلى كلامه وجميع صفاته. قال المهلب: وفى
حديث البراء الرد على القدرية الذين يزعمون أن لهم قدرة
على الخير والشر استحقوا عليها الثواب والعقاب لأمر النبى
(صلى الله عليه وسلم) من آوى إلى فراشه بالتبرؤ عند نومه
من الحول والقوة والاستسلام لقدرة الله التى إليه بها
النوم، فلم يستطع دفعه، فلو كان يملك لنفسه نفعًا أو ضرًا
لدفع عن نفسه النوم الذى هو موت إن أمسك الله نفسه فيه مات
أبدًا، وإن أرسلها بعد موته ساعة أو ساعات جدد لها حياة.
وكيف يملك الإنسان لنفسه قدرة، وقد أمره نبيه (صلى الله
عليه وسلم) أن يتبرأ من جميع وجوهها فى هذا الحديث، ثم
عرفك أن هذه الفطرة التى فطر الله الناس عليها يجب أن تكون
آخر ما يقوله المرء الذى حضره أول الموت فيموت على الفطرة
التى عليها خلقه، وإن أحياه أصاب بتبرئه إليه خيرًا يريد
أجرًا فى الآخرة وخيرًا من رزق وكفاية وحفظ فى الدنيا. وفى
حديث ابن أبى أوفى جواز الدعاء بالسجع، إذا لم يكن متكلفًا
مصنوعًا تفكره، وشغل بال بتهيئته فيضعف بذلك نية الداعى
فلذلك كره السجع فى الدعاء، وأما إذا تكلم به طبعًا فهو
حسن وقد أشرنا إلى هذا المعنى فى كتاب الدعاء. وفى حديث
ابن عباس أن قطع الذرائع التى تنقص البارى تعالى وتنقص
كتابه واجب وإن كان المراد بها الخير لمنعه من رفع الصوت
بالقرآن لئلا يسمعه من يسبه ومن أنزله.
(10/495)
36 - بَاب قوله تَعَالَى) يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ) إِنَّهُ
لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق: 13] حَقٌّ) وَمَا هُوَ
بِالْهَزْلِ) [الطارق: 14] بِاللَّعِبِ.
/ 113 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِى
ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِى
الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) . / 114 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِى وَأَنَا
أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ
مِنْ أَجْلِى. . .) الحديث. / 115 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ
رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى فِى
ثَوْبِهِ، فَنَادَى رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ. . .) . / 116 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَنْفِقْ أُنْفِقْ
عَلَيْكَ) . / 117 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ:
(هَذِهِ خَدِيجَةُ، أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ،
أَوْ شَرَابٌ، فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلامَ،
وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا
نَصَبَ) . / 118 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ:
أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ
رَأَتْ. . .) الحديث. / 119 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ
اللَّيْلِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ
نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ أَنْتَ الْحَقُّ،
وَقَوْلُكَ الْحَقُّ. . .) ، الحديث.
(10/496)
/ 120 - وفيه: عَائِشَةَ، فِى حديث
الإِفْكِ: وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ مِنْ
أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى. . .)
الحديث. / 121 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: إِذَا أَرَادَ
عَبْدِى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا
عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا. . .) الحديث. / 122 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا
فَرَغَ اللَّه من الخلق قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ،
قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ
الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ
وَصَلَكِ. . .) الحديث. / 123 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ:
قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِى لِقَائِى أَحْبَبْتُ
لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِى كَرِهْتُ لِقَاءَهُ) .
/ 124 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه
وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ
عَبْدِى بِى) . / 125 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو
سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ
رَجُلٌ لأهله، لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، احرقونى،
فَقَالَ لهُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ،
فَغَفَرَ لَهُ) . / 126 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ
ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَقَالَ رَبُّهُ، جل
ثناءه: عَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ
الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِى. . .)
الحديث. قال المهلب: غرضه فى هذا الباب كغرضه فى الأبواب
التى قبله،
(10/497)
ومعنى قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن
يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ، هو أن
المنافقين تخلفوا عن الخروج مع النبى (صلى الله عليه وسلم)
إلى غزوة تبوك، واعتذروا فأعلم الله إفكهم فيه، فأمر الله
رسوله أن يقرأ عليهم قوله تعالى: (فَقُل لَّن تَخْرُجُوا
مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا)
[التوبة: 83] فأعلمهم بذلك وقطع أطماعهم من الخروج معه.
فلما رأوا الفتوحات قد تهيأت للنبى (صلى الله عليه وسلم)
أرادوا الخروج معه رغبة منهم فى المغانم، فأنزل الله على:
(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى
مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ
يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15]
، أى أمره لرسوله بأن لا يخرجوا معه بأن يخرجوا معه. فقطع
الله أطماعهم من ذلك مدة أيامه (صلى الله عليه وسلم) ؛
لقوله: (لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا) [التوبة: 83] ،
ثم قال آمرًا لرسوله (صلى الله عليه وسلم) : (قل للمخلفين
من الأعراب (يعنى: المريدين تبديل كلام الله:
(سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ
تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا
كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ) [الفتح: 16] ، يعنى
توليتم عن إجابته (صلى الله عليه وسلم) حين دعاهم إلى
الخروج معه فى سورة براءة) يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا) [الفتح: 16] ، والداعى لهم غيره (صلى الله عليه
وسلم) ممن يقوم بأمره من خلفائه، فقيل: الداعى لهم بعده
أبو بكر دعاهم لقتال أهل الردة، وقيل: الداعى عمر، دعاهم
لقتال المشركين. وسائر الأحاديث فيها إثبات كلامه، وقد مر
القول على أنه صفة قائمة به لا يصح مفارقتها له، وأنه لم
يزل متكلمًا، ولا يزال كذلك.
(10/498)
وأما قوله: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر) قد
تقدم فى باب قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو
الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] ، أن الأذى لا يلحق
بالله، وإنما يلحق من تتعاقب عليه الحوادث، ويلحقه العجز
والتقصير عن الانتصار، والله تعالى منزه عن ذلك، فوجب أن
يرجع الأذى المضاف إليه تعالى إلى أنبيائه ورسله، والمعنى
يؤذى ابن آدم أنبيائى ورسلى بسب الدهر؛ لأن ذلك ذريعة إلى
سب خالق الدهر، ومصرف أقضيته وحوادثه. وقوله: (وأنا الدهر)
أى: أفعل ما يجرى به الدهر من السراء والضراء، ألا ترى
قوله تعالى: (بيدى الأمر أقلب الليل والنهار) فالأيام
والليالى ظروف للحوادث، فإذا سببتم الدهر وهو لا يفعل
شيئًا فقد وقع السب على الله. وقد بينت هذا الحديث بأكثر
من هذا فى كتاب الأدب فى باب: لا تسبوا الدهر. قال المهلب:
وأما قوله تعالى: (أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فهو كقوله تعالى:
(وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 8] مما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا توهمه قلب بشر. هو على الحقيقة ما
لا يعلمه بشر ممن له الأذن والقلب والبصر، فتخصيصه قلب بشر
بأن لا يعلمه، يدل والله أعلم أنه يجوز أن يخطر على قلوب
الملائكة، ألا ترى أنه إذا أفردنا بالمخاطبة بقوله:
(وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (فدل على جواز أن يعلمه
غيرنا. وقوله فى حديث أبى هريرة: (لما فرغ الله من الخلق
قامت الرحم
(10/499)
فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
فقال تعالى: ألا ترضين. . .) الحديث. فلا تعلق فيه لمن
يقول: بحدث كلامه تعالى من أجل أن الفاء فى قوله فقال:
توجب فى الظاهر كون قوله تعالى عقيب قول الرحم، وذلك مقتضٍ
للحدث لقيام الدليل على أن الله لم يزل قائلا متكلمًا قبل
أن يخلق خلقه بما لا أول له من الأزمان، وإذا كان ذلك كذلك
وجب حمل قوله تعالى على معنى إفهامه تعالى إياها معنى
كلامه الذى لم يزل به متكلمًا وقائلاً، وعلى هذا المعنى
يحمل نحو هذا اللفظ إذا أتى فى الحديث. وقد يحتمل أن يكون
يأمر ملكًا من ملائكته بأن يقول للرحم هذا القول عنه
تعالى، وأضاف إليه، إذ كان قول الملك عن أمره تعالى له،
ويدل على صحة هذا التأويل رواية من روى فى حديث الشفاعة:
(فأستأذن على ربى وأخر له ساجدًا فيقال: يا محمد، ارفع
رأسك. .) بترك إسناد القول إلى الله تعالى جاءت هذه
الرواية فى الباب بعد هذا. وقوله للرحم: مه، فمعنى مه فى
لسان العرب: الزجر والردع. فمحال توجه ذلك إلى الله، فوجب
توجهه إلى من عاذت الرحم بالله تعالى من قطعه إياها.
وقوله: (أنا عند ظن عبدى بى) لا يتوجه إلا إلى المؤمنين
خاصة أى: أنا عند ظن عبدى المؤمن بى، وفى القرآن آيات تشهد
أن عباده المؤمنين وإن أسرفوا على أنفسهم أنه عند ظنهم به
من المغفرة والرحمة،
(10/500)
وإن أبطأت حينًا وتراخت وقتًا لإنفاذ ما
حتم به، على من سبق عليه إنفاذ الوعيد تحلة القسم؛ لأنه قد
كان له أن يعذب واحد أبدًا كإبليس، فهو عند ظن عبده، وإن
عاقبه برهة فإن كان ظنه به ألا يعذبه برهة، ولا تحلة فإنه
كذلك يجده كما ظن إن شاء الله فهو أهل التقوى وأهل
المغفرة. وأما حديث الذى لم يعمل خيرًا قط، ففيه دليل على
أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله ما لم يتغمده الله برحمته
كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الإنسان يدخل
الجنة بحسن نيته فى وصيته لقوله: خشيتك يا رب. وفيه أن من
جهل بعض الصفات فليس بكافر خلافًا لبعض المتكلمين؛ لأن
الجهل بها هو العلم؛ إذ لا تبلغ كنه صفاته تعالى، فالجاهل
بها هو المؤمن حقيقة ولهذا قال بعض السلف: عليكم بدين
العذارى، أفترى العذارى يعلمن حقيقة صفات الله تعالى.
وللأشعرى فى تأويل هذا الحديث قولان: كان قوله الأول: من
جهل القدرة أو صفة من صفات الله تعالى فليس بمؤمن. وقوله
فى هذا الحديث: (لئن قدر الله على) لا يرجع إلى القدرة
وإنما يرجع إلى معنى التقدير الذى هو بمعنى التضييق كما
قال تعالى فى قصة يونس: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ
عَلَيْهِ) [الأنبياء: 87] ، أى لن نضيق عليه، ثم رجع عن
هذا القول وقال: لا يخرج المؤمن من الإيمان بجهله بصفة من
صفات الله تعالى قدرة كانت أو سائر صفات ذاته تعالى إذا لم
يعتقد فى ذلك اعتقادًا يقطع أنه الصواب
(10/501)
والدين المشروع، ألا ترى أن الرجل قال: لئن
قدر الله عليه ليعذبنه فأخرج ذلك مخرج الظن دون القطع على
أنه تعالى غير قادر على جمعه وإحيائه إخراج خائف من عذاب
ربه ذاهل العقل. يدل على ذلك قوله مجيبًا لربه لما قال له:
لم فعلت؟ قال: من خشيتك. وأنت أعلم. فأخبر بالعلة التى لها
فعل ما فعل، ويدل على صحة هذا القول من روى قوله: لعلى أضل
الله. و (لعل) فى كلام العرب موضوعة لتوقع مخوف لا يقطع
على كونه، ولا على انتفائه، ومعنى قوله: لعلى أضل على الله
وحذف حرف الجر، وذلك مشهور فى اللغة كما قال الشاعر:
استغفر الله ذنبًا والمعنى من ذنب. ومن كان خائفًا عند
حضور أجله فجدير أن تختلف أحواله لفرط خوفه، وينطق بما لا
يعتقد، ومن كان هكذا فغير جائز إخراجه من الإيمان الثابت
له؛ إذ لم يعتقد ما قاله دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من
اعتقده تعالى على خلاف ما هو به، وقطع على أن ذلك هو الحق،
ولو كفر من جهل بعض صفات الله لكفر عامة الناس؛ إذ لا يكاد
نجد منهم من يعلم أحكام صفات ذاته، ولو اعترضت جميع العامة
وكثيرًا من الخاصة وسألتهم: هل لله تعالى قدرة أو علم أو
سمع أو بصر أو إرادة، وهل قدرته متعلقة بجميع ما يصح كونه
معلومًا لما عرفوا حقيقة ذلك؟ فلو حكم بالكفر على من جهل
صفة من صفات الله تعالى لوجب الحكم به على جميع العامة،
وأكثر الخاصة وهذا محال.
(10/502)
والدليل على صحة قولنا حديث السوداء، وأن
الرسول قال لها: (أين الله؟) فقالت: فى السماء. فقال: من
أنا؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة) .
فحكم لها بالإيمان، ولم يسألها عن صفات الله وأسمائه، ولو
كان علم ذلك شرطًا فى الإيمان لسألها عنه كما سألها عن أنه
رسول الله، وكذلك سؤال أصحاب رسول الله، عمر بن الخطاب
وغيره، رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن القدر، فقالوا:
يا رسول الله، أرأيت ما نعمل لأمر مستأنف أم لأمر قد سبق؟
فقال: (بل لأمر قد سبق، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال:
اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) وأعلمهم أن ما أخطأهم لم يكن
ليصيبهم، ومعلوم أنهم كانوا قبل سؤاله مؤمنين، ولا يسع
مسلمًا أن يقول غير ذلك فيهم، ولو كان لا يسعهم جهل القدرة
وقدم العلم لعلمهم ذلك مع شهادة التوحيد، ولجعله عمودًا
سادسًا للإسلام، وهذا بين. وأما حديث أبى هريرة فى الرجل
الذى واقع الذنب مرة بعد مرة ثم استغفر ربه فغفر له، ففيه
دليل على أن المصر فى مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن
شاء غفر له مغلبًا لخشيته التى جاء بها وهى اعتقاده، وأن
له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك، يدل
على ذلك قوله: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] ، ولا حسنة أعظم من توحيد
الله والإقرار بوجوده والتضرع إليه فى المغفرة. فإن قيل:
فإن استغفاره ربه توبة منه، ولم يكن مصرًا قيل له: ليس
الاستغفار أكثر من طلب غفرانه، وقد يطلب الغفران المصر
والنائب، ولا دليل فى الحديث على أنه قد كان تاب مما سأل
الغفران
(10/503)
منه؛ لأن التوبة الرجوع من الذنب والعزم،
على ألا يعود إلى مثله والاستغفار لا يفهم منه ذلك، وبالله
والتوفيق.
37 - بَاب كَلامِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ الأنْبِيَاءِ
وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
/ 127 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، شُفِّعْتُ، فَقُلْتُ:
يَا رَبِّ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ
خَرْدَلَةٌ، فَيَدْخُلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلِ
الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى شَىْءٍ. / 128
- وَقَالَ أَنَس مرة عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَاجَ النَّاسُ
بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ. . .) إلى قوله:
(فَيَأْتُونِى، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ
عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ لِى، وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ
أَحْمَدُهُ بِهَا، لا تَحْضُرُنِى الآنَ، فَأَحْمَدُهُ
بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا،
فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ:
يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ،
فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِى، أُمَّتِى، فَيَقُولُ:
انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ
مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. . .) وذكر الحديث إلى
قوله: (أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ)
، إلى قوله: (فَمَرَرْنَا بِالْحَسَنِ، وَهُوَ مُتَوَارٍ
فِى مَنْزِلِ أَبِى خَلِيفَةَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا
سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ ابْنِ
مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِى
الشَّفَاعَةِ، قَالَ: هِيهْ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ
فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَا، وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ
عِشْرِينَ سَنَةً أَنَّهُ قَالَ: (ثُمَّ أَعُودُ
الرَّابِعَةَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ
أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. . .) إلى قوله: (فَيَقُولُ
وَعِزَّتِى وَجَلالِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى
لأخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)
.
(10/504)
/ 129 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ آخِرَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ
خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا،
فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ:
رَبِّ، الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثًا،
كُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى،
فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَات) .
/ 130 - وفيه: عَدِىِّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ
لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ) . / 131 - وفيه:
عَبْدِاللَّهِ، جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، إلى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّهُ إِذَا
كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
عَلَى إِصْبَعٍ. . .) الحديث (ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ
يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. . .) الحديث. / 132 - وفيه:
ابْن عُمَرَ، سَأَلَه رجُل: كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِى النَّجْوَى؟ قَالَ:
(يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ
عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟
فَيُقَرِّرُهُ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّى
سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا
لَكَ الْيَوْمَ) . قال المهلب: قد تقدم إثبات كلام الله مع
الملائكة المشاهدة له وأثبت فى هذا الباب كلامه تعالى مع
النبيين يوم القيامة بخلاف ما حرمهم إياه فى الدنيا بحجابه
الأبصار عن رؤيته فيها، فيرفع فى الآخرة ذلك الحجاب عن
أبصارهم، ويكلمهم على حال المشاهدة كما قال (صلى الله عليه
وسلم) : (ليس بينه وبينهم ترجمان) وجميع أحاديث الباب فيها
كلام الله مع عباده، ففى حديث الشفاعة قوله تعالى لمحمد:
(10/505)
(أخرج من النار من فى قلبه مثقال حبة من
خردل من إيمان) إلى قوله: (وعزتى وجلالى وكبريائى لأخرجن
منها من قال: لا إله إلا الله) فهذا كلامه للنبى (صلى الله
عليه وسلم) بدليل قوله: (فأستأذن على ربى) وفى بعض طرق
الحديث (فإذا رأيته أخر له ساجدًا) وكذلك قوله فى حديث آخر
من يدخل الجنة. قوله تعالى: (ادخل الجنة. فيقول: رب الجنة
ملأى) إلى قوله: (لك مثل الدنيا عشر مرات) فأثبت بذلك
كلامه تعالى مع غير الأنبياء مشافهة، ونظرهم إليه، وكذلك
حديث النجوى: يدنيه الله فى رحمته وكرامته ويقول: سترتها
عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم على الانفراد عن
الناس. وقد تقصيت الكلام فى النجوى فى باب: ستر المؤمن على
نفسه فى كتاب الأدب فى موضعه. وقوله: (هيه) : هى كلمة
استزادة للكلام. عن صاحب العين. وقوله: (ثم يهزهن) . قال
صاحب العين: الهزهزة: تحريك اليد.
38 - بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 146]
/ 133 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، قَالَ مُوسَى:
أَنْتَ آدَمُ، الَّذِى أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ
الْجَنَّةِ، قَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ
اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ وَكَلامِهِ. . .) الحديث. / 134 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام:
(يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا،
فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. . .) . / 135 - وفيه:
أَنَس، قَالَ: لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِالنَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، جَاءَهُ ثَلاثَةُ
نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ:
(10/506)
أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ: أَوْسَطُهُمْ
هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ،
فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى
أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ،
وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ
الأنْبِيَاءُ، عليهم السَّلام، تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلا
تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى
احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ
فَتَوَلاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا
بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ
صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ
بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِىَ بِطَسْتٍ
مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا
َحِكْمَةً وَإِيمَانًا فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ
وَلَغَادِيدَهُ، يَعْنِى عُرُوقَ حَلْقِهِ، ثُمَّ
أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَضَرَبَ
بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ.
. .) ، فذكر حديث المعراج: (فذكر فِى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا آدَمَ، وَإِدْرِيسَ فِى الثَّانِيَةِ،
وَهَارُونَ فِى الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِى لَمْ أَحْفَظِ
اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِى
السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلامِ اللَّهِ، فَقَالَ
مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَىَّ أَحَدٌ،
ثُمَّ عَلا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لا يَعْلَمُهُ إِلا
اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا
لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ
مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ
تَعَالَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ لهُ مُوسَى:
ارْجِعْ ربك. فراجع ربه حَتَّى خفف عنه إلى خَمْسِ
صَلَوَاتٍ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا
مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى مِمَّا
اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ،
قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِى مَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
قال المؤلف: بوب البخارى لحديث أنس فى كتاب الأنبياء باب:
(10/507)
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) تنام عينه
ولا ينام قلبه. وبوب له فى تفسير القرآن باب: قوله تعالى:
(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ)
[الإسراء: 60] . استدل البخارى على إثبات كلام الله،
وإثباته متكلمًا بقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى
تَكْلِيمًا) [النساء: 164] ، وأجمع أهل السنة على أن الله
كلم موسى بلا واسطة ولا ترجمان، وأفهمه معانى كلامه،
وأسمعه إياها؛ إذ الكلام مما يصح سماعه. فإن قال قائل من
المعتزلة أو غيرهم: فإذا سمع موسى كلام الله بلا واسطة ولا
ترجمان، فلا يخلو أن يكون من جنس الكلام المسموع المعهود
فيما بيننا أو لا يكون من جنسه، فإن كان من جنسه فقد وجب
أن يكون محدثًا ككلام المحدثين، وإن لم يكن من جنسه فكيف
السبيل إلى إسماعه إياه وفهمه معانيه؟ فالجواب: أنه لو لزم
من حيث سمعه منه تعالى وفهم معانيه أن يكون كسائر كلام
المحدثين قياسًا عليه للزم أن يكون بكونه فاعلا وقادرًا
وعالمًا وحيًا ومريدًا، وسائر صفاته من جنس جميع الموصوفين
بهذه الصفات فيما بيننا. فإن قالوا: نعم، خرجوا من
التوحيد، وإن أبوه نقضوا دليلهم واعتمادهم على قياس الغائب
على حكم الشاهد. ثم يقال لهم: لو وجب أن يكون كلامه من جنس
كلام المخلوقين من حيث اشترك كلامه تعالى وكلامهم فى
إدراكهما بالأسماع لوجب إذا كان البارى تعالى موجودًا
وشيئًا أن يكون من جنس الموجودات وسائر الأشياء المشاهدة
لنا، فإن لم يجب هذا لم يجب
(10/508)
ما عرضوا به، وقد ثبت أنه تعالى قادر على
أن يعلمنا اضطرارًا كل شىء يصح أن يعلمناه استدلالاً
ونظرًا، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون تعالى قادرًا على
أن يعلم موسى معانى كلامه الذى لا يشبه كلام المخلوقين
الخارج عن كونه حروفًا منظمة وأصواتًا مقطعة اضرارًا أو
ينصب له دليلا إذا نظر فيه أدّاه إلى العلم بمعانى كلامه،
فإذا كان قادرًا على الوجهين جميعًا زالت شبهة المعتزلة.
قال المهلب: فى إفهام الله تعالى موسى من كلامه ما لا عهد
له بمثله بتنوير قلبه له وشرحه له وشرحه لقبوله لا يخلو أن
يكون ما أفهم الله سليمان من كلام الطير ومنطقها هو مثل
كلام سليمان أو لا يشبه كلامه، فإن كان يشبه كلام سليمان
ومن جنسه فلا وجه لاختصاص سليمان وداود بتعليمه دون بنى
جنسه، ولا معنى لفخره (صلى الله عليه وسلم) بالخاصة
وامتداحه بقوله: (عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ (إلى قوله:
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16] ،
أو يكون منطق الطير الذى فهمه سليمان غير منطق سليمان
والطير وبنى جنسهن فقد أفهمه الله ما لم يفهمه غيره من
كلام الهدهد وكلام النملة التى تبسم ضاحكًا من قولها لفهمه
عنها ما لم يفهمه غيره منها. وإنما ذكر حديث أبى هريرة فى
حديث الشفاعة مختصرًا لما فى الحديث الطويل من قول إبراهيم
(ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلمه تكليمًا)
وكذلك فى حديث أنس فى الإسراء (فوجد موسى فى السماء
السابعة بتفضيل كلامه عز وجل) وهذا يدل على أن الله تعالى
لم يكلم من الأنبياء غير موسى - عليه السلام -
(10/509)
بخلاف ما زعم الأشعريون، ذكروا عن ابن عباس
وابن مسعود أن الله كلم محمدًا (صلى الله عليه وسلم)
بقوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [النجم:
10] ، وأنه رأى ربه تعالى، وقد دفعت هذا عائشة وأعظمت فرية
من افترى فيه على الله تعالى. وأما قول موسى إذ علا جبريل
بمحمد: (يا رب، لم أظن أنك ترفع على أحدًا. موسى أن الله
لم يكلم أحدًا من البشر فى الدنيا غيره؛ إذ بذلك استحق أن
يرفع إلى السماء السابعة، وفهم من قوله تعالى: (إِنِّى
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِى وَبِكَلاَمِى)
[الأعراف: 144] أنه أراد البشر كلهم. ولم يعلم والله أعلم
أن الله تعالى فضل محمدًا عليه بما أعطاه الله من الوسيلة
والدعوة المقبولة منه شفاعة لأمته ولسائر الأنبياء من شدة
موقفهم يوم الحشر حين أحجم الأنبياء عن الوسيلة إلى ربهم
لشدة غضبه، وفضله بالإسعاف بالمقام المحمود الذى وعده فى
كتابه، فبهذا رفع الله محمدًا على موسى. وأما قوله: (فدنا
الجبار رب العزة) فهو دنو محبة ورحمة وفضيلة لا دنو مسافة
ونقلة لاستحالة النقلة والحركة على البارى إذ لا يجوز أن
تحويه الأمكنة. وقوله: (حتى كان قاب قوسين أو أدنى) فهو
جبريل الذى تولى، فكان من الله أو من أمره على مقدار ذلك.
عن الحسن) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [النجم:
10] ، إلى جبريل ما أوحى، وكتب القلم وحتى سمع
(10/510)
محمد صريفه فى كتابه، وبلغ جبريل محمدًا،
وهو عند سدرة المنتهى، قيل: إليها منتهى أرواح الشهداء)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم: 11] . قال ابن
عباس: رأى محمد ربه بقلبه. وعن ابن مسعود وعائشة: رأى
جبريل وهو قول قتادة. وقال الحسن: ما رأى من مقدور الله
وملكوته. وقوله: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى)
[النجم: 12] ، هو محمد رأى جبريل (صلى الله عليه وسلم) فى
صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح رفرفًا أخضر سد
ما بين الخافقين، ولم يره قط فى صورته التى هو عليها إلا
مرتين، وإنما كان يراه فى صورة كان يتشكل عليها من صور
الآدميين وأكثرها صورة دحية الكلبى. وفى قوله:
(أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (دليل على أن العيان
أكبر أسباب العلم فلا يتمارى فيه ولذلك قال (صلى الله عليه
وسلم) : (ليس الخبر كالمعاينة) ورأيت لبعض الناس فى لقاء
النبى (صلى الله عليه وسلم) للأنبياء فى السموات دون
عليين، والأنبياء مقرهم فى ساحة الجنة ورياضها تحت العرش،
ومن دونهم من المقربين هناك فما وجه لقائه لآدم فى السماء
الدنيا، ولإدريس فى السماء الثانية، وهارون فى الرابعة،
وآخر فى الخامسة، وإبراهيم فى السادسة، وموسى فى السابعة؟
قال: فوجهه أنهم تلقوه (صلى الله عليه وسلم) كما يتلقى
القادم يسابق الناس إليه على قدر سرورهم بلقائه. وقد روى
عن أنس فى رتبة الأنبياء فى السموات خلاف حديث البخارى،
روى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن
(10/511)
الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن
عتبة بن أبى وقاص، عن أنس بن مالك فذكر حديث الإسراء (فوجد
آدم فى السماء الدنيا، وفى السماء الثانية عيسى ويحيى بن
زكريا ابنا الخالة، وفى الثالثة يوسف، وفى السماء الرابعة
إدريس، وفى الخامسة هارون، وفى السادسة موسى، وفى السابعة
إبراهيم) . وأما قوله: (فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام) فإن
أهل العلم اختلفوا فى صفة مسرى النبى، فقالت طائفة: أسرى
الله بجسده ونفسه، وروى ذلك عن ابن عباس والضحاك وسعيد بن
جبير وقتادة، وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة. وقالت طائفة
ممن قال: أسرى بجسده أنه صلى بالأنبياء ببيت المقدس ثم عرج
به إلى السماء فأوحى الله إليه، وفرض عليه الصلاة، ثم رجع
إلى المسجد الحرام من ليلته فصلى به صلاة الصبح، روى ذلك
الطبرى فى حديث الإسراء عن أنس: ذكر من حديث أبي سعيد
الخدرى أنه صلى (صلى الله عليه وسلم) فى بيت المقدس، ولم
يذكر أنه صلى خلفه أحد، وقالت طائفة: أسرى برسول الله
بجسمه ونفسه غير أنه لم يدخل بيت المقدس، ولم يصل فيه، ولم
ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة. روى ذلك عن حذيفة قال فى
قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى) [الإسراء: 1] ، قال: لم يصل فيه النبي - عليه
السلام -، ولو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب
عليكم الصلاة عند الكعبة. وقال آخرون: أسرى بروحه ولم يسر
بجسده، روى ذلك عن عائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن
البصري، وذكر ابن فورك عن
(10/512)
الحسن قال: عرج بروح النبي - عليه السلام -
وجسده فى الأرض، وهو اختيار محمد بن إسحاق صاحب السير. ومن
حجة أهل المقالة الأولى ما روى عن ابن عباس فى قوله تعالى:
(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ
فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) [الإسراء: 60] ، قال: هى رؤيا عين
أريها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة أسرى به إلى
بيت المقدس، وليست رؤيا منام، رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن
عكرمة، عن ابن عباس قالوا: ولو أسرى بروحه دون جسده، وكان
الإسراء فى المنام لما أنكرت قريش ذلك من قوله (صلى الله
عليه وسلم) ؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا؟ ولا ينكرون
أحدًا يرى فى المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على
مسيرة شهر أو أقل. ومن حجة الذين قالوا: أسرى بروحه دون
جسده قول أنس فى حديث الإسراء، قال حين أسرى به: (جاءه
ثلاثة نفر وهو نائم فى المسجد الحرام. .) وذكر الحديث إلى
قوله: (حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا
ينام قلبه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا
تنام قلوبهم) فذكر النوم فى أول الحديث، وقال فى آخره:
(فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام) وهذا بين لا إشكال فيه،
وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ترجم له فى كتاب الأنبياء
وتفسير القرآن ما ذكرته فى صدر هذا الباب. قال ابن إسحاق:
وأخبرنى بعض آل أبي بكر الصديق أن عائشة كانت تقول: ما فقد
جسد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكن أسرى بروحه. قال
ابن إسحاق: وحدثنى يعقوب بن عيينة بن المغيرة أن معاوية بن
أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) قال: كانت رؤيا
(10/513)
من الله صادقة. قال ابن إسحاق: فلم ينكر
ذلك من قولهما لقول الحسن البصرى: إن هذه الآية نزلت فى
ذلك يعنى: قول الله عز وجل: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا
الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ)
[الإسراء: 60] ولقول الله عز وجل عن إبراهيم (صلى الله
عليه وسلم) إذ قال لابنه: (يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى
الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102] ، ثم مضى
على ذلك فعرف أن الوحى من الله عز وجل يأتى الأنبياء
أيقاظًا ونيامًا. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) يقول: (تنام عينى، وقلبى يقظان) فالله أعلم أى
ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى على
أى حاليه كان نائمًا أو يقظان كل ذلك حق وصدق. وذكر ابن
فورك فى مشكل القرآن قال: كان النبى (صلى الله عليه وسلم)
ليلة الإسراء فى بيت أم هانئ بنت أبى طالب. فالله أعلم.
واحتج أهل هذه المقالة فقالوا: ما اعتل به من قال: إن
الإسراء لو كان فى المنام لما أنكرته قريش؛ لأنهم كانوا لا
ينكرون الرؤيا فلا حجة فيه؛ لأن قريشًا كانت تكذب العيان،
وترد شهادة الله التى هى أكبر شهادة عليهم بذلك؛ إذ قال
عنهم حين انشق القمر: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا
وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) [القمر: 2] ، فأخبر عنهم
أنهم يكذبون ما يرون عيانا، وكذلك قال عنهم: (وَلَوْ
فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّوا
فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ
أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [الحجر:
14، 15] ، وقال تعالى عنهم أنهم قالوا: (لَن نُّؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا)
[الإسراء: 90] ، إلى قوله: (أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء)
[الإسراء: 93] ، ثم قالوا بعدما تمنوه: (وَلَن نُّؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا)
[الإسراء: 93] ، وقال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ
بِهَا) [الأنعام: 109] ، إلى قوله:
(10/514)
) وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا
جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 109] الآية، فأخبر
تعالى أنه يكيد عقولهم وأبصارهم حتى ينكروا العيان القاطع
للارتياب. ومثله قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ) [الأنعام: 111] ،
وإنما كان إنكار قريش لقوله: (أسرى بى الليلة إلى بيت
المقدس) حرصًا منهم على التشنيع عليه، وإثارة اسم الكذب
عليه عند العامة المستهواة بمثل هذا التشنيع فلم يسألوه فى
اليقظة كان ذلك الإسراء أو فى النوم وأقبلوا على التقريع
له، وتعظيم قوله، وهذا غير معدوم من تشنيعهم، ألا ترى
تكذيبهم قبل وقعة بدر لرؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، عمة
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إذ قالت: رأيت كأن صخرة
وقعت من أبى قبيس فانفلقت فما تركت دارًا بمكة إلا دخلت
فيها منها فلقة. فلما رأوا قبح تأويلها عليهم قالوا: يا
بنى عبد المطلب، ما أهل بيت فى العرب أكذب منكم، أما كفاكم
أن تدعوا النبوة فى رجالكم حتى جعلتم منكم نبية: فشنعوا
رؤياها، وأخبروا عنها بالنفى طمعًا فى إثارة العامة عليهم،
فكذلك كان قولهم فى مسراه (صلى الله عليه وسلم) . وفسر فى
الحديث اللغاديد: عروق الحلق. وأهل اللغة يقولون: اللغاديد
هى كالزوائد من لحم يكون فى باطن الأذنين من داخل، واحدها
لغدود وبعض العرب تسميها: الألغاد، واحدها: لغد. ذكره ثابت
فى خلق الإنسان.
(10/515)
39 - بَاب كَلامِ اللَّه تَعَالَى مَعَ
أَهْلِ الْجَنَّةِ
/ 136 - فيه: أَبُو سَعِيد،، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ:
يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا
وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِى يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ
رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى يَا
رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ
خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ
مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِى،
فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) . / 137 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِى الزَّرْعِ، فَقَالَ
لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّى
أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ
الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ
وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ:
دُونَكَ يَا ابْنَ آدَم، َ فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ
شَىْءٌ. . .) الحديث. قال المهلب: قد تقدم إثبات كلام الله
مع الأنبياء ومع الملائكة، وفى هذا الباب إثبات كلامه مع
أهل الجنة بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يقول
لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك) فإن
قال قائل من القدرية: إن فى هذا الحديث ما يدل على وهنه
وسقوطه، وهو قوله: (أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده
أبدًا) لأن فيه ما يوهم أن له أن يسخط على من صار فى
الجنة، وقد نطق القرآن بخلاف ذلك قال تعالى: (فَمَن
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ) [آل عمران: 185] ، وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ
الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82] ، وأنهم
خالدون في الجنة أبدًا
(10/516)
فكيف يحل عليهم رضوانه، وقد أوجبه لأهل
الجنة بقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [البينة: 8] ، فيقال له: لما
ثبت أن الله تفضل بخلق العباد، وأخرجهم من العدم إلى
الوجود، وأنعم عليهم بخلق الحياة وإدامة الصحة والالتذاذ
بنعمه، وكان له تعالى ألا يخرجهم ويبقيهم على العدم، ثم
لما خلقهم كان له ألا يخلقهم أحياءً ملتذين، وألا يديم لهم
الصحة. فكان تعالى فى مجازاة المحسنين وإنجاز ما وعدهم من
إحسانه متفضلا عليهم، ولم يجب تعالى عليه لأحد شىء يلزمه،
إذ ليس فوقه تعالى من شرع له شرعًا، ولا ألزمه حكمًا،
وللمتفضل أن يتفضل وألا يتفضل، كما له أن يتعبد عباده بلا
جزاء ولا شكور، تسخيرًا كسائر المخلوقات، وله أن يجازى مدة
بمدة، ومدة العمل فى الدنيا متناهية فيقطع ما تفضل به من
المجازاة على ما تفضل به عليهم من العمل والمعونة. وعلموا
أن آدم - عليه السلام - كلف فى الجنة اجتناب أكل الشجرة،
فجاز عليه التكليف والمعصية، لم يأمنوا ما لله تعالى فى
خلقه مثل ذلك من ابتداء التكليف وجواز المعصية، فزاد الله
سرورهم بأن أمنهم ما كان له أن يفعله فيهم، ورفعه عنهم
بالرضوان عليهم وإسقاط التكليف لهم وعصمهم من جواز المعصية
عليهم، فلو عبد الله العبد ألف سنة بعد تقدم أمره إليه
بذلك لما وجب له عليه جزاء على عبادة. وكيف يجب له ثواب
وأقل نعمة من نعمه تستغرق جميع أعماله التى تقرب بها إليه،
فحلول رضوانه عليهم أنعم لنفوسهم من
(10/517)
كل ما خولهم فى جناته تعالى، فسقط
اعتراضهم، وصح معنى الحديث. وأدخل حديث الزارع فى الجنة
لتكلم الله له. وقوله: (دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك
شىء) فإن ظن من لم ينعم النظر أن قوله: لا يشبعك شىء.
معارض لقوله: (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا) [طه:
118] ، فليس كما ظن؛ لأن نفى الشبع لا يوجب الجوع؛ لأن
بينهما واسطة الكفاية والشبع بعده، وأكل أهل الجنة لا عن
جوع أصلاً لنفى الله تعالى الجوع منهم، واختلف فى الشبع
فيها، والصواب: ألا شبع؛ لأنه لو كان فيها طول الأكل
المستلذ منها مدة الشبع، وإنما أراد بقوله (صلى الله عليه
وسلم) : (لا يشبعك شىء) ذم ترك القناعة بما كان فيه، وطلب
الزيادة عليه، أى لا تشبع عينك ولا نفسك بشىء، والله
الموفق.
40 - بَاب ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأمْرِ وَذِكْرِ
الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ
وَالإبْلاغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاذْكُرُونِى
أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
نُوحٍ (الآية إلى قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) [المائدة: 27]
غُمَّةٌ: هَمٌّ وَضِيقٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: اقْضُوا إِلَىَّ
مَا فِى أَنْفُسِكُمْ، يُقَالُ: افْرُقِ: اقْضِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة: 6] إِنْسَانٌ
(10/518)
يَأْتِيهِ، فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ،
وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ،
فَيَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ
حَيْثُ جَاءَهُ النَّبَأُ الْعَظِيمُ الْقُرْآنُ،)
صَوَابًا (حَقًّا فِى الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ. معنى قوله
باب ذكر الله بالأمر: أى ذكر الله لعباده يكون مع أمره لهم
بعبادته، والتزام طاعته، ويكون مع رحمته لهم، وإنعامه
عليهم إذا أطاعوه، وبعذابه إذا عصوه. قال ابن عباس فى
قوله: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] : إذا
ذكر الله العبد وهو على طاعته؛ ذكره برحمته، وإذا ذكره وهو
على معصيته؛ ذكره بلعنته. وقال سعيد بن جبير: اذكرونى
بالطاعة أذكركم بالمغفرة. قال المهلب: ذكر العباد بالدعاء
والتضرع فى الغفران، والتفضل عليهم بالرزق والهداية،
وقوله: والرسالة والإبلاغ معناه: وذكر الله الأنبياء
بالرسالة والإبلاغ بما أرسلهم به إلى عباده بما يأمرهم به
من عبادته وينهاهم، وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
نُوحٍ (، فهذا ذكر الله لرسوله نوح بما بلغ من أمره،
وتذكيره قومه بآيات الله، وكذلك فرض على كل نبى تبليغ
كتابه وشريعته، ولذلك ذكر قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلاَمَ اللهِ) [التوبة: 6] الذى أمر بتلاوته عليهم،
وإنبائهم به. وقال مجاهد: النبأ العظيم: القرآن، سمى نبأ
لأنه منبا به، وهو متلو للنبى (صلى الله عليه وسلم) ولهذا
ذكر فى الباب هذه الآية من أجل أمر الله تعالى محمدًا (صلى
الله عليه وسلم) إجارة المشرك
(10/519)
حتى يسمع الذكر، وقوله صوابًا حقًا، يريد
قوله عز وجل: (لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ: 38] ، يريد وقال
حقًا فى الدنيا، وعمل به فذلك الذى يؤذن له فى الكلام بين
يدى الله تعالى بالشفاعة لمن أذن له، وكان يصلح أن يذكر فى
هذا الباب قوله (صلى الله عليه وسلم) عن ربه تعالى: (من
ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى
ملأ خير منه) أى من ذكرنى فى نفسه متضرعًا داعيًا؛ ذكرته
فى نفسى مجيبًا مشفقًا، فإن ذكرنى فى ملأ من الناس بالدعاء
والتضرع ذكرته فى ملأ من الملائكة، الذين هم أفضل من ملأ
الناس، بالمغفرة والرحمة والهداية، يفسره قوله (صلى الله
عليه وسلم) فى حديث التنزل: (هل من سائل فأعطيه، هل من
مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه) هذا ذكر الله
للعباد بالنعم والإجابة لدعائهم.
41 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْدَادًا) [البقرة: 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)
[الفرقان: 68] وقوله: (وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ (الآية [الزمر:
65]
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 106]
(10/520)
يسألهم من خلقهم وخلق السموات والأرض،
فيقولون: الله، وذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره. وَمَا
ذُكِرَ فِى خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به (الآية،
وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)
[الصافات: 96] ، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2] . وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: (مَا تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ إِلا بِالْحَقِّ)
[الحجر: 8] بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ،) لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ) [الأحزاب: 8] الْمُبَلِّغِينَ
الْمُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ،) وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (عِنْدَنَا) وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ)
[الزمر: 33] الْقُرْآنُ) وَصَدَّقَ بِهِ (الْمُؤْمِنُ
يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا الَّذِى أَعْطَيْتَنِى
عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ. / 138 - فيه: عَبْدِاللَّهِ،
سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الذَّنْبِ
أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ
نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
(ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خشية أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)
، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَنْ تُزَانِىَ
بِحَلِيلَةِ جَارِكَ) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب
إثبات الأفعال كلها لله تعالى كانت من المخلوقين، خيرًا أو
شرًا، فهى لله خلق وللعباد كسب، ولا ينسب منها شىء إلى غير
الله تعالى فيكون شريكًا له، وندًا مساويًا له فى نسبة
الفعل إليه، ونبه الله عباده على ذلك بقوله: (فَلاَ
تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)
[البقرة: 22] أنه الخالق لكم ولأفعالكم وأرزاقكم، ردًا على
من زعم من القدرية أنه يخلق أفعاله، فمن علم
(10/521)
أن الله خلق كل شىء فقدره تقديرًا، فلا
ينسب شيئًا من الخلق إلى غيره، فلهذا ذكر هذه الآيات فى
نفى الأنداد والآلهة المدعوة معه، فمنها ما حذر به
المؤمنين، ومنها ما وبخ به الكافرين الضالين، ثم أثنى على
المؤمنين فى قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان: 68] ، يريد كما يدعو عبدة
الأوثان لترزقهم، وتعافيهم، وهى لا تملك لهم ضرًا ولا
نفعًا. وقوله: (أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو
خلقك) معناه: رزقك بدليل قوله: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن
يطعم معك) كيف تقتله وقد خلق رزقه، فلا يأكل من رزقك
شيئًا، فمن خلقك وخلقه، ورزقك ورزقه، أحق بالعبادة من الند
الذى اتخذت معه شريكًا، ثم أن تزانى حليلة جارك، وقد خلق
لك زوجة فتقطع بالزنا الرحم والنسب، وتقاطع الرحام سبب إلى
قطع الرحمة من الله، والتراحم بين الناس، ألا ترى غضب
القبائل لبنى عمها من أجل الرحم، وأن الغدر وخسيس الفعل
منسوب إلى أولاد الزنا، لانقطاع أرحامهم.
42 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ (الآية [فصلت: 22]
/ 139 - فيه: عَبْدِاللَّه بْن مسعود، اجْتَمَعَ عِنْدَ
الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِىٌّ، أَوْ قُرَشِيَّانِ
وَثَقَفِىٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ
فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ
اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ
إِنْ جَهَرْنَا، وَلا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ
الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا
(10/522)
فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ
يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ (الآيَةَ. غرضه فى هذا الباب إثبات
السمع لله تعالى والعلم بنيات الكلام له فى هذه الآية ومن
سائر الآيات فى الأبواب المتقدمة، وإذا ثبت أنه سميع فواجب
كونه سامعًا بسمع، كما أنه لما ثبت كونه عالمًا وجب كونه
عالمًا بعلم خلافًا لمن أنكر صفات الله من المعتزلة،
وقالوا: معنى وصفه بأنه سامع للمسموعات: بمعنى وصفه بأنه
عالم بالمعلومات ولا سمع له، ولا هو سامع حقيقة، وهذه
شناعة ورد لظواهر كتاب الله وسنن رسوله، وموجب كون المخلوق
أكمل أوصافًا من الخالق؛ لأن السامع هنا يسمع الشىء ويعلمه
حقيقة، وكذلك البصير منا يرى الشىء ويعلمه حقيقةً، فلو كان
البارى سامعًا لما يسمعه، ويعلمه بمعنى أنه عالم فقط؛ لكنا
أكمل وصفًا منه تعالى من حيث أدركنا الشىء من جهة السمع
والعلم، وأدركه هو من جهة العلم فقط، ومن أدرك الشىء من
وجهين أولى يكون بصفة الكمال من مدركه من وجه واحد، وهذا
يوجب عليهم أن يكون خالقهم بصفة الصم الذى يعلم الشىء ولا
يسمعه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وفى حديث الثقفى
والقرشيين من الفقه: إثبات القياس الصحيح، وإبطال القياس
الفاسد، ألا ترى أن الذى قال: (يسمع إن جهرنا،
(10/523)
ولا يسمع إن أخفينا) قد أخطأ فى قياسه؛
لأنه شبه الله تعالى بخلقه الذين يسمعون الجهر، ولا يسمعون
السر، والذى قال: (إن كان يسمع إن جهرنا، فإنه يسمع إن
أخفينا) أصاب فى قياسه حين لم يشبه الله بالمخلوقين، ونزهه
عن مماثلتهم. فإن قيل: فإن كان أصاب فى قياسه، فكيف جعله
النبى (صلى الله عليه وسلم) من جملة الذين شهد لهم بقلة
الفقة. قيل له: لما لم يعتقد حقيقة ما قال:، وشك فيه، ولم
يقطع على سمع الله تعالى بقوله: إن كان يسمع، لم يحكم له
النبى (صلى الله عليه وسلم) بالفقه، وسوى بينهم فى أنه
قليل فقه قلوبهم.
43 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى
شَأْنٍ) [الرحمن: 29] وَ) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء: 2] وَقَوْلِهِ:
(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
[الطلاق: 1]
وَأَنَّ حَدَثَهُ لا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11] . وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ
مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لا تَكَلَّمُوا فِى الصَّلاةِ) . /
140 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ
أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ
اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ،
تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ. / 141 - وَقَالَ مرة:
كِتَابُكُمِ الَّذِى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ
أَحْدَثُ الأخْبَارِ بِاللَّهِ.
(10/524)
غرضه في هذا الباب الفرق بين وصف كلام الله
بأنه مخلوق، وبين وصفه بأنه محدث، فأحال وصفه بالخلق،
وأجاز وصفه بالحدث، اعتمادًا على قوله تعالى: (مَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)
[الأنبياء: 2] ، وهذا القول لبعض المعتزلة ولبعض أهل
الظاهر، وهو خطأ فى القول؛ لأن الذكر الموصوف فى الآية
بالإحداث، ليس هو نفس كلامه تعالى؛ لقيام الدليل على أن
محدثًا، ومخلوقًا، ومنشئًا، ومخترعًا: ألفاظ مترادفة على
معنى واحد. فإذا لم يجز وصف كلامه تعالى القائم بذاته بأنه
مخلوق، لم يجز وصفه بأنه محدث، وإذا كان ذلك كذلك كان
الذكر الموصوف فى الآية بأنه محدث راجعًا إلى أنه الرسول
(صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه قد سماه الله تعالى فى آية
أخرى ذكرًا، فقال تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ
ذِكْرًا رَّسُولاً) [الطلاق: 10، 11] ، فسماه ذكرًا فى هذه
الآية، فيكون المعنى ما يأتيهم ذكر من ربهم، بمعنى: ما
يأتيهم رسول. ويحتمل أن يكون الذكر فى الآية هو وعظ
الرسول، وتحذيره إياهم من معاصى الله، فسمى وعظه ذكرًا،
وأضافه إليه، إذ هو فاعل له، ومقدر رسوله على اكتسابه.
وقال بعض المتكلمين فى هذه الآية: يحتمل أن يرجع الإحداث
إلى الإتيان، لا إلى الذكر القديم؛ لأن نزول القرآن على
النبى كان شيئًا بعد شىء، فكان يحدث نزوله حينًا بعد حين،
ألا ترى أن العالم يعلم ما لا يعلمه الجاهل، فإذا علمه
الجاهل حدث عنده العلم، ولم يكن إحداثه عند المتعلم إحداث
عين العلم.
(10/525)
44 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ
بِهِ لِسَانَكَ) [القيامة: 16] وَفِعْلِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِى
حَيْثُمَا ذَكَرَنِى، وَتَحَرَّكَتْ بِى شَفَتَاهُ) . /
142 - فيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ (، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً،
وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ لِى ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ
شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ
بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ (قَالَ: جَمْعُهُ فِى صَدْرِكَ، ثُمَّ
تَقْرَؤُهُ،) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)
[القيامة: 18] قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ
(صلى الله عليه وسلم) اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ
جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا
أَقْرَأَهُ. قال المهلب: غرضه فى هذا الباب، أن يعرفك أن
وعاء القلب لما يسمعه من القرآن، وأن قراءة الإنسان وتحريك
شفتيه ولسانه، عمل له وكسب يؤجر عليه، فكان (صلى الله عليه
وسلم) يحرك به لسانه عند قراءة جبريل عليه مبادرةً ألا
يفلت منه ما سمع، فنهاه الله عن ذلك، ورفع عنه الكلفة
والمشقة التى كانت تناله فى ذلك، مع ضمانه تعالى تسهيل
الحفظ على نبيه، وجمعه له فى صدره، وأمره أن يقرأه إذا فرغ
جبريل من قراءته، وهو معنى قوله تعالى: (فَإِذَا
قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة: 18] . وقيل
معنى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ (، أي
(10/526)
اعمل بما فيه، فأما إضافته فعل القراءة
إليه بقوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ (والقارئ لكلامه تعالى
على محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو جبريل دونه تعالى فهذه
إضافة فعل فعله فى غيره، كما تقول: قتل الأمير اللص وصلبه،
وهو لم يل ذلك بنفسه، إنما أمر من فعله. ففيه بيان لما
يشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى، مما لا يليق به فعله
من الإتيان، والنزول، والمجئ، أن ذلك الفعل إنما هو منتسب
إلى الملك المرسل به، كقوله: (وَجَاء رَبُّكَ) [الفجر: 22]
، والمجئ مستحيل عليه لاستحالة الحركة، وإنما معناه: وجاء
أمر ربك ورسول ربك، فكما استحالت عليه الحركة والانتقال،
كذلك استحالت عليه القراءة المعلومة منا لأنها محاولة حركة
أعضاء وآلات، والله يتعالى عن ذلك، وعن شبه الخليقة فى قول
أو عمل. وأما قوله: (أنا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت بى
شفتاه) فمعناه: أنا مع عبدى زمان لى أى: أنا معه بالحفظ
والكلاءة، لا على أنه معه بذاته حيث حلَّ العبد وتقلب،
ومعنى قوله: (وتحركت بى شفتاه) : تحركت باسمى وذكره لى
وبسائر أسمائه تعالى الدالة عليه، لا أن شفتيه ولسانه
تتحرك بذاته تعالى، إذ محال حلوله فى الأماكن، ووجوده فى
الأفواه، وتعاقب الحركات عليه.
45 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ (إلى) الْخَبِيرُ) [الملك: 13] )
يَتَخَافَتُونَ (: يَتَسَارُّونَ
/ 143 - فيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ: (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
(10/527)
بِهَا (نَزَلَتْ وَالنَّبِيّ - عليه السلام
- مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ
رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ
الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ
وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ (أَىْ
بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا
الْقُرْآنَ) وَلا تُخَافِتْ بِهَا (عَنْ أَصْحَابِكَ فَلا
تُسْمِعُهُمْ) وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) [الإسراء:
110] . / 144 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ -
عليه السلام -: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ
بِالْقُرْآنِ) . وَزَادَ غَيْرُهُ: (يَجْهَرُ بِهِ) . معنى
هذا الباب إثبات العلم لله تعالى صفة بذاتية؛ لاستواء علمه
من القول والجهر، وقد بينه تعالى فى آية أخرى، فقال:
(سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ
بِهِ) [الرعد: 10] ، وفيه دليل أن اكتساب العباد من القول
والفعل خلق لله تعالى ألا ترى قوله: (وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ) [الملك: 13] ، ثم قال عقيب ذلك: (أَلاَ
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
[الملك: 14] ، فدل أنه ممتدح بكونه عالمًا بما أسروه من
قولهم وجهروا به، وأنه خالق لذلك منهم. فإن قال قائل من
القدرية الذين يزعمون أن أفعال العباد ليست خلقًا لله
تعالى: قوله: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (غير راجع
بالخلق إلى القول، وإنما هو راجع إلى القائلين، فليس فى
الآية بدليل لكم على كونه تعالى خالقًا لقول القائلين. قيل
له: هذا تأويل فاسد؛ لأن الله تعالى أخرج هذا الكلام مخرج
التمدح
(10/528)
منه بعلمه ما أسروه من قولهم وجهروا به،
وخلقه لذلك مع خلقه خلقه، دليلا على كونه عالمًا به. فلو
كان غير خالق له، وممتدحًا بكونه عالمًا بقوله، وخالقًا
لهم دون قولهم؛ لم يكن فى الآية دليل على صحة كونه عالمًا
بقولهم، كما ليس فى عمل العامل ظرفًا من الظروف دليل على
علمه ما أودعه غيره فيه. والله تعالى قد جعل خلقه دليلا
على كونه عالمًا بقولهم؛ فيجب رجوع خلقه تعالى إلى قولهم؛
ليصح له التمدح بالأمرين، وليكون أحدهما دليلا على الآخر،
وإذا كان ذلك كذلك، ولا أحد من الأمة يفرق بين القول وسائر
الأفعال، وقد دلت الآية على كون الأقوال خلقًا له تعالى؛
وجب كون سائر أفعال العباد خلقًا له. وأما قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) فقد تقدم فى
فضائل القرآن، وتلخيص معناه: الحض على تحسين الصوت به،
والغناء الذى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يقرأ
القرآن به، وهو الجهر بالصوت وإخراج تلاوته من حدود مساق
الإخبار والمحادثة؛ حتى يتميز التالى له من المتحدث
تعظيمًا له فى النفوس وتحبيبًا إليها. فإن قال قائل: فإن
كان معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن
بالقرآن) ما ذكرت من تحسين الصوت به، أفعندك من لم يحسن
صوته بالقرآن فليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) ؟ . قيل:
معناه لم يستن بنا فى تحسين الصوت بالقرآن؛ لأنه (صلى الله
عليه وسلم) كان يحسن صوته به، ويرجع فى تلاوته على ما حكاه
ابن مغفل، على ما يأتى بعد، فمن لم يفعل مثل ذلك فليس
بمتبع لسنته (صلى الله عليه وسلم) ، ولا مقتديًا به فى
تلاوته.
(10/529)
46 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام
-: (رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ
بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ
يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا فَعَلْتُ
كَمَا يَفْعَلُ) فَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ
هُوَ فِعْلُهُ، وَقَالَ: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22] وَقَالَ تَعَالَى:
(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:
77]
. / 145 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (لا حَسد إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ
آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ
أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا
يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ
يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ
مَا أُوتِىَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) . هذا
الباب مستغنى عن الكلام فيه لبيانه ووضوح معناه لمن تأمله
من ذوى الألباب.
47 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (الآية
[المائدة: 67]
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْبَلاغُ
وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ)
[الجن: 28] ، وَقَالَ: (أُبْلِغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى (.
وَقَالَ فِى قصة كَعْب حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِىِّ -
عليه السلام -:
(10/530)
) وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ) [التوبة: 105] ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا
أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ، فَقُلْ) اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ. وَقَالَ
مَعْمَرٌ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (هَذَا الْقُرْآنُ،) هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] بَيَانٌ وَدِلالَةٌ،
كَقَوْلِهِ: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ (هَذَا حُكْمُ
اللَّهِ،) لا رَيْبَ فيه (لا شَكَّ،) تِلْكَ آيَاتُ
(يَعْنِى هَذِهِ أَعْلامُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ،) حَتَّى
إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس:
22] ، يَعْنِى بِكُمْ. وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ،
وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِى أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ. /
146 - فيه: الْمُغِيرَةُ، أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى
الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ
قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ. وفيه: عَائِشَةَ،
قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه
وسلم) كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْىِ فَلا تُصَدِّقْهُ،
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (الآية
[المائدة: 67] . / 147 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا
وَهُوَ خَلَقَكَ. . .) الحديث، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَصْدِيقَهَا: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ (الآيَةَ [الفرقان: 68] . قال المهلب: هذا
الباب كالذى قبله، وهو فى معناه وتبليغ الرسول فعل من
أفعاله. وقول الزهرى: من الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ
يبين هذا، وأنه قول أئمة الدين.
(10/531)
وقوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ)
[التوبة: 105] ، يعنى: تلاوتهم وجميع أعمالهم، ومعنى قوله:
(بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة:
67] ، يريد بلغه جهارًا وعلانيةً، فإن لم تفعل فما بلغت كل
التبليغ. وقول عائشة: (إذا أعجبك حسن عمل امرئ) : تلاوته
من عمله. وقوله: (ولا يستخفنك أحد) أى لا يستخفنك بعمله،
فتظن به الخير، لكن حتى تراه عاملا على ما شرع الله،
ورسوله على ما سن، والمؤمنون على ما عملوا. وقول معمر فى
قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (ففسر ذلك بهذا وذلك مما
يخبر به عن الغائب، وهذا إشارة إلى الحاضر، والكتاب حاضر،
ومعنى ذلك أنه لما ابتدأ جبريل بتلاوة القرآن لمحمد،
عليهما السلام، كفت حضرة التلاوة عن أن يقول هذا الذى
يسمع، هو ذلك الكتاب لا ريب فيه، فاستغنى بأحد الضميرين عن
الآخر. وقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22] فلما جاز أن يخبر عنهم
بضميرين مختلفين، ضمير المخاطبة والحضرة، وضمير الخبر عن
الغيبة، فلذلك أخبر بضمير الغائب بقوله: (ذَلِكَ (، وهو
يريد هذا الحاضر، وهذا مذهب مشهور للعرب، سمته أصحاب
المعانى: الالتفاف، وهو انصراف المتكلم عن معنى يكون فيه
إلى معنى آخر.
(10/532)
وقوله تعالى: (كُنْتُمْ (ثم قال: (بِهِمْ
(يدل أنه خاطب الكل، ثم أخبر عن الراكبين للفلك خاصة إذا
قد يركبها الأقل من الناس، لكن لجواز أن يركبها كل واحد من
المخاطبين خاطبهم بضمير الكل، ولأن لا يركبها إلا الأقل
أخبر عن ذلك الأقل بقوله: (بِهِمْ (.
48 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا إن كنتم صادقين) [آل عمران: 93]
وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُعْطِىَ
أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا،
وَأُعْطِىَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا
بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ) .
وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)
[البقرة: 121] يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ
عَمَلِهِ، يُقَالُ) يُتْلَى (يُقْرَأُ، حَسَنُ
التِّلاوَةِ: حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ،) لا
يَمَسُّهُ (لا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلا مَنْ آمَنَ
بِالْقُرْآنِ، وَلا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلا الْمُوقِنُ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) [الجمعة: 5] .
وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الإيمَانَ
وَالإسْلامَ وَالصَّلاةَ عَمَلا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبِلالٍ:
(أَخْبِرْنِى أَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإسْلامِ) ،
قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلا أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ
أَتَطَهَّرْ إِلا صَلَّيْتُ، وَسُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ
الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 148 - فيه: ابْن
عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا
بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ
صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِىَ أَهْلُ
التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى
انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا
قِيرَاطًا، قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِىَ أَهْلُ الإنْجِيلِ
(10/533)
الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى
صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا
قِيرَاطًا، قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ،
فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. . .) ،
الحديث فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ
أَهْلُ الْكِتَابِ: هَؤُلاءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلا
وَأَكْثَرُ أَجْرًا، قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ
مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَهُوَ
فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . وَسَمَّى النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) الصَّلاةَ عَمَلا، وَقَالَ: (لا
صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . /
149 - وفيه: ابْن مَسْعُود، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الأعْمَالِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ
الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) .
قال المهلب: معنى هذا الباب كالذى قبله، أن كل ما يكسبه
الإنسان مما يؤمر به من صلاة أو حج أو جهاد وسائر الشرائع
عمل له يجازى على فعله، ويعاقب على تركه؛ إن أنفذ الله
عليه الوعيد. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سُئل أى
العمل أفضل، فقال: (الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد)
فقرن حق الوالدين بحق الله عز وجل على عباده بواو العطف،
وليس هذا بمخالف للحديث الآخر (أن النبى (صلى الله عليه
وسلم) سُئل أى العمل أفضل، فقال: إيمان بالله، ثم الجهاد،
ثم حج مبرور) ولم يذكر بر الوالدين، وإنما يفتى السائل
بحسب ما يعلم من حاله، أو ما يتقى عليه من فتنة الشيطان.
فلذلك اختلف ترتيب أفضل الأعمال، مع أنه قد يكون العمل فى
وقت أوكد وأفضل منه فى وقت آخر، كالجهاد الذى يتأكد مرةً،
ويتراخى مرةً، ألا تراه أمر وفد عبد القيس بأمر فصل
باشتراطهم ذلك منه، فلم يرتب لهم الأعمال، ولا ذكر لهم
الجهاد ولا بر الوالدين، وإنما ذكر لهم أداء الخمس مما
يغنمون، وذكر لهم الانتباذ فى المزفت فيما نهاهم عنه، وفى
المنهيات ما هو أوكد منه مرارًا.
(10/534)
50 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (إِنَّ
الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (ضجورًا) إِذَا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)
[المعارج: 19، 20، 21]
/ 150 - فيه: عَمْرُو بْن تَغْلِبَ، قَالَ: أَتَى
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا،
وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا،
فَقَالَ: (إِنِّى أُعْطِى الرَّجُلَ: وَأَدَعُ الرَّجُلَ،
وَالَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنِ الَّذِى أُعْطِى،
أُعْطِى أَقْوَامًا لِمَا فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ
وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ
اللَّهُ فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ
مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا
أُحِبُّ أَنَّ لِى بِكَلِمَةِ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) حُمْرَ النَّعَمِ. قال المهلب: معنى هذا الباب إثبات
خلق الله للإنسان بأخلاقه التى خلقه عليها من الهلع،
والمنع، والإعطاء، والصبر على الشدة، واحتسابه ذلك على
الله عز وجل وفسر هلوعًا بقول من قال: ضجورًا؛ لأن الإنسان
إذا مسه الشر ضجر به، ولم يصبر محتسبًا، ويلزم من آمن
بالقدر خيره وشره، وعلم أن الذى أصابه لم يكن ليخطئه، وما
أخطأه لم يكن ليصيبه، الصبر على كل شدة تنزل به. ألا ترى
أن الله تعالى قد استثنى المصلين الذين هم على صلاتهم
دائمون، لا يضجرون بتكررها عليهم، ولا يملون؛ لأنهم
محتسبون لها، ومكتسبون بها التجارة الرابحة فى الدنيا
والآخرة، وكذلك لا يمنعون حقوق الله فى أموالهم، فعرفك بما
خلق الله عليه أهل الجنة من حسن الأخلاق، وما استثنى به
العارفين المحتسبين بالصبر على الصلاة والصدقة. فقد أفهمك
أن من اّدعى لنفسه قدرةً وحولا بالإمساك والشح والضجر من
الإملاق والفقر، وقلة الصبر لقدر الله الجارى عليه بما سبق
فى عمله ليس بقادر ولا عابد لله على حقيقة ما يلزمه، فمن
(10/535)
ادّعى أن له قدرة على نفع نفسه، أو دفع
الضر عنها، فقد ادّعى أن فيه صفة الإلهية من القدرة. وفى
حديث عمرو بن تغلب دليل أن أرزاق العباد ليست من الله
تعالى على قدر الاستحقاق بالدرجة والرفعة عنده، ولا عند
السلطان فى الدنيا، وإنما هى على وجه المصلحة، والسياسة
لنفوس العباد الأمارة بالسوء، ألا ترى أنه (صلى الله عليه
وسلم) كان يعطى أقوامًا؛ ليداوى ما بقلوبهم من جزع، وكذلك
المنع، هو على وجه الثقة بتميزه بما قسم الله له لمنعه
(صلى الله عليه وسلم) أهل البصائر واليقين. قال غيره: وفيه
من الفقه أن البشر فاضلهم ومفضولهم، قد جبلوا على حب
العطاء، وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة فى
عاقبته، وهل لفاعل ذلك مخرج؟ وفيه أن المنع قد لا يكون
مذمومًا، ويكون أفضل للممنوع لقوله (صلى الله عليه وسلم) :
(وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جعل فى قلوبهم من الغنى والخير) .
وهذه المنزلة التى شهد لهم بها النبى (صلى الله عليه وسلم)
أفضل من العطاء الذى هو عرض الدنيا، ألا ترى أن عمرو بن
تغلب اغتبط بذلك بعد جزعه منه، وقال: (ما أحب أن لى ذلك
حمر النعم) وفيه استئلاف من يخشى منه، والاعتذار إلى من ظن
ظنًا والأمر بخلاف ظنه، وهذا موضع كان يحتمل التأنيب
للظان، واللوم له لكنه (صلى الله عليه وسلم) رءوف رحيم كما
وصفه الله.
51 - بَاب ذِكْرِ النَّبِيِّ - عليه السلام -
وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ
/ 151 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِيِّ - عليه السلام -
يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (إِذَا تَقَرَّبَ
الْعَبْدُ
(10/536)
إلي شبراً، تقربت إِليه ذِرَاعًا. . .)
الحديث. / 152 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ:
(لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِى. . .)
الحديث. / 153 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) فِيمَا يَرْوى عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (لا
يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى) . / 154 - وفيه: ابْن مُغَفَّل،
رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْفَتْحِ
عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ، قَالَ:
فَرَجَّعَ فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ
يَحْكِى قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلا أَنْ
يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ
ابْنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟
قَالَ: آآ آثَلاثَ مَرَّاتٍ. قال المهلب: معنى هذا الباب
أن النبى (صلى الله عليه وسلم) روى عن ربه السنة، كما روى
عنه القرآن، وهذا مبين فى كتاب الله فى قوله: (وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى)
[النجم: 3، 4] ، ومعنى حديث ابن مغفل فى هذا الباب التنبيه
على أن القرآن، بالترجيع، والألحان الملذة للقلوب بحسن
الصوت المنشود لا المكفوف عن مداه الخارج عن مساق
المحادثة، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أراد أن
يبالغ فى تزيين قراءته لسورة الفتح التى كان وعده الله
فيها بفتح مكة، فأنجزه له ليستمل قلوب المشركين العتاة على
الله، بفهم ما يتلوه من إنجاز وعد الله له فيهم، بإلذاذ
أسماعهم بحسن الصوت المرجَّع فيه بنغم، ثلاث فى المدة
الفارغة من التفصيل.
(10/537)
وقول معاوية: (لولا أن يجتمع الناس إلى،
لرجعت كما رجع ابن مغفل، يحكى عن النبى) يدل أن القراءة
بالترجيع والألحان تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء والتفهم،
ويستميلها ذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع المشوب بلذة
الحكمة المفهومة منه، وقد تقدم فى كتاب فضائل القرآن، فى
باب من لم يتغن بالقرآن، اختلاف أهل العلم فى التغنى.
52 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ
وكُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 93]
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ بْنُ
حَرْبٍ، أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ، ثُمَّ دَعَا
بِكِتَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَرَأَهُ:
(بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ
عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ، وَ) يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (الآيَةَ) ، [آل عمران: 64] . /
155 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ
الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ،
وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلامِ،
فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ
وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ (الآيَةَ)
[البقرة: 136] . / 156 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا
مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (فَقَالُوا
(10/538)
لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ: يَا
أَعْوَرُ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى
مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْها، قَالَ:
(ارْفَعْ يَدَكَ) ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهِ آيَةُ
الرَّجْمِ تَلُوحُ. . . الحديث. تفسير كتب الله بالعربية
جائز وقد كان وهب بن منبه وغيره يترجمون كتب الله، إلا أنه
لا يقطع على صحتها؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا
تصدقوا أهل الكتاب فيما يفسرونه من التوراة بالعربية)
لثبوت كتمانهم لبعض الكتاب وتحريفهم له. واحتج أبو حنيفة
بحديث هرقل، وأنه دعا ترجمانه، وترجم له كتاب النبى بلسانه
حتى فهمه، فأجاز قراءة القرآن بالفارسية، وقال: إن الصلاة
تصح بذلك. وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: لا تصح الصلاة
بها. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية فلا تجزئه
الصلاة، وإن كان لا يحسن أجزأه. ومن حجة أبى حنيفة أن
المقروء يسمى قرآنًا، وإن كان بلغة أخرى إذا بين المعنى،
ولم يغادر شيئًا، وإن أتى بما لا ينبئ عنه اللفظ، نحو
الشكر مكان الحمد لم يجز، واستدلوا بأن الله تعالى حكى قول
الأنبياء بلسانهم، بلسان عربى فى القرآن، كقول نوح: (يَا
بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا) [هود: 42] ، وأن نوحًا قال هذا
بلسانه، قالوا: فكذلك يجوز أن يحكى القرآن بلسانهم، وقال
تعالى: (وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم
بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19] ، فأنذر به سائر الناس،
والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم، فيقرأ أهل كل
لغة بلسانهم؛ حتى يقع لهم الإنذار به، وإذا فسر لهم
بلسانهم فقد بلغهم،
(10/539)
وسمى ذلك قرآنًا، وكذلك الإيمان يصح أن يقع
بالعربية وبالفارسية، وحجة من لم يجز قراءة القرآن
بالفارسية قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا) [يوسف: 2] ، فأخبر تعالى أنه أنزله عربيًا
فبطل أن يكون القرآن الأعجمى منزلا، ويقال لهم: أخبرونا
إذا قرأ فاتحة الكتاب بالفارسية، هل تسمى فاتحة الكتاب أو
تفسير فاتحة الكتاب، فإن قالوا: تفسير فاتحة الكتاب. قيل
لهم: قد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب) ، ولم يقل بتفسير فاتحة الكتاب. ألا ترى
أنه لو قرأ تفسيرها بالعربية فى الصلاة لم يجز، فتفسيرها
بالفارسية أولى ألا يجوز. وقولهم: إن الله حكى قول
الأنبياء، عليهم السلام، الذى بلسانهم بلسان عربى فى
القرآن، كقوله نوح: (يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا) [هود:
42] وأن نوحًا قال هذا بلسانه، فكذلك يجوز أن يحكى القرآن
بلسانهم. فالجواب أنا نقول: أنهم ما نطقوا بما حكى عنهم
إلا كما فى القرآن، ولو قلنا ما ذكروه لم يلزمنا نحن أن
نحكى القرآن بلغة أخرى؛ لأنه يجوز أن يحكى الله تعالى
قولهم بلسان العرب، ثم يتعبدنا نحن بتلاوته على ما أنزله
فلا يجوز أن نتعداه، وما يحتجون به أنه فى الصحف الأولى،
وما يحتجون به من قوله: (وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا
الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19]
فأنذر به على لسان كل أمة، فالجواب أن العرب إذا حصل عندها
أن ذلك معجز، وهم أهل الفصاحة كانت العجم أتباعًا لهم، كما
كانت العامة أتباعًا للسحرة فى زمن موسى، وأتباعًا للطب فى
زمن عيسى، فقد يمكن العجم أن يتعلموه بلسان العرب.
(10/540)
وأما قولهم: إن الإيمان يصح أن يقال
بالفارسية، فالجواب أن الإيمان يقع بالاعتقاد دون اللفظ؛
ولهذا جاز اللفظ بالشهادتين بكل لغة؛ لأن المقصود سقط
المعجز، الذى هو النظم والتأليف. فإن قيل: أنتم تجوزونه
بالفارسية إذا لم يقدر على العربية؛ فينبغى ألا يفترق
الحكم. قيل: إنما أجزناه للضرورة، وليس ما جاز مع الضرورة
يجوز مع القدرة، ولو كان كذلك لجاز التيمم مع وجود الماء،
ولجاز ترك الصلاة مع القدرة؛ لأنه يسقط مع العذر.
53 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ
وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ
/ 157 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: (مَا أَذِنَ اللَّهُ
لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِىٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ
بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) . / 158 - وفيه: عَائِشَةَ،
حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، قَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِى
شَأْنِى وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ
أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ
يُتْلَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا
بِالإفْكِ (الْعَشْرَ الآيَاتِ. / 159 - فيه: الْبَرَاء،
سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ فِى
الْعِشَاءِ ب) التِّينِ وَالزَّيْتُونِ (فَمَا سَمِعْتُ
أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا، أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ. / 160 -
وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ
(10/541)
بالقرآن فَإِذَا سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ
سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ
لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا (. / 161 - وفيه: أَبُو
سَعِيد، قَالَ لابْن أَبِى صَعْصَعَة: إِنِّى أَرَاكَ
تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِى
غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاةِ،
فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ
مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَىْءٌ
إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سَمِعْتُهُ مِنْ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) . / 162 - وفيه:
عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِى حَجْرِى، وَأَنَا
حَائِضٌ. قال المهلب: المهارة بالقرآن: جودة التلاوة له
بجودة الحفظ، فلا يتلعثم فى قراءته، ولا يتغير لسانه بتشكك
فى حرف أو قصة مختلفة النص، وتكون قراءته سمحة بتيسير الله
له كما يسره على الملائكة الكرام البررة، فهو معها فى مثل
حالها من الحفظ، وتيسير التلاوة، وفى درجة الأجر إن شاء
الله، فيكون بالمهارة عند كريمًا برًا، وكأن البخارى أشار
بهذه الترجمة وما ضمنها من الأحاديث فى حسن الصوت، إلى أن
الماهر بالقرآن هو الحافظ له مع حسن الصوت به، ألا تراه
أدخل بأثر ذكر الماهر قوله (صلى الله عليه وسلم) (زينوا
القرآن بأصواتكم) فأحال (صلى الله عليه وسلم) على الأصوات
التى تتزين بها التلاوة فى الأسماع، لا الأصوات التى تمجها
الأسماع لإنكارها، وجفائها على حاسة السمع، وتألمها بقرع
الصوت المنكر وقد قال تعالى: (إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19]
(10/542)
لجهارته والله أعلم وشدة قرعه للسمع، وفى
اتباعه أيضًا لهذا المعنى بقوله: (ما أذن الله لشىء ما أذن
لنبى حسن الصوت بالقرآن) ما يقوى قولنا ويشهد له، وقد تقدم
فى فضائل القرآن، ونزيده هاهنا وضوحًا، فنقول: إن الجهر
المراد فى قوله: (يجهر به) هو إخراج الحروف فى التلاوة عن
مساق المحادثة بالأخبار، بإلذاذ أسماعهم بحسن الصوت
وترجيعه لا الجهر المنهى عنه الجافى على السامع، كما قال
عز وجل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (وَلاَ تَجْهَرْ
بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ
ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110] ، وكما قال تعالى فى
النبى: (وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) [الحجرات: 2] ، وقوله: (أَن تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] ،
دليل أن رفع الصوت على المتكلم بأكثر من صوته من الأذى له،
والأذى خطيئة. ويدل على أن المقاومة فى مقدار المتكلمين
معافاة من الخطأ، إلا فى النبى (صلى الله عليه وسلم) وحده،
فمنع الله من مقاومته فى الآية، توقيرًا له وإعظامًا، وقد
روى لفظ الترجمة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث
قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام، عن عائشة قالت:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الذى يقرأ القرآن
وهو به ماهر مع السفرة الكرام البررة، والذى يقرأ القرآن
وهو يشتد عليه فله أجران) . وتأويل قوله: (أجران) والله
أعلم تفسيره حديث ابن مسعود: (من قرأ القرآن فله بكل حرف
عشر حسنات، فيضاعف الأجر لمن يشتد عليه حفظ القرآن فيعطى
بكل حرف عشرون حسنة،
(10/543)
ولأجر الماهر أضعاف هذا إلى ما لا يعلم
مقداره؛ لأنه مساوٍ للسفرة الكرام البررة، وهم الملائكة)
وفى هذا تفضيل الملائكة على بنى آدم، وقد تقدم. وكذلك لم
يسند البخارى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن
بأصواتكم) ورواه شعبة ومنصور، عن طلحة بن مصرف، عن عبد
الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب، عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) وقوله: (زينوا القرآن بأصواتكم) تفسير قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) لأن
تزيينه بالصوت لا يكون إلا بصوت يطرب سامعيه ويلتذون
بسماعه وهو التغنى الذى أشار إليه النبى، وهو الجهر الذى
قيل فى الحديث، يجهر به بتحسين الصوت الملين للقلوب من
القسوة إلى الخشوع، وهذا التزيين الذى أمر به (صلى الله
عليه وسلم) أمته. وإلى هذا أشار أبو عبيد فقال: مجمل
الأحاديث التى جاءت فى حسن الصوت بالقرآن، إنما هو من طريق
التخزين والتخويف والتشويق، وقال: إنما نهى أيوب شعبة أن
يحدث بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن
بأصواتكم) لئلا يتأول الناس فيه الرخصة من رسول الله فى
هذه الألحان المبتدعة. وفسر أبو سليمان الخطابى الحديث
بتفسير آخر، قال: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا
القرآن بأصواتكم) أى زينوا أصواتكم بالقرآن على مذهبهم فى
قلب الكلام، وهو كثير فى كلامهم، يقال: عرضت الناقة على
الحوض: أى عرضت الحوض على الناقة،
(10/544)
وإنما تأولنا الحديث على هذا المعنى؛ لأنه
لا يجوز على القرآن وهو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق.
وقال شعبة: نهانى أيوب أن أحدث بهذا الحديث. وهكذا رواه
سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) قال: (زينوا أصواتكم بالقرآن) والمعنى:
أشغلوا أصواتكم بالقرآن، والهجوا بقراءته، واتخذوا شعارًا.
ولم يرد تطريب الصوت به والتزيين له، إذ ليس ذلك فى وسع كل
أحد، لعل من الناس من يريد التزيين له، فيفضى ذلك به إلى
التهجين، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا
من لم يتغن بالقرآن) إنما هو أن يلهج بتلاوته كما يلهج
الناس بالغناء والطرب عليه. وهكذا فسره أبو سعيد بن
الأعرابى، سأله عنه إبراهيم ابن فراس فقال: كانت العرب
تتغنى بالركبانى، وهو النشيد بالتمطيط والمد، إذا ركبت
الإبل، وإذا جلست فى الأفنية، وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل
القرآن أحب النبى أن يكون القرآن هجيرهم، مكان التغنى
بالركبانى. قال المؤلف: والقول الأول هو الذى عليه
الفقهاء، وعليه تدل الآثار، وما اعتل به الخطابى من أن
كلام الله لا يجوز أن يزينه صوت مخلوق، فقد نقضه بقوله:
(وليس التزيين فى وسع كل أحد، لعل من الناس من يريد
التزيين فيقع فى التهجين) فقد نفى عنه التزيين وأثبت له
التهجين، وهذا خلف من القول.
(10/545)
ولو كان المعنى زينوا أصواتكم بالقرآن كما
زعم هذا القائل؛ لدخل فى الخطاب من كان قبيح الصوت وحسنه،
ولم يكن للحسن الصوت فضل على غيره؛ ولا عرف للحديث معنى،
ولما ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لأبى موسى
الأشعرى، حين سمع قراءته وحسن صوته: (لقد أوتى هذا مزمارًا
من مزامير آل داود) . وثبت أن عقبة بن عامر كان حسن الصوت
بالقرآن، فقال له عمر ابن الخطاب: اقرأ سورة كذا، فقرأها
عليه، فبكى عمر وقال: ما كنت أظن أنها نزلت. فدل ذلك أن
التزيين للقرآن إنما هو تحسين الصوت به ليعظم موقعه من
القلوب، وتستميل مواعظه النفوس، ولا ينكر أن يكون القرآن
يزين صوت من أدمن قراءته، وآثره على حديث الناس، غير أن
جلالة موقعه من القلوب، والتذاذ السامعين به لا يكون إلا
مع تحسين الصوت به. وقوله فى حديث أبى سعيد: (ارفع صوتك
بالنداء) ففيه دليل أن رفع الصوت وتحسينه بذكر الله فى
القرآن وغيره من أفعال البر؛ لأن ذلك تعظيم أمر الله،
والإعلان بشريعته، وذلك يزيد فى التخشع، وترقيق النفوس.
قال المهلب: وأما حديث عائشة أن النبى (صلى الله عليه
وسلم) كان يقرأ القرآن ورأسه فى حجرها وهى حائض، ففيه معنى
ما ترجم به من معنى المهارة بالقرآن؛ لأنه كان قد يسرّ
الله عليه قراءته حتى كان يقرأه على كل أحواله لا يحتاج أن
يتهيأ له بقعود، ولا بإحضار حفظه؛ لاستحكامه فيه، فلا يخاف
عليه توقفًا؛ فلذلك كان يقرؤه راكبًا وماشيًا وقاعدًا
وقائمًا ولا يتأهب لقوة حفظه ومهارته - عليه السلام -،
(10/546)
ومنه أن المؤمن لا ينجس كما قال (صلى الله
عليه وسلم) ، وأن وصف المؤمن بالنجاسة إنما هو إخبار عن
حال مباشرة الصلاة، ونقض غسله ووضوئه، ألا ترى سماع عائشة
قراءة الرسول وهى حائض، والسماع عمل من أعمال المؤمنين
مدخور لهم به الحسنات ورفع الدرجات.
54 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20]
/ 163 - فيه: عُمَرَ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ
يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ
لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ
حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ. . . فذكر
الحديث إلى قوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى
سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) .
وقد تقدم فى فضائل القرآن. قال المهلب: ومعنى قوله:
(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20]
، ما تيسر على القلب حفظه من آياته، وعلى اللسان من لغاته،
وإعراب حركاته، كما فسره النبى فى هذا الحديث. ونذكر فى
هذا الموضع ما لم يمض فى فضائل القرآن إن قال قائل: إذا
ثبت أن القرآن أنزل على سبعة أحرف فكيف ساغ للقراء تكثير
الروايات وقراءتهم بسبعين رواية وبأزيد من مائة؟ قال
المهلب: فالجواب: أن عثمان لما أمر بكتابة المصاحف التى
بعث بها إلى البلدان أخذ كل إمام من أئمة القراء في
(10/547)
كل أفق نسخته، فما انفك له من سوادها وحروف
مدادها مما وافق قراءته التى كان يقرأ لم يمكنه مفارقته
لقيامه من سواد الحفظة، وأنه كان عنده فيه رواية إلى أحد
من الصحابة، مع أنه لم تكن النسخ التى بعث بها عثمان
مضبوطة بشكل لا يمكن تعديه، ولا تحقيق هجاء يعين معانيه؛
إذ كانوا يسمحون فى الهجاء بإسقاط الألف من كلمة لعلمهم
بها استخفافًا لكثرة تكرر هذا كألف العالمين والمساكين،
وكل ألف هى فى المصحف ملحقة بالحمرة. وقال يزيد الرقاشى:
كان فى المصحف كانوا: كنوا، وقالوا: قلوا، فزدنا فيها
ألفًا، يريد جماعة القراء حين جمعهم الحجاج، وكذلك ما
زادوا فى الخط وقد كان فى المصحف: (ماء غير يسن) فردها
الحجاج مع جماعة القراء) آسن (وفى الزخرف: (معايشهم)
فردها) معيشتهم (. فكل تأول من ذلك الخط ما وافق قراءته
كيفما كان من طريق الشكل وحركات الحروف مما يبدل المعنى،
وقد يجوز أن يكون ذلك من وهل الأقلام، ويدل على ذلك
استجلاب الحجاج مصحف أهل المدينة ورد مصاحف البصرة والكوفة
إليه وإبقاء ما لا يغير معنى، وما له وجه جائز من وجوه ذلك
المعنى وصار خط مصحف أهل المدينة سُنّة متبعة لا يجوز فيها
التغيير؛ لأنها القراءة المنقولة سمعًا، وأن الستة
المتروكة قطعًا لذريعة الاختلاف ما وافق منها المنفك من
سواد الخط لأهل الأمصار فتواطئوا عليها جوز
(10/548)
لهم تأويلهم فيه بما وافق روايتهم عن صحابى
لخشية التحزب الذى منه هربوا، ولكثرة من اتبع القراء فى
تلك الأمصار من العامة غير المأمونة عند منازعتها، فهذا
وجه تجويز العلماء أن يقرأ بخلاف أهل المدينة وبروايات
كثيرة. وأما ما ذكر من قراءة ابن مسعود فهذا تبديل كلمة
بأخرى كقوله: (صَيْحَةً وَاحِدَةً) [يس: 29] ، قرأها هو:
(زقية واحدة) و) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ)
[الصافات: 46] قرأها: (صفراء) فهذا تبديل اللفظ والمعنى،
ولذلك أجمعت الأمة على ترك القراءة بها، ولو سمح فى تبديل
السواد لما بقى منه إلا الأقل، لكن الله حفظه علينا من
تحكم المتأولين وتسلط أيدى الكاتبين على تبديل حرف بحرام
إلى حلال، وحلال بحرام، وكلمة عذاب برحمة، ورحمة بعذاب،
ونهى بأمر، وأمر بنهى، وإنما هو ذلك مما هو جائز فى كلام
العرب من نصب وخفض ورفع مما لا يحيل معنى ولا حرج فيه. وقد
روى البغوى: حديث محمد بن زياد، حدثنا ابن شهاب الخياط،
حدثنا داود بن أبى هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده
قال: (جلس ناس من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) على
بابه، فقال بعضهم: إن الله قال فى آية كذا كذا، وقال
بعضهم: لم يقل كذا. فخرج رسول الله كأنما فقئ فى وجهه حب
الرمان وقال: أبهذا أمرتم؟ إنما ضلت الأمم فى مثل هذا،
انظروا ما
(10/549)
أمرتم به فاعلموا به، وما نهيتم عنه
فانتهوا) فدل هذا أنه لم يك فى السبع الذى نزل بها القرآن
ما يحيل الأمر والنهى عن مواضعه، ولا يحيل الصفات عن
مواضعها؛ لأنها مأمور باعتقادها ومنهى عن قياسها على
المعانى؛ لأنه تعالى برئ من الأشياء والأنداد، وبقيت حركات
الإعراب مستعملة لما انفك من سواد الخط فى المجتمع عليه،
وعلى هذا استقر أمر القراءات عند العلماء.
55 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر: 32]
وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا
خُلِقَ لَهُ) . مُهَيَّأٌ / 164 - فيه: عِمْرَان، قُلْتُ:
(يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟
قَالَ: (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) . وروى على
معناه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقد تقدم فى كتاب
القدر. وتيسير القرآن للذكر هو تسهيله على اللسان،
ومسارعته إلى القراءة حتى أنه ربما سبق اللسان إليه فى
القراءة فيجاوز الحرف إلى ما بعده، ويحذف الكلمة حرصًا على
ما بعدها. وقوله: (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 15] ،
أى: متفكر ومتدبر لما يقرأ ومستيقظ لما يسمع، يأمرهم أن
يعتبروا، ويحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن هلك من الأمم
قبلهم، وأصله: مذتكر، مفتعل من الذكر، أدغمت الذال فى
التاء، ثم قلبت دالا، وأدغمت الذال فى الدال؛ لأنها أشبه
بالدال من التاء.
(10/550)
56 - بَاب قَوْله تَعَالَى) بَلْ هُوَ
قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج: 21، 22] )
وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِى رق منشور (
قَالَ قَتَادَةُ: (يَسْطُرُونَ) [القلم: 1] يَخُطُّونَ)
فِى أُمِّ الْكِتَابِ (الزخرف: 4 جُمْلَةِ الْكِتَابِ،
وَأَصْلِهِ) مَا يَلْفِظُ) [ق: 18] مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ
شَىْءٍ إِلا كُتِبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ،) يُحَرِّفُونَ (:
يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ
كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنَّهُمْ
يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ
تَأْوِيلِهِ، دِرَاسَتُهُمْ: تِلاوَتُهُمْ،) وَاعِيَةٌ
(حَافِظَةٌ) وَتَعِيَهَا (تَحْفَظُهَا،) وَأُوحِىَ إِلَىَّ
هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ) [الأنعام: 19]
يَعْنِى أَهْلَ مَكَّةَ،) وَمَنْ بَلَغَ (هَذَا
الْقُرْآنُ، فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ. / 165 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا قَضَى
اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ،
أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِى غَضَبِى، وَهُوَ عِنْدَهُ
فَوْقَ الْعَرْشِ) . وَقَالَ مرة عن النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى،
وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) . قال أهل
التفسير: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ) [البروج: 21] ، أى
كريم على الله تعالى) فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) [البروج: 22]
، وهو أم الكتاب عند الله. وقرأ نافع: (محفوظ) بالرفع من
نعت (قرآن) المعنى: بل هو قرآن مجيد محفوظ فى لوح. وقرأه
غيره: (محفوظٍ) بالخفض من نعت اللوح، واختلف أهل التأويل
فى قوله: (وَالطُّورِ
(10/551)
وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ)
[الطور: 1 - 3] ، قال الحسن: هو القرآن فى أيدى السفرة.
وقال الزجاج: الكتاب هاهنا ما أثبت على بنى آدم من
أعمالهم. قال المهلب: وما ذكره النبى (صلى الله عليه وسلم)
من سبق رحمة الله لغضبه فهو ظاهر؛ لأن من غَضب الله عليه
من خلقه لم يخيبه فى الدنيا من رحمته ورأفته، بأن رزقه
ونعمه وخوله مدة عمره أو وقتًا من دهره، ومكنه من آماله
وملاذه، وهو لا يستحق بكفره ومعاندته غير أليم العذاب،
فكيف رحمته بمن آمن به واعترف بذنوبه، ورجا غفرانه، ودعاه
تضرعًا وخفية. وقد قال بعض المتكلمين: إن رحمته تعالى لم
تنقطع عن أهل النار المخلدين الكفار، إذ من قدرته أن يخلق
لهم عذابًا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفًا بالإضافة
إلى ذلك العذاب.
57 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ) إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]
وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ،)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضَ (الآية [الأعراف: 54] . وَقَالَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنَ الأمْرِ؛
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ)
[الأعراف: 54] وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
الإيمَانَ عَمَلا. قَالَ أَبُو ذَرّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ:
سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الأعْمَالِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِى
سَبِيلِهِ، وَقَالَ: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
[السجدة: 17] ،
(10/552)
وَقَالَ: وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ
لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ
الأمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ،
فَأَمَرَهُمْ بِالإيمَانِ وَالشَّهَادَةِ، وَإِقَامِ
الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ
كُلَّهُ عَمَلاً. / 166 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَفَرٍ مِنَ
الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، قَالَ: (وَاللَّهِ لا
أَحْمِلُكُمْ. . .) وذكر الحديث إلى قوله: (لَسْتُ أَنَا
أَحْمِلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ. . .) إلى
آخره. / 167 - وفيه: ابْن عَبَّاس، (قَدِمَ وَفْدُ
عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالُوا: مُرْنَا بِعُمَلٍ مِنَ الأمْرِ، إِنْ عَمِلْنَا
بِها دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ
وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ،
شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. . .) ، الحديث. /
168 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا
خَلَقْتُمْ) . / 169 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ عليه السَّلام: (قَالَ اللَّهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا
ذَرَّةً، وَلِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً) . قال
المهلب: غرضه فى هذا الباب إثبات أفعال العباد وأقوالهم
خلقًا لله تعالى كسائر الأبواب المتقدمة، واحتج بقوله:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ،
ثم فصل بين الأمر بقوله للشئ: كن، وبين خلقه قطعًا
للمعتزلة القائلين بأن الأمر هو الخلق، وأنه إذا قال للشئ:
كن. معناه أنه كونه نفيًا منهم للكلام عن الله خلافًا
لقوله: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164]
، وقد تقدم بيان الرد عليهم فى باب: المشيئة والإرادة ثم
زاد في
(10/553)
بيان الأمر فقال: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف: 54] ،
فجعل الأمر غير خلقه لها، وغير تسخيرها الذى هو عن أمره،
ثم ذكر قول ابن عيينة أنه فصل بين الخلق والأمر وجعلهما
شيئين بإدخال حرف العطف بينهما، والأمر منه تعالى قول،
وقوله صفة من صفاته غير مخلوق. ثم بين لك أن قول الإنسان
بالإيمان وغيره قد سماه رسول الله عملا حين سئل: أى العمل
أفضل؟ قال: إيمان بالله. والإيمان قول باللسان، واعتقاد
بالقلب، وعمل بالجوارح، وكذلك أمره وفد عبد القيس حين
سألوه أن يدلهم على ما إن عملوه دخلوا الجنة فأمرهم
بالإيمان بالقلب، والشهادة باللسان، وسائر أعمال الجوارح.
فثبت أن كلام ابن آدم بالإيمان وغيره عمل من أعماله وفعل
له، وأن كلام الله المنزل بكلمة الإيمان غير مخلوق، ثم بين
لك أن أعمالنا كلها مخلوقة لله تعالى خلافًا للقدرية الذين
يزعمون أنها غير مخلوقة له تعالى بقوله فى حديث أبى موسى
لست أنا حملتكم على الإبل بعد أن حلف لهم أن ما عندى ما
أحملكم عليه، وإنما الله هو الذى حملكم عليها، ويسرها لكم
فأثبت ذلك كله فعلا لله تعالى، وهذا بين لا إشكال فيه.
وقوله فى حديث عائشة: يقال للمصورين: أحيوا ما خلقتم)
فإنما نسب خلقها إليهم توبيخًا لهم وتقريعًا لهم فى
مضاهاتهم الله عز وجل فى خلقه فبكتهم بأن قال لهم: فإذ قد
شابهتم بما صورتم مخلوقات الرب، فأحيوا ما خلقتم كما أحيا
هو تعالى ما خلق فينقطعون بهذه المطالبة حين لا يستطيعون
نفخ الروح في ذلك.
(10/554)
ومثل هذا قوله فى حديث أبى هريرة: قال الله
تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى) يريد يصور صورة تشبه
خلقى فسمى فعل الإنسان فى تصوير مثالها خلقًا له توبيخًا
له على تشبهه بالله فيما صور فأحكم وأتقن على غير مثال
احتذاه ولا من شىء قديم ابتداه، بل أنشأ من معدوم، وابتدع
من غير معلوم، وأنتم صورتم من خشب موجود وحجر غير مفقود
على شبه معهود مضاهين له، وموهمين الأغمار أنكم خلقتم
كخلقه، فاخلقوا أقل مخلوقاته وأحقرها الذرة المتعدية فى
أدق من الشعر، وأنفذ منكم بغير آله فى نحت الحجر فتتخذه
مسكنًا وتدخر فيه قوتها نظرًا فى معاشها، أو اخلقوا حبة من
هذه الأقوات التى خلقها الله لعباده، ثم يخرج منها زرعًا
لا يشبهها نباته، ثم يطلع منها بقدرته من جنسها بعد أن
أعدم شخصها عددًا من غير نوع نباتها الأخضر قدرة بالغة
لمعتبر، وإعجازًا لجميع البشر.
58 - بَاب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ
وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاوَتُهُمْ لا تُجَاوِزُ
حَنَاجِرَهُمْ
/ 170 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) :
(مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
كَالأتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ،
وَمَثَلُ الَّذِى لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ،
طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ
الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ،
رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ
الَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ،
طَعْمُهَا مُرٌّ وَلا رِيحَ لَهَا) . / 171 - وفيه:
عَائِشَةَ، سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) عَنِ الْكُهَّانِ،
(10/555)
فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَىْءٍ) ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ
بِالشَّىْءِ يَكُونُ حَقًّا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ -
عليه السلام -: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ،
يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ، فَيُقَرْقِرُهَا فِى أُذُنِ
وَلِيِّهِ، كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ،
فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) . / 172 - وفيه:
أَبُو سَعِيد، قَالَ، عليه السَّلام: (يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ
قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لا
يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا
يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ،
قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ،
أَوْ قَالَ: التَّسْبِيدُ) . معنى هذا الباب أن قراءة
الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده، وإنما
يزكو عنده ويرتفع إليه من الأعمال ما أريد به وجهه، وكان
عن نية وقربة إليه تعالى، ألا ترى أنه شبه الفاجر الذى
يقرأ القرآن بالريحانة، ريحها طيب وطعمها مر حين لم ينتفع
ببركة القرآن، ولم يفز بحلاوة أجره فلم يجاوز الطيب حلوقهم
من موضع الصوت، ولا بلغ إلى قلوبهم ذلك الطيب؛ لأن طعم
قلوبهم مر وهو النفاق المستسر كما استسر طعم الريحانة فى
عودها مع ظهور رائحتها وهؤلاء هم الذين يمرقون من الدين
كما يمرق السهم من الرمية. وأما قوله: (ثم لا يعودون فيه
حتى يعود السهم إلى فوقه) فهذا الحديث أخرجهم من الإسلام،
وهو بخلاف الحديث الذى قال فيه عليه الصلاة السلام:
(ويتمارى فى الفوق) لأن ذلك التمارى أبقاهم فى الإسلام.
وهذا الحديث أخرجهم من الإسلام؛ لأن السهم لا يعود إلى
فوقه بنفسه أبدًا، فيمكن أن يكون هذا الحديث فى قوم عرفهم
النبي - عليه
(10/556)
السلام - بالوحي أنهم يمرقون قبل التوبة،
وقد خرجوا ببدعتهم وسوء تأويلهم إلى الكفر، ألا ترى أنه
(صلى الله عليه وسلم) وسمهم بسيما خصَّهم بها من غيرهم وهو
التسبيد أو التحليق، كما وسمهم بالرجل السود الذى إحدى
يديه مثل ثدى المرأة، وهم الذين قتل على بالنهروان حين
قالوا: إنك ربنا، فاغتاظ عليهم وأمر بحرقهم بالنار فزادهم
الشيطان فتنة فقالوا: الآن أيقنا أنك ربنا؛ إذ لا يعذب
بالنار إلا الله فثبت بذلك كفرهم، وقد قال بعض العلماء: إن
من وسمه النبى (صلى الله عليه وسلم) بتحليق أو غيره أنه لا
يستتاب إذا وجدت فيه السيما، ألا ترى أن عليًا، رضى الله
عنه، لم ينقل عنه أنه استتاب أحدًا منهم. وقد روى على عن
النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أينما لقيتموهم
فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجر لمن قتلهم، وقال: لئن أدركتهم
لأقتلنهم قتل عاد) . وأما حديث الكهان فإنما ذكره فى هذا
الباب لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليسوا بشئ) وإن كان
فى كلامهم شىء من الحق والصدق فإنهم يفسدون تلك الكلمة من
الصدق بمائة كذبة أو أكثر، فلم ينتفعوا بتلك الكلمة من
الصدق لغلبة الكذب عليهم، كما لم ينتفع المنافق بقراءته
لفساد عقد قلبه. وأما قوله: (فيقرقرها فى أذن وليه كقرقرة
الدجاجة) أى يضعها فى الأذن بصوت شبيه بقرقرة الدجاجة. قال
الأصمعى: قرقر البعر قرقرة إذا صفا ورجع. وقد روى: كقرقرة
الزجاجة، وكلا الروايتين صواب، ويدل على
(10/557)
صحة الرواية بالزجاجة رواية من روى: كما
تقر القارورة؛ لأن القرقرة قد تكون فى الزجاجة عند وضع
الأشياء فيها كما تقرقر الدجاجة أيضًا، وكما تكون القراقر
فى البطن، ووقع فى كتاب بدء الخلق: فيقرها فى أذن وليه كما
تقر القارورة، والمعنى فيه: أن الشياطين تقرأ الكلمة فى
أذن الكاهن كما يقر الشىء فى القارورة، وهذا على الاتساع
كقوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ:
33] ، والمعنى: بل مكرهم فى الليل والنهار لأن القارورة لا
تقر، وإنما يقر فيها كما لا يكون المكر لليل والنهار وإنما
يكون فيهما. قال صاحب الأفعال: قررت الماء فى السقاء:
صببته فيه، وأقررته وقررت الخبر فى أذنه أقره قرًا: أودعته
فيها. وعن أبى زيد: أقره، بكسر القاف. وقال الأصمعى: يقال:
قر ذلك فى أذنه يقر قرًا إذا صار فى أذنه فيكون معناه أنه
يقر الكلمة فى أذن الكاهن من غير صوت، وفى حديث القرقرة
أنه يضعها بصوت، فدل اختلاف لفظ الحديثين أنه مرة يضعها فى
أذن الكاهن بصوت، ومرة بغير صوت. وقوله: (سيماهم التحليق
أو التسبيد) شك من المحدث فى أى اللفظين قال (صلى الله
عليه وسلم) ، ومعناهما متقارب. قال صاحب العين: سبد رأسه:
استأصل شعره. والتسبيد أن ينبت شعره بعد أيام.
59 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء: 47] وَأَنَّ
أَعْمَالَ بَنِى آدَمَ وَقَوْلَهُمْ تُوزَنُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ
بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ
الْمُقْسِطِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ
فَهُوَ الْجَائِرُ.
(10/558)
/ 173 - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (كَلِمَتَانِ
حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى
اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ
اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) .
قال الزجاج: القسط: العدل، المعنى: ونضع الموازين ذوات
القسط، وقسط مثل عدل مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط،
وميزانان قسط وموازين قسط. وأجمع أهل السنة على الإيمان
بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان
له لسان وكفتان وتمثل الأعمال بما يوزن، وخالف ذلك
المعتزلة وأنكروا الميزان وقالوا: الميزان عبارة عن العدل.
وهو خلاف لنص كتاب الله، وقول رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) . قال المهلب: فأخبر الله تعالى أنه يضع الموازين
لتوزن أعمال العباد بها، فيريهم أعمالهم ممثلة فى الميزان
لأعين العاملين؛ ليكونوا على أنفسهم شاهدين قطعًا لحججهم
وإبلاغًا فى إنصافهم عن أعمالهم الحسنة، وتبكيتًا لمن قال:
إن الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون، وتقصيًا عليهم
لأعمالهم المخالفة لما شرع لهم، وبرهانًا على عدله على
جميعهم، وأنه لا يظلم مثقال حبة من خردل حتى يعترف كل بما
قد نسيه من عمله، ويميز ما عساه قد احتقره من فعله. ويقال
له عند اعترافه: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا. وقوله:
ثقيلتان يدل أن تسبيح الله وتقديسه من أفضل النوافل، وأعظم
الذخائر عنده تعالى، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(حبيبتان إلى الرحمن) .
(10/559)
وقول البخاري: ويقال: القسط مصدر المقسط
فإنما أراد المصدر المحذوف الزوائد، كالقدر مصدر قدرت إذا
حذفت زوائده، قال الشاعر: وإن تهلك فذلك كان قدرى بمعنى:
تقديرى محذوف زوائده، ورده إلى الأصل، ومثله كثير، وإنما
تحذف العرب زوائد المصادر لترد الكلام إلى أصله، ويدل
عليه. ومصدر المقسط: الجارى على فعله الإقساط.
(10/560)
|