عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 14 - (بَاب مَنْ كَرِهَ أنْ يَعُودَ فِي
الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَن يُلْقَى فِي النارِ مِن
الإِيمانِ)
أَي: هَذَا بَاب من كره، وَيجوز فِي بَاب التَّنْوِين
وَالْوَقْف وَالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وعَلى كل
التَّقْدِير قَوْله: من، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: من
الْإِيمَان، و: أَن فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة،
وَكَذَلِكَ كلمة: مَا وَمن، مَوْصُولَة، وَكره أَن يعود:
صلتها، وَفِيه حذف، تَقْدِير الْكَلَام: بَاب كَرَاهَة من
كره الْعود فِي الْكفْر ككراهة الْإِلْقَاء فِي النَّار من
شعب الْإِيمَان. وَالْكَرَاهَة ضد الْإِرَادَة والرضى،
وَالْعود بِمَعْنى الصيرورة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ضمن
فِيهِ معنى الِاسْتِقْرَار حَتَّى عدى بفي، وَنَحْوه
قَوْله تَعَالَى: {أَو لتعودن فِي ملتنا} (الْأَعْرَاف:
88) قلت: فِي، تَجِيء بِمَعْنى: إِلَى، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم}
(إِبْرَاهِيم: 9) .
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ: أَن فِي الْبَاب
الأول أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا
أَمر أَصْحَابه بِعَمَل كَانُوا يسألونه أَن يعملوا
بِأَكْثَرَ من ذَلِك، وَذَلِكَ لوجدانهم حلاوة الْإِيمَان
من شدَّة محبتهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَهَذَا الْبَاب أَيْضا يتَضَمَّن هَذَا الْمَعْنى لِأَن
فِيهِ؛ من أحب الله وَرَسُوله أَكثر مِمَّا يحب غير الله
وَرَسُوله فَإِنَّهُ يفوز بحلاوة الْإِيمَان.
21 - حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حَدثنَا
شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ أَنَسٍ رَضِي الله عَنهُ عنِ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ
فيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمانِ مَنْ كانَ اللَّهُ
ورسولهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ أَحَبَّ
عَبْداً لاَ يُحِبُّهُ إلاَّ للَّهِ ومَنْ يَكرَهُ أنْ
يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ كَمَا
يَكْرَهُ أَن يُلْقَى فِي النارِ.
(رَاجع الحَدِيث رقم 16) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث
مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَفِيمَا مضى بوبه على
جُزْء مِنْهُ، وَهَهُنَا بوب على جُزْء آخر، لِأَن عَادَته
قد جرت فِي التَّبْوِيب على مَا يُسْتَفَاد من الحَدِيث،
وَلَا يُقَال: إِنَّه تكْرَار، لِأَن بَينه وَبَين مَا سبق
تفَاوت
(1/167)
كثير فِي الْإِسْنَاد والمتن، أما فِي
الْإِسْنَاد فَفِيمَا مضى عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، عَن
عبد الْوَهَّاب، عَن أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، عَن أنس.
وَهَهُنَا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، عَن شُعْبَة عَن
قَتَادَة، عَن أنس. وَأما فِي الْمَتْن: فَفِيمَا مضى
لَفظه أَن يكون الله وَرَسُوله أحب، وَأَن يحب الْمَرْء،
وَأَن يكره، وَأَن يقذف مَوضِع أَن يلقى، وَهَهُنَا كَمَا
ترَاهُ مَعَ زِيَادَة؛ (بعد أَن أنقذه الله) ، على أَن
الْمَقْصُود من إِيرَاده هَهُنَا تبويب آخر غير ذَلِك
التَّبْوِيب لما قُلْنَا، وَأما شيخ البُخَارِيّ هَهُنَا
فَهُوَ أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن حَرْب بن بجيل،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم الْمَكْسُورَة
بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة وَفِي آخِره لَام.
الْأَزْدِيّ الواشحي، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة والحاء
الْمُهْملَة، الْبَصْرِيّ، و: واشح بطن من الأزد، سكن
مَكَّة وَكَانَ قاضيها، سمع: شُعْبَة والحمادين وَغَيرهم،
وَعنهُ: أَحْمد والذهلي والْحميدِي والنجاري، وَهَؤُلَاء
شُيُوخه، وَقد شاركهم فِي الرِّوَايَة عَنهُ، وروى عَنهُ:
أَبُو دَاوُد أَيْضا، وروى مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن
مَاجَه عَن رجل عَنهُ، قَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ إِمَام من
الْأَئِمَّة لَا يُدَلس وَيتَكَلَّم فِي الرِّجَال
وَالْفِقْه، وَظهر من حَدِيثه نَحْو عشرَة آلَاف، مَا
رَأَيْت فِي يَده كتابا قطّ، وَلَقَد حضرت مَجْلِسه
بِبَغْدَاد فحرزوا من حضر مَجْلِسه أَرْبَعِينَ ألف رجل،
قَالَ البُخَارِيّ: ولد سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة،
وَتُوفِّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَت
وَفَاته بِالْبَصْرَةِ. وَكَانَ قد عزل من قَضَاء مَكَّة
وَرجع إِلَيْهَا.
(وَمن لطائف أسناده) أَنهم كلهم بصريون، وَهُوَ أحد ضروب
علو الرِّوَايَة. قَوْله: (ثَلَاث) أَي: ثَلَاث خِصَال أَو
خلال، وَقد مر الْإِعْرَاب فِيهِ، قَوْله: (من كَانَ الله)
يجوز فِي إعرابه الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون بَدَلا
من ثَلَاث، أَو بَيَانا، وَالْآخر: أَن يكون خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، وَتَقْدِير الأول: من الَّذين فيهم الْخِصَال
الثَّلَاث من كَانَ الله إِلَى آخِره، وَيجوز أَن يكون
خَبرا لقَوْله: ثَلَاث، على تَقْدِير كَون الْجُمْلَة
الشّرطِيَّة صفة لثلاث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يقدر قبل من
الأولى، وَالثَّانيَِة لَفْظَة: محبَّة، وَقيل من
الثَّالِثَة لفظ: كَرَاهَة، أَي: محبَّة من كَانَ وَمن أحب
وَكَرَاهَة من كره، ولشدة اتِّصَال الْمُضَاف بالمضاف
إِلَيْهِ وَغَلَبَة الْمحبَّة وَالْكَرَاهَة عَلَيْهِم
جَازَ حذف الْمُضَاف مِنْهَا. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا
التَّقْدِير لِاسْتِقَامَةِ الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى
بِدُونِهِ، على مَا لَا يخفى. قَوْله: (بعد إِذْ أنقذه
الله) بعد، نصب على الظّرْف، وَإِذ، كلمة ظرف كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين
كفرُوا} (التَّوْبَة: 40) وَمعنى انقذه الله: خلصه ونجاه،
وَهُوَ من الإنقاذ، وثلاثيه النقذ، قَالَ ابْن دُرَيْد:
النقذ مصدر نقذ بِالْكَسْرِ ينقذ نقذاً بِالتَّحْرِيكِ:
إِذا نجى، قَالَ تَعَالَى: {فأنقذكم مِنْهَا} (آل عمرَان:
103) أَي: خلصكم، يُقَال: أنقذته واستنقذته وتنقذته: إِذا
خلصته ونجيته، قَالَ تَعَالَى: {لَا يستنقذوه مِنْهُ}
(الْحَج: 73) وَفِي (الْعباب) : والتركيب يدل على
الاستخلاص.
15 - (بابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمانِ فِي الأَعْمَالِ)
أَي: هَذَا بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان، وَالْأَصْل: هَذَا
بَاب فِي بَيَان تفاضل أهل الْإِيمَان فِي أَعْمَالهم،
وتفاضل، مجرور بِإِضَافَة الْبَاب إِلَيْهِ، وَيجوز أَن
يكون مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ. وَقَوله: (فِي
الْأَعْمَال) خَبره، وَيكون الْبَاب مُضَافا إِلَى جملَة،
وَقَوله: فِي الْأَعْمَال يتَعَلَّق بتفاضل. أَو يتَعَلَّق
بمقدر نَحْو: الْحَاصِل، وَكلمَة: فِي، للسَّبَبِيَّة
كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي النَّفس
المؤمنة مائَة إبل) أَي: التَّفَاضُل الْحَاصِل بِسَبَب
الْأَعْمَال.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي
الْبَاب الأول ثَلَاث خِصَال، وَالنَّاس متفاوتون فِيهَا،
والفاضل من اسْتكْمل الثَّلَاث فقد حصل فِيهِ التَّفَاضُل
فِي الْعَمَل، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِي التَّفَاضُل فِي
الْعَمَل.
22 - حدّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدّثني مَالِكٌ عَن عَمْرِو
بنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَن أبِيهِ عَن أبي سَعِيدٍ
الخُدْرِي رَضِي الله عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قالَ يدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأهْلُ
النَّارِ النَّارَ ثُم يَقولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا
مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
مِنْ إيمانٍ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا
فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَياءِ أَو الحَيَاةِ شَكَّ
مَالِكٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي جانِب
السَّيْلِ أَلَمْ تَرَ أَنَّها تَخْرُجُ صَفَرَاءَ
مُلْتَوِيَةً..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن
الْمَذْكُور فِيهِ هُوَ: أَن الْقَلِيل جدا من الْإِيمَان
يخرج صَاحبه من النَّار
(1/168)
والتفاوت فِي شَيْء فِيهِ الْقلَّة
وَالْكَثْرَة ظَاهر وَهُوَ عين التَّفَاضُل، لَا يُقَال:
الحَدِيث إِنَّمَا يدل على تفاضلهم فِي ثَوَاب الْأَعْمَال
لَا فِي نفس الْأَعْمَال، إِذْ الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان
أَن بعض الْمُؤمنِينَ يدْخلُونَ الْجنَّة أول الْأَمر،
وَبَعْضهمْ يدْخلُونَ آخرا لأَنا نقُول: يدل على تفَاوت
النَّاس فِي الْأَعْمَال أَيْضا، لِأَن الْإِيمَان: إِمَّا
التَّصْدِيق وَهُوَ عمل الْقلب، وَإِمَّا التَّصْدِيق مَعَ
الْعَمَل، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ قَابل للتفاوت، إِذْ
مِثْقَال الْحبَّة إِشَارَة إِلَى مَا هُوَ أقل مِنْهُ أَو
تفَاوت الثَّوَاب مُسْتَلْزم لتَفَاوت الْأَعْمَال شرعا،
وَيحْتَمل أَن يُرَاد من الْأَعْمَال ثَوَاب الْأَعْمَال،
إِمَّا تجوزاً بِإِطْلَاق السَّبَب وَإِرَادَة الْمُسَبّب،
وَإِمَّا إضماراً بِتَقْدِير لفظ الثَّوَاب مُضَافا
إِلَيْهَا.
(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن عبد
الله أبي أويس بن عبد الله بن أويس بن مَالك بن أبي عَامر
الأصبحي، عَم مَالك بن أنس أخي الرّبيع وَأنس وَأبي
سُهَيْل نَافِع أَوْلَاد مَالك بن أبي عَامر؛
وَإِسْمَاعِيل هَذَا ابْن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس،
سمع: خَاله وأباه وأخاه عبد الْمجِيد وَإِبْرَاهِيم بن سعد
وَسليمَان بن بِلَال وَآخَرين، روى عَنهُ: الدَّارمِيّ
وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهم من الْحفاظ، وروى مُسلم
أَيْضا عَن رجل عَنهُ، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَلم يخرج لَهُ
النَّسَائِيّ لِأَنَّهُ ضعفه، وَقَالَ أَبُو حَاتِم:
مَحَله الصدْق وَكَانَ مغفلاً، وَقَالَ يحيى بن معِين:
هُوَ ووالده ضعيفان، وَعنهُ: يسرقان الحَدِيث، وَعنهُ:
إِسْمَاعِيل صَدُوق ضَعِيف الْعقل لَيْسَ بذلك، يَعْنِي:
أَنه لَا يحسن الحَدِيث وَلَا يعرف أَن يُؤَدِّيه وَيقْرَأ
فِي غير كِتَابه، وَعنهُ: مختلط يكذب لَيْسَ بِشَيْء،
وَعنهُ: يُسَاوِي فلسين، وَعنهُ: لَا بَأْس بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمد: قَالَ أَبُو الْقَاسِم
اللالكائي: بَالغ النَّسَائِيّ فِي الْكَلَام عَلَيْهِ
بِمَا يُؤَدِّي إِلَى تَركه، وَلَعَلَّه بَان لَهُ مَا لم
يبن لغيره، لِأَن كَلَام هَؤُلَاءِ كلهم يؤول إِلَى أَنه
ضَعِيف. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا اخْتَارَهُ فِي
الصَّحِيح. وَقَالَ ابْن عدي: روى عَن خَاله مَالك
أَحَادِيث غرائب لَا يُتَابِعه أحد عَلَيْهَا. وَأثْنى
عَلَيْهِ ابْن معِين وَأحمد، وَالْبُخَارِيّ يحدث عَنهُ
بالكثير وَهُوَ خير من أَبِيه، وَقَالَ الْحَاكِم: عيب على
البُخَارِيّ وَمُسلم إخراجهما حَدِيثه وَقد احتجا بِهِ
مَعًا، وغمزه من يحْتَاج إِلَى كَفِيل فِي تَعْدِيل نَفسه،
أَعنِي: النَّضر بن سَلمَة، أَي: فَإِنَّهُ قَالَ:
كَذَّاب. قلت: قد غمزه من لَا يحْتَاج إِلَى كَفِيل، وَمن
قَوْله حجَّة مَقْبُولَة. وَقد أخرجه البُخَارِيّ عَن
غَيره أَيْضا، فاللين الَّذِي فِيهِ يُجبر إِذن. مَاتَ فِي
سنة سِتّ، وَيُقَال: فِي رَجَب سنة سبع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: مَالك بن أنس، وَقد تقدم ذكره.
الثَّالِث: عَمْرو، بِفَتْح الْعين، ابْن يحيى بن عمَارَة،
وَوَقع بِخَط النَّوَوِيّ فِي شَرحه عُثْمَان وَهُوَ
تَحْرِيف، ابْن أبي حسن تَمِيم بن عَمْرو، وَقيل: يحيى بن
عَمْرو، حَكَاهُ الذَّهَبِيّ فِي الصَّحَابَة، ابْن قيس بن
يحرث بن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن النجار
الْأنْصَارِيّ الْمَازِني الْمدنِي روى عَن أَبِيه وَعَن
غَيره من التَّابِعين، وَعنهُ: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ
وَغَيره من التَّابِعين وَغَيرهم، والأنصاري من أقرانه،
وروى عَن يحيى بن كثير وَهُوَ من أقرانه أَيْضا، وَثَّقَهُ
أَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ، توفّي سنة أَرْبَعِينَ
وَمِائَة. وَعمارَة صَحَابِيّ بَدْرِي عَقبي، ذكره أَبُو
مُوسَى وَأَبُو عمر، وَفِيه نظر. نعم، أَبوهُ صَحَابِيّ
عَقبي بَدْرِي، وَقَالَ ابْن سعد: وَشهد الخَنْدَق وَمَا
بعد هَذَا، وَأم عَمْرو هَذَا هِيَ أم النُّعْمَان بنت أبي
حنة، بالنُّون، ابْن عَمْرو بن غزيَّة بن عَمْرو بن
عَطِيَّة ابْن خنساء بن مندول بن عَمْرو بن غَانِم بن
مَازِن بن النجار. الرَّابِع: أَبُو يحيى بن عُثْمَان بن
أبي حسن الْأنْصَارِيّ الْمَازِني الْمدنِي، سمع: أَبَا
سعيد وَعبد الله بن زيدذ، وَعنهُ ابْنه وَالزهْرِيّ
وَغَيرهمَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أَبُو سعيد
سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) : أخرجه
البُخَارِيّ هُنَا عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَفِي صفة
الْجنَّة وَالنَّار عَن وهيب بن خَالِد، وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن هَارُون عَن ابْن وهب عَن مَالك، وَعَن أبي
بكر عَن عَفَّان عَن وهيب، وَعَن حجاج ابْن الشَّاعِر عَن
عَمْرو بن عون عَن خَالِد بن عبد الله ثَلَاثَتهمْ عَن
عَمْرو بن يحيى بِهِ، وَوَقع هَذَا الحَدِيث للْبُخَارِيّ
عَالِيا بِرَجُل عَن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا.
وَهَذَا الحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل يَأْتِي إِن
شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد وَافق إِسْمَاعِيل على رِوَايَة
هَذَا الحَدِيث عبد الله بن وهب ومعن بن عِيسَى عَن مَالك،
وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
هُوَ غَرِيب صَحِيح، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من
طَرِيق إِسْمَاعِيل: (يدْخل الله) ، وَزَاد من طَرِيق معن:
(يدْخل من يَشَاء برحمته) ، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيّ على
طَرِيق ابْن وهب.
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (مِثْقَال حَبَّة) المثقال:
كالمقدار لفظا وَمعنى، مفعال من الثّقل، وَفِي (الْعباب) :
مِثْقَال الشَّيْء مِيزَانه من مثله، وَقَوله تَعَالَى:
{مِثْقَال ذرة} (النِّسَاء: 40) أَي: زنة ذرة، قَالَ:
(وكلا يوافيه الْجَزَاء بمثقال)
أَي: بِوَزْن. وَحكى أَبُو نصر: ألْقى عَلَيْهِ
(1/169)
مثاقيله؛ أَي مؤونته، والثقل ضد الخفة،
والمثقال فِي الْفِقْه من الذَّهَب عبارَة عَن اثْنَيْنِ
وَسبعين شعيرَة، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: ذكر فِي
(الِاخْتِيَار) أَن المثقال عشرُون قيراطاً وَكَذَا ذكر
فِي (الْهِدَايَة) وَفِي (الْعباب) : القيراط مَعْرُوف
ووزنه يخْتَلف باخْتلَاف الْبِلَاد، فَهُوَ عِنْد أهل
مَكَّة، حرسها الله تَعَالَى: ربع سدس الدِّينَار، وَعند
أهل الْعرَاق: نصف عشر الدِّينَار. قلت: ذكر الْفُقَهَاء
أَن القيراط: طسوجتان، والطسوجة: شعيرتان، والشعيرة:
ذرتان، والذرة: فتيلتان، والفتيلة: شعرتان. وَأما المُرَاد
هَهُنَا من المثقال فقد قيل: هُوَ وزن مُقَدّر، الله أعلم
بِقَدرِهِ، وَلَيْسَ المُرَاد الْمُقدر هَذَا الْمَعْلُوم،
فقد جَاءَ مُبينًا، وَكَانَ فِي قلبه من الْخَيْر مَا يزن
برة، والحبة، بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة: وَاحِدَة الْحبّ الْمَأْكُول من الْحِنْطَة
وَنَحْوهَا، وَفِي (الْمُحكم) وَجمع الْحبَّة حبات وحبوب
وَحب وحبان، الْأَخِيرَة نادرة. قَوْله: (من خَرْدَل) ،
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة: هُوَ نَبَات مَعْرُوف يشبه
الشَّيْء الْقَلِيل البليغ فِي الْقلَّة، بذلك يَعْنِي:
يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه أقل قدر من الْإِيمَان،
وَقَالَ فِي (الْعباب) : الْخَرْدَل مَعْرُوف واحدته:
خردلة؛ قَوْله: (فِي نهر الْحيَاء) كَذَا فِي هَذِه
الرِّوَايَة بِالْمدِّ، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَلَا
وَجه لَهُ كَمَا نبه عَلَيْهِ القَاضِي، وَفِي رِوَايَة
كَرِيمَة وَغَيرهَا بِالْقصرِ، وَعَلِيهِ الْمَعْنى، لِأَن
المُرَاد كل مَا يحصل بِهِ الْحَيَاة، والحيا بِالْقصرِ
هُوَ الْمَطَر، وَبِه يحصل حَيَاة النَّبَات، فَهُوَ أليق
بِمَعْنى الْحَيَاة من الْحيَاء الْمَمْدُود الَّذِي
بِمَعْنى الخجل، ونهر الْحَيَاة مَعْنَاهُ المَاء الَّذِي
يحيى من انغمس فِيهِ. قَوْله: (كَمَا تنْبت الحِبَّة)
بِكَسْر الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، بذر
العشب، وَجمعه حبب، كقربة وَقرب. وَيحْتَمل أَن يكون
اللَّام للْعهد، وَيُرَاد بِهِ: حَبَّة بقلة الحمقاء،
لِأَن شَأْنه أَن ينْبت سَرِيعا على جَانب السَّيْل فيتلفه
السَّيْل، ثمَّ ينْبت فيتلفه السَّيْل، وَلِهَذَا سميت
بالحمقاء، لِأَنَّهُ لَا تَمْيِيز لَهَا فِي اخْتِيَار
المنبت. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحبَّة، بِالْكَسْرِ:
بذور الصَّحرَاء مِمَّا لَيْسَ بقوت، وَفِي الحَدِيث
يَنْبُتُونَ كَمَا تنْبت الْحبَّة فِي حميل السَّيْل،
وَتسَمى: الرجلة، بِكَسْر الرَّاء وَالْجِيم، بقلة الحمقاء
لِأَنَّهَا لَا تنْبت إلاَّ فِي المسيل. وَقَالَ
الْكسَائي: هُوَ حب الرياحين، فَفِي بعض الرِّوَايَات فِي
حميل السَّيْل: وَهُوَ مَا يحملهُ السَّيْل من طين
وَنَحْوه، قيل: فَإِذا اتّفق فِيهِ الْحبَّة واستقرت على
شط مجْرى السَّيْل تنْبت فِي يَوْم وَلَيْلَة، وَهِي أسْرع
نابتة نباتاً. وَفِي (الْمُحكم) : الْحبَّة بذور الْبُقُول
والرياحين، وَاحِدهَا حب، وَقيل: إِذا كَانَت الْحُبُوب
مُخْتَلفَة من كل شَيْء فَهِيَ حَبَّة، وَقيل: الْحبَّة
نبت ينْبت فِي الْحَشِيش صغَار، وَقيل: مَا كَانَ لَهُ حب
من النَّبَات فاسم ذَلِك الْحبّ الْحبَّة، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة الدينَوَرِي: الْحبَّة، بِالْكَسْرِ: جَمِيع بذور
النَّبَات، واحدتها حَبَّة، بِالْفَتْح. وَعَن الْكسَائي:
أما الْحبّ فَلَيْسَ إلاَّ الْحِنْطَة وَالشعِير، واحدتها
حَبَّة بِالْفَتْح، وَإِنَّمَا افْتَرقَا فِي الْجمع؛
والحبة: بذر كل نَبَات ينْبت وَحده من غير أَن يبذر، وكل
مَا بذر فبذره حَبَّة، بِالْفَتْح. وَقَالَ الْأَصْمَعِي:
مَا كَانَ لَهُ حب من النبت فاسمه حَبَّة إِذا جمع
الْحبَّة، وَقَالَ أَبُو زِيَاد: كل مَا يبس من البقل كُله
ذكوره وأحراره يُسمى: الْحبَّة إِذا سقط على الأَرْض
وتكسر، وَمَا دَامَ قَائِما بعد يبسه فَإِنَّهُ يُسمى
القت. وَفِي (الغريبين) : حب الْحِنْطَة يُسمى حَبَّة
بِالتَّخْفِيفِ، والحبة، بِكَسْر الْحَاء وَتَشْديد
الْبَاء اسْم جَامع لحبوب الْبُقُول الَّتِي تَنْتَشِر
إِذا هَاجَتْ، ثمَّ إِذا مطرَت فِي قَابل تنْبت. وَفِي
(الْعباب) : الْحبَّة بِالْكَسْرِ بذور الصَّحرَاء،
وَالْجمع الحبب. قَوْله: فِي جَانب السَّيْل، كَذَا
هَهُنَا، وَجَاء: حميل، بدل: جَانب، وَفِي رِوَايَة وهيب:
حماة السَّيْل، والحميل، بِمَعْنى الْمَحْمُول، وَهُوَ مَا
جَاءَ بِهِ من طين أَو غثاء، والحمأة مَا تغير لَونه من
الطين، وَكله بِمَعْنى. فَإِذا اتّفق فِيهِ حَبَّة على شط
مجْرَاه فَإِنَّهَا تنْبت سَرِيعا. قَوْله: (صفراء)
تَأْنِيث الْأَصْفَر من الاصفرار، وَهُوَ من جنس الألوان
للرياحين، وَلِهَذَا تسر الناظرين، وَسيد رياحين الْجنَّة:
الْحِنَّاء، وَهُوَ أصفر. قَوْله: (ملتوية) أَي: منعطفة
منثنية، وَذَلِكَ أَيْضا يزِيد الريحان حسنا، يَعْنِي
اهتزازه وتميله، وَالله تَعَالَى أعلم.
(بَيَان الْإِعْرَاب) : قَوْله: (يدْخل أهل الْجنَّة) فعل
وفاعل. وَلَفْظَة: أهل، مُضَافَة إِلَى الْجنَّة،
وَالْجنَّة الثَّانِيَة بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول، وَأَصله
فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الْجنَّة
محدودة، وَكَانَ الْحق أَن يُقَال: دخلت فِي الْجنَّة،
كَمَا فِي قَوْلك: دخلت فِي الدَّار لِأَنَّهَا محدودة،
إلاَّ أَنهم حذفوا حرف الْجَرّ اتساعاً، وأوصلوا الْفِعْل
إِلَيْهِ ونصبوه نصب الْمَفْعُول بِهِ. وَذهب الْجرْمِي:
إِلَى أَنه فعل مُتَعَدٍّ، نصب الدَّار كنحو: بنيت
الدَّار، وَقد دفعُوا قَوْله بِأَن مصدره يَجِيء على فعول،
وَهُوَ من مصَادر الْأَفْعَال اللَّازِمَة، نَحْو: قعد
قعُودا، وَجلسَ جُلُوسًا، وَلِأَن مُقَابِله لَازم.
أَعنِي: خرجت، قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ غير مطرد، لِأَن
ذهب لَازم وَمَا يُقَابله جَاءَ متعدٍ، قَالَ الله
تَعَالَى: {أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90)
قَوْله: وَأهل النَّار، كَلَام إضافي عطف على الْأَهْل
الأول، وَالتَّقْدِير: وَيدخل أهل النَّار النَّار،
وَالْكَلَام فِي النَّار الثَّانِيَة مثل الْكَلَام فِي
الْجنَّة الثَّانِيَة. قَوْله: (ثمَّ يَقُول الله عز وَجل)
(1/170)
كلمة: ثمَّ، هَهُنَا وَاقعَة فِي موقعها،
وَهُوَ التَّرْتِيب مَعَ المهلة. قَوْله: (أخرجُوا)
بِفَتْح الْهمزَة، لِأَنَّهُ أَمر من الْإِخْرَاج، وَهُوَ
خطاب للْمَلَائكَة. وَقَوله: (من كَانَ فِي قلبه) إِلَى
آخِره ... جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول
لقَوْله: أخرجُوا، و: (من) ، مَوْصُولَة، وَقَوله: (كَانَ
فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة) صلتها، و: (مِثْقَال حَبَّة) ،
كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ وَخَبره هُوَ:
قَوْله: (فِي قلبه) مقدما، وَقيل: يجوز أَن يكون: أخرجُوا،
بِضَم الْهمزَة من الْخُرُوج، فعلى هَذَا يكون من، منادى
قدحذف مِنْهُ حرف النداء، وَالتَّقْدِير: أخرجُوا يَا من
كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة، وَقَوله: (من خَرْدَل)
يتَعَلَّق بِمَحْذُوف وَهُوَ: حَاصِلَة، وَالتَّقْدِير:
مِثْقَال حَبَّة حَاصِلَة من خَرْدَل، وَهِي فِي مَحل
الْجَرّ على أَنَّهَا صفة لمجرور، وَقَوله: (من إِيمَان)
يتَعَلَّق بِمَحْذُوف آخر، وَالتَّقْدِير: من خَرْدَل
حَاصِل من إِيمَان، وَهُوَ أَيْضا فِي مَحل الْجَرّ
نَحْوهَا، وَيجوز أَن تتَعَلَّق: من، هَذِه بقوله: من
كَانَ، وَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق بِفعل وَاحِد حرفا جرٍ من
جنس وَاحِد. فَافْهَم. قَوْله: (فَيخْرجُونَ مِنْهَا) أَي:
من النَّار، وَالْفَاء فِيهِ للاستئناف، تَقْدِيره: فهم
يخرجُون، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كن فَيكون}
(الْبَقَرَة: 117 وَغَيرهَا) قَوْله: (قد اسودوا) جملَة قد
وَقعت حَالا، أَي: صَارُوا سُودًا كالفحم من تَأْثِير
النَّار. قَوْله: (فيلقون) على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة
معطوفة على الْجُمْلَة الأولى بِالْفَاءِ الَّتِي
تَقْتَضِي التَّرْتِيب، قَوْله: (شكّ مَالك) جملَة
مُعْتَرضَة بَين قَوْله: (فيلقون فِي نهر الْحَيَاة)
وَبَين قَوْله: (فينبتون) ، وَأَرَادَ أَن الترديد بَين
الْحيَاء والحياة إِنَّمَا هُوَ من مَالك بن أنس الإِمَام،
وَهُوَ الَّذِي شكّ فِيهِ، وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من
رِوَايَة مَالك، فَأَيهمْ الشاك؟ وَقد فسر هُنَا قَوْله:
(فينبتون) عطف على قَوْله: فيلقون. قَوْله: (كَمَا تنْبت
الْحبَّة) الْكَاف للتشبيه، وَمَا مَصْدَرِيَّة،
وَالتَّقْدِير: كنبات الْحبَّة، وَمحل الْجُمْلَة: النصب
على أَنَّهَا صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: فينبتون نباتاً
كنبات الْحبَّة، قَوْله: (ألم تَرَ) خطاب لكل من
يَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَة. قَوْله: (تخرج) جملَة فِي
مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن، قَوْله: (صفراء ملتوية)
حالان متداخلتان أَو مترادفتان.
(بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) قَوْله: (يدْخل) فعل
مضارع وَقد علم أَنه صَالح للْحَال والاستقبال، فَقيل:
حَقِيقَة فِي الْحَال، مجَاز فِي الِاسْتِقْبَال، وَقيل:
بِالْعَكْسِ. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الصَّحِيح أَنه
مُشْتَرك بَينهمَا لِأَنَّهُ يُطلق عَلَيْهِمَا على
السوية، وَهُوَ دَلِيل الِاشْتِرَاك. وَفِي قَوْله: على
السوية، نظر لَا يخفى، ثمَّ إِنَّه لَا يخلص للاستقبال
إلاَّ بِالسِّين وَنَحْوه، وَكَانَ الْقيَاس هَهُنَا أَن
يذكر بأداة مخلصة للاستقبال، لِأَن دُخُول الْجنَّة
وَالنَّار إِنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِقْبَال، وَلكنه
مُحَقّق الْوُقُوع ذكره بِصُورَة الْحَال. قَوْله: (من
إِيمَان) ذكره مُنْكرا لِأَن الْمقَام يَقْتَضِي التقليل،
وَلَو عرف لم يفد ذَلِك، فَإِن قلت: فيكفيه الْإِيمَان
بِبَعْض مَا يجب الْإِيمَان بِهِ، لِأَنَّهُ إيمانٌ مَا.
قلت: لَا يَكْفِيهِ لِأَنَّهُ علم، من عرف الشَّرْع أَن
المُرَاد من الْإِيمَان هُوَ الْحَقِيقَة الْمَعْهُودَة
عرف أَو نكر. قَوْله: (مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل) ، من
بَاب التَّمْثِيل ليَكُون عياراً فِي الْمعرفَة، وَلَيْسَ
بعيار فِي الْوَزْن، لِأَن الْإِيمَان لَيْسَ بجسم يحصره
الْوَزْن أَو الْكَيْل، لَكِن مَا يشكل من الْمَعْقُول قد
يرد إِلَى عيار المحسوس ليفهم، وَيُشبه بِهِ ليعلم،
وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنه يَجْعَل عمل العَبْد، وَهُوَ عرض
فِي جسم على مِقْدَار الْعَمَل عِنْد الله، ثمَّ يُوزن
وَيدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ مُبينًا، وَكَانَ فِي قلبه من
الْخَيْر مَا يزن برة. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ:
الصُّحُف الْمُشْتَملَة على الْأَعْمَال يزنها الله
تَعَالَى على قدر أجور الْأَعْمَال، وَمَا يتَعَلَّق بهَا
من ثَوَابهَا وعقابها، وَجَاء بِهِ الشَّرْع وَلَيْسَ فِي
الْعقل مَا يحيله، وَيُقَال: للوزن مَعْنيانِ: أَحدهمَا
هَذَا، وَالْآخر تَمْثِيل الْأَعْرَاض بجواهر، فَيجْعَل
فِي كفة الْحَسَنَات جَوَاهِر بيض مشرقة، وَفِي كفة
السَّيِّئَات جَوَاهِر سود مظْلمَة. وَحكى الزّجاج وَغَيره
من الْمُفَسّرين من أهل السّنة أَنه: إِنَّمَا يُوزن
خَوَاتِيم الْأَعْمَال، فَإِن كَانَت خَاتِمَة عمله حسنا
جوزي بِخَير، وَمن كَانَت خَاتِمَة عمله شرا جوزي بشر.
ثمَّ علم: أَن المُرَاد بِحَبَّة الْخَرْدَل زِيَادَة على
أصل التَّوْحِيد، وَقد جَاءَ فِي الصَّحِيح بَيَان ذَلِك،
فَفِي رِوَايَة فِيهِ: (اخْرُجُوا من قَالَ لَا إِلَه
إِلَّا الله وَعمل من الْخَيْر مَا يزن كَذَا) ، ثمَّ بعد
هَذَا يخرج مِنْهَا من لم يعْمل خيرا قطّ غير التَّوْحِيد،
وَقَالَ القَاضِي: هَذَا هُوَ الصَّحِيح، إِذْ معنى
الْخَيْر هَهُنَا أَمر زَائِد على الْإِيمَان، لِأَن مجرده
لَا يتجزى، وَإِنَّمَا يتجزى الْأَمر الزَّائِد عَلَيْهِ
وَهِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة، من: ذكر خَفِي، أَو
شَفَقَة على مِسْكين، أَو خوف من الله تَعَالَى، وَنِيَّة
صَادِقَة فِي عمل وَشبهه. وَذكر القَاضِي عَن قوم أَن
الْمَعْنى فِي قَوْله: من إِيمَان وَمن خير: مَا جَاءَ
مِنْهُ أَي: من الْيَقِين، إلاَّ أَنه قَالَ: المُرَاد
ثَوَاب الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق، وَبِه يَقع
التَّفَاضُل، فَإِن اتبعهُ بِالْعَمَلِ عظم ثَوَابه، وَإِن
كَانَ على خلاف
(1/171)
ذَلِك نقص ثَوَابه. فَإِن قلت: كَيفَ
يعلمُونَ مَا كَانَ فِي قُلُوبهم فِي الدُّنْيَا من
الْإِيمَان ومقداره؟ قلت: لَعَلَّه بعلامات كَمَا يعلمُونَ
أَنهم من أهل التَّوْحِيد. قَوْله: (كَمَا تنْبت الْحبَّة)
الخ فِيهِ تَشْبِيه مُتَعَدد، وَهُوَ التَّشْبِيه من
حَيْثُ الْإِسْرَاع، وَمن حَيْثُ ضعف النَّبَات، وَمن
حَيْثُ الطراوة وَالْحسن، والمنى: من كَانَ فِي قلبه
مِثْقَال حَبَّة من الْإِيمَان يخرج من ذَلِك المَاء نضراً
حسنا منبسطاً متبختراً كخروج هَذِه الريحانة من جَانب
السَّيْل صفراء متميلة، وَهَذَا يُؤَيّد كَون اللَّام فِي
الْحبَّة للْجِنْس، لِأَن بقلة الحمقاء لَيست صفراء؛ إلاَّ
أَن يقْصد بِهِ مُجَرّد الْحسن والطراوة، وَقد ذكرنَا وَجه
كَونهَا للْعهد.
(بَيَان استنباط الْفَوَائِد) الأولى: فِيهِ حجَّة لأهل
السّنة على المرجئة حَيْثُ علم مِنْهُ دُخُول طَائِفَة من
عصارة الْمُؤمنِينَ النَّار، إِذْ مَذْهَبهم أَنه لَا يضر
مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة، فَلَا يدْخل العَاصِي النَّار.
الثَّانِيَة: فِيهِ حجَّة على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ دلّ
على عدم وجوب تخليد العَاصِي فِي النَّار. الثَّالِثَة:
فِيهِ دَلِيل على تفاضل أهل الْإِيمَان فِي الْأَعْمَال.
الرَّابِعَة: مَا قيل: إِن الْأَعْمَال من الْإِيمَان
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خَرْدَل من إِيمَان) ،
وَالْمرَاد مَا زَاد على أصل التَّوْحِيد. قلت: لَا
دلَالَة فِيهِ على ذَلِك أصلا على مَا لَا يخفى.
قَالَ وُهَيْبٌ حَدثنَا عَمْرٌ والحَيَاةِ وَقَالَ
خَرْدَلٍ مِنْ خيْرٍ.
الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه. الأول: أَن هَذَا من بَاب
تعليقات البُخَارِيّ، وَلكنه أخرجه مُسْندًا فِي كتاب
الرقَاق عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب عَن عَمْرو بن
يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد بِهِ، وسياقه اتم من سِيَاق
مَالك، لكنه قَالَ: (من خَرْدَل من إِيمَان) كَرِوَايَة
مَالك، وَقد اعْترض على البُخَارِيّ بِهَذَا، وَلَا يرد
عَلَيْهِ لِأَن أَبَا بكر بن أبي شيبَة أخرج هَذَا
الحَدِيث فِي مُسْنده عَن عَفَّان بن مُسلم عَن وهيب
فَقَالَ: (من خَرْدَل من خير) ، كَمَا علقه البُخَارِيّ،
وَقد أخرج مُسلم عَن أبي بكر هَذَا لَكِن لم يسق لَفظه.
الثَّانِي: فِي إِيرَاد البُخَارِيّ هَذِه الزِّيَادَة من
حَدِيث وهيب هُنَا فَوَائِد. مِنْهَا: قَول وهيب: حَدثنَا
عَمْرو آتِيَا بِلَفْظ التحديث، بِخِلَاف مَالك فَإِنَّهُ
أَتَى بِلَفْظَة: عَن، وفيهَا خلاف مَعْرُوف، هَل يدل على
الِاتِّصَال وَالسَّمَاع أم لَا؟ فأزال البُخَارِيّ
بِهَذِهِ الزِّيَادَة توهم الْخلاف، مَعَ أَن مَالِكًا غير
مُدَلّس، وَالْمَشْهُور عِنْد أهل هَذَا الْفَنّ أَن
لَفْظَة: عَن، مَحْمُولَة على الِاتِّصَال إِذا لم يكن
المعنعن مدلساً. وَمِنْهَا: إِزَالَة الشَّك الَّذِي جَاءَ
فِي حَدِيث مَالك عَن عَمْرو فِي قَوْله: (الْحيَاء أَو
الْحَيَاة) فَأتى بِهِ وهيب مُجَردا من غير شكّ. فَقَالَ:
نهر الْحَيَاة. وَمِنْهَا: قَوْله: من خير، وَتقدم
الْكَلَام عَلَيْهِ. الثَّالِث: قَوْله: (الْحَيَاة)
بِالْجَرِّ، على الْحِكَايَة، وَالْمعْنَى أَن وهيباً
وَافق مَالِكًا فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو
بن يحيى بِسَنَدِهِ، وَجزم بقوله: فِي نهر الْحَيَاة وَلم
يشك كَمَا شكّ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى. قَوْله:
(وَقَالَ خَرْدَل من خير) بجر خَرْدَل أَيْضا على
الْحِكَايَة، أَي: قَالَ وهيب فِي رِوَايَته: مِثْقَال
حَبَّة من خَرْدَل من خير، فَخَالف مَالِكًا أَيْضا فِي
هَذِه اللَّفْظَة كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وهيب) ، بِضَم
الْوَاو وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، ابْن خَالِد بن عجلَان
الْبَاهِلِيّ، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ، روى عَن: هِشَام
بن عُرْوَة وَأَيوب وَسُهيْل وَعَمْرو بن يحيى وَغَيرهم،
روى عَنهُ: الْقطَّان وَابْن مهْدي وَأَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ وَخلق كثير، اتّفق على توثيقه، وَقَالَ
ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث حجَّة، وَكَانَ يملي
من حفظه، مَاتَ وَهُوَ ابْن ثَمَان وَخمسين سنة، روى لَهُ
الْجَمَاعَة، وَقد سجن فَذهب بَصَره. قَوْله: (حَدثنَا
عَمْرو) بِفَتْح الْعين، هُوَ عَمْرو بن يحيى الْمَازِني،
وَقد مر ذكره عَن قريب.
23 - حدّثنا مُحمدُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَن صالِحٍ عنِ ابْن شِهابٍ عَن
أبي أُمامَةَ بنِ سَهْلٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ
الخُدْرِيَّ يَقولُ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بَيْنَا أَنا نائِمٌ رَأْيْتُ الناسَ يُعْرَضُونَ
عليَّ وَعَليهمْ قُمُصٌ مِنها مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ
ومِنها مَا دُونَ ذلِكِ وعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بنُ
الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَميصٌ يَجُرُّهُ قَالُوا فَمَا
أَوّلْتَ ذلكَ يَا رسولَ اللَّهِ قَالَ الدِّينَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من جِهَة
تَأْوِيل الْقَمِيص بِالدّينِ، وَذكر فِيهِ أَنهم متفاضلون
فِي لبسهَا فَدلَّ على أَنهم متفاضلون فِي الْإِيمَان.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: دلّ الحَدِيث على أَن الْأَعْمَال من
الْإِيمَان، وَأَن الْإِيمَان وَالدّين بِمَعْنى وَاحِد،
وَأَن أهل الْإِيمَان
(1/172)
يتفاضلون. قلت: تفاضلهم فِي الْإِيمَان
لَيْسَ فِي نفس الْإِيمَان وَحَقِيقَته، وَإِنَّمَا هُوَ
فِي الْأَعْمَال الَّتِي يزْدَاد بهَا نور الْإِيمَان،
كَمَا عرف فِيمَا مضى. وَقَوله: الْإِيمَان وَالدّين
بِمَعْنى وَاحِد، لَيْسَ كَذَلِك، وَقد أوضحنا الْفرق
فِيمَا مضى.
(بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن عبيد
الله، بِالتَّصْغِيرِ، ابْن مُحَمَّد بن زيد بن أبي زيد
الْقرشِي الْأمَوِي، مولى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله
عَنهُ، أَبُو ثَابت الْمدنِي، سمع جمعا من الْكِبَار،
وَعنهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ
وَغَيرهمَا من الْأَعْلَام، قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق.
الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف بن عبد الْحَارِث بن زهرَة بن كلاب،
سمع: أَبَاهُ وَالزهْرِيّ وَهِشَام بن عُرْوَة وَغَيرهم،
روى عَنهُ: شُعْبَة وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وابناه
يَعْقُوب وَمُحَمّد وَخلق كثير، قَالَ أَحْمد وَيحيى
وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو
زرْعَة: كثير الحَدِيث وَرُبمَا أَخطَأ فِي أَحَادِيث،
وَقدم بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا وَولي بَيت المَال بهَا
لهارون الرشيد، وَأَبوهُ سعد ولي قَضَاء الْمَدِينَة،
وَكَانَ من جملَة التَّابِعين، وَكَانَ مولد إِبْرَاهِيم
سنة عشرَة وَمِائَة، وَتُوفِّي بِبَغْدَاد سنة ثَلَاث
وَثَمَانِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث:
صَالح هُوَ ابْن كيسَان أَبُو مُحَمَّد الْغِفَارِيّ
الْمدنِي التَّابِعِيّ، لَقِي جمَاعَة من الصَّحَابَة،
رَضِي الله عَنْهُم، ثمَّ تلمذ بعد ذَلِك لِلزهْرِيِّ
وتلقن مِنْهُ الْعلم، وابتدأ بالتعلم وَهُوَ ابْن تسعين
سنة، وَمَات وَهُوَ ابْن مائَة وَسِتِّينَ سنة. الرَّابِع:
ابْن شهَاب، وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَقد
تقدم. الْخَامِس: أَبُو أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة، واسْمه
أسعد بن سهل بن حنيف، بِضَم الْمُهْملَة؛ ابْن واهب بن
الْعَلِيم بن ثَعْلَبَة بن الْحَارِث بن مجدعة بن عَمْرو
بن خُنَيْس بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن
الْأَوْس، أخي الْخَزْرَج ابْني حَارِثَة بن ثَعْلَبَة
العنقاء بن عَمْرو مزيقيا الْخَارِج من الْيمن أَيَّام سيل
العرم بن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن
امرىء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة بن مَازِن وَهُوَ
جماع غَسَّان بن الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد
بن كهلان، أخي حمير، أمه حَبِيبَة بنت أبي أُمَامَة أسعد
بن زُرَارَة، وَكَانَ أَبُو أُمَامَة أوصى ببناته إِلَى
رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام فزوج رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، حَبِيبَة سهل بن حنيف فَولدت لَهُ
أسعد هَذَا، فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وكناه باسم جده لأمه، وكنيته، وبرك عَلَيْهِ، وَمَات سنة
مائَة وَهُوَ ابْن نَيف وَتِسْعين سنة، روى لَهُ
الْجَمَاعَة عَن الصَّحَابَة، وروى لَهُ النَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَثَبت فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن أبي أُمَامَة بن سهل
هُوَ ابْن حنيف، ولحاصل أَنه مُخْتَلف فِي صحبته وَلم يَصح
لَهُ سَماع، وَإِنَّمَا ذكر فِي الصَّحَابَة لشرف
الرِّوَايَة. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي
الله عَنهُ، واسْمه سعد بن مَالك، وَقد مر بَيَانه.
(بَيَان لطائف أسناده) . مِنْهَا: أَنه كَالَّذي قبله فِي
أَن رِجَاله مدنيون، وَهَذَا فِي غَايَة الاستطراف إِذْ
اقتران إسنادين مدنيين قَلِيل جدا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
التحديث والعنعنة وَالتَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ. وَمِنْهَا:
أَن فِيهِ رِوَايَة ثَلَاثَة من التابعيين، أَو تابعيين
وصحابيين. فَافْهَم.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه
البُخَارِيّ هُنَا عَن مُحَمَّد بن عبيد الله كَمَا ترى،
وَأخرجه أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ عَن يَعْقُوب
عَن صَالح، وَفِي فضل عمر رَضِي الله عَنهُ، عَن يحيى بن
بكير جَمِيعًا عَن اللَّيْث عَن عقيل، وَفِي التَّعْبِير
عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ
عَن أبي أُمَامَة عَنهُ، وَرَوَاهُ مُسلم فِي الْفَضَائِل
عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن صَالح، وَعَن
الزُّهْرِيّ والحلواني، وَعبد بن حميد عَن يَعْقُوب عَن
أَبِيه عَن صَالح عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن أبي أُمَامَة بن سههل بن حنيف
عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، وَلم
يسمعهُ.
(بَيَان اللُّغَات) . قَوْله: (يعرضون عَليّ) أَي: يظهرون
لي، يُقَال: عرض الشَّيْء إِذا أبداه وأظهره، وَفِي
(الْعباب) عرض لَهُ أَمر كَذَا يعرض بِالْكَسْرِ، أَي: ظهر
وَعرضت عَلَيْهِ أَمر كَذَا، وَعرضت لَهُ الشَّيْء أَي:
أظهرته لَهُ، وأبرزته إِلَيْهِ، يُقَال: عرضت لَهُ ثوبا،
فَكَانَ حَقه، وَذكر فِي هَذِه الْمَادَّة مَعَاني
كَثِيرَة جدا، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: وَالْعين وَالرَّاء
وَالضَّاد تكْثر فروعها، وَهِي مَعَ كثرتها ترجع إِلَى أصل
وَاحِد، وَهُوَ الْعرض الَّذِي يُخَالف الطول، وَمن حقق
النّظر ودققه علم صِحَة ذَلِك. قَوْله: (قمص) بِضَم
الْقَاف وَالْمِيم، جمع: قَمِيص نَحْو: رغيف ورغف، وَيجمع
أَيْضا على قمصان وأقمصة، كرغفان وأرغفة. قَوْله: (الثدي)
، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الدَّال، وَتَشْديد
الْيَاء، جمع: الثدي، وَهُوَ على وزن فعل، كفلس يجمع على
فعول كفلوس، وأصل الثدي
(1/173)
الَّذِي هُوَ الْجمع ثدوي، على وزن فعول،
اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا
بِالسُّكُونِ فابدلت الْوَاو يَاء وادغمت الْيَاء فِي
الْيَاء فَصَارَت: ثدي، بِضَم الدَّال، ثمَّ ابدلت كسرة من
ضمة الدَّال لأجل الْيَاء، فَصَارَ ثدياً، وَجَاء أَيْضا:
ثدي، بِكَسْر الثَّاء أَيْضا اتبَاعا لما بعْدهَا من
الكسرة، وَجَاء جمعه أَيْضا على: أثد، وَأَصله: أثدي، على
وزن أفعل: كيد تجمع على أيدٍ، استثقلت الضمة على الْيَاء
فحذفت، فَالتقى ساكنان فحذفت الْيَاء، فَصَارَ: أثد،
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الثدي يذكر وَيُؤَنث، وَهِي
للْمَرْأَة وَالرجل جَمِيعًا. وَقيل: يخْتَص
بِالْمَرْأَةِ، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُور
مَا نَص عَلَيْهِ الْجَوْهَرِي، وَفِي (كتاب خلق
الْإِنْسَان) وَفِي الصَّدْر ثديان وَثَلَاثَة أثد، فَإِذا
كثرت فَهِيَ الثدي، يُقَال: امْرَأَة ثدياء إِذا كَانَت
عَظِيمَة الثديين، وَلَا يُقَال رجل أثدأ. قَوْله: (أولت)
من التَّأْوِيل، وَهُوَ تَفْسِير مَا يؤول إِلَيْهِ
الشَّيْء، وَالْمرَاد هُنَا التَّعْبِير، وَفِي اصْطِلَاح
الْأُصُولِيِّينَ التَّأْوِيل تَفْسِير الشَّيْء
بِالْوَجْهِ الْمَرْجُوح، وَقيل: هُوَ حمل الظَّاهِر على
الْمُحْتَمل الْمَرْجُوح بِدَلِيل يصيره راجحاً، وَهَذَا
أخص مِنْهُ، وَأما تَفْسِير الْقُرْآن فَهُوَ الْمَنْقُول
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو عَن
الصَّحَابَة، وَأما تَأْوِيله فَهُوَ مَا يسْتَخْرج بِحَسب
الْقَوَاعِد الْعَرَبيَّة.
(بَيَان الْإِعْرَاب) : قَوْله: (بَينا) . أَصله: بَين،
أشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: بَينا،
فعلى مشبعة الفتحة قَالَ الشَّاعِر:
(فَبينا نَحن نرقبه أَتَانَا)
أَي: بَين أَوْقَات رقبتنا إِيَّاه، والجمل يُضَاف
إِلَيْهَا أَسمَاء الزَّمَان نَحْو: أَتَيْتُك زمن
الْحجَّاج أَمِير، ثمَّ حذف الْمُضَاف الَّذِي هُوَ:
أَوْقَات، وَولي الظّرْف الَّذِي هُوَ: بَين الْجُمْلَة
الَّتِي أُقِيمَت مقَام الْمُضَاف إِلَيْهَا، والأصمعي
يستفصح طرح إِذْ وَإِذا فِي جَوَابه، واخرون يَقُولُونَ:
بَينا أَنا قَائِم إِذْ جَاءَ أَو إِذا جَاءَ فلَان،
وَالَّذِي جَاءَ فِي الحَدِيث هُوَ الفصيح، فَلذَلِك
اخْتَارَهُ الْأَصْمَعِي، رَحمَه الله تَعَالَى. قَوْله:
(أَنا) مُبْتَدأ، أَو (نَائِم) خَبره، وَقَوله: رَأَيْت
النَّاس، جَوَاب بَينا من الرُّؤْيَة بِمَعْنى: الإبصار
فَيَقْتَضِي مَفْعُولا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْله: النَّاس،
فعلى هَذَا يكون قَوْله: (يعرضون عَليّ) جملَة حَالية،
وَيجوز أَن يكون من الرُّؤْيَا بِمَعْنى الْعلم
فَيَقْتَضِي حينئذٍ مفعولين، وهما قَوْله: النَّاس يعرضون
عَليّ وَيجوز رفع النَّاس على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره،
قَوْله: يعرضون عَليّ، وَالْجُمْلَة مفعول قَوْله رَأَيْت،
كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(رَأَيْت النَّاس ينتجعون غيثاً ... فَقلت لصيدح: انتجعي
بِلَالًا)
ويروى: سَمِعت النَّاس، وَالْقَائِل هُوَ ذُو الرمة
الشَّاعِر الْمَشْهُور، وصيدح علم النَّاقة. وينتجعون من:
انتجعت فلَانا إِذا أَتَيْته تطلب معروفه، وَأَرَادَ ببلال
هُوَ: بِلَال بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ،
قَاضِي الْبَصْرَة، كَانَ جواداً ممدوحاً رَحمَه الله.
قَوْله: (وَعَلَيْهِم قمص) جملَة اسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: (مِنْهَا) أَي: من القمص، وَهُوَ خبر لقَوْله: مَا
يبلغ الثدي، وَمَا مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع على
الِابْتِدَاء، و: الثدي، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول، يبلغ،
وَكَذَلِكَ إِعْرَاب قَوْله: وَمِنْهَا دون ذَلِك، أَي:
أقصر، فَيكون: فَوق الثدي لم ينزل إِلَيْهِ وَلم يصل بِهِ
لقلته. قَوْله: (وَعرض) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَعمر بن
الْخطاب، مُسْند إِلَيْهِ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل.
قَوْله: (وَعَلِيهِ قَمِيص) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
وَقَوله: يجره، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ
الضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ الْعَائِد إِلَى عمر
رَضِي الله عَنهُ، وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير
الْمَنْصُوب الَّذِي يرجع إِلَى الْقَمِيص، وَالْجُمْلَة
فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة للقميص، وَيجوز أَن يكون
محلهَا النصب على الْحَال من الْأَحْوَال المتداخلة، وَقد
علم أَن الْجُمْلَة الفعلية المضارعية إِذا وَقعت حَالا
وَكَانَت مثبتة تكون بِلَا وَاو. قَوْله: (قَالُوا) ، أَي:
الصَّحَابَة. قَوْله: (ذَلِك) مفعول قَوْله: أولت، قَوْله:
(الدّين) بِالنّصب أَي: أولت الدّين.
(بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) فِيهِ من الفصاحة
اسْتِعْمَال جَوَاب بَينا بِدُونِ إِذْ وَإِذ. وَمِنْهَا:
اسْتِعْمَال جمع الْكَثْرَة فِي الثدي لأجل الْمُطَابقَة،
وَفِيه من التَّشْبِيه البليغ، وَهُوَ أَنه شبه الدّين
بالقميص، وَوجه التَّشْبِيه السّتْر، وَذَلِكَ أَن
الْقَمِيص يستر عَورَة الْإِنْسَان ويحجبه من وُقُوع
النّظر عَلَيْهَا، فَكَذَلِك الدّين يستره من النَّار
ويحجبه عَن كل مَكْرُوه، فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
إِنَّمَا أَوله الدّين بِهَذَا الِاعْتِبَار. وَقَالَ أهل
الْعبارَة: الْقَمِيص فِي النّوم مَعْنَاهُ الدّين، وجره
يدل على بَقَاء آثاره الجميلة وسننه الْحَسَنَة فِي
الْمُسلمين بعد وَفَاته ليُقتدى بهَا، وَقَالَ ابْن بطال:
مَعْلُوم أَن عمر رَضِي الله عَنهُ، فِي إيمَانه أفضل من
عمل من بلغ قَمِيصه ثديه، وتأويله عَلَيْهِ السَّلَام،
ذَلِك بِالدّينِ يدل على أَن الْإِيمَان الْوَاقِع على
الْعَمَل يُسمى دينا، كالإيمان الْوَاقِع على القَوْل.
وَقَالَ القَاضِي: أَخذ ذَلِك أهل التَّعْبِير من قَوْله
تَعَالَى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) يُرِيد بِهِ نَفسك،
وَإِصْلَاح عَمَلك وَدينك على تَأْوِيل
(1/174)
بَعضهم، لِأَن الْعَرَب تعبر عَن الْعِفَّة
بنقاء الثَّوْب والمئزر، وجره عبارَة عَمَّا فضل عَنهُ
وانتفع النَّاس بِهِ، بِخِلَاف جَرّه فِي الدُّنْيَا
للخيلاء فَإِنَّهُ مَذْمُوم. فَإِن قيل: يلْزم من الحَدِيث
أَن يكون عمر رَضِي الله عَنهُ، أفضل من أبي بكر رَضِي
الله عَنهُ، لِأَن المُرَاد بالأفضل الْأَكْثَر ثَوابًا،
والأعمال عَلَامَات الثَّوَاب، فَمن كَانَ دينه أَكثر
فثوابه أَكثر، وَهُوَ خلاف الاجماع. قلت: لَا يلْزم، إِذْ
الْقِسْمَة غير حاصرة لجَوَاز قسم رَابِع سلمنَا انحصار
الْقِسْمَة، لَكِن مَا خصص الْقسم الثَّالِث بعمر رَضِي
الله عَنهُ، وَلم يحصره عَلَيْهِ سلمنَا التَّخْصِيص بِهِ،
لكنه معَارض بالأحاديث الدَّالَّة على أَفضَلِيَّة الصّديق
رَضِي الله عَنهُ، بِحَسب تَوَاتر الْقدر الْمُشْتَرك
بَينهَا، وَمثله يُسمى بالمتواتر من جِهَة الْمَعْنى،
فدليلكم آحَاد وَدَلِيلنَا متواتر، سلمنَا التَّسَاوِي
بَين الدَّلِيلَيْنِ. لَكِن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على
أفضليته وَهُوَ دَلِيل قَطْعِيّ، وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي،
وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع، وَهَذَا الْجَواب يُسْتَفَاد
من نفس تَقْرِير الدَّلِيل، وَهَذِه قَاعِدَة كُلية عِنْد
أهل المناظرة فِي أَمْثَال هَذِه الإيرادات، بِأَن يُقَال:
مَا أردته إِمَّا مجمع عَلَيْهِ أَو لَا، فَإِن كَانَ
فالدليل مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع وإلاَّ فَلَا يتم
الْإِيرَاد إِذْ لَا إِلْزَام إلاَّ بالمجمع عَلَيْهِ. لَا
يُقَال: كَيفَ يُقَال: الْإِجْمَاع مُنْعَقد على
أَفضَلِيَّة الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد أنكر
ذَلِك طَائِفَة الشِّيعَة والخوارج من العثمانية، لأَنا
نقُول: لَا اعْتِبَار بمخالفة أهل الضلال، وَالْأَصْل
إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة.
(بَيَان استنباط الْفَوَائِد) مِنْهَا: الدّلَالَة على
تفاضل أهل الْإِيمَان، وَمِنْهَا: الدّلَالَة على فَضِيلَة
عمر رَضِي الله عَنهُ. وَمِنْهَا: تَعْبِير الرُّؤْيَا
وسؤال الْعَالم بهَا عَنْهَا. وَمِنْهَا: جَوَاز إِشَاعَة
الْعَالم الثَّنَاء على الْفَاضِل من أَصْحَابه إِذا لم
يحس بِهِ بإعجاب وَنَحْوه، وَيكون الْغَرَض التَّنْبِيه
على فَضله لتعلم مَنْزِلَته ويعامل بمقتضاها، ويرغب
الِاقْتِدَاء بِهِ والتخلق بأخلاقه.
16 - (بَاب الحَياءُ مِنَ الإيمانِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَالْحيَاء مَرْفُوع
سَوَاء أضفت إِلَيْهِ الْبَاب أم لَا، لِأَنَّهُ مُبْتَدأ،
وَمن الْإِيمَان، خبر. فَإِن قلت: قد قلت: إِن الْبَاب
منون وَلَا شكّ أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، فَيكون جملَة،
وَقَوله: الْحيَاء من الْإِيمَان جملَة أُخْرَى، وعَلى
تَقْدِير عدم الْإِضَافَة مَا الرابطة بَين الجملتين؟ قلت:
هِيَ محذوفة تَقْدِير الْكَلَام: هَذَا بَاب فِيهِ
الْحيَاء من الْإِيمَان يَعْنِي بَيَان أَن الْحيَاء من
الْإِيمَان وَبَيَان تَفْسِير الْحيَاء وَوجه كَونه من
الْإِيمَان قد تقدما فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن فِي الْبَاب
الأول بَيَان تفاضل الْإِيمَان فِي الْأَعْمَال، وَهَذَا
الْبَاب أَيْضا من جملَة مَا يفضل بِهِ الْإِيمَان، وَهُوَ
الْحيَاء الَّذِي يحجب صَاحبه عَن أَشْيَاء مُنكرَة عِنْد
الله وَعند الْخلق.
24 - حدّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عَن ابنِ شِهابٍ عَن سالِمِ بنِ عبدِ
اللَّهِ عَنْ أبِيهِ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَرَّ عَلى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ
أخاهُ فِي الْحيَاء فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دَعْهُ فَإن الْحَياءَ مِنَ الْإِيمَان.
(الحَدِيث 24 طرفه فِي: 6118)
الحَدِيث مُطَابق للتَّرْجَمَة لِأَنَّهُ أَخذ جزأ مِنْهُ
فبوب عَلَيْهِ كَمَا هُوَ عَادَته.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف
التنيسِي، نزيل دمشق، وَقد ذكره. الثَّانِي: الإِمَام
مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن
الْخطاب الْقرشِي الْعَدوي التَّابِعِيّ الْجَلِيل، أحد
الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ على أحد
الْأَقْوَال، وَقَالَ ابْن الْمسيب: كَانَ سَالم أشبه ولد
عبد الله بِعَبْد الله، وَعبد الله أشبه ولد عمر بعمر،
رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ مَالك: لم يكن فِي زمن سَالم
أشبه بِمن مضى من الصَّالِحين فِي الزّهْد مِنْهُ، كَانَ
يلبس الثَّوْب بِدِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ ابْن رَاهَوَيْه:
أصح الْأَسَانِيد كلهَا: الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن
أَبِيه. وَكَانَ أَبوهُ يلام فِي إفراط حب سَالم، وَكَانَ
يقبله وَيَقُول: أَلا تعْجبُونَ من شيخ يقبل شَيخا؟ مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ سنة سِتّ وَمِائَة، وَقيل: خمس، وَقيل:
ثَمَان، وَصلى عَلَيْهِ هِشَام بن عبد الْملك، وَله أخوة:
عبد الله وَعَاصِم وَحَمْزَة وبلال وواقد وَزيد، وَكَانَ
عبد الله وصّى أَبِيهِم فيهم، وروى عَنهُ مِنْهُم
أَرْبَعَة: عبد الله وَسَالم وَحَمْزَة وبلال. الْخَامِس:
عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
(1/175)
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) وَمِنْهَا: أَن
رِجَاله كلهم مدنيون مَا خلا عبد الله. وَمِنْهَا: أَن
فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين: أخبرنَا مَالك، وَفِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ: حَدثنَا مَالك بن أنس، وَفِي رِوَايَة
كَرِيمَة: مَالك بن أنس، والْحَدِيث فِي الْمُوَطَّأ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره:) أخرجه هُنَا عَن
عبد الله عَن مَالك، وَأخرجه فِي الْبر والصلة عَن أَحْمد
بن يُونُس عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن
الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم هُنَا أَيْضا عَن الناقدي،
وَزُهَيْر عَن سُفْيَان، وَعَن عبد الله بن حميد عَن عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ وَلم يَقع لمُسلم
لَفْظَة: دَعه، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
(بَيَان اللُّغَات) : قَوْله: (مر عَليّ رجل) يُقَال: مر
عَلَيْهِ وَمر بِهِ، بِمَعْنى وَاحِد. أَي: اجتازه، وَفِي
(الْعباب) : مر عَلَيْهِ وَبِه يمر مرا، أَي: اجتاز،
وَبَنُو يَرْبُوع يَقُولُونَ: مر علينا بِكَسْر الْمِيم،
وَمر يمر مرا ومرورا وممرا أَي ذهب، والممر مَوضِع
الْمُرُور أَيْضا. وَالْأَنْصَار: جمع النَّاصِر كالأصحاب
جمع الصاحب، أَو جمع النصير كالأشراف جمع الشريف. قَوْله:
(يعظ أَخَاهُ) أَي: ينصح أَخَاهُ من الْوَعْظ وَهُوَ:
النصح والتذكير بالعواقب. وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ
التخويف والإنذار. وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد هُوَ
التَّذْكِير بِالْخَيرِ فِيمَا يرق الْقلب. وَفِي
(الْعباب) : الْوَعْظ والعظة وَالْمَوْعِظَة مصَادر
قَوْلك: وعظته عظة. قَوْله: (دَعه) أَي: أتركه، وَهُوَ
أَمر لَا ماضي لَهُ، قَالُوا: أماتوا ماضي يدع ويذر. قلت:
اسْتعْمل ماضي: دع، وَمِنْه قِرَاءَة من قَرَأَ {مَا وَدعك
رَبك} (الضُّحَى: 3) بِالتَّخْفِيفِ فعلى هَذَا هُوَ أَمر
من: ودع يدع، وأصل يدع: يودع، حذفت الْوَاو فَصَارَ: يدع،
وَالْأَمر: دع، وَفِي (الْعباب) قَوْلهم: دع ذَا أَي:
أتركه، وَأَصله، ودع يدع، وَقد أميت ماضيه. لَا يُقَال:
ودعه، إِنَّمَا يُقَال: تَركه وَلَا: وادع، وَلَكِن:
تَارِك، وَرُبمَا جَاءَ فِي ضَرُورَة الشّعْر: ودعه،
فَهُوَ مودوع على أَصله قَالَ أنس بن زنينم.
(لَيْت شعري عَن خليلي مَا الَّذِي ... غاله فِي الْوَعْد
حَتَّى ودعه)
ثمَّ قَالَ الصغاني: وَقد اخْتَار النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أصل هَذِه اللُّغَة فِيمَا روى ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه قَالَ قَرَأَ {وَمَا
وَدعك رَبك} (الضُّحَى: 3) بِالتَّخْفِيفِ أَعنِي؛
بتَخْفِيف الدَّال، وَكَذَلِكَ قَرَأَ بِهَذِهِ
الْقِرَاءَة: عُرْوَة وَمُقَاتِل وَأَبُو حَيْوَة وَابْن
أبي عبلة وَيزِيد النَّحْوِيّ، رَحِمهم الله تَعَالَى.
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (مر عَليّ رجل) جملَة فِي
مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا وَقعت خَبرا، لِأَن قَوْله: (من
الْأَنْصَار) صفة لرجل، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد،
أَي: أنصار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين
آووا ونصروا من أهل الْمَدِينَة، رَضِي الله عَنْهُم.
قَوْله: (وَهُوَ يعظ أَخَاهُ) جملَة إسمية محلهَا النصب
على الْحَال. قَوْله: (فِي الْحيَاء) يتَعَلَّق بقوله:
يعظ، قَوْله: (ودعه) جملَة من: الْفِعْل وَالْفَاعِل
وَالْمَفْعُول لِأَنَّهَا وَقعت مقول القَوْل، قَوْله:
(فَإِن الْحيَاء) الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل.
(بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) قَوْله: (وَهُوَ يعظ
أَخَاهُ) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الرجل
الَّذِي وعظ أَخا للواعظ فِي الْإِسْلَام، على مَا هُوَ
عرف الشَّرْع، فعلى هَذَا يكون مجَازًا لغويا، أَو
حَقِيقَة عرفية، وَالْآخر وَهُوَ الظَّاهِر: أَن يكون
أَخَاهُ فِي الْقَرَابَة وَالنّسب، فعلى هَذَا هُوَ
حَقِيقَة، قَوْله: (فِي الْحيَاء) فِيهِ حذف، أَي: فِي
شَأْن الْحيَاء وَفِي حَقه مَعْنَاهُ أَنه ينهاه عَنهُ
ويخوفه مِنْهُ، فزجره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن وعظه، فَقَالَ: دَعه، أَي: اتركه على حيائه، فَإِن
الْحيَاء من الْإِيمَان. وَقَالَ التَّيْمِيّ: الْوَعْظ
الزّجر، يَعْنِي يزجره عَن الْحيَاء، وَيَقُول لَهُ: لَا
تَسْتَحي، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
دَعه يستحي فَإِن الْحيَاء من الْإِيمَان، إِذْ الشَّخْص
يكف عَن أَشْيَاء من مناهي الشَّرْع للحياء، وَيكثر مثل
هَذَا فِي زَمَاننَا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ
أَن الْحيَاء يمْنَع صَاحبه من ارْتِكَاب الْمعاصِي، كَمَا
يمْنَع الْإِيمَان فَسُمي إِيمَانًا كَمَا يُسمى الشَّيْء
باسم مَا قَامَ مقَامه، وَقَالَ بَعضهم: الأولى أَن نشرح
يَعْنِي قَوْله: يعظ بِمَا جَاءَ عَن المُصَنّف فِي
الْأَدَب من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن ابْن
شهَاب. وَلَفظه: (يُعَاتب أَخَاهُ فِي الْحيَاء يَقُول
إِنَّك لتستحي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُول قد أضربك) .
انْتهى. قلت: هَذَا بعيد من حَيْثُ اللُّغَة، فَإِن معنى
الْوَعْظ الزّجر، وَمعنى العتب الوجد. وَفِي (الْعباب) :
عتبَة عَلَيْهِ إِذا وجد، يعتب عَلَيْهِ، وَيَعْتِبُ عتبا
ومعتبا، على أَن الرِّوَايَتَيْنِ تدلان على مَعْنيين
جليين لَيْسَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا خَفَاء حَتَّى يُفَسر
أَحدهمَا بِالْآخرِ، غَايَة فِي الْبَاب أَن الْوَاعِظ
الْمَذْكُور وعظ أَخَاهُ فِي اسْتِعْمَاله الْحيَاء،
وعاتبه عَلَيْهِ. والراوي حكى فِي إِحْدَى روايتيه بِلَفْظ
الْوَعْظ، وَفِي الْأُخْرَى بِلَفْظ المعاتبة، وَذَلِكَ
أَن
(1/176)
الرجل كَانَ كثير الْحيَاء، وَكَانَ ذَلِك
يمنعهُ من اسْتِيفَاء حُقُوقه، فتوعظه أَخُوهُ على
مُبَاشرَة الْحيَاء، وعاتبه على ذَلِك فَقَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَعه أَي: اتركه على هَذَا
الْخلق الْحسن لِأَن الْحيَاء خير لَهُ فِي ذَلِك، بل فِي
كل الْأَوْقَات وكل الْحَالَات، يدل على ذَلِك، مَا جَاءَ
فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (الْحيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا
بِخَير) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (الْحيَاء خير كُله) .
فَإِن قلت: مَا وَجه التَّأْكِيد بِأَن فِي قَوْله: (فَإِن
الْحيَاء من الْإِيمَان) وَإِنَّمَا يُؤَكد بِأَن
وَنَحْوهَا إِذا كَانَ الْمُخَاطب مُنْكرا أَو شاكا؟ قلت:
الظَّاهِر أَن الْمُخَاطب كَانَ شاكا بل كَانَ مُنْكرا
لَهُ، لِأَنَّهُ مَنعه من ذَلِك، فَلَو كَانَ معترفا
بِأَنَّهُ من الْإِيمَان لما مَنعه من ذَلِك، وَلَئِن
سلمنَا أَنه لم يكن مُنْكرا لكنه جعل كالمنكر لظُهُور
أَمَارَات الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون هَذَا من
بَاب التَّأْكِيد لدفع إِنْكَار غير الْمُخَاطب، وَيجوز
أَن يكون التَّأْكِيد من جِهَة أَن الْقِصَّة فِي نَفسهَا
مِمَّا يجب أَن يهتم بهَا ويؤكد عَلَيْهَا، وَإِن لم يكن
ثمَّة إِنْكَار أَو شكّ من أحد فَافْهَم. وَقَالَ بَعضهم:
وَالظَّاهِر أَن الناهي مَا كَانَ يعرف أَن الْحيَاء من
مكملات الْإِيمَان، فَلهَذَا وَقع التَّأْكِيد. قلت: هَذَا
كَلَام من لم يذقْ شَيْئا مَا من علم الْمعَانِي، فَإِن
الْخطاب لمثل هَذَا الناهي الَّذِي ذكره لَا يحْتَاج إِلَى
تَأْكِيد، لِأَنَّهُ لَيْسَ بمنكر وَلَا مُتَرَدّد،
وَإِنَّمَا هُوَ خَالِي الذِّهْن، وَهُوَ لَا يحْتَاج
إِلَى التَّأْكِيد فَإِنَّهُ كَمَا يسمع الْكَلَام ينتقش
فِي ذهنه على مَا عرف فِي كتب الْمعَانِي وَالْبَيَان.
فَإِن قلت: مَا معنى الْحيَاء؟ قلت: قد فسرته فِيمَا مضى
عِنْد قَوْله: (وَالْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان) وَقَالَ
التَّيْمِيّ: الْحيَاء الاستحياء، وَهُوَ ترك الشَّيْء
لدهشة تلحقك عِنْده، قَالَ تَعَالَى: {ويستحيون نساءكم}
(الْبَقَرَة: 49، والأعراف: 141، وَإِبْرَاهِيم: 6) أَي:
يتركون، قَالَ: وأظن أَن الْحَيَاة مِنْهُ لِأَنَّهُ
الْبَقَاء من الشَّخْص، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ هُوَ
ترك الشَّيْء، بل هُوَ دهشة تكون سَببا لترك الشَّيْء قلت:
التَّحْقِيق أَن الْحيَاء تغير وانكسار عِنْد خوف مَا يعاب
أَو يذم، وَلَيْسَ هُوَ بدهشة وَلَا ترك الشَّيْء،
وَإِنَّمَا ترك الشَّيْء من لوازمه. فَإِن قلت: يمْنَع مَا
قلت إِسْنَاده إِلَى الله تَعَالَى فِي قَوْله: {إِن الله
لَا يستحي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا}
(الْبَقَرَة: 26) قلت: هَذَا من بَاب المشاكلة، وَهِي أَن
يذكر الشَّيْء بِلَفْظ غَيره لوُقُوعه فِي صحبته، فَلَمَّا
قَالَ المُنَافِقُونَ: أما يستحي رب مُحَمَّد يذكر
الذُّبَاب وَالْعَنْكَبُوت فِي كِتَابه، أجِيبُوا: بِأَن
الله لَا يستحي، وَالْمرَاد: لَا يتْرك ضرب الْمثل
بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، فَأطلق عَلَيْهِ الاستحياء على
سَبِيل المشاكلة، كَمَا فِي قَوْله: {فيستحي مِنْكُم
وَالله لَا يستحي من الْحق} (الْأَحْزَاب: 53) وَمن هَذَا
الْقَبِيل قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (إِن الله حييّ
كريم يستحي إِذا رفع إِلَيْهِ العَبْد يَدَيْهِ أَن يردهما
صفرا حَتَّى يضع فيهمَا خيرا) ، وَهَذَا جَار على سَبِيل
الِاسْتِعَارَة التّبعِيَّة التمثيلية، شبه ترك الله
تَعَالَى تخييب العَبْد ورد يَدَيْهِ صفرا بترك الْكَرِيم
رد الْمُحْتَاج حَيَاء، فَقيل: ترك الله رد الْمُحْتَاج
حَيَاء، كَمَا قيل: ترك الْكَرِيم رد الْمُحْتَاج حَيَاء،
فَأطلق الْحيَاء ثمَّة كَمَا أطلق الْحيَاء هَهُنَا،
فَذَلِك استعير ترك المستحي لترك ضرب الْمثل، ثمَّ نفى
عَنهُ. فَإِن قلت: مَا معنى: من، فِي قَوْله: من
الْإِيمَان؟ قلت: مَعْنَاهُ التَّبْعِيض، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث
السالف: (الْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان) . فَإِن قلت: قد
علم ذَلِك مِنْهُ، فَمَا فَائِدَة التّكْرَار؟ قلت: كَانَ
الْمَقْصُود ثمَّة بَيَان أُمُور الْإِيمَان، وَأَنه من
جُمْلَتهَا، فَذكر ذَلِك بالتبعية وبالعرض، وَهَهُنَا ذكره
بِالْقَصْدِ وبالذات مَعَ فَائِدَة مُغَايرَة الطَّرِيق.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْحيَاء بعض الْإِيمَان فَإِن
انْتَفَى الْحيَاء انْتَفَى بعض الْإِيمَان، وَإِذا
انْتَفَى بعض الْإِيمَان انْتَفَى حَقِيقَة الْإِيمَان،
فينتج من هَذِه الْمُقدمَات انْتِفَاء الْإِيمَان عَمَّن
لم يستح، وَانْتِفَاء الْإِيمَان كفر. قلت: لَا نسلم صدق
كَون الْحيَاء من حَقِيقَة لإيمان، لِأَن الْمَعْنى: فَإِن
الْحيَاء من مكملات الْإِيمَان، وَنفي الْكَمَال لَا
يسْتَلْزم نفي الْحَقِيقَة. نعم الْإِشْكَال قَائِم على
قَول من يَقُول الْأَعْمَال دَاخِلَة فِي حَقِيقَة
الْإِيمَان، وَهَذَا لم يقل بِهِ الْمُحَقِّقُونَ، كَمَا
ذكرنَا فِيمَا مضى، قلت: من فَوَائده الحض على
الِامْتِنَاع من قبائح الْأُمُور ورذائلها، وكل مَا يستحى
من فعله، وَالدّلَالَة على أَن النَّصِيحَة إِنَّمَا تعد
إِذا وَقعت موقعها، والتنبيه على زجر مثل هَذَا الناصح.
17 - (بَاب {فَإِن تَابُوا وَأقَامُوا الصَّلاَةَ وآتُوا
الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} )
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: أَن قَوْله: بَاب،
يَنْبَغِي أَن لَا يعرب، لِأَنَّهُ كتعديد الْأَسْمَاء من
غير تركيب، وَالْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد
والتركيب. وَقَالَ بَعضهم: بَاب هُوَ منون فِي
الرِّوَايَة، وَالتَّقْدِير: بَاب فِي تَفْسِير قَوْله
تَعَالَى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة}
(التَّوْبَة: 5) وَتجوز الْإِضَافَة، أَي بَاب تَفْسِير
قَوْله، وَإِنَّمَا جعل الحَدِيث تَفْسِيرا لِلْآيَةِ
لِأَن المُرَاد بِالتَّوْبَةِ فِي الْآيَة الرُّجُوع
(1/177)
عَن الْكفْر إِلَى التَّوْحِيد ففسره
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) قلت:
فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: أَن قَوْله: بَاب، وَهُوَ
منون فِي الرِّوَايَة دَعْوَى بِلَا برهَان. فَمن قَالَ من
الْمَشَايِخ الْكِبَار: إِن هَذِه رِوَايَة مِمَّن لَا
يعْتَمد على كَلَامهم على أَن الرِّوَايَة إِذا خَالَفت
الدِّرَايَة لَا تقبل، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا وَقع نَحْو
هَذَا فِي الْأَلْفَاظ النَّبَوِيَّة، فَحِينَئِذٍ يجب
تَأْوِيلهَا على وفْق الدِّرَايَة، وَقد قُلْنَا: إِن
هَذَا بمفرده لَا يسْتَحق الْإِعْرَاب إلاَّ إِذا قَدرنَا
نَحْو: هَذَا بَاب، بِالتَّنْوِينِ، أَو بالإعراب بِلَا
تَنْوِين بِتَقْدِير الْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي
بعده. الثَّانِي: أَن تَقْدِيره بقوله: بَاب فِي تَفْسِير
قَوْله تَعَالَى، لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن البُخَارِيّ مَا
وضع هَذَا الْبَاب فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِي صدد التَّفْسِير فِي هَذِه الْأَبْوَاب،
وَإِنَّمَا هُوَ فِي صدد بَيَان أُمُور الْإِيمَان،
وَبَيَان أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان على مَا يرَاهُ
وَاسْتدلَّ على ذَلِك فِي هَذَا الْبَاب بِالْآيَةِ
الْمَذْكُورَة وَبِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، أما الْآيَة
فَلِأَن الْمَذْكُور فِيهَا التَّوْبَة الَّتِي هِيَ
الرُّجُوع من الْكفْر إِلَى التَّوْحِيد، وإقام الصَّلَاة
وإيتاء الزَّكَاة وَكَذَلِكَ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور
فِيهِ هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة، فَكَمَا ذكر فِي
الْآيَة: أَن من أَتَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاث
فَإِنَّهُ يخلي، فَكَذَلِك ذكر فِي الحَدِيث أَن من أَتَى
بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ قد يعْصم دينه
وَمَاله إلاَّ بِحَق، وَمعنى التَّخْلِيَة والعصمة وَاحِد
هَهُنَا، وَهَذَا هُوَ وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْآيَة
الْمَذْكُورَة والْحَدِيث الْمَذْكُور. النّظر الثَّالِث:
أَن قَوْله: ففسره قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (حَتَّى
يشْهدُوا أَن لَا إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ
مَا أخرج الحَدِيث هَهُنَا تَفْسِيرا لِلْآيَةِ،
وَإِنَّمَا أخرجه هَهُنَا لأجل الرَّد على المرجئة فِي
قَوْلهم: إِن الْإِيمَان غير مفتقر إِلَى الْأَعْمَال، على
أَنه قد رُوِيَ عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ، أَن هَذِه
الْآيَة آخر مَا نزل من الْقُرْآن وَلَا شكّ أَن الحَدِيث
الْمَذْكُور مُتَقَدم عَلَيْهَا، لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام، إِنَّمَا أَمر بِقِتَال النَّاس حَتَّى
يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا
رَسُول الله فِي ابْتِدَاء الْبعْثَة، والمتقدم لَا يكون
مُفَسرًا للمتأخر.
الْوَجْه الثَّانِي فِي الْكَلَام فِي الْآيَة
الْمَذْكُورَة وَهُوَ على أَنْوَاع: الأول: أَن هَذِه
الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة بَرَاءَة، وأولها قَوْله
عز وَجل {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا
الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخذوهم واحصروهم
واقعدوا لَهُم كل مرصد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلَاة وآتووا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم إِن الله غَفُور
رَحِيم} (التَّوْبَة: 5) نزلت فِي مُشْركي مَكَّة وَغَيرهم
من الْعَرَب. وَذَلِكَ أَنهم عَاهَدُوا الْمُسلمين ثمَّ
نكثوا إلاَّ نَاسا مِنْهُم، وهم بَنو ضَمرَة وَبَنُو
كنَانَة، فنبذوا الْعَهْد إِلَى النَّاكِثِينَ، وَأمرُوا
أَن يَسِيحُوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر آمِنين إِن شاؤا
لَا يتَعَرَّض لَهُم، وَهِي الْأَشْهر الْحرم، وَذَلِكَ
لصيانة الْأَشْهر الْحرم من الْقَتْل والقتال فِيهَا،
فَإِذا انسلخت قاتلوهم، وَهُوَ معنى قَوْله {فَإِذا
انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين}
(التَّوْبَة: 5) الْآيَة. النَّوْع الثَّانِي فِي لُغَات
الْآيَة. فَقَوله: انْسَلَخَ، مَعْنَاهُ: خرج يُقَال:
انْسَلَخَ الشَّهْر من سنته، وَالرجل من ثِيَابه والحبة من
قشرها، وَالنَّهَار من اللَّيْل الْمقبل لِأَن النَّهَار
مكور على اللَّيْل، فَإِذا انْسَلَخَ ضوؤه بَقِي اللَّيْل
غاسقا قد غشي النَّاس. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: انْسَلَخَ
الشَّهْر كَقَوْلِهِم انجرد الشَّهْر، وَسنة جرداء،
وَالْأَشْهر الْحرم ثَلَاث مُتَوَالِيَات: ذُو الْقعدَة
وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم وَرَجَب الْفَرد الَّذِي بَين
جُمَادَى وَشَعْبَان. قَوْله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين}
(التَّوْبَة: 5) يَعْنِي: الَّذين نقضوكم وظاهروا
عَلَيْكُم. قَوْله: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} يَعْنِي من
حل أَو حرَام. قَوْله {وخذوهم} (التَّوْبَة: 5) يَعْنِي
اسروهم، والأخيذ: الْأَسير. قَوْله {واحصروهم}
(التَّوْبَة: 5) يَعْنِي: قيدوهم وامنعوهم من التَّصَرُّف
فِي الْبِلَاد، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا:
حصرهم أَن يُحَال بَينهم وَبَين الْمَسْجِد الْحَرَام.
قَوْلهم: {كل مرصد} (التَّوْبَة: 5) يَعْنِي: كل ممر
ومجتاز ترصدونهم بِهِ. قَوْله {فَإِن تَابُوا}
(التَّوْبَة: 5) أَي: عَن الشّرك {وَأَقَامُوا الصَّلَاة}
(التَّوْبَة: 5) أَي: أدوها فِي أَوْقَاتهَا {وَآتوا
الزَّكَاة} أَي: أعطوها قَوْله: {فَخلوا سبيلهم} يَعْنِي
أطْلقُوا عَنْهُم قيد الْأسر والحصر أَو مَعْنَاهُ: كفوا
عَنْهُم وَلَا تتعرضوا لَهُم لأَنهم عصموا دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالهمْ بِالرُّجُوعِ عَن الْكفْر إِلَى الْإِسْلَام
وشرائعه، وَعَن ابْن عَبَّاس، دعوهم وإتيان الْمَسْجِد
الْحَرَام، إِن الله غَفُور يغْفر لَهُم مَا سلف من
الْكفْر والغدر، رَحِيم بِالْعَفو عَنْهُم. النَّوْع
الثَّالِث: قَوْله: فَإِذا انْسَلَخَ جملَة متضمنة معنى
الشَّرْط وَقَوله: فَاقْتُلُوا، جَوَابه قَوْله: كل مرصد،
نصب على الظّرْف كَقَوْلِه {لاقعدن لَهُم صراطك
الْمُسْتَقيم} (الْأَعْرَاف: 16) قَوْله: {فَخلوا سبيلهم}
(التَّوْبَة: 5) جَوَاب الشَّرْط: أَعنِي قَوْله: فَإِن
تَابُوا.
الْوَجْه الثَّالِث ذكر الْآيَة والتبويب عَلَيْهَا
للرَّدّ على المرجئة، كَمَا ذكرنَا، وللتنبيه على أَن
الْأَعْمَال من الْإِيمَان، وَأَنه قَول وَعمل، كَمَا هُوَ
مذْهبه وَمذهب جمَاعَة من السّلف.
(1/178)
25 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحمَّدٍ
المُسنَدِيُّ قَالَ حدّثنا أبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ
عُمَارةَ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ
مُحمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ أبِي يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عمَرَ
أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أُمِرْتُ
أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لاَ إلَهَ
إلاَّ الله وأنّ مُحمَّدا رسُول اللَّهِ وَيُقِيمُوا
الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ
عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأمْوالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّ
الإسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.
معنى الحَدِيث مُطَابق لِمَعْنى الْآيَة فَلذَلِك قرن
بَينهمَا، وتعلقهما بِكِتَاب الْإِيمَان يَجْعَلهَا بَابا
من أبوابه، هُوَ أَن يعلم مِنْهُ أَن: من آمن صَار
مَعْصُوما. وَأَن يعلم أَن إِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء
الزكاء من جملَة الْإِيمَان على مَا ذهب إِلَيْهِ.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد
بن عبد الله بن جَعْفَر بن الْيَمَان، هُوَ المسندي، بِضَم
الْمِيم وَفتح النُّون، وَقد تقدم. الثَّانِي: أَبُو روح،
بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ كنيته، واسْمه
الحرمي، بِفَتْح الْحَاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ
وَكسر الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ
اسْمه بِلَفْظ النِّسْبَة، تثبت فِيهِ الْألف وَاللَّام،
وتحذف كَمَا فِي مكي بن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ ابْن عمَارَة،
بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم بن أبي
حَفْصَة، وَاسم أبي حَفْصَة نابت بالنُّون، وَقيل: بالثاء
الْمُثَلَّثَة، وَالْأول أشهر، وَقيل: اسْمه عبيد
الْعَتكِي مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ، سمع شُعْبَة وَغَيره،
روى عَنهُ عبيد الله بن عمر القواريري، وَعنهُ مُسلم وَعلي
بن الْمَدِينِيّ وَعبد الله المسندي عِنْد البُخَارِيّ
توفّي سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة
إلاَّ التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ يحيى بن معِين صَدُوق، وَوهم
الْكرْمَانِي فِي هَذَا فِي موضِعين: أَحدهمَا: أَنه جعل
الحرمي نِسْبَة وَلَيْسَ هُوَ بمنسوب إِلَى الْحرم أصلا،
لِأَنَّهُ بَصرِي الأَصْل والمولد والمنشأ والمسكن
والوفاة. وَالْآخر: أَنه جعل اسْم جده اسْمه حَيْثُ قَالَ:
أَبُو روح كنيته واسْمه نابت وحرمي نسبته، وَالصَّوَاب مَا
ذَكرْنَاهُ. والمسمى بحرمي أَيْضا اثْنَان: حرمي بن حَفْص
الْعَتكِي روى لَهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ. وحرمي بن يُونُس الْمُؤَدب، روى لَهُ
النَّسَائِيّ. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الرَّابِع: وَاقد بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن
عَمْرو، وواقد أَخُو أبي بكر وَعمر وَزيد وَعَاصِم،
وَكلهمْ رووا عَن أَبِيهِم مُحَمَّد، وَمُحَمّد أبوهم
هَذَا روى لَهُ عَن جده عبد الله وَعَن ابْن عَبَّاس وَعبد
الله بن الزبير. قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين،
وَاقد هذاثقة روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ. وواقد هَذَا بِالْقَافِ وَلَيْسَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ: وَافد بِالْفَاءِ. الْخَامِس: أَبوهُ
مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر، وَثَّقَهُ أَبُو
حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، وروى لَهُ الْجَمَاعَة. .
السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله
عَنْهُمَا.
(بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا) : أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن فِي رِوَايَة ابْن
عَسَاكِر: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد المسندي،
بِزِيَادَة المسندي، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن وَاقد
بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر. وَمِنْهَا: أَن
فِيهِ رِوَايَة الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء، وَهُوَ كثير،
لَكِن رِوَايَة الشَّخْص عَن أَبِيه عَن جده أقل، وواقد
هُنَا روى عَن أَبِيه عَن جد أَبِيه. وَمِنْهَا: أَن
إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث غَرِيب تفرد بروايته شُعْبَة عَن
وَاقد، قَالَه ابْن حبَان، وَهُوَ عَن شُعْبَة عَزِيز،
تفرد بروايته عَنهُ الحرمي الْمَذْكُور، وَعبد الْملك بن
الصَّباح، وَهُوَ عَزِيز عَن الحرمي، تفرد بِهِ عَنهُ:
المسندي، وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عرْعرة، وَمن جِهَة
إِبْرَاهِيم أخرجه أَبُو عوَانَة وَابْن حبَان
الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيرهم، وَهُوَ غَرِيب عَن عبد الْملك
تفرد بِهِ عَنهُ أَبُو غَسَّان بن عبد الْوَاحِد شيخ
مُسلم، فاتفق الشَّيْخَانِ على الحكم بِصِحَّتِهِ مَعَ
غرابته.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا:
(أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه
إِلَّا الله ويؤمنوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ) الحَدِيث
وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من
حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي
الصَّلَاة، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر،
والْحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه مُسلم أَيْضا من هَذَا
الْوَجْه، وَلم يقل: (إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام) .
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (أمرت) على صِيغَة
الْمَجْهُول، وَالْأَمر هُوَ قَول الْقَائِل لمن دونه إفعل
على سَبِيل الاستعلاء، وَقَالَ
(1/179)
الْكرْمَانِي: وَأَصَح التعاريف لِلْأَمْرِ
هُوَ القَوْل الطَّالِب للْفِعْل، وَلَيْسَ كَذَلِك على
مَا لَا يخفى، وَالْأَمر فِي الْحَقِيقَة هُوَ الْمَعْنى
الْقَائِم فِي النَّفس، فَيكون قَوْله إفعل عبارَة عَن
الْأَمر الْمجَازِي، تَسْمِيَة للدال باسم الْمَدْلُول
قَوْله: (ويقيموا الصَّلَاة) معنى إِقَامَة الصَّلَاة:
إِمَّا تَعْدِيل أَرْكَانهَا وحفظها من أَن يَقع زيغ فِي
فرائضها وسننها وآدابها، من أَقَامَ الْعود إِذا قومه،
وَإِمَّا المداومة عَلَيْهَا من قَامَت السُّوق إِذا نفقت،
وَإِمَّا التجلد والتشمر فِي أَدَائِهَا. من قَامَت
الْحَرْب على سَاقهَا. وَإِمَّا أَدَاؤُهَا تعبيرا عَن
الْأَدَاء بِالْإِقَامَةِ، لِأَن الْقيام بعض أَرْكَانهَا،
وَالصَّلَاة هِيَ الْعِبَادَة المفتحة بِالتَّكْبِيرِ
المختتمة بِالتَّسْلِيمِ. قَوْله: (ويؤتوا الزَّكَاة) أَي:
يعطوها، وَالزَّكَاة هِيَ الْقدر الْمخْرج من النّصاب
للْمُسْتَحقّ. قَوْله: (عصموا) أَي: حفظوا وحقنوا، وَمعنى
العصم فِي اللُّغَة الْمَنْع، وَمِنْه العصام وَهُوَ
الْخَيط الَّذِي تشد بِهِ فَم الْقرْبَة. سمي بِهِ لمَنعه
المَاء من السيلان. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْعِصْمَة
الْحِفْظ، يُقَال عصمه فانعصم، واعتصمت بِاللَّه إِذا
امْتنعت بِلُطْفِهِ من الْمعْصِيَة، وعصم يعْصم عصما
بِالْفَتْح إِذا اكْتسب وَقَالَ بَعضهم: الْعِصْمَة
مَأْخُوذَة من العصام؛ وَهُوَ الخيظ الَّذِي يشد بِهِ فَم
الْقرْبَة. قلت: هَذَا الْقَائِل قلب الِاشْتِقَاق،
وَإِنَّمَا العصام مُشْتَقّ من الْعِصْمَة، لِأَن المصادر
هِيَ الَّتِي يشتق مِنْهَا، وَلم يقل بِهَذَا إلاَّ من لم
يشم رَائِحَة علم الِاشْتِقَاق. والدماء، جمع: دم، نَحْو:
جمال، جمع: جمل إِذْ أصل دم: دمو، بِالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ
سِيبَوَيْهٍ: أَصله دمي على: فعل بالتسكين لِأَنَّهُ يجمع
على دِمَاء وَدمِي، مثل: ظباء وظبي، ودلو ودلاء ودلى
قَالَ: وَلَو كَانَ مثل قفا وَعصى لما جمع على ذَلِك،
وَقَالَ الْمبرد: أَصله فعل بِالتَّحْرِيكِ، وَإِن جَاءَ
جمعه مُخَالفا لنظائره، والذاهب مِنْهُ الْيَاء،
وَالدَّلِيل عَلَيْهَا قَوْلهم فِي تثنيته دميان.
(بَيَان الْأَعْرَاب) قَوْله: (أمرت) جملَة من الْفِعْل
وَالْمَفْعُول النَّائِب عَن الْفَاعِل، وَقعت مقولاً
لِلْقَوْلِ. قَوْله: (أَن أقَاتل) أَصله: بِأَن أقَاتل
وَحذف الْبَاء الجارة من أَن كثير سَائِغ مطرد، وَأَن
مَصْدَرِيَّة، تَقْدِيره: مقاتلة النَّاس. قَوْله: (حَتَّى
يشْهدُوا) كلمة حَتَّى هَهُنَا للغاية، بِمَعْنى إِلَى.
فَإِن قلت: غَايَة لماذا؟ قلت: يجوز أَن يكون غَايَة
لِلْقِتَالِ، وَيجوز أَن يكون غَايَة لِلْأَمْرِ بِهِ.
قَوْله: (يشْهدُوا) مَنْصُوب بِأَن الْمقدرَة إِذْ أَصله:
أَن يشْهدُوا، وعلامة النصب سُقُوط النُّون لِأَن أَصله:
يشْهدُونَ. قَوْله: (أَن لَا إِلَه الله) أَصله بِأَن لَا
إِلَه إلاَّ اللَّهُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي
الرِّوَايَة الْأُخْرَى: حَتَّى يَقُولُوا. قَوْله: (وَأَن
مُحَمَّدًا) عطف على أَن لَا إِلَه إِلَّا الله،
وَالتَّقْدِير: وَحَتَّى يشْهدُوا أَن مُحَمَّدًا رَسُول
الله، قَوْله: (ويقيموا) عطف على يشْهدُوا أَيْضا،
وَأَصله: وَحَتَّى يقيموا الصَّلَاة، وَأَن يؤتوا
الزَّكَاة. قَوْله: (فَإِذا) للظرف، لكنه يتَضَمَّن معنى
الشَّرْط. قَوْله (ذَلِك) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول
فعلوا، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من شَهَادَة أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله، وَشَهَادَة أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله
وإقام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وتذكير الْإِشَارَة
بِاعْتِبَار الْمَذْكُور. قَوْله: (عصموا) جملَة من
الْفِعْل وَالْفَاعِل جَوَاب لإذا. وَقَوله: (دِمَاؤُهُمْ)
مفعول الْجُمْلَة و (أَمْوَالهم) عطف عَلَيْهِ. قَوْله:
(إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام) اسْتثِْنَاء مفرغ، والمستثنى
مِنْهُ أَعم عَام الْجَار وَالْمَجْرُور، والعصمة متضمنة
لِمَعْنى النَّفْي حَتَّى يَصح تَفْرِيغ الِاسْتِثْنَاء،
إِذْ هُوَ شَرطه، أَي لَا يجوز إهدار دِمَائِهِمْ،
واستباحة أَمْوَالهم بِسَبَب من الْأَسْبَاب إِلَّا بِحَق
الْإِسْلَام، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الِاسْتِثْنَاء،
المفرغ لَا يكون إلاّ فِي النَّفْي، وَقَالَ ابْن مَالك
بِجَوَازِهِ فِي كل مُوجب فِي معنى النَّفْي نحوُّ: صمت
إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة، إِذْ مَعْنَاهُ لم أفطر؟
والتفريغ: إِمَّا فِي نهي صَرِيح، كَقَوْلِه تَعَالَى
{وَلَا تَقولُوا على الله إلاالحق} (النِّسَاء: 171)
وَفِيمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ: كالشرط فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إلاَّ متحرفا لقِتَال}
(الْأَنْفَال: 16) وَأما فِي نفي صَرِيح، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول} (آل عمرَان:
144) أَو فِيمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{فَهَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ}
(الْأَحْقَاف: 35) ثمَّ الْإِضَافَة فِي (بِحَق
الْإِسْلَام) ، يجوز أَن تكون بِمَعْنى اللَّام، وَيجوز
أَن تكون بِمَعْنى: من، وَبِمَعْنى: فِي، على مَا لَا
يخفى. قَوْله (وحسابهم) كَلَام إضافي مُبْتَدأ (وعَلى
الله) خَبره، وَالْمعْنَى: حسابهم بعد هَذِه الْأَشْيَاء
على الله فِي أَمر سرائرهم.
(بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) قَوْله: (أمرت) أقيم
فِيهِ الْمَفْعُول مقَام الْفَاعِل لشهرة الْفَاعِل
ولتعينه بذلك، إِذْ لَا آمُر للرسول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، غير الله تَعَالَى، وَالتَّقْدِير: أَمرنِي الله
تَعَالَى بِأَن أقَاتل النَّاس، وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ
الصَّحَابِيّ: أمرنَا بِكَذَا، يفهم مِنْهُ أَن الْآمِر
هُوَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ لَا آمُر
بَينهم إلاَّ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لِأَنَّهُ هُوَ المشرع وَهُوَ الْمُبين، وَأما إِذا قَالَ
التَّابِعِيّ: أمرنَا بِكَذَا، فَإِن ذَلِك مُحْتَمل،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: أمرنَا
بِكَذَا فهم مِنْهُ أَن الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام،
هُوَ الْآمِر لَهُ، فَإِن من اشْتهر بِطَاعَة رئيسه إِذا
قَالَ ذَلِك فهم مِنْهُ أَن الرئيس
(1/180)
أمره بِهِ، وَفَائِدَة الْعُدُول عَن
التَّصْرِيح دَعْوَى الْيَقِين والتعويل على شَهَادَة
الْعقل. وَقَالَ بَعضهم: وَقِيَاسه فِي الصَّحَابِيّ إِذا
قَالَ: أُمرت، فَالْمَعْنى: أَمرنِي رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ إِنَّهُم مجتهدون، وَالْحَاصِل
أَن من اشْتهر بِطَاعَة رَئِيس إِذا قَالَ ذَلِك فهم
مِنْهُم أَن الْآمِر لَهُ ذَلِك الرئيس. قلت: خُذ كَلَام
الْكرْمَانِي، وقلّب مَعْنَاهُ لِأَن الْكرْمَانِي جعل
قَوْله: فَإِن من اشْتهر بِطَاعَة رَئِيس إِلَى آخِره
عِلّة لقَوْله: فهم مِنْهُ أَن الرَّسُول، عَلَيْهِ
السَّلَام، هُوَ الْآمِر لَهُ، وَهَذَا الْقَائِل أوقع
هَذِه الْعلَّة حَامِلا وداعيا، وَهُوَ عكس الْمَقْصُود،
وَقَوله أَيْضا: من حَيْثُ إِنَّهُم مجتهدون، لَا دخل لَهُ
فِي الْكَلَام، لِأَن الْحَيْثِيَّة تقع قيدا، وَهَذَا
الْقَيْد غير مُحْتَاج إِلَيْهِ هَهُنَا، لأَنا قُلْنَا:
إِن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ: أمرت مَعْنَاهُ: أَمرنِي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من حَيْثُ إِنَّه
هُوَ الْآمِر بَينهم وَهُوَ المشرع، وَلَيْسَ الْمَعْنى
أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ
إِنِّي مُجْتَهد، وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة السُّقُوط.
قَوْله: (أقَاتل النَّاس) : إِنَّمَا ذكر بَاب المفاعلة
الَّتِي وضعت لمشاركة الْإِثْنَيْنِ، لِأَن الدّين
إِنَّمَا ظهر بِالْجِهَادِ، وَالْجهَاد لَا يكون إلاَّ
بَين اثْنَيْنِ، وَالْألف وَاللَّام فِي: النَّاس،
للْجِنْس يدْخل فِيهِ أهل الْكتاب الملتزمين لأَدَاء
الْجِزْيَة. قلت: هَؤُلَاءِ قد خَرجُوا بِدَلِيل آخر مثل
{حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} (التَّوْبَة: 29) وَنَحْوه،
وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة النَّسَائِيّ بِلَفْظ: (أمرت أَن
أقَاتل الْمُشْركين) . قَالَ الْكرْمَانِي: وَالنَّاس
قَالُوا: أُرِيد بِهِ عَبدة الْأَوْثَان دون أهل الْكتاب،
لِأَن الْقِتَال يسْقط عَنْهُم بِقبُول الْجِزْيَة. قلت:
فعلى هَذَا تكون اللَّام للْعهد، وَلَا عهد إلاَّ فِي
الْخَارِج، وَالتَّحْقِيق مَا قُلْنَا، وَلِهَذَا قَالَ
الطَّيِّبِيّ: هُوَ من الْعَام الَّذِي خص مِنْهُ
الْبَعْض، لِأَن الْقَصْد الأولي من هَذَا الْأَمر حُصُول
هَذَا الْمَطْلُوب، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ
وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} (الذاريات: 56) فَإِذا تخلف
مِنْهُ أحد فِي بعض الصُّور لعَارض لَا يقْدَح فِي
عُمُومه، أَلا ترى أَن عَبدة الْأَوْثَان إِذا وَقعت
المهادنة مَعَهم تسْقط الْمُقَاتلَة وَتثبت الْعِصْمَة؟ .
قَالَ: وَيجوز أَن يعبر بِمَجْمُوع الشَّهَادَتَيْنِ وَفعل
الصَّلَاة وَالزَّكَاة عَن إعلاء كلمة الله تَعَالَى،
وإذعان الْمُخَالفين، فَيحصل فِي بَعضهم بذلك، وَفِي
بَعضهم بالجزية، وَفِي الآخرين بالمهادنة. قَالَ:
وَأَيْضًا الِاحْتِمَال قَائِم فِي أَن ضرب الْجِزْيَة
كَانَ بعد هَذَا القَوْل. قلت: بل الظَّاهِر أَن الحَدِيث
الْمَذْكُور مُتَقَدم على مَشْرُوعِيَّة أَخذ الْجِزْيَة
وَسُقُوط الْقِتَال بهَا، فَحِينَئِذٍ تكون اللَّام
للْجِنْس كَمَا ذكرنَا، وَأَيْضًا: المُرَاد من وضع
الْجِزْيَة أَن يضطروا إِلَى الْإِسْلَام، وَسبب السَّبَب
سَبَب، فَيكون التَّقْدِير: حَتَّى يسلمُوا، أَو يُعْطوا
الْجِزْيَة، وَلكنه اكْتفى بِمَا هُوَ الْمَقْصُود
الْأَصْلِيّ من خلق الْخَلَائق، وَهُوَ قَوْله عز وَجل:
{وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إلاَّ ليعبدون} (الذاريات:
56) أَو نقُول: إِن الْمَقْصُود هُوَ الْقِتَال، أَو مَا
يقوم مقَامه، وَهُوَ: أَخذ الْجِزْيَة، أَو الْمَقْصُود
هُوَ الْإِسْلَام مِنْهُم، أَو مَا يقوم مقَامه فِي دفع
الْقِتَال وَهُوَ إِعْطَاء الْجِزْيَة، وكل هَذِه
التأويلات لأجل مَا ثَبت بِالْإِجْمَاع سُقُوط الْقِتَال
بالجزية فَافْهَم. قَوْله: (فَإِذا فعلوا ذَلِك) قد
قُلْنَا إِن ذَلِك مفعول فعلوا، فَإِن قلت: الْمشَار
إِلَيْهِ بعضه قَول، فَكيف إِطْلَاق الْفِعْل عَلَيْهِ؟
قلت: إِمَّا بِاعْتِبَار أَنه عمل اللِّسَان وَإِمَّا على
سَبِيل التغليب للاثنين على الْوَاحِد. قَوْله: (وحسابهم
على الله) على سَبِيل التَّشْبِيه، أَي هُوَ كالواجب على
الله فِي تحقق الْوُقُوع، وَذَلِكَ أَن لَفْظَة: على مشعرة
بِالْإِيجَابِ فِي عرف الِاسْتِعْمَال، وَلَا يجب على الله
شَيْء، وَكَأن الأَصْل فِيهِ أَن يُقَال: وحسابهم الله أَو
إِلَى الله، وَأما عِنْد الْمُعْتَزلَة، فَهُوَ ظَاهر
لأَنهم يَقُولُونَ بِوُجُوب الْحساب عقلا، وَالْمعْنَى:
أَن أُمُور سرائرهم إِلَى الله تَعَالَى، وَأما نَحن فنحكم
بِالظَّاهِرِ، فنعاملهم بِمُقْتَضى ظَاهر أَقْوَالهم
وأفعالهم، أَو مَعْنَاهُ: هَذَا الْقِتَال وَهَذِه
الْعِصْمَة إِنَّمَا هُوَ من الْأَحْكَام الدُّنْيَوِيَّة،
وَهُوَ مِمَّا يتَعَلَّق بِنَا، وَأما الْأُمُور الأخروية
من دُخُول الْجنَّة وَالنَّار وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب
وكميتهما وكيفيتهما فَهُوَ مفوض إِلَى الله تَعَالَى لَا
دخل لنا فِيهَا.
(بَيَان استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على وُجُوه. الأول:
قَالَ النَّوَوِيّ: يسْتَدلّ بِالْحَدِيثِ على أَن تَارِك
الصَّلَاة عمدا مُعْتَقدًا وُجُوبهَا يقتل، وَعَلِيهِ
الْجُمْهُور. قلت: لَا يَصح هَذَا الِاسْتِدْلَال لِأَن
الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الْقِتَال، وَلَا يلْزم من إِبَاحَة
الْقِتَال إِبَاحَة الْقَتْل، لِأَن بَاب المفاعلة
يسْتَلْزم وُقُوع الْفِعْل من الْجَانِبَيْنِ، وَلَا
كَذَلِك الْقَتْل فَافْهَم. ثمَّ اخْتلف أَصْحَاب
الشَّافِعِي: هَل يقتل على الْفَوْر أم يُمْهل ثَلَاثَة
أَيَّام؟ الْأَصَح الأول، وَالصَّحِيح أَنه يقتل بترك
صَلَاة وَاحِدَة إِذا خرج وَقت الضَّرُورَة لَهَا، وَأَنه
يقتل بِالسَّيْفِ، وَهُوَ مقتول حدا. وَقَالَ أَحْمد فِي
رِوَايَة أَكثر أَصْحَابه عَنهُ: تَارِك الصَّلَاة عمدا
يكفر وَيخرج من الْملَّة، وَبِه قَالَ بعض أَصْحَاب
الشَّافِعِي، فعلى هَذَا لَهُ حكم الْمُرْتَد، فَلَا يغسل
وَلَا يصلى عَلَيْهِ، وَتبين مِنْهُ امْرَأَته. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة، والمزني: يحبس إِلَى أَن يحدث تَوْبَة وَلَا
يقتل، ويلزمهم أَنهم احْتَجُّوا بِهِ على قتل تَارِك
الصَّلَاة عمدا، وَلم يَقُولُوا بقتل مَانع الزَّكَاة،
مَعَ أَن
(1/181)
الحَدِيث يشملها، ومذهبهم: أَن مَانع
الزَّكَاة تُؤْخَذ مِنْهُ قهرا وَيُعَزر على تَركهَا،
وَسُئِلَ الْكرْمَانِي هَهُنَا عَن حكم تَارِك الزَّكَاة
ثمَّ أجَاب: بِأَن حكمهمَا وَاحِد، وَلِهَذَا قَاتل
الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، مانعي الزَّكَاة، فَإِن
أَرَادَ أَن حكمهمَا وَاحِد فِي الْمُقَاتلَة فَمُسلم،
وَإِن أَرَادَ فِي الْقَتْل فَمَمْنُوع لِأَن الْمُمْتَنع
من الزَّكَاة يُمكن أَن تُؤْخَذ مِنْهُ قهرا، بِخِلَاف
الصَّلَاة، أما إِذا انتصب صَاحب الزَّكَاة لِلْقِتَالِ
لمنع الزَّكَاة فَإِنَّهُ يُقَاتل، وبهذه الطَّرِيقَة
قَاتل الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، مانعي الزَّكَاة، وَلم
ينْقل أَنه قتل أحدا مِنْهُم صبرا، وَلَو ترك صَوْم
رَمَضَان حبس وَمنع الطَّعَام وَالشرَاب نَهَارا، لِأَن
الظَّاهِر أَنه ينويه لِأَنَّهُ مُعْتَقد لوُجُوبه كَمَا
ذكر فِي كتب الشَّافِعِيَّة. الثَّانِي: قَالَ النَّوَوِيّ
يسْتَدلّ بِهِ على وجوب قتال مانعي الصَّلَاة وَالزَّكَاة
وَغَيرهمَا من وَاجِبَات الْإِسْلَام قَلِيلا كَانَ أَو
كثيرا. قلت: فَعَن هَذَا قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن إِن أهل
بَلْدَة أَو قَرْيَة إِذا اجْتَمعُوا على ترك الْأَذَان،
فَإِن الإِمَام يقاتلهم، وَكَذَلِكَ كل شَيْء من شَعَائِر
الْإِسْلَام. الثَّالِث: فِيهِ أَن من أظهر الْإِسْلَام
وَفعل الْأَركان يجب الْكَفّ عَنهُ، وَلَا يتَعَرَّض لَهُ.
الرَّابِع: فِيهِ قبُول تَوْبَة الزنديق، وَيَأْتِي، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى، فِي الْمَغَازِي. قَول النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي لم أُؤمر أَن أشق على قُلُوب
النَّاس وَلَا عَن بطونهم) الحَدِيث بِطُولِهِ جَوَابا
القَوْل خَالِد، رَضِي الله عَنهُ أَلا أضْرب عُنُقه؟
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لَعَلَّه يُصَلِّي، فَقَالَ
خَالِد: وَكم من مصل يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ
بِقَلْبِه. ولأصحاب الشَّافِعِي، رَحمَه الله، فِي الزنديق
الَّذِي يظْهر الْإِسْلَام ويبطن الْكفْر وَيعلم ذَلِك
بِأَن يطلع الشُّهُود على كفر كَانَ يخفيه، أَو علم
بِإِقْرَارِهِ خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: قبُول تَوْبَته
مُطلقًا، وَهُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص عَن الشَّافِعِي،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(أَفلا شققت عَن قلبه) ؟ وَالثَّانِي: بِهِ قَالَ مَالك:
لَا تقبل تَوْبَته ورجوعه إِلَى الْإِسْلَام، لكنه إِن
كَانَ صَادِقا فِي تَوْبَته نَفعه ذَلِك عِنْد الله
تَعَالَى، وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ كالوجهين.
وَالثَّالِث: إِن كَانَ من الدعاة إِلَى الضلال لم تقبل
تَوْبَتهمْ وَتقبل تَوْبَة عوامهم، وَالرَّابِع: إِن أَخذ
ليقْتل فَتَابَ لم تقبل، وَإِن جَاءَ تَائِبًا ابْتِدَاء
وَظَهَرت مخائل الصدْق عَلَيْهِ قبلت، وَحكي هَذَا القَوْل
عَن مَالك، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عبد الْوَاحِد السفاقسي
قَالَ: قَالَ مَالك: لَا تقبل تَوْبَة الزنديق إلاَّ إِذا
كَانَ لم يطلع عَلَيْهِ وَجَاء تَائِبًا فَإِنَّهُ تقبل
تَوْبَته. وَالْخَامِس: إِن تَابَ مرّة قبلت مِنْهُ، وَإِن
تَكَرَّرت مِنْهُ التَّوْبَة لم تقبل. وَقَالَ صَاحب
(التَّقْرِيب) من أَصْحَابنَا: روى بشر بن الْوَلِيد، عَن
أبي يُوسُف، عَن أبي حنيفَة فِي الزنديق الَّذِي يظْهر
الْإِسْلَام قَالَ إستتيبه كالمرتد، وَقَالَ أَبُو يُوسُف
مثل ذَلِك زَمَانا، فَلَمَّا رأى مَا يصنع الزَّنَادِقَة
من إِظْهَار الْإِسْلَام ثمَّ يعودون، قَالَ: إِن أتيت
بزنديق أمرت بقتْله وَلم استتبه، فَإِن تَابَ قبل أَن
أَقتلهُ خليته. وروى سُلَيْمَان بن شُعَيْب، عَن أَبِيه،
عَن أبي يُوسُف، عَن أبي حنيفَة، رَحمَه الله فِي نَوَادِر
لَهُ قَالَ: قَالَ أَبُو حنيفَة: اقْتُلُوا الزنديق
الْمُسْتَتر، فَإِن تَوْبَته لَا تعرف.
الْخَامِس: قَالُوا: فِيهِ دَلِيل على أَن الإعتقاد
الْجَازِم كَاف فِي النجَاة، خلافًا لمن أوجب تعلم
الْأَدِلَّة وَجعله شرطا فِي الْإِسْلَام، وَهُوَ كثير من
الْمُعْتَزلَة وَقَول بعض الْمُتَكَلِّمين، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: قد تظاهرت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي
يحصل من عمومها الْعلم الْقطعِي بِأَن التَّصْدِيق
الْجَازِم كَاف. قَالَ الإِمَام: المقترح اخْتلف النَّاس
فِي وجوب الْمعرفَة على الْأَعْيَان، فَذهب قوم إِلَى
أَنَّهَا لَا تجب، وَقوم إِلَى وُجُوبهَا، وَادّعى كل
وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ الْإِجْمَاع على نقيض مَا ادّعى
مخالفه، وَاسْتدلَّ النافون بِأَنَّهُ قد ثَبت من
الْأَوَّلين قبُول كلمتي الشَّهَادَة من كل نَاطِق بهَا،
وَإِن كَانَ من البله والمغفلين، وَلم يقل لَهُ: هَل نظرت
أَو أَبْصرت؛ وَاسْتدلَّ المثبتون من الْأَوَّلين الْأَمر
بهَا مثل ابْن مَسْعُود وَعلي ومعاذ رَضِي الله عَنْهُم،
وَأَجَابُوا عَن الأول: بِأَن كلمتي الشَّهَادَة مَظَنَّة
الْعلم، وَالْحكم فِي الظَّاهِر يدار على المظنة، وَقد
كَانَ الْكَفَرَة يَذبُّونَ عَن دينهم، وَمَا رجعُوا إلاَّ
بعد ظُهُور الْحق وَقيام علم الصدْق، وَالْمَقْصُود إخلاص
العَبْد فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، فَلَا بُد أَن
يكون على بَصِيرَة من أمره، وَلَقَد كَانُوا يفهمون
الْكتاب الْعَرَبِيّ فهما وافيا بالمعاني، وَالْكتاب
الْعَزِيز مُشْتَمل على الْحجَج والبراهين. قلت: وَهَذَا
الثَّانِي هُوَ مُخْتَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ،
وَالْإِمَام المقترح، وَالْأول مُخْتَار الْأَكْثَرين
وَالله أعلم. السَّادِس: فِيهِ اشْتِرَاط التَّلَفُّظ
بكلمتي الشَّهَادَة فِي الحكم بِالْإِسْلَامِ، وَأَنه لَا
يكف عَن قِتَالهمْ إلاَّ بالنطق بهما. السَّابِع: فِيهِ
عدم تَكْفِير أهل الشَّهَادَة من أهل الْبدع. الثَّامِن:
فِيهِ دَلِيل على قبُول الْأَعْمَال الظَّاهِرَة وَالْحكم
بِمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر. التَّاسِع: فِيهِ دَلِيل على
أَن حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأَئِمَّة
بعده إِنَّمَا كَانَ على الظَّاهِر، والحساب على السرائر
إِلَى الله تَعَالَى دون خلقه، وَإِنَّمَا جعل إِلَيْهِم
ظَاهر أمره دون خفيه. الْعَاشِر: أَن هَذَا الحَدِيث مُبين
ومقيد لما جَاءَ من الْأَحَادِيث الْمُطلقَة، مِنْهَا مَا
جَاءَ فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ، ومناظرته مَعَ
أبي
(1/182)
بكر، رَضِي الله عَنهُ، فِي شَأْن قتال
مانعي الزَّكَاة، وَفِيه فَقَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ
لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ: كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمرت أَن
أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله
فَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله فقد عصم مني دَمه
وَمَاله إِلَّا بِحقِّهِ وحسابهم على الله) فَقَالَ أَبُو
بكر، رَضِي الله عَنهُ: وَالله لأقاتلن من فرق بَين
الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فانتقال أبي بكر، رَضِي الله
عَنهُ، إِلَى الْقيَاس، وَاعْتِرَاض عمر، رَضِي الله
عَنهُ، عَلَيْهِ أولى دَلِيل على أَنه خَفِي عَلَيْهِمَا
وعَلى من حضرهما من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم،
حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، الْمَذْكُور كَمَا
خَفِي عَلَيْهِم حَدِيث جِزْيَة الْمَجُوس، وشأن
الطَّاعُون، لِأَنَّهُ لَو استحضروه لم ينْتَقل أَبُو بكر،
رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْقيَاس، وَلم يُنكر عمر، رَضِي
الله عَنهُ، على أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، قلت: وَمن
هَذَا قَالَ بَعضهم: فِي صِحَة حَدِيث ابْن عمر
الْمَذْكُور نظر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْد ابْن عمر لما
ترك أَبَاهُ يُنَازع أَبَا بكر، رَضِي الله عَنهُ، فِي
قتال مانعي الزَّكَاة، وَلَو كَانُوا يعرفونه لما كَانَ
أَبُو بكر يقر عمر على الِاسْتِدْلَال بقوله، عَلَيْهِ
السَّلَام: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا
إِلَه إِلَّا الله) ، وَلما انْتقل من الِاسْتِدْلَال
بِهَذَا النَّص إِلَى الْقيَاس، إِذْ قَالَ: لأقاتلن من
فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة لِأَنَّهَا قرينتها فِي
كتاب الله، عز وَجل. وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ لَا
يلْزم من كَون الحَدِيث الْمَذْكُور عِنْد ابْن عمر، رَضِي
الله عَنْهُمَا، أَن يكون استحضره فِي تِلْكَ الْحَالة،
وَلَو كَانَ مستحضرا لَهُ فقد يحْتَمل أَن لَا يكون حضر
المناظرة الْمَذْكُورَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون ذكره لما
بعد، وَقَالُوا: لم يسْتَدلّ أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ،
فِي قتال مانعي الزَّكَاة بِالْقِيَاسِ فَقَط، بل اسْتدلَّ
أَيْضا من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث
الَّذِي ذكره: (إلاَّ بِحَق الْإِسْلَام) قَالَ أَبُو بكر،
رَضِي الله عَنهُ: وَالزَّكَاة حق الْإِسْلَام. وَقَالُوا
أَيْضا: لم ينْفَرد ابْن عمر، رَضِي الله عَنهُ،
بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، بل رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة،
رَضِي الله عَنهُ، بِزِيَادَة الصَّلَاة وَالزَّكَاة فِيهِ
كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قلت: فِي الْقِصَّة دَلِيل على أَن السّنة قد تخفى على بعض
أكَابِر الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، ويطلع عَلَيْهَا
آحادهم. الْحَادِي عشر: فِيهِ أَن من أَتَى
بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأقَام الصَّلَاة، وَآتى الزَّكَاة،
وَإِن كَانَ لَا يُؤَاخذ لكَونه مَعْصُوما، لكنه يُؤَاخذ
بِحَق من حُقُوق الْإِسْلَام من نَحْو قصاص أَو حدٍ أَو
غَرَامَة متْلف وَنَحْو ذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: إلاّ
بِحَق الْإِسْلَام من: قتل النَّفس وَترك الصَّلَاة وَمنع
الزَّكَاة. قلت: قَوْله: من قتل النَّفس، لَا خلاف فِيهِ
أَن عصمَة دَمه تَزُول عِنْد قتل النَّفس الْمُحرمَة.
وَأما قَوْله: وَترك الصَّلَاة، فَهُوَ بِنَاء على مذْهبه،
وَأما قَوْله: وَمنع الزَّكَاة، لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن
مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن مَانع الزَّكَاة لَا يقتل،
وَلكنه يُؤْخَذ مِنْهُ قهرا، وَأما إِذا انتصب لِلْقِتَالِ
فَإِنَّهُ يُقَاتل بِلَا خلاف، وَقد بَيناهُ عَن قريب.
الثَّانِي عشر: فِيهِ وجوب قتال الْكفَّار إِذا أطاقه
الْمُسلمُونَ حَتَّى يسلمُوا أَو يبذلوا الْجِزْيَة إِن
كَانُوا من أَهلهَا.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قيل: إِذا شهد وَأقَام
وَأدّى فَمُقْتَضى الحَدِيث أَن يتْرك الْقِتَال، وَإِن
كفر بِسَائِر مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لكنه لَيْسَ كَذَلِك. وَأجِيب: بِأَن الشَّهَادَة
برسالته تَتَضَمَّن التَّصْدِيق بِمَا جَاءَ بِهِ، مَعَ
أَنه يحْتَمل أَنه مَا جَاءَ بِسَائِر الْأَشْيَاء إلاَّ
بعد صُدُور هَذَا الحَدِيث، أَو علم ذَلِك بِدَلِيل آخر
خارجي، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (ويؤمنوا
بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ) وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ نَص على
الصَّلَاة وَالزَّكَاة مَعَ أَن حكم سَائِر الْفَرَائِض
كحكمهما؟ وَأجِيب: لِكَوْنِهِمَا أما الْعِبَادَات
الْبَدَنِيَّة والمالية والعيار على غَيرهمَا والعنوان
لَهُ، وَلذَلِك سمى الصَّلَاة عماد الدّين، وَالزَّكَاة
قنطرة الْإِسْلَام. وَمِنْهَا مَا قيل: إِذا شهدُوا عصموا
وَإِن لم يقيموا وَلم يؤتوا، إِذْ بعد الشَّهَادَة لَا بُد
من الانكفاف عَن الْقِتَال فِي الْحَال، وَلَا تنْتَظر
الْإِقَامَة والإيتاء وَلَا غَيرهمَا وَكَانَ حق الظَّاهِر
أَن يَكْتَفِي بقوله: (إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام) ، فَإِن
الْإِقَامَة والإيتاء مِنْهُ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا
ذكرهمَا تعظميا لَهما واهتماما بشأنهما وإشعارا
بِأَنَّهُمَا فِي حكم الشَّهَادَة، أَو المُرَاد ترك
الْقِتَال مُطلقًا مستمرا، لَا ترك الْقِتَال فِي الْحَال
الْمُمكن إِعَادَته بترك الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَذَلِكَ
لَا يحصل إلاَّ بِالشَّهَادَةِ وإيتاء الْوَاجِبَات كلهَا.
18 - (بابُ مَنْ قَالَ: إنّ الإيمَانَ هُوَ العَمَلُ
لقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} )
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع الأول: إِن لفظ بَاب مُضَاف
إِلَى مَا بعده وَلَا يجوز غَيره قطعا، وارتفاعه على أَنه
خبر مُبْتَدأ
(1/183)
مَحْذُوف أَي: هَذَا بَاب من قَالَ إِلَخ
وأصل الْكَلَام: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ: إِن
الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة
بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِنَّه عقد الْبَاب الأول
للتّنْبِيه على أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان ردا على
المرجئة، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا مَعْقُود لبَيَان أَن
الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، ردا عَلَيْهِم. وَقَالَ
الشَّيْخ قطب الدّين، فِي شَرحه فِي هَذَا الْبَاب:
إِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على المرجئة فِي
قَوْلهم: إِن الْإِيمَان قَول بِلَا عمل، وَقَالَ القَاضِي
عِيَاض عَن غلاتهم: إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن مُظهِر
الشَّهَادَتَيْنِ يدْخل الْجنَّة وَإِن لم يَعْتَقِدهُ
بِقَلْبِه. الثَّالِث: وَجه مُطَابقَة الْآيَة
للتَّرْجَمَة هُوَ: أَن الْإِيمَان لما كَانَ هُوَ
السَّبَب لدُخُول العَبْد الْجنَّة وَالله، عز وَجل، أخبر
بِأَن الْجنَّة هِيَ الَّتِي أورثوها بأعمالهم حَيْثُ
قَالَ: {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) دلّ
ذَلِك على أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، وَفِي الْآيَة
الْأُخْرَى أطلق على قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله
الْعَمَل، فَدلَّ على أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، فعلى
هَذَا معنى قَوْله: {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (الزخرف:
72) : بِمَا كُنْتُم تؤمنون، على مَا زَعمه البُخَارِيّ،
على مَا نقل عَن جمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَلَكِن
اللَّفْظ عَام وَدَعوى التَّخْصِيص بِلَا برهَان لَا تقبل،
وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ تَخْصِيص بِلَا دَلِيل،
وَهَهُنَا مناقشة أُخْرَى، وَهِي: إِن إِطْلَاق الْعَمَل
على الْإِيمَان صَحِيح، من حَيْثُ إِن الْإِيمَان هُوَ عمل
الْقلب، وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْعَمَل من
نفس الْإِيمَان؛ وَقصد البُخَارِيّ من هَذَا الْبَاب
وَغَيره إثْبَاته أَن الْعَمَل من أَدَاء الْإِيمَان ردا
على من يَقُول: إِن الْعَمَل لَا دخل لَهُ فِي مَاهِيَّة
الْإِيمَان، فَحِينَئِذٍ لَا يتم مَقْصُوده على مَا لَا
يخفى، وَإِن كَانَ مُرَاده جَوَاز إِطْلَاق الْعَمَل على
الْإِيمَان فَهَذَا لَا نزاع فِيهِ لأحد، لِأَن الْإِيمَان
عمل الْقلب وَهُوَ التَّصْدِيق. الرَّابِع: قَوْله: وَتلك
الْإِشَارَة إِلَى الْجنَّة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله:
{ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون} (الزخرف: 70)
وَهِي مُبْتَدأ وَالْجنَّة خَبره، وَقَوله {الَّتِي
أورثتموها} صفة الْجنَّة، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَو
الْجنَّة صفة للمبتدأ الَّذِي هُوَ اسْم الْإِشَارَة و
{الَّتِي أورثتموها} (الزخرف: 72) خبر الْمُبْتَدَأ،
وَالَّتِي أَو {الَّتِي أورثتموها} (الزخرف: 72) صفة و
{بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) الْخَبَر
وَالْبَاء تتَعَلَّق بِمَحْذُوف كَمَا فِي الظروف الَّتِي
تقع أَخْبَارًا، وَفِي الْوَجْه الأول تتَعَلَّق:
بأورثتموها، وقرىء: ورثتموها. فَإِن قلت: الإيراث إبْقَاء
المَال بعد الْمَوْت لمن يسْتَحقّهُ، وَحَقِيقَته ممتنعة
على الله تَعَالَى، فَمَا معنى الإيراث هَهُنَا؟ قلت:
هَذَا من بَاب التَّشْبِيه، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: شبهت
فِي بَقَائِهَا على أَهلهَا بِالْمِيرَاثِ الْبَاقِي على
الْوَرَثَة، وَيُقَال: الْمُورث هُنَا الْكَافِر، وَكَانَ
لَهُ نصيب مِنْهَا وَلَكِن كفره مَنعه فانتقل مِنْهُ إِلَى
الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا معنى الإيراث. وَيُقَال: الْمُورث
هُوَ الله تَعَالَى وَلكنه مجَاز عَن الْإِعْطَاء على
سَبِيل التَّشْبِيه لهَذَا الْإِعْطَاء بالإيراث. فَإِن
قلت: كلمة: مَا فِي قَوْله {بِمَا كُنْتُم} (الزخرف: 72)
مَا هِيَ؟ قلت: يجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، فَالْمَعْنى:
بكونكم عاملين، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، فَالْمَعْنى:
بِالَّذِي كُنْتُم تعملونه. فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين
هَذِه الْآيَة، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لن
يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) ؟ قلت: الْبَاء فِي
قَوْله: بِمَا كُنْتُم لَيست للسَّبَبِيَّة، بل للملابسة
أَي: أورثتموها مُلَابسَة لأعمالكم، أَي: لثواب أَعمالكُم،
أَو للمقابلة نَحْو: أَعْطَيْت الشَّاة بالدرهم. وَقَالَ
الشَّيْخ جمال الدّين: الْمَعْنى الثَّامِن للباء
الْمُقَابلَة، وَهِي الدَّاخِلَة على الأعواض: كاشتريته
بِأَلف دِرْهَم، وَقَوْلهمْ: هَذَا بِذَاكَ، وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم
تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) وَإِنَّمَا لم نقدرها بَاء
السَّبَبِيَّة كَمَا قَالَت الْمُعْتَزلَة، وكما قَالَ
الْجَمِيع فِي: (لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ)
لِأَن الْمُعْطِي بعوض قد يُعْطي مجَّانا، وَأما
الْمُسَبّب فَلَا يُوجد بِدُونِ السَّبَب، وَقد تبين أَنه
لَا تعَارض بَين الحَدِيث وَالْآيَة لاخْتِلَاف محلي
الْبَابَيْنِ جمعا بَين الْأَدِلَّة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَو إِن الْجنَّة فِي تِلْكَ الْجنَّة جنَّة
خَاصَّة أَي: تِلْكَ الْجنَّة الْخَاصَّة الرفيعة
الْعَالِيَة بِسَبَب الْأَعْمَال، وَأما أصل الدُّخُول
فبرحمة الله. قلت: أُشير بِهَذِهِ الْجنَّة إِلَى الْجنَّة
الْمَذْكُورَة فِيمَا قبلهَا، وَهِي الْجنَّة
الْمَعْهُودَة، وَالْإِشَارَة تمنع مَا ذكره، وَقَالَ
النَّوَوِيّ، فِي الْجَواب: إِن دُخُول الْجنَّة بِسَبَب
الْعَمَل، وَالْعَمَل برحمة الله تَعَالَى. قلت:
الْمُقدمَة الأولى مَمْنُوعَة لِأَنَّهَا تخَالف صَرِيح
الحَدِيث فَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا.
وَقَالَ عِدّةٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُم أجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ} (الْحجر: 92) عَنْ قولِ لاَ إلَهَ إلاَّ
اللَّهُ.
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: إِن الْعدة، بِكَسْر
الْعين وَتَشْديد الدَّال: هِيَ الْجَمَاعَة، قلَّت أَو
كثرت؛ وَفِي (الْعباب) تَقول: أنفدت عدَّة كتب، أَي:
جمَاعَة كتب، وَيُقَال: فلَان إِنَّمَا يَأْتِي أَهله
الْعدة أَي يَأْتِي أَهله فِي الشَّهْر والشهرين، وعدة
الْمَرْأَة أَيَّام إقرائها وَأما
(1/184)
الْعد بِدُونِ الْهَاء فَهُوَ: المَاء
الَّذِي لَا يَنْقَطِع، كَمَاء الْعين وَمَاء الْبِئْر.
وَالْعد أَيْضا: الْكَثْرَة. قَوْله: (عدَّة) مَرْفُوع
بقال، وَيجوز فِيهِ قَالَ وَقَالَت لِأَن التَّأْنِيث فِي
عدَّة غير حَقِيقِيّ، وَكلمَة من فِي قَوْله: (من أهل
الْعلم) للْبَيَان، قَوْله: (فِي قَوْله) يتَعَلَّق بقال،
وَالْخطاب فِي: {فوربك} (الْحجر: 92) للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَالْوَاو فِيهِ للقسم، وَقَوله:
{لنسألنهم} (الْحجر: 92) جَوَاب الْقسم مؤكدا بِاللَّامِ.
قَوْله: {عَن قَول} (الْحجر: 92) يتَعَلَّق بقوله:
{لنسألنهم} أَي: لنسألنهم عَن كلمة الشَّهَادَة الَّتِي
هِيَ عنوان الْإِيمَان، وَعَن سَائِر أَعْمَالهم الَّتِي
صدرت مِنْهُم. الثَّانِي: أَن الْجَمَاعَة الَّذين
ذَهَبُوا إِلَى مَا ذكره نَحْو أنس بن مَالك وَعبد الله بن
عمر وَمُجاهد بن جبر رَضِي الله عَنْهُم، وَأخرج
التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا، عَن أنس: {فوربك لنسألنهم
أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} (الْحجر: 92)
قَالَ: (عَن لَا إِلَه إِلَّا الله) وَفِي إِسْنَاده لَيْث
بن أبي سليم وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، وَالَّذِي روى
عَن ابْن عمر فِي (التَّفْسِير) للطبري وَفِي كتاب
(الدُّعَاء) للطبراني، وَالَّذِي روى عَن مُجَاهِد فِي
تَفْسِير عبد الرَّزَّاق وَغَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
فِي الْآيَة وَجه آخر وَهُوَ الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى
لنسألنهم عَن أَعْمَالهم كلهَا الَّتِي يتَعَلَّق بهَا
التَّكْلِيف؛ وَقَول من خص بِلَفْظ التَّوْحِيد دَعْوَى
تَخْصِيص بِلَا دَلِيل فَلَا تقبل ثمَّ روى حَدِيث
التِّرْمِذِيّ وَضَعفه، وَقَالَ بَعضهم: لتخصيصهم، وَجه من
جِهَة التَّعْمِيم فِي قَوْله: أَجْمَعِينَ، فَيدْخل فِيهِ
الْمُسلم وَالْكَافِر، فَإِن الْكَافِر مُخَاطب
بِالتَّوْحِيدِ بِلَا خلاف، بِخِلَاف بَاقِي الْأَعْمَال
فَفِيهَا الْخلاف، فَمن قَالَ إِنَّهُم مخاطبون يَقُول:
إِنَّهُم مسؤولون عَن الْأَعْمَال كلهَا. وَمن قَالَ:
إِنَّهُم غير مخاطبين، يَقُول: إِنَّمَا يسْأَلُون عَن
التَّوْحِيد فَقَط، فالسؤال عَن التَّوْحِيد مُتَّفق
عَلَيْهِ، فَحمل الْآيَة عَلَيْهِ أولى بِخِلَاف الْحمل
على جَمِيع الْأَعْمَال لما فِيهَا من الِاخْتِلَاف. قلت:
هَذَا الْقَائِل قصد بِكَلَامِهِ الرَّد على النَّوَوِيّ،
وَلكنه تاه فِي كَلَامه، فَإِن النَّوَوِيّ لم يقل بِنَفْي
التَّخْصِيص لعدم التَّعْمِيم فِي الْكَلَام، وَإِنَّمَا
قَالَ: دَعْوَى التَّخْصِيص بِلَا دَلِيل خارجي لَا تقبل،
وَالْأَمر كَذَلِك غإن الْكَلَام عَام فِي السُّؤَال عَن
التَّوْحِيد وَغَيره ثمَّ دَعْوَى التَّخْصِيص
بِالتَّوْحِيدِ يحْتَاج إِلَى دَلِيل من خَارج، فَإِن
استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فقد أجَاب عَنهُ
بِأَنَّهُ ضَعِيف، وَهَذَا الْقَائِل فهم أَيْضا أَن
النزاع فِي أَن التَّخْصِيص والتعميم هُنَا إِنَّمَا هُوَ
من جِهَة التَّعْمِيم هُنَا إِنَّمَا هُوَ من جِهَة
التَّعْمِيم فِي قَوْله: {أَجْمَعِينَ} (الْحجر: 92)
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ فِي قَوْله: {عَمَّا
كَانُوا يعْملُونَ} (الْحجر: 92) فَإِن الْعَمَل هُنَا
أَعم من أَن يكون توحيدا أَو غَيره، وتخصيصه
بِالتَّوْحِيدِ تحكم قَوْله فَيدْخل فِيهِ الْمُسلم،
وَالْكَافِر غير مُسلم، لِأَن الضَّمِير فِي لنسألنهم،
يرجع إِلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذين جعلُوا الْقُرْآن
عضين، وهم نَاس مخصوصون. وَلَفْظَة أَجْمَعِينَ، وَقعت
توكيدا للضمير الْمَذْكُور فِي النِّسْبَة مَعَ الشُّمُول
فِي أَفْرَاده المخصوصين، ثمَّ تَفْرِيع هَذَا الْقَائِل
بقوله: فَإِن الْكَافِر إِلَخ لَيْسَ لَهُ دخل فِي صُورَة
النزاع على مَا لَا يخفى. الثَّالِث: مَا قيل: إِن هَذِه
الْآيَة أَثْبَتَت السُّؤَال على سَبِيل التوكيد القسمي،
وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى {فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن
ذَنبه أنس وَلَا جَان} (الرَّحْمَن: 39) فنفت السُّؤَال.
وَأجِيب: بِأَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف مُخْتَلفَة
وأزمنة متطاولة، فَفِي موقف أَو زمَان يسْأَلُون وَفِي
آخرلا يسْأَلُون سُؤال استخبار بل سُؤال توبيخ، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: فِي هَذِه الْآيَة: لنسألهم سُؤال تقريع،
وَيُقَال: قَوْله: {لَا يسْأَل عَن ذَنبه أنس وَلَا جَان}
(الرَّحْمَن: 39) نَظِير قَوْله: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر
أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 164، الْإِسْرَاء: 15، فاطر: 18،
وَالزمر: 7) .
{وقالَ لِمثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}
(الصافات: 61) أَي: قَالَ الله تَعَالَى لمثل هَذَا،
وَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى قَوْله {إِن هَذَا لَهو
الْفَوْز الْعَظِيم} (الصافات: 60) وَذكر هَذِه الْآيَة
لَا يكون مطابقا للتَّرْجَمَة إلاَّ إِذا كَانَ معنى
قَوْله: {فليعمل الْعَامِلُونَ} (الصافات: 61) فليؤمن
الْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِن هَذَا دَعْوَى تَخْصِيص بِلَا
دَلِيل فَلَا تقبل، وَإِلَى هَذِه الْآيَة من قَوْله
تَعَالَى: {فاقبل بَعضهم على بعض يتساءلون} (الصافات: 50)
قصَّة الْمُؤمن وقرينه، وَذَلِكَ أَنه كَانَ يتَصَدَّق
بِمَالِه لوجه الله، عز وَجل، فَاحْتَاجَ، فاستجدى بعض
إخوانه، فَقَالَ: وَأَيْنَ مَالك؟ قَالَ: تَصَدَّقت بِهِ
ليعوضني الله خيرا مِنْهُ. فَقَالَ: أئنك لمن المصدقين
بِيَوْم الدّين، أَو: من المتصدقين لطلب الثَّوَاب، وَالله
لَا أُعْطِيك شَيْئا. وَقَوله تَعَالَى: {أإذا متْنا
وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمدينون} (الصافات: 53)
حِكَايَة عَن قَول القرين، وَمعنى: لمدينون: لمجزيون من
الدّين، وَهُوَ الْجَزَاء. وَقَوله: {قَالَ هَل أَنْتُم
مطلعون} (الصافات: 54) يَعْنِي: قَالَ ذَلِك الْقَائِل:
هَل أَنْتُم مطلعون إِلَى النَّار؟ وَيُقَال: الْقَائِل
هُوَ الله تَعَالَى، وَيُقَال: بعض الْمَلَائِكَة يَقُول
لأهل الْجنَّة هَل تحبون أَن تطلعوا فتعلموا أَيْن منزلتكم
من منزلَة أهل النَّار؟ وَقَوله: {فَاطلع} (الصافات: 54)
أَي: فَإِن اطلع. قَوْله: {فِي سَوَاء الْجَحِيم}
(الصافات: 55) أَي: فِي وَسطهَا. قَوْله: {تالله إِن كدت}
(الصافات: 56) إِن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وَهِي تدخل
على: كَاد كَمَا تدخل على: كَانَ، وَاللَّام، هِيَ الفارقة
بَينهَا وَبَين النافية، والإرداء: الإهلاك، وَأَرَادَ
بِالنعْمَةِ: الْعِصْمَة والتوفيق والبراءة من قرين السوء،
وإنعام الله بالثواب، وَكَونه من أهل الْجنَّة. قَوْله:
{من المحضرين} (الصافات: 11) أَي: من الَّذين أحضروا
الْعَذَاب. وَقَوله: {إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم}
(الصافات: 60) أَي إِن هَذَا الْأَمر الَّذِي نَحن فِيهِ،
وَيُقَال: هَذَا من قَول الله تَعَالَى
(1/185)
تقريرا لقَولهم وَتَصْدِيقًا لَهُ.
وَقَوله: {لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ} (الصافات: 61)
مُرْتَبِط بقوله: إِن هَذَا أَي لأجل مثل هَذَا الْفَوْز
العطيم، وَهُوَ دُخُول الْجنَّة والنجاة من النَّار فليعمل
الْعَامِلُونَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل
أَن يكون قَائِل ذَلِك الْمُؤمن الَّذِي رأى قرينه،
وَيحْتَمل أَن يكون كَلَامه انْقَضى عِنْد قَوْله:
{الْفَوْز الْعَظِيم} (الصافات: 60) وَالَّذِي بعد
ابْتِدَاء من قَول الله عز وَجل لَا حِكَايَة عَن قَول
الْمُؤمن، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِبْهَام
المُصَنّف الْقَائِل. قلت: الْمُفَسِّرُونَ ذكرُوا فِي
قَائِل هَذَا ثَلَاثَة أَقْوَال. الأول: إِن الْقَائِل
هُوَ ذَلِك الْمُؤمن. وَالثَّانِي: إِنَّه هُوَ الله عز
وَجل. وَالثَّالِث: إِنَّه بعض الْمَلَائِكَة. وَلَا
يحْتَاج أَن يُقَال فِي ذَلِك بِالِاحْتِمَالِ الَّذِي
ذكره هَذَا الشَّارِح، لِأَن كَلَامه يُوهم بِأَن هَذَا
تصرف من عِنْده فَلَا يَصح ذَلِك، ثمَّ قَوْله وَلَعَلَّ
هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِبْهَام المُصَنّف أَرَادَ بِهِ
البُخَارِيّ كَلَام غير صَحِيح أَيْضا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا: أَن البُخَارِيّ لم يقْصد مَا ذكره هَذَا
الشَّارِح قطّ، لِأَن مُرَاده من ذكره هَذِه الْآيَة
بَيَان إِطْلَاق الْعَمَل على الْإِيمَان لَيْسَ إِلَّا،
وَالْآخر: ذكر فعل وإبهام فَاعله من غير مرجع لَهُ وَمن
غير قرينَة على تَعْيِينه غير صَحِيح.
26 - حدّثنا أحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ
إسمَاعِيلَ قالاَ حدّثنا إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ
حدّثنا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيد بْنِ المُسيَّبِ عَنْ
أبِي هُرَيْرةَ أَن رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
سُئِلَ أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ فقالَ إيمانٌ باللَّهِ
وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذا قالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ قِيل ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ.
(الحَدِيث 26 طرفه فِي: 1519)
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي
اطلاق الْعَمَل على الْإِيمَان. وَقَالَ ابْن بطال:
الْآيَة حجَّة فِي أَن الْعَمَل بِهِ ينَال دَرَجَات
الْآخِرَة، وَأَن الْإِيمَان قَول وَعمل، وَيشْهد لَهُ
الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ هَذَا الحَدِيث،
ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة أهل السّنة. قَالَ
أَبُو عُبَيْدَة: وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَمن بعدهمْ. ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُرَاد
البُخَارِيّ بالتبويب، وَقَالَ أَيْضا فِي هَذَا الحَدِيث:
إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْإِيمَان من
الْعَمَل، وَفرق فِي أَحَادِيث أخر بَين الْإِيمَان
والأعمال، وَأطلق اسْم الْإِيمَان مُجَردا على
التَّوْحِيد، وعملَ الْقلب، وَالْإِسْلَام على النُّطْق
وَعمل الْجَوَارِح، وَحَقِيقَة الْإِيمَان مُجَرّد
التَّصْدِيق المطابق لِلْقَوْلِ وَالْعقد، وَتَمَامه
بِتَصْدِيق الْعَمَل بالجوارح، فَلهَذَا أَجمعُوا أَنه لَا
يكون مُؤمن تَامّ الْإِيمَان إِلَّا باعتقاد وَقَول وَعمل،
وَهُوَ الْإِيمَان الَّذِي يُنجي رَأْسا من نَار جَهَنَّم،
ويعصم المَال وَالدَّم، وعَلى هَذَا يَصح إِطْلَاق
الْإِيمَان على جَمِيعهَا، وعَلى بَعْضهَا من: عقد أَو
قَول أَو عمل وعَلى هَذَا لَا شكّ بِأَن التَّصْدِيق
والتوحيد أفضل الْأَعْمَال إِذْ هُوَ شَرط فِيهَا.
(بَيَان رِجَاله) : وهم سِتَّة. الأول: أَحْمد بن يُونُس:
هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن عبد الله بن قيس
الْيَرْبُوعي التَّمِيمِي، يكنى بِأبي عبد الله، واشتهر
بِأَحْمَد بن يُونُس مَنْسُوبا إِلَى جده. يُقَال: إِنَّه
مولى الفضيل بن عِيَاض، مَالِكًا سمع وَابْن أبي ذِئْب
وَاللَّيْث والفضيل وخلقا كثيرا، روى عَنهُ: أَبُو زرْعَة
وَأَبُو حَاتِم وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْبُخَارِيّ
وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد، وروى البُخَارِيّ عَن يُوسُف بن
مُوسَى عَنهُ، وروى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه عَن رجل عَنهُ، قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ ثِقَة
متقنا، وَقَالَ أَحْمد فِيهِ: شيخ الْإِسْلَام، وَتُوفِّي
فِي ربيع الآخر سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ
ابْن أَربع وَتِسْعين سنة. الثَّانِي: مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل الْمنْقري، بِكَسْر الْمِيم، وَقد سبق ذكره.
الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن سعد سبط عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف رَضِي الله عَنهُ، وَقد سبق ذكره. الرَّابِع:
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد سبق ذكره.
الْخَامِس: سعيد بن الْمسيب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْيَاء
على الْمَشْهُور، وَقيل بِالْكَسْرِ، وَكَانَ يكره فتحهَا،
وَأما غير وَالِد سعيد فبالفتح من غير خلاف: كالمسيب بن
رَافع، وَابْنه الْعَلَاء بن الْمسيب، وَغَيرهمَا.
وَالْمُسَيب هُوَ ابْن حزن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَسُكُون الزَّاي الْمُعْجَمَة، ابْن أبي وهب بن عَمْرو بن
عايذ بِالْيَاءِ آخر بالحروف والذال الْمُعْجَمَة، ابْن
عمرَان بن مَخْزُوم بن يقظة، بِفَتْح الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَالْقَاف والظاء الْمُعْجَمَة بن مرّة الْقرشِي
المَخْزُومِي الْمدنِي إِمَام التَّابِعين وفقيه
الْفُقَهَاء، أَبوهُ وجده صحابيان أسلما يَوْم فتح مَكَّة،
ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر، رَضِي الله عَنهُ،
وَقيل: لأَرْبَع سمع عمر وَعُثْمَان وعليا وَسعد بن أبي
وَقاص وَأَبا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ زوج
بنت أبي هُرَيْرَة، وَأعلم النَّاس بحَديثه، وروى عَنهُ
خلق من التَّابِعين وَغَيرهم، وَاتَّفَقُوا على جلالته
وإمامته، وتقدمه على أهل عصره فِي الْعلم وَالتَّقوى،
وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أعلم فِي التَّابِعين أوسع
علما مِنْهُ، وَقَالَ أَحْمد: سعيد أفضل التَّابِعين،
فَقيل لَهُ: فسعيد عَن عمر حجَّة. قَالَ: فَإِذا لم يقبل
سعيد عَن عمر فَمن يقبل؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ
(1/186)
فِي التَّابِعين أنبل من سعيد بن الْمسيب،
وَهُوَ أثبتهم. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (تَهْذِيب
الْأَسْمَاء) : وَأما قَوْلهم: إِنَّه أفضل التَّابِعين،
فمرادهم أفضلهم فِي عُلُوم الشَّرْع، وَإِلَّا فَفِي
(صَحِيح) مُسلم عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ،
قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَقُول: (إِن خير التَّابِعين رجل يُقَال لَهُ أويس، وَبِه
بَيَاض، فَمُرُوهُ فليستغفر لكم) . وَقَالَ أَحْمد بن عبد
الله: كَانَ صَالحا فَقِيها من الْفُقَهَاء السَّبْعَة
بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَعور. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة:
كَانَ جده حزن أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ لَهُ أَنْت سهل، قَالَ: لَا بل أَنا حزن،
ثَلَاثًا، قَالَ سعيد: فَمَا زلنا نَعْرِف تِلْكَ الحزونة
فِينَا، فَفِي وَلَده سوء خلق، وَكَانَ حج أَرْبَعِينَ
حجَّة لَا يَأْخُذ الْعَطاء، وَكَانَ لَهُ بضَاعَة أَربع
مائَة دِينَار يتجر بهَا فِي الزَّيْت، وَكَانَ جَابر بن
الْأسود على الْمَدِينَة، فدعى سعيدا إِلَى الْبيعَة
لِابْنِ الزبير فَأبى، فَضَربهُ سِتِّينَ سَوْطًا وَطَاف
بِهِ الْمَدِينَة، وَقيل: ضربه هِشَام بن الْوَلِيد أَيْضا
حِين امْتنع لِلْبيعَةِ للوليد وحبسه وحلقه، مَاتَ سنة
ثَلَاث أَو أَربع أَو خمس وَتِسْعين فِي خلَافَة الْوَلِيد
بن عبد الْملك بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يُقَال لهَذِهِ
السّنة: سنة الْفُقَهَاء، لِكَثْرَة من مَاتَ فِيهَا
مِنْهُم. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي (شَرحه) وَفِي
نسب سعيد هَذَا يتفاضل النساب فِي تَحْقِيقه، فَإِن فِي
بني مَخْزُوم عابدا، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالدَّال
الْمُهْملَة، وعايذ بِالْمُثَنَّاةِ آخر الْحُرُوف والذال
الْمُعْجَمَة، فَالْأول: هُوَ عَابِد بن عبد الله بن
عَمْرو بن مَخْزُوم، وَمن وَلَده السَّائِب وَالْمُسَيب
ابْنا أبي السَّائِب، وَاسم أبي السَّائِب صَيْفِي بن
عَابِد بن عبد الله، وَولده عبد الله بن السَّائِب، شريك
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِيهِ: (نعم الشَّرِيك) ،
وَقيل: الشَّرِيك أَبوهُ السَّائِب، وعتيق بن عَابِد بن
عبد الله، وَكَانَ على خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي
الله عَنْهَا، قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأما عايذ بن عمرَان فَمن وَلَده: سعيد وَأَبوهُ كَمَا
تقدم، وَفَاطِمَة، أم عبد الله وَالِد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بنت عَمْرو بن عايذ بن عمرَان وهبيرة
بن أبي وهيب بن عَمْرو بن عايذ بن عمرَان، وهبيرة هَذَا
هُوَ زوج أم هانىء بنت أبي طَالب فر من الْإِسْلَام يَوْم
فتح مَكَّة، فَمَاتَ كَافِرًا بِنَجْرَان وَالله أعلم.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر،
رَضِي الله عَنهُ، وَقد مر ذكره.
(بَيَان لطائف اسناده) : مِنْهَا: ان فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: ان فِيهِ شيخين للْبُخَارِيّ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة كلهم مدنيون
(بَيَان من أخرجه غَيره) : أخرجه مُسلم أَيْضا فِي كتاب
الْإِيمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا نَحوه، وَفِي
رِوَايَة للنسائي: (أى الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ:
الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله) وَلم يزدْ وَأخرجه الترمذى
ايضاً ولفطه: (قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أَي الْأَعْمَال خير) ؟ وَذكر الحَدِيث
وَفِيه قَالَ: (الْجِهَاد سَنَام الْعَمَل)
(بَيَان اللُّغَات) : قَوْله: (أفضل) أَي: الْأَكْثَر
ثَوابًا عِنْد الله، وَهُوَ أفعل التَّفْضِيل من فضَل
يفضُل، من بَاب: دخل يدخُل، وَيُقَال: فضِل يفضَل من بَاب:
سمِع يسمَع، حَكَاهَا ابْن السّكيت، وَفِيه لُغَة
ثَالِثَة: فضِل بِالْكَسْرِ، يفضُل بِالضَّمِّ، وَهِي
مركبة شَاذَّة لَا نَظِير لَهَا. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا
عِنْد أَصْحَابنَا إِنَّمَا يَجِيء على لغتين، قَالَ:
وَكَذَلِكَ: نعم ينعم، ومت تَمُوت، ودمت تدوم، وكدت تكَاد،
وَفِي (الْعباب) : فضلته فضلا أَي: غلبته بِالْفَضْلِ،
وَفضل مِنْهُ شَيْء، وَالْفضل والفضيلة خلاف النَّقْص
والنقيصة. قَوْله: (الْجِهَاد) مصدر جَاهد فِي سَبِيل الله
مجاهدة وجهاداً، وَهُوَ من الْجهد بِالْفَتْح، وَهُوَ
الْمَشَقَّة وَهُوَ الْقِتَال مَعَ الْكفَّار لإعلاء كلمة
الله؛ والسبيل: الطَّرِيق، يذكر وَيُؤَنث. قَوْله: (حج
مبرور) الْحَج فِي اللُّغَة: الْقَصْد، وَأَصله من قَوْلك:
حججْت فلَانا أحجه حجا إِذا عدت إِلَيْهِ مرّة بعد اخرى،
فَقيل: حج الْبَيْت، لِأَن النَّاس يأتونه فِي كل سنة،
قَالَه الْأَزْهَرِي. وَفِي (الْعباب) : رجل محجوج أَي:
مَقْصُود، وَقد حج بَنو فلَان فلَانا إِذا اطالوا
الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ قَالَ المخبل السَّعْدِيّ:
(واشهد من عَوْف حلولاً كَثِيرَة ... يحجون سبّ
الزبْرِقَان المزعفرا)
قَالَ ابْن السّكيت: يَقُول: يكثرون الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ
هَذَا الأَصْل، ثمَّ تعورف اسْتِعْمَاله فِي الْقَصْد
إِلَى مَكَّة حرسها الله للنسك تَقول: حججْت الْبَيْت أحجه
حجا فَأَنا حَاج، وَيجمع على حجج، مثل: بازل وبزل، وعائد
وعوذ إنتهى. وَفِي الشَّرْع: الْحَج، قصد زِيَارَة
الْبَيْت على وَجه التَّعْظِيم. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
الْحَج قصد الْكَعْبَة للنسك بملابسة الْوُقُوف بِعَرَفَة.
قلت: الْحُلُول، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، يُقَال: قوم
حُلُول، أَي: نزُول، وَكَذَلِكَ: حَلَال، بِالْكَسْرِ،
والسب، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة:
(1/187)
الْعِمَامَة والزبرقان، بِكَسْر الزَّاي
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الْمُهْملَة
وبالقاف: هُوَ لقب، واسْمه: الْحصين. قَالَ ابْن السّكيت
لقب الزبْرِقَان لصفرة عمَامَته، والمبرور: هُوَ الَّذِي
لَا يخالطه إِثْم، وَمِنْه: برت يَمِينه إِذا سلم من
الْحِنْث. وَقيل: هُوَ المقبول، وَمن عَلَامَات الْقبُول
أَنه إِذا رَجَعَ يكون حَاله خيرا من الْحَال الَّذِي
قبله، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ، وَقيل: هُوَ
الَّذِي لَا تتعقبه مَعْصِيّة، وهما داخلان فِيمَا
قبلهمَا، وَالْبر، بِالْكَسْرِ: الطَّاعَة وَالْقَبُول،
يُقَال: بر حجك، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا لازمين، وبر الله
حجك، وَأبر الله اي قبله، فَلهُ أَرْبَعَة استعمالات.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: المبرور المتقبل، يُقَال: بر الله
حجه يبره اي: تقبله، وَأَصله من الْبر، وَهُوَ اسْم لجماع
الْخَيْر، وبررت فلَانا أبره برا، إِذا وصلته وكل عمل
صَالح بر، وَجعل لبيد الْبر: التَّقْوَى، فَقَالَ:
(وَمَا الْبر إلاَّ مضمرات من التقى ... وَمَا المَال إلاّ
معمرات ودائع)
قَوْله: مضمرات، يَعْنِي الخفايا من التقى، قَوْله: وَمَا
المَال إلاّ معمرات: اي المَال الَّذِي فِي أَيْدِيكُم
ودائع مُدَّة عمركم ثمَّ يصير لغيركم. واما قَول عَمْرو
ابْن ام مَكْتُوم:
(نحز رؤوسهم فِي غير بر)
فَمَعْنَاه: فِي غير طَاعَة. وَفِي (الْعباب) : المبرة
وَالْبر: خلاف العقوق، وَقَوله تَعَالَى: {اتأمرون النَّاس
بِالْبرِّ} (الْبَقَرَة: 44) أَي: بالاتساع فِي
الْإِحْسَان وَالزِّيَادَة مِنْهُ وَقَوله عز وَجل: {لن
تنالوا الْبر} (الْبَقَرَة: 189) قَالَ السّديّ: يَعْنِي
الْجنَّة وَالْبر أَيْضا: الصِّلَة، تَقول مِنْهُ: بررت
وَالِدي، بِالْكَسْرِ، و: بررته، بِالْفَتْح، أبره برا،
والمبرور: الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ وَلَا خلابة، وَقَالَ
ابو الْعَبَّاس: هُوَ الَّذِي لَا يدالس فِيهِ وَلَا
يوالس، يدالس فِيهِ: يظلم فِيهِ، ويوالس: يخون.
(بَيَان الاعراب:) قَوْله: (سُئِلَ) جملَة فِي مَحل
الرّفْع لانها خبر: إِن، والسائل هُوَ: ابو ذَر رَضِي الله
عَنهُ، وَحَدِيثه فِي الْعتْق. قَوْله: (أَي الْعَمَل) ؟
كَلَام إضافي: مُبْتَدأ وَخَبره: (أفضل) وَأي، هَهُنَا
استفهامية، وَلَا تسْتَعْمل إلاَّ مُضَافا إِلَيْهِ إلاَّ
فِي النداء والحكاية، يُقَال: جَاءَنِي رجل، فَتَقول: أَي:
يَا هَذَا، وَجَاءَنِي رجلَانِ فَتَقول: أَيَّانَ،
وَرِجَال فَتَقول: أيون. فَإِن قلت: (افضلْ) أفعل
التَّفْضِيل وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ بِأحد الأَوجه
الثَّلَاثَة، وَهِي: الْإِضَافَة، وَاللَّام، وَمن، فَلَا
يجوز أَن يُقَال: زيد أفضل. قلت: إِذا علم يجوز
اسْتِعْمَاله مُجَردا نَحْو: الله اكبر، أَي: أكبر من كل
شَيْء؟ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {اتستبدلون الذى هُوَ
ادنى بالذى هُوَ خير} (الْبَقَرَة: 61) ؟ وَسَوَاء فِي
ذَلِك كَون أفعل خَبرا كَمَا فِي الْآيَة، أَو غير خبر
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يعلم السِّرّ واخفى} (طه: 7)
وَقد يجرد: أفعل عَن معنى التَّفْضِيل وَيسْتَعْمل مُجَردا
مؤولاً باسم الْفَاعِل، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {هُوَ أعلم
بكم إِذْ أنشأكم من الارض} (النَّجْم: 32) ، وَقد يؤول
بِالصّفةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي
يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ اهون عَلَيْهِ}
(الرّوم: 27) قَوْله: (قَالَ) اي: النَّبِي، عَلَيْهِ
السَّلَام. وَقَوله: (إِيمَان بِاللَّه) مَرْفُوع على أَنه
خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ إِيمَان بِاللَّه،
وَالتَّقْدِير: أفضل الاعمال الْإِيمَان بِاللَّه. قَوْله:
(وَرَسُوله) بِالْجَرِّ تَقْدِيره: وَالْإِيمَان
بِرَسُولِهِ. قَوْله: (قيل) ، مَجْهُول قَالَ، وَأَصله:
نقلت كسرة الْوَاو إِلَى الْقَاف بعد سلب حركتها، فَصَارَ:
قَول، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْوَاو، ثمَّ قلبت
الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، فَصَارَ: قيل،
وَالْقَائِل هُوَ السَّائِل فِي الاول. قَوْله: (ثمَّ
مَاذَا) ، كلمة ثمَّ للْعَطْف مَعَ التَّرْتِيب الذكري،
وَمَا مُبْتَدأ و: ذَا، خَبره، وَكلمَة: مَا، استفهامية،
و: ذَا، اسْم اشارة وَالْمعْنَى: ثمَّ أَي شَيْء افضل بعد
الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله؟ وَيجوز أَن تكون الْجمل
كلهَا استفهاماً على التَّرْتِيب. قَوْله (الْجِهَاد)
مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي هُوَ
الْجِهَاد وَالتَّقْدِير: أفضل الْأَعْمَال بعد الْإِيمَان
بِاللَّه وَرَسُوله الْجِهَاد، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي
إِعْرَاب قَوْله: (ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حج مبرور) .
(بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) : فِيهِ حذف الْمُبْتَدَأ
فِي ثَلَاث مَوَاضِع الَّذِي هُوَ الْمسند إِلَيْهِ لكَونه
مَعْلُوما إحترازاً عَن الْعَبَث؛ وَفِيه تنكير الْإِيمَان
وَالْحج وتعريف الْجِهَاد، وَذَلِكَ لِأَن الايمان وَالْحج
لَا يتَكَرَّر وجوبهما بِخِلَاف الْجِهَاد فَإِنَّهُ قد
يتَكَرَّر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال،
إِذْ الْجِهَاد لَو أَتَى بِهِ مرّة مَعَ الِاحْتِيَاج
إِلَى التّكْرَار لما كَانَ أفضل. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب
عَلَيْهِ بَان التنكير من جملَة وجوهه: التَّعْظِيم،
وَهُوَ يُعْطي الْكَمَال، وَبِأَن التَّعْرِيف من جملَة
وجوهه: الْعَهْد، وَهُوَ يُعْطي الْإِفْرَاد الشخصي، فَلَا
يسلم الْفرق. قلت: هَذَا التعقيب فَاسد، لِأَنَّهُ لَا
يلْزم من كَون التَّعْظِيم من جملَة وُجُوه التنكير أَن
يكون دَائِما للتعظيم، بل يكون تَارَة للإفراد، وَتارَة
للنوعية، وَتارَة للتعظيم، وَتارَة للتحقير، وَتارَة
للتكثير، وَتارَة للتقليل. وَلَا يعرف الْفرق وَلَا
يُمَيّز إلاَّ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّة على وَاحِد
مِنْهَا، وَهَهُنَا دلّت الْقَرِينَة أَن التنكير للإفراد
الشخصي. وَقَوله: وَبَان التَّعْرِيف من وجوهه الْعَهْد
فَاسد عِنْد الْمُحَقِّقين، لِأَن عِنْدهم أصل التَّعْرِيف
للْعهد، وَفرق كثير بَين كَونه للْعهد وَبَين
(1/188)
كَون الْعَهْد من وجوهه، على أَنا، وَإِن
سلمنَا مَا قَالَه، وَلَكنَّا لَا نسلم كَونه للْعهد
هَهُنَا، لَان تَعْرِيف الإسم تَارَة يكون لوَاحِد من
أَفْرَاد الْحَقِيقَة الجنسية بِاعْتِبَار عهديته فِي
الذِّهْن، لكَونه فَردا من أفرادها، وَتارَة يكون لاستغراق
جَمِيع الْأَفْرَاد، وَلَا يفرق بَينهمَا إلاَّ
بِالْقَرِينَةِ على أَنا نقُول: إِن الْمَعْهُود الذهْنِي
فِي الْمَعْنى كالنكرة، نَحْو: رجل فَإِن السُّوق، فِي
قَوْلك: ادخل السُّوق، يحْتَمل كل فَرد فَرد من أَفْرَاد
السُّوق على الْبَدَل، كَمَا أَن: رجلا، يحْتَمل كل فَرد
فَرد من ذُكُور بني آدم على الْبَدَل، وَلِهَذَا يقدر،
يسبني، فِي قَول الشَّاعِر:
(وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني ... فمضيت ثمت، قلت:
لَا يعنيني)
وَصفا للئيم لَا حَالا، لوُجُوب كَون ذِي الْحَال
مَعْرُوفَة، واللئيم كالنكرة، فَافْهَم. فان قلت: قد وَقع
فِي (مُسْند الْحَارِث بن أبي اسامة) عَن ابراهيم بن سعد:
ثمَّ جِهَاد، بالتنكير، كَمَا وَقع: إِيمَان وَحج. قلت:
يكون التنكير فِي الْجِهَاد على هَذِه الرِّوَايَة للإفراد
الشخصي، كَمَا فِي الْإِيمَان وَالْحج، مَعَ قطع النّظر
عَن تكرره عِنْد الِاحْتِيَاج، أَو يكون التَّنْوِين فِي
الثَّلَاثَة إِشَارَة إِلَى التَّعْظِيم، وَبِهَذَا يرد
على من يَقُول: إِن التنكير والتعريف فِيهِ من تصرف
الروَاة، لِأَن مخرجه وَاحِد، فالإطالة فِي طلب الْفرق فِي
مثل هَذَا غير طائلة، وَلَقَد صدق الْقَائِل: انباض عَن
غير توتير.
بَيَان استنباط الْفَوَائِد مِنْهَا: الدّلَالَة على نيل
الدَّرَجَات بِالْأَعْمَالِ. وَمِنْهَا: الدّلَالَة على
أَن الْإِيمَان قَول وَعمل. وَمِنْهَا: الدّلَالَة على أَن
الْأَفْضَل بعد الْإِيمَان الْجِهَاد، وَبعده الْحَج
المبرور. فان قلت: فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله
عَنهُ: (أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الصَّلَاة على وَقتهَا)
ثمَّ ذكر بر الْوَالِدين، ثمَّ الْجِهَاد. وَفِي حَدِيث
ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: (أَي الاسلام خير؟ قَالَ:
تطعم الطَّعَام، وتقرأ السَّلَام على من عرفت وَمن لم
تعرف) . وَفِي حَدِيث ابي مُوسَى، رَضِي الله عَنهُ: (أَي
الْإِسْلَام افضل؟ قَالَ: من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه
وَيَده) . وَفِي حَدِيث ابي ذَر، رَضِي الله عَنهُ: سَأَلت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَي الْعَمَل أفضل؟
قَالَ: الْإِيمَان بِاللَّه وَالْجهَاد فِي سَبيله. قلت:
فَأَي الرّقاب افضل؟ قَالَ: أغلاها ثمنا وأنفسها عِنْد
أَهلهَا) الحَدِيث وَلم يذكر فِيهِ الْحَج، وَكلهَا فِي
الصَّحِيح. قلت: قد ذكر الإِمَام الْحُسَيْن بن الْحسن بن
مُحَمَّد بن حَكِيم الْحَلِيمِيّ الشَّافِعِي، عَن الْقفال
الْكَبِير الشَّافِعِي الشَّاشِي، واسْمه ابو بكر مُحَمَّد
بن عَليّ، فِي كَيْفيَّة الْجمع وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه
جرى على اخْتِلَاف الْأَحْوَال والأشخاص، كَمَا رُوِيَ
أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: حجَّة لمن يحجّ افضل من
أَرْبَعِينَ غَزْوَة، وغزوة لمن حج أفضل من أَرْبَعِينَ
حجَّة، وَالْآخر أَن لَفْظَة: من، مُرَادة، وَالْمرَاد من
أفضل الْأَعْمَال، كَذَا. كَمَا يُقَال: فلَان أَعقل
النَّاس، أَي من أعقلهم، وَمِنْه قَوْله: عَلَيْهِ
السَّلَام: (خَيركُمْ خَيركُمْ لأَهله) . وَمَعْلُوم انه
لَا يصير بذلك خير النَّاس. قلت: وبالجواب الأول أجَاب
القَاضِي عِيَاض، فَقَالَ: أعلم كل قوم بِمَا لَهُم
إِلَيْهِ حَاجَة، وَترك مَا لم تَدعهُمْ إِلَيْهِ حَاجَة،
أَو ترك مَا تقدم علم السَّائِل إِلَيْهِ أَو علمه بِمَا
لم يكمله من دعائم الْإِسْلَام وَلَا بلغه عمله، وَقد يكون
للمتأهل للْجِهَاد الْجِهَاد فِي حَقه أولى من الصَّلَاة
وَغَيرهَا، وَقد يكون لَهُ أَبَوَانِ لَو تَركهمَا لضاعا،
فَيكون برهما أفضل، لقَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (ففيهما
فَجَاهد) وَقد يكون الْجِهَاد أفضل من سَائِر الْأَعْمَال
عِنْد اسْتِيلَاء الْكفَّار على بِلَاد الْمُسلمين. قلت:
الْحَاصِل أَن اخْتِلَاف الْأَجْوِبَة، فِي هَذِه
الْأَحَادِيث لاخْتِلَاف الْأَحْوَال، وَلِهَذَا سقط ذكر
الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام فِي هَذَا الحَدِيث
الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب، وَلَا شكّ أَن الثَّلَاث
مُقَدمَات على الْحَج وَالْجهَاد، وَيُقَال: إِنَّه قد
يُقَال: خير الْأَشْيَاء كَذَا، وَلَا يُرَاد أَنه خير من
جَمِيع الْوُجُوه فِي جَمِيع الْأَحْوَال والاشخاص، بل فِي
حَال دون حَال، فَإِن قيل: كَيفَ قدم الْجِهَاد على
الْحَج، مَعَ أَن الْحَج من أَرْكَان الاسلام، وَالْجهَاد
فرض كِفَايَة؟ يُقَال: إِنَّمَا قدمه للاحتياج إِلَيْهِ
أول الْإِسْلَام، ومحاربة الْأَعْدَاء، وَيُقَال: إِن
الْجِهَاد قد يتَعَيَّن كَسَائِر فروض الْكِفَايَة، وَإِذا
لم يتَعَيَّن لم يَقع الاَّ فرض كِفَايَة، وَأما الْحَج
فَالْوَاجِب مِنْهُ حجَّة وَاحِدَة، وَمَا زَاد نفل فَإِن
قابلت وَاجِب الْحَج بمتعيّن الْجِهَاد، كَانَ الْجِهَاد
أفضل لهَذَا الحَدِيث، وَلِأَنَّهُ شَارك الْحَج فِي
الْفَرْضِيَّة، وَزَاد بِكَوْنِهِ نفعا مُتَعَدِّيا إِلَى
سَائِر الْأمة، وبكونه ذبا عَن بَيْضَة الْإِسْلَام. وَقد
قيل: ثمَّ، هَهُنَا للتَّرْتِيب فِي الذّكر كَقَوْلِه
تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} (الْبَلَد: 17)
وَقيل: ثمَّ لَا يَقْتَضِي ترتيباً، فَإِن قابلت نفل
الْحَج بِغَيْر متعيّن الْجِهَاد، كَانَ الْجِهَاد أفضل
لما أَنه يَقع فرض كِفَايَة، وَهُوَ أفضل من النَّفْل
بِلَا شكّ؛ وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كتاب
(الغياثى) : فرض الْكِفَايَة عِنْدِي أفضل من فرض الْعين
من حَيْثُ أَن فعله مسْقط للْحَرج عَن الْأمة بأسرها،
وبتركه يعْصى المتمكنون مِنْهُ كلهم، وَلَا شكّ فِي عظم
وَقع مَا هَذِه صفته، وَالله اعْلَم.
(1/189)
|