عمدة القاري شرح صحيح البخاري

32 - (بَاب أحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ أدْوَمُهُ)

الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه. الأول: قَوْله: بَاب، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف غير منون إِن اعْتبرت إِضَافَته إِلَى الْجُمْلَة. وَقَوله: (أحب الدّين) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَخَبره قَوْله: (أَدْوَمه) . الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَهُوَ: الِامْتِثَال بالأوامر والانتهاء عَن النواهي، والشفقة على خلق الله تَعَالَى، وَالْمَطْلُوب فِي هَذَا: المداومة والمواظبة، وَكلما واظب العَبْد عَلَيْهِ وداوم زَاد من الله محبَّة، لِأَن الله تَعَالَى يحب مداومة العَبْد على الْعَمَل الصَّالح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أحب الدّين، أَي: أحب الْعلم، إِذْ الدّين هُوَ الطَّاعَة، ومناسبته لكتاب الْإِيمَان من جِهَة أَن الدّين وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِد. قلت: الْعجب مِنْهُ كَيفَ رَضِي بِهَذَا الْكَلَام، فالمناسبة لَا تطلب إلاَّ بَين الْبَابَيْنِ المتواليين، وَلَا تطلب بَين بَابَيْنِ أَو بَين كتاب وَبَاب بَينهمَا أَبْوَاب عديدة، وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ باتحاد الدّين وَالْإِيمَان والاسلام، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، وَقد حققناه فِيمَا مضى، وَقَالَ بَعضهم: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال، لِأَن المُرَاد بِالدّينِ هُنَا: الْعَمَل، وَالدّين الْحَقِيقِيّ هُوَ الْإِسْلَام، وَالْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، فَيصح بِهَذَا مَقْصُوده. . ومناسبته لما قبله من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، لِأَنَّهُ لما قدم: إِن الْإِسْلَام يحسن بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، أَرَادَ أَن يُنَبه على أَن جِهَاد النَّفس فِي ذَلِك إِلَى حد المغالبة غير الْمَطْلُوب. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: إِن قَوْله: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال غير صَحِيح، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على هَذَا، وَالِاسْتِدْلَال بالترجمة لَيْسَ باستدلال يقوم بِهِ الْمُدَّعِي. فَإِن قلت: فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله: أحب الدّين إِلَيْهِ، فَإِن المُرَاد هَهُنَا من الدّين الْعَمَل، وَقد أطلق عَلَيْهِ الدّين. قلت: هَذَا إِنَّمَا يمشي إِذا أطلق الدّين الْمَعْهُود المصطلح على الْعَمَل وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن المُرَاد بِالدّينِ هَهُنَا الطَّاعَة بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيّ فَإِن لفظ الدّين مُشْتَرك بَين مَعَاني كَثِيرَة مُخْتَلفَة. الدّين: بِمَعْنى الْعِبَادَة، وَبِمَعْنى الْجَزَاء، وَبِمَعْنى الطَّاعَة، وَبِمَعْنى الْحساب، وَبِمَعْنى السُّلْطَان، وَبِمَعْنى الْملَّة، وَبِمَعْنى الْوَرع، وَبِمَعْنى الْقَهْر، وَبِمَعْنى الْحَال، وَبِمَعْنى مَا يتدين بِهِ الرجل، وَبِمَعْنى الْعُبُودِيَّة، وَبِمَعْنى الْإِسْلَام. وَفِي (الْمُحكم) : الدّين: الْإِسْلَام. الثَّانِي: أَنه قَالَ: الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، يَعْنِي كِلَاهُمَا وَاحِد، وَقَالَ: إِن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال، يُشِير بِهِ إِلَى أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان، ثمَّ قَالَ: إِن الْإِسْلَام يحسن بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، فَكَلَامه يُشِير إِلَى أَن الْأَعْمَال لَيست من الْإِيمَان، لِأَن الْحسن من الْأَوْصَاف الزَّائِدَة على الذَّات، وَهِي غير الذَّات. فينتج من كَلَامه أَن الْإِسْلَام يحسن بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا فَاسد. الثَّالِث: قَوْله: فَيصح بِهَذَا مَقْصُوده، ومناسبته لما قبله غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ لَا يظْهر وَجه الْمُنَاسبَة لما قلبه مِمَّا قَالَه أصلا، وَكَيف يُوجد وَجه الْمُنَاسبَة من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، والترجمة لَيست عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجه الْمُنَاسبَة لما قبله مَا ذكرت لَك آنِفا. فَافْهَم. الْوَجْه الثَّالِث: قَوْله: (أحب الدّين) ، أحب هَهُنَا أفعل لتفضيل الْمَفْعُول، ومحبة الله تَعَالَى للدّين إِرَادَة إِيصَال الثَّوَاب عَلَيْهِ. قَوْله: (أَدْوَمه) هُوَ أفعل من الدَّوَام، وَهُوَ شُمُول جَمِيع الْأَزْمِنَة أَي: التَّأْبِيد. فَإِن قيل: شُمُول الْأَزْمِنَة لَا يقبل التَّفْضِيل، فَمَا معنى الأدوم؟ أُجِيب: بِأَن المُرَاد بالدوام هُوَ الدَّوَام الْعرفِيّ، وَذَلِكَ قَابل للكثرة والقلة. فَافْهَم.

43 - حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى حدّثنا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أخْبَرَنِي أبِي عَنْ عائِشَةَ أَن النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وعندْهَا امرَأةٌ قالَ مَنْ هَذِهِ قالَتْ فُلاَنَةُ تذْكرُ مِنْ صَلاَتِها قالَ مَهْ عَلَيكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَواللَّهِ لاَ يَمِلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وكانَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
(الحَدِيث 43 طرفه: 1151) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي قَوْله: (وَكَانَ أحب الدّين إِلَيْهِ مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبه) غير أَنه غيَّر لفظ: مَا داوم عَلَيْهِ، وَلكنه فِي الْمَعْنى مثله، وَلِهَذَا قَالَ فِي التَّرْجَمَة: إِلَى الله، بدل: إِلَيْهِ، وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده. وَكَذَا فِي رِوَايَة عَبدة عَن هِشَام، وَعند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده، وَكَذَا للْبُخَارِيّ وَمُسلم من طَرِيق أبي سَلمَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَهَذِه الرِّوَايَات توَافق التَّرْجَمَة.

(1/255)


بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالزَّمن، وَقد مر فِي بَاب: حلاوة الْإِيمَان. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان الْأَحول، وَقد مر فِي بَاب من الْإِيمَان أَن يجب لِأَخِيهِ. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَقد مر ذكرهمَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الصَّحِيح. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مر ذكرهَا أَيْضا غير مرّة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الصَّلَاة، وَقَالَ فِيهِ: (كَانَت عِنْدِي امْرَأَة من بني أَسد) ، وسماها مُسلم، لَكِن قَالَ فِيهِ: إِن الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أَسد بن عبد الْعُزَّى مرت بهَا وَعِنْدهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: هَذِه الحولاء بنت تويت، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تنام اللَّيْل. فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (خُذُوا من الْعَمَل مَا تطيقون، فوَاللَّه لَا يسأم الله حَتَّى تسأموا) وَذكر مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَفِيه: (فَقيل لَهُ هَذِه الحولاء لَا تنام اللَّيْل، فكره ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى عرفت الْكَرَاهِيَة فِي وَجهه) ، وَذكره مُسلم من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، ثمَّ ذكر حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه عُرْوَة كَمَا أوردهُ البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي الصَّلَاة، وَفِيه: (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل عَلَيْهَا وَعِنْدهَا امْرَأَة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان وَالصَّلَاة عَن شُعَيْب بن يُوسُف النَّسَائِيّ عَن يحيى بن سعيد بِهِ. فَإِن قلت: قَوْله: (وَعِنْدهَا امْرَأَة) هِيَ الحولاء أَو غَيرهَا. قلت: يحْتَمل أَن تكون هَذِه وَاقعَة أُخْرَى: إِحْدَاهمَا أَنَّهَا مرت بهَا، وَالْأُخْرَى كَانَت عِنْدهَا، وَيحْتَمل أَن تكون غَيرهَا، لَكِن قَول البُخَارِيّ: وَعِنْدِي امْرَأَة من بني أَسد، يدل على أَنَّهَا الحولاء بنت تويت، وَلَكِن الظَّاهِر أَن الْقِصَّة وَاحِدَة دلّت عَلَيْهَا رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن هِشَام فِي هَذَا الحَدِيث: (مرت برَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، الحولاء) أخرجه مُحَمَّد بن نصر فِي كتاب (قيام اللَّيْل) . وَجه التَّوْفِيق أَن يحمل على أَنَّهَا كَانَت أَولا عِنْد عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَلَمَّا قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَت الْمَرْأَة لتخرج فمرت بِهِ فِي خلال ذهابها، فَسَأَلَ عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبِهَذَا اتّفقت الرِّوَايَات، و: الحولاء، بِالْحَاء الْمُهْملَة، تَأْنِيث الْأَحول، وتويت، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق أَيْضا، و: كَانَت الحولاء امْرَأَة صَالِحَة عابدة مهاجرة، رَضِي الله عَنْهَا.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (فُلَانَة) . أَي: الحولاء الأَسدِية وَهِي غير منصرف، لِأَن حكمهَا حكم أَعْلَام الْحَقَائِق: كأسامة، لِأَنَّهَا كِنَايَة عَن كل علم مؤنث للأناس المؤنثة، فَفِيهَا العلمية والتأنيث. قَوْله: (مَه) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَهِي: إسم سمي بِهِ الْفِعْل، وبنيت على السّكُون، وَمَعْنَاهُ: اكفف، فَإِن وصلت نونته فَقلت: مَه مَه، وَيُقَال: مهمهت بِهِ، أَي: زجرته. وَقَالَ التَّيْمِيّ: إِذا دخله التَّنْوِين كَانَ نكرَة وَإِذا حذف كَانَ معرفَة، وَهَذَا الْقسم من أَقسَام التَّنْوِين الَّذِي يخْتَص بِالدُّخُولِ على النكرَة ليفصل بَينهَا وَبَين الْمعرفَة، فالمعرفة غير منون، والنكرة منون. قَوْله: (عَلَيْكُم) أَيْضا من أَسمَاء الْأَفْعَال، أَي: الزموا من الْأَعْمَال مَا تطيقون الدَّوَام عَلَيْهِ. قَوْله: (لَا يمل الله) من الملالة، وَهِي السَّآمَة والضجر، وَفِي (الفصيح) فِي بَاب فعلت: مللت من الشي أمل. وَفِي (الْمُحكم) : مللت الشَّيْء مللاً وملالاً وملالة، وأملني وأمل عَليّ: أبرمني، وَرجل ملول وملالة وملولة وَذُو مِلَّة، وَالْأُنْثَى ملول وملولة، ملول على الْمُبَالغَة، وَفِي (الْجَامِع) : فَأَنت مَال. قَوْله: (أحب الدّين) أَي: أحب الطَّاعَة، وَمِنْه فِي الحَدِيث فِي صفة الْخَوَارِج: (يَمْرُقُونَ من الدّين) ، أَي: من طَاعَة الْأَئِمَّة، وَيجوز أَن يكون فِيهِ حذف تَقْدِيره أحب أَعمال الدّين. وَقَالَ التَّيْمِيّ: فَإِن قلت: المُرَاد بيمرقون من الدّين: من الْإِيمَان، لِأَنَّهُ ورد فِي رِوَايَة أُخْرَى: (يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام) . قلت: الْخَوَارِج غير خَارِجين من الدائرة بالِاتِّفَاقِ، فَيحمل الْإِسْلَام على الاستسلام الَّذِي هُوَ الانقياد وَالطَّاعَة. قَوْله: (داوم) ، من المداومة وَهِي: الْمُوَاظبَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: المداومة على الْأَمر الْمُوَاظبَة عَلَيْهِ، وثلاثيه: دَامَ الشَّيْء يَدُوم ويدام دَوْمًا ودواما وديمومة، وأدامه غَيره، ودام الشَّيْء: سكن.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (دخل عَلَيْهَا) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن، قَوْله: (وَعِنْدهَا امْرَأَة) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (قَالَ) هَكَذَا بِغَيْر فَاء رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَقَالَ) بِالْفَاءِ العاطفة، وَوجه الأول أَن تكون جملَة استثنائية، أَعنِي: جَوَاب سُؤال مُقَدّر، فَكَأَن قَائِلا يَقُول: مَاذَا قَالَ حِين دخل؟ قَالَت: قَالَ: من هَذِه؟ فَقَوله:

(1/256)


(من) مُبْتَدأ، و (هَذِه) خَبره، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. قَوْله: (قَالَت) أَي: عَائِشَة فعل وفاعل. قَوْله: (فُلَانَة) مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ فُلَانَة أَي: الحولاء الأَسدِية. (تذكر) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، فعل مضارع للمؤنث، وفاعله عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، ويروى: يذكر، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف المضمومة على فعل مَا لم يسم فَاعله. وَقَوله: (من صلَاتهَا) فِي مَحل الرّفْع مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَالْمعْنَى يذكرُونَ أَن صلَاتهَا كَثِيرَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (لَا تنام تصلي) وعَلى الْوَجْه الأول: هِيَ، فِي مَحل النصب على المفعولية. قَوْله: (مَه) مقول القَوْل. قَوْله: (بِمَا تطيقون) ، وَفِي رِوَايَة: (مَا تطيقون) ، بِغَيْر الْبَاء، وَمَعْنَاهُ: مَا تطيقون الدَّوَام عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَدرنَا دوَام الْفِعْل لَا أصل الْفِعْل لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ. قَوْله: (فوَاللَّه) مجرور بواو الْقسم. قَوْله: (لَا يمل الله) ، فعل وفاعل. قَوْله: (حَتَّى تملوا) أَي: حَتَّى أَن تملوا، فَإِن مقدرَة، وَلِهَذَا نصبت: تملوا. قَوْله: (أحب الدّين) كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى الله. قَوْله: (مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبه) فِي مَحل النصب، لِأَنَّهُ خبر كَانَ، وَصَاحبه مَرْفُوع بداوم أَو كلمة: مَا، للمدة. وَالتَّقْدِير: مُدَّة دوَام صَاحبه عَلَيْهِ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (مَه) زجر كَمَا ذكرنَا، وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون لعَائِشَة، وَالْمرَاد نهيها عَن مدح الْمَرْأَة، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد النَّهْي عَن تكلّف عمل لَا يُطَاق بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بعده: (عَلَيْكُم من الْعَمَل مَا تطيقون) . وَقَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّ عَائِشَة أمنت عَلَيْهَا الْفِتْنَة، فَلذَلِك مدحتها فِي وَجههَا. قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام فِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على أَنَّهَا إِنَّمَا ذكرت ذَلِك بعد أَن خرجت الْمَرْأَة، أخرجهَا الْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده من طَرِيقه، وَلَفظه: (كَانَت عِنْدِي امْرَأَة، فَلَمَّا قَامَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من هَذِه يَا عَائِشَة؟ قلت: يَا رَسُول الله هَذِه فُلَانَة، وَهِي أعبد أهل الْمَدِينَة) . قَوْله: (من الْعَمَل) يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ صَلَاة اللَّيْل، لوروده على سَببه، وَيحْتَمل أَن يحمل على جَمِيع الْأَعْمَال، قَالَه الْبَاجِيّ قَوْله: (بِمَا تطيقون) قَالَ القَاضِي: النّدب إِلَى تكلّف مَا لنا بِهِ طَاقَة، وَيحْتَمل النَّهْي عَن تكلّف مَا لَا نطيق، وَالْأَمر بالاقتصار على مَا نطيق. قَالَ: وَهُوَ أنسب للسياق. قَوْله: (عَلَيْكُم من الْعَمَل بِمَا تطيقون) فِيهِ عدُول عَن خطاب النِّسَاء إِلَى خطاب الرِّجَال، وَكَانَ الْخطاب للنِّسَاء فَيَقْتَضِي أَن يُقَال: عليكن، وَلَكِن لما طلب تَعْمِيم الحكم لجَمِيع الْأمة غلب الذُّكُور على الْإِنَاث فِي الذّكر. قَوْله: (فوَاللَّه لَا يمل الله حَتَّى تملوا) ، فِيهِ المشاكلة والازدواج، وَهُوَ: أَن يكون إِحْدَى اللفظتين مُوَافقَة لِلْأُخْرَى وَإِن خَالَفت مَعْنَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} (الْبَقَرَة: 194) مَعْنَاهُ: فجازوه على اعتدائه، فَسَماهُ اعتداء، وَهُوَ عدل لتزدوج اللَّفْظَة الثَّانِيَة مَعَ الأولى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} (الشورى: 40) وَقَالَ الشَّاعِر، وَهُوَ عمر بن كُلْثُوم:
(إِلَّا لَا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فَوق جهل الجاهلينا)

أَرَادَ: فنجازيه على فعله، فَسَماهُ جهلا، وَالْجهل لَا يفخر بِهِ ذُو عقل، وَلكنه على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ. وَالْحَاصِل أَن الملال لَا يجوز على الله تَعَالَى، وَلَا يدْخل تَحت صِفَاته لِأَنَّهُ ترك الشَّيْء استثقالاً وكراهية لَهُ بعد حرص ومحبة فِيهِ، وَهُوَ من صِفَات الْمَخْلُوق، فَلَا بُد من تَأْوِيل. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنه لَا يتْرك الثَّوَاب على الْعَمَل مَا لم يذكر الْعَمَل، وَذَلِكَ أَن من مل شَيْئا تَركه، فكنى عَن التّرْك بالملال الَّذِي هُوَ سَبَب التّرْك، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أَنه لَا يمل إِذا مللتم. قَالَ: ومثاله قَوْلهم فِي البليغ: فلَان لَا يَنْقَطِع حَتَّى تَنْقَطِع خصومه، مَعْنَاهُ لَا يَنْقَطِع إِذا انْقَطَعت خصومه، وَلَو كَانَ لم يكن لَهُ فضل على غَيره. وَقَالَ بَعضهم: وَمَعْنَاهُ أَن الله لَا يتناهى حَقه عَلَيْكُم فِي الطَّاعَة حَتَّى يتناهى جهدكم قبل ذَلِك، فَلَا تكلفوا مَا لَا تطيقون من الْعَمَل، كنى بالملال عَنهُ لِأَن من تناهت قوته عَن أَمر، وَعجز عَن فعله مله وَتَركه. وَقَالَ التَّيْمِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله لَا يمل أبدا مللتم أَنْتُم أَو لم تملوا، نَحْو قَوْلهم: لَا أُكَلِّمك حَتَّى يشيب الْغُرَاب. وَلَا يَصح التَّشْبِيه، لِأَن شيب الْغُرَاب لَيْسَ مُمكنا عَادَة، بِخِلَاف ملل الْعباد. وَحكى الْمَاوَرْدِيّ أَن: حَتَّى، هَهُنَا بِمَعْنى: حِين، أَو بِمَعْنى: الْوَاو، وَهَذَا ضَعِيف جدا.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة على اسْتِعْمَال الْمجَاز، وَهُوَ إِطْلَاق الْملَل على الله تَعَالَى. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الْحلف من غير استحلاف، وَأَنه لَا كَرَاهَة فِيهِ إِذا كَانَ فِيهِ تفخيم أَمر، أَو حث على طَاعَة، أَو تنفير عَن مَحْذُور وَنَحْوه، وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: يكره الْيَمين إلاَّ فِي مَوَاضِع: مِنْهَا مَا ذكرنَا. وَمِنْهَا: إِذا كَانَت فِي دَعْوَى فَلَا تكره إِذا كَانَ صَادِقا. الثَّالِث:

(1/257)


فِيهِ فَضِيلَة الدَّوَام على الْعَمَل والحث على الْعَمَل الَّذِي يَدُوم وَالْعَمَل الْقَلِيل الدَّائِم خير من الْكثير الْمُنْقَطع، لِأَن بدوام الْقَلِيل تدوم الطَّاعَة وَالذكر، والمراقبة وَالنِّيَّة والأخلاص والإقبال على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويثمر الْقَلِيل الدَّائِم بِحَيْثُ يزِيد على الْكثير الْمُنْقَطع أضعافا كَثِيرَة. الرَّابِع: فِيهِ بَيَان شَفَقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأفته بأمته، لِأَنَّهُ أرشدهم إِلَى مَا يصلحهم، وَهُوَ مَا يُمكنهُم الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا مشقة، لِأَن النَّفس تكون فِيهِ أنشط، وَيحصل مِنْهُ مَقْصُود الْأَعْمَال وَهُوَ الْحُضُور فِيهَا والدوام عَلَيْهَا، بِخِلَاف مَا يشق عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ تعرض لِأَن يتْرك كُله أَو بعضه، أَو يَفْعَله بكلفة فيفوته الْخَيْر الْعَظِيم. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد والمهلب: إِنَّمَا قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام خشيَة الملال اللَّاحِق، وَقد ذمّ الله من الْتزم فعل الْبر ثمَّ قطعه بقوله: {ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها} (الْحَدِيد: 57) أَلا ترى أَن عبد الله بن عَمْرو نَدم على مُرَاجعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّخْفِيفِ عَنهُ لما ضعف، وَمَعَ ذَلِك لم يقطع الَّذِي الْتَزمهُ. الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل لِلْجُمْهُورِ على أَن صَلَاة جَمِيع اللَّيْل مَكْرُوهَة، وَعَن جمَاعَة من السّلف لَا بَأْس بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ القَاضِي: كرهه مَالك مرّة، وَقَالَ: لَعَلَّه يَصح مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة. ثمَّ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ مَا لم يضر ذَلِك بِصَلَاة الصُّبْح، وَإِن كَانَ يَأْتِيهِ الصُّبْح وَهُوَ نَائِم فَلَا، وَإِن كَانَ بِهِ فتور وكسل فَلَا بَأْس بِهِ.

33 - (بابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ ونُقْصَانِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، و: بَاب، مَرْفُوع مُضَاف قطعا. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول أحبية دوَام الدّين إِلَى الله تَعَالَى، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، فَلَا شكّ أَن يزْدَاد الْإِيمَان بدوام العَبْد على أَعمال الدّين، وَينْقص بتقصيره فِي الدَّوَام، سِيمَا هَذَا على مَذْهَب البُخَارِيّ وَجَمَاعَة من الْمُحدثين، وَأما على قَول من لَا يَقُول بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، فَإِنَّهُ أَيْضا يُوجد الزِّيَادَة بالدوام وَالنَّقْص بالتقصير فِيهِ. ولكنهما يرجعان إِلَى صفة الْإِيمَان لَا إِلَى ذَاته، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وزِدْنَاهُمْ هُدًى} {ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانا} وقالَ {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإذَا تَرَكَ شَيْئا مِنَ الْكَمَالِ فهُوَ نَاقِصٌ.
وَقَول، مجرور عطف على قَوْله: زِيَادَة الْإِيمَان، وَقَوله الثَّانِي أَيْضا عطف عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: بَاب فِي بَيَان زِيَادَة الْإِيمَان، وَبَيَان نقصانه، وَبَيَان قَول الله تَعَالَى: {وزدناهم هدى} (الْكَهْف: 13) وَبَيَان قَوْله تَعَالَى: {ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} (المدثر: 31) ثمَّ إِنَّه قَالَ: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) بِلَفْظ الْمَاضِي وَلم يقل وَقَوله الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ على أسلوب أَخَوَيْهِ، لِأَن الْغَرَض مِنْهُ مَا هُوَ لَازمه، وَهُوَ بَيَان النُّقْصَان، وَالِاسْتِدْلَال بِهِ على أَن الْإِيمَان كَمَا تدخله الزِّيَادَة فَكَذَلِك يدْخلهُ النُّقْصَان لِأَن الشَّيْء إِذا قبل أحد الضدين لَا بُد وَأَن يقبل الضِّدّ الآخر، وَبَين ذَلِك بقوله: (فَإِذا ترك شَيْئا من الْكَمَال فَهُوَ نَاقص) ، بِخِلَاف مَا تقدم من الْآيَتَيْنِ، فَإِن المُرَاد مِنْهُمَا إِثْبَات الزِّيَادَة تَصْرِيحًا لَا استلزاما، لِأَن الزِّيَادَة مصرحة فيهمَا بِخِلَاف الْآيَة الثَّالِثَة. فَإِن الصَّرِيح فِيهَا الْكَمَال الَّذِي يُقَابله النُّقْصَان، وَهُوَ يفهم مِنْهُ التزاما لَا صَرِيحًا. وَلما كَانَ الْبَاب مترجما بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه احْتج على الزِّيَادَة بِصَرِيح الْآيَتَيْنِ، وعَلى النُّقْصَان بِالْآيَةِ الثَّالِثَة بطرِيق الاستلزام، وَقد ذكر الْآيَتَيْنِ المتقدمتين فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان عِنْد قَوْله: كتاب الْإِيمَان، وَقد قُلْنَا أَنه لَو ذكر مَا يتَعَلَّق بِأُمُور الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي بَاب وَاحِد، إِمَّا هُنَاكَ وَإِمَّا هَهُنَا، كَانَ أنسب، وَلكنه عقد فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان هَذَا الْبَاب هَهُنَا لأجل الْمُنَاسبَة الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، فالآية الأولى فِي سُورَة الْكَهْف، وَالثَّانيَِة فِي سُورَة المدثر، وَالثَّالِثَة فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَقد مر الْكَلَام فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوليين هُنَاكَ. فَإِن قلت: دلَالَة الْآيَة الثَّانِيَة ظَاهِرَة على زِيَادَة الْإِيمَان فَكيف تدل الأولى وَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ زِيَادَة الْهدى، وَهِي الدّلَالَة الموصولة إِلَى البغية؟ وَيُقَال هِيَ الدّلَالَة مُطلقًا؟ قلت: زِيَادَة الْهدى مستلزمة للْإيمَان، أَو المُرَاد من الْهدى هُوَ الْإِيمَان. وَقَالَ ابْن بطال: هَذِه الْآيَة يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) حجَّة فِي زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، لِأَنَّهَا نزلت يَوْم كملت الْفَرَائِض وَالسّنَن وَاسْتقر الدّين، وَأَرَادَ الله عز وَجل قبض نبيه، فدلت هَذِه الْآيَة أَن كَمَال الدّين إِنَّمَا يحصل بِتمَام الشَّرِيعَة، فتصور كَمَاله يَقْتَضِي تصور نقصانه، وَلَيْسَ المُرَاد التَّوْحِيد، ولوجوده قبل نزُول الْآيَة.

(1/258)


فَالْمُرَاد الْأَعْمَال، فَمن حَافظ عَلَيْهَا فإيمانه أكمل من إِيمَان من قصر. قلت: هَذِه الْآيَة لَا تدل أصلا على زِيَادَة الدّين وَلَا على نقصانه، لِأَن المُرَاد أكملت لكم شرائع دينكُمْ، وتعليل ابْن بطال على مَا ادَّعَاهُ دَلِيل لما قُلْنَا وَحجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهَا نزلت يَوْم كملت الْفَرَائِض وَالسّنَن وَاسْتقر الدّين، وَلم يقل أحد إِن الدّين كَانَ نَاقِصا إِلَى وَقت نزُول هَذِه الْآيَة حَتَّى أكمله فِي هَذَا الْيَوْم، وَإِنَّمَا المُرَاد إِكْمَال شرائع الدّين فِي هَذَا الْيَوْم، لِأَن الشَّرَائِع نزلت شَيْئا فَشَيْئًا طول مُدَّة النُّبُوَّة، فَلَمَّا كملت الشَّرَائِع قبض الله نبيه، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ أَيْضا صرح بِهِ بقوله: وَلَيْسَ المُرَاد التَّوْحِيد، لوُجُوده قبل نزُول الْآيَة. فَإِن ادّعى أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان فَلَيْسَ يتَصَوَّر، لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون كَمَال الْإِيمَان فِي هَذَا الْيَوْم، وَقَبله كَانَ نَاقِصا، لِأَن الشَّرَائِع الَّتِي هِيَ الْأَعْمَال مَا كملت إلاَّ فِي هَذَا الْيَوْم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: {أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) كفيتكم أَمر عَدوكُمْ وَجعلت الْيَد الْعليا لكم، كَمَا تَقول الْمُلُوك: الْيَوْم كمل لنا الْملك وكمل لنا مَا نُرِيد، إِذا كفوا من ينازعهم الْملك ووصلوا إِلَى أغراضهم ومباغيهم، أَو أكملت لكم مَا تحتاجون إِلَيْهِ فِي تكليفكم من تَعْلِيم الْحَلَال وَالْحرَام والتوقيف على الشَّرَائِع وقوانين الْقيَاس وأصول الِاجْتِهَاد.
1 - حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنَا هِشَام قَالَ حَدثنَا قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يخرج من النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي قلبه وزن شعيرَة من خير وَيخرج من النَّار من قَالَ لَا غله إِلَّا الله وَفِي قلبه وزن برة من خير وَيخرج من النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي قلبه وزن ذرة من خير.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَلَا سِيمَا على مذْهبه (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة الأول مُسلم بِضَم الْمِيم وَكسر اللَّام الْخَفِيفَة بن إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو الازدي الفراهيدي مَوْلَاهُم القصاب وَقد يعرف بالشحام روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وروى الْبَقِيَّة عَن رجل ولد سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِالْبَصْرَةِ لعشر ربقين من صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وروى الْبَقِيَّة عَن رجل عَنهُ ولد سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِالْبَصْرَةِ لعشر بَقينَ من صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَقَالَ يحيى بن معِين هُوَ ثِقَة مَأْمُون وَقَالَ أَبُو حَاتِم ثِقَة صَدُوق وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله كَانَ ثِقَة عمى بآخرة وَكَانَ سمع من سبعين امْرَأَة. الثَّانِي هِشَام بِكَسْر الْهَاء بن ابي عبد الله وَاسم ابنى عبد الله سندر الربعِي الْبَصْرِيّ الدستوَائي ويكنى بِأبي بكر قَالَ وَكِيع كَانَ ثبتا وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد كَانَ ثِقَة ثبتا فِي الحَدِيث حجَّة إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر وَقَالَ الْعجلِيّ كَانَ يَقُول كَانَ يَقُول بِالْقدرِ وَلم يكن يَدْعُو إِلَيْهِ توفّي سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة على قَول روى لَهُ الْجَمَاعَة الثَّالِث قَتَادَة بن دعامة وَقد مر ذكره الرَّابِع أنس بن مَالك رضى الله عَنهُ وَقد مر أَيْضا
بَيَان الْأَنْسَاب الفراهيدي بِفَتْح الْفَاء وبالراء وَالْهَاء الْمَكْسُورَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة وَالدَّال الْمُهْملَة وَقَالَ ابْن الآثير بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بطن من الازد وَمِنْهُم الْخَلِيل بن أَحْمد النَّحْوِيّ قلت هُوَ فراهيد بن شَبابَة ابْن مَالك بن فهم ابْن غنم بن دوس كَذَا قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ فراهيد وَقَالَ ابْن دُرَيْد بنوفرهود بن شَبابَة الَّذين يُقَال لَهُم الفراهيد والفرهود الغليظ من قَوْلهم تفرهد هَذَا الْغُلَام إِذا سمن يُقَال غُلَام فرهود وَلَا يُوصف بِهِ الرجل قَالَ والفرهود ولد الاسد فِي لُغَة اودعمان وَفِي كتاب الجمهرة فرهود بن الْحَارِث الَّذِي من وَلَده الْخَلِيل بن أَحْمد النَّحْوِيّ وَهُوَ الفرهودي قَالَ وَمن قَالَ الفراهيدي فأنما يُرِيد الْجمع كَمَا يُقَال مهالبة وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ بعد الْجمع وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد وعَلى شبابه وَافقه ابْن الْكَلْبِيّ وَغَيره وَهُوَ الصَّوَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وشبابه والْحَارث اخوان وَقَالَ أَبُو جَعْفَر حكى قطرب ابْن الفرهود هُوَ الْغُلَام الْكَبِير قَالَ وَعَن ابي عُبَيْدَة الفراهيد أَوْلَاد الوعول قَالَ أَبُو جَعْفَر وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ فراهدي مثل مقابرى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل لم أره لغيره. الربعِي بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى ربيعَة بن نذار بن معد بن عدنان وَهُوَ ربيعَة الْفرس وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد وَرَبِيعَة بن نذار شعب وَاسع فِيهِ قبائل وعمار وبطون وافخاذ فَمِمَّنْ ينْسب إِلَيْهِم من الروَاة هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي الربعى الدستوَائي بِفَتْح الدَّال واسكان السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبعدهَا تَاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وَآخره همزَة.

(1/259)


بِلَا نون وَقيل الستوائي بِالْقصرِ وَالنُّون وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور ودستواء كورة من كور الاهواز كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا قلت ضبط السَّمْعَانِيّ بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي الانساب للرشاطى قَالَ سِيبَوَيْهٍ يُقَال فِي دستواء دستوانى مثل بحراني بالنُّون.
(بَيَان لطائف اسناده) . مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْه أَن رُوَاته كلم يبصرون وَمِنْهَا أَنهم كلهم أئئمة أجلاء
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن معَاذ بن فضَالة وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن الْمنْهَال عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد وَهِشَام وَشعْبَة بِهِ وَفِيه قصَّة ليزِيد مَعَ شُعْبَة وَعَن ابي غَسَّان المسمعي مَالك بن عبد الْوَاحِد وَمُحَمّد بن الْمثنى كِلَاهُمَا عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة جَهَنَّم عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن ابْني دَاوُد عَن شُعْبَة وَهِشَام بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح. بَيَان اللُّغَات قَوْله " شعير وَاحِدَة " الشّعير والبرة بِضَم الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء وَاحِدَة الْبر وَهِي الْقَمْح وَقَالَ ابْن دُرَيْد الْبر أفْصح من قَوْلهم الْقَمْح وَيجمع الْبر ابرارا عِنْد الْمبرد وَمنعه سِيبَوَيْهٍ والذرة بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَاحِدَة الذَّر وَهِي اصغر النَّمْل وَقَالَ القَاضِي عِيَاض الذَّر النَّمْل الصَّغِير وَعَن بعض نقلة الاخبار أَن الذَّر الهباء الَّذِي يظْهر فِي شُعَاع الشَّمْس مثل رُؤْس الابر ويروى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا وضعت كفك على التُّرَاب ثمَّ نفضتها فَمَا سقط من التُّرَاب فَهُوَ ذرة وَحكى أَن ارْبَعْ ذرات خردلة وَقيل الذّرة جُزْء من ألف وَأَرْبَعَة وَعشْرين جزأ من شعيرَة انْتهى كَلَامه وَقد ابدلها شُعْبَة بِضَم الذَّال وَتَخْفِيف الرَّاء وَكَأن سَببه الْمُنَاسبَة أذ هِيَ من الْحُبُوب أَيْضا كالبة والشعيرة وَقَالَ النَّوَوِيّ واتفقه على أَنه تَصْحِيف قلت لَا يَنْبَغِي أَن ينْسب مثل شُعْبَة إِلَى التَّصْحِيف بل لَهُ وَجه يبعد عَن الْبعد (بَيَان الْأَعْرَاب) قَوْله " يخرج " بِفَتْح الْيَاء من الْخُرُوج وَبِضَمِّهَا وَفتح الرَّاء من الأخراج وَهُوَ رِوَايَة الاصيلى وَالْأول رِوَايَة الْجُمْهُور قَوْله " من قَالَ " جملَة فِي مَحل الرّفْع على الْوَجْهَيْنِ أما على الوجة الأول فَهِيَ فَاعل وَأما الثَّانِي فَهِيَ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل وَكلمَة من مَوْصُولَة وَقَالَ جملَة صلتها وَقَول لَا إِلَه إِلَّا الله مقول القَوْل قَوْله " وَفِي قلبه وزن شعيرَة " جملَة اسمية وَقعت حَالا قَوْله " من خير " كلمة من بَيَانِيَّة وَالْكَلَام فِي اعراب الْبَاقِي كَالْكَلَامِ فِيمَا ذَكرْنَاهُ (بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) فِيهِ طى ذكر الْفَاعِل لشهرته لِأَنَّهُ من الْمَعْلُوم أَن أحد لَا يُخرجهُ من النَّار إِلَّا الله تَعَالَى وَفِيه اطلاق الْخَيْر على الْإِيمَان لِأَن المُرَاد من قَوْله " من خير من إِيمَان " كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَالْخَيْر فِي الْحَقِيقَة مَا يقرب العَبْد إِلَى الله تَعَالَى وَمَا ذَلِك إِلَّا الْإِيمَان وَفِيه اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ بَيَانه ن الْوَزْن أَنما يتَصَوَّر فِي الْأَجْسَام دون الْمعَانِي وَالْإِيمَان معنى وَلكنه شبه الْإِيمَان بالجسم فاضيف إِلَيْهِ مَا هُوَ من لَوَازِم الْجِسْم وَهُوَ الْوَزْن وَفِيه تنكير خير الَّذِي هُوَ الْإِيمَان بِالتَّنْوِينِ الَّتِي تدل على التقليل ترغيباً فِي تَحْصِيله إِذا لما حصل الْخُرُوج بَاقِل مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْإِيمَان فبالكثير مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الأولى فَأن قلت التنكير يقتضى أَن يَكْفِي أَي إِيمَان وَبِأَيِّ شَيْء كَانَ وَمَعَ هَا لَا بُد من الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا علم مَجِيء الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا بُد من ذَلِك حَتَّى يتَحَقَّق حَقِيقَة الْإِيمَان وَيصِح اطلاقه فَأن قلت التَّصْدِيق القلبي كَاف فِي الْخُرُوج إِذْ الْمُؤمن لَا يخلد فِي النَّار وَأما قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فلأ جزاءا احكام الدُّنْيَا عَلَيْهِ فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا قلت الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا فَقَالَ الْبَعْض لَا يَكْفِي مُجَرّد التَّصْدِيق بل لَا بُد من القَوْل وَالْعَمَل أَيْضا وَعَلِيهِ البُخَارِيّ إِذا المارد من الْخُرُوج هُوَ بِحَسب حكمنَا بِهِ أَي نحكم بِالْخرُوجِ لمن كَانَ فِي قلبه إِيمَانًا ضاما إِلَيْهِ عنوانه الَّذِي يدل عَلَيْهِ إِذا الْكَلِمَة هِيَ شعار الْإِيمَان فِي الدُّنْيَا وَعَلِيهِ مدَار الْأَحْكَام فَلَا بُد مِنْهُمَا حَتَّى يَصح الحكم بِالْخرُوجِ (فان قلت) فعلى هَذَا لَا يَكْفِي قَول لَا إِلَه إِلَّا الله بل لَا بُد من ذكر مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه قلت المُرَاد الْمَجْمُوع وَصَارَ الْجُزْء الأول مِنْهُ علما للْكُلّ كَمَا يُقَال قَرَأت (قل هُوَ الله أحد) أَي قَرَأت كل السُّورَة أَو كَانَ هَذَا قبل مَشْرُوعِيَّة ضمنهَا إِلَيْهِ (بَيَان استنباط الاحكام) الأول قَالَ التَّيْمِيّ اسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث على نُقْصَان الْإِيمَان لِأَنَّهُ يكون لوَاحِد

(1/260)


وزن شعيرَة وَهِي أَكثر من الْبرة والبرة أَكثر من الذّرة فَدلَّ على أَنه يكون للشَّخْص الْقَائِل لَا إِلَه إِلَّا الله قدر من الْإِيمَان لَا يكون ذَلِك الْقدر لقَائِل آخر وَقَالَ الْكرْمَانِي لَا يخْتَص بِالنُّقْصَانِ بل يدل على الزِّيَادَة أَيْضا قلت المُرَاد من الْخَيْر هُوَ الثمرات وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة من يمَان ثَمَرَات الْإِيمَان وَلَا نزاع فِي زِيَادَة ثَمَرَات الْإِيمَان ونقصانها فَأن قلت مَا المُرَاد بالثمرات القلبية قلت المُرَاد بهَا مَرَاتِب الْعُلُوم الْحَاصِلَة المستلزمة للتصديق لكل وَاحِد من جزيئات الشَّرْع وَقَالَ الْمُهلب الذّرة أقل من الموزونات وَهِي فِي هَذَا الحَدِيث التَّصْدِيق بهَا وَلَيْسَت زِيَادَة فِي نفس التَّصْدِيق وَيُقَال يحْتَمل أَن تكون الذّرة واختارها الَّتِي فِي الْقلب ثلاثتها من نفس التَّصْدِيق لَان قَول لَا إِلَه إِلَّا الله لَا يتم إِلَّا بِتَصْدِيق الْقلب وَالنَّاس يتفاضلون فِي التَّصْدِيق إِذْ يجوز عَلَيْهِ الزِّيَادَة بِزِيَادَة الْعلم والمعاينة أما زِيَادَته بِزِيَادَة الْعلم فَلقَوْله تَعَالَى {أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا} الْآيَة وَأما زِيَادَته بِزِيَادَة المعاينة فَلقَوْله تَعَالَى (وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي) وَقَول تَعَالَى (ثمَّ لترونها عين الْيَقِين) حَيْثُ جعل لَهُ مزية على علم الْيَقِين قلت حَقِيقَة التَّصْدِيق شَيْء وَاحِد لَا يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَقَالَ الإِمَام إِن كَانَ المُرَاد من الْإِيمَان التَّصْدِيق فَلَا يقبل الزِّيَادَة والنقاصان وَإِن كَانَ الطَّاعَات فيقبلهما وَالْأَصْل هُوَ التَّصْدِيق وَالْقَوْل بِلَا لَهُ إِلَّا الله لآجراء الإحكام فِي الدُّنْيَا وَالنَّاس أَنما يتفاضلون فِي التَّصْدِيق التفصيلي لَا فِي مُطلق التَّصْدِيق وَقَوله تَعَالَى (وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي) حِكَايَة عَن قَول إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَيف يمن أَن يُقَال فِي حَقه زَاد تَصْدِيقه بالمعاينة لِأَن القَوْل بِهَذَا يسْتَلْزم القَوْل بِنُقْصَان تَصْدِيقه قبل ذَلِك وَذَا لَا يجوز فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاده من هَذَا أَن يضم إِلَى عمله الضَّرُورِيّ الْعلم الاستدلالي ليزِيد سكونا لَا تظاهر الادلة اسكن للقلوب فَافْهَم
الثَّانِي فِيهِ دُخُول عصاة الْمُوَحِّدين النَّار
الثَّالِث فِيهِ أَن صَاحب الْكَبِير من الْمُوَحِّدين لَا يكفر بِفِعْلِهَا وَلَا يخلد فِي النَّار
الرَّابِع فِيهِ أَنه لَا يَكْفِي فِي الْإِيمَان معرفَة الْقلب دون الْكَلِمَة وَلَا الْكَلِمَة من غير اعْتِقَاد
سُؤال لم قدم الشعيرة على الْبرة اجيب لِأَنَّهَا أكبر جر مَا مِنْهَا وَيقرب بَعْضهَا من بعض وَأخر الذّرة لصغرها وَهَذَا من بَاب الترقي فِي الحكم وَإِن كَانَ من بَاب التَّنْزِيل فِي الصُّور فَافْهَم

(قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبان حَدثنَا قَتَادَة حَدثنَا أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " عَن إِيمَان " مَكَان " من خير ")
المُرَاد من أبي عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَلَا يُوجد فِي بعض النّسخ قَالَ أَبُو عبد الله بل الْمَذْكُور بعد تَمام الحَدِيث وَقَالَ ابْن بِالْوَاو العاطفة هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ وَقد وَصله الْحَاكِم فِي كتاب الْأَرْبَعين لَهُ من طَرِيق أبي سَلمَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا أبان بن يزِيد فَذكر الحَدِيث وَفِي ذكره ثَلَاث فَوَائِد (الأولى) وَهِي أهمها التَّنْبِيه على تَصْرِيح قَتَادَة فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ عَن أنس وَذَلِكَ أَن قَتَادَة مُدَلّس لَا يحْتَج بعنعته إِلَّا إِذا ثَبت سَمَاعه لذَلِك الَّذِي عنعن وَالْوَاقِع فِي الرِّوَايَة الأولى عَنهُ وَهِي رِوَايَة هِشَام بالعنعة حَيْثُ قَالَ عَن أنس وَلما ثَبت من رِوَايَة أبان عَنهُ بِالتَّحْدِيثِ علم اتِّصَال عنعنته وقوى الِاحْتِجَاج بِهِ (الثَّانِيَة) فِيهِ التَّنْبِيه على تَفْسِير الْمَتْن بقوله من إِيمَان بدل قَوْله من خير (الثَّالِثَة) فِيهِ التقوية لما قبله فَأن قلت لم لم يكتف بطرِيق أبان الَّتِي لَيْسَ فِيهَا التَّدْلِيس وبسوقها مَوْصُولَة قلت ان أبان وَأَن كَانَ ثِقَة لَكِن هشاماً أوثق مِنْهُ واحفظ حَتَّى قَالَ بو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ مَا رأى النَّاس اثْبتْ من هِشَام الدستوَائي فَذكر الْأَقْوَى وَاتبعهُ بالقوى لزِيَادَة التَّأْكِيد وابان بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن يزِيد الْعَطَّار الْبَصْرِيّ سمع قَتَادَة وَغير وروى عَنهُ الطَّيَالِسِيّ وحبان بن هِلَال وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم قَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة وَقَالَ مُوسَى ثَنَا ابان عَن قَتَادَة فَأخْرج لَهُ البُخَارِيّ اسْتِشْهَادًا وَأخرج لَهُ مُسلم عَن عبد بن حميد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَنهُ فِي الْبيُوع وَفِي مَوضِع آخر عَن زُهَيْر عَن عبد الصَّمد عَنهُ ووزنه فعال كغزالي فعلى هَذَا هُوَ منصرف والهمزة فَاء الْكَلِمَة أَصْلِيَّة وَالْألف زَائِدَة وَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَقَول الاكثرين وَقَالَ ابْن مَالك ابان لَا ينْصَرف لِأَنَّهُ على وزن افْعَل مَنْقُول من ابان يبين وَلَو لم يكن مَنْقُولًا لوَجَبَ أَن يُقَال فِيهِ أبين بالتصحيح
45 - حدّثنا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حدّثنا أبُو الْعُمَيْسِ أخْبَرَنَا قَيْسُ بنُ

(1/261)


مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أنّ رَجُلاً مِنَ اليَهُودِ قالَ لَهُ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلكَ اليَوْمَ عيدا قالَ أيُّ آيَةً قالَ {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينا} قالَ عُمَرُ قدْ عَرَفْنَا ذِلَكَ اليَوْمَ والمَكانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَة يَوْمَ جُمُعَةٍ..
أخرج هَذَا الحَدِيث هَهُنَا لِأَنَّهُ فِي بَيَان سَبَب نزُول الْآيَة الَّتِي هِيَ من جملَة التَّرْجَمَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) الْآيَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة الأول: الْحسن أَبُو عَليّ بن الصَّباح، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، ابْن مُحَمَّد الْبَزَّار، بزاي بعْدهَا رَاء الوَاسِطِيّ، سكن بَغْدَاد، قَالُوا: كَانَ من خِيَار النَّاس، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: ثِقَة صَاحب سنة، وَمَا يَأْتِي عَلَيْهِ يَوْم إلاَّ وَهُوَ يفعل فِيهِ خيرا، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وروى التِّرْمِذِيّ عَن رجل عَنهُ، توفّي بِبَغْدَاد سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ فِيمَا ذكر مُحَمَّد بن طَاهِر وَابْن عَسَاكِر، وَقَالَ مُحَمَّد بن سرُور الْمَقْدِسِي والكلاباذي: توفّي سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، فعلى القَوْل الأول تكون وَفَاته قبل البُخَارِيّ لِأَن البُخَارِيّ توفّي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جَعْفَر بن عون بن جَعْفَر بن عَمْرو بن حُرَيْث المَخْزُومِي أَبُو عون، قَالَ ابْن معِين: هُوَ ثِقَة، وَقَالَ أَحْمد: رجل صَالح لَيْسَ بِهِ بَأْس، توفّي بِالْكُوفَةِ سنة سبع وَمِائَتَيْنِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: أَبُو العميس بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، واسْمه عتبَة بن عبد الله بن عتبَة بن عبد الله بن مَسْعُود الْهُذلِيّ المَسْعُودِيّ الْكُوفِي أَخُو عبد الرَّحْمَن، قَالَ يحيى وَأحمد: ثِقَة، توفّي سنة عشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: قيس بن مُسلم، أَبُو عَمْرو الجدلي الْكُوفِي العابد، سمع طَارق بن شهَاب ومجاهدا وَغَيرهمَا، وَعنهُ الْأَعْمَش ومسعر وَغَيرهمَا، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: طَارق بن شهَاب بن عبد شمس بن سَلمَة بن هِلَال بن عَوْف بن جشم بن ظفر بن عَمْرو بن لؤَي بن رهم بن مُعَاوِيَة بن أسلم بن أخمس، بطن من بجيلة، صَحَابِيّ رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأدْركَ الْجَاهِلِيَّة وغزا فِي خلَافَة أبي بكر وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا، ثَلَاثًا وَأَرْبَعين من بَين غَزْوَة وسرية، روى عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة، سكن الْكُوفَة، توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، أخرج لَهُ البُخَارِيّ عَن أبي بكر وَابْن مَسْعُود، وَمُسلم عَن أبي سعيد، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَكَذَا ذكر الشَّيْخ قطب الدّين وَفَاته، وَهُوَ وهم، نبه عَلَيْهِ الْمزي وَالَّذين قَالُوا فِي وَفَاته: هُوَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ، وَقيل: سنة اثْنَتَيْنِ، وَقيل: سنة أَربع، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رأى طَارق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يسمع مِنْهُ شَيْئا. قلت: بجيلة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْجِيم، هِيَ أم ولد أَنْمَار بن أراش، وَهِي بنت صَعب بن الْعَشِيرَة. السَّادِس: أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن ثَلَاثَة مِنْهُم كوفيون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي الِاعْتِصَام عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مسعر وَغَيره، كلهم عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي بِهِ، وَعَن عبد بن حميد عَن جَعْفَر بن عون بِهِ، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن أَبِيه عَن قيس بن مُسلم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله بن إِدْرِيس بِهِ، وَفِي الْإِيمَان عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن جَعْفَر بن عون بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من الْيَهُود) ، هُوَ علم قوم مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي (الْعباب) : الْيَهُود اليهوديون، وَلَكنهُمْ حذفوا يَاء الْإِضَافَة كَمَا قَالُوا: زنجي وزنج، ورومي وروم، وَإِنَّمَا عرف على هَذَا الْحَد. فَجمع على قِيَاس شعيرَة وشعير. ثمَّ عرف الْجمع بِالْألف وَاللَّام، وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز دُخُول الْألف وَاللَّام، لِأَنَّهُ معرفَة مؤنث يجْرِي فِي كَلَامهم مجْرى الْقَبِيلَة، وَلم يجر كالحي انْتهى. وَسموا بِهِ

(1/262)


اشتقاقا من هادوا أَي مالوا، أَي فِي عبَادَة الْعجل أَو من دين مُوسَى، أَو من هاد إِذا رَجَعَ من خير إِلَى شَرّ وَمن شَرّ إِلَى خير لِكَثْرَة انتقالهم من مذاهبهم. وَقيل: لأَنهم يتهودون أَي: يتحركون عِنْد قِرَاءَة التَّوْرَاة. وَقيل: مُعرب من يهوذا بن يَعْقُوب، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، ثمَّ نسب إِلَيْهِ، فَقيل: يَهُودِيّ، ثمَّ حذفت الْيَاء فِي الْجمع فَقيل: يهود، وكل مَنْسُوب إِلَى جنس الْفرق بَينه وَبَين واحده بِالْيَاءِ وَعدمهَا نَحْو، روم ورومي، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (معشر الْيَهُود) المعشر الْجَمَاعَة الَّذين شَأْنهمْ وَاحِد، وَيجمع على معاشر. قَوْله: (عيدا) على وزن: فعل، أَصله: عود، لِأَنَّهُ من الْعود سمي بِهِ لِأَنَّهُ يعود فِي كل عَام. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} (الْمَائِدَة: 114) قيل: الْعِيد هُوَ السرُور الْعَائِد، وَلذَلِك يُقَال: يَوْم عيد، وَكَأن مَعْنَاهُ: تكون لنا سُرُورًا وفرحا، وَيجمع على أعياد، فرقا بَينه وَبَين أَعْوَاد الَّذِي هُوَ حمع عود. قَوْله: (بِعَرَفَة) يَوْم عَرَفَة هُوَ التَّاسِع من ذِي الْحجَّة، تَقول: هَذَا يَوْم عَرَفَة، غير منون وَلَا يدخلهَا الْألف وَاللَّام، لِأَن عَرَفَة علم لهَذَا الْمَكَان الْمَخْصُوص، فَفِيهَا العلمية والتأنيث، وَقد يُطلق على الْيَوْم الْمَعْهُود أَيْضا.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (سمع جَعْفَر) فعل وفاعل ومفعول، وَقَبله شَيْء مُقَدّر تَقْدِيره: حَدثنَا الْحسن بن الصَّباح أَنه سمع جَعْفَر، وَقد جرت عَادَة الْمُحدثين بِحَذْف: أَنه، فِي مثل هَذَا الْموضع فِي الْخط، وَلَكِن لَا بُد من قِرَاءَته، كَمَا يحذف لفظ: قَالَ، خطأ لَا قِرَاءَة. قَوْله: (من الْيَهُود) فِي مَحل النصب على أَنه صفة ل: (رجلا) أَي: رجلا كَائِنا من الْيَهُود. قَوْله: (قَالَ لَهُ) ، أَي: لعمر، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن. قَوْله: (آيَة) ، مُبْتَدأ، وَإِن كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ تخصص بِالصّفةِ وَهِي قَوْله: (فِي كتابكُمْ) وَقَوله: (تقرؤنها) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة أُخْرَى للمبتدأ، وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة خَبره، أَعنِي قَوْله: (لَو علينا) إِلَى آخِره، وَيجوز أَن يكون الْمُخَصّص للمبتدأ صفة محذوفة تَقْدِيره: آيَة عَظِيمَة. وَقَوله: (وَفِي كتابكُمْ) خَبره، وَقَوله: (يقرؤنها) خبر بعد خبر، وَيجوز أَن يكون الْخَبَر محذوفا مُقَدرا فِيمَا قبله، وَتَقْدِيره فِي كتابكُمْ آيَة، وَقَوله: (فِي كتابكُمْ) الْمَذْكُور مُفَسّر لَهُ، حذف ذَلِك حَتَّى لَا يجمع بَين الْمُفَسّر والمفسر. قَوْله: (لَو علينا) تَقْدِيره: لَو نزلت علينا، لِأَن لَو، لَا تدخل إِلَّا على الْفِعْل، فَحذف الْفِعْل لدلَالَة الْفِعْل الْمَذْكُور عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) أَي: وَإِن استجارك أحد. وَقَوله تَعَالَى: {لَو أَنْتُم تَمْلِكُونَ} (الْإِسْرَاء: 100) أَي: لَو تَمْلِكُونَ أَنْتُم. قَوْله: (علينا) يتَعَلَّق بالمحذوف. قَوْله: (معشر الْيَهُود) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص. أَي: أَعنِي معشر الْيَهُود. قَوْله: (لاتخذنا) ، جَوَاب الشَّرْط. قَوْله (قَالَ: أَي آيَة) ؟ أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَي آيَة هِيَ؟ فَالْخَبَر مَحْذُوف. قَوْله: (وَهُوَ قَائِم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَالْبَاء فِي (بِعَرَفَة) ظرفية. وَقد قُلْنَا: إِنَّه غير منصرف للعلمية والتأنيث، وَالْبَاء تتَعَلَّق بقوله: قَائِم، أَو بقوله: نزلت. قَوْله: (يَوْم الْجُمُعَة) ، وَفِي بعض الرِّوَايَات: يَوْم جُمُعَة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَضمّهَا وإسكانها. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين فعلة سَاكن الْعين وفعلة بتحريكها؟ قلت: إِن السَّاكِن بِمَعْنى الْمَفْعُول، والمتحرك بِمَعْنى الْفَاعِل، يُقَال: رجل ضحكة، بِسُكُون الْحَاء أَي: مضحوك، وَهَذِه قَاعِدَة كُلية. فَإِن قلت: عَرَفَة غير منصرف اتِّفَاقًا لما ذكرت، فَمَا بَال الْجُمُعَة منصرفا مَعَ أَنَّهَا مثلهَا فِي كَونهَا إسما للزمان الْمعِين، وَفِيه تَاء التَّأْنِيث؟ قلت: عَرَفَة علم وَالْجُمُعَة صفة أَو غير صفة لَيْسَ علما، لَو جعل علما لامتنع من الصّرْف.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِن رجلا من الْيَهُود) اسْم هَذَا الرجل هُوَ كَعْب الْأَحْبَار، صرح بذلك مُسَدّد فِي (مُسْنده) ، والطبري فِي (تَفْسِيره) ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) كلهم من طَرِيق رَجَاء بن أبي سَلمَة عَن عبَادَة بن نسي، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة، عَن إِسْحَاق بن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن كَعْب، فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من طَرِيق الثَّوْريّ عَن قيس بن مُسلم أَن نَاسا من الْيَهُود، وَأخرج فِي التَّفْسِير من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: قَالَت الْيَهُود فَكيف التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: التَّوْفِيق فِيهَا أَن كَعْبًا حِين سَأَلَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن ذَلِك كَانَ مَعَه جمَاعَة من الْيَهُود. قَوْله: (أَي آيَة) ؟ كلمة: أَي، هَهُنَا للاستفهام، وَهُوَ اسْم مُعرب معرفَة للاضافة، وَقد تتْرك الْإِضَافَة وَفِيه مَعْنَاهَا، وَإِذا كَانَ الَّذِي أضيف إِلَيْهِ مؤنثا لَا يجب دُخُول التَّاء فِيهِ، وَإِنَّمَا يجب إِذا وَقع صفة لمؤنث نَحْو: مَرَرْت بِامْرَأَة أَيَّة امْرَأَة، وَنَظِير قَوْله: أَي، آيَة، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت} (لُقْمَان: 34) فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الِاسْتِفْهَام بِهِ وَبَين الِاسْتِفْهَام بِمَا، نَحْو: {مَا تِلْكَ} (طه: 17)
الْآيَة؟ قلت: السُّؤَال: بِأَيّ، إِنَّمَا هُوَ عمل يُمَيّز أحد المشاركات، و: بِمَا، عَن الْحَقِيقَة وَالْغَرَض، هَهُنَا طلب تعْيين تِلْكَ الْآيَة وتمييزها عَن

(1/263)


سَائِر الْآيَات الَّتِي فِي الْكتاب مقروءة، قَوْله: (قد عرفنَا ذَلِك الْيَوْم) مَعْنَاهُ: أَنا مَا أهملناه وَلَا خَفِي علينا زمَان نُزُولهَا، وَلَا مَكَان نُزُولهَا، وضبطنا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بهَا حَتَّى صفة النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وموضعه فِي زمَان النُّزُول، وَهُوَ كَونه، عَلَيْهِ السَّلَام، قَائِما حِينَئِذٍ، وَهُوَ غَايَة فِي الضَّبْط. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: أَنا مَا تركنَا تَعْظِيم ذَلِك الْيَوْم وَالْمَكَان، أما الْمَكَان فَهُوَ عَرَفَات، وَهُوَ مُعظم الْحَج الَّذِي هُوَ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام، وَأما الزَّمَان فَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم عَرَفَة. وَهُوَ يَوْم اجْتمع فِيهِ فضلان وشرفان، وَمَعْلُوم تعظيمنا لكل وَاحِد مِنْهُمَا، فَإِذا اجْتمعَا زَاد التَّعْظِيم، فقد اتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيدا، وعظمنا مَكَانَهُ أَيْضا، وَهَذَا كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وعاش النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بعْدهَا ثَلَاثَة أشهر. قَوْله: (وَالَّذِي نزلت فِيهِ على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) زَاد مُسلم، عَن عبد بن حميد عَن جَعْفَر بن عون فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: (إِنِّي لأعْلم الْيَوْم الَّذِي أنزلت فِيهِ) . وَلأَحْمَد عَن جَعْفَر بن عون: (والساعة الَّتِي نزلت فِيهَا على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام) فَإِن قلت: كَيفَ طابق الْجَواب السُّؤَال؟ لِأَنَّهُ قَالَ لاتخذناه عيداً؟ فَقَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: عرفنَا أَحْوَاله، وَلم يقل جَعَلْنَاهُ عيداً. قلت: لما بَين أَن يَوْم النُّزُول كَانَ عَرَفَة وَمن المشهورت أَن الْيَوْم الَّذِي بعد عَرَفَة عيد للْمُسلمين، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَاهُ عيدا بعد إدراكنا اسْتِحْقَاق ذَلِك الْيَوْم للتعبد فِيهِ. فَإِن قلت: فَلم مَا جعلُوا يَوْم النُّزُول عيدا؟ قلت: لِأَنَّهُ ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النُّزُول كَانَ بعد الْعَصْر، وَلَا يتَحَقَّق الْعِيد إلاَّ من أول النَّهَار، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء: ورؤية الْهلَال بِالنَّهَارِ لليلة الْمُسْتَقْبلَة، فَافْهَم.

34 - (بَاب الزَّكاةُ مِنَ الإسْلاَمِ)

أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وَالزَّكَاة مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: من الاسلام أَي: الزَّكَاة شُعْبَة من شعب الْإِسْلَام. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، وَقد علم أَن الزِّيَادَة تكون بِالْأَعْمَالِ وَالنَّقْص بِتَرْكِهَا، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ: أَن أَدَاء الزَّكَاة من الْإِسْلَام، يَعْنِي: أَنه إِذا أدّى الزَّكَاة يكون إِسْلَامه كَامِلا، وَإِذا تَركهَا يكون نَاقِصا. لَا يُقَال: لم أفرد الزَّكَاة بِالذكر فِي التَّرْجَمَة من بَين سَائِر أَرْكَان الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ قد أفرد لكل وَاحِد من بَقِيَّة الإركان بَابا بترجمة.
وقَوْلُه {ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاَةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القيمةِ} (الْبَيِّنَة: 5) .
هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَقَول الله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إلاَّ ليعبدوا الله} (الْبَيِّنَة: 5) الْآيَة وَفِي بعض النّسخ: وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) الْآيَة ... قَوْله: (وَقَول الله) مجرور عطف على مَحل، قَوْله: (الزَّكَاة من الْإِسْلَام) لِأَنَّهَا مُضَاف إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَقَوله تَعَالَى. وَأما راوية أبي ذَر، فَإِنَّهَا بِلَا عطف، لِأَن الْوَاو فِي قَوْله: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) وَاو الْعَطف فِي الْقُرْآن عطف بهَا على مَا قبله: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب إلاَّ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} (الْبَيِّنَة: 4) فَإِن قلت: كَيفَ التئام الْآيَة بالترجمة؟ قلت: الالتئام بَينهمَا معنوي، وَهُوَ أَن الْآيَة فِيهَا ذكر أَن الزَّكَاة من الدّين، وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} (آل عمرَان: 19) وَتَحْقِيق ذَلِك أَن الله تَعَالَى ذكر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: إخلاص الدّين الَّذِي هُوَ رَأس جَمِيع الْعِبَادَات، وَالثَّانِي: إِقَامَة الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدّين، وَالثَّالِث إيتَاء الزَّكَاة الَّتِي تذكر دَائِما تالية للصَّلَاة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَمِيع ذَلِك بقوله: {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: الْمَذْكُور من هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ دين الْقيمَة، أَي: دين الْملَّة الْقيمَة، فالموصوف مَحْذُوف وقرىء وَذَلِكَ الدّين الْقيمَة. على تَأْوِيل الدّين بالملة وَمعنى: الْقيمَة، المستقيمة الناطقة بِالْحَقِّ وَالْعدْل. فَإِن قلت: كَيفَ خص الزَّكَاة بالترجمة، وَالْمَذْكُور ثَلَاثَة أَشْيَاء؟ قلت: أُجِيب عَن هَذَا عَن قريب. قَوْله: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: وَمَا أَمر أهل الْكتاب فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إلاَّ بِالدّينِ الحنيفي، وَلَكنهُمْ حرفوا وبدلوا. وَقَالَ الزمحشري: فَإِن قلت:) مَا وَجه قَوْله {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين} (الْبَيِّنَة: 5) قلت: مَعْنَاهُ: وَمَا أمروا فِي الْكِتَابَيْنِ إلاَّ لأجل أَن يعبدوا الله على هَذِه الصّفة. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ: إلاَّ أَن يعبدوا. بِمَعْنى: بِأَن يعبدوا الله انْتهى. قلت: الْعِبَادَة بِمَعْنى التَّوْحِيد، أَي: وَمَا أمروا إلاَّ ليوحدوا الله، وَالِاسْتِثْنَاء من أَعم عَام الْمَفْعُول لأَجله، أَي مَا أمروا لأجل شَيْء إلاَّ لِلْعِبَادَةِ، أَي: التَّوْحِيد، وَالْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص

(1/264)


السَّبَب وَيدخل فِيهِ جَمِيع النَّاس. قَوْله: {مُخلصين} حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي (أمروا) ، وَقَوله: (الدّين) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (حنفَاء) ، حَال أُخْرَى، جمع حنيف، وَهُوَ المائل عَن الضلال إِلَى الْهِدَايَة. قَوْله: (ويقيموا الصَّلَاة) عطف على قَوْله: (ليعبدوا الله) من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِيه تَفْضِيل للصَّلَاة وَالزَّكَاة على سَائِر الْعِبَادَات وَقد مر معنى إِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة.

46 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثني مالِكُ بْنُ أنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أبي سُهَيْلٍ بْنِ مالِكَ عَنْ أبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أهْلِ نَجْدٍ ثائِرُ الرَّأسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ ولاَ يُفْقَهُ مَا يقُولُ حَتَّى دَنا فإذَا هوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلاَمِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ واللَّيُلَةِ فَقَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُها قَالَ لَا إِلَّا أنْ تَطَّوَّعَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصِيَامُ رَمَضانَ قَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُهُ قَالَ لاَ إلاَّ أنْ تَطَّوَّع قَال وذَكرَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكاةَ قَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا قالَ لاَ إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ قالَ فأدْبَرَ الرَّجُلُ وهوَ يَقُولُ واللَّهِ لاَ أزِيدُ عَلَى هَذَا ولاَ أنْقُصُ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفْلَحَ إنْ صَدَقَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة: الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَمَوْضِع الدّلَالَة فِي الحَدِيث هُوَ قَوْله: فَإِذا هُوَ يسْأَله عَن الْإِسْلَام، فَذكر الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة، وَهَذَا ظَاهر فِي كَونهَا من الْإِسْلَام، وَكَذَلِكَ مطابقته لِلْآيَةِ ظَاهِرَة من حَيْثُ أَن الْمَذْكُور فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الصَّلَاة وَالزَّكَاة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن عبد الله الأصبحي الْمدنِي، ابْن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس، شَيْخه وخاله وَأَبُو أويس ابْن عَم مَالك وَقد مر فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام الْمَشْهُور، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: عَمه أَبُو سُهَيْل، وَهُوَ نَافِع بن مَالك بن أبي عَامر الْمدنِي وَقد مر. الرَّابِع: أَبوهُ وَهُوَ مَالك بن أبي عَامر، وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو مُحَمَّد طَلْحَة بن عبيد الله بن عُثْمَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب الْقرشِي التَّيْمِيّ، أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَب السَّابِع مثل أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، أسلمت أمه وَهَاجَرت، شهد الْمشَاهد كلهَا إلاَّ بَدْرًا كسعيد بن زيد، وَقد ضرب لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسهمه وآجره فِيهَا، وَكَانَ الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، إِذا ذكر أحدا قَالَ: ذَلِك يَوْم كُله لطلْحَة، وَقد وهم البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِن سعيد بن زيد مِمَّن حضر بَدْرًا، وَهُوَ أحد الثَّمَانِية الَّذين سبقوا إِلَى الْإِسْلَام، والخمسة الَّذين أَسْلمُوا على يَد الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، والستة أَصْحَاب الشورى الَّذين توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ عَنْهُم رَاض، وَهُوَ مِمَّن ثَبت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد ووقاه بِيَدِهِ ضَرْبَة قصد بهَا فشلت، رَمَاه مَالك بن زُهَيْر يَوْم أحد، فاتقى طَلْحَة بِيَدِهِ عَن وَجه رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، فَأصَاب خِنْصره، فَقَالَ حِين أَصَابَته الرَّمية: حيس، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو قَالَ: بِسم الله لدخل الْجنَّة وَالنَّاس ينظرُونَ. وَقيل: جرح فِي ذَلِك الْيَوْم خمْسا وَسبعين جِرَاحَة، وشلت أصبعاه، وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طَلْحَة الْخَيْر، وَطَلْحَة الْجواد. رُوِيَ لَهُ ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بِثَلَاثَة، قتل يَوْم الْجمل، أَتَاهُ سهم لَا يدْرِي من وَرَاءه، واتتهم بِهِ مَرْوَان، لعشر خلون من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ عَن أَربع وَسِتِّينَ سنة، وَقيل: اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقيل: ثَمَان وَخمسين، وقبره بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: دفن بقنطرة قُرَّة، ثمَّ رَأَتْ بنته بعد ثَلَاثِينَ سنة فِي الْمَنَام أَنه يشكو إِلَيْهَا النداوة، فَأمرت فاستخرج طريا وَدفن فِي دَار الهجرتين بِالْبَصْرَةِ، وقبره مَشْهُور، رَضِي الله عَنهُ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَطَلْحَة فِي الصَّحَابَة جمَاعَة، وَطَلْحَة بن عبيد الله اثْنَان: هَذَا أَحدهمَا، وَثَانِيهمَا التَّيْمِيّ، وَكَانَ يُسمى أَيْضا: طَلْحَة الْخَيْر، فأشكل على النَّاس.

(1/265)


بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ أَولا حَدثنَا إِسْمَاعِيل، ثمَّ حَدثنِي مَالك، لِأَن فِي الأول الشَّيْخ قَرَأَ لَهُ وَلغيره، وَفِي الثَّانِي: قَرَأَ لَهُ وَحده، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده مسلسل بالأقارب، لِأَن إِسْمَاعِيل يروي عَن خَاله عَن عَمه عَن أَبِيه. فَإِن قلت: حكى الكلاباذي وَغَيره عَن ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ أَن مَالك بن أبي عَامر توفّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَة، وَأَنه بلغ من الْعُمر: سبعين أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين، فعلى هَذَا يكون مولده بعد موت طَلْحَة بِسنتَيْنِ. قلت: قَالَ بَعضهم: لَعَلَّه صحف التسعين بالسبعين، وَحكى الْمُنْذِرِيّ عَن ابْن عبد الْبر أَن وَفَاته سنة مائَة أَو نَحْوهَا، فَيصح على هَذَا، ويستقيم. وَقد ثَبت سَماع مَالك مِنْهُ وَمن غَيره كعثمان، رَضِي الله عَنهُ، نبه عَلَيْهِ الثَّوْريّ وَغَيره.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَأخرجه أَيْضا فِي الصَّوْم، وَفِي ترك الْحِيَل عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن أبي سُهَيْل بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وَيحيى بن أَيُّوب كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَقَالَ مُسلم فِي حَدِيث يحيى بن أَيُّوب: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَعَن أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَفِي الصَّوْم عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَفِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن قَاسم عَن مَالك بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من أهل نجد) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم، قَالَ الْجَوْهَرِي: نجد من بِلَاد الْعَرَب، وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهُوَ مُذَكّر. قلت: النجد النَّاحِيَة الَّتِي بَين الْحجاز وَالْعراق، وَيُقَال: مَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وغمرة الطَّائِف نجد، وَيُقَال: هُوَ مَا بَين جرش وَسَوَاد الْكُوفَة، وَحده من الغرب الْحجاز، وَفِي (الْعباب) : نجد من بِلَاد الْعَرَب، خلاف الْغَوْر، والغور هُوَ تهَامَة، وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهُوَ فِي الأَصْل مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَالْجمع: نجاد ونجود وانجد. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) أَي: منتفش شعر الرَّأْس ومنتشره، يُقَال: ثار الْغُبَار أَي: انتفش، وفتنة ثائرة أَي: منتشرة. قلت: مادته واوية من: ثار الْغُبَار يثور ثورا، وَحَاصِله أَن شعره متفرق منتشر من عدم الارتفاق والرفاهية. قَوْله: (دوى صَوته) ، بِفَتْح الدَّال وَكسر الْوَاو وَتَشْديد الْيَاء، كَذَا هُوَ فِي عَامَّة الرِّوَايَات، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: جَاءَ عندنَا فِي البُخَارِيّ، بِضَم الدَّال. قَالَ: وَالصَّوَاب الْفَتْح، قَالَ الْخطابِيّ: الدوي: صَوت مُرْتَفع متكرر لَا يفهم، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَنَّهُ نَادَى من بعد، وَيُقَال الدوي: بعد الصَّوْت فِي الْهَوَاء وعلوه، وَمَعْنَاهُ: صَوت شَدِيد لَا يفهم مِنْهُ شَيْء كَدَوِيِّ النَّحْل. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هُوَ شدَّة الصَّوْت وَبعده فِي الْهَوَاء، مَأْخُوذ من دوِي الرَّعْد، وَيُقَال: هُوَ شدَّة صَوت لَا يفهم، فَلَمَّا دنا فهم كَلَامه، فَلهَذَا قَالَ: فَلَمَّا دنا فَإِذا هُوَ يسْأَل. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: دوِي الرّيح حفيفها، وَكَذَلِكَ دوِي النَّحْل والطائر وَيُقَال: دوى النَّحْل تدوية، وَذَلِكَ إِذا سَمِعت لهديره دويا، والدوي أَيْضا السَّحَاب ذُو الرَّعْد المرتجس. قَوْله: (وَلَا يفقه) من الْفِقْه وَهُوَ الْفَهم، قَالَ الله تَعَالَى: {يفقهوا قولي} (طه: 28) أَي يفهموا. قَوْله: (حَتَّى دنا) من الدنو وَهُوَ التَّقَرُّب. قَوْله: (إِلَّا أَن تطوع) ، بتَشْديد الطَّاء وَالْوَاو كليهمَا أَصله: تتطوع بتائين فادغمت إِحْدَى التائين فِي الطَّاء، وَيجوز تَخْفيف الطَّاء على الْحَذف، أَعنِي: حذف إِحْدَى التائين، وَأي التائين هِيَ المحذوفة فِيهِ خلاف، فَقَالَ بَعضهم: حذف التَّاء الزَّائِدَة أولى لزيادتها. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَصْلِيَّة أولى بالحذف، لِأَن الزَّائِدَة إِنَّمَا دخلت لإِظْهَار معنى فَلَا تحذف، لِئَلَّا يَزُول الْغَرَض الَّذِي لأَجله دخلت، وَيجوز إِظْهَار التائين أَيْضا من غير إدغام، وَهَذِه ثَلَاثَة أوجه فِي الْمُضَارع. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور التَّشْدِيد، وَمَعْنَاهُ: إلاَّ أَن تَفْعَلهُ بطواعيتك. وَفِي ماضيه لُغَتَانِ: تطوع وأطوع، وَكِلَاهُمَا يفعل، إِلَّا أَن إدغام التَّاء فِي الطَّاء أوجب جلب ألف الْوَصْل ليتَمَكَّن من النُّطْق بالساكن. قَوْله: (فادبر) من الإدبار وَهُوَ التولي. قَوْله: (أَفْلح) من الإفلاح وَهُوَ الْفَوْز والبقاء، وَقيل: هُوَ الظفر وَإِدْرَاك البغية، وَقيل: إِنَّه عبارَة عَن أَرْبَعَة أَشْيَاء: بَقَاء بِلَا فنَاء وغناء بِلَا فقر، وَعز بِلَا ذل، وَعلم بِلَا جهل. قَالُوا: وَلَا كلمة فِي اللُّغَة أجمع لِلْخَيْرَاتِ مِنْهُ، وَالْعرب تَقول لكل من أصَاب خيرا: مُفْلِح، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أَفْلح الرجل وأنجح: أدْرك مَطْلُوبه.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (من أهل نجد) فِي مجل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لقَوْله: رجل. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه صفة لرجل، وَأما النصب فعلى أَنه حَال، وَهَهُنَا سؤالان أَحدهمَا: ذكره الْكرْمَانِي وَأجَاب عَنهُ، وَهُوَ أَن شَرط الْحَال أَن تكون نكرَة، وَهُوَ مُضَاف فَيكون معرفَة فَأجَاب: بِأَن إِضَافَته لفظية فَلَا تفِيد إلاَّ تَخْفِيفًا. وَالْآخر: ذكرته فِي

(1/266)


شرح سنَن أبي دَاوُد، وَهُوَ أَنه إِذا وَقع الْحَال عَن النكرَة وَجب تَقْدِيم الْحَال على ذِي الْحَال، فَكيف يكون هَذَا حَالا؟ قلت: يجوز وُقُوع صَاحبهَا نكرَة من غير تَأْخِير إِذا اتّصف بِشَيْء كَمَا فِي الْمُبْتَدَأ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم أمرا من عندنَا} (الدُّخان: 4) أَو أضيف، نَحْو: جَاءَ غُلَام رجل قَائِما، أَو وَقع بعد نفي كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إلاَّ وَلها كتاب مَعْلُوم} (الْحجر: 4) وَهنا اتصفت النكرَة بقوله: من أهل نجد، فَافْهَم. قَوْله: (يسمع) بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، (ودوي صَوته) كَلَام أضافي مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَفِي رِوَايَة: نسْمع، بالنُّون المصدرة للْجَمَاعَة، ودوي صَوته بِالنّصب على أَنه مفعول، وَكَذَلِكَ: وَلَا نفقه، بالنُّون. وَقَوله: (مَا يَقُول) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول، وَهَذِه الرِّوَايَة هِيَ الْمَشْهُورَة، وَعَلَيْهَا الِاعْتِمَاد. وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، و: يَقُول، جملَة صلتها، والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا يَقُوله. قَوْله: (حَتَّى) هُنَا للغاية بِمَعْنى: إِلَى أَن دنا. قَوْله: (فَإِذا) هِيَ الَّتِي للمفاجأة. وَقَوله: (هُوَ) مُبْتَدأ، و: (يسْأَل عَن الْإِسْلَام) خَبره. وَقد علم أَن إِذا الَّتِي للمفاجأة تخْتَص بالجمل الاسمية، وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَلَا تقع فِي الِابْتِدَاء. وَمَعْنَاهُ الْحَال لَا الِاسْتِقْبَال، وَهِي حرف عِنْد الْأَخْفَش وَاخْتَارَهُ ابْن مَالك، وظرف مَكَان، عِنْد الْمبرد وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور؛ وظرف زمَان عِنْد الزّجاج وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله: (خمس صلوَات) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب والجر. أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ خمس صلوَات. وَأما النصب فعلى تَقْدِير: خُذ خمس صلوَات أَو هاك ... أَو نَحْوهمَا. وَأما الْجَرّ فعلى أَنه بدل من الْإِسْلَام، وَفِيه حذف أَيْضا تَقْدِيره إِقَامَة خمس صلوَات. عين الصَّلَوَات الْخمس لَيست عين الاسلام، بل إِقَامَتهَا من شرائع الْإِسْلَام. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: الرجل الْمَذْكُور، و: (هَل) للاستفهام، و (غَيرهَا) بِالرَّفْع مُبْتَدأ و (عَليّ) مقدما خَبره. قَوْله: (فَقَالَ: لَا) ، أَي: فَقَالَ الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، لَيْسَ عَلَيْك شَيْء غَيرهَا. قَوْله: (إِلَّا أَن تطوع) اسْتثِْنَاء من قَوْله: لَا، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَصِيَام شهر رَمَضَان) كَلَام إضافي مَرْفُوع عطف على قَوْله: خمس صلوَات. قَوْله: (قَالَ وَذكر لَهُ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) أَي: قَالَ الرَّاوِي، وَهُوَ طَلْحَة بن عبيد الله. قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) جملَة حَالية. قَوْله: (افلح) أَي الرجل. قَوْله: (إِن صدق) أَي فِي كَلَامه وَجَوَاب أَن مَحْذُوف فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (جَاءَ رجل) ، هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر، قَالَه القَاضِي مستدلاً بِأَن البُخَارِيّ سَمَّاهُ فِي حَدِيث اللَّيْث، يُرِيد مَا أخرجه فِي بَاب الْقِرَاءَة، وَالْعرض على الْمُحدث عَن شريك عَن أنس قَالَ: (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس فِي الْمَسْجِد، إِذْ دخل رجل على جمل، فأناخه فِي الْمَسْجِد) وَفِيه (ثمَّ قَالَ: أَيّكُم مُحَمَّد؟) وَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: (وَأَنا ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر) ، فَجعل حَدِيث طَلْحَة هَذَا وَحَدِيث أنس هَذَا لَهُ، وَتَبعهُ ابْن بطال وَغَيره وَفِيه نظر لتباين ألفاظهما، كَمَا نبه عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، وَأَيْضًا فَإِن إِبْنِ إِسْحَاق فَمن بعده: كَابْن سعد وَابْن عبد الْبر لم يذكرُوا لضمام غير حَدِيث أنس. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) أَي: ثَائِر شعر الرَّأْس، وَأطلق اسْم الرَّأْس على الشّعْر، إِمَّا لِأَن الشّعْر مِنْهُ ينْبت، كَمَا يُطلق اسْم السَّمَاء على الْمَطَر لِأَنَّهُ من السَّمَاء ينزل، وَإِمَّا لأنَّه جعل نفس الرَّأْس ذَا ثوران على طَرِيق الْمُبَالغَة، أَو يكون من بَاب حذف الْمُضَاف بِقَرِينَة عقلية. قَوْله: (عَن الْإِسْلَام) أَي: عَن أَرْكَان الاسلام، وَلَو كَانَ السُّؤَال عَن نفس الْإِسْلَام كَانَ الْجَواب غير هَذَا، لِأَن الْجَواب يَنْبَغِي أَن يكون مطابقا للسؤال، فَلَمَّا أجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (خمس صلوَات) عرف أَن سُؤَاله كَانَ عَن أَرْكَان الْإِسْلَام وشرائعه، فَأجَاب مطابقا لسؤاله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيُمكن أَنه سَأَلَهُ عَن حَقِيقَة الْإِسْلَام، وَقد ذكر لَهُ الشَّهَادَة فَلم يسْمعهَا طَلْحَة مِنْهُ لبعد مَوْضِعه، أَو لم يَنْقُلهُ لشهرته. قلت: هَذَا بعيد، إِذْ لَو كَانَ السُّؤَال عَن حَقِيقَة الْإِسْلَام لما كَانَ الْجَواب مطابقا للسؤال، وَفِيه نِسْبَة الرَّاوِي الصَّحَابِيّ إِلَى التَّقْصِير فِي إبلاغ كَلَام الرَّسُول، وَقد ندب النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَى ضبط كَلَامه وَحفظه وإبلاغه مثل مَا سَمعه مِنْهُ فِي حَدِيثه الْمَشْهُور. قَوْله: (إِلَّا أَن تطوع) هَذَا الِاسْتِثْنَاء يجوز أَن يكون مُنْقَطِعًا، بِمَعْنى: لَكِن، وَيجوز أَن يكون مُتَّصِلا واختارت الشَّافِعِيَّة الِانْقِطَاع، وَالْمعْنَى: لَكِن اسْتحبَّ لَك أَن تطوع، واختارت الْحَنَفِيَّة الِاتِّصَال فَإِنَّهُ هُوَ

(1/267)


الأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء، ويستدل بِهِ على أَن من شرع فِي صَلَاة نفل أَو صَوْم نفل وَجب عَلَيْهِ اتمامه، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) وبالاتفاق على أَن حج التَّطَوُّع يلْزم بِالشُّرُوعِ. وَلما حملت الشَّافِعِيَّة على الِانْقِطَاع قَالُوا: لَا تلْزم النَّوَافِل بِالشُّرُوعِ، وَلَكِن يسْتَحبّ لَهُ إِتْمَامه، وَلَا يجب بل يجوز قطعه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الحَدِيث متمسك لنا فِي أصلين: أَحدهمَا فِي شُمُول عدم الْوُجُوب فِي غير مَا ذكر فِي الحَدِيث، كَعَدم وجوب الْوتر. وَالثَّانِي: فِي أَن الشُّرُوع غير مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر مُطلقًا شرع فِيهِ أَو لم يشرع، وَتمسك الْخصم بِهِ على أَن الشُّرُوع مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر إلاَّ مَا تطوع بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمُثبت بِالِاسْتِثْنَاءِ وجوب مَا تطوع بِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوب. قَالَ: وَهَذَا مغالطة، لِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) أَي: لَا يجب شَيْء إلاَّ أَن اتطوع، وَقد علم أَن التَّطَوُّع لَيْسَ بِوَاجِب، فَلَا يجب شَيْء آخر أصلا. قلت: أما الأول: فَلَا نسلم شُمُول عدم الْوُجُوب مُطلقًا، بل الشُّمُول بِالنّظرِ إِلَى تِلْكَ الْحَالة، وَوقت الْإِخْبَار، وَالْوتر لم يكن وَاجِبا حِينَئِذٍ، يدل عَلَيْهِ أَنه لم يذكر الْحَج وَالْوتر مثله. وَأما الثَّانِي: فَلَيْسَ من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) على أَن يكون الْمَعْنى: لَا يجب شَيْء، إلاَّ أَن تطوع، بل معنى إلاَّ أَن تطوع: أَن تشرع فِيهِ، فَيصير وَاجِبا كَمَا يصير وَاجِبا بِالنذرِ. وَقَالَ بَعضهم: من قَالَ: إِنَّه مُنْقَطع احْتَاجَ إِلَى دَلِيل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى النَّسَائِيّ وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثمَّ يفْطر، وَفِي البُخَارِيّ أَنه أَمر جوَيْرِية بنت الْحَارِث أَن تفطر يَوْم الْجُمُعَة. بعد أَن شرعت فِيهِ، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة لَا يسْتَلْزم الْإِتْمَام إلاَّ إِذا كَانَت نَافِلَة بِهَذَا النَّص فِي الصَّوْم، وبالقياس فِي الْبَاقِي. قلت: من الْعجب أَن هَذَا الْقَائِل كَيفَ لم يذكر الْأَحَادِيث الدَّالَّة على استلزام الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة بالإتمام، وعَلى الْقَضَاء بالإفساد، وَقد روى أَحْمد فِي مُسْنده، عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين، فأهديت لنا شَاة فأكلنا مِنْهَا، فَدخل علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرنَاهُ فَقَالَ: (صوما يَوْمًا مَكَانَهُ) . وَفِي لفظ آخر: بَدَلا، أَمر بِالْقضَاءِ. وَالْأَمر للْوُجُوب، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع ملزوم، وَأَن الْقَضَاء بالإفساد وَاجِب. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أم سَلمَة أَنَّهَا صَامت يَوْمًا تَطَوّعا فأفطرت، فَأمرهَا النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن تقضي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَحَدِيث النَّسَائِيّ لَا يدل على أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، ترك الْقَضَاء بعد الْإِفْطَار، وإفطاره رُبمَا كَانَ عَن عذر. وَحَدِيث جوَيْرِية إِنَّمَا أمرهَا بالأفطار عِنْد تحقق وَاحِد من الْأَعْذَار: كالضيافة، وكل مَا جَاءَ من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب فَمَحْمُول على مثل هَذَا، وَلَو وَقع التَّعَارُض بَين الْأَخْبَار، فالترجيح مَعْنَاهُ لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالثَّانِي: أَن أحاديثنا مثبتة وأحاديثهم نَافِيَة، والمثبت مقدم. وَالثَّالِث: أَنه احْتِيَاط فِي الْعِبَادَة فَافْهَم. قَوْله: (وَذكر لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكَاة) هَذَا قَول الرَّاوِي، كَأَنَّهُ نسي مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله والتبس عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَذكر لَهُ الزَّكَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: وَذكر لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، الصَّدَقَة. وَالْمرَاد مِنْهَا: الزَّكَاة أَيْضا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 60) وَهَذَا يُؤذن بِأَن مُرَاعَاة الْأَلْفَاظ مَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة، فَإِذا الْتبس عَلَيْهِ يُشِير فِي لَفظه إِلَى مَا ينبىء عَنهُ، كَمَا فعل الرَّاوِي هَهُنَا، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر قَالَ: (فَأَخْبرنِي بِمَا فرض الله عَليّ من الزَّكَاة) . قَالَ: فَأخْبر رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بشرائع الْإِسْلَام. قَوْله: (وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص) ، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: (وَالَّذِي أكرمك) أَي: لَا أَزِيد على مَا ذكرت وَلَا أنقص مِنْهُ شَيْئا. قَوْله: (أَفْلح إِن صدق) وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عِنْد مُسلم: (أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق، أَو دخل الْجنَّة وَأَبِيهِ إِن صدق) . وَلأبي دَاوُد مثله، لَكِن بِحَذْف: أَو. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: الْفَلاح رَاجع إِلَى لفظ: وَلَا أنقص خَاصَّة، وَالْمُخْتَار أَنه رَاجع إِلَيْهِمَا بِمَعْنى أَنه إِذا لم يزدْ وَلم ينقص كَانَ مفلحا، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، وَمن أَتَى بِمَا عَلَيْهِ كَانَ مفلحا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه إِذا أَتَى بزائد على ذَلِك لَا يكون مفلحا، لِأَن هَذَا مِمَّا يعرف بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ إِذا أَفْلح بِالْوَاجِبِ ففلاحه بالمندوب مَعَ الْوَاجِب أولى، وَقَالَ ابْن بطال: دلّ قَوْله: أَفْلح إِن صدق على أَنه إِن لم يصدق فِي التزامها أَنه لَيْسَ بمفلح، وَهَذَا خلاف قَول المرجئة. وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون السَّائِل رَسُولا، فَحلف أَن لَا أَزِيد فِي الإبلاغ على مَا سَمِعت، وَلَا أنقص فِي تَبْلِيغ مَا سمعته مِنْك إِلَى قومِي. وَيُقَال: يحْتَمل صُدُور هَذَا الْكَلَام مِنْهُ على الْمُبَالغَة فِي التَّصْدِيق وَالْقَبُول، أَي: قبلت قَوْلك فِيمَا سَأَلتك عَنهُ قبولاً لَا مزِيد عَلَيْهِ من جِهَة السُّؤَال، وَلَا نُقْصَان فِيهِ من طرق الْقبُول. وَيُقَال: يحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل شَرْعِيَّة أَمر آخر، وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ: لَا أَزِيد عَلَيْهِ بتغيير حَقِيقَته، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُصَلِّي الظّهْر خمْسا. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه لَا يُصَلِّي النَّوَافِل بل يحافظ على كل الْفَرَائِض، وَهَذَا مُفْلِح بِلَا شكّ، وَإِن كَانَت مواظبته على ترك النَّوَافِل مذمومة. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه المُرَاد أَنِّي لَا أَزِيد على

(1/268)


شرائع الْإِسْلَام وَلَا أنقص مِنْهَا شَيْئا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الصّيام قَالَ: (وَالَّذِي أكرمك لَا أتطوع شَيْئا وَلَا أنقص مِمَّا فرض الله تَعَالَى عَليّ شَيْئا) .
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: ان الصَّلَاة ركن من أَرْكَان الاسلام. الثَّانِي: أَنَّهَا خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. الثَّالِث: ان الصَّوْم أَيْضا ركن من أَرْكَان الاسلام، وَهُوَ فِي كل سنة شهر وَاحِد. الرَّابِع: أَن الزَّكَاة أَيْضا ركن من أَرْكَان الاسلام. الْخَامِس: عدم وجوب قيام اللَّيْل، وَهُوَ إِجْمَاع فِي حق الامة، وَكَذَا فِي حق سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الاصح. السَّادِس: عدم وجوب الْعِيدَيْنِ. وَقَالَ الاصطخري، من أَصْحَاب الشَّافِعِي: صَلَاة الْعِيدَيْنِ فرض كِفَايَة. السَّابِع: عدم وجوب صَوْم عَاشُورَاء وَغَيره سوى رَمَضَان، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ الْآن، وَاخْتلفُوا أَن صَوْم عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبا قبل رَمَضَان أم لَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي الْأَظْهر مَا كَانَ وَاجِبا، وَعند أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ وَاجِبا، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيّ. الثَّامِن: انه لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة على من ملك نِصَابا وَتمّ عَلَيْهِ الْحول. التَّاسِع: أَن من يَأْتِي بالخصال الْمَذْكُورَة ويواظب عَلَيْهَا صَار مفلحاً بِلَا شكّ. الْعَاشِر: أَن السّفر والارتحال من بلد إِلَى بلد لأجل تعلم علم الدّين وَالسُّؤَال عَن الأكابر أَمر مَنْدُوب. الْحَادِي عشر: جَوَاز الْحلف بِاللَّه تَعَالَى من غير استحلاف وَلَا ضَرُورَة، لِأَن الرجل حلف هَكَذَا بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يُنكر عَلَيْهِ. الثَّانِي عشر: صِحَة الِاكْتِفَاء بالاعتقاد من غير نظر وَلَا اسْتِدْلَال، لكنه يحْتَمل ان ذَلِك صَحَّ عَنهُ بِالدَّلِيلِ. وَإِنَّمَا أشكلت عَلَيْهِ الْأَحْكَام. الثَّالِث عشر: فِيهِ الرَّد على المرجئة، إِذْ شَرط فِي فلاحه أَن لَا ينقص من الْأَعْمَال والفرائض الْمَذْكُورَة. الرَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز قَول: رَمَضَان، من غير ذكر: شهر. الْخَامِس عشر: فِيهِ اسْتِعْمَال الصدْق فِي الْخَبَر الْمُسْتَقْبل، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْكَذِب مُخَالفَة الْخَبَر فِي الْمَاضِي، وَالْحلف فِي مُخَالفَته فِي الْمُسْتَقْبل، فَيجب على هَذَا أَن يكون الصدْق فِي الْخَبَر عَن الْمَاضِي، وَالْوَفَاء فِي الْمُسْتَقْبل، وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يرد عَلَيْهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى {ذَلِك وعد غير مَكْذُوب} (هود: 65) .
الاسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أثبت لَهُ الْفَلاح بِمُجَرَّد مَا ذكر مَعَ أَنه لم يذكر المنهيات وَلَا جَمِيع الْوَاجِبَات؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، فِي آخر هَذَا الحَدِيث، قَالَ: فاخبره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشرائع الْإِسْلَام، فَأَدْبَرَ الرجل وَهُوَ يَقُول: لَا أَزِيد وَلَا أنقص مِمَّا فرض الله عَليّ شَيْئا، فعلى عُمُوم قَوْله بشرائع الْإِسْلَام، وَقَوله: مِمَّا فرض الله، يَزُول الْإِشْكَال فِي الْفَرَائِض. وَأما النَّوَافِل فَقيل: يحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل شرعها، وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه لَا يُصَلِّي النَّافِلَة مَعَ أَنه لَا يخل بِشَيْء من الْفَرَائِض، وَأما المنهيات فَإِنَّهَا دَاخِلَة فِي شرائع الْإِسْلَام. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَقع قبل وُرُود النَّهْي. قلت: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ جزم بِأَن السَّائِل هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة وَقد قيل إِنَّه وَفد سنة خمس، وَقيل: بعد ذَلِك، وَكَانَ أَكثر المنهيات وَاقعَة قبل ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه لم يذكر الْحَج فِي هَذَا الحَدِيث. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يفْرض حِينَئِذٍ أَو لِأَن الرجل سَأَلَ عَن حَاله حَيْثُ قَالَ: هَل عَليّ غَيرهَا؟ فاجاب عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا عرف من حَاله، وَلَعَلَّه مِمَّن لم يكن الْحَج وَاجِبا عَلَيْهِ. وَقيل: لم يَأْتِ فِي هَذَا الحَدِيث بِالْحَجِّ كَمَا لم يذكر فِي بَعْضهَا الصَّوْم وَفِي بَعْضهَا الزَّكَاة، وَقد ذكر فِي بَعْضهَا صلَة الرَّحِم وَفِي بَعْضهَا أَدَاء الْخمس، فتفاوتت هَذِه الْأَحَادِيث فِي عدد خِصَال الْإِيمَان زِيَادَة ونقصاناً، وَسبب ذَلِك تفَاوت الروَاة فِي الْحِفْظ والضبط، فَمنهمْ من إقتصر على مَا حفظه فأداه وَلم يتَعَرَّض لما زَاده غَيره بِنَفْي وَلَا اثبات، وَذَلِكَ لَا يمْنَع من ايراد الْجَمِيع فِي الصَّحِيح، لما عرفت أَن زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة، وَالْقَاعِدَة الْأُصُولِيَّة فِيهَا أَن الحَدِيث إِذا رَوَاهُ راويان، واشتملت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ على زِيَادَة، فَإِن لم تكن مُغيرَة لإعراب الْبَاقِي قبلت، وَحمل ذَلِك على نِسْيَان الرَّاوِي أَو ذُهُوله أَو اقْتِصَاره بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي صُورَة الاستشهاد، وَإِن كَانَت مُغيرَة تَعَارَضَت الرِّوَايَتَانِ وَتعين طلب التَّرْجِيح، فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أقره على حلفه وَقد ورد النكير على من حلف أَن لَا يفعل خيرا؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال والأشخاص، وَهَذَا جَار على الأَصْل بِأَنَّهُ لَا إِثْم على غير تَارِك الْفَرَائِض فَهُوَ مُفْلِح، وَإِن كَانَ غَيره أَكثر فلاحاً مِنْهُ. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ الْجمع بَين حلفه بقوله: وَأَبِيهِ إِن صدق، مَعَ نَهْيه عَن الْحلف بِالْآبَاءِ؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك كَانَ قبل النَّهْي، أَو بِأَنَّهَا كلمة جَارِيَة على اللِّسَان لَا يقْصد بهَا الْحلف، كَمَا جرى على لسانهم: عقرى حلقى، وتربت يَمِينك، وَالنَّهْي إِنَّمَا ورد فى القاصد بِحَقِيقَة الْحلف

(1/269)


لما فِيهِ من تَعْظِيمه الْمَخْلُوق، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِح عِنْد الْعلمَاء. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حذف مُضَاف تَقْدِيره: وَرب أَبِيه، فاضمر ذَلِك فِيهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يضمر بل يذهب فِيهِ، وَسمعت بعض مَشَايِخنَا يُجيب بجوابين آخَرين: أَحدهمَا: أَنه يحْتَمل أَن يكون الحَدِيث: أَفْلح وَالله، فقصر الْكَاتِب اللامين فَصَارَت: وَأَبِيهِ، وَالْآخر: خُصُوصِيَّة ذَلِك بالشارع دون غَيره، وَهَذِه دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا. وَأغْرب الْقَرَافِيّ حَيْثُ قَالَ: هَذِه اللَّفْظَة وَهِي: وابيه، اخْتلف فِي صِحَّتهَا، فَإِنَّهَا لَيست فِي الْمُوَطَّأ، وَإِنَّمَا فِيهَا افلح إِن صدق، وَهَذَا عَجِيب، فَالزِّيَادَة ثَابِتَة لَا شكّ فِي صِحَّتهَا وَلَا مرية.

35 - (بابُ اتِّبَاعُ الْجَنائِزِ مِنَ الإِيمَان)

أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون، وَيجوز ترك التَّنْوِين بإضافته إِلَى الْجُمْلَة، اعني: قَوْله اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، فَقَوله: (اتِّبَاع الْجَنَائِز) كَلَام أضافي مُبْتَدأ. وَقَوله: (من الْإِيمَان) خَبره اي: اتِّبَاع الْجَنَائِز شُعْبَة من شعب الْإِيمَان، وَاتِّبَاع بتَشْديد التَّاء مصدر اتبع من بَاب الافتعال، والجنائز جمع جَنَازَة، بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة والمكسورة، وَالْكَسْر أفْصح، وَقيل بِالْفَتْح للْمَيت، وبالكسر للنعش، وَعَلِيهِ الْمَيِّت. وَقيل: عَكسه مُشْتَقَّة من جنز، اذا ستر، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ، والعامة تَقول بِالْفَتْح، وَالْمعْنَى: للْمَيت على السرير وَإِذا لم يكن عَلَيْهِ الْمَيِّت فَهُوَ سَرِير ونعش، وَفِي (الْعباب) لِابْنِ الْأَعرَابِي: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: السرير؛ والجنازة، بِالْفَتْح: الْمَيِّت. وَقَالَ ابْن السّكيت وَابْن قُتَيْبَة: يُقَال: الْجِنَازَة والجنازة، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: الْمَيِّت نَفسه، قَالَ: والعوام يتوهمون أَنه السرير. وَقَالَ النَّضر: الْجِنَازَة: السرير مَعَ الرجل جَمِيعًا. وَقَالَ الْخَلِيل: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: خشب الشرجع، وَقد جرى فِي أَفْوَاه النَّاس الْجِنَازَة بِالْفَتْح، والنحارير يُنكرُونَ ذَلِك. وَقَالَ غَيره: إِذا لم يكن عَلَيْهِ ميت فَهُوَ سَرِير أَو نعش، وكل شَيْء ثقل على قوم واغتموا بِهِ فَهُوَ جَنَازَة. وَقَالَ ابْن عباد: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: الْمَرِيض، وَطعن فلَان فِي جنَازَته، وَرمى فِي جنَازَته إِذا مَاتَ. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: جنزت الشَّيْء أجنزه جنزاً إِذا سترته، وَزعم قوم أَن مِنْهُ اشتقاق الْجِنَازَة. قَالَ: وَلَا أَدْرِي مَا صِحَّته. وَقَالَ اللَّيْث: جنز الشَّيْء إِذا جمع، وَقيل: مِنْهُ اشتقاق الْجِنَازَة، لِأَن الثِّيَاب تجمع على الْمَيِّت. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: إِن النوار لما احتضرت أوصت أَن يُصَلِّي عَلَيْهَا الْحسن الْبَصْرِيّ، فاخبر الْحسن بذلك فَقَالَ: إِذا جنزتموها فآذنوني. قَالَ: فاسترككنا هَذِه الْكَلِمَة من الْحسن يَوْمئِذٍ، يَعْنِي: التجنيز. فان قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: الانسان لَهُ حالتان: حَالَة الْحَيَاة وَحَالَة الْمَمَات، فالمذكور فِي الْبَاب الأول هُوَ أَرْكَان الدّين الَّتِي يحصل الثَّوَاب بإقامتها بِمُبَاشَرَة الْأَحْيَاء بِدُونِ وَاسِطَة، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الثَّوَاب الَّذِي يحصل بِمُبَاشَرَة الْأَحْيَاء بِوَاسِطَة الْأَمْوَات. وَقَالَ بَعضهم: ختم المُصَنّف التراجم الَّتِي وَقعت لَهُ من شعب الْإِيمَان بِهَذِهِ التَّرْجَمَة، لِأَن ذَلِك آخر أَحْوَال الدُّنْيَا. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَنَّهُ بَقِي من الْأَبْوَاب المترجمة بشعب الْإِيمَان بَاب: أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان، وَهُوَ مَذْكُور بعد أَرْبَعَة أَبْوَاب من هَذَا الْبَاب، وَكَيف يَصح أَن يُقَال ختم بِهَذِهِ التَّرْجَمَة التراجم الْمَذْكُورَة؟ فان قلت: مَا وَجه قَوْله فِي الْبَاب السَّابِق: بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَفِي هَذَا الْبَاب: بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان؟ قلت: رَاعى الْمُنَاسبَة والمطابقة فيهمَا، فَإِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول لفظ: الاسلام، حَيْثُ قَالَ: (فَإِذا هُوَ يسْأَل عَن الْإِسْلَام) وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب لفظ الْإِيمَان، حَيْثُ قَالَ: من اتبع جَنَازَة مُسلم إِيمَانًا، فترجم الْبَاب على لَفْظَة الْإِيمَان.

47 - حدّثنا أحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ المَنْجُوفِيُّ قَالَ حّدثنا رَوْحٌ قَالَ حدّثنا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ ومُحمَّدٍ عَنْ أَبى هُريْرَةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إيمَاناً واحْتِساباً وكانَ مَعَهُ حتَّى يُصَلَّى عَلَيْها وُيفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فانَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطْينِ كُلُّ قيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ ومَنْ صَلَّى علَيْهَا ثُمَّ رجَعَ قَبْلَ أنْ تُدْفَنَ فإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة، من حَيْثُ أَن مُبَاشرَة الْعَمَل الَّذِي فِيهِ الثَّوَاب قدر قيراطين، والقيراط مثل جبل أحد، شُعْبَة من شعب الْإِيمَان. وَرَأَيْت من ذكر من الشُّرَّاح وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة، قد تعلق بقوله: إِيمَانًا واحتساباً. وَهَذَا لَا وَجه لَهُ.

(1/270)


فان المُرَاد من معنى الْإِيمَان هَهُنَا مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، مَعْنَاهُ: مُصدقا بِأَنَّهُ حق وَطَاعَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، وَفِي قَوْله: واحتساباً مُسْتَوفى فِي بَاب قيام لَيْلَة الْقدر من الْإِيمَان.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: احْمَد بن عبد الله بن عَليّ بن سُوَيْد بن منجوف، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَضم الْجِيم وَفِي آخِره فَاء، وَمَعْنَاهُ: الموسع، ونسبته إِلَيْهِ، وكنيته أَبُو بكر السدُوسِي الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وابو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: روح، بِفَتْح الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، بن عبَادَة بن الْعَلَاء بن حسان بن عمر بن مرْثَد الْبَصْرِيّ، قَالَ الْخَطِيب: كَانَ كثير الحَدِيث، وصنف الْكتب فِي السّنَن وَالْأَحْكَام وَالتَّفْسِير، وَكَانَ ثِقَة. قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: نظرت لروح بن عبَادَة فِي أَكثر من مائَة الف حَدِيث، كتبت مِنْهَا عشرَة آلَاف. وَقَالَ يحيى بن معِين: لَا بَأْس بِهِ صَدُوق، توفّي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ. روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عَوْف، بِالْفَاءِ، ابْن أبي جميلَة بندويه، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالنُّون الساكنة وَالدَّال الْمُهْملَة المضمومة وواو سَاكِنة وياء آخر الْحُرُوف مَفْتُوحَة، وَغلط من قَالَ بِوَزْن: رَاهَوَيْه، وَقيل: اسْمه بنده أَي: العَبْد، يعرف بالأعرابى، وَلم يكن أَعْرَابِيًا، وَإِنَّمَا قيل لفصاحته، الْعَبْدي الهجري الْبَصْرِيّ، سمع جمعا من كبار التَّابِعين مِنْهُم الْحسن، وَعنهُ الْأَعْلَام: الثَّوْريّ وَشعْبَة وَغَيرهمَا، وثقته مجمع عَلَيْهَا، ولد سنة تسع وَخمسين، وَمَات سنة سِتّ وَقيل: سنة سبع واربعين وَمِائَة، وَنسب إِلَى التَّشَيُّع، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقد مر ذكره. الْخَامِس: مُحَمَّد بن سِيرِين أَبُو بكر الْأنْصَارِيّ، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ الْجَلِيل، أَخُو أنس ومعبد وَيحيى وَحَفْصَة وكريمة أَوْلَاد سِيرِين، وَسِيرِين مولى أنس من سبي عين التَّمْر، وَإِذا أطلق إِبْنِ سِيرِين فَهُوَ: مُحَمَّد هَذَا، وَهَؤُلَاء السِّتَّة كلهم تابعيون، وَذكر أَبُو عَليّ الْحَافِظ خَالِدا بدل كَرِيمَة، قَالَ: واكبرهم معبد، وأصغرهم حَفْصَة. قلت: وَفِي أَوْلَاد سِيرِين أَيْضا: عمْرَة وَسَوْدَة. قَالَ ابْن سعد: أمهَا أم ولد كَانَت لأنس، وَذكر بَعضهم من أَوْلَاده أَيْضا: أشعب، فَهَؤُلَاءِ عشرَة. كَاتب أنس، رَضِي الله عَنهُ، سِيرِين على عشْرين ألف دِرْهَم، فأداها وَعتق، وَأم مُحَمَّد وأخوته صَفِيَّة مولاة الصّديق، طيبها ثَلَاث من أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدَعَوْنَ لَهَا وَحضر أملاكها ثَلَاثَة عشر بَدْرِيًّا مِنْهُم: أبي بن كَعْب يَدْعُو وهم يُؤمنُونَ، سمع جمعا من الصَّحَابَة وخلقاً من التَّابِعين، قَالَ هِشَام بن حسان: أدْرك ثَلَاثِينَ صحابياً، ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ أكبر من أَخِيه أنس، وَعنهُ خلق من التَّابِعين: الشّعبِيّ وَقَتَادَة وَأَيوب، مَاتَ سنة عشر وَمِائَة بعد الْحسن بِمِائَة يَوْم، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: ابو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون مَا خلا أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ. وَمِنْهَا: أَن البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، قرن فِيهِ بَين الْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين لما أسلفنا أَن الْحسن لم يسمع من أبي هُرَيْرَة عِنْد الْجُمْهُور، فقرنه بِمُحَمد بن سِيرِين لِأَنَّهُ سمع مِنْهُ، فالاعتماد عَلَيْهِ، وعَلى قَول من يَقُول: إِن الْحسن سمع مِنْهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا سمعا هَذَا الحَدِيث من أبي هُرَيْرَة مُجْتَمعين، وَإِمَّا ان يَكُونَا سمعا مِنْهُ مفترقين، وَإِنَّمَا أوردهُ البُخَارِيّ كَمَا سمع، وَقد وَقع لَهُ نَظِير هَذَا فِي قصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ أخرج فِيهَا حَدِيثا من طَرِيق روح بن عبَادَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَأخرج أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَنْهُمَا، عَن أبي هُرَيْرَة حَدِيثا آخر، واعتماده فِي كل ذَلِك على ابْن سِيرِين، لِأَن الْحسن، وَإِن صَحَّ سَمَاعه عَن أبي هُرَيْرَة، فَإِنَّهُ كثير الْإِرْسَال فَلَا تحمل عنعنته على السماع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: لم يَصح سَماع الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة، أَقُول: فعلى هَذَا التَّقْدِير يكون لفظ: عَن أبي هُرَيْرَة، مُتَعَلقا بِمُحَمد فَقَط، أَو يكون مُرْسلا. قلت: قَوْله: أَو يكون مُرْسلا، إِن أَرَادَ بِهِ أَن الحَدِيث يكون مُرْسلا، فَلَا يَصح، وَإِن أَرَادَ بِهِ الْإِرْسَال من جِهَة الْحسن فَلهُ وَجه على تَقْدِير عدم سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن سَلام عَن اسحاق الْأَزْرَق، وَفِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، كِلَاهُمَا عَن عَوْف عَن مُحَمَّد بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (اتبع) ، بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: تبع، بِدُونِ الْألف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، يُقَال: تبِعت الشَّيْء تبعا وتباعة، بِفَتْح التَّاء، وَتبع وَاتبع وَاتبع وَاحِد، وَقيل: اتبعهُ: لحقه وَمَشى خَلفه، وَاتبعهُ: حذا

(1/271)


حذوه. وَفِي (الْعباب) : تبِعت الْقَوْم بِالْكَسْرِ اتبعهم تبعا وتباعة، بِالْفَتْح: إِذا مشيت خَلفهم، أَو مروا بك فمضيت مَعَهم، وَاتَّبَعت الْقَوْم مثل تبعتهم إِذا كَانُوا قد سبقوك فلحقتهم، وَاتَّبَعت أَيْضا غَيْرِي وَقَوله تَعَالَى: {فاتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده} (يُونُس: 90) وَقَالَ ابْن عَرَفَة: أَي لحقهم أَو كَاد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَاتبعهُ الشَّيْطَان} (الْأَعْرَاف: 175) اي: لحقه، وَقَالَ الْفراء: يُقَال تبعه وَاتبعهُ. لحقه والحقه، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَأتبعهُ شهَاب ثاقب} (الصافات: 10) وَقَوله تَعَالَى: {فَاتبع سَببا} (الْكَهْف: 85) و {فَاتبع سَببا} (الْكَهْف: 85) بِقطع الْهمزَة فِي قِرَاءَة أهل الشَّام والكوفة، كل ذَلِك: لحق. وَقَالَ الْأَزْهَرِي فِي قَوْله تَعَالَى: {فاتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده} (يُونُس: 90) أَرَادَ: اتبعهم إيَّاهُم. قَوْله: (ايماناً واحتساباً) قد مر الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي قيام لَيْلَة الْقدر. قَوْله: (يرجع) ، من الرُّجُوع لَا من الرجع. قَوْله: (قِيرَاط) ، أَصله: قراط، بتَشْديد الرَّاء بِدَلِيل جمعه على قراريط، فأبدل من إِحْدَى الرائين يَاء، كَمَا فِي الدِّينَار أَصله: دنار، بِدَلِيل جمعه على دَنَانِير، والقيراط فِي اللُّغَة: نصف دانق. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قيل: القيراط جُزْء من أَجزَاء الدِّينَار، وَهُوَ نصف عشرَة فِي أَكثر الْبِلَاد، وَأهل الشَّام يجعلونه جزأ من أَرْبَعَة وَعشْرين جزأ، وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ بعض الشَّيْء، وَفِي (الْعباب) : وزن القيراط يخْتَلف باخْتلَاف الْبِلَاد، فَهُوَ عِنْد أهل مَكَّة: ربع سدس الدِّينَار، وَعند أهل الْعرَاق: نصف عشر الدِّينَار. انْتهى. وَعند الْفُقَهَاء: القيراط جُزْء من عشْرين جزأ من الدِّينَار، وكل قِيرَاط ثَلَاث حبات، فَيكون الدِّينَار سِتِّينَ حَبَّة، وكل حَبَّة أَربع أرزات، فَيكون مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين أرزة. وَيُقَال: القيراط طسوجتان، والطسوجة حبتان، والحبة شعيرتان، والشعيرة ذرتان، والذرة فتيلتان. وَقد أَرَادَ الشَّارِع من القيراط هَهُنَا قدر جبل أحد، وَالْمَقْصُود أَن القيراط: مِقْدَار من الثَّوَاب مَعْلُوم عِنْد الله تَعَالَى وَهَذَا الحَدِيث يدل على عظم مِقْدَاره فِي هَذَا الْمَوْضُوع، وَلَا يلْزم من هَذَا أَن يكون هَذَا هُوَ القيراط الْمَذْكُور فِيمَن اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب صيد أَو زرع أَو مَاشِيَة نقص من أجره كل يَوْم قِيرَاط. بل يجوز أَن يكون أقل مِنْهُ أَو أَكثر. قلت: بل الظَّاهِر أَن القيراط فِي الْأجر اعظم من القيراط الْمَذْكُور فِي نقص الْأجر، لِأَنَّهُ من قبيل الْمَطْلُوب تَركه. وَالْأول من قبيل الْمَطْلُوب فعله، وَهُوَ الصَّلَاة على الْجِنَازَة وَحُضُور دَفنهَا، وَقد رَأينَا عَادَة الشَّرْع تَعْظِيم الْحَسَنَات وتضعيفها دون السَّيِّئَات، كرماً مِنْهُ تَعَالَى وَرَحْمَة، ولطفاً. وَالْحَاصِل أَن القيراط: اسْم لمقدار من الثَّوَاب يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير، وَبَين فِي هَذَا الحَدِيث أَنه مثل أحد، وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: القيراط أعظم من أحد. ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ. وفى رِوَايَة للْحَاكِم من حَدِيث أبي بن كَعْب مَرْفُوعا: (وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَهو فِي الْمِيزَان أثقل من أحد) . وَفِي اسناده: الْحجَّاج بن ارطأة، وَفِيه مقَال. وَفِي السّنَن الصِّحَاح المأثورة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من أُوذِنَ بِجنَازَة فَأتى أَهلهَا فعزاهم كتب الله لَهُ قيراطاً، فان شيعها كتب الله لَهُ قيراطين، فَإِن صلى عَلَيْهَا كتب الله لَهُ ثَلَاثَة قراريط، فَإِن شهد دَفنهَا كتب الله لَهُ أَرْبَعَة قراريط، القيراط مثل أحد) . قَوْله: (مثل أحد) بِضَمَّتَيْنِ: وَهُوَ الْجَبَل الَّذِي بِجنب الْمَدِينَة على نَحْو ميلين مِنْهَا، وَهُوَ فِي شمال الْمَدِينَة، وَسمي بِهَذَا الإسم لتوحده وانقطاعه عَن جبال أُخْرَى هُنَالك. وَفِي الحَدِيث من طَرِيق أبي عِيسَى بن جبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أحد يحبنا ونحبه، وَهُوَ على بَاب الْجنَّة. قَالَ: وعير يبغضنا ونبغضه، وَهُوَ على بَاب من أَبْوَاب النَّار) . قَالَ السُّهيْلي: وَفِي أحد قبر هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، أخي مُوسَى الكليم، وَفِيه قُبض، وثمة واراه مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَا قد مرا بِأحد حاجين أَو معتمرين.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وَمُحَمّد) بِالْجَرِّ، عطف على الْحسن. قَوْله: (من اتبع) كلمة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، و: اتبع، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل: (وجنازة مُسلم) كَلَام إضافي مَفْعُوله، وَالْجُمْلَة صلَة الْمَوْصُول. قَوْله: (إِيمَانًا واحتسابا) منصوبان على الْحَال بِمَعْنى: مُؤمنا ومحتسباً، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب: تطوع قيام رَمَضَان من الْإِيمَان. قَوْله: (وَكَانَ مَعَه) أَي: مَعَ الْمُسلم، هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَكَانَ مَعهَا، أَي مَعَ الْجِنَازَة، وَهَذِه الْجُمْلَة عطف على قَوْله: اتبع. قَوْله: (حَتَّى يُصلي عَلَيْهَا) على صِيغَة الْمَعْلُوم، بِكَسْر اللَّام، وَالضَّمِير فِي: يُصَلِّي، يرجع إِلَى: من، وَفِي: عَلَيْهَا، إِلَى: الْجِنَازَة. ويروى بِفَتْح اللَّام على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله: عَلَيْهَا، مفعول نَاب عَن الْفَاعِل. وَكَذَلِكَ رُوِيَ (ويفرغ من دَفنهَا) على الْوَجْهَيْنِ، و: حَتَّى، هَذِه للغاية، وَأَن الناصبة بعْدهَا مضمرة، وَقَوله: يُصَلِّي ويفرغ، منصوبان بهَا. قَوْله: (فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر) خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي قَوْله: من، وَإِنَّمَا دخلت الْفَاء لتَضَمّنه معنى الشَّرْط، كَمَا ذكرنَا. وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة، فَإِن قلت: مَا مَحل قَوْله: من الْأجر؟ قلت: حَال من قَوْله: (بقيراطين) ، وَفِي الْحَقِيقَة هِيَ صفة وَلكنهَا لما قدمت صَارَت حَالا. وَالْبَاء فِي: بقيراطين، تتَعَلَّق بقوله: يرجع. قَوْله: (كل قِيرَاط) كَلَام إضافي

(1/272)


مُبْتَدأ. وَقَوله: (مثل أحد) أَيْضا كَلَام إضافي خَبره. وَاحِد منصرف لِأَنَّهُ علم الْمُذكر. قَوْله: (وَمن صلى) مثل قَوْله: (من اتبع جَنَازَة مُسلم) . وَقَوله: (ثمَّ رَجَعَ) عطف على: صلى. قَوْله: (قبل ان تدفن) نصب على الظّرْف، وَأَن مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: قبل الدّفن. وَقَوله: (فانه) خبر الْمُبْتَدَأ، كَمَا فِي الأول. قَوْله: (من الاجر) حَال من قَوْله: (بقيراط) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر بقيراطين) حُصُول القيراطن هَهُنَا مُقَيّد بِثَلَاثَة أَشْيَاء. الأول: الِاتِّبَاع، وَالثَّانِي: الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَالثَّالِث: حُضُور الدّفن. فَإِن قلت: لَو اتبع حَتَّى دفنت وَلم يصل عَلَيْهَا هَل لَهُ القيراطان؟ قلت: لَا، إِذْ المُرَاد أَن يُصَلِّي هُوَ أَيْضا، جمعا بَين الرِّوَايَتَيْنِ وحملاً للمطلق على الْمُقَيد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: اعْلَم أَن الصَّلَاة يحصل بهَا قِيرَاط إِذا انْفَرَدت، فَإِن انْضَمَّ إِلَيْهَا الِاتِّبَاع حَتَّى الْفَرَاغ حصل لَهُ قِيرَاط ثَان، فَلِمَنْ صلى وَحضر الدّفن القيراطان، وَلمن اقْتصر على الصَّلَاة قِيرَاط وَاحِد، وَلَا يُقَال: يحصل بِالصَّلَاةِ مَعَ الدّفن ثَلَاثَة قراريط، كَمَا يتوهمه بَعضهم من ظَاهر بعض الْأَحَادِيث، وَلِأَن هَذَا النَّوْع صَرِيح، والْحَدِيث الْمُطلق والمحتمل مَحْمُول عَلَيْهِ، وَأما الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط وَمن تبعها حَتَّى تدفن فَلهُ قيراطان) فَمَعْنَاه: فَلهُ تَمام قيراطين بالمجموع. وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: {ائنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الارض فى يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) إِلَى قَوْله: {فى اربعة أَيَّام} (فصلت: 10) ثمَّ قَالَ: {فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ} قَالَ: وَأما الدّفن فَفِيهِ وَجْهَان: الصَّحِيح: أَنه تَسْوِيَة الْقَبْر بالتمام، وَالثَّانِي: انه نصب اللَّبن عَلَيْهِ، وان لم يهل عَلَيْهِ التُّرَاب. قَالَ: ثمَّ فِي الحَدِيث تَنْبِيه على مَسْأَلَة أُخْرَى، وَهُوَ: ان القيراط الثَّانِي مُقَيّد بِمن اتبعها، وَكَانَ مَعهَا فى جميح الطَّرِيق حَتَّى تدفن، فَلَو صلى وَذهب إِلَى الْقَبْر وَحده، وَمكث حَتَّى جَاءَت الْجِنَازَة وَحضر الدّفن لم يحصل لَهُ القيراط الثَّانِي، وَكَذَا لَو حضر الدّفن وَلم يصل، أَو اتبعها وَلم يصل فَلَيْسَ فِي الحَدِيث حُصُول القيراط لَهُ، وَإِنَّمَا حصل القيراط لمن تبعها بعد الصَّلَاة، لكنه لَهُ أجر فِي الْجُمْلَة، وَعَن أَشهب: أَنه كره اتِّبَاع الْجِنَازَة وَالرُّجُوع قبل الصَّلَاة، وَحكى ابْن عبد الحكم عَن مَالك: أَنه لَا ينْصَرف بعد الدّفن إلاَّ بِالْإِذْنِ وَإِطْلَاق هَذَا الحَدِيث وَغَيره يُخَالِفهُ.
استنباط الاحكام: الاول: فِيهِ الْحَث على الصَّلَاة على الْمَيِّت وَاتِّبَاع جنَازَته وَحُضُور دَفنه، وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: حض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التواصل فِي الْحَيَاة بقوله: (صل من قَطعك وَأعْطِ من حَرمك) . (وَلَا تقاطعوا وَلَا تدابروا) وعَلى التواصل بعد الْمَوْت بِالصَّلَاةِ والتشييع إِلَى الْقَبْر وَالدُّعَاء لَهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن الثَّوَاب الْمَذْكُور إِنَّمَا يحصل لمن تبعها إِيمَانًا واحتساباً، فَإِن حُضُورهَا على ثَلَاثَة أَقسَام: احتسابا ومكافأة ومخافة. والاول: هُوَ الَّذِي يجازى عَلَيْهِ الْأجر ويحط الْوزر، وَالثَّانِي: لَا يعد ذَلِك فِي حَقه. وَالثَّالِث: الله اعْلَم بِمَا فِيهِ. الثَّالِث: فِيهِ وجوب الصَّلَاة على الْمَيِّت وَدَفنه وَهُوَ إِجْمَاع. الرَّابِع: فِيهِ الحض على الِاجْتِمَاع لَهما والتنبيه على عظم ثوابهما، وَهِي مِمَّا خصت بِهِ هَذِه الامة. الْخَامِس: فِيهِ حجَّة ظَاهِرَة للحنفية فِي ان الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل من الْمَشْي أمامها، بِظَاهِر قَوْله: (من اتبع) ، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا. وَقَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ: وَذهب قوم إِلَى التَّوسعَة فِي ذَلِك وأنهما سَوَاء، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي مُصعب من أَصْحَاب مَالك. وَقَالَ بَعضهم: وَقد تمسك بِهَذَا اللَّفْظ من زعم أَن الْمَشْي خلفهَا أفضل، وَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَنَّهُ يُقَال: تبعه إِذا مَشى خَلفه، أَو إِذا مر بِهِ فَمشى مَعَه، وَكَذَلِكَ: اتبعهُ بِالتَّشْدِيدِ. قلت: هَذَا الْقَائِل نفى حجَّة هَؤُلَاءِ بِمَا هُوَ حجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فسر لفظ تبع بمعنيين: أَحدهمَا: حجَّة لمن زعم أَن الْمَشْي خلفهَا أفضل، وَالْآخر: لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ حجَّة لخصمه. فَافْهَم. ثمَّ الرّكُوب وَرَاء الْجِنَازَة لَا بَأْس بِهِ، وَالْمَشْي أفضل. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: لَا فرق عندنَا بَين الرَّاكِب والماشي، يَعْنِي فِي الْمَشْي أمامها خلافًا للثوري حَيْثُ قَالَ: إِن الرَّاكِب يكون خلفهَا، وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ فِي شرح الْمسند، وَكَأَنَّهُ قلد الْخطابِيّ، فَإِنَّهُ كَذَا ادّعى، وَفِيه حَدِيث صَححهُ الْحَاكِم على شَرط البُخَارِيّ من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَقَالَ بِهِ من الْمَالِكِيَّة أَيْضا ابو مُصعب.
سُؤال: لم كَانَ الْجَزَاء بالقيراط دون غَيره؟ الْجَواب: إِنَّه أقل مُقَابل عَادَة. آخر: لِمَ خص بِأحد؟ الْجَواب: لِأَنَّهُ أعظم جبال الْمَدِينَة، والشارع كَانَ يُحِبهُ، وَهُوَ أَيْضا يُحِبهُ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
تابَعَهُ عُثْمانُ المُؤَذِّنُ قَالَ حدّثنا عَوْفٌ عَنْ مُحمَّدٍ عَنْ أَبى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ.

(1/273)


اى تَابع روحاً عُثْمَان بن الْهَيْثَم فِي الرِّوَايَة عَن عَوْف الْأَعرَابِي وَعُثْمَان، هَذَا أَيْضا من شُيُوخ البُخَارِيّ يروي عَنهُ فِي مَوَاضِع بِلَا وَاسِطَة، وَفِي بعض الْمَوَاضِع عَن مُحَمَّد غير مَنْسُوب عَنهُ، وَهُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي ثمَّ البُخَارِيّ، رَضِي الله عَنهُ، إِن كَانَ سمع هَذَا الحَدِيث من عُثْمَان هَذَا فَهُوَ لَهُ أَعلَى بِدَرَجَة. لِأَنَّهُ من رِوَايَته رباعي، وَمن رِوَايَة المنجوفي خماسي، فَإِن قلت: فَلِمَ ذكر رِوَايَة عُثْمَان؟ قلت: لَان رِوَايَة المنجوفي مَوْصُولَة وَهِي اشد إتقانا من رِوَايَة عُثْمَان. فان قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَمَا الْحَاجة إِلَى ذكر مُتَابعَة عُثْمَان؟ قلت: لأجل التَّنْبِيه بروايته على أَن الِاعْتِمَاد فِي هَذَا السَّنَد على مُحَمَّد بن سِيرِين لِأَن عوفاً رُبمَا كَانَ ذكره، وَرُبمَا كَانَ حذفه مرّة، فَأثْبت الْحسن. ومتابعة عُثْمَان هَذِه وَصلهَا ابو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) قَالَ: حَدثنَا ابو اسحاق بن حَمْزَة، ثَنَا ابو طَالب بن أبي عوَانَة، ثَنَا سُلَيْمَان بن سيف، ثَنَا عُثْمَان بن الْهَيْثَم فَذكر الحَدِيث، وَلَفظه مُوَافق لرِوَايَة روح بن عبَادَة إلاّ فِي قَوْله: وَكَانَ مَعهَا. قَالَ بدلهَا: فلزمها. وَفِي قَوْله: ويفرغ من دَفنهَا، فَإِنَّهُ قَالَ بدلهَا: ويدفن، وَقَالَ فِي آخِره: قِيرَاط بدل قَوْله: فَإِنَّهُ يرجع بقيراط، وَالْبَاقِي سَوَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: إِذا قَالَ البُخَارِيّ عَن فلَان نجزم بِأَنَّهُ سَمعه مِنْهُ عِنْد امكان السماع، فَإِذا قَالَ: تَابعه، لم نجزم بِأَنَّهُ سَمعه مِنْهُ. قلت: قِيَاس الْمُتَابَعَة على العنعنة يَقْتَضِي ذَلِك، لَكِن صَرَّحُوا فِي العنعنة وَلم يصرحوا فِيهَا. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو مَا تقدم، وَهُوَ أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اتبع جَنَازَة) إِلَى آخِره، ثمَّ عُثْمَان هَذَا هُوَ ابو عَمْرو عُثْمَان بن الْهَيْثَم بن جهم بن عِيسَى بن حسان بن الْمُنْذر الْبَصْرِيّ، الْمُؤَذّن بجامعها. روى عَن عَوْف الْأَعرَابِي وَابْن جريج وَغَيرهمَا، وروى عَنهُ البُخَارِيّ، وروى هُوَ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، توفّي لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من رَجَب سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ.

36 - (بابُ خَوْفِ ألمُؤمِنِ مِنْ أنْ يَحْبَطَ عَملُهُ لاَ يَشْعُرُ)

الْكَلَام فِيهِ على انواع: الأول: إِن قَوْله: بَاب، مَرْفُوع مُضَاف إِلَى مَا بعده، تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان خوف الْمُؤمن من ان يحبط عمله، وَكلمَة: ان، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: من حَبط عمله، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ كلمة: من، وَهِي وَإِن لم تكن مَوْجُودَة لَكِنَّهَا مقدرَة، إِذْ الْمَعْنى عَلَيْهَا. قَوْله: (يحبط) على صِيغَة الْمَعْلُوم من: حَبط عمله يحبط حَبطًا وحبوطاً، من بَاب: علم يعلم. وَقَالَ ابو زيد: حَبط بِالْفَتْح وقرىء: {فقد حَبط عمله} (الْمَائِدَة: 5) بِفَتْح الْبَاء، وَهُوَ: الْبطلَان. قَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: القَوْل بإحباط الْمعاصِي للطاعات من قَوَاعِد الاعتزال، فَمَا وَجه قَول البُخَارِيّ هذاك؟ قلت: هَذَا الإحباط لَيْسَ بِذَاكَ، لِأَن المُرَاد بِهِ الإحباط بالْكفْر، أَو بِعَدَمِ الْإِخْلَاص وَنَحْوه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بالحبط نُقْصَان الْإِيمَان، وَإِبْطَال بعض الْعِبَادَات لَا الْكفْر، فَإِن الانسان لَا يكفر إلاَّ بِمَا يَعْتَقِدهُ، أَو يفعل عَالما بانه يُوجب الْكفْر. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْجُمْهُور على أَن الْإِنْسَان يكفر بِكَلِمَة الْكفْر، وبالفعل الْمُوجب للكفر، وَإِن لم يعلم أَنه كفر. قَوْله: (يحبط عمله) المُرَاد، ثَوَاب عمله، فالمضاف فِيهِ مَحْذُوف. قَوْله: (وَهُوَ لَا يشْعر) جملَة اسمية وَقعت حَالا، من: شعر يشْعر من بَاب: نصر ينصر، وَفِي (الْعباب) شَعرت بالشَّيْء، بِالْفَتْح، أشعر بِهِ، بِالضَّمِّ، شعرًا وشعرة وشعرى، بِالْكَسْرِ فِيهِنَّ، وشعرة بِالْفَتْح، وشعوراً ومشعوراً ومشعورة: علمت بِهِ، وفطنت لَهُ، وَمِنْه قَوْلهم: لَيْت شعري. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ أَن حُصُول الثَّوَاب بالقيراطين أَو بقيراط الَّذِي هُوَ مثل جبل أحد، إِنَّمَا يحصل إِذا كَانَ عمله احتسابا خَالِصا لله تَعَالَى، وَفِي هَذَا الْبَاب مَا يُشِير إِلَى أَنه قد يعرض لِلْعَامِلِ مَا يحبط عمله، فَيحرم بِسَبَبِهِ الثَّوَاب الْمَوْعُود وَهُوَ لَا يشْعر، وَفِي نفس الْأَمر ذكر هَذَا الْبَاب إستطرادي، لأجل التَّنْبِيه على مَا ذكرنَا، وإلاَّ كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر عقيب الْبَاب السَّابِق بَاب: أَدَاء الْخمس من الايمان، لِأَن الْأَبْوَاب المعقودة هَهُنَا فِي بَيَان شعب الايمان. الثَّالِث: ذكر النَّوَوِيّ أَن مُرَاد البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب الرَّد على المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الله لَا يعذب على شَيْء من الْمعاصِي، مِمَّن قَالَ: لَا اله الا الله، وَلَا يحبط شَيْء من أَعماله بِشَيْء من الذُّنُوب، وَإِن إِيمَان الْمُطِيع والعاصي سَوَاء، فَذكر فِي صدر الْبَاب أَقْوَال ائمة التَّابِعين، وَمَا نقلوه عَن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ كالمشير إِلَى أَنه لَا خلاف بَينهم فِيهِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ اجتهادهم الْمَعْرُوف خَافُوا أَن لَا ينجوا من عَذَاب الله تَعَالَى، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: المرجئة أضداد الْخَوَارِج، والمعتزلة. الْخَوَارِج تكفر بِالذنُوبِ، والمعتزلة يفسقون بهَا، وَكلهمْ يُوجب الخلود فِي النَّار، والمرجئة تَقول: لَا تضر الذُّنُوب مَعَ الْإِيمَان، وغلاتهم تَقول: يَكْفِي التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَحده

(1/274)


وَلَا يضر عدم غَيره، وَمِنْهُم من يَقُول يَكْفِي التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَقَالَ غَيره: إِن من المرجئة من وَافق الْقَدَرِيَّة: كالصالحي والخالدي، وَمِنْهُم من قَالَ بالإرجاء دون الْقدر، وهم خمس فرق كفر بَعضهم بَعْضًا، والمرجئة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْجِيم وبهمزة، مُشْتَقّ من الإرجاء، وَهُوَ التَّأْخِير. وَقَوله تَعَالَى: {ارجئه واخاه} (الْأَعْرَاف: 111) أَي: أَخّرهُ، والمرجىء من يُؤَخر الْعَمَل عَن الْإِيمَان وَالنِّيَّة وَالْقَصْد، وَقيل: من الرَّجَاء، لأَنهم يَقُولُونَ: لَا تضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة، كَمَا لَا تَنْفَع مَعَ الْكفْر طَاعَة، وَقيل: مَأْخُوذ من الإرجاء بِمَعْنى: تَأْخِير حكم الْكَبِيرَة، فَلَا يقْضى لَهَا بِحكم فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ إبْراهِيمُ التَّيْمِىُّ مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَليّ عَمَلي إلاَّ خَشِيتُ أَن أكُونَ مُكَذِّباً.
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: أَن ابراهيم هُوَ ابْن زيد بن شريك التَّيْمِيّ، تيم الربَاب، أَبُو أَسمَاء الْكُوفِي. قيل: قَتله الْحجَّاج بن يُوسُف، وَقيل: مَاتَ فِي سجنه لما طلب الإِمَام ابراهيم النَّخعِيّ، فَوَقع الرَّسُول بابراهيم التَّيْمِيّ، فَأَخذه وحبسه، فَقيل لَهُ: لَيْسَ إياك أَرَادَ، فَقَالَ: أكره أَن أدفَع عَن نَفسِي، وأكون سَببا لحبس رجل مُسلم بَرِيء الساحة، فَصَبر فِي السجْن حَتَّى مَاتَ. قَالَ يحيى: هُوَ ثِقَة، مرجىء، وَمن غَرَائِبه مَا روى عَن الْأَعْمَش عَن ابراهيم التَّيْمِيّ، قَالَ: إِنِّي لأمكث ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا آكل، وَمَات سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين. روى لَهُ الْجَمَاعَة، وتيم الربَاب، بِكَسْر الرَّاء، قَالَ الْحَازِمِي: تيم الربَاب، وَهُوَ تيم بن عبد مَنَاة بن ود بن طابخة، وَقَالَ معمر ابْن الْمثنى: تيم الربَاب ثَوْر وعدي وعكل وَمُزَيْنَة بَنو عبد مَنَاة وضبة بن ود، قيل: سموا بِهِ لأَنهم غمسوا أَيْديهم فِي رب وتحالفوا عَلَيْهِ، هَذَا قَول ابْن الْكَلْبِيّ، وَقَالَ غَيره: سموا بِهِ لأَنهم ترببوا، أَي: تحالفوا على بني سعد بن زيد. قلت: الرب، بِضَم الرَّاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: الطلاء الخاثر. الثَّانِي: أَن قَول ابراهيم هَذَا رَوَاهُ أَبُو قَاسم اللالكائي فِي سنَنه بِسَنَد جيد عَن الْقَاسِم بن جَعْفَر، انبأنا مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَمَّاد، حَدثنَا الْعَبَّاس بن عبد الله، حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن أبي حَيَّان عَن ابراهيم بِهِ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) عَن أبي نعيم، وَأحمد بن حَنْبَل فِي (الزّهْد) كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي حَيَّان التَّيْمِيّ عَن ابراهيم التَّيْمِيّ بِهِ. الثَّالِث: مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه كَانَ يخَاف أَن يكون مُكَذبا فِي قَوْله: إِنَّه مُؤمن لتَقْصِيره فِي الْعَمَل، فَيحرم بذلك الثَّوَاب وَهُوَ لَا يشْعر. الرَّابِع: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: مُكَذبا رُوِيَ، بِفَتْح الذَّال بِمَعْنى: خشيت أَن يكذبنِي من رأى عَمَلي مُخَالفا لقولي، فَيَقُول: لَو كنت صَادِقا مَا فعلت خلاف مَا تَقول، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يعظ النَّاس، وَرُوِيَ بِكَسْر الذَّال، وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَمَعْنَاهُ: أَنه لم يبلغ غَايَة الْعَمَل، وَقد ذمّ الله تَعَالَى من أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر وَقصر فِي الْعَمَل فَقَالَ: {كبر مقتاً عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الشُّعَرَاء: 36) فخشي أَن يكون مُكَذبا أَي: مشابهاً للمكذبين.
وقالابنُ أَبي مُلَيْكَةَ أَدْرَكْت ثَلاَثِينَ مِنْ أصْحابِ النَّبىِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ على نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أحدٌ يَقُولُ إنَّهُ على إيمانِ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ.
الْكَلَام فِيهِ أَيْضا على وُجُوه. الأول: أَن ابْن أبي مليكَة هُوَ: عبد الله بن عبيد الله، بتكبير الإبن وتصغير الْأَب، وَاسم أبي ملكية، بِضَم الْمِيم: زُهَيْر بن عبد الله بن جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن تيم بن مرّة الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمَكِّيّ الْأَحول، كَانَ قَاضِيا لِابْنِ الزبير ومؤذناً، اتّفق على جلالته، سمع العبادلة الْأَرْبَعَة وَعَائِشَة وَأُخْتهَا اسماء وَأم سَلمَة وابا هُرَيْرَة وَعقبَة بن الْحَارِث والمسور بن مخرمَة، وادرك بِالسِّنِّ جمَاعَة وَلم يسمع مِنْهُم كعلي بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنْهُمَا، مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّانِي: أَن قَوْله هَذَا أخرجه ابْن أبي خَيْثَمَة فِي تَارِيخه مَوْصُولا من غير بَيَان الْعدَد، وَأخرجه مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي فِي كتاب الْإِيمَان لَهُ مطولا. الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ. فَقَوله: كلهم يخَاف النِّفَاق، أَي: حُصُول النِّفَاق فِي الخاتمة على نَفسه، إِذْ الْخَوْف إِنَّمَا يكون عَن أَمر فِي الِاسْتِقْبَال، وَمَا مِنْهُم من أحد يجْزم بِعَدَمِ عرُوض النِّفَاق، كَمَا هُوَ جازم فِي إِيمَان جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بِأَنَّهُ لَا يعرضه النِّفَاق، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَتَبعهُ بَعضهم على هَذَا الْمَعْنى، وَلَيْسَ الْمَعْنى هَكَذَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: أَنهم كلهم كَانُوا على حذر وَخَوف من أَن يخالط إِيمَانهم النِّفَاق، وَمَعَ هَذَا لم يكن مِنْهُم أحد يَقُول: إِن إيمَانه كَإِيمَانِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَن جِبْرِيل مَعْصُوم لَا يطْرَأ عَلَيْهِ الْخَوْف من النِّفَاق، بِخِلَاف هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُم غير معصومين. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عَليّ بن ابى طَالب، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا: من

(1/275)


شهد لَا إِلَه الا الله وَإِنِّي رَسُول الله كَانَ مُؤمنا كَإِيمَانِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، قلت: ذكره ابو سعيد النقاش فِي (الموضوعات) . وَقَالَ، ابْن بطال: لما طَالَتْ أعمارهم حَتَّى رَأَوْا مَا لم يقدروا على إِنْكَاره خشيوا على أنفسهم أَن يَكُونُوا فِي حيّز من نَافق أَو داهن، وَيُقَال عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: إِنَّهَا سَأَلت النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة} (الْمُؤْمِنُونَ: 60) فَقَالَ: هم الَّذين يصلونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ويفرقون ان لَا يتَقَبَّل مِنْهُم، وَقَالَ بعض السّلف فِي قَوْله تَعَالَى: {وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونُوا يحتسبون} (الزمر: 47) أَعمال كَانُوا يحتسبونها حَسَنَات بَدَت سيئات، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: وَمَا مِنْهُم إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة زَائِدَة استفادها من أَحْوَالهم أَيْضا، وَهِي: أَنهم كَانُوا قائلين بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه. قلت: لَا يفهم ذَلِك من حَالهم، وَإِنَّمَا الَّذِي يفهم من حَالهم أَنهم كَانُوا خَائِفين سوء الخاتمة لعدم الْعِصْمَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَبَعض السّلف.
ويُذْكَرُ عَن الَحسَنِ مَا خافَهُ إلاَّ مُؤْمِنٌ وَلَا أمِنَهُ إلاَّ مُنافِقٌ

الْحسن هُوَ: الْبَصْرِيّ، رَحمَه الله، أَي: مَا خَافَ الله تَعَالَى إلاَّ مُؤمن، وَلَا أمِنَ الله تَعَالَى إلاَّ مُنَافِق، وكل وَاحِد من: خَافَ وَأمن، يتَعَدَّى بِنَفسِهِ. قَالَ تَعَالَى: {انما ذَلِكُم الشَّيْطَان يخوف أولياءه فَلَا تخافوهم} (آل عمرَان: 175) وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أمنته على كَذَا وائتمنته بِمَعْنى، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 46) وَقَالَ: {فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون} (الْأَعْرَاف: 99) وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا خافه، أَي: مَا خَافَ من الله تَعَالَى، فَحذف الْجَار، وأوصل الْفِعْل إِلَيْهِ. وَكَذَا فِي: أَمنه، إِذْ مَعْنَاهُ: أَمن مِنْهُ، وأمنه، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْمِيم. قلت: إِذا كَانَ الْفِعْل مُتَعَدِّيا بِنَفسِهِ فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير حرف يُوصل بِهِ الْفِعْل إلاّ فِي مَوضِع يحْتَاج فِيهِ إِلَى تضمين معنى فعل بِمَعْنى فعل آخر، وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك، وَقَالَ بَعضهم، عقب كَلَام الْكرْمَانِي بعد نَقله هَذَا الْكَلَام: وَإِن كَانَ صَحِيحا، لكنه خلاف مُرَاد المُصَنّف وَمن نقل عَنهُ؟ قلت: وَأثر الْحسن هَذَا أخرجه الْفرْيَابِيّ عَن قُتَيْبَة، ثَنَا جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن الْمُعَلَّى بن زِيَاد: (سَمِعت الْحسن يحلف فِي هَذَا الْمَسْجِد بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ: مَا مضى مُؤمن قطّ وَلَا بَقِي إلاَّ وَهُوَ من النِّفَاق مُشفق، وَلَا مضى مُنَافِق قطّ وَلَا بَقِي إلاَّ وَهُوَ من النِّفَاق آمن، وَكَانَ يَقُول: من لم يخف النِّفَاق فَهُوَ مُنَافِق) . قَالَ: وَحدثنَا ابو قدامَة عبيد الله بن سعيد، حَدثنَا مُؤَمل بن اسماعيل عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن الْحسن: (وَالله مَا أصبح وَلَا أَمْسَى مُؤمن إلاَّ وَهُوَ يخَاف النِّفَاق على نَفسه) . وَحدثنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، وَحدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن حبيب بن الشَّهِيد: (أَن الْحسن كَانَ يَقُول: إِن الْقَوْم لما رَأَوْا هَذَا النِّفَاق يَقُول الْإِنْسَان: لم يكن لَهُم هم غير النِّفَاق) . وَحدثنَا هِشَام بن عمار، حَدثنَا أَسد بن مُوسَى عَن أبي الْأَشْهب عَن الْحسن: (لما ذكر أَن النِّفَاق يغول الايمان لم يكن شَيْء أخوف عِنْدهم مِنْهُ) . وَحدثنَا هِشَام، حَدثنَا أَسد بن مُوسَى، حَدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان قَالَ: (سَأَلَ أبان عَن الْحسن. فَقَالَ: نَخَاف النِّفَاق. قَالَ: وَمَا يؤمنني، وَقد خافه عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ) . وَحدثنَا شَيبَان قَالَ: حَدثنَا ابْن الاشهب عَن طريف قَالَ: (قلت لِلْحسنِ، رَضِي الله عَنهُ: إِن نَاسا يَزْعمُونَ أَن لَا نفاق، أَو لَا يخَافُونَ، شكّ أَبُو الاشهب. فَقَالَ: وَالله لِأَن أكون أعلم اني بَرِيء من النِّفَاق أحب إِلَيّ من طلاع الأَرْض ذَهَبا) . وَقَالَ احْمَد بن حَنْبَل فِي كتاب الايمان: حَدثنَا روح بن عبَادَة، حَدثنَا هِشَام، سَمِعت الْحسن يَقُول: (وَالله مَا مضى مُؤمن وَلَا بَقِي إلاّ وَهُوَ يخَاف النِّفَاق، وَمَا أَمنه إلاّ مُنَافِق) . فَإِن قلت: هَذِه الْآثَار الثَّلَاثَة صَحِيحَة عِنْد البُخَارِيّ فَلِم ذكر الْأَوَّلين بِلَفْظ: قَالَ، الَّتِي هِيَ صِيغَة الْجَزْم بِالصِّحَّةِ، وَذكر الثَّالِث بِلَفْظ: يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول الَّتِي هِيَ صِيغَة التمريض؟ قلت: لما نقل الأثرين الْأَوَّلين بِمثل مَا نقل عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وَابْن أبي مليكَة، من غير تَغْيِير، ذكرهمَا بِصِيغَة الْجَزْم بِالصِّحَّةِ، وَنقل أثر الْحسن بِالْمَعْنَى على وَجه الِاخْتِصَار، فَلذَلِك ذكره بِصِيغَة التمريض، وَصِيغَة التمريض لَا تخْتَص عِنْده بِضعْف الْإِسْنَاد وَحده، بل إِذا وَقع التَّغْيِير من حَيْثُ النَّقْل بِالْمَعْنَى، أَو من حَيْثُ الِاخْتِصَار، يذكرهُ بِصِيغَة التمريض، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي مثل هَذَا الْموضع، وَلَيْسَ مثل مَا ذكره الْكرْمَانِي بقوله: قلت: ليشعر بِأَن قَوْلهمَا ثَابت عِنْده صَحِيح الْإِسْنَاد، لَان: قَالَ، هُوَ صِيغَة الْجَزْم، وصريح الحكم بِأَنَّهُ صدر مِنْهُ، وَمثله يُسمى تَعْلِيقا بِصِيغَة التَّصْحِيح، بِخِلَاف: يذكر، فَإِنَّهُ لَا جزم فِيهِ، فَيعلم أَن فِيهِ ضعفا، وَمثله تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض.
وَمَا يُحْذَرُ مِن الإصْرَار على النِّفَاقِ والعِصْيان مِنِ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَولِ اللهِ تَعَالَى {ولَمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا

(1/276)


وهُمْ يَعْلَمُونَ} .
هَذَا عطف على قَوْله: خوف الْمُؤمن، وَالتَّقْدِير: بَاب خوف الْمُؤمن من أَن يحبط عمله، وَخَوف التحذير من الاصرار على النِّفَاق. وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، و: يحذر، على صِيغَة الْمَجْهُول بتَخْفِيف الذَّال وتشديدها، وَالْجُمْلَة محلهَا من الْإِعْرَاب الْجَرّ لِأَنَّهَا عطف على الْمَجْرُور كَمَا قُلْنَا، وآثار إبراهم التَّيْمِيّ وَابْن أبي مليكَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ مُعْتَرضَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ. فان قلت: فَلِمَ أوقعهَا مُعْتَرضَة؟ قلت: لِأَنَّهُ عقد الْبَاب على ترجمتين: الأولى: الْخَوْف من حَبط الْعَمَل، وَالثَّانيَِة: الحذر من الْإِصْرَار على النِّفَاق. وَذكر فِيهِ: ثَلَاثَة من الْآثَار، وَآيَة من الْقرَان، وحديثين مرفوعين. وَلما كَانَت الْآثَار الثَّلَاثَة مُتَعَلقَة بالترجمة الأولى ذكرهَا عقيبها، وَالْآيَة وَأحد الْحَدِيثين، وَهُوَ حَدِيث عبد الله، متعلقان بالترجمة الثَّانِيَة ذكرهمَا عقيبها، وَأما الحَدِيث الآخر، وَهُوَ حَدِيث عبَادَة، فَإِنَّهُ يتَعَلَّق بالترجمة الأولى أَيْضا على مَا نذكرهُ، وَهَذَا فِيهِ صِيغَة اللف والنشر غير مُرَتّب، والترجمة الثَّانِيَة فِي الرَّد على المرجئة لأَنهم قَالُوا: لَا حذر من الْمعاصِي مَعَ حُصُول الْإِيمَان، وَذكر البُخَارِيّ الْآيَة ردا عَلَيْهِم لِأَنَّهَا فِي مدح من اسْتغْفر من ذَنبه، وَلم يصر عَلَيْهِ، فمفهومه ذمّ من لم يفعل ذَلِك، وَكَأَنَّهُ لمح فِي ذَلِك حَدِيث عبد الله بن عَمْرو مَرْفُوعا، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد حسن، قَالَ: (ويل للمصرين الَّذين يصرون على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ) أَي: يعلمُونَ أَن من تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ لَا يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره. وَحَدِيث أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا أخرجه التِّرْمِذِيّ باسناد حسن: (مَا أصر من اسْتغْفر وَإِن عَاد فِي الْيَوْم سبعين مرّة) . وَالْآيَة الْمَذْكُورَة فِي سُورَة آل عمرَان، وَهِي: {وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب الا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} (آل عمرَان: 135) يفهم من الْآيَة أَنهم: إِذا لم يَسْتَغْفِرُوا، أَي: لم يتوبوا، وأصروا على ذنوبهم يكونُونَ مَحل الحذر وَالْخَوْف. وَقَالَ الواحدي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا فِي رِوَايَة عَطاء: نزلت هَذِه الْآيَة فِي نَبهَان التمار، أَتَتْهُ امْرَأَة حسناء تبْتَاع مِنْهُ تَمرا، فَضمهَا إِلَى نَفسه وَقبلهَا، ثمَّ نَدم على ذَلِك. فَأتى النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: (أَن رجلَيْنِ أَنْصَارِيًّا وثقيفياً آخى رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بَينهمَا، فَكَانَا لَا يفترقان، قَالَ: فَخرج رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فِي بعض مغازيه، وَخرج مَعَه الثَّقَفِيّ وَخلف الْأنْصَارِيّ فِي أَهله وَحَاجته، وَكَانَ يتَعَاهَد أهل الثَّقَفِيّ، فَأقبل ذَات يَوْم فأبصر أمراته ضاحية قد اغْتَسَلت، وَهِي نَاشِرَة شعرهَا، فَوَقَعت فِي نَفسه، فَدخل عَلَيْهَا وَلم يسْتَأْذن حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا، فَذهب ليلثمها، فَوضعت كفها على وَجههَا، فَقبل ظَاهر كفها، ثمَّ نَدم واستحى، وَأدبر رَاجعا، فَقَالَت: سُبْحَانَ الله {خُنْت امانتك وعصيت رَبك وَلم تصب حَاجَتك. قَالَ: فندم على صنعه، فَخرج يسيح فِي الْجبَال وَيَتُوب إِلَى الله تَعَالَى من ذَنبه، حَتَّى وافى الثَّقَفِيّ، فَأَخْبَرته امْرَأَته بِفِعْلِهِ، فَخرج يَطْلُبهُ حَتَّى دلّ عَلَيْهِ، فوافقه سَاجِدا لله، عز وَجل، وَهُوَ يَقُول: رب ذَنبي ذَنبي، قد خُنْت أخي. فَقَالَ لَهُ: يَا فلَان} قُم فَانْطَلق إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْأَلْهُ عَن ذَنْبك لَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يَجْعَل لَك فرجا وتوبة، فاقبل مَعَه حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ ذَات يَوْم عِنْد صَلَاة الْعَصْر نزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بتوبته، فَتَلَاهَا على رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا انفسهم ذكرُوا الله} (آل عمرَان: 135) إِلَى قَوْله: {وَنعم أجر العاملين} (آل عمرَان: 136) فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: أخاص هَذَا لهَذَا الرجل أم للنَّاس عَامَّة فِي التَّوْبَة، قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين.

48 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حدّثناشُعْبَةُ عَن زُبَيْدٍ قَالَ سَأَلت أَبَا وَائِلٍ عنِ المُرجِئَة فَقَالَ حدّثني عبدُ اللهِ أَن النَّبِىَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سِبَابُ المُسْلِم فسُوُقٌ وَقِتالُهُ كُفْرٌ.
قد قُلْنَا آنِفا: إِن حَدِيث عبد الله هَذَا للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة، وهى قَوْله: وَمَا يحذر عَن الْإِصْرَار إِلَى آخِره، فان قلت: كَيفَ مطابقته على التَّرْجَمَة؟ قلت: لما دلّ الحَدِيث على إبِْطَال قَول المرجئة الْقَائِلين بِعَدَمِ تفسيق مرتكبي الْكَبَائِر، وَعدم جعل السباب فسوقاً، وَعدم مقاتلة الْمُسلم كفراناً لحقه، طابق قَوْله: وَمَا يحذر عَن الْإِصْرَار إِلَى آخِره.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: ابو عبد الله مُحَمَّد بن عرْعرة، بالعينين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالرَّاء المكررة، غير منصرف للعلمية والتأنيث، ابْن البرند، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة، وَيُقَال، بفتحهما وَسُكُون النُّون وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَكَأَنَّهُ

(1/277)


فَارسي مُعرب، ابْن النُّعْمَان، الْقرشِي السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى: سامة بن لؤَي بن غَالب، الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، عَن خمس وَسبعين سنة. قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم، قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن مُسلما روى لَهُ مَعَه، وَكَذَا أَبُو دَاوُد روى لَهُ، نبه عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمزي، وَاقْتصر صَاحب (الْكَمَال) على أبي دَاوُد. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد مر ذكره. الثَّالِث: زبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم، ابو عبد الرَّحْمَن، وَيُقَال لَهُ: ابو عبد الله اليامي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، جد للقبيلة، بطن من هَمدَان، وَيُقَال: الأيامي أَيْضا، الْكُوفِي روى عَن أبي وَائِل وَجمع من التَّابِعين، وَعنهُ الْأَعْمَش وَغَيره من التَّابِعين، وجلالته مُتَّفق عَلَيْهَا وَكَانَ من الْعباد المتنسكين. قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ زبيد، بالضبط الْمَذْكُور، إلاَّ هَذَا، وَأما زبيد، بِضَم الزَّاي وباليائين بِاثْنَتَيْنِ من تَحت، أبي الصَّلْت فمذكور فِي (الْمُوَطَّأ) وَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي الْكِتَابَيْنِ. الرَّابِع: أَبُو وَائِل، بِالْهَمْزَةِ بعد الالف، شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي، أَسد خُزَيْمَة، كُوفِي تَابِعِيّ، أدْرك زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره، وَقَالَ: ادركت سبع سِنِين من سني الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ: كنت قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عشر سِنِين أرعى إبِلا لأهلي، وَسمع عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان وعلياً وَابْن مَسْعُود وَعمَّارًا وَغَيرهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، رضوَان الله عَلَيْهِم، وَعنهُ خلق من التَّابِعين وَغَيرهم، واجمعوا على جلالته وصلاحه وورعه وتوثيقه، وَهُوَ من أجلّ اصحاب ابْن مَسْعُود، وَكَانَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، يثني عَلَيْهِ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ على الْمَحْفُوظ، وَقَالَ ابو سعيد بن صَالح: كَانَ ابو وَائِل يؤم جنائزنا وَهُوَ ابْن مائَة وَخمسين سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصُورَة الْجمع وَصُورَة الْإِفْرَاد وَالسُّؤَال والعنعنة. وَمِنْهَا: ان رِجَاله مَا بَين: بَصرِي وواسطي وكوفي. وَمِنْهَا: أَنهم ائمة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه هُنَا عَن مُحَمَّد بن عرْعرة عَن شُعْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة، واخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بكار بن الريان، وَعون بن سَالم، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان: ثَلَاثَتهمْ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ فِيهِ: قَالَ زبيد. قلت لأبي وَائِل: أَنْت سمعته من عبد الله؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن مَحْمُود بن غيلَان بِهِ، وَعَن عمر بن عَليّ عَن ابْن أبي عدي، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي دَاوُد، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن جرير بِهِ، مَوْقُوفا.
بَيَان اللُّغَة: قَوْله: (عَن المرجئة) أَي: الْفرْقَة الملقبة بالمرجئة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (سباب الْمُسلم) ، بِكَسْر السِّين وَتَخْفِيف الْبَاء بِمَعْنى: السب، وَهُوَ: الشتم، وَهُوَ التَّكَلُّم فِي عرض الْإِنْسَان بِمَا يعِيبهُ. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مصدر، يُقَال: سبّ يسب سبا وسباباً. قلت: هَذَا لَيْسَ بمصدر سبّ يسب، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم بِمَعْنى السب، كَمَا قُلْنَا، أَو مصدر من بَاب المفاعلة، وَفِي (الْمطَالع) : السباب: المشاتمة، وَهِي من السب، وَهُوَ الْقطع. وَقيل: من السبة، وَهِي حَلقَة الدبر كَأَنَّهَا على القَوْل الأول: قطع المسبوب عَن الْخَيْر وَالْفضل، وعَلى الثَّانِي: كشف الْعَوْرَة وَمَا يَنْبَغِي أَن يسْتَتر. وَفِي (الْعباب) : التَّرْكِيب يدل على الْقطع، ثمَّ اشتق مِنْهُ الشتم، وَقَالَ ابراهيم الْحَرْبِيّ: السباب أَشد من السب، وَهُوَ أَن يَقُول فِي الرجل مَا فِيهِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ. قلت: هَذَا أَيْضا يُصَرح بِأَن السباب لَيْسَ بمصدر، فَافْهَم. قَوْله: (فسوق) مصدر، وَفِي (الْعباب) : الْفسق الْفُجُور، يُقَال: فسق يفسق ويفسق أَيْضا عَن الْأَخْفَش: فسقاً وفسوقاً أَي فجر. وَقَوله تَعَالَى {وانه لفسق} (الْأَنْعَام: 121) أَي: خُرُوج عَن الْحق، يُقَال: فسقت الرّطبَة، إِذا خرجت عَن قشرها، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ففسق عَن أَمر ربه} (الْكَهْف: 50) أَي: خرج عَن طَاعَة ربه، وَقَالَ اللَّيْث: الْفسق التّرْك لأمر الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْميل إِلَى الْمعْصِيَة. وَسميت الْفَأْرَة: فويسقة، لخروجها من جحرها على النَّاس: وَقَالَ ابو عُبَيْدَة: ففسق عَن أَمر ربه، أَي جَازَ عَن طَاعَته، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم: الفسوق: يكون الشّرك وَيكون الْإِثْم. قَوْله: (وقتاله) أَي: مقاتلته، وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهَا: الْمُخَاصمَة، وَالْعرب تسمي الْمُخَاصمَة: مقاتلة.
بَيَان الاعراب: قَوْله: (ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَصله: بِأَن النَّبِي إِلَى ... آخِره، وَقَوله: (قَالَ) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: إِن.

(1/278)


قَوْله: (سباب الْمُسلم) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله: (فسوق) خَبره. فان قلت: هَذَا إِضَافَة الى الْفَاعِل اَوْ الْمَفْعُول. قلت: بل إِضَافَة الى الْمَفْعُول، قَوْله: وقتاله، كَذَلِك اضافته إِلَى الْمَفْعُول، وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: (كفر) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (عَن المرجئة) . مَعْنَاهُ سَأَلت أَبَا وَائِل عَن الطَّائِفَة المرجئة: هَل هم مصيبون فِي مقالتهم مخطئون؟ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو وَائِل فِي جَوَابه لزبيد بن الْحَارِث: حَدثنِي عبد الله أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر) يَعْنِي: أَنهم مخطئون، لأَنهم لَا يجْعَلُونَ سباب الْمُسلم فسوقا، وَلَا قِتَاله كفرا فِي حق الْمُسلم، وَلَا يفسقون مرتكبي الذُّنُوب، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِخِلَاف مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَدلَّ ذَلِك على كَونهم على خطأ وضلال، وَبِهَذَا التَّقْدِير الَّذِي قدرناه يُطَابق جَوَاب أَبَا وَائِل سُؤال زبيد، وَقَالَ بَعضهم: فِي التَّقْدِير أَي: عَن مقَالَة المرجئة، وَهَذَا لَا يَصح لِأَن على هَذَا التَّقْدِير لَا يُطَابق الْجَواب السُّؤَال. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن زبيد قَالَ: لما ظَهرت المرجئة أتيت أَبَا وَائِل، فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَدلَّ هَذَا أَن سُؤَاله كَانَ عَن معتقدهم، وَأَن ذَلِك كَانَ حِين ظُهُورهمْ. قلت: لَا نسلم هَذِه الدّلَالَة، بل الَّذِي يدل على أَنه وقف على مقالتهم، حَتَّى سَأَلَ أَبَا وَائِل: هَل هِيَ صَحِيحَة أَو بَاطِلَة؟ فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث، وَإِن تضمن الرَّد على المرجئة، لَكِن ظَاهره يُقَوي مَذْهَب الْخَوَارِج الَّذِي يكفرون بِالْمَعَاصِي: قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ لم يرد بقوله: (وقتاله كفر) ، حَقِيقَة الْكفْر الَّتِي هِيَ خُرُوج عَن الْملَّة، بل إِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ: الْكفْر، مُبَالغَة فِي التحذير، وَالْإِجْمَاع من أهل السّنة مُنْعَقد على أَن الْمُؤمن لَا يكفر بِالْقِتَالِ، وَلَا يفعل مَعْصِيّة أُخْرَى، وَقَالَ ابْن بطال: لَيْسَ المُرَاد بالْكفْر الْخُرُوج عَن الْملَّة بل كفران حُقُوق الْمُسلمين لِأَن الله تَعَالَى جعلهم أخوة، وَأمر بالإصلاح بَينهم، ونهاهم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التقاطع والمقاتلة، فَأخْبر أَن من فعل ذَلِك فقد كفر حق أَخِيه الْمُسلم، وَيُقَال: أطلق عَلَيْهِ الْكفْر لشبهه بِهِ، لِأَن قتال الْمُسلم من شَأْن الْكَافِر، وَيُقَال: المُرَاد بِهِ الْكفْر اللّغَوِيّ، وَهُوَ السّتْر، لِأَن حق الْمُسلم على الْمُسلم أَن يُعينهُ وينصره ويكف عَنهُ أَذَاهُ، فَلَمَّا قَاتله كَأَنَّهُ كشف عَنهُ هَذَا السّتْر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد أَنه يؤول إِلَى الْكفْر لشؤمه، أَو أَنه كَفعل الْكَفَّارَة وَقَالَ الْخطابِيّ: المُرَاد بِهِ الْكفْر بِاللَّه تَعَالَى، فَإِن ذَلِك فِي حق من فعله مستحلاً بِلَا مُوجب وَلَا تَأْوِيل، أما المؤول فَلَا يكفر وَلَا يفسق بذلك، كالبغاة الخارجين على الإِمَام بالتأويل، وَقَالَ بَعضهم: فِيمَا قَالَه الْكرْمَانِي بعد، وَمَا قَالَه الْخطابِيّ أبعد مِنْهُ. ثمَّ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَلَو كَانَ مرَادا لم يحصل التَّفْرِيق بَين السباب والقتال، فَإِن مستحلاً لعن الْمُسلم بِغَيْر تَأْوِيل كفر أَيْضا. قلت: إِذا كَانَ اللَّفْظ مُحْتملا لتأويلات كَثِيرَة، هَل يلْزم مِنْهُ أَن يكون جَمِيعهَا مطابقا للتَّرْجَمَة؟ فَمن ادّعى هَذِه الْمُلَازمَة فَعَلَيهِ الْبَيَان، فَإِذا وَافق أحد التأويلات للتَّرْجَمَة، فَإِنَّهُ يَكْفِي للتطابق. وَقَوله: وَلَو كَانَ مرَادا لم يحصل التَّفْرِيق ... الخ، غير مُسلم لِأَنَّهُ تَخْصِيص الشق الثَّانِي بالتأويل لكَونه مُشكلا بِحَسب الظَّاهِر، والشق الأول لَا يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل لكَون ظَاهره غير مُشكل. فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: (لعن الْمُسلم كقتله) ، قلت: التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ، وَوجه التَّشْبِيه هُوَ حُصُول الْأَذَى بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: فِي الْعرض، وَالْآخر: فِي النَّفس. فَإِن قلت: السباب والقتال كِلَاهُمَا على السوَاء فِي أَن فاعلهما يفسق ولايكفر، فلِمَ قَالَ فِي الأول فسوق، وَفِي الثَّانِي كفر؟ قُلْنَا: لِأَن الثَّانِي أغْلظ، أَو لِأَنَّهُ بأخلاق الْكفَّار أشبه.
(أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن حميد عَن أنس قَالَ أَخْبرنِي عبَادَة بن الصَّامِت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يعْتَبر بليلة الْقدر وفتلاحى رجلَانِ من الْمُسلمين فَقَالَ إِنِّي خرجت لاخبر كم بليلة الْقدر وَإنَّهُ تلاحى فلَان وَفُلَان فَرفعت وَعَسَى أَن يكون خيرا لكم التمسوها فِي السَّبع وَالْخمس.) هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة الأولى وَوجه تطابقه اياها من حَيْثُ أَن فِيهِ ذمّ التلاحى وَأَن صَاحبه نَاقص لِأَنَّهُ يشْتَغل ع كثير من الْخَيْر بِسَبَبِهِ سِيمَا إِذا كَانَ فِي الْمَسْجِد وَعنهُ جهر الصَّوْت بِحَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل رُبمَا ينجر إِلَى بطلَان الْعَمَل وَهُوَ لَا يشْعر قَالَ تَعَالَى (وَلَا تجْهر واله بالْقَوْل كحهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون) وَقَالَ بَعضهم بعد أَن أَخذ هَذَا الْكَلَام من الكرمانى وَمن هُنَا يَتَّضِح مُنَاسبَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ومطابقتها وَقد خفيت على كثير

(1/279)


من الْمُتَكَلِّمين على هَذَا الْكتاب قلت أَن هَذَا عَجِيب شَدِيد يَأْخُذ كَلَام النَّاس وينسبه إِلَى نَفسه مُدعيًا أ، غَيره قد خفى عَلَيْهِ ذَلِك على أَن هَذَا الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي فِي وَجه الْمُطَابقَة إِنَّمَا يُقَاد بِالْجَرِّ الثقيل على مَا لَا يخفي على من يتأمله فَإِذا أمعن النَّاظر فِيهِ لَا يجد لذكر هَذَا لحَدِيث هُنَا مُنَاسبَة وَلَا مطابقاً للتَّرْجَمَة (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة قُتَيْبَة بن سعيد وَقد مر ذكره فِي بَاب السَّلَام من السَّلَام. الثَّانِي إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ المدنى وَقد مر فِي بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق الثَّالِث حميد بِضَم الْحَاء ابْن أبي حميد وَاسم أبي حميدتين بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الْبَصْرِيّ مولى طَلْحَة الطلحات وَهُوَ مَشْهُور بحميد الطَّوِيل قيل كَانَ قَصِيرا طَوِيل الْيَدَيْنِ فَقيل لَهُ ذَلِك وَكَانَ يقف عِنْد الْمَيِّت فتصل أحدى يَدَيْهِ إِلَى رأٍ سه والاخرى إِلَى رجلَيْهِ وَقَالَ الْأَصْمَعِي رَأَيْته وَلم يكن بذلك الطَّوِيل بل كَانَ فِي مر ذكره الْخَامِس عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ وَقد مر ذكره فِي بَاب عَلامَة الْإِيمَان حب الْأَنْصَار بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والاخبار وبالافراد والعنعنة وَلَكِن فِي رِوَايَة الاصيلي حَدثنَا أنس فعلى رِوَايَته أَمن من تَدْلِيس حميد وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بيين بلخي ومدني وَبصرى (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن اخرجه غَيره) أخرجه أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن خَالِد بن الْحَارِث وَفِي الْأَدَب عَن مُسَدّد عَن بشر بن الْمفضل بن مُغفل ثَلَاثَتهمْ عَن حميد الطَّوِيل عَنهُ بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاعْتِكَاف عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ وَعَن على بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ وَعَن عمر أَن بن مُوسَى عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن حميد بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله " فتلاحى " بِفَتْح الْحَاء من التلاحى بِكَسْر الْحَاء وَهُوَ التَّنَازُع قَالَ الْجَوْهَرِي تلاحوا إِذا تنازعوا وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين الملاحاة الْخُصُومَة والسباب وَالِاسْم اللحاء بِكَسْر الْحَاء وَهُوَ التَّنَازُع قَالَ الْجَوْهَرِي تلاحوا إِذا تنازعوا وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين الملاحاة الْخُصُومَة والسباب وَالِاسْم اللحاء بِكَسْر اللَّام ممدودا قلت الَّذِي ذكره من بَاب المفاعلة وَالَّذِي فِي الحَدِيث من بَاب التفاعل لَان تلاحي اصله تلاحى بِفَتْح الْيَاء على وزن تفَاعل قلبت الْيَاء الْفَا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا والمصدر تلاح أَصله تلاحي فأعل اعلال قَاض فان قلت قد علم أَن بَاب التفاعل لمشاركة الْجَمَاعَة نَحْو تخاصم الْقَوْم وَبَاب المفاعلة لمشاركة اثْنَيْنِ نَحْو قَاتل زيد وَعَمْرو وَكَانَ الْقيَاس هُنَا أَن يذكر من بَاب النلاحاة لِأَنَّهَا كَانَت بَين رجلَيْنِ. قلت التَّحْقِيق فِي هَذَا الْبَاب أَن وضع فَاعل لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل مُتَعَلقا بِغَيْرِهِ مَعَ أَن الْغَيْر فعل مثل ذَلِك وَوضع تفَاعل لنسبته إِلَى المشتركين فِيهِ من غير قصد إِلَى تعلق لَهُ فَلذَلِك جَاءَ الأول زَائِدا على الثَّانِي بمفعول ابدا فَأن كَانَ تفَاعل من فَاعل الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعول كضارب لم يَتَعَدَّ وَإِن كَانَ من الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعولين كجاذبته الثَّوْب يتَعَدَّى إِلَى وَاحِد وَقد يفرق بَينهمَا من حَيْثُ الْمَعْنى فان البادىء فِيهِ غير مَعْلُوم دون تفَاعل وجاه تلاحى هَهُنَا من لاحيته لم يَتَعَدَّ إِلَى مفعول فَافْهَم فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق قَوْله " التمسوها " من الالتماس وَهُوَ الطّلب (بَيَان الْأَعْرَاب) قَوْله " خرج " أَي من الْحُجْرَة جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن قَوْله " يخبر " جملَة مستأنفة وَالْأولَى أَن تكون حَالا وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا وَقع حَالا وَكَانَ مثبتا لَا يجوز فِيهِ الْوَاو قان قلت الْخُرُوج لم يكن فِي حَال الْأَخْبَار قلت هَذِه تسمى حَالا مقدرَة أَي خرج مُقَدّر الْأَخْبَار وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى " فادخلوها خَالِدين " أَي مقدرين الخلود وَلَا شكّ أَن الْخُرُوج حَالَة تَقْدِير الْأَخْبَار كالدخول حَالَة تَقْدِير الخلود قَوْله " فتلاحى " فعل ورجلان فَاعله وَكلمَة من بَيَانِيَّة مَعَ مَا فِيهَا من معنى التبغيض قَوْله " أَنِّي خرجت " مقول القَوْل قَوْله " لاخبركم " بِنصب الراءبان الْمقدرَة بعد لَام التَّعْلِيل إِذْ أَصله لِأَن أخْبركُم وَاخْبَرْ يَقْتَضِي ثَلَاثَة مفاعيل الأول كَاف الْخطاب وَقَوله بليلة الْقدر سد مسد الْمَفْعُول الثَّانِي وَالثَّالِث لن التَّقْدِير أخبركمك بِأَن لَيْلَة الْقدر هِيَ اللَّيْلَة الْفُلَانِيَّة وَلَا يجوز أَن يكون بليلة الْقدر سد مسد الْمَفْعُول الثَّانِي وَالثَّالِث لَان التَّقْدِير أخْبركُم بِأَن لَيْلَة الْقدر هِيَ اللَّيْلَة الْفُلَانِيَّة وَلَا يجوز أَن يكون بليلة الْقدر الْمَفْعُول الثَّانِي وَيكون الثَّالِث محذوفاً لِأَن الْمَفْعُول الأول فِي هَذَا الْبَاب كمفعول اعطيت وَالْمَفْعُول الثَّانِي وَالثَّالِث كمفعول علمت بِمَعْنى إِذا ذكر أَحدهمَا يجب ذكر الآخر لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنى كالمبتدأ وَالْخَبَر فَلَا بُد من ذكر أَحدهمَا إِذا ذكر الآخر قَوْله " وَأَنه "

(1/280)


بِكَسْر الْهمزَة عطف على قَوْله إِنِّي وَالضَّمِير فِيهِ للشان وَقَوله " تلاحى فلَان " جملَة فِي مَحل الرّفْع على انه خبر أَن قَوْله " فَرفعت " عطف على تلاحى وَالْفَاء تصلح للسَّبَبِيَّة قَوْله " وَعَسَى أَن يكون " قد علم أَن فَاعل عَسى على نَوْعَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون اسْما نَحْو عَسى زَيْدَانَ يخرج فزيد مَرْفُوع بالفاعلية وَأَن يخرج فِي مَوضِع نصب لانه بِمَنْزِلَة قَارب زيد الْخُرُوج وَالثَّانِي أَن تكون أَن مَعَ جُمْلَتهَا فِي مَوضِع الرّفْع نَحْو عَسى أَن يخرج زيد فَتكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة قرب أَن يخرج أَي خُرُوجه إِلَّا أَن الْمصدر لم يسْتَعْمل وَقَوله عَسى أَن يكون من قبيل الثَّانِي وَالضَّمِير فِي يكون يرجع إِلَى الرّفْع الدَّال عَلَيْهِ قَوْله فَرفعت وَقَوله خير لنصب بِأَنَّهُ خبر يكون (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله " فتلاحى رجلَانِ " هما عبد الله بن أبي حَدْرَد بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره دَال اخرى وَكَعب بن مَالك كَانَ على عبد الله دين لكعب يَطْلُبهُ فتنازعا فِيهِ ورفعا صوتيهما فِي الْمَسْجِد قَوْله " فَرفعت " قَالَ النَّوَوِيّ أَي رفع بَيَانهَا أَو علمهَا والافهى بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ وشذ قوم فَقَالُوا رفعت لَيْلَة الْقدر وَهَذَا غلط لِأَن آخر الحَدِيث يرد عَلَيْهِم فَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " التمسوها " وَلَو كَانَ المُرَاد رفع وجودهَا لم يَأْمُرهُم بالتماسها لَا يُقَال كَيفَ يُؤمر بِطَلَب مَا رفع علمه لانا نقُول المُرَاد طلب التَّعَبُّد فِي مظانها وَرُبمَا يَقع الْعَمَل مصادفاً لَهَا أَنه مَأْمُور بِطَلَب الْعلم بِعَينهَا والاوجه أَن يُقَال رفعت من قلبِي بِمَعْنى نسيتهَا يدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي سعيد " فجَاء رجلَانِ يحتقنان " بتَشْديد الْقَاف أَي يدعى كل مِنْهُمَا أَنه المحق " مَعَهُمَا الشَّيْطَان فنسيتها " وَيعلم من حَدِيث عبَادَة ان سَبَب الرّفْع التلاحى وَمن حَدِيث أبي سعيد هُوَ النسْيَان وَيحْتَمل أَن يكون السَّبَب هُوَ الْمَجْمُوع وَلَا مَانع مِنْهُ قَوْله " وَعَسَى أَن يكون خير لكم " لتزيدوا فِي الِاجْتِهَاد وتقوموا فِي اللَّيَالِي لطلبها فَيكون زِيَادَة فِي ثوابكم وَلَو كَانَت مُعينَة لاقتنعتم بِتِلْكَ اللَّيْلَة فَقل عَمَلكُمْ قَوْله " التمسوها فِي السَّبع " أَي لَيْلَة السَّبع وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَالتسع وَالْعِشْرين مِنْهُ وَالْخمس وَالْعِشْرين مِنْهُ وَهَكَذَا وَقع فِي مستخرج ابي نعيم فان قلت من أَيْن اسْتُفِيدَ التَّقْيِيد بالعشرين وبرمضان قلت من الْأَحَادِيث الآخر الدَّالَّة عَلَيْهِمَا وَقد مر فِي بَاب قيام لَيْلَة الْقدر الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِيهَا بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول فِيهِ ذمّ الملاحاة وَنقص صَاحبهَا الثَّانِي أَن الملاحاة والمخاصمة سَبَب الْعقُوبَة للعامة بذنب الْخَاصَّة فَإِن الْأمة حرمت اعلام هَذِه اللَّيْلَة بِسَبَب التلاحى بِحَضْرَتِهِ الشَّرِيفَة لَكِن فِي قَوْله " وَعَسَى أَن يكون خيرا " بعض التأنيس لَهُم وَقَالَ النَّوَوِيّ ادخل البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب لِأَن رفع لَيْلَة الْقدر كَانَ بِسَبَب تلاحيهما ورفعهما الصَّوْت بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِيهِ مذمة الملاحاة ونقصان صَاحبهَا وَقَالَ الْكرْمَانِي فَأن قلت إِذا جَازَ أَن يكون الرّفْع خيرا فلامذمة فِيهِ وَلَا شَرّ وَلَا حَبط عمل قلت أَن أُرِيد بِالْخَيرِ اسْم التَّفْصِيل فَمَعْنَاه أَن الرّفْع عَسى أَن يكون خيرا من عدم الرّفْع خير فلامذمة فِيهِ وَلَا شَرّ وَلَا حَبط عمل قلت أَن أُرِيد بِالْخَيرِ اسْم التَّفْضِيل فَمَعْنَاه أَن الرّفْع عَسى أَن يكون خيرا وَأَن عدم الرّفْع أَزِيد خيرا وَأولى مِنْهُ ثمَّ أَن خيرية ذَاك كَانَت مُحَققَة وخيرية هَذَا مرجوة لِأَن مفَاد عَسى هُوَ الرَّجَاء لَا غير. الثَّالِث فِيهِ الْحَث على طلب لَيْلَة الْقدر. الرَّابِع قَالَ القَاضِي عِيَاض فِيهِ دَلِيل على أَن الْمُخَاصمَة مذمومة وَأَنَّهَا مثل الْعقُوبَة المعنوية وَقَالَ بَعضهم فان قيل كَيفَ تكون الْمُخَاصمَة فِي طلب الْحق مذمومة قُلْنَا إِنَّمَا كَانَت كَذَلِك لوقوعها فِي الْمَسْجِد وَهُوَ مَحل الذّكر لَا اللَّغْو سِيمَا فِي الْوَقْت الْمَخْصُوص أَيْضا بِالذكر وَهُوَ شهر رَمَضَان قلت طلب الْحق غير مَذْمُوم لَا فِي الْمَسْجِد وَلَا فيا لوقت الْمَخْصُوص وَإِنَّمَا المذمة فِيهَا لَيست رَاجِعَة إِلَى مُجَرّد الْخُصُومَة فِي الْحق وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَة إِلَى زِيَادَة مُنَازعَة حصلت بَينهمَا عَن الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ وَتلك الزِّيَادَة هِيَ اللَّغْو وَالْمَسْجِد لَيْسَ بِمحل اللَّغْو مَعَ مَا كَانَ فِيهَا من رفع الصَّوْت بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَافْهَم.