عمدة القاري شرح صحيح البخاري

19- (بابُ إذَا لَمْ يَكُنِ الإسْلاَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وكانَ عَلَى الإستسْلاَمِ أَو الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالىَ {قَالَتِ الاَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنَا} فَاذَا كانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهْوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكرُهُ {إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ وَمَنْ يَبْتَغ غَيْرَ الاِسْلاَمِ دِيِناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه الاول: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ هُوَ أَن فِي الْبَاب الأول ذكر الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله، وَفِي هَذَا الْبَاب يبين ان الْمُعْتَبر المعتد بِهِ من هَذَا الْإِيمَان مَا هُوَ. الثَّانِي: يجوز فِي قَوْله بَاب، الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا الْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي بعده، وَتَكون كلمة إِذا، للظرفية الْمَحْضَة، وَالتَّقْدِير: بَاب حِين عدم كَون الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة. وَالْوَجْه الآخر: أَن يَنْقَطِع عَن الْإِضَافَة وَتَكون، إِذا، متضمنة معنى الشَّرْط، وَالْجَزَاء مَحْذُوف. وَالتَّقْدِير: بَاب إِن لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة لَا يعْتد بِهِ، أَو لَا يَنْفَعهُ، أَو لَا ينجيه، وَنَحْو ذَلِك. وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ ارْتِفَاع بَاب على انه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. اي: هَذَا بَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت إِذا، للاستقبال، وَلم، لقلب الْمُضَارع مَاضِيا، فَكيف اجْتِمَاعهمَا؟ قلت: إِذا، هُنَا لمُجَرّد الْوَقْت، وَيحْتَمل أَن يُقَال: لم، لنفي الْكَوْن المقلوب مَاضِيا، و: اذا، لاستقبال ذَلِك النَّفْي. الثَّالِث: مُطَابقَة الْآيَات للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة أَن الْإِسْلَام إِذا لم يكن على الْحَقِيقَة لَا ينفع، والآيات تدل على ذَلِك على مَا لَا يخفى. الرَّابِع: قَوْله: (على الاستسلام) اي الانقياد الظَّاهِر فَقَط وَالدُّخُول فِي السّلم وَلَيْسَ هَذَا إسلاما على الْحَقِيقَة، وإلاَّ لما صَحَّ نفي الايمان عَنْهُم، لَان الْإِيمَان والاسلام وَاحِد عِنْد البُخَارِيّ، وَكَذَا عِنْد آخَرين، لِأَن الْإِيمَان شَرط صِحَة الْإِسْلَام عِنْدهم. قَوْله: (أَو الْخَوْف أَو الْقَتْل) أَي وَكَانَ الْإِسْلَام على الْخَوْف من الْقَتْل، وَكلمَة على التَّعْلِيل، قَوْله: (فَهُوَ على قَوْله) اي: فَهُوَ وَارِد على مُقْتَضى قَوْله، عز وَجل {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: 19) الْخَامِس: الْكَلَام فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَت الاعراب} (الحجرات: 14) الْآيَة، وَهُوَ على انواع. الأول: فِي سَبَب نُزُولهَا، وَهُوَ مَا ذكره الواحدي: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أَعْرَاب من بني أَسد بن خُزَيْمَة قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فِي سنة جدبة، واظهروا الشَّهَادَتَيْنِ وَلم يَكُونُوا مُؤمنين فِي السِّرّ، وافسدوا طرق الْمَدِينَة بالعذرات، واغلوا أسعارها، وَكَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَتَيْنَاك بالاثقال والعيال وَلم نقاتلك كَمَا قَاتلك بَنو فلَان، فَأَعْطِنَا من الصَّدَقَة، وَجعلُوا يمنون عَلَيْهِ، فَانْزِل الله تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة. النَّوْع الثَّانِي: فِي مَعْنَاهَا، فَقَوله: (الاعراب) هم: أهل البدو قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ وَفِي (الْعباب) : وَلَا وَاحِد للأعراب، وَلِهَذَا نسب إِلَيْهَا وَلَا ينْسب إِلَى الْجمع وَلَيْسَت الْأَعْرَاب جمعا للْعَرَب كَمَا كَانَت الأنباط جمعا للنبط، وَإِنَّمَا الْعَرَب اسْم جنس، سميت الْعَرَب لِأَنَّهُ نَشأ أَوْلَاد أسماعيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بعربة، وَهِي من تهَامَة، فنسبوا إِلَى بلدهم، وكل من سكن بِلَاد الْعَرَب وجزيرتها ونطق بِلِسَان اهلها فَهُوَ عرب: يمنهم ومعدهم، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: وَالْأَقْرَب عِنْدِي أَنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات. وَقَالَ اسحق بن الْفرج: عربة باجة الْعَرَب، وباجة الْعَرَب دَار أبي الفصاحة اسماعيل بن ابراهيم عَلَيْهِمَا السَّلَام، قَالَ: وفيهَا يَقُول قَائِلهمْ:
(وعربة أَرض مَا يُحِلُّ حرامَها ... من النَّاس إلاَّ اللوذعيُّ الحُلاحل)

يعْنى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احلت لَهُ مَكَّة سَاعَة من نَهَار، ثمَّ هِيَ حرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ: واضطر الشَّاعِر إِلَى تسكين الرَّاء من عربة، فسكنها. قلت: اللوذعي: الْخَفِيف الذكي، الظريف الذِّهْن، الْحَدِيد الْفُؤَاد، الفصيح اللِّسَان، كَأَنَّهُ يلذع بالنَّار من ذكائه وحرارته. والحُلاحل، بِضَم الْحَاء الأولى وَكسر الثَّانِيَة كِلَاهُمَا مهملتان: السَّيِّد الركين. وَيجمع على حَلاحل بِالْفَتْح. قَوْله {آمنا} (الحجرات: 14) مقول قَوْلهم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْإِيمَان: هُوَ التَّصْدِيق بِاللَّه مَعَ الثِّقَة وطمأنينة النَّفس، والاسلام: الدُّخُول فِي السّلم وَالْخُرُوج من ان يكون حَربًا للْمُؤْمِنين بِإِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ ألاَ ترى إِلَى قَوْله: {وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} (الحجرات: 14) فَاعْلَم أَن كل مَا يكون من الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ من غير مواطأة الْقلب فَهُوَ إِسْلَام، وَمَا واطأ فِيهِ الْقلب اللِّسَان فَهُوَ ايمان. فان قلت: مَا وَجه قَوْله: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا اسلمنا} (الحجرات: 14) وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نظم الْكَلَام أَن يُقَال: قل لَا تَقولُوا آمنا وَلَكِن قُولُوا اسلمنا؟ قلت: أَفَادَ هَذَا النّظم تَكْذِيب دَعوَاهُم أَولا، وَدفع مَا انتحلوه، فَقيل: قل لم تؤمنوا، وروعي فِي هَذَا النَّوْع من التَّكْذِيب أدب حسن حِين لم يُصَرح بِلَفْظِهِ، فَلم يقل: كَذبْتُمْ، وَاسْتغْنى بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ: لم تؤمنوا، عَن أَن يُقَال: لَا تَقولُوا، الاستهجان أَن يخاطبوا بِلَفْظ مؤداه النَّهْي عَن القَوْل بِالْإِيمَان. فان قلت: قَوْله: {وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} (الحجرات: 14) بعد قَوْله: {قل لم تؤمنوا} (الحجرات: 14) يشبه التّكْرَار من غير اسْتِقْلَال بفائدة متجددة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك

(1/190)


فَإِن فَائِدَة قَوْله {لم تؤمنوا} (الحجرات: 14) تَكْذِيب دَعوَاهُم وَقَوله: {وَلما يدْخل الايمان فِي قُلُوبكُمْ} (الحجرات: 14) تَوْقِيت لما امروا بِهِ ان يَقُولُوا، كَأَنَّهُ قيل لَهُم: وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا، حِين لم تثبت مواطأة قُلُوبكُمْ لألسنتكم. النَّوْع الثَّالِث: قَالَ ابو بكر بن الطّيب: هَذِه الْآيَة حجَّة على الكرامية وَمن وافقهم من المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الايمان هُوَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب، وَقد رد الله تَعَالَى قَوْلهم فِي مَوضِع آخر من كِتَابه فَقَالَ: {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الايمان} (المجادلة: 22) وَلم يقل: كتب فِي ألسنتهم، وَمن أقوى مَا يرد عَلَيْهِم بِهِ الْإِجْمَاع على كفر الْمُنَافِقين، وَإِن كَانُوا قد اظهروا الشَّهَادَتَيْنِ. النَّوْع الرَّابِع: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِذكر هَذِه الْآيَة هَهُنَا على أَن الاسلام الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمُعْتَبر وَهُوَ الْإِيمَان الَّذِي هُوَ عقد الْقلب الْمُصدق لإقرار اللِّسَان الَّذِي لَا ينفع عِنْد الله غَيره، أَلا ترى كَيفَ قَالَ تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا} (الحجرات: 14) حَيْثُ قَالُوا بألسنتهم دون تَصْدِيق قُلُوبهم. وَقَالَ: {وَلما يدْخل الايمان فِي قُلُوبكُمْ} (الحجرات: 14) .
الْوَجْه السَّادِس: فِي قَوْله تَعَالَى: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: 19) وَالْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: ان هَذِه الْجُمْلَة مستأنفة مُؤَكدَة للجملة الاولى، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {شهد الله أَنه لَا اله الا هُوَ} (آل عمرَان: 18) الْآيَة، وقرىء بِفَتْح: أَن، على الْبَدَلِيَّة من الأول، كَأَنَّهُ قَالَ: شهد الله أَن الدّين عِنْد الله الاسلام، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: ان الدّين عِنْد الله للاسلام، بلام التَّأْكِيد فِي الْخَبَر. الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيّ: لما ظهر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْمَدِينَةِ قدم عَلَيْهِ حبران من أَحْبَار أهل الشَّام، فَلَمَّا أبصرا الْمَدِينَة قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: مَا أشبه هَذِه الْمَدِينَة بِصفة مَدِينَة النَّبِي الَّذِي يخرج فِي آخر الزَّمَان، فَلَمَّا دخلا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعرفاه بِالصّفةِ والنعت قَالَا لَهُ: أَنْت مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم. قَالَا: وَأَنت أَحْمد؟ قَالَ: نعم، قَالَا: إِنَّا نَسْأَلك عَن شَهَادَة، فَإِن أَنْت أخبرتنا بهَا آمنا بك وَصَدَّقنَاك. قَالَ لَهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سلاني) . فَقَالَا: أخبرنَا عَن أعظم شَهَادَة فِي كتاب الله تَعَالَى، فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {شهد الله} الى قَوْله {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: 19) ؛ فَأسلم الرّجلَانِ وصدقا برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام. الثَّالِث: ان البُخَارِيّ اسْتدلَّ بهَا على أَن الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ هُوَ الدّين، لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَن الدّين هُوَ الاسلام، فَلَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا، وَاسْتدلَّ بهَا أَيْضا على أَن الْإِسْلَام والايمان وَاحِد، وأنهما مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْمُحدثين، وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة والمتكلمين؛ وَقَالُوا أَيْضا: إِنَّه اسْتثْنى الْمُسلمين من الْمُؤمنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} (الذاريات: 35) وَالْأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء أَن يكون الْمُسْتَثْنى من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَيكون الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان، وعورض بقوله تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} (الحجرات: 14) فَلَو كَانَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِدًا لزم إِثْبَات شَيْء ونفيه فِي حَالَة وَاحِدَة، وانه محَال.
الْوَجْه السَّابِع فِي قَوْله تَعَالَى: {من يبتغ غير الاسلام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} (آل عمرَان: 19) وَالْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن. الأول: فِي مَعْنَاهُ، فَقَوله: {وَمن يبتغ} (آل عمرَان: 19) اي: وَمن يطْلب، من بغيت الشَّيْء طلبته، وبغيتك الشَّيْء طلبته لَك يُقَال بغى بغية وبغاء بِالضَّمِّ وبغاية. قَوْله {فَلَنْ يقبل مِنْهُ} (آل عمرَان: 19) جَوَاب الشَّرْط. قَوْله: {هُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} (آل عمرَان: 19) اي: من الَّذين وَقَعُوا فِي الخسران مُطلقًا من غير تَقْيِيد، قصدا للتعميم. وقرىء وَمن يبتغ غير الاسلام، بالادغام. الثَّانِي: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ مثل مَا اسْتدلَّ بقوله: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: 19) وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على اتِّحَاد الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، لَان الْإِيمَان لَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا. واجيب: بِأَن الْمَعْنى: وَمن يبتغ دينا غير دين مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَنْ يقبل مِنْهُ. قلت: ظَاهره يدل على أَنه لَو كَانَ الْإِيمَان غير الاسلام لم يقبل قطّ، فَتعين أَن يكون عينه، لَان الْإِيمَان هُوَ الدّين، وَالدّين هُوَ الاسلام، لقَوْله تَعَالَى: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: 19) فينتج أَن الْإِيمَان هُوَ الْإِسْلَام، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى فِي أول كتاب الايمان.

27 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ أخبْرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبى وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ رضى الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَى رَهْطاً وَسَعْدٌ جَالِسٌ فَتَرَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلاً هُوَ أعْجَبُهُمْ إلَيّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَالَكَ عَنْ فُلاَنٍ فَوَاللهِ إنّي لأَرَاِهُ مُؤْمِنَا فقالَ أوْ مُسْلِماً فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُم غَلَبَنِى مَا أعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ

(1/191)


مَالكَ عَنْ فُلاَنٍ فَوَاللهِ إنِي لأَرَاهُ مُؤْمِناً فقالَ أوْ مُسلِماً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْت لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ مَالكَ عَنْ فُلاَنٍ فَوَاللَّهِ إنِي لأَرَاهُ مُؤْمِناً فقالَ أوْ مُسلِماً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْت لِمَقَالَتِي وَعَادَ رسولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قالَ يَا سَعْدُ إنى لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ خَشيَةَ أنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّار..
(الحَدِيث 27 طرفه فِي: 1478) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن الاسلام إِن لم يكن على الْحَقِيقَة لَا يقبل، فَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (أَو مُسلما) لِأَن فِيهِ النَّهْي عَن الْقطع بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ بَاطِن لَا يُعلمهُ إلاَّ الله، وَالْإِسْلَام مَعْلُوم بِالظَّاهِرِ. وَقَالَ بَعضهم: مُنَاسبَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُسلم يُطلق على من أظهر الْإِسْلَام، وَإِن لم يعلم بَاطِنه. قلت: لَيست الْمُنَاسبَة إلاَّ مَا ذَكرْنَاهُ، فَإِن مَوْضُوع الْبَاب لَيْسَ على إِطْلَاق الْمُسلم على من يظْهر الْإِسْلَام على مَا لَا يخفى.
(بَيَان رِجَاله:) وهم خَمْسَة. الأول: ابو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي. الثَّانِي: شُعَيْب بن ابي حَمْزَة الاموي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عَامر بن سعد بن ابي وَقاص الْقرشِي الزُّهْرِيّ، سمع اباه وَعُثْمَان وَجَابِر بن سَمُرَة وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة، روى عَنهُ سعد بن الْمسيب وَسعد بن ابراهيم وَالزهْرِيّ وَآخَرُونَ، وَكَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو أَربع وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: ابو إِسْحَاق سعد بن ابي وَقاص، بِالْقَافِ الْمُشَدّدَة، من الوقص وَهُوَ الْكسر، واسْمه مَالك بن وهيب، وَيُقَال: اهيب بن عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب الْقرشِي، اُحْدُ الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، وَأحد السِّتَّة أَصْحَاب الشورى الَّذين جعل عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، أَمر الْخلَافَة إِلَيْهِم، وَأمه حمْنَة بنت سُفْيَان اخي حَرْب، وأخوته بني امية ابْن عبد شمس، يلتقي سعد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كلاب، وَهُوَ الْأَب الْخَامِس، أسلم قَدِيما وَهُوَ ابْن ارْبَعْ عشرَة سنة بعد أَرْبَعَة، وَقيل بعد سِتَّة، وَشهد بَدْرًا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَكَانَ مجاب الدعْوَة، وَهُوَ اول من رمى بِسَهْم فِي سَبِيل الله، واول من أراق دَمًا فِي سَبِيل الله، وَكَانَ يُقَال لَهُ: فَارس الاسلام، وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، هَاجر إِلَى الْمَدِينَة قبل قدوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اليها، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِائَتَا حَدِيث وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على خَمْسَة عشر وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة، وَمُسلم بِثمَانِيَة عشر، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَهُوَ الَّذِي فتح مَدَائِن كسْرَى فِي زمن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وولاه عمر الْعرَاق وَهُوَ الَّذِي بنى الْكُوفَة، وَلما قتل عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ إعتزل سعد الْفِتَن، وَمَات بقصره بالعقيق على عشرَة اميال من الْمَدِينَة سنة سبع وَخمسين وَقيل خمس وَهُوَ ابْن بضع وَسبعين سنة، وَحمل إِلَى الْمَدِينَة على أرقاب الرِّجَال، وَصلى عَلَيْهِ مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ يَوْمئِذٍ وَالِي الْمَدِينَة، وَدفن بِالبَقِيعِ وَهُوَ آخر الْعشْرَة موتا، وَعَن مُحَمَّد بن سعد عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: أقبل سعد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس فَقَالَ: هَذَا خَالِي فليرني امْرُؤ خَاله، وَذَلِكَ أَن أمه، عَلَيْهِ السَّلَام، آمِنَة بنت وهب بن عبد منَاف وَسعد هُوَ ابْن مَالك بن وهيب اخي وهب ابْني عبد منَاف، وَفِي الصَّحَابَة من اسْمه سعد فَوق الْمِائَة. وَالله اعْلَم.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: ان فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: ان فِيهِ ثَلَاثَة زهريين مدنيين. وَمِنْهَا: ان فِيهِ ثَلَاثَة تابعين يروي بَعضهم عَن بعض: ابْن شهَاب وعامر وَصَالح، وَصَالح اكبر من ابْن شهَاب لِأَنَّهُ اِدَّرَكَ ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَمِنْهَا: ان فِيهِ رِوَايَة الأكابر عَن الاصاغر. وَمِنْهَا: ان قَوْله: عَن سعد ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَكَذَا هُوَ هُنَا وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَن سعد هُوَ ابْن ابي وَقاص.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: اخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن ابي الْيَمَان عَن شُعَيْب، وَأخرجه فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن عَزِيز حَدثنَا يَعْقُوب بن ابراهيم عَن ابيه عَن صَالح، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ عَن عَامر. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان وَالزَّكَاة، عَن ابْن عمر وَعَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ، وَعَن زُهَيْر عَن يَعْقُوب بن ابراهيم عَن ابيه عَن صَالح، كلهم عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَفِي الزَّكَاة عَن اسحاق بن ابراهيم وَعبد بن حميد انبأنا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه ابو دَاوُد ايضاً من طَرِيق معمر، وَقد اعْترض على مُسلم فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث فِي قَوْله: عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَرَوَاهُ الْحميدِي، وَسَعِيد بن عبد الرَّحْمَن، وَمُحَمّد بن الصَّباح الجرجراي، كلهم عَن سُفْيَان عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَن سفيانٍ ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي الاستدراكات على مُسلم، وَأجَاب النَّوَوِيّ بِأَنَّهُ يحْتَمل ان سُفْيَان سَمعه من الزُّهْرِيّ مرّة

(1/192)


وَمن معمر عَن الزُّهْرِيّ، فَرَوَاهُ على الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ بعض الشُّرَّاح: وَفِيمَا ذكره نظر، وَلم يبين وَجهه، وَوَجهه ان مُعظم الرِّوَايَات فِي الْجَوَامِع وَالْمَسَانِيد عَن ابْن عُيَيْنَة عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِزِيَادَة معمر بَينهمَا، وَالرِّوَايَات قد تظافرت عَن ابْن عُيَيْنَة باثبات معمر، وَلم يُوجد بإسقاطه إلاَّ عِنْد مُسلم، وَالْمَوْجُود فِي مُسْند شيخ مُسلم، مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر بِلَا إِسْقَاط، وَكَذَلِكَ اخْرُج ابو نعيم فِي مستخرجه من طَرِيقه، وَزعم ابو مَسْعُود فِي (الْأَطْرَاف) أَن الْوَهم من ابْن ابي عمر، وَيحْتَمل ذَلِك بِأَن صدر مِنْهُ الْوَهم لما حدث بِهِ مُسلما، وَلَكِن هَذَا احْتِمَال غير مُتَعَيّن، وَيحْتَمل ان يكون الْوَهم من مُسلم، وَيحْتَمل ان يكون مثل مَا قَالَه النَّوَوِيّ، وَبَاب الِاحْتِمَالَات مَفْتُوح.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (رهطا) ، قَالَ ابْن التياني: قَالَ ابو زيد: الرَّهْط مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال، وَقَالَ صَاحب (الْعين) الرَّهْط عدد جمع من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، وَبَعض يَقُول من سَبْعَة إِلَى عشرَة، وَمَا دون السَّبْعَة إِلَى الثَّلَاثَة نفر، وَتَخْفِيف الرَّهْط أَحسن، تَقول: هَؤُلَاءِ رهطك وراهطك، وهم رجال عشيرتك. وَعَن ثَعْلَبَة: الرَّهْط بَنو الْأَب الْأَدْنَى. وَعَن النَّصْر: جَاءَنَا أرهوط مِنْهُم، مثل: اركوب، وَالْجمع أرهط وأراهط، وَفِي (الْمُحكم) : لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَقد يكون الرَّهْط من الْعشْرَة، وَفِي (الْجَامِع) و (الجمهرة) : الرَّهْط من الْقَوْم وَهُوَ مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَرُبمَا جاوزوا ذَلِك قَلِيلا ورهط الرجل بَنو أَبِيه وَيجمع على ارهط وَيجمع الْجمع على أرهاط. وَفِي (الصِّحَاح) : رَهْط الرجل قومه وقبيلته. يُقَال: هم رَهْط دينه، والرهط: مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَا يكون فيهم امْرَأَة، وَالْجمع أرهط وأرهاط وأراهط. وَفِي (مجمع الغرائب) : الرَّهْط جمَاعَة غير كثيري الْعدَد. قَوْله: (هُوَ أعجبهم إِلَيّ) أَي: أفضلهم وأصلحهم فِي اعتقادي. قَوْله: (عَن فلَان) ، لَفْظَة: فلَان، كِنَايَة عَن اسْم سمي بِهِ الْمُحدث عَنهُ الْخَاص، وَيُقَال فِي غير النَّاس: الفلان والفلانة بالالف وَاللَّام. قَوْله: (فعدت لمقالتي) يُقَال: عَاد لكذا، إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ، والمقالة والمقال مصدران ميميان بِمَعْنى القَوْل. قَوْله: (ان يكبه الله) ، بِفَتْح الْيَاء وَضم الْكَاف، أَي: يلقيه منكوساً، هَذَا من النَّوَادِر على عكس الْقَاعِدَة الْمَشْهُورَة، فَإِن الْمَعْرُوف أَن يكون الْفِعْل اللَّازِم بِغَيْر الْهمزَة، والمتعدي بِالْهَمْزَةِ، فان أكب لَازم، وكب متعدٍ وَنَحْوه: أحجم وحجم، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا فِي كتاب الزَّكَاة، فَقَالَ: أكب الرجل إِذا كَانَ فعله غير وَاقع على أحد، فَإِذا وَقع الْفِعْل قلت: كَبه وكببته، وَجَاء نَظِير هَذَا فِي أحرف يسيرَة. مِنْهَا: انْسَلَّ ريش الطَّائِر ونسلته، وأنزفت الْبِئْر ونزفتها أَنا، وأمريت النَّاقة درت لَبنهَا ومريتها أَنا، وأنشق الْبَعِير رفع رَأسه وشنقتها أَنا، وأقشع الْغَيْم وقشعته الرّيح وَحكى ابْن الاعرابي فِي الْمُتَعَدِّي: كَبه وأكبه مَعًا، وَفِي (الْعباب) يُقَال: كَبه الله لوجهه: صرعه على وَجهه، يُقَال: كب الله الْعَدو، وأكب على وَجهه: سقط. وَهَذَا من النَّوَادِر، أَن يُقَال: أفعلت أَنا وَفعلت غَيْرِي.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعطى) تَقْدِير الْكَلَام عَن سعد، قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعطى، و: أعْطى، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر إِن، و: رهطاً، مَنْصُوب على انه مفعول: أعْطى، وَقد علم أَن بَاب: اعطيت، يجوز فِيهِ الِاقْتِصَار على أحد مفعوليه، تَقول: اعطيت زيدا، وَلَا تذكر مَا أَعْطيته، أَو أَعْطَيْت درهما، وَلَا تذكر من أعطتيه. وَقَوله: (اعطى رهطا) ، من قبيل الأول، وَالتَّقْدِير: أعْطى رهطاً شَيْئا من الدُّنْيَا؛ بِخِلَاف أَفعَال الْقُلُوب فَإِنَّهُ لَا يجوز الِاقْتِصَار فِيهَا على أحد المفعولين عَن لِأَنَّهَا دَاخِلَة على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، فَكَمَا لَا يَسْتَغْنِي الْمُبْتَدَأ عَن الْخَبَر وَلَا الْخَبَر عَن الْمُبْتَدَأ، فَكَذَلِك لَا يَسْتَغْنِي أحد المفعولين عَن صَاحبه، وَلَكِن يجوز أَن يسكت عَنْهُمَا جَمِيعًا، ويجعلان نسياً منسياً، نَحْو قَوْله: من يسمع يخل، كَمَا فِي قَوْلهم: فلَان يُعْطي وَيمْنَع. قَوْله: (وَسعد جَالس) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (رجلا) ، مفعول لقَوْله: (ترك) واسْمه جعيل بن سراقَة الضمرِي، سَمَّاهُ الْوَاقِدِيّ فِي الْمَغَازِي. قَوْله: (هُوَ أعجبهم إِلَيّ) ، جملَة اسمية فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله: (رجلا) ، قَوْله: (مَا لَك عَن فلَان) ، أَي: أَي شَيْء حصل لَك أَعرَضت عَن فلَان، أَو عداك عَن فلَان، أَو من جِهَة فلَان، بِأَن لم تعطه؟ وَكلمَة: مَا، للاستفهام، و: اللَّام، تتَعَلَّق بِمَحْذُوف، وَكَذَلِكَ كلمة: عَن، وَهُوَ حصل فِي اللَّام، وأعرضت وَنَحْوه فِي: عَن قَوْله: (فوَاللَّه) مجرور بواو الْقسم. قَوْله: (لأُراه) ، وَقع بِضَم الْهمزَة هَهُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره، وَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاة، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره. وَقَالَ ابو الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ: الرِّوَايَة بِضَم الْهمزَة من: أرَاهُ، بِمَعْنى: أَظُنهُ. وَقَالَ النووى: هُوَ بِفَتْح الْهمزَة، أَي: أعلمهُ، وَلَا يجوز ضمهَا على أَن يَجْعَل بِمَعْنى أَظُنهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: ثمَّ غلبني مَا أعلم مِنْهُ، ولانه رَاجع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرَارًا، فَلَو لم يكن جَازِمًا

(1/193)


باعتقاده لما كرر الْمُرَاجَعَة. وَقَالَ بَعضهم: لَا دلَالَة فِيمَا ذكر على تعين الْفَتْح لجَوَاز إِطْلَاق الْعلم على الظَّن الْغَالِب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فان علمتموهن مؤمنات} (الممتحنة: 10) سلمنَا، لَكِن لَا يلْزم من إِطْلَاق الْعلم أَن لَا تكون مقدماته ظنية، فَيكون نظرياً لَا يقينياً. قلت: بل الَّذِي ذكره يدل على تعين الْفَتْح، لِأَن قسم سعد وتأكيد كَلَامه بِأَن وَاللَّام وصوغه فِي صُورَة الإسمية، ومراجعته إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتكرار نِسْبَة الْعلم إِلَيْهِ يدل على أَنه كَانَ جَازِمًا باعتقاده، وَهَذَا لَا يشك فِيهِ، وَقَوله: لَكِن لَا يلْزم من إِطْلَاق الْعلم الخ، لَا يساعد هَذَا الْقَائِل، لِأَن سَعْدا وَقت الْإِخْبَار كَانَ عَالما بِالْجَزْمِ، لما ذكرنَا من الدَّلَائِل عَلَيْهِ، فَكيف يكون نظرياً لَا يقينيا فِي ذَلِك الْوَقْت؟ . قَوْله: (فَقَالَ) ، اي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (أَو مُسلما) قَالَ القَاضِي: هُوَ بِسُكُون الْوَاو على أَنَّهَا: أَو، الَّتِي للتقسيم والتنويع، أَو للشَّكّ والتشريك، وَمن فتحهَا أَخطَأ وأحال الْمَعْنى، وَيُقَال: امْرَهْ أَن يقولهما مَعًا لِأَنَّهُ أحوط، لِأَن قَوْله: اَوْ مُسلما، لَا يقطع بايمانه. وروى ابْن أبي شيبَة، عَن زيد بن حبَان، عَن عَليّ بن مسْعدَة الْبَاهِلِيّ؛ ثَنَا قَتَادَة، عَن انس يرفعهُ: (الاسلام عَلَانيَة والايمان فِي الْقلب ثمَّ يُشِير بِيَدِهِ إِلَى صَدره التَّقْوَى هَهُنَا، التَّقْوَى هَهُنَا) وَيرد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن الْأَعرَابِي فِي (مُعْجَمه) فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: (لَا تقل: مُؤمن قل: مُسلم) . وَالَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: قَالَ ابْن عدي: هُوَ غير مَحْفُوظ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَعْنَاهُ أَن لَفْظَة الْإِسْلَام أولى أَن يَقُولهَا لِأَنَّهَا مَعْلُومَة بِحكم الظَّاهِر، وَأما الْإِيمَان فباطن لَا يُعلمهُ إلاَّ الله تَعَالَى، وَقَالَ صَاحب (التَّحْرِير) فِي (شرح صَحِيح مُسلم) : هَذَا حكم على فلَان بِأَنَّهُ غير مُؤمن. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِيهِ إِنْكَار كَونه مُؤمنا، بل مَعْنَاهُ النَّهْي عَن الْقطع بِالْإِيمَان لعدم مُوجب الْقطع، وَقد غلط من توهم كَونه حكما بِعَدَمِ الْإِيمَان، بل فِي الحَدِيث إِشَارَة إِلَى إيمَانه، وَهُوَ قَوْله: (لأعطي الرجل وَغَيره أحب إِلَيّ مِنْهُ) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يكون الحَدِيث دَالا على مَا عقد لَهُ الْبَاب، وَأَيْضًا لَا يكون لرد الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، على سعد فَائِدَة، وَلَئِن سلمنَا أَن فِيهِ إِشَارَة إِلَيْهِ فَذَلِك حصل بعد تكْرَار سعد إخْبَاره بإيمانه، وَجَاز أَن يُنكر أَولا ثمَّ يسلم آخرا، لحُصُول أَمر يُفِيد الْعلم بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ تعقب مَرْدُود، وَلم يبين وَجهه، ثمَّ قَالَ: وَقد بَينا وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة قبل. قلت: قد بَينا نَحن أَيْضا هُنَاكَ أَن الَّذِي ذكره لَيْسَ بِوَجْه صَحِيح، فليعد إِلَيْهِ هُنَاكَ. قَوْله: (قَلِيلا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: سكُوتًا قَلِيلا. قَوْله: (مَا أعلم) كلمة مَا، مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع على أَنه فَاعل: غلبني، قَوْله: (غَيره أحب إِلَيّ مِنْهُ) : جملَة اسمية وَقعت حَالا، وَهَكَذَا هُوَ عِنْد أَكثر الروَاة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أعجب إِلَيّ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ بعد قَوْله: (أحب إِلَيّ مِنْهُ، وَمَا أعْطِيه إلاَّ مَخَافَة أَن يكبه الله) . إِلَى آخِره قَوْله: (خشيَة) ، نصب على أَنه مفعول لَهُ لأعطي، أَي: لأجل خشيَة أَن يكبه الله، بِإِضَافَة خشيَة إِلَى مَا بعده، وَأَن، مَصْدَرِيَّة. وَالتَّقْدِير: لاجل خشيَة كب الله إِيَّاه فِي النَّار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: سَوَاء فِيهِ رِوَايَة التَّنْوِين مَعَ تنكيره، وَتَقْدِيره: لأجل خشيَة من أَن يكبه الله. وَرِوَايَة الْإِضَافَة مَعَ تعريفة لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى أَن مَعَ الْفِعْل، وَأَن مَعَ الْفِعْل معرفَة، وَيجوز فِي الْمَفْعُول لأَجله التَّعْرِيف والتنكير. قلت: لَا حَاجَة فِيهِ إِلَى تَقْدِير: من، لعدم الدَّاعِي إِلَى تقديرها، بل لَفْظَة: خشيَة، مُضَاف إِلَى مَا بعْدهَا على التَّقْدِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان: فِيهِ حذف الْمَفْعُول الثَّانِي من بَاب: اعطيت فِي الْمَوْضِعَيْنِ الأول: فِي قولهِ أعْطى رهطاً، وَالثَّانِي: فِي قَوْله: إِنِّي لاعطي الرجل، تَنْبِيها على التَّعْمِيم بِأَيّ شَيْء كَانَ، أَو جعل الْمُتَعَدِّي إِلَى اثْنَيْنِ كالمتعدي إِلَى وَاحِد، وَالْمعْنَى إِيجَاد هَذِه الْحَقِيقَة، يَعْنِي ايجاد الْإِعْطَاء. والفائدة فيهمَا قصد الْمُبَالغَة، وَفِيه من بَاب الإلتفات، وَهُوَ فِي قَوْله: (أعجبهم إِلَيّ) لِأَن السِّيَاق كَانَ يَقْتَضِي أَن يُقَال: اعجبهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَسعد جَالس، وَلم يقل: وَأَنا جَالس، وَهُوَ الْتِفَات من الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم. وَأما قَوْله: (وَسعد جَالس) فَفِيهِ وَجْهَان. الأول: أَن يكون فِيهِ الْتِفَات على قَول صَاحب (الْمِفْتَاح) من التَّكَلُّم الَّذِي هُوَ مُقْتَضى الْمقَام إِلَى الْغَيْبَة، واما على قَول غَيره، فَلَيْسَ فِيهِ الْتِفَات لأَنهم شرطُوا أَن يكون الِانْتِقَال من التَّكَلُّم وَالْخطاب والغيبة محققاً. وَصَاحب (الْمِفْتَاح) لم يشْتَرط ذَلِك، بل قَالَ: الِانْتِقَال أَعم أَن يكون محققاً أَو مُقَدرا. وَالْوَجْه الثَّانِي: ان يكون هَذَا من بَاب التَّجْرِيد، وَهُوَ ان يجرد من نَفسه شخصا ويخبر عَنهُ، وَذَلِكَ أَن الْقيَاس فِي قَوْله: (وَسعد جَالس) أَن يَقُول: وَأَنا جَالس، وَلكنه جرد من نَفسه ذَلِك وَأخْبر عَنهُ بقوله: (جَالس) وَهُوَ من محسنات الْكَلَام من الضروب المعنوية الراجعة إِلَى وَظِيفَة البلاغة، وَفِيه من بَاب الْكِنَايَة: وَهُوَ فِي قَوْله: (خشيَة ان يكبه الله) ، لِأَن الكب فِي النَّار لَازم الْكفْر، فَأطلق اللَّازِم وَأَرَادَ الْمَلْزُوم، وَهُوَ كِنَايَة،

(1/194)


وَلَيْسَ بمجاز. فَإِن قلت: لم لَا يكون مجَازًا من بَاب إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم إِذْ الْمُلَازمَة فِي الْكِنَايَة لَا بُد ان تكون مُسَاوِيَة؟ قلت: شَرط الْمجَاز امْتنَاع معنى الْمجَاز والحقيقة، وَهَهُنَا لَا امْتنَاع فِي اجْتِمَاع الْكفْر والكب، فَهُوَ كِنَايَة لَا غير. فَإِن قلت: الكب قد يكون للمعصية، فَلَا يسْتَلْزم الْكفْر. قلت: المُرَاد من الكب كب مَخْصُوص لَا يكون إلاَّ للْكَافِرِ، وإلاَّ فَلَا تصح الْكِنَايَة أَيْضا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن المُرَاد كب مَخْصُوص لَان معنى قَوْله: (خشيَة أَن يكبه الله فِي النَّار) مَخَافَة من كفره الَّذِي يُؤَدِّيه إِلَى كب الله إِيَّاه فِي النَّار، وَالضَّمِير فِي: يكبه، للرجل فِي قَوْله: (إِنِّي لأعطي الرجل) أَي: اتألف قلبه بالإعطاء مَخَافَة من كفره إِذا لم يُعْط، وَالتَّقْدِير: أَنا أعطي من فِي إيمَانه ضعف، لِأَنِّي أخْشَى عَلَيْهِ لَو لم أعْطه أَن يعرض لَهُ اعْتِقَاد يكفر بِهِ فيكبه الله تَعَالَى فِي النَّار، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْمُؤَلّفَة أَو إِلَى من، إِذْ منع نسب الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الْبُخْل، وَأما من قوي إيمَانه فَهُوَ أحب إِلَيّ فَأَكله إِلَى ايمانه وَلَا أخْشَى عَلَيْهِ رُجُوعا عَن دينه وَلَا سوء اعْتِقَاد، وَلَا ضَرَر فِيمَا يحصل لَهُ من الدُّنْيَا. وَالْحَاصِل ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُوسع الْعَطاء لمن أظهر الْإِسْلَام تألفاً، فَلَمَّا أعْطى الرَّهْط وهم من الْمُؤَلّفَة، وَترك جعيلاً وَهُوَ من الْمُهَاجِرين، مَعَ أَن الْجَمِيع سَأَلُوهُ، خاطبه سعد، رَضِي الله عَنهُ، فِي أمره، لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَن جعيلاً أَحَق مِنْهُم لما اختبر مِنْهُ دونهم، وَلِهَذَا رَاجع فِيهِ أَكثر من مرّة، فَنَبَّهَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمرين: احدهما: نبهه على الْحِكْمَة فِي إِعْطَاء أُولَئِكَ الرَّهْط، وَمنع جعيل مَعَ كَونه أحب إِلَيْهِ مِمَّن أعْطى، لانه لَو ترك إِعْطَاء الْمُؤَلّفَة لم يُؤمن ارتدادهم فيكبون فِي النَّار. وَالْآخر: نبهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنه يَنْبَغِي التَّوَقُّف عَن الثَّنَاء بِالْأَمر الْبَاطِن دون الثَّنَاء بِالْأَمر الظَّاهِر. فَإِن قلت: كَيفَ لم يقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة مثل سعد، رَضِي الله عَنهُ، لجعيل بالايمان؟ قلت: قَوْله: (فوَاللَّه، إِنِّي لاراه مُؤمنا) لم يخرج الشَّهَادَة، وَإِنَّمَا خرج مخرج الْمَدْح لَهُ، والتوسل فِي الطّلب لأَجله، فَلهَذَا ناقشه فِي لَفظه. وَفِي الحَدِيث مَا يدل على أَنه قبل قَوْله فِيهِ وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا سعد إِنِّي لاعطي الرجل) الخ. وَمِمَّا يدل على ذَلِك مَا رُوِيَ فِي مُسْند مُحَمَّد بن هَارُون الرَّوْيَانِيّ وَغَيره، بِإِسْنَادِهِ صَحِيح إِلَى أبي سَالم الجيشاني: (عَن أبي ذَر، رَضِي الله عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: كَيفَ ترى جعيلا؟ قَالَ: قلت: كشكله من النَّاس، يَعْنِي الْمُهَاجِرين. قَالَ: فَكيف ترى فلَانا؟ قَالَ: قلت: سيداً من سَادَات النَّاس. قَالَ: فجعيل خير من مَلأ الأَرْض من فلَان. قَالَ: قلت: ففلان هَكَذَا وانت تصنع بِهِ مَا تصنع! قَالَ: إِنَّه رَأس قومه. فَأَنا أتألفهم بِهِ) . انْتهى فَهَذِهِ منزلَة جعيل، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك علم أَن حرمانه وَإِعْطَاء غَيره كَانَ لمصْلحَة التَّأْلِيف.
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ جَوَاز الشَّفَاعَة، إِلَى وُلَاة الْأَمر وَغَيرهم. الثَّانِي: فِيهِ مُرَاجعَة الْمَشْفُوع إِلَيْهِ فِي الْأَمر الْوَاحِد إِذا لم يؤد إِلَى مفْسدَة. الثَّالِث: فِيهِ الْأَمر بالتثبت وَترك الْقطع بِمَا لَا يعلم فِيهِ الْقطع. الرَّابِع: فِيهِ أَن الإِمَام يصرف الْأَمْوَال فِي مصَالح الْمُسلمين الأهم فالأهم. الْخَامِس: فِيهِ أَن الْمَشْفُوع إِلَيْهِ لَا عتب عَلَيْهِ اذا رد الشَّفَاعَة اذا كَانَت خلاف الْمصلحَة، السَّادِس: فِيهِ أَنه يَنْبَغِي أَن يعْتَذر إِلَى الشافع وَيبين لَهُ عذره فِي ردهَا. السَّابِع: فِيهِ أَن الْمَفْضُول يُنَبه الْفَاضِل على مَا يرَاهُ مصلحَة لينْظر فِيهِ الْفَاضِل. الثَّامِن: فِيهِ أَنه لَا يقطع لأحد على التَّعْيِين بِالْجنَّةِ إلاَّ من ثَبت فِيهِ النَّص، كالعشرة المبشرة بِالْجنَّةِ. التَّاسِع: فِيهِ أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ لَا ينفع إلاَّ إِذا اقْترن بِهِ الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ، وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع، وَلِهَذَا كفر المُنَافِقُونَ. وَاسْتدلَّ بِهِ جمَاعَة على جَوَاز قَول الْمُسلم: أَنا مُؤمن، مُطلقًا من غير تَقْيِيده بقوله: ان شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ القَاضِي: فِيهِ حجَّة لمن يَقُول بِجَوَاز قَوْله: أَنا مُؤمن، من غير اسْتثِْنَاء، ورد على من أَبَاهُ. وَقد اخْتلف فِيهَا من لدن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وكل قَول إِذا حقق كَانَ لَهُ وَجه، فَمن لم يسْتَثْن أخبر عَن حكمه فِي الْحَال، وَمن اسْتثْنى أَشَارَ إِلَى غيب مَا سبق لَهُ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَإِلَى التَّوسعَة فِي الْقَوْلَيْنِ ذهب الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره، وَهُوَ قَول أهل التَّحْقِيق نظرا إِلَى مَا قدمْنَاهُ، ورفعا للْخلاف. الْعَاشِر: قَالُوا: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الْحلف على الظَّن، وَهِي: يَمِين اللَّغْو، وَهُوَ قَول مَالك وَالْجُمْهُور. قلت: قد اخْتلف الْعلمَاء فِي يَمِين اللَّغْو على سِتَّة اقوال: أَحدهَا: قَول مَالك كَمَا ذَكرُوهُ عَنهُ، وَقَالَ الشَّافِعِي: هِيَ أَن يسْبق لِسَانه إِلَى الْيَمين من غير أَن يقْصد الْيَمين، كَقَوْل الْإِنْسَان: لَا وَالله وبلى وَالله وَاسْتدلَّ بِمَا رُوِيَ عَن عائشةِ رَضِي الله عَنْهَا، مَرْفُوعا: (إِن لَغْو الْيَمين قَول الْإِنْسَان لَا وَالله وبلى وَالله) . وَحكى ذَلِك مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَأما الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا أَن: لَغْو الْيَمين هُوَ الْحلف على أَمر يَظُنّهُ كَمَا قَالَ، وَالْحَال أَنه خِلَافه

(1/195)


كَقَوْلِه فِي الْمَاضِي: وَالله مَا دخلت الدَّار، وَهُوَ يظنّ أَنه لم يدخلهَا، وَالْأَمر خلاف ذَلِك، وَفِي الْحَال عَمَّن يقبل: وَالله إِنَّه لزيد، وَهُوَ يظنّ أَنه زيد فَإِذا هُوَ عَمْرو. الْحَادِي عشر: قَالَ القَاضِي عِيَاض: هَذَا الحَدِيث أصح دَلِيل على الْفرق بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، وان الْإِيمَان بَاطِن وَمن عمل الْقلب، وَالْإِسْلَام ظَاهر وَمن عمل الْجَوَارِح، لَكِن لَا يكون مُؤمن إلاَّ مُسلما، وَقد يكون مُسلم غير مُؤمن، وَلَفظ هَذَا الحَدِيث يدل عَلَيْهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الحَدِيث ظَاهره يُوجب الْفرق بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، فَيُقَال لَهُ: مُسلم، أَي: مستسلم، وَلَا يُقَال لَهُ: مُؤمن، وَهُوَ معنى الحَدِيث. قَالَ الله تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} (الحجرات: 14) أَي: استسلمنا. وَقد يتفقان فِي اسْتِوَاء الظَّاهِر وَالْبَاطِن، فَيُقَال للْمُسلمِ: مُؤمن، وللمؤمن: مُسلم. وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى فِي أول كتاب الْإِيمَان.
ورواهُ يُونُسُ وَصَالِحٌ وَمَعْمَرٌ وابْنُ أخي الزُّهْرِيِّ عَن الزُّهْرِيِّ.
أَي: روى هَذَا الحَدِيث هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة عَن الزُّهْرِيّ، وتابعوا شعيبا فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ، فَيَزْدَاد قُوَّة بِكَثْرَة طرقه.
وَفِي هَذَا وَشبهه من قَول التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن فلَان وَفُلَان إِلَى آخِره. فَوَائِد إِحْدَاهَا هَذِه. الثَّانِيَة: أَن تعلم رُوَاته ليتتبع رواياتهم ومسانيدهم من يرغب فِي شَيْء من جمع الطّرق أَو غَيره، لمعْرِفَة مُتَابعَة أَو استشهاد أَو غَيرهمَا. الثَّالِثَة: ليعرف أَن هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين رَوَوْهُ، فقد يتَوَهَّم من لَا خبْرَة لَهُ أَنه لم يروه غير ذَلِك الْمَذْكُورَة فِي الْإِسْنَاد، فَرُبمَا رَآهُ فِي كتاب آخر عَن غَيره، فيتوهمه غَلطا. وَزعم أَن الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ من جِهَة فلَان، فَإِذا قيل فِي الْبَاب: عَن فلَان وَفُلَان وَنَحْو ذَلِك، زَالَ الْوَهم الْمَذْكُور. الرَّابِعَة: الْوَفَاء بِشَرْطِهِ صَرِيحًا، إِذْ شَرطه على مَا قيل أَن يكون لكل حَدِيث راويان فَأكْثر. الْخَامِسَة: أَن يصير الحَدِيث مستفيضا، فَيكون حجَّة عِنْد الْمُجْتَهدين الَّذين اشترطوا كَون الحَدِيث مَشْهُورا فِي تَخْصِيص الْقُرْآن وَنَحْوه، والمستفيض أَي: الْمَشْهُور مَا زَاد نقلته على الثَّلَاث.
قَوْله (يُونُس) : هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَقد مر ذكره. (وَصَالح) هُوَ ابْن كيسَان الْمدنِي، وَرِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ من رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر، لِأَنَّهُ أسن من الزُّهْرِيّ وَقد مر ذكره أَيْضا. و (معمر) بِفَتْح الميمين، ابْن رَاشد الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم ذكره أَيْضا. (وَابْن أخي الزُّهْرِيّ) هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهَاب بن عبد الله بن الْحَارِث بن زهرَة بن كلاب الزُّهْرِيّ ابْن أخي مُحَمَّد الإِمَام أبي بكر الزُّهْرِيّ الْمَشْهُور، روى عَن عَمه مُحَمَّد، وروى عَنهُ يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم سعد والدراوردي والقعنبي، روى عَنهُ: البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة وَالْأَضَاحِي، وَمُسلم فِي الْإِيمَان وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله بن البيع فِي كتاب (الْمدْخل) : وَمِمَّا عيب على البُخَارِيّ وَمُسلم إخراجهما حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله ابْن أخي الزُّهْرِيّ، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْأُصُول، وَمُسلم فِي الشواهد، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ فِيهِ ابْن معن: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عدي: وَلم أر بحَديثه بَأْسا، وَلَا رَأَيْت لَهُ حَدِيثا مُنْكرا. وَقَالَ عَبَّاس عَن يحيى بن معِين: ابْن أخي الزُّهْرِيّ أمثل من أبي أويس، وَقَالَ مرّة فِيهِ: لَيْسَ بذلك الْقوي. قَالَ الْوَاقِدِيّ: قَتله غلمانه بِأَمْر ابْنه، وَكَانَ ابْنه سَفِيها شاطرا، قَتله للميراث فِي آخر خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، توفّي أَبُو جَعْفَر سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة، ثمَّ وثب غلمانه على ابْنه بعد سِنِين فَقَتَلُوهُ، وَجزم النَّوَوِيّ فِي شَرحه بِأَن مُحَمَّدًا هَذَا، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة. أما رِوَايَة يُونُس عَن الزُّهْرِيّ فَهِيَ مَوْصُولَة فِي كتاب الْإِيمَان لعبد الرَّحْمَن بن عمر الزُّهْرِيّ الملقب رسته، بِضَم الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا تَاء مثناة من فَوق وَبعدهَا هَاء، وَلَفظه قريب من سِيَاق الْكشميهني. وَأما رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ فَهِيَ مَوْصُولَة عِنْد البُخَارِيّ فِي كتاب الزَّكَاة. وَأما رِوَايَة معمر عَنهُ فَهِيَ مَوْصُولَة عِنْد أَحْمد بن حَنْبَل والْحميدِي وَغَيرهمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَنهُ، وَقَالَ فِيهِ إِنَّه إِنَّمَا أعَاد السُّؤَال ثَلَاثًا. وَعند أبي دَاوُد أَيْضا، من طَرِيق معمر عَنهُ، وَلَفظه: (إِنِّي أعطي رجلا وأدع من أحب إِلَيّ مِنْهُم لَا أعْطِيه شَيْئا مَخَافَة أَن يكبوا فِي النَّار على وُجُوههم) . وَأما رِوَايَة ابْن أبي الزُّهْرِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، فَهِيَ مَوْصُولَة عِنْد مُسلم، وَفِيه السُّؤَال وَالْجَوَاب ثَلَاث مَرَّات، وَقَالَ فِي آخِره: خشيَة أَن يكب على الْبناء للْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَته لَطِيفَة وَهِي رِوَايَة أَرْبَعَة من بني زهرَة: هُوَ، وَعَمه، وعامر، وَأَبوهُ. على الْوَلَاء، وَالله تَعَالَى أعلم.

(1/196)


20 - (بابُ إفْشاءُ السَّلاَمِ مِنَ الإسْلاَمِ)

أَي: هَذَا بابٌ، وَإِن لم يقدر هَكَذَا لَا يسْتَحق الْإِعْرَاب على مَا ذكرنَا غير مرّة، فَحِينَئِذٍ بَاب منون. وَقَوله: (السَّلَام) مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ، وَقَوله: (من الْإِسْلَام) خَبره، وَالتَّقْدِير فِي الأَصْل: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن السَّلَام من جملَة شعب الْإِسْلَام، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: بَاب إفشاء السَّلَام من الْإِسْلَام. وَهُوَ مُوَافق للْحَدِيث الْمَرْفُوع فِي قَوْله: (على من عرفت وَمن لم تعرف) والإفشاء، بِكَسْر الْهمزَة، مصدر من أفشى يفشي، يُقَال: أفشيت الْخَبَر إِذا نشرته وأذعته، وثلاثيه: فشى يفشوا فشوا، وَمِنْه: تفشى الشَّيْء: إِذا اتَّسع.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ هُوَ أَن من جملَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق أَن الدّين هُوَ الْإِسْلَام، وَالْإِسْلَام لَا يكمل إلاَّ بِاسْتِعْمَال خلاله، وَمن جملَة خِلاله إفشاء السَّلَام للْعَالم. وَفِي هَذَا الْبَاب يبين هَذِه الْخلَّة فِي الحَدِيث الْمَوْقُوف وَالْمَرْفُوع جَمِيعًا، مَعَ زِيَادَة خلة أُخْرَى فيهمَا، وَهِي: إطْعَام الطَّعَام، وَزِيَادَة خلة أُخْرَى فِي الْمَوْقُوف وَهِي: الْإِنْصَاف من نَفسه. وَأما وَجه كَون إفشاء السَّلَام من الْإِسْلَام فقد بَيناهُ فِي بَاب إطْعَام الطَّعَام.
وقالَ عَمَّارٌ: ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإيمَانَ الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلاَمِ للْعالَمِ والإنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ.
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: فِي تَرْجَمَة عمار، وَهُوَ أَبُو الْيَقظَان، بِالْمُعْجَمَةِ، عمار بن يَاسر بن عَامر بن مَالك بن كنَانَة بن قيس بن الْحصين بن الوذيم بن ثَعْلَبَة بن عَوْف بن حَارِثَة بن عَامر الْأَكْبَر بن يام بن عنس، بالنُّون، وَهُوَ زيد بن مَالك بن أدد بن يشجب بن غَرِيب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. هَكَذَا نسبه ابْن سعد، رَحمَه الله، أمه سميَّة، بِصِيغَة التصغير من السمو، بنت خياط، أسلمت وَكَذَا يَاسر مَعَ عمار قَدِيما، وَقَتل أَبُو جهل سميَّة وَكَانَت أول شهيدة فِي الْإِسْلَام، وَكَانَت مَعَ يَاسر وعمار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يُعَذبُونَ بِمَكَّة فِي الله تَعَالَى، فَمر بهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم يُعَذبُونَ (فَيَقُول: صبرا آل يَاسر فَإِن مَوْعدكُمْ الْجنَّة) . وَكَانُوا من الْمُسْتَضْعَفِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وهم قوم لَا عشائر لَهُم بِمَكَّة وَلَا مَنْعَة وَلَا قُوَّة، كَانَت قُرَيْش تُعَذبهُمْ فِي الرمضاء، فَكَانَ عمار، رَضِي الله عَنهُ، يعذب حَتَّى لَا يدْرِي مَا يَقُول. وصهيب كَذَلِك، وفكيهة كَذَلِك، وبلال وعامر بن فهَيْرَة، وَفِيهِمْ نزل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد مَا فتنُوا ثمَّ جاهدوا وصبروا} (النَّحْل: 110) وَمن قَرَأَ فتنُوا بِالْفَتْح وَهُوَ ابْن عَامر، فَالْمَعْنى: فتنُوا أنفسهم، وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون، قَالَ: (احْرِقْ الْمُشْركُونَ عمار بن يَاسر بالنَّار، فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام، يمر بِهِ ويمر بِيَدِهِ على رَأسه فَيَقُول: يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على عمار كَمَا كنت على إِبْرَاهِيم، تقتلك الفئة الباغية) . وَعَن ابْن ابْنه قَالَ: أَخذ الْمُشْركُونَ عمارا فَلم يَتْرُكُوهُ حَتَّى نَالَ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسلم وَذكر آلِهَتهم بِخَير، فَلَمَّا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: شَرّ يَا رَسُول الله؟ وَالله مَا تركت حَتَّى نلْت مِنْك وَذكرت آلِهَتهم بِخَير. قَالَ: فَكيف تَجِد قَلْبك؟ قَالَ: مطمئنا بِالْإِيمَان. قَالَ: فَإِن عَادوا فعد، وَفِيه نزل: {إِلَّا من إِكْرَاه وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} (النَّحْل: 106) . شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا، وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ إِسْلَامه بعد بضعَة وَثَلَاثِينَ رجلا هُوَ وصهيب، وروى عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَعَن غَيره من الصَّحَابَة. رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَسِتُّونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثَلَاثَة، وَمُسلم بِحَدِيث. وآخى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينه وَبَين حُذَيْفَة، وَكَانَ رجلا آدم طَويلا أشهل الْعَينَيْنِ بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ، لَا يُغير شَيْبه، قتل بصفين فِي صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ مَعَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، عَن ثَلَاث وَقيل: عَن أَربع وَتِسْعين سنة، وَدفن هُنَاكَ بصفين، وَقتل وَهُوَ مُجْتَمع الْعقل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وياسر رهن فِي الْقمَار هُوَ ووالده وَولده، فقمروهم فصاروا بذلك عبيدا للقامر، فأعزهم الله بِالْإِسْلَامِ. وعمار أول من بنى مَسْجِدا لله فِي الله، بنى مَسْجِد قبَاء، وَلما قتل دَفنه عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، بثيابه حسب مَا أوصاه بِهِ ثمَّة وَلم يغسلهُ. وَقَالَ صَاحب (الِاسْتِيعَاب) : وروى أهل الْكُوفَة أَنه صلى عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبهم فِي الشُّهَدَاء أَنهم لَا يغسلونهم، وَلَكِن يصلى عَلَيْهِم، وَقَالَ مُسَدّد: لم يكن فِي الْمُهَاجِرين أحد أَبَوَاهُ مسلمان غير عمار بن يَاسر. قلت: وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا أسلم أَبَوَاهُ. وَفِي (شرح قطب الدّين) : وَكَانَ أَبُو يَاسر خَالف أَبَا حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، وَلما قدم يَاسر من الْيمن إِلَى مَكَّة زوجه أَبُو حُذَيْفَة أمة لَهُ يُقَال لَهَا: سميَّة، فَولدت لَهُ عمارا، فَأعْتقهَا أَبُو حُذَيْفَة. وعمار روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّانِي: قَول عمار الَّذِي علقه البُخَارِيّ رَوَاهُ الْقَاسِم اللالكائي بِسَنَد صَحِيح عَن عَليّ بن أَحْمد بن حَفْص، حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ المرهبي، حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن جَعْفَر الصَّيْرَفِي، حَدثنَا أَبُو نعيم، حَدثنَا قطر عَن أبي إِسْحَاق عَن صلَة بن زفر عَنهُ، وَرَوَاهُ رسته أَيْضا عَن سُفْيَان، حَدثنَا

(1/197)


أَبُو إِسْحَاق فَذكره، وَرَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي كتاب الْإِيمَان من طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ، وَرَوَاهُ يَعْقُوب بن شيبَة فِي مُسْنده من طَرِيق شُعْبَة وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة وَغَيرهمَا، كلهم عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي، عَن صلَة بن زفر، عَن عمار، رَضِي الله عَنهُ؛ وَلَفظ شُعْبَة: (ثَلَاث من كن فِيهِ فقد اسْتكْمل الْإِيمَان) . وَهَكَذَا رُوِيَ فِي جَامع معمر عَن أبي إِسْحَاق، وَكَذَا حدث بِهِ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن معمر، وَحدث بِهِ عبد الرَّزَّاق بِآخِرهِ فرفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا أخرجه الْبَزَّار فِي مُسْنده، وَابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) كِلَاهُمَا عَن الْحسن بن عبد الله الْكُوفِي، وَكَذَا رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) من طَرِيق أَحْمد بن كَعْب الوَاسِطِيّ، وَكَذَا أخرجه ابْن الْأَعرَابِي فِي مُعْجَمه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح الصغاني، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الرَّزَّاق مَرْفُوعا. وَقَالَ الْبَزَّار: غَرِيب، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: هُوَ خطأ، فقد رُوِيَ مَرْفُوعا من وَجه آخر عَن عمار، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَلَكِن فِي إِسْنَاده ضعف، وَالله أعلم.
الثَّالِث فِي إعرابه وَمَعْنَاهُ. فَقَوله: (ثَلَاث) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة صفة لموصوف مَحْذُوف تَقْدِيره: خِصَال ثَلَاث، فَقَامَتْ الصّفة مقَام الْمَوْصُوف الْمَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَيجوز أَن يُقَال: يجوز وُقُوع النكرَة مُبْتَدأ إِذا كَانَ الْكَلَام بهَا فِي معنى الْمَدْح، نَحْو: طَاعَة خير من مَعْصِيّة، وَقد عدوه من جملَة الْمَوَاضِع الَّتِي يَقع فِيهَا الْمُبْتَدَأ نكرَة. وَقَوله: (من) مُبْتَدأ ثَان، وَهِي مَوْصُوفَة متضمنة لِمَعْنى الشَّرْط، وجمعهن صلتها. وَقَوله: (فقد جمع الْإِيمَان) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول. وَالْفَاء، فِي: (فقد) ، لتضمن الْمُبْتَدَأ معنى الشَّرْط، و: (الْإِيمَان) ، مَنْصُوب: بِجمع، وَمَعْنَاهُ: فقد حَاز كَمَال الْإِيمَان، تدل عَلَيْهِ رِوَايَة شُعْبَة (فقد اسْتكْمل الْإِيمَان) . قَوْله: (الْإِنْصَاف) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. وَالتَّقْدِير: إِحْدَى ثَلَاث الانصاف، يُقَال: أنصفه من نَفسه، وانتصفت أَنا مِنْهُ، وَقَالَ الصغاني: الْإِنْصَاف الْعدْل، وَالنّصف والنصفة الِاسْم مِنْهُ، يُقَال: جَاءَ منصفا أَي: مسرعا. قَوْله: (وبذل السَّلَام) أَي: الثَّانِي من الثَّلَاث بذل السَّلَام، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة. وَفِي (الْعباب) : بذلت الشَّيْء أبذِله وأبذُله، وَهَذِه عَن ابْن عباد، أَي: أَعْطيته وجُدْتُ بِهِ، ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب: والتركيب يدل على ترك صِيَانة الشَّيْء. قَوْله: (للْعَالم) بِفَتْح اللَّام، وَأَرَادَ بِهِ كل النَّاس من عرفت وَمن لم تعرف. فَإِن قلت: الْعَالم اسْم لما سوى الله تَعَالَى فَيدْخل فِيهِ الْكفَّار، وَلَا يجوز بذل السَّلَام لَهُم {قلت: ذَاك خرج بِدَلِيل آخر، وَهُوَ قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا تبدأوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى)
إِلَخ كَمَا تقدم. قَوْله: (والإنفاق) ، أَي: الثَّالِث: الْإِنْفَاق من الإقتار، بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ الافتقار. يُقَال: اقتر الرجل إِذا افْتقر. فَإِن قلت: على هَذَا التَّفْسِير يكون الْمَعْنى الْإِنْفَاق من الْعَدَم، وَهُوَ لَا يَصح} قلت: كلمة: من، هَهُنَا يجوز أَن تكون بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) أَي: فِيهِ، وَالْمعْنَى: والانفاق فِي حَالَة الْفقر، وَهُوَ من غَايَة الْكَرم، وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى: عِنْد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا} (آل عمرَان: 10 و 116، والمجادلة: 17) أَي: عِنْد الله، وَالْمعْنَى: والانفاق عِنْد الْفقر وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى الْغَايَة، كَمَا فِي قَوْلك: أَخَذته من زيد، فَيكون الافتقار غَايَة لإنفاقه، وَفِي الْحَقِيقَة هِيَ للابتداء، لِأَن الْمُنفق فِي الإقتار يبتدىء مِنْهُ إِلَى الْغَايَة. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد بن سراج: جمع عمار فِي هَذِه الْأَلْفَاظ الْخَيْر كُله. لِأَنَّك إِذا أنصفت من نَفسك فقد بلغت الْغَايَة بَيْنك وَبَين خالقك وَبَيْنك وَبَين النَّاس وَلم تضيع شَيْئا، أَي: مِمَّا لله وَلِلنَّاسِ عَلَيْك، وَأما بذل السَّلَام للْعَالم فَهُوَ كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: (وتقرأ السَّلَام على من عرفت وَمن لم تعرف) ، وَهَذَا حض على مَكَارِم الْأَخْلَاق، واستئلاف النُّفُوس. وَأما الْإِنْفَاق من الإقتار فَهُوَ الْغَايَة فِي الْكَرم، فقد مدح الله، عز وَجل، من هَذِه صفته بقوله: {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} (الْحَشْر: 9) وَهَذَا عَام فِي نَفَقَة الرجل على عِيَاله وأضيافه، وكل نَفَقَة فِي طَاعَة الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن نَفَقَة الْمُعسر على عِيَاله أعظم أجرا من نَفَقَة الْمُوسر. قلت: هَذِه الْكَلِمَات جَامِعَة لخصال الْإِيمَان كلهَا لِأَنَّهَا إِمَّا مَالِيَّة أَو بدنية، فالإنفاق إِشَارَة إِلَى الْمَالِيَّة المتضمنة للوثوق بِاللَّه تَعَالَى، وَالزِّيَادَة فِي الدُّنْيَا وَقصر الأمل، وَنَحْو ذَلِك. والبدنية إِمَّا مَعَ الله تَعَالَى، أَي: التَّعْظِيم لأمر الله تَعَالَى وَهُوَ الْإِنْصَاف، أَو مَعَ النَّاس وَهُوَ الشَّفَقَة على خلق الله تَعَالَى، وَهُوَ بذل السَّلَام الَّذِي يتَضَمَّن مَكَارِم الْأَخْلَاق والتواضع وَعدم الاحتقار، وَيحصل بِهِ التآلف والتحابب وَنَحْو ذَلِك.

28 - حدّثنا قُتَيْبَةُ قالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ يَزيدَ بْنِ أبي حَبِيبٍ عَنْ أبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍ وأنّ رَجُلاً سَأَلَ الله رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ الإسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ تُطْعِمُ الطّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ ومَنْ لَمْ تَعْرِفْ.
(رَاجع الحَدِيث رقم 12) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الْبَاب يتَضَمَّن أحد شطريه.

(1/198)


بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة الأول: قُتَيْبَة، على صُورَة تَصْغِير قتبة، بِكَسْر الْقَاف وَاحِدَة الأقتاب، وَهِي الأمعاء. قَالَ الصَّنْعَانِيّ: وَبهَا سمي الرجل قُتَيْبَة. وَقَالَ ابْن عدي: إسمه يحيى وقتيبة لقب غلب عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: إسمه عَليّ بن سعيد بن جميل البغلاني مَنْسُوب إِلَى بغلان، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة، قَرْيَة من قرى بَلخ. وَقيل: إِن جده كَانَ مولى للحجاج بن يُوسُف، فَهُوَ ثقفي، مَوْلَاهُم، وكنيته أَبُو رَجَاء. روى عَن مَالك وَغَيره عَن أَئِمَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: روى عَنهُ أَحْمد وَأَصْحَاب الْكتب السِّتَّة. قلت: روى عَنهُ يحيى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وروى النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، وَقَالَ مُحَمَّد بن بكير البرْسَانِي: كَانَ ثبتا صَاحب حَدِيث وَسنة. وَقَالَ الْأَثْرَم: أثنى عَلَيْهِ أَحْمد. وَقَالَ يحيى وَالنَّسَائِيّ: ثِقَة وَكَانَ كثير المَال كَمَا كَانَ كثير الحَدِيث توفّي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَالَ عَليّ بن مُحَمَّد السمسمار: سمعته يَقُول: ولدت ببلخ يَوْم الْجُمُعَة، حِين تَعَالَى النَّهَار، لست مضين من رَجَب سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَقَالَ الْحَاكِم فِي (تَارِيخ نيسابور) : مَاتَ فِي ثَانِي رَمَضَان. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: يزِيد بن أبي حبيب الْمصْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو الْخَيْر مرْثَد بِفَتْح الْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة. الْخَامِس: عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَكلهمْ قد تقدمُوا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مصريون مَا خلا قُتَيْبَة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاّء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنه أخرجه فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَأخرجه فِيمَا مضى عَن: عَمْرو بن خَالِد عَن لَيْث عَن يزِيد عَن أبي الْخَيْر عَن عبد الله بن عَمْرو، وَهَهُنَا: عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث إِلَخ بِعَين هَؤُلَاءِ، وَنبهَ بذلك على الْمُغَايرَة بَين شيخيه اللَّذين حَدَّثَاهُ عَن اللَّيْث، وَهِي تشعر بتكثير الطّرق. وَقد علم أَنه لَا يُعِيد الحَدِيث الْوَاحِد فِي موضِعين على صُورَة وَاحِدَة، على أَنه بوب بِهِ هُنَاكَ على أَن: الْإِطْعَام من الْإِسْلَام، وَهَهُنَا على أَن: السَّلَام من الْإِسْلَام، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَانَ يَكْفِيهِ أَن يَقُول ثمَّة أَو هَهُنَا بَاب الاطعام وَالسَّلَام من الْإِسْلَام، بِأَن يدخلهما فِي سلك وَاحِد، وَيتم الْمَطْلُوب. قلت: لَعَلَّ عَمْرو بن خَالِد ذكره فِي معرض بَيَان أَن الْإِطْعَام مِنْهُ، وقتيبة فِي بَيَان أَن الْإِسْلَام مِنْهُ، فَلذَلِك ميزهما، مضيفا إِلَى كل راوٍ قَصده فِي رِوَايَته. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا لَيْسَ بطائل، لِأَنَّهُ يبْقى السُّؤَال بِحَالهِ إِذْ لَا يمْتَنع مَعَه أَن يجمعهما المُصَنّف، وَلَو كَانَ سمعهما مفترقين. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه لَيْسَ بطائل، وَهُوَ جَوَاب حسن، ويندفع السُّؤَال بِهِ، وَلَو كَانَ المُصَنّف جَمعهمَا لَكَانَ تغييرا لما أفرده كل وَاحِد من شيخيه، وَلم يرد تَغْيِير ذَلِك، فَلذَلِك ميزهما بالبابين. فَافْهَم وَبَاقِي الْكَلَام ذَكرْنَاهُ، فِيمَا مضى، مُسْتَوفى.

21 - (بابُ كُفْرَانِ العَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ)

الْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن: الأول: وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين الْأَبْوَاب الَّتِي قبله هُوَ: أَن الْمَذْكُور فِي الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة هُوَ أُمُور الْإِيمَان، وَالْكفْر ضِدّه، والمناسبة بَينهمَا من جِهَة التضاد، لِأَن الْجَامِع بَين الشَّيْئَيْنِ على أَنْوَاع: عَقْلِي: بِأَن يكون بَينهمَا اتِّحَاد فِي التَّصَوُّر أَو تماثل أَو تضايف، كَمَا بَين الْأَقَل وَالْأَكْثَر، والعلو والسفل. و: وهمي: بِأَن يكون بَين تصور الشَّيْئَيْنِ شبه تماثل، كلوني بَيَاض وصفرة، أَو تضَاد كالسواد وَالْبَيَاض، وَالْإِيمَان وَالْكفْر، وَشبه تضَاد: كالسماء وَالْأَرْض، و: خيالي: بِأَن يكون بَينهمَا تقارن فِي الخيال، وأسبابه مُخْتَلفَة كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، وَلم أر شارحا ذكر وَجه الْمُنَاسبَة هَهُنَا كَمَا يَنْبَغِي، وَقَالَ بعض الشَّارِحين: أرْدف البُخَارِيّ هَذَا الْبَاب بِالَّذِي قبله لينبه على أَن الْمعاصِي تنقص الْإِيمَان وَلَا تخرج إِلَى الْكفْر الْمُوجب للخلود فِي النَّار، لأَنهم ظنُّوا أَنه الْكفْر بِاللَّه، فأجابهم أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، أَرَادَ كفرهن حق أَزوَاجهنَّ، وَذَلِكَ لَا محَالة نقص من إيمانهن، لِأَنَّهُ يزِيد بشكرهن العشير وبأفعال الْبر، فَظهر بِهَذَا أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان، وَأَنه قَول وَعمل. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الحَدِيث، أَرَادَ بِهِ حَدِيث الْبَاب أَنْوَاع من الْعلم: مِنْهَا مَا ترْجم لَهُ، وَهُوَ أَن الْكفْر قد يُطلق على غير الْكفْر بِاللَّه تَعَالَى؛ وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي شَرحه: مُرَاد المُصَنّف أَن يبين أَن الطَّاعَات كَمَا تسمى إِيمَانًا كَذَلِك الْمعاصِي تسمى كفرا، لَكِن حَيْثُ يُطلق عَلَيْهَا الْكفْر لَا يُرَاد بِهِ الْكفْر الْمخْرج عَن الْملَّة، وَهَذَا كَمَا ترى لَيْسَ فِي كَلَام وَاحِد مِنْهُم مَا يَلِيق بِوَجْه

(1/199)


الْمُنَاسبَة، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ، وَلَكِن كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا الْبَاب، وَالَّذِي بعده من الْأَبْوَاب الْأَرْبَعَة، عقيب بَاب قَول النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة لله) . إِلَخ بعد الْفَرَاغ من ذكر الْأَبْوَاب الَّتِي فِيهَا أُمُور الْإِيمَان رِعَايَة للمناسبة الْكَامِلَة.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى: فَقَوله: (بَاب) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى مَا بعده، وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان كفران العشير وَبَيَان كفر دون كفر. وَقَوله: (وَكفر) ، عطف على كفران. وَقَوله: (دون كفر) كَلَام إضافي فِي صفته، وَدون، نصب على الظّرْف، و: الكفران، مصدر كالكفر، وَالْفرق بَينهمَا أَن الْكفْر فِي الدّين، والكفران فِي النِّعْمَة. وَفِي (الْعباب) : الْكفْر نقيض الْإِيمَان، وَقد كفر بِاللَّه كفرا، وَالْكفْر أَيْضا جحود النِّعْمَة وَهُوَ ضد الشُّكْر، وَقد كفرها كفورا وكفرانا، وأصل الْكفْر التغطية، وَقد كفرت الشَّيْء أكفره، بالكسرة، كفرا، بِالْفَتْح، أَي: سترته، وكل شَيْء غطى شَيْئا فقد كفره، وَمِنْه: الْكَافِر، لِأَنَّهُ يستر تَوْحِيد الله، أَو نعْمَة الله، وَيُقَال للزارع: الْكَافِر لِأَنَّهُ يُغطي الْبذر تَحت التُّرَاب، و: رماد مكفور، إِذا سفت الرّيح التُّرَاب عَلَيْهِ حَتَّى غطته؛ والعشير: فعيل بِمَعْنى معاشر، كالأكيل بِمَعْنى المؤاكل، من المعاشرة وَهِي المخالطة، وَقيل: الْمُلَازمَة. قَالُوا: المُرَاد هَهُنَا الزَّوْج، يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يعاشر صَاحبه، وَحمله الْبَعْض على الْعُمُوم. والعشير أَيْضا الخليط والصاحب، وَفِي (الْعباب) : العشير: المعاشر، قَالَ الله تَعَالَى: {لبئس الْمولى ولبئس العشير} (الْحَج: 13) والعشير: الزَّوْج. ثمَّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور، والعشير: الْعشْر، كَمَا يُقَال لِلنِّصْفِ: نصيف، وللثلث: ثليث، وللسدس: سديس. والعشير فِي حِسَاب مساحة الأَرْض: عشر القفيز، والقفيز: عشر الجريب، وَالْعشيرَة: الْقَبِيلَة، والمعشر: الْجَمَاعَة. قَوْله: (وَكفر دون كفر) أَشَارَ بِهِ إِلَى تفَاوت الْكفْر فِي مَعْنَاهُ، أَي: وَكفر أقرب من كفر، كَمَا يُقَال: هَذَا دون ذَلِك، أَي: أقرب مِنْهُ. وَالْكفْر الْمُطلق هُوَ الْكفْر بِاللَّه، وَمَا دون ذَلِك يقرب مِنْهُ، وَتَحْقِيق ذَلِك مَا قَالَه الْأَزْهَرِي: الْكفْر بِاللَّه أَنْوَاع: إِنْكَار، وجحود، وعناد، ونفاق. وَهَذِه الْأَرْبَعَة من لقى الله تَعَالَى بِوَاحِد مِنْهَا لم يغْفر لَهُ. فَالْأول: أَن يكفر بِقَلْبِه وَلسَانه، وَلَا يعرف مَا يذكر لَهُ من التَّوْحِيد، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم} (الْبَقَرَة: 6) الْآيَة أَي: الَّذين كفرُوا بِالتَّوْحِيدِ وأنكروا مَعْرفَته. وَالثَّانِي: أَن يعرف بِقَلْبِه وَلَا يقر بِلِسَانِهِ، وَهَذَا ككفر إِبْلِيس وبلعام وَأُميَّة بن أبي الصَّلْت. وَالثَّالِث: أَن يعرف بِقَلْبِه ويقر بِلِسَانِهِ، ويأبى أَن يقبل الْإِيمَان بِالتَّوْحِيدِ ككفر أبي طَالب. وَالرَّابِع: أَن يقر بِلِسَانِهِ وَيكفر بِقَلْبِه ككفر الْمُنَافِقين. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَيكون الْكفْر بِمَعْنى الْبَرَاءَة، كَقَوْلِه تَعَالَى، حِكَايَة عَن الشَّيْطَان: {إِنِّي كفرت بِمَا أشركتمون من قبل} (إِبْرَاهِيم: 22) أَي: تبرأت. قَالَ: وَأما الْكفْر الَّذِي هُوَ دون مَا ذكرنَا، فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بِلِسَانِهِ، ويعتقد ذَلِك بِقَلْبِه، لكنه يرتكب الْكَبَائِر من الْقَتْل، وَالسَّعْي فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ، ومنازعة الْأَمر أَهله، وشق عَصا الْمُسلمين وَنَحْو ذَلِك انْتهى. وَقد أطلق الشَّارِع الْكفْر على مَا سوى الْأَرْبَعَة، وَهُوَ: كفران الْحُقُوق وَالنعَم، كَهَذا الحَدِيث وَنَحْوه، وَهَذَا مُرَاده من قَوْله: (وَكفر دون كفر) وَفِي بعض الْأُصُول: وَكفر بعد كفر، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
فِيهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَي: فِي الْبَاب يرْوى حَدِيث عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، هَذِه رِوَايَة كَرِيمَة. وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: فِيهِ أَبُو سعيد، أَي: يدْخل فِي الْبَاب حَدِيث رَوَاهُ أَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي هَذَا الْبَاب لَهُ طَرِيق غير الطَّرِيق الَّتِي سَاقهَا هَهُنَا، وَقد أخرج البُخَارِيّ حَدِيث أبي سعيد فِي الْحيض وَغَيره من طَرِيق عِيَاض بن عبد الله عَنهُ، وَفِيه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنِّسَاء: (تصدقن فَإِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار. فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير) . الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يُرِيد بذلك حَدِيث أبي سعيد: (لَا يشْكر الله من لَا يشْكر النَّاس) . قلت: هَذَا بعيد، وَمرَاده مَا ذَكرْنَاهُ، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس من قَوْله: (وتكفرن العشير) . كَذَا فِي حَدِيث أبي سعيد، وترجمة الْبَاب بِهَذِهِ اللَّفْظَة، وَلَا يُنَاسب التَّرْجَمَة إلاَّ حديثاهما، فَافْهَم.

29 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيتُ النَّارَ فَإذَا أكْثَرُ أهْلِهَا النَّسَاءُ يَكْفُرْنَ قِيلَ

(1/200)


أيَكْفُرْنَ باللَّهِ قالَ يَكْفُرَن العَشِيرَ ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ لَوْ أحْسَنْتَ إلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهرَ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئا قَالَتْ مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْرا قَطُّ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي كفران العشير وَإِطْلَاق الْكفْر على غير الْكفْر بِاللَّه.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي الْمدنِي، وَقد تقدم ذكره. الثَّانِي: الإِمَام مَالك بن أنس، وَقد تقدم ذكره أَيْضا، الثَّالِث: أَبُو أُسَامَة زيد بن أسلم الْقرشِي الْعَدوي، مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، روى عَن أَبِيه وَعبد الله بن عمر وَأنس وَجَابِر وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَعَطَاء بن يسَار وَغَيرهم، روى عَنهُ مَالك وَالزهْرِيّ وَمعمر وَأَيوب وَيحيى وَعبد الله بن عمر وَالثَّوْري وَبَنوهُ عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَأُسَامَة وَغَيرهم. قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، توفّي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، القَاضِي الْمدنِي الْهِلَالِي، مولى مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا، أَخُو سُلَيْمَان وَعبد الْملك وَعبد الله، سمع أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَغَيرهم، وروى عَنهُ عَمْرو بن دِينَار وَزيد بن أسلم وَغَيرهمَا. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث. وَقَالَ يحيى بن معِين وَأَبُو زرْعَة: هُوَ ثِقَة توفّي سنة ثَلَاث أَو أَربع وَمِائَة، وَقيل: أَربع وَتِسْعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة، وَمِنْهَا: أَنهم أَئِمَّة أجلاء كبار.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه هَهُنَا: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك، وَهُوَ طرف من حَدِيث طَوِيل أوردهُ فِي بَاب: صَلَاة الْكُسُوف بِهَذَا الاسناد تَاما، وَأخرجه فِي الصَّلَاة فِي بَاب: من صلى وقدامه نَار بِهَذَا الاسناد بِعَيْنِه، وَأخرجه فِي بَدْء الْخلق فِي ذكر الشَّمْس وَالْقَمَر عَن شيخ غير القعْنبِي مُقْتَصرا على مَوضِع الْحَاجة، وَأخرجه فِي عشرَة النِّسَاء عَن شيخ غَيرهمَا عَن مَالك أَيْضا. وَأخرجه فِي كتاب الْعلم عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن أَيُّوب عَن ابْن عَبَّاس. وَأخرجه مُسلم فِي الْعِيدَيْنِ عَن أبي بكر وَابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن أَيُّوب، وَعَن أبي رَافع بن أبي رِفَاعَة عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج كِلَاهُمَا عَن عَطاء، وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر أَيْضا، وَأَخْرَجَاهُ من حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ أَيْضا. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تقطيع هَذَا الحَدِيث وَإِخْرَاج طرف مِنْهُ هَهُنَا، ثمَّ إِخْرَاجه تَاما فِي مَوضِع آخر بِعَين الْإِسْنَاد الَّذِي هَهُنَا؟ قلت: مذْهبه جَوَاز تقطيع الحَدِيث إِذا كَانَ مَا يقطعهُ مِنْهُ لَا يسْتَلْزم فَسَاد الْمَعْنى، وغرضه من ذَلِك تنويع الْأَبْوَاب، وَرُبمَا يتَوَهَّم من لَا يحفظ الحَدِيث، وَلَا لَهُ كَثْرَة الممارسة فِيهِ، أَن الْمُخْتَصر حَدِيث مُسْتَقل بِذَاتِهِ، وَلَيْسَ بعض غَيره، لَا سِيمَا إِذا كَانَ ابْتِدَاء الْمُخْتَصر من أثْنَاء الحَدِيث التَّام كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث، فَإِن أَوله هُنَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (أريت النَّار) إِلَى آخر مَا ذكر مِنْهُ، وَأول التَّام عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (خسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، فَذكر قصَّة صَلَاة الْكُسُوف، ثمَّ خطْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفيهَا الْقدر الْمَذْكُور هُنَا، وَكثير مِمَّن يعد أَحَادِيث البُخَارِيّ يظنّ أَن مثل هَذَا الحَدِيث حديثان أَو أَكثر لاخْتِلَاف ابْتِدَاء الحَدِيث، فَمن ذَلِك قَالُوا عدَّة أَحَادِيثه بِغَيْر تكْرَار أَرْبَعَة آلَاف أَو نَحْوهَا، وَكَذَا ذكر ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ وَمن بعدهمَا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل إِذا حرر ذَلِك لَا يزِيد على ألفي حَدِيث وَخَمْسمِائة حَدِيث وَثَلَاثَة عشر حَدِيثا.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (أريت) ؛ بِضَم الْهمزَة، من الرُّؤْيَة الَّتِي بِمَعْنى التبصير. قَوْله: (العشير) قد مر تَفْسِيره، قَوْله: (الْإِحْسَان) ، مصدر أحسن، يُقَال: أَحْسَنت بِهِ وأحسنت إِلَيْهِ إِذا فعلت مَعَه جميلاً، وَأَصله من الْحسن خلاف الْقبْح. قَوْله: (الدَّهْر) ، هُوَ الزَّمَان، وَالْجمع: الدهور، وَيُقَال: الدَّهْر: الْأَبَد، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الدَّهْر عِنْد الْعَرَب يَقع على بعض الدَّهْر الأطول، وَيَقَع على مُدَّة الدُّنْيَا كلهَا. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: قَالَ قوم: الدَّهْر مُدَّة الدُّنْيَا من ابتدائها إِلَى انْقِضَائِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بل دهر كل قوم زمانهم. قَوْله: (قطّ) ، لتأكيد نفي الْمَاضِي، وفيهَا لُغَات: فتح الْقَاف وَضمّهَا مَعَ تَشْدِيد الطَّاء المضمومة فيهمَا، وبفتحهما مَعَ تَشْدِيد الطَّاء الْمَكْسُورَة، وبالفتح مَعَ إسكان الطَّاء، وبالفتح بِكَسْر الطَّاء المخففة. قَالَ الْجَوْهَرِي: قَالَ الْكسَائي: كَانَ أَصْلهَا: قطط، فسكن الأول وحرك الآخر بإعرابه، ثمَّ قَالَ بعد حكايته: فِيهَا لُغَات مِنْهَا عَن بَعضهم: قطّ وقط بِالتَّخْفِيفِ، وَزَاد القَاضِي: قطّ

(1/201)


بِكَسْر الْقَاف مَعَ التَّخْفِيف، هَذَا كُله إِذا كَانَت زمنية أما إِذا كَانَت بِمَعْنى: حسب، وَهُوَ: الِاكْتِفَاء، فَهِيَ مَفْتُوحَة سَاكِنة الطَّاء، تَقول: رَأَيْته مرّة وَاحِدَة فَقَط. قَالَ القَاضِي: وَقد يكون هَذَا للتقليل أَيْضا.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أريت) : على صِيغَة الْمَجْهُول بِمَعْنى أَبْصرت، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ هُوَ الْقَائِم مقَام الْمَفْعُول الأول. وَقَوله: (النَّار) هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي. قَوْله: (فَرَأَيْت) عطف على: (أريت) . وَقَوله: (أَكثر أَهلهَا) كَلَام إضافي مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول أول لرأيت. وَقَوله (النِّسَاء) بِالنّصب أَيْضا لِأَنَّهُ مفعول ثَان وَفِي بعض الرِّوَايَات: (رَأَيْت النَّار أَكثر أَهلهَا النِّسَاء) بِدُونِ قَوْله: (فَرَأَيْت) ، فعلى هَذَا: أريت، بِمَعْنى: أعلمت، فالتاء مَفْعُوله الأول نَائِب عَن الْفَاعِل، وَالنَّار مَفْعُوله الثَّانِي، وَالنِّسَاء مَفْعُوله الثَّالِث. وَقَوله: (أَكثر أَهلهَا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ بدل من النَّار، وَيجوز رفع أَكثر على أَنه مُبْتَدأ، وَالنِّسَاء بِالرَّفْع أَيْضا خَبره، وَالْجُمْلَة تكون حَالا بِدُونِ الْوَاو، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} (الْبَقَرَة: 36، والأعراف: 24) وَفِي صَحِيح مُسلم فِي حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا: (فَإِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار، فَقَالَت امْرَأَة مِنْهُنَّ جزلة: وَمَا لنا يَا رَسُول الله أَكثر أهل النَّار؟ قَالَ: تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير، مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين) . الحَدِيث فَقَوله: أَكثر، بِالنّصب إِمَّا على الْمَفْعُول، أَو على الْحَال على مَذْهَب ابْن السراج وَأبي عَليّ الْفَارِسِي وَغَيرهمَا مِمَّن قَالَ: إِن أفعل لَا يتعرف بِالْإِضَافَة، وَقيل: هُوَ بدل من الْكَاف فِي: رأيتكن، وَقَوْلها: وَمَا لنا أَكثر أهل النَّار؟ قَالَ النَّوَوِيّ: نصب أَكثر على الْحِكَايَة. قَوْله: (يكفرن) بياء المضارعة، جملَة استئنافية، وَالتَّقْدِير: هن يكفرن، وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب سَائل سَأَلَ: يَا رَسُول الله لِمَ؟ وَجَاء بكفرهن بِالْبَاء السَّبَبِيَّة الْمُتَعَلّقَة بقول أَكثر، أَو بِفعل الرُّؤْيَة. قَوْله: (أيكفرن بِاللَّه) ؟ الْهمزَة للاستفهام وَهَذَا الاستفسار دَلِيل على أَن لفظ الْكفْر مُجمل بَين الْكفْر بِاللَّه وَالْكفْر الَّذِي للعشير، وَنَحْوه. قَوْله: (قَالَ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يكفرن العشير) أَي: هن يكفرن العشير. وَقَوله: (يكفرن) جملَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية (والعشير) نصب على المفعولية. وَقَوله: (ويكفرن الاحسان) عطف على الْجُمْلَة الأولى. فَإِن قلت: كَيفَ عدى: يكفرن، بِالْيَاءِ فِي قَوْله: (أيكفرن بِاللَّه) ؟ وَلم يعديها فِي قَوْله: (يكفرن العشير) ؟ قلت: لَان فِي الأول يتَضَمَّن معنى الِاعْتِرَاف بِخِلَاف الثَّانِي. فَإِن قلت: مَا كفران العشير وَمَا كفران الاحسان؟ قلت: كفران العشير لَيْسَ لذاته، بل الكفران لَهُ هُوَ الكفران لإحسانه، فالجملة الثَّانِيَة فِي الْحَقِيقَة بَيَان للجملة الأولى. فَإِن قلت: مَا الْألف وَاللَّام فِي العشير؟ قلت: للْعهد إِن فسر العشير بِالزَّوْجِ، وللجنس أَو الاستغرق إِن فسر بالمعاشر مُطلقًا. فَإِن قلت: أَيهَا الأَصْل فِي اللَّام؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الْجِنْس هُوَ الْحَقِيقَة، فَيحمل عَلَيْهَا إلاَّ إِذا دلّت قرينَة على التَّخْصِيص والتعميم فتتبع الْقَرِينَة حِينَئِذٍ، وَهَذَا حكم عَام لهَذِهِ فِي جَمِيع الْمَوَاضِع، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن أصل اللَّام للْعهد، وَقد عرف فِي مَوْضِعه. قَوْله: (لَو أَحْسَنت) وَفِي بعض النّسخ: (إِن أَحْسَنت) . فَإِن قلت: لَو لِامْتِنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاع غَيره، فَكيف صَحَّ هُنَا هَذَا الْمَعْنى؟ قلت: لَو هُنَا بِمَعْنى: إِن، يَعْنِي لمُجَرّد الشّرطِيَّة، وَمثله كثير. وَيحْتَمل أَن يكون من قبيل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (نعم العَبْد صُهَيْب لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ) بِأَن يكون الحكم ثَابتا على النقيضين، والطرف الْمَسْكُوت عَنهُ أولى من الْمَذْكُور. قَوْله: (أَحْسَنت) لَيْسَ الْخطاب فِيهِ لأحد بِعَيْنِه، وَإِنَّمَا مُرَاده بِهَذَا كل من يَأْتِي مِنْهُ أَن يكون مُخَاطبا بِهِ. فَإِن قلت: أصل وضع الضَّمِير أَن يكون مُسْتَعْملا لمُعين مشخص. قلت: نعم، لَكِن هَذَا على سَبِيل التَّجَوُّز: فَإِن قلت: لَو لم يكن عَاما لما جَازَ اسْتِعْمَاله فِي كل مُخَاطب كزيد مثلا حَقِيقَة؟ قلت: عَام بِاعْتِبَار أَمر عَام لِمَعْنى خَاص، بِخِلَاف الْعلم، فَإِنَّهُ خَاص بالاعتبارين. وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن اللَّفْظ قد يوضع وضعا عَاما لأمور مَخْصُوصَة، كاسم الْإِشَارَة فَإِنَّهُ وضع بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْعَام الَّذِي هُوَ الْإِشَارَة الحسية للخصوصيات الَّتِي تَحْتَهُ، أَي لكل وَاحِد مِمَّا يشار إِلَيْهِ، وَلَا يُرَاد بِهِ عِنْد الِاسْتِعْمَال الْعُمُوم على سَبِيل الْحَقِيقَة، وَقد يوضع وضعا عَاما الْمَوْضُوع لَهُ عَام، نَحْو: الرجل، فَلَا يُرَاد بِهِ خَاص حَقِيقَة، وَهُوَ عكس الأول. وَقد يوضع وضعا خَاصّا لموضوع لَهُ خَاص، نَحْو: الْعلم كزيد وَنَحْوه والمضمرات من الْقسم الأول فَإِن أُرِيد بالضمير فِي: أَحْسَنت، مُخَاطب معِين، كَانَ حَقِيقَة وإلاَّ كَانَ مجَازًا، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رؤوسهم} (السَّجْدَة: 12) قَوْله: (الدَّهْر) ، نصب على الظّرْف. قَوْله: (ثمَّ رَأَتْ) جملَة معطوفة على مَا قبلهَا، وَقد علم أَن فِي: ثمَّ، معنى المهلة والتراخي. قَوْله: (شَيْئا) نصب على أَنه مفعول: رَأَتْ، أَي شَيْئا قَلِيلا لَا يُوَافق مزاجها، أَو شَيْئا حَقِيرًا لَا يعجبها، فَحِينَئِذٍ التَّنْوِين فِيهِ للتقليل أَو التحقير. قَوْله: (خيرا) مفعول مَا رَأَيْت.

(1/202)


بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان فِيهِ: حذف الْفَاعِل لكَونه مُتَعَيّنا للْفِعْل أَو لشهرته، وَهُوَ فِي قَوْله: (أريت) إِذْ أَصله: أَرَانِي الله النَّار، وَفِيه: الْجُمْلَة الاستئنافية الَّتِي تدل على السُّؤَال وَالْجَوَاب، وَهُوَ قَوْله: (يكفرن) . وَقَالَ بعض الشَّارِحين: هَذَا جَوَاب سُؤال مَذْكُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي كتاب الْكُسُوف، التَّقْدِير: فَبِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: يكفرن، أَي: هن يكفرن. وَفِيه: ترك الْمعِين إِلَى غير الْمعِين ليعم كل مُخَاطب، وَهُوَ قَوْله: لَو أَحْسَنت كَمَا فِي قَوْله: (بشر الْمَشَّائِينَ فِي ظلم اللَّيْل إِلَى الْمَسَاجِد بِالنورِ التَّام يَوْم الْقِيَامَة) وَفِيه: أَن التنكير فِيهِ للتحقير، كَمَا فِي قَوْله: (شَيْئا) ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ان نظن إِلَّا ظنا} (الجاثية: 32) [/ ح.
بَيَان استنباط الْفَوَائِد: مِنْهَا: تَحْرِيم كفران الْحُقُوق وَالنعَم إِذْ لَا يدْخل النَّار إلاَّ بارتكاب حرَام. وَقَالَ النَّوَوِيّ: توعُدُه على كفران العشير وكفران الْإِحْسَان بالنَّار يدل على أَنَّهُمَا من الْكَبَائِر. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن العَبْد يعذب على جحد الاحسان وَالْفضل وشكر النعم. قَالَ: وَقد قيل: إِن شكر الْمُنعم وَاجِب. وَمِنْهَا: الدّلَالَة على عظم حق الزَّوْج، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو أمرت أحدا أَن يسْجد لأحد لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا) . وَلأَجل هَذَا الْمَعْنى خص كفران العشير من بَين أَنْوَاع الذُّنُوب، وَقرن فِيهِ حق الزَّوْج على الزَّوْجَة بِحَق الله، فَإِذا كفرت الْمَرْأَة حق زَوجهَا، وَقد بلغ حَقه عَلَيْهَا هَذِه الْغَايَة، كَانَ ذَلِك دَلِيلا على تهاونها بِحَق الله، فَلذَلِك أطلق عَلَيْهَا الْكفْر، لكنه كفر لَا يخرج عَن الْملَّة. وَمِنْهَا: فِيهِ وعظ الرئيس المرؤوس وتحريضه على الطَّاعَة. وَمِنْهَا: فِيهِ مُرَاجعَة المتعلم الْعَالم، وَالتَّابِع الْمَتْبُوع فِيمَا قَالَه إِذا لم يظْهر لَهُ مَعْنَاهُ. وَمِنْهَا: فِيهِ أَن النَّار، أَي: جَهَنَّم الَّتِي هِيَ دَار عَذَاب الْآخِرَة مخلوقة الْيَوْم، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَمِنْهَا: فِيهِ الدّلَالَة على جَوَاز إِطْلَاق الْكفْر على كفر النِّعْمَة وَجحد الْحق. وَمِنْهَا: فِيهِ التَّنْبِيه على أَن الْمعاصِي تنقص الْإِيمَان وَلَا تخرج إِلَى الْكفْر الْمُوجب للخلود فِي النَّار لأَنهم ظنُّوا أَنه الْكفْر بِاللَّه، فأجابهم عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ أَرَادَ كفرهم حق أَزوَاجهنَّ. وَمن فَوَائِد حَدِيث مُسلم: أَن اللَّعْن من الْمعاصِي. قَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: فِيهِ أَنه كَبِيرَة فَإِن قَالَ: تكثرن اللَّعْن، وَالصَّغِيرَة إِذا كثرت صَارَت كَبِيرَة، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (لعن الْمُؤمن كقتله) . قَالَ: وَاتفقَ الْعلمَاء على تَحْرِيم اللَّعْن، وَلَا يجوز لعن أحد بِعَيْنِه، مُسلما أَو كَافِرًا أَو دَابَّة، إلاَّ بِعلم بِنَصّ شَرْعِي أَنه مَاتَ على الْكفْر، أَو يَمُوت عَلَيْهِ، كَأبي جهل وإبليس عَلَيْهِمَا اللَّعْنَة، واللعن بِالْوَصْفِ لَيْسَ بِحرَام: كلعن الْوَاصِلَة وَالْمسْتَوْصِلَة، وآكل الرِّبَا وشبههم. واللعن فِي اللُّغَة: الطَّرْد والإبعاد. وَفِي الشَّرْع: الإبعاد من رَحْمَة الله تَعَالَى. قَوْله: (ناقصات عقل) ، اخْتلفُوا فِي الْعقل، فَقيل: هُوَ الْعلم، لِأَن الْعقل وَالْعلم فِي اللُّغَة وَاحِد، وَلَا يفرقون بَين قَوْلهم: عقلت وَعلمت، وَقيل: الْعقل بعض الْعُلُوم الضرورية، وَقيل: قُوَّة يُمَيّز بهَا بَين حقائق المعلومات. وَاخْتلفُوا فِي مَحَله، فَقَالَ المتكلمون هُوَ فِي الْقلب. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: هُوَ فِي الرَّأْس، وَالله تَعَالَى أعلم.