عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 37 - ( {بَاب سُؤال جِبْريلَ النَّبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الإيمانِ والإسْلامِ والإحْسانِ
وعِلْمِ السَّاعةِ} )
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن التَّقْدِير:
هَذَا بَاب فِي بَيَان سُؤال جِبْرَائِيل عَلَيْهِ
السَّلَام الخ. وَالْبَاب مُضَاف إِلَى السُّؤَال،
وَالسُّؤَال
(1/281)
إِلَى جِبْرِيل إِضَافَة الْمصدر إِلَى
فَاعله، وَجِبْرِيل لَا ينْصَرف للعلمية والعجمة، وَقد
تكلمنا فِيهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي أَوَائِل
الْكتاب. وَقَوله: (النَّبِي) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول
الْمصدر، وَقَوله: (عَن الْإِيمَان) يتَعَلَّق بالسؤال.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ
إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْمُؤمن الَّذِي
يخَاف أَن يحبط عمله وَفِي هَذَا الْبَاب يذكر بِمَاذَا
يكون الرجل مُؤمنا، وَمن الْمُؤمن فِي الشَّرِيعَة.
الثَّالِث: قَوْله (وَعلم السَّاعَة) عطف على قَوْله:
الْإِيمَان، أَي: علم الْقِيَامَة. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: سميت سَاعَة لوقوعها بَغْتَة، أَو لسرعة
حِسَابهَا، أَو على الْعَكْس لطولها. فَهُوَ تمليح، كَمَا
يُقَال فِي الْأسود كافورا، وَلِأَنَّهَا عِنْد الله
تَعَالَى على طولهَا كساعة من السَّاعَات عِنْد الْخلق.
فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَوقت السَّاعَة،
لِأَن السُّؤَال عَن وَقتهَا حَيْثُ قَالَ، مَتى
السَّاعَة؟ وَكلمَة مَتى، للْوَقْت، وَلَيْسَ السُّؤَال
عَن علمهَا. قلت: فِيهِ حذف تَقْدِيره: وَعلم وَقت
السَّاعَة، بِقَرِينَة ذكر: مَتى، وَالْعلم لَازم
السُّؤَال، إِذْ مَعْنَاهُ: أتعلم وَقت السَّاعَة؟
فَأَخْبرنِي، فَهُوَ مُتَضَمّن للسؤال عَن علم وَقتهَا.
وبيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ ثمَّ
قَالَ جاءَ جِبْرِيلُ عليهِ السلامُ يُعَلِّمُكمْ
دِينَكُمْ فَجَعلَ ذلِكَ كُلَّهُ دِينا. وَمَا بَيَّنَ
النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِوَفْدِ عَبْدِ
الْقَيْسِ مِنَ الإيمانِ. وقَوْلِهِ تَعَالَى {ومَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ}
(آل عمرَان: 85) .
و: بَيَان، مجرور لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: سُؤال،
قَوْله: (لَهُ) أَي: لجبريل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد
أعَاد الْكرْمَانِي الضَّمِير إِلَى الْمَذْكُور من
قَوْله: (عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام والاحسان وَعلم
السَّاعَة) ، وَهَذَا وهم مِنْهُ، ثمَّ تكلّف بِجَوَاب عَن
سُؤال بناه على مَا زَعمه ذَلِك، فَقَالَ: فَإِن قلت: لم
يبين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت السَّاعَة،
فَكيف قَالَ: وَبَيَان النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، لَهُ
لِأَن الضَّمِير إِمَّا رَاجع إِلَى الْأَخير أَو إِلَى
مَجْمُوع الْمَذْكُور؟ قلت: إِمَّا أَنه أطلق وَأَرَادَ
أَكْثَره، إِذْ حكم مُعظم الشَّيْء حكم كُله، أَو جعل
الحكم فِيهِ بِأَنَّهُ لَا يُعلمهُ إلاَّ الله بَيَانا
لَهُ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: النَّبِي، عَلَيْهِ
السَّلَام، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى كَيْفيَّة استدلاله من
سُؤال جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَجَوَاب النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه على جعل كل ذَلِك دينا،
فَلذَلِك قَالَ: ثمَّ قَالَ، بِالْجُمْلَةِ الفعلية عطفا
على الْجُمْلَة الاسمية، لِأَن الأسلوب يتَغَيَّر
بِتَغَيُّر الْمَقْصُود، لِأَن مَقْصُوده من الْكَلَام
الأول هُوَ التَّرْجَمَة، وَمن هَذَا الْكَلَام كَيْفيَّة
الِاسْتِدْلَال، فلتغاير المقصودين تغاير الأسلوبان، وَفِي
عطف الفعلية على الاسمية وعكسها خلاف بَين النُّحَاة.
قَوْله: (فَجعل) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر فِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة الْآتِي. فَإِن قلت: علم وَقت السَّاعَة لَيْسَ
من الْإِيمَان، فَكيف قَالَ كُله، قلت: الِاعْتِقَاد
بوجودها، وبعدم الْعلم بوقتها لغير الله تَعَالَى من
الدّين أَيْضا أَو أعْطى للْأَكْثَر حكم الْكل مجَازًا،
فِيهِ نظر لِأَن لَفظه: كل، يدْفع الْمجَاز. قَوْله:
(وَمَا بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة
الْوَاو هُنَا بِمَعْنى المصاحبة، وَالْمعْنَى: جعل
النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، سُؤال جِبْرِيل، وَجَوَاب
النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، كُله دينا مَعَ مَا بيَّن
لوفد عبد الْقَيْس من الْإِيمَان، وَبَينه فِي قصتهم بِمَا
فسر بِهِ الاسلام هَهُنَا، وَأَرَادَ بِهَذَا الْإِشْعَار
بِأَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِد، على مَا هُوَ
مذْهبه وَمذهب جمَاعَة من الْمُحدثين، وَقد نقل أَبُو
عوَانَة الاسفرائني فِي (صَحِيحه) عَن الْمُزنِيّ صَاحب
الشَّافِعِي، رَحمَه الله، الْجَزْم بِأَنَّهُمَا وَاحِد،
وَأَنه سمع ذَلِك مِنْهُ. وَعَن الإِمَام أَحْمد الْجَزْم
بتغايرهما، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي أَوَائِل كتاب
الْإِيمَان. وَكلمَة مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: مَعَ
بَيَان النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، لوفد عبد الْقَيْس.
قَوْله: وَقَوله {وَمن يبتغ غير الاسلام دينا فَلَنْ يقبل
مِنْهُ} (آل عمرَان: 85) عطف على قَوْله: (وَمَا بَين
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام) ، وَالتَّقْدِير: وَمَعَ
قَوْله تَعَالَى: {وَمن يبتغ} (آل عمرَان: 85) أَي مَعَ
مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة أَن الْإِسْلَام هُوَ الدّين،
أَي: وَمن يطْلب غير الْإِسْلَام دينا، والابتغاء: الطّلب.
(حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن
إِبْرَاهِيم أخبرنَا أَبُو حَيَّان التَّيْمِيّ عَن أبي
زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بارزاً يَوْمًا للنَّاس فَأَتَاهُ جِبْرِيل
فَقَالَ مَا الْإِيمَان قَالَ الْإِيمَان أَن تؤمن
بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله وتؤمن
بِالْبَعْثِ قَالَ الْإِسْلَام قَالَ الْإِسْلَام أَن تعبد
الله وَلَا تشرك بِهِ وتقيم الصَّلَاة وَتُؤَدِّي
الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وتصوم رَمَضَان قَالَ مَا
الْإِحْسَان
(1/282)
قَالَ أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن
لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك قَالَ مَتى السَّاعَة قَالَ
مَا المسؤل عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل وسأخبرك عَن
أشراطها إِذا ولدت الْأمة رَبهَا وَإِذا تطاول رُعَاة
الْإِبِل البهم فِي الْبُنيان فِي خمس لَا يعلمهُنَّ
إِلَّا الله ثمَّ تَلا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِن الله عِنْده علم السَّاعَة الْآيَة ثمَّ أدبر فَقَالَ
ردُّوهُ فَلم يرَوا شَيْئا فَقَالَ هَذَا جِبْرِيل جَاءَ
يعلم النَّاس دينهم) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة
ظَاهِرَة (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول مُسَدّد بن
مسرهد وَقد مر ذكر فِي بَاب من الْإِيمَان أَن يحب
لِأَخِيهِ الثَّانِي اسمعيل بن إِبْرَاهِيم بن سهم بن مقسم
أَبُو بشر مولى بني اسد بن خُزَيْمَة الْمَشْهُور بِابْن
عَلَيْهِ بِضَم الْعين وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء
وَكَانَت امْرَأَة عَاقِلَة نبيلة وَكَانَ صَالح الْمزي
ووجوه أهل الْبَصْرَة وفقهاؤها يدْخلُونَ عَلَيْهَا فَتبرز
لَهُم وتحادثهم وتسأئلهم وَقد مر ذكره فِي بَاب حب
الرَّسُول من الْإِيمَان الثَّالِث أَبُو حبَان بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف
واسْمه يحيى بن حَيَّان الْكُوفِي فِي التَّيْمِيّ قَالَ
أَحْمد بن عبد الله هُوَ ثِقَة صَالح بر صَاحب سنة مَاتَ
سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة ونسبته
إِلَى تيم الربَاب وحيان أما مُشْتَقّ من الْحَيَاة فَلَا
ينْصَرف أَو من الْحِين فَيَنْصَرِف الرَّابِع أَبُو
زرْعَة هرم بن عَمْرو بن جرير البجلى تقدم ذكره فِي بَاب
الْجِهَاد من الْإِيمَان الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة
(بَيَان لطائف اسناده) . مِنْهَا أَن التحديث والعنعة.
وَمِنْهَا أَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم قد ذكره
البُخَارِيّ فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان بنسبته
إِلَى أمه حَيْثُ قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم
حَدثنَا ابْن علية عَن عبد الْعَزِيز وَذكره هَهُنَا باسم
أَبِيه وَهَذَا دَلِيل على كال ضبط البُخَارِيّ وأمانته
حَيْثُ نقل لفظ الشُّيُوخ بِعَيْنِه فأداه كَمَا سَمعه
وَمِنْهَا أَن فِيهِ أَبَا حَيَّان وَهُوَ غير تَابِعِيّ
وَقد روى عَنهُ تابعيان كَبِير أَن أَيُّوب وَالْأَعْمَش
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه هَهُنَا
عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل وَفِي التَّفْسِير عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير كِلَاهُمَا عَن ابي
حَيَّان وَفِي الزَّكَاة مُخْتَصرا عَن عبد الرَّحِيم عَن
عقيل عَن زُهَيْر عَن أبي حَيَّان أخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب
كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن مُحَمَّد بن عبد
الله بن نمير عَن مُحَمَّد بن بشر عَن ابي حَيَّان وَعَن
زُهَيْر عَن جرير عَن عمَارَة كِلَاهُمَا عَن أبي زرْعَة
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة بِتَمَامِهِ وَفِي
الْفِتَن بِبَعْضِه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن عُثْمَان عَن جرير عَن أبي
فَرْوَة الهمذاني عَن أبي زرْعَة عَن أبي ذَر وَأبي
هُرَيْرَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان عَن
مُحَمَّد بن قدامَة عَن جريرية وَفِي الْعلم عَن إِسْحَاق
ابْن إِبْرَاهِيم عَن جرير مُخْتَصرا من غير ذكر سُؤال
السَّائِل وَقد أخرجه مُسلم من حَدِيث عمر بن الْخطاب
رَضِي الله عَنهُ وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ لاخْتِلَاف
فِيهِ على بعض رُوَاته فمشهوره رِوَايَة كهمس بن الْحسن
عَن عبد الله عَن بُرَيْدَة يحيى ابْن يعمر بِفَتْح
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح
الْمِيم عَن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عمر بن الْخطاب
رَضِي الله عَنْهُمَا وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان
وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي السّنة عَن عبيد الله بن
معَاذ بِهِ وَعَن مُسَدّد عَن يحيى ابْن سعيد بِهِ وَعَن
مَحْمُود بن خَالِد عَن الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان عَن
عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن يحيى
بن يعمر بهَا الحَدِيث يزِيد وَينْقص. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن ابي عَلْقَمَة بن مرْثَد
عَن سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن يحيى بن يعمر بِهَذَا
الحَدِيث يزِيد وَينْقص. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْإِيمَان عَن أبي عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث
الْخُزَاعِيّ عَن وَكِيع بِهِ. وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى
عَن معَاذ بن معَاذ بِهِ وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن
ابْن الْمُبَارك عَن كهمس بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
السّنة عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ قلت رَوَاهُ
عَن كهمس جمَاعَة من الْحفاظ وَتَابعه مطر الْوراق عَن
عبيد الله بن بُرَيْدَة وأخرجهما أَبُو عوانه فِي صَحِيحه
وَسليمَان التَّيْمِيّ عَن يحيى بن يعمر أخرجهُمَا ابْن
خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَان بن
عُثْمَان وَعبد الله بن بُرَيْدَة لكنه قَالَ يحيى بن يعمر
وَحميد بن عبد الرَّحْمَن مَعًا عَن ابْن عمر عَن عمر
رَضِي الله عَنهُ وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده وَقد خالفهم
سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة أَخُو عبد الله فَرَوَاهُ عَن
يحيى بن يعمر عَن عبد الله بن عمر قَالَ بَيْنَمَا " نَحن
عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " فَجعله من
مُسْند ابْن عمر لامن رِوَايَته عَن أَبِيه وأخره أَحْمد
أَيْضا وَكَذَا أَبُو نعيم فِي الْحِلْية من طَرِيق عَطاء
الْخُرَاسَانِي
(1/283)
عَن يحيى بن يعمر وذكا روى من طَرِيق عكطاء
بن أبي رَبَاح عَن عبد الله بن عمر أخرجهُمَا
الطَّبَرَانِيّ وَفِي الْبَاب عَن أنس رَضِي الله عَنهُ
أخرجه الْبَزَّار بِإِسْنَادِهِ حسن وَعَن جرير البَجلِيّ
أخرجه أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه وَعَن ابْن عَبَّاس وَأبي
عَامر الْأَشْعَرِيّ أخرجهُمَا أَحْمد بِإِسْنَادِهِ حسن
(بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ) قَوْله " كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بارزا يَوْمًا للنَّاس "
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أبي فَرْوَة " كَانَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجلس بَين أَصْحَابه
فَيَجِيء الْغَرِيب فَلَا يدْرِي أَيهمْ هُوَ حَتَّى
يسْأَل فطلبنا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن نجْعَل لَهُ مَجْلِسا يعرفهُ الْغَرِيب إِذا أَتَاهُ
قَالَ فبنينا لَهُ دكانا من طين يجلس عَلَيْهِ وَكُنَّا
نجلس بجنبته " واستنبط مِنْهُ الْقُرْطُبِيّ اسْتِحْبَاب
جُلُوس الْعَالم بمَكَان يخْتَص بِهِ وَيكون مرتفعاً إِذا
احْتَاجَ لذَلِك لضَرُورَة تَعْلِيم وَنَحْوه قَوْله "
فاتاه رجل " وَفِي التَّفْسِير للْبُخَارِيّ " إِذْ
أَتَاهُ رجل يمشي " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أبي
فَرْوَة " فأناا الْجُلُوس عِنْده إِذا قبل رجل أحسن
النَّاس وَجها وَأطيب النَّاس ريحًا كَأَن ثِيَابه
يَمَسهَا دنس " وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق كهمس من
حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " بَيْنَمَا نَحن ذَات يَوْم
عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ طلع علينا
رجل شَدِيد بَيَاض الثِّيَاب شَدِيد سَواد الشّعْر " وَفِي
رِوَايَة ابْن حبَان " شَدِيد سَواد اللِّحْيَة لَا يرى
عَلَيْهِ أثر السّفر وَلَا يعرفهُ منا أحد حَتَّى جلس
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسْندَ
رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخذيهِ " ولسليمان
التَّيْمِيّ " لَيْسَ عَلَيْهِ سحناء وَلَيْسَ من الْبَلَد
فتخطى حَتَّى برك بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَمَا يجلس أَحَدنَا فِي الصَّلَاة ثمَّ وضع يَده
على ركبتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " قلت السحناء
بِفَتْح السِّين والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالنُّون وَهِي
الْهَيْئَة وَكَذَلِكَ السحنة بِالتَّحْرِيكِ قَالَ أَبُو
عُبَيْدَة لم اسْمَع أحدا يَقُولهَا أعنى السحناء
بِالتَّحْرِيكِ غير الْفراء قَوْله " فَقَالَ مَا
الْإِيمَان " وَزَاد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير "
فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا الْإِيمَان " قَوْله " أَن
تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله " وَفِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ واتفقت الروَاة على ذكرهَا فِي
التَّفْسِير قَوْله " وبلقائه " كَذَا وَقعت هُنَا بَين
الْكتب وَالرسل وَكَذَا الْمُسلم من الطَّرِيقَيْنِ وَلم
يَقع فِي بَقِيَّة الرِّوَايَات وَوَقع فِي حَدِيثي أنس
وَابْن عَبَّاس " وبالموت وبالبعث بعد الْمَوْت " قَوْله "
وَرُسُله " وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ " وبرسوله " وَوَقع
فِي حَدِيث أنس وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم "
وَالْمَلَائِكَة وَالْكتاب والنبين " وَكَذَا فِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ عَن أبي ذَر وَعَن أبي هُرَيْرَة قَوْله "
تؤمن بِالْبَعْثِ " زَاد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير "
وبالبعث الآخر " وَفِي رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث عمر
رَضِي الله عَنهُ " وَالْيَوْم الآخر " وَزَاد الاسماعيلي
فِي مستخرجه هُنَا " وتؤمن بِالْقدرِ " وَهِي رِوَايَة أبي
فَرْوَة أَيْضا. وَفِي رِوَايَة كهمس وَسليمَان التيمى "
وتؤمن بِالْقدرِ " وَهِي رِوَايَة أبي فَرْوَة أَيْضا.
وَفِي رِوَايَة كهمس وَسليمَان التَّيْمِيّ " وتؤمن
بِالْقدرِ خَيره وشره " وَكَذَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس
وَكَذَا الْمُسلم فِي رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع
واكده بقوله فِي رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عمر بِزِيَادَة "
حلوه ومره فِي الله " قَوْله " وتصوم رَمَضَان " وَفِي
حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " وتحج الْبَيْت إِن
اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا وَكَذَا فِي حَدِيث أنس فِي
رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي لم يذكر الصَّوْم فِي
حَدِيث أبي عَامر ذكر الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَحسب وَلم
يذكر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس غير الشَّهَادَتَيْنِ وَفِي
رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ ذكر الْجَمِيع وَزَاد بعد
قَوْله " وتحج الْبَيْت وتعتمر وتغتسل من الْجَنَابَة وتتم
الْوضُوء " وَفِي رِوَايَة مطر الْوراق " وتقيم الصَّلَاة
وتؤتي الزَّكَاة " وَفِي رِوَايَة مُسلم " وتقيم الصَّلَاة
الْمَكْتُوبَة " قَوْله " أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ "
وَفِي رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع أَن تخشى الله
كَأَنَّك ترَاهُ وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة " فَإِن لم
تره فَإِنَّهُ يراك " قَوْله " مَا المسؤول عَنْهَا
بِأَعْلَم من السَّائِل " وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة "
فَنَكس فَلم يجبهُ ثمَّ أعَاد فَلم يجبهُ شَيْئا ثمَّ رفع
رَأسه قَالَ مَا المسؤول " قَوْله " سأخبرك " وَفِي
التَّفْسِير " سأحدثك " قَوْله " عَن أشراطها " وَفِي
حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " قَالَ فَأَخْبرنِي عَن
اماراتها " وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة " وَلَكِن لَهَا
عَلَامَات تعرف بهَا " وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان
التَّيْمِيّ " وَلَكِن ان شِئْت عَن أشراطها قَالَ أجل "
وَنَحْوه فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَزَاد " فَحَدثني "
قَوْله " إِذا ولدت الْأمة رَبهَا " وَفِي التَّفْسِير "
ربتها " بتاء التَّأْنِيث وَكَذَا فِي حَدِيث عمر رَضِي
الله عَنهُ وَفِي رِوَايَة عُثْمَان بت غياث " إِذا ولدت
الأماء اربابهن " بِلَفْظ الْجمع قَوْله " رُعَاة الْإِبِل
إِلَيْهِم " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي رِوَايَة
الإصيلي بِفَتْحِهَا وَفِي رِوَايَة " الصم والبكم "
قَوْله " فِي خمس " وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنْهُمَا " سُبْحَانَ الله خمس " وَفِي رِوَايَة عَطاء
الْخُرَاسَانِي قَالَ " فَمَتَى السَّاعَة قَالَ فِي خمس
من الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا الله " قَوْله " وَالْآيَة
"
(1/284)
وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " وتلا
الْآيَة إِلَى آخر السُّورَة " وَفِي رِوَايَة مُسلم "
إِلَى قَوْله خَبِير " وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي فَرْوَة
وَوَقع البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير " إِلَى الارحام "
قَوْله " فَقَالَ ردُّوهُ " وَزَاد فِي التَّفْسِير "
فَأخذُوا ليردوه فَلم يرَوا شَيْئا " قَوْله " جَاءَ يعلم
" وَفِي التَّفْسِير " ليعلم " وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَرَادَ أَن تعلمُوا إِذْ لم تسألوا "
وَمثله لعمارة وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة " وَالَّذِي بعث
مُحَمَّد بِالْحَقِّ مَا كنت بِأَعْلَم بِهِ من رجل
مِنْكُم وَإنَّهُ لجبريل " وَفِي حَدِيث أبي عَامر " ثمَّ
ولي فَلم نر طَريقَة قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام "
سُبْحَانَ الله هَذَا جِبْرِيل جَاءَ ليعلم النَّاس دينهم
وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا جَاءَ فِي قطّ إِلَّا
وَأَنا أعرفهُ إِلَّا أَن تكون هَذِه الْمرة " وَفِي
رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ " ثمَّ نَهَضَ فولى
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بِالرجلِ
فطلبناه كل مطلبة فَلم يقدر عَلَيْهِ فَقَالَ هَل
تَدْرُونَ من هَذَا هَذَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
أَتَاكُم ليعلمكم دينكُمْ خُذُوا عَنهُ فوالذي نَفسِي
بِيَدِهِ مَا اشْتبهَ على مُنْذُ اتاني قبل مرتى هَذِه
وَمَا عَرفته حَتَّى ولى " وَفِي حَدِيث عمر رَضِي الله
عَنهُ " قَالَ ثمَّ انْطلق فَلبث مَلِيًّا ثمَّ قَالَ يَا
عمر أَتَدْرُونَ من السَّائِل قلت الله وَرَسُوله اعْلَم
قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيل أَتَاكُم ليعلمكم دينكُمْ "
هَذَا لفظ مُسلم وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ قَالَ عمر
رَضِي الله عَنهُ " فلقيني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعد ثَلَاث فَقَالَ يَا عمر هَل تَدْرِي من
السَّائِل " الحَدِيث وَأخرجه أَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ
وَفِيه " فَلبث ثَلَاثًا " وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة "
فلبثا ليَالِي فلقيني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بعد ثَلَاث " وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان " بعد ثَالِثَة "
وَفِي رِوَايَة ابْن مندة " بعد ثَلَاثَة أَيَّام "
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بارزا يَوْمًا للنَّاس " أَي ظَاهر الْهم
وجالسا مَعَهم غير محتجب والبروز الظُّهُور وَقَالَ ابْن
سَيّده برزيبر زبروزا خرج إِلَى الْبَزَّار وَهُوَ الفضاء
وبرزه إِلَيْهِ وابرزه وَكلما ظهر بعد خَفَاء فقد برز
قَالَ تَعَالَى (وَترى الأَرْض بارزة) قَالَ الْهَرَوِيّ
أَي ظَاهره لَيْسَ فِيهَا مستظل وَلَا متفيأ وَفِي الافعال
لِابْنِ ظريف برز الشَّيْء برزا ذكره عَنهُ صَاحب الواعي
قَوْله " فَأَتَاهُ رجل " أَي ملك فِي صُورَة رجل قَوْله "
وَمَلَائِكَته " جمع ملك واصلة ملاك مفعل من الالوكة
بِمَعْنى الرسَالَة وزيدت لاتاءفية لتأكيد معنى الْجمع أَو
التَّأْنِيث الْجمع وهم اجسام علوِيَّة نورنية مشكلة بِمَا
شَاءَت من الاشكال قَوْله " وبلقائه " قَالَ الْخطابِيّ ي
بِرُؤْيَة ربه تَعَالَى فِي الْآخِرَة قَوْله " وَرُسُله "
جمع رَسُول قَالَ الْكرْمَانِي الرَّسُول هُوَ النَّبِي
الَّذِي انْزِلْ عَلَيْهِ الْكتاب وَالنَّبِيّ اعم مِنْهُ
قلت هَذَا التَّعْرِيف غير صَحِيح لِأَنَّهُ غير جَامع
لِأَن كثير من الانبياء عَلَيْهِم السَّلَام لم ينزل
عَلَيْهِم كتب وهم ورسل مثل سُلَيْمَان وَأَيوب وَلُوط
وَيُونُس وزَكَرِيا ويحي وَنَحْوهم والتعريف الصَّحِيح أَن
يُقَال الرَّسُول من انْزِلْ عَلَيْهِ كتاب أَو أنزل
عَلَيْهِ ملك وَالنَّبِيّ بِخِلَافِهِ فَكل رَسُول نَبِي
وَلَا عكس قَوْله " بِالْبَعْثِ " وَهُوَ بعث الْمَوْتَى
من الْقُبُور وَيُقَال المُرَاد مِنْهُ بعثة الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم السَّلَام وَالْأول اظهر قَوْله " أَن تعبدوا
الله " من الْعِبَادَة وَهِي الطَّاعَة مَعَ خضوع وتذلل
قَالَ الْهَرَوِيّ يُقَال طَرِيق معبد إِذا كَانَ مذللا
للسالكين وكل من دَان للْملك فَهُوَ عَابِد لَهُ. وَفِي
الْمُحكم عبد الله يعبده عبَادَة ومعبدة ومعبدة تأله لَهُ
وَفِي الصِّحَاح التَّعَبُّد التنسك قَوْله " مَا الاحسان
" مصدر أحسن من حسن من الْحسن وَهُوَ ضد الْقبْح وَيَأْتِي
عَن قريب مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ قَوْله " عَن اشارطها "
بِفَتْح الْهمزَة جمع شَرط بِالتَّحْرِيكِ يعْنى علاماتها
وَقيل مقدماتها وَقيل صغَار أمورها وَفِي الْمُحكم
وَالْجَامِع أوائلها وَفِي الغريبين عَن الاصمعي وَمِنْه
الِاشْتِرَاط الَّذِي يشْتَرط بعض النَّاس على بعض
إِنَّمَا هِيَ عَلامَة يجعلونها بَينهم وَالْمرَاد اشراطها
السَّابِقَة لاشراطها الْمُقَارنَة لَهَا كطلوع الشَّمْس
من مغْرِبهَا وَخُرُوج الدَّابَّة وَنَحْوهمَا قَوْله "
رَبهَا " الرب الْمَالِك وَالسَّيِّد والمصلح وَفِي
الْعباب رب كل شَيْء مَالِكه والرب اسْم من أَسمَاء الله
تَعَالَى وَلَا يُقَال فِي غَيره إِلَّا بِالْإِضَافَة
وَقد قَالُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّة للْمَالِك قَالَ
الْحَارِث بن حلزة الْيَشْكُرِي فِي الْمُنْذر مَاء
السَّمَاء وَهُوَ الرب والشهيد على يَوْم الحوارين
والبلابلا وَقَالَ الْأَنْبَارِي مخففا وربيت الْقَوْم أَي
كنت فَوْقهم وَرب الضَّيْعَة أَصْحَابهَا وأتممها وَرب
فلَان وَلَده يربه رَبًّا وَرب بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ
والربة المولاة ثمَّ قَالَ وَفِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام حِين سَأَلَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن
أَمَارَات السَّاعَة فَقَالَ " أَن تَلد الْأمة ربتها "
وَيُقَال فُلَانَة ربة الْبَيْت وَهن ربات الحجال قَوْله "
وَإِذا تطاول " إِي تفاخر بطول الْبُنيان وتكبر بِهِ
والرعاة بِضَم الرَّاء جمع رَاع كالقضاة جمع قَاض وَكَذَا
الرُّعَاة بِكَسْر الرَّاء جمع رَاع كالجياع جمع جايع
قَوْله " والبهم " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة جمع الإبهم
وَهُوَ الَّذِي لاشية لَهُ قَالَه الْكرْمَانِي وَقَالَ
القَاضِي جمع بهيم وَهُوَ الْأسود
(1/285)
الَّذِي لَا يخالطه لون غَيره وَهُوَ شَرّ
الْإِبِل قلت إِذا كَانَ البهم صفة للرعاة يَنْبَغِي أَن
يكون جمع بهيم وَإِن كَانَ صفة الْإِبِل يَنْبَغِي أَن
يكون جمه بهماء وكلا الْوَجْهَيْنِ جَائِز كَمَا نذكرهُ
فِي الْإِعْرَاب وَأما لبهم بِفَتْح الْبَاء كَمَا هُوَ
فِي رِوَايَة الاصيلي فَلَا وَجه لَهُ هَهُنَا قَالَه
القَاضِي عِيَاض وَأما قَوْله فِي رِوَايَة مُسلم " رعاء
البهم " فَهُوَ بِفَتْح الْبَاء فَهُوَ جمع بَهِيمَة وَهِي
صغَار الضَّأْن والمعز وَقَالَ النَّوَوِيّ هَذَا قَول
الْجُمْهُور وَقَالَ بَعضهم رِوَايَة مُسلم " إِذا رَأَيْت
رعاء البهم " بِحَذْف لَفْظَة ابل انسب من رِوَايَة
البُخَارِيّ وَهِي زِيَادَة لَفْظَة الابل لأَنهم أَضْعَف
أهل الْبَادِيَة أما أهل الْإِبِل فَهُوَ أهل الْفَخر
وَالْخُيَلَاء وَالْمعْنَى فِي الْكل أَن أهل الْفقر
وَالْحَاجة تصير لَهُم الدُّنْيَا حَتَّى يتباهوا فِي
الْبُنيان قلت ذكر ابْن التياني فِي كتاب الموعب أَن البهم
صغَار الضَّأْن الْوَاحِدَة بهمة للذّكر وَالْأُنْثَى
وَالْجمع بهم وَجمع البهم بهام وبهامات وَفِي الْعين
البهمة اسْم للذّكر وَالْأُنْثَى من أَوْلَاد بقر الْوَحْش
وَمن كل شَيْء من ضرب الْغنم والمعز وَفِي الْمُخَصّص يكون
بعد الْعشْرين يَوْمًا بهمة من الضَّأْن والمعز إِلَى أَن
يفطم. وَفِي الْمُحكم وَقيل هِيَ بهمة إِذا شبت وَالْجمع
بهم وبهم وبهام وبهامات جمع الْجمع وَقَالَ ثَعْلَب البهم
صغَار الْمعز وَفِي الْجَامِع للقزاز بهمة مَفْتُوحَة
الْبَاء سَاكِنة الْهَاء يُقَال لاولاد الْوَحْش من الظبأ
وَمَا جانس الضَّأْن والمعز بهم وَفِي الصِّحَاح البهام
جمع بهم والبهم جمع بهمة والبهمة اسْم للمذكر والمؤنث
والسخال أَوْلَاد الْمعز فَإِذا اجْتمعت البهام والسخال
قلت لَهما جَمِيعًا بهام وبهم أَيْضا وَفِي المغيث لأبي
مُوسَى الْمَدِينِيّ وَقيل البهمة السخلة انْتهى. والبهيمة
ذَوَات الْأَرْبَع من دَوَاب الْبر وَالْبَحْر قَوْله "
ثمَّ أدبر " من الادبار وَهُوَ التولي (بَيَان
الْإِعْرَاب) قَوْله " بارزا نصب لِأَنَّهُ خبر كَانَ
قَوْله " يَوْم نصب " على الظروف قَوْله " للنَّاس "
يتَعَلَّق ببارزا قَوْله " مَا الْإِيمَان " جملَة اسمية
وَقعت مقول القَوْل قَوْله " أَن تؤمن " خبر الْمُبْتَدَأ
أعنى قَوْله " الْإِيمَان " وَأَن مَصْدَرِيَّة قَوْله "
وتؤمن " بِالنّصب عطفا على قَوْله " أَن تؤمن " قَوْله "
أَن تعبد الله " فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر للمبتدأ
أعنى قَوْله الْإِسْلَام وَأَن مَصْدَرِيَّة قَوْله " لَا
تشرك " بِالنّصب عطفا على أَن تعبد قَوْله " شَيْئا " نصب
على أَنه مفعول لتشرك قَوْله " وتقيم " بِالنّصب عطفا على
أَن تعبد وَكَذَلِكَ وتؤدى الزَّكَاة وَكَذَلِكَ وتصوم
رَمَضَان وَأَن مقدرَة فِي الْجَمِيع قَوْله " مَا
الْإِحْسَان " كلمة مَا للاستفهام مُبْتَدأ أَو
الْإِحْسَان خَبره وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد فِي
قَوْله تَعَالَى (للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة) و
(هَل جَزَاء لإحسان إِلَّا الْإِحْسَان) (وأحسنوا أَن الله
يحب الْمُحْسِنِينَ) ولتكرره فِي الْقُرْآن ترَتّب
الثَّوَاب عَلَيْهِ سَأَلَ عَنهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام قَوْله " قَالَ أَن تعبد الله " أَي قَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَابه الْإِحْسَان
أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَقَوله أَن مَصْدَرِيَّة
فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف
تَقْدِيره الْإِحْسَان عبادتك الله كَأَنَّك ترَاهُ
وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت كَأَنَّك مَا مَحَله من
الْإِعْرَاب قلت هُوَ حَال من الْفَاعِل أَي تعبد الله
مشبها بِمن يرَاهُ انْتهى كَلَامه قلت تَحْقِيق الْكَلَام
هُنَا أَن كَأَن للتشبيه قَالَ الْجَوْهَرِي فِي فصل أَن
وَقد تزاد على أَن كَاف التَّشْبِيه تَقول كَأَنَّهُ شمس
وَقَالَ غَيره أَنه حرف مركب عِنْد الْجُمْهُور حَتَّى
ادّعى ابْن هِشَام وَابْن الخباز الْإِجْمَاع عَلَيْهِ
وَلَيْسَ كَذَلِك قَالُوا وَالْأَصْل فِي كَأَن زيدا أَسد
ثمَّ قدم حرف التَّشْبِيه اهتماماً بِهِ ففتحت همزَة أَن
لدُخُول الْجَار وَذكروا لَهَا أَرْبَعَة معَان أَحدهَا
وَهُوَ الْغَالِب عَلَيْهَا والمتفق عَلَيْهِ التَّشْبِيه
وَهَذَا الْمَعْنى أطلقهُ الْجُمْهُور لكأن وَزعم مِنْهُم
ابْن السَّيِّد أَنه لَا يكون إِلَّا إِذا كَانَ خَبَرهَا
اسْما جَامِدا نَحْو كَأَن زيدا أَسد بِخِلَاف كَأَن زيدا
قَائِم أَو فِي الدَّار أَو عنْدك أَو يقدم فَإِنَّهَا فِي
ذَلِك كُله للظن الثَّانِي وَالشَّكّ وَالظَّن وَالثَّالِث
التَّحْقِيق وَالرَّابِع التَّقْرِيب قَالَه
الْكُوفِيُّونَ وحملوا عَلَيْهِ قَوْله " كَأَنَّك بالدنيا
لم تكن وبالآخرة لم تزل " فَإِذا علم هَذَا فَنَقُول
قَوْله كَأَنَّك ترَاهُ ينزل على أَي معنى من الْمعَانِي
الْمَذْكُورَة فَالْأَقْرَب أَن ينزل على معنى التَّشْبِيه
فالتقدير الْإِحْسَان عبادتك الله تَعَالَى حَال كونك فِي
عبادتك مثل حَال كونك رائياً وَهَذَا التَّقْدِير أحسن
وَأقرب للمعنى من تَقْدِير الْكرْمَانِي لِأَن الْمَفْهُوم
من تَقْدِيره أَن يكون هُوَ فِي حَال الْعِبَادَة مشبهاً
بالرائي إِيَّاه وَفرق بَين عبَادَة الرَّائِي نَفسه
وَعبادَة الْمُشبه بالرائي بِنَفسِهِ وَأما على قَول ابْن
السَّيِّد فَتحمل كَأَن على معنى الظَّن لِأَن خَبَرهَا
غير جامد فَافْهَم قَوْله " فَإِن لم تكن ترَاهُ " أَي
فَإِن لم تكن ترى الله وَكلمَة أَن للشّرط وَقَوله " لم
تكن ترَاهُ " جملَة وَقعت فعل الشَّرْط فَإِن قلت أَيْن
جَزَاء الشَّرْط قلت مَحْذُوف تَقْدِيره فَإِن لم تكن
ترَاهُ فَأحْسن الْعِبَادَة فَإِنَّهُ يراك فَإِن قلت لم
لَا يكون قَوْله فَإِنَّهُ يراك جَزَاء للشّرط قلت لَا
يَصح لِأَنَّهُ لَيْسَ مسبباً عَنهُ
(1/286)
وَيَنْبَغِي أَن يكون فعل الشَّرْط سَببا
لوُقُوع الْجَزَاء كَمَا تَقول فِي إِن جئتني أكرمتك فَإِن
الْمَجِيء هُوَ السَّبَب للاكرام وَعَدَمه سَبَب لعدمه
وَهَهُنَا عدم رُؤْيَة العَبْد لَيست بِسَبَب لرؤية الله
تَعَالَى يرَاهُ سَوَاء وجدت من العَبْد رُؤْيَة أولم
تُوجد فَإِن قلت مَا الْفَاء فِي قَوْله فَإِن قلت
للتَّعْلِيل على مَا لَا يخفى قَوْله " مَتى السَّاعَة "
جملَة اسمية وَقعت مقول القَوْل وَفِي بعض النّسخ فَمَتَى
فَإِن صحت فالفاء فِيهَا زَائِدَة قَوْله " ماالمسؤل "
كلمة مَا بِمَعْنى لَيْسَ وَقَوله باعلم خَبَرهَا وزيدت
فِيهَا الْبَاء لتأكيد معنى النَّفْي قَوْله " وسأخبرك "
السِّين هُنَا لتأكيد الْوَعْد بالإخبار كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع
الْعَلِيم} وَمعنى السِّين إِن ذَلِك كَائِن لَا محَالة
وَإِن تَأَخّر إِلَى حِين قَوْله " إِذا ولدت الْأمة "
إِنَّمَا قَالَ إِذا وَلم يقل أَن لَان الشَّرْط مُحَقّق
الْوُقُوع فجَاء بِلَفْظ إِذا الَّتِي للجزم بِوُقُوع
مدخولها فَلهَذَا يَصح أَن يُقَال إِذا قَامَت الْقِيَامَة
كَانَ كَذَا وَلَا يَصح أَن يُقَال إِن قَامَت الْقِيَامَة
كَانَ كَذَا فَإِن قلت أَيْن الْجَزَاء قلت هُوَ مَحْذُوف
تَقْدِيره إِذا ولدت الْأمة فَهِيَ أَي الْولادَة من
أشراطها وَقَالَ الْكرْمَانِي وَإِذا ظهر أَن تكون إِذا
متمحضة لمُجَرّد الْوَقْت ي وَقت الْولادَة وَوقت التطاول
قلت هَذَا تَقْدِير نَاقص وَالْمعْنَى الصَّحِيح عِنْدِي
كَون إِذا لمُجَرّد الْوَقْت أَي وَقت الْولادَة وَوقت
التطاول قلت هَذَا تَقْدِير نَاقص وَالْمعْنَى الصَّحِيح
عِنْدِي كَون إِذا لمُجَرّد الْوَقْت وَأَن يقدر مُبْتَدأ
مَحْذُوف وَالتَّقْدِير وسأخبرك عَن اشراطها هِيَ وَقت
ولادَة الْأمة رَبهَا وَوقت تطاول الرعاء فِي الْبُنيان
قَوْله " رُعَاة الْإِبِل " كَلَام اضافي مَرْفُوع
لِأَنَّهُ فَاعل تطاول وَقَوله " البهم " روى بِالرَّفْع
على أَنه صفة للرعاة أى الرُّعَاة السود وَقَالَ
الْخطابِيّ مَعْنَاهُ الرُّعَاة المجهولون الَّذين لَا
يعْرفُونَ جمع ابهم وَمِنْه ابهم الْأَمر فَهُوَ مُبْهَم
إِذا لم تعرف حَقِيقَته وروى بِالْجَرِّ على أَنه صفة
لِلْإِبِلِ أى رُعَاة الْإِبِل السود قَالُوا وَهِي شَرها
كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله " فِي الْبُنيان "
يتَعَلَّق بقوله تطاول قَوْله " فِي خمس " فِي مَحل
الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره علم
وَقت السَّاعَة فِي جملَة خمس وَقَوله " لَا يعلمهُنَّ
إِلَّا الله " صفة لخمس ومحلها الْجَرّ أَو التَّقْدِير
هِيَ فِي خمس من الْغَيْب كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة عَطاء
الْخُرَاسَانِي " هِيَ فِي خمس من الْغَيْب لَا يعلمهَا
إِلَّا الله " قَوْله " الْآيَة " يجوز فِيهِ الرّفْع على
تَقْدِير أَن يكون مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَي الْآيَة
مقروء إِلَى آخرهَا وَالنّصب على تَقْدِير أَن يكون
مَفْعُولا لفعل مُقَدّر أَي اقْرَأ الْآيَة ة والجر على
تَقْدِير إِلَى الْآيَة أَي إِلَى مقطعها وتمامها وَفِيه
ضعف لَا يخفي قَوْله " هَذَا جِبْرِيل " جَاءَ مثل قَوْلك
هَذَا وَيَد قَامَ قَوْله " يعلم النَّاس " جملَة وَقعت
حَالا فَإِن قلت لم يكن معلما وَقت المجىء فَكيف يكون
حَالا قلت هَذِه حَال مقرة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى
{لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين}
(بَيَان الْمعَانِي) قَوْله " فَأَتَاهُ رجل " قد ذكرنَا
فِي حَدِيث عمر فِي رِوَايَة مُسلم (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس
عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم غذ
طلع علينا رجل شَدِيد بَيَاض الثِّيَاب شَدِيد سَواد
الشّعْر لَا يرى عَلَيْهِ أثر السّفر وَلَا يعرفهُ منا أحد
حَتَّى جلس إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فاسند
رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخذيهِ
وَقَالَ يَا مُحَمَّد أَخْبرنِي عَن الْإِسْلَام "
الحَدِيث وَالضَّمِير فِي فَخذيهِ يعود على النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ النَّوَوِيّ على فَخذي نَفسه
يَعْنِي نفس جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأعَاد
الضَّمِير إِلَيْهِ وَتَبعهُ على ذَاك التوربشتي شَارِح
المصابيح وَلَيْسَ كَذَلِك بل الضَّمِير يعود على النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا ذكرنَا وَالدَّلِيل على ذَلِك
مَا جَاءَ فِي روية سُلَيْمَان التَّيْمِيّ " ثمَّ وضع
يَدَيْهِ على ركبتي النَّبِي " وَبِه جزم الْبَغَوِيّ
وَإِسْمَاعِيل التَّيْمِيّ وَرجحه الطَّيِّبِيّ من جِهَة
الْبَحْث وَالظَّاهِر أَنه لم يقف على رِوَايَة سُلَيْمَان
فَلذَلِك رَجحه من جِهَة الْبَحْث وَنظر النَّوَوِيّ فِي
مَا قَالَه التَّنْبِيه على أَنه جلس كَهَيئَةِ المتعلم
بَين يَدي من يتَعَلَّم مِنْهُ لإقتضاء بَاب الْأَدَب
ذَلِك وَلَكِن على رِوَايَة سُلَيْمَان إِنَّمَا فعل
جِبْرِيل ذَلِك لزِيَادَة الْمُبَالغَة فِي تعمية أمره
ليقوى ظن الحاضربن أَنه من جُفَاة الْأَعْرَاب وَلِهَذَا
تخطى النَّاس حَتَّى انْتهى إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام كَمَا ذكرنَا نافي رِوَايَة سُلَيْمَان
التَّيْمِيّ وَلِهَذَا استغربت الصَّحَابَة رَضِي الله
عَنْهُم صَنِيعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْبَلَد وَجَاء
مَاشِيا لَيْسَ لَهُ أثر السّفر فَإِن قيل كَيفَ عرف عمر
رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يعرفهُ أحد قيل من قَول
الْحَاضِرين كَمَا فِي رِوَايَة عُثْمَان بن عَفَّان فَنظر
الْقَوْم بَعضهم إِلَى بعض فَقَالُوا مَا نَعْرِف قَوْله "
أَن تؤمن بِاللَّه " الْإِيمَان بِاللَّه هُوَ التَّصْدِيق
بِوُجُودِهِ تَعَالَى وَأَنه لَا يجوز عَلَيْهِ الْعَدَم
وَأَنه تَعَالَى مَوْصُوف بِصِفَات الْجلَال والكمال من
الْعلم وَالْقُدْرَة الْإِرَادَة وَالْكَلَام والسمع
وَالْبَصَر والحياة وَأَنه تَعَالَى منزه عَن صِفَات
النَّقْص الَّتِي عي اضداد تِلْكَ الصِّفَات وَعَن صِفَات
الإجسام والمثحيزات وَأَنه وَاحِد حق صمج فَرد خَالق
جَمِيع الْمَخْلُوقَات متصرف فِيهَا بِمَا شَاءَ من
التَّصَرُّفَات يفعل فِي ملكه مَا يُرِيد وَيحكم فِي خلقه.
(1/287)
مَا يَشَاء قَوْله " وَمَلَائِكَته " أَي
الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَلَائكَته فَمن ثَبت تَعْيِينه
كجبريل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وعزرائيل عَلَيْهِم
السَّلَام وَجب الْإِيمَان بِهِ وَمن لم يعرف اسْمه آمنا
بِهِ اجمالا وَكَذَلِكَ الانبياء المُرْسَلُونَ من علمنَا
آمنا بِهِ وَمن لم نعلم آمنا بِهِ اجمالا وَمَا كَانَ من
ذَلِك ثَابتا بِالنَّصِّ أَو التَّوَاتُر كفر من يكفر بِهِ
والايمان برسل الله عَلَيْهِم السَّلَام هُوَ بِأَنَّهُم
صَادِقُونَ فِيمَا اخبروا بِهِ عَن الله تَعَالَى وَأَن
الله تَعَالَى أَيّدهُم بالمعجزات الدَّالَّة على صدقهم
وَأَنَّهُمْ بلغُوا عَن الله رسالاته وبينوا للمكلفين مَا
آمُرهُم ببيانه وَأَنه يجب احترامهم وَإِن لَا يفرق بَين
أحد مِنْهُم قَوْله " وبلقائه " الْأَيْمَان بلقائه هُوَ
التَّصْدِيق بِرُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة قَالَه
الْخطابِيّ وَاعْترض عَلَيْهِ النَّوَوِيّ بِأَن أحدا لَا
يقطع لنَفسِهِ بِرُؤْيَة الله تَعَالَى فَأَنَّهَا
مُخْتَصَّة لمن مَاتَ مُؤمنا والمرء لَا يدْرِي بِمَ يخْتم
لَهُ فَكيف يكون من شُرُوط الْإِيمَان ورد عَلَيْهِ بَان
المُرَاد الْإِيمَان بَان ذَلِك حق فِي نفس الْأَمر وَقد
قيل أَنَّهَا مكررة لِأَنَّهَا دَاخِلَة فِي الْإِيمَان
بِالْبَعْثِ وَهُوَ الْقيام من الْقُبُور قُلْنَا لَا نسلم
التّكْرَار لِأَن المُرَاد باللقاء مَا بعد تِلْكَ وَقَالَ
النَّوَوِيّ اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْجمعِ بَين
الْإِيمَان بلقاء الله والبعث فَقيل اللِّقَاء يحصل
بالانتقال إِلَى دَار الْجَزَاء والبعث عِنْد قيام
السَّاعَة وَقيل اللِّقَاء مَا يكون بعد الْبَعْث عِنْد
الْحساب قَوْله " وتقيم الصَّلَاة " المُرَاد بهَا
الْمَكْتُوبَة كَمَا صرح بهَا فِي رِوَايَة مُسلم وَهُوَ
احْتِرَاز عَن النَّافِلَة فَإِنَّهَا وَأَن كَانَت من
وظائف الْإِسْلَام لَكِنَّهَا لَيست من أَرْكَانه فَتحمل
الْمُطلقَة هَهُنَا على الْمقيدَة فِي الرِّوَايَة
الْأُخْرَى جمعا بَيْنَمَا قَوْله " الزكوة الْمَفْرُوضَة
" قيل احْتَرز بالمفروضة عَن الزكوة المعجلة قبل الْحول
فَإِنَّهَا لَيست مَفْرُوضَة حَال الإداء وَقيل احْتَرز من
صَدَقَة التَّطَوُّع فَإِنَّهَا زَكَاة لغوية قَوْله " مَا
الْإِحْسَان " وَهُوَ يسْتَعْمل لمعنيين احدهما مُتَعَدٍّ
بِنَفسِهِ كَقَوْلِك احسنت كَذَا إِذا حسنته وكملته منقولة
بِالْهَمْزَةِ من حسن الشَّيْء وَالْآخر بِحرف الْجَرّ
كَقَوْلِك أَحْسَنت إِلَيْهِ إِذا أوصلت إِلَيْهِ النَّفْع
وَالْإِحْسَان وَفِي الحَدِيث بِالْمَعْنَى الأول
فَإِنَّهُ يرجع إِلَى اتقان الْعِبَادَات ومراعاة حق الله
تَعَالَى ومراقبته وَيُقَال الْإِحْسَان على مقامين الأول
كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن تعبد الله
كَأَنَّك ترَاهُ " فَهَذَا مقَام. الثَّانِي قَوْله "
فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " قَالَ عبد الْجَلِيل
الأول على ثَلَاثَة أَقسَام الأول فِي مقَام الْإِسْلَام
وَذَلِكَ أَن الْأُمُور فِي عَالم الْحسن ثَلَاثَة معاصي
وطاعات ومباحات المعايش فَأَما قسم الْمعاصِي على
اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا فَإِن العَبْد مَأْمُور بِأَن يعلم
أَن الله يرَاهُ فَإِذا هم بِمَعْصِيَة وَعلم أَن الله
يرَاهُ ويبصره على أَي حَالَة كَانَت وَأَنه يعلم خائنه
الْأَعْين وَمَا تخفى الصُّدُور كف عَن الْمعْصِيَة وَرجع
عَنْهَا وَأما الأنسان فيذهل عَن نظر الله إِلَيْهِ فينسى
حِين الْمعْصِيَة أَنه يرَاهُ أَو يكون جَاهِلا فيظن أَن
الله تَعَالَى بعيد مِنْهُ وَلَا يتَذَكَّر وَيعلم أَنه
يُحَرك جوارحه حِين الْعَمَل الْمَعْمُول فينسى ذَلِك أَو
يجهل فَيَقَع فيا لمعصية وَلَو علم وَتحقّق أَن وَالِده
أَو رجلا كَبِيرا لَو يرَاهُ حِين الْمعْصِيَة لكف عَنْهَا
وهرب مِنْهَا فَإِذا علم العَبْد أَن الله يرَاهُ فِي حِين
الْمعْصِيَة كف عَنْهَا بِحُصُول الْبُرْهَان الإحساني
عِنْده وَهُوَ الْبُرْهَان عِنْده وَهُوَ الْبُرْهَان
الَّذِي أوتيه وَرَآهُ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ
قيام الدَّلِيل الْوَاضِح العلمي بِأَن الله تَعَالَى
مَوْجُود حق وَأَنه نَاظر إِلَى كل شَيْء ومصرف لكل شَيْء
ومحركه ومسكنه فَمن أرَاهُ الله تَعَالَى هَذَا
الْبُرْهَان عِنْد جَمِيع الْمُهِمَّات صرف عَنهُ السوء
والفحشاء من جَمِيع الْمُنْكَرَات الثَّانِي قسم
الطَّاعَات فَهِيَ أَن تعلم أَن الله تَعَالَى مَوْجُود
وتبرهن عِنْده أَنه يرَاهُ لَا محَالة إِلَّا أَن يكون
زنديقا جاحدا لَا يقر بِرَبّ فَإِن كَانَ مقرّ بِوُجُودِهِ
فَترك الْعِبَادَة فَإِنَّمَا تَركهَا تهاونا لنُقْصَان
الْبُرْهَان الإحساني عِنْده وَهَذِه حَال المضيعين
للفرائض لجهلهم بِقدر إِلَّا مرو قدر أمره الثَّالِث من
الْمُبَاحَات وَهُوَ مَحل الْغَفْلَة والسهو عَن هَذَا
الْمقَام الإحساني فَإِذا تذكر العَبْد أَن الله تَعَالَى
يرَاهُ فِي تصريفه وَأَنه أره بالإقبال عَلَيْهِ وَقلة
الْأَعْرَاض عَنهُ استحي أَن يرَاهُ مكبا على الخسيس
الفاني مستغر قافي الِاشْتِغَال بِهِ عَن ذكره وَعَن
الإقبال على مَا يقطع عَنهُ الْمقَام الثَّانِي فِي عَالم
الْغَيْب فَإِن العَبْد إِذْ فكر فِي مَوَاطِن الْآخِرَة
من موت وقبر وَحشر وَعرض وحساب وغي ذَلِك وَعلم أَنه معروض
على الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْعَالم ومواطنه تهَيَّأ
لذَلِك الْعرض فيتزين للآخرة بزينة أهل الْآخِرَة مَا
اسْتَطَاعَ وَأما الْمقَام الثَّالِث فِي الْإِحْسَان
فَإِن العَبْد إِذا علم فِي قُلُوب اوليائه فيزيل
الصِّفَات الممهلكات ويطهره مِنْهَا ويتصف المحمودات
حَتَّى يَجْعَل سره كالمرآة المجلوة قَوْله " كَأَنَّك
ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " قَالَ
النَّوَوِيّ هَذَا اصل عَظِيم من أصُول الدّين وَقَاعِدَة
مهمة من قَوَاعِد الْمُسلمين وَهُوَ عُمْدَة الصديقين
وبغية السالكين
(1/288)
وكنز العارفين ودأب الصَّالِحين وتلخيص
مَعْنَاهُ أَن تعبد الله عبَادَة من يرى الله تَعَالَى
وَيَرَاهُ الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يستبقي شَيْئا من
الخضوع وَالْإِخْلَاص وَحفظ الْقلب والجوارح ومراعاة
الْآدَاب مَا دَامَ فِي عِبَادَته وَقَوله " فَإِن لم تكن
ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " يَعْنِي أَنَّك إِنَّمَا تراعي
الْآدَاب إِذا رَأَيْته ورآك لكَونه يراك لَا لكونك ترَاهُ
وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود وَإِن لم تره لِأَنَّهُ يراك
وَحَاصِله الْحَث على كَمَال الْإِخْلَاص فِي الْعِبَادَة
وَنِهَايَة المراقبة فِيهَا وَقَالَ هَذَا من جَوَامِع
الْكَلم الَّتِي أوتيها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَقد ندب أهل الْحَقَائِق إِلَى مجالسة الصَّالِحين
ليَكُون ذَلِك مَانِعا من تلبسه بِشَيْء من النقائص
احتراما لَهُم واستحياء مِنْهُم فَكيف بِمن لَا يزَال الله
تَعَالَى مطلعا عَلَيْهِ فِي سره وعلانيته وَقَالَ
القَاضِي عِيَاض قد اشْتَمَل على شرح جَمِيع وظائف
الْعِبَادَات الظَّاهِرَة والباطنة من عُقُود الْإِيمَان
وأعمال الْجَوَارِح وإخلاص السرائر وَالْحِفْظ من آفَات
الْأَعْمَال حَتَّى أَن عُلُوم الشَّرِيعَة كلهَا رَاجِعَة
إِلَيْهِ ومتشعبة مِنْهُ قَوْله " مَتى السَّاعَة "
السَّاعَة مِقْدَار من الزَّمَان غير معِين لقَوْله
تَعَالَى {مَا لَبِثُوا غير سَاعَة} وَفِي عرف أهل
الشَّرْع عبارَة عَن يَوْم الْقِيَامَة وَفِي عرف المعدلين
جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين جزأ من أَوْقَات اللَّيْل
وَالنَّهَار قَوْله " إِذا ولدت الْأمة رَبهَا " أَي
مَالِكهَا وسيدها وَذكروا فِي معنى خذا أوجها الأول قَالَ
الْخطابِيّ مَعْنَاهُ اتساع الْإِسْلَام واستيلاء أَهله
على بِلَاد الشّرك وَسبي دراريهم فَإِذا ملك الرجل
الْجَارِيَة واستولدها كَانَ الْوَلَد فِيهَا بِمَنْزِلَة
رَبهَا لِأَنَّهُ ولد سَيِّدهَا وَقَالَ النَّوَوِيّ
وَغَيره هَذَا قَول الْأَكْثَرين وَقَالَ بَعضهم وَقَالَ
بَعضهم لَكِن فِي كَونه المُرَاد نظر لِأَن استيلاد
الْإِمَاء كَانَ مَوْجُودا حِين الْمقَالة والاستيلاء لعى
بِلَاد الشّرك وَسبي ذَرَارِيهمْ واتخاذهم سرارى وَقع
أَكْثَره فِي صدر الْإِسْلَام وَسِيَاق الْكَلَام
يَقْتَضِي الْإِشَارَة إِلَى وُقُوع مَا لم يَقع مِمَّا
سيقع فِي قيام السَّاعَة قلت فِي نظره نظر لِأَن قَوْله
إِذا ولدت الْأمة رَبهَا كِنَايَة عَن كَثْرَة التَّسَرِّي
من كَثْرَة فتوح الْمُسلمين واستيلائهم على بِلَاد الشّرك
وَالْمرَاد أَن يكون من هَذِه الْجِهَة فَافْهَم
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ أَن الْإِيمَاء يلدن الْمُلُوك
فَتكون أم الْملك من جملَة الرّعية وَهُوَ سَيِّدهَا وَسيد
غَيرهَا من رَعيته وَهَذَا قَول إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ
وَالثَّالِث مَعْنَاهُ أَن تفْسد أَحْوَال النَّاس فيكثر
بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي آخر الزَّمَان فيكثر
تردادها فِي ايدي المشترين حَتَّى يَشْتَرِيهَا ابْنهَا
وَهُوَ لَا يدْرِي وعَلى هَذَا القَوْل لَا يخْتَص بأمهات
الْأَوْلَاد بل يتَصَوَّر فِي غَيْرهنَّ فَإِن الْأمة قد
تَلد حرا بوطئ غير سَيِّدهَا بِشُبْهَة أَو ولدا رَقِيقا
بِنِكَاح أَو زنا ثمَّ تبَاع الْأمة فِي بيع لأمهات
الْأَوْلَاد وَالرَّابِع أَن أم الْوَلَد لما عتقت
بِوَلَدِهَا فَكَأَنَّهُ سَيِّدهَا وَهَذَا بطرِيق
الْمجَاز لِأَنَّهُ لما كَانَ سَببا فِي عتقهَا بِمَوْت
أَبِيه أطلق عَلَيْهِ ذَلِك وَالْخَامِس أَن يكثر العقوق
فِي الْأَوْلَاد فيعامل الْوَلَد أمه مُعَاملَة السَّيِّد
أمته من الإهانة وَغير ذَلِك وَأطلق عَلَيْهِ رَبهَا
مجَازًا لذَلِك وَقَالَ بَعضهم لذَلِك وَقَالَ بَعضهم يجوز
أَن يكون المُرَاد بالرب المربي فَيكون حَقِيقَة وَهَذَا
أوجه الْأَوْجه عِنْدِي لعمومه قل هَذَا لَيْسَ بأوجه
الْأَوْجه بل أضعفها لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّمَا عد هَذَا من أَشْرَاط السَّاعَة لكَونه على
نمط خَارج على وَجه الاستغراب أَو على وَجه دَال على
فَسَاد أَحْوَال النَّاس وَالَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل
لَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل فَافْهَم. وَأما رِوَايَة
بَعْلهَا فَالصَّحِيح فِي مَعْنَاهَا أَن البعل هُوَ
السَّيِّد أَو الْمَالِك فَيكون بِمَعْنى رَبهَا على مَا
سلف قَالَ أهل اللُّغَة بعل الشَّيْء ربه ومالكه قَالَ
تَعَالَى {أَتَدعُونَ بعلا} أَي رَبًّا قَالَه ابْن
عَبَّاس والمفسرون وَقيل المُرَاد هُنَا الزَّوْج وعَلى
هَذَا مَعْنَاهُ نَحْو مَا سبق أَنه يكثر بيع السرارى
حَتَّى يتَزَوَّج الْإِنْسَان أمه وَلَا يدْرِي وَهَذَا
أَيْضا معنى صَحِيح إِلَّا أَن الأول أظهر لِأَنَّهُ إِذا
أمكن حمل الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقَضِيَّة الْوَاحِدَة
على معنى وَاحِد كَانَ أولى قَوْله " وَإِذا تطاول رُعَاة
الْإِبِل البهم فِي الْبُنيان " الْمَعْنى أَن أهل
الْبَادِيَة أهل الْفَاقَة تنبسط لَهُم الدُّنْيَا حَتَّى
يتباهوا فِي إطالة الْبُنيان يَعْنِي الْعَرَب تستولي على
النَّاس وبلادهم وَيزِيدُونَ فِي بنيانهم وَهُوَ إِشَارَة
إِلَى اتساع دين الْإِسْلَام كَمَا أَن الْعَلامَة الأولى
أَيْضا فِيهَا اتساع الْإِسْلَام قَالَ الْكرْمَانِي
ومحصله أَن من أشراطها تسلط الْمُسلمين على الْبِلَاد
والعباد وَقَالَ ابْن بطال مَعْنَاهُ أَن ارْتِفَاع
الأسافل من العبيد والسفلة الجمالين وَغَيرهم من عَلَامَات
الْقِيَامَة. وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن أبي
جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا
" من انقلاب الدّين تفصح النبط واتخاذهم الْقُصُور فِي
الْأَمْصَار " وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ الْمَقْصُود
الْأَخْبَار عَن تبدل الْحَال بِأَن يستولي أهل
الْبَادِيَة على الْأَمر ويتملكوا الْبِلَاد بالقهر فتكثر
أَمْوَالهم وتنصرف هممهم إِلَى تشييد
(1/289)
الْبُنيان والتفاخر بِهِ وَقد شاهدنا ذَلِك
فِي هَذَا الزَّمَان وَقَالَ الطَّيِّبِيّ الْمَقْصُود أَن
علاماتها انقلاب الْأَحْوَال والقرينة الثَّانِيَة
ظَاهِرَة فِي صيرورة الأعزة أَذِلَّة أَلا ترى إِلَى
الملكة بنت النُّعْمَان حَيْثُ سبيت واحضرت بَين يَدي سعد
بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ كَيفَ أنشدت
(بَينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذا نَحن فيهم
سوقة تنتصف)
(فأف لدُنْيَا لَا يَدُوم نعيمها ... تقلب تارات بِنَا
وَتصرف)
قَوْله " فِي خمس " إِلَى آخِره قَالَ الْقُرْطُبِيّ لَا
مطمع لأحد فِي علم شَيْء من هَذِه الْأُمُور الْخمس لهَذَا
الحَدِيث وَقد فسر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول
الله تَعَالَى {وَعِنْده مفاتح الْغَيْب لَا يعلمهَا
إِلَّا هُوَ} بِهَذِهِ الْخمس وَهُوَ الصَّحِيح قَالَ فَمن
ادّعى علم شَيْء مِنْهَا غير مُسْند إِلَى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ قَالَ
وَأما ظن الْغَيْب فقد يجوز من المنجم وَغَيره إِذا كَانَ
غير أَمر عادي وَلَيْسَ ذَلِك بِعلم وَقد نقل ابْن عبد
الْبر الْإِجْمَاع على تَحْرِيم أَخذ الْأُجْرَة والجعل
وإعطائها فِي ذَلِك (استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على
وُجُوه. الأول أَن الْإِيمَان هُوَ أَن يُؤمن العَبْد
بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله ويؤمن
بِالْبَعْثِ والنشور. الثَّانِي أَن الْإِسْلَام أَن تعبد
الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا وتقيم الصَّلَاة وتؤتي
الزَّكَاة وتصوم رَمَضَان. الثَّالِث إِن الْإِحْسَان أَن
تعبد الله كَأَنَّهُ يراك وتراه. الرَّابِع احْتج بِهِ من
يَدعِي تغاير الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَمَعَ هَذَا تقدم
غير مرّة أَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالدّين عِنْد
البُخَارِيّ عِبَارَات عَن معنى وَاحِد وَقَالَ محيي
السّنة جعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْلَام
اسْما لما ظهر من الْأَعْمَال وَالْإِيمَان اسْما لما بطن
من الِاعْتِقَاد وَلَيْسَ ذَلِك لِأَن الْأَعْمَال لَيست
من الْإِيمَان والتصديق بِالْقَلْبِ لَيْسَ من الْإِسْلَام
بل ذَلِك تَفْصِيل لجملة هِيَ كلهَا شَيْء وَاحِد وجماعها
الدّين وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام "
أَتَاكُم جِبْرِيل يعلمكم دينكُمْ " والتصديق وَالْعَمَل
يتناولهما الِاسْم وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام جَمِيعًا
وَقَالَ ابْن الصّلاح مَا فِي الحَدِيث بَيَان لأصل
الْإِيمَان وَهُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن وأصل الْإِسْلَام
وَهُوَ الاستسلام والانقياد الظَّاهِر ثمَّ اسْم
الْإِيمَان يتَنَاوَل مَا فسر بِهِ الْإِسْلَام وَسَائِر
الطَّاعَات لكَونهَا ثَمَرَات للتصديق الْبَاطِن الَّذِي
هُوَ أصل الْإِيمَان وَلِهَذَا فسر الْإِيمَان فِي حَدِيث
الْوَفْد بِمَا هُوَ الْإِسْلَام هَهُنَا وَاسم
الْإِسْلَام يتَنَاوَل أَيْضا مَا هُوَ أصل الْإِيمَان
وَهُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن ويتناول الطَّاعَات فَإِن
ذَلِك كُله استسلام فتحقق مَا ذكرنَا إنَّهُمَا
يَجْتَمِعَانِ فِيهِ ويفترقان وَقَالَ من قَالَ إنَّهُمَا
حقيقتان متباينتان إِن حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
جَاءَ على الْوَضع الْأَصْلِيّ بالتفرقة بَين الْإِيمَان
وَالْإِسْلَام فالإيمان فِي اللُّغَة التَّصْدِيق مُطلقًا
وَفِي الشَّرْع التَّصْدِيق بقواعد الشَّرْع وَالْإِسْلَام
فِي اللُّغَة الاستسلام والانقياد وَمِنْه قَوْله تَعَالَى
{قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} وَفِي الشَّرْع
الانقياد فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة الشَّرْعِيَّة لَكِن
الشَّرْع توسع فاطلق الْإِيمَان على الْإِسْلَام فِي
حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس وَقَوله " الْإِيمَان بضع
وَسَبْعُونَ بَابا أدناها إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق
" وَأطلق الْإِسْلَام يُرِيد بِهِ الْأَمريْنِ قَالَ الله
تَعَالَى {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} وَقَالَ بعض
الْعلمَاء تنافس الْعلمَاء فِي هَذِه الْأَسْمَاء تنافسا
لَا طائل تَحْتَهُ فَإِنَّهُم متفقون على أَنه يُسْتَفَاد
مِنْهَا بِالشَّرْعِ زِيَادَة على أصل الْوَضع فَهَل ذَلِك
الْمَعْنى يصير تِلْكَ الْأَسْمَاء مَوْضُوعَة كالوضع
الابتدائي كَمَا فِي لفظ الدَّابَّة أَو هِيَ مبقاة على
الْوَضع اللّغَوِيّ وَالشَّرْع إِنَّمَا تصرف فِي
شُرُوطهَا وأحكامها قلت وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَول
القَاضِي أبي بكر الباقلاني قَالَ وَالْقَوْل بِالْأولِ
يحصل غَرَض الشِّيعَة على الصَّحَابَة فَإِذا قيل إِن الله
تَعَالَى وعد الْمُؤمنِينَ بِالْجنَّةِ وهم قد آمنُوا
يَقُولُونَ الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق فِي قُلُوبهم
لَكِن الشَّرْع نقل هَذِه الْأَلْفَاظ إِلَى الطَّاعَات
وهم صدقُوا وَمَا أطاعوا فِي أَمر الْخلَافَة فَإِذا
قُلْنَا لم تنقل انسد الْبَاب الردي وَقَالَ الشَّيْخ
أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ يمكننا أَن نقُول بِأَن
الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة منقولة إِلَّا هَذِه
الْمَسْأَلَة. الْخَامِس فِيهِ وجوب الْإِيمَان بِهَذِهِ
الْمَذْكُورَات فِي الحَدِيث. السَّادِس فِيهِ عظم مرتبَة
هَذِه الْأَركان الَّتِي فسر الْإِسْلَام بهَا السَّابِع
فِيهِ جَوَاز قَول رَمَضَان بِلَا شهر الثَّامِن فِيهِ غظم
مَحل الْإِخْلَاص والمراقبة التَّاسِع يه لَا أَدْرِي من
الْعلم وَالِاعْتِرَاف بِعَدَمِ الْعلم وَإِن ذَلِك لَا
ينقصهُ وَلَا يزِيل مَا عرف من جلالته بل ذَلِك دَلِيل على
ورعه وتقواه ووفور علمه وَعدم يبجحه بِمَا لَيْسَ عِنْده
الْعَاشِر فِيهِ دَلِيل على تمثل الْمَلَائِكَة بِأَيّ
صُورَة شاؤا من صور بني
(1/290)
آدم كَقَوْلِه تَعَالَى {فتمثل لَهَا بشرا
سويا} وَقد كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يتَمَثَّل
بِصُورَة دحْيَة وَلم يره النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي
صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا غير مرَّتَيْنِ. فَإِن قلت
لَو كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام متمثلا بِصُورَة
دحْيَة فِي ذَلِك الْوَقْت لَكَانَ النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام عرفه من أول الْأَمر مَا عرف أَنه جِبْرِيل
إِلَّا فِي آخر الْحَال قلت من ادّعى أَن جِبْرِيل مَا
يتَمَثَّل إِلَّا بِصُورَة دحْيَة فَقَط فَعَلَيهِ
الْبَيَان على أَن الَّذِي ذكرنَا من الرِّوَايَات أَن
جِبْرِيل أَتَاهُ فِي صُورَة رجل حسن الْهَيْئَة لكنه غير
مَعْرُوف لديهم يرد عَلَيْهِ. فَإِن قلت وَقع فِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي فَرْوَة فِي آخر الحَدِيث
وَأَنه لجبريل نزل فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ قلت
قَوْله نزل فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ وهم لِأَن
دحْيَة مَعْرُوف عِنْدهم وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ
فِي حَدِيثه مَا يعرفهُ منا أحد وَقد أخرجه مُحَمَّد بن
نصر الْمروزِي فِي كتاب الْإِيمَان لَهُ من الْوَجْه
الَّذِي أخرجه مِنْهُ النَّسَائِيّ فَقَالَ فِي آخِره "
فَإِنَّهُ جِبْرِيل جَاءَ ليعلمكم دينكُمْ " حسب وَهَذِه
الرِّوَايَة هِيَ المحفوظة لموافقته بَاقِي الرِّوَايَات
الْحَادِي عشر قَالَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا الحَدِيث يصلح
أَن يُقَال لَهُ أم السّنة لما تضمن من جملَة عِلّة السّنة
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ لهَذِهِ النُّكْتَة استفتح بِهِ
الْبَغَوِيّ كِتَابه المصابيح وَشرح السّنة اقْتِدَاء
بِالْقُرْآنِ فِي افتتاحه بِالْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا
تَضَمَّنت عُلُوم الْقُرْآن إِجْمَالا وَقَالَ القَاضِي
عِيَاض اشْتَمَل هَذَا الحَدِيث على جَمِيع وظائف
الْعِبَادَات الظَّاهِرَة والباطنة من عُقُود الْإِيمَان
ابْتِدَاء وَحَالا ومآلا وَمن أَعمال الْجَوَارِح وَمن
إخلاص السرائر والتحفظ من آفَات الْأَعْمَال حَتَّى أَن
عُلُوم الشَّرِيعَة كلهَا رَاجِعَة إِلَيْهِ ومتشعبة
مِنْهُ الثَّانِي عشر فِيهِ دَلِيل على أَن رُؤْيَة الله
تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بالأبصار غير وَاقعَة فَإِن قلت
فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد رَآهُ قلت قَالَ بَعضهم
وَأما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَاك لدَلِيل
آخر قلت رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه عز
وَجل لم يكن فِي دَار الدُّنْيَا بل كَانَت فِي الملكوت
الْعليا وَالدُّنْيَا لَا تطلق عَلَيْهَا وَالدَّلِيل
الصَّرِيح على عدم وُقُوع رُؤْيَة الله تَعَالَى بالأبصار
فِي الدُّنْيَا مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي أُمَامَة
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام " وَاعْلَمُوا أَنكُمْ لن تروا
ربكُم حَتَّى تَمُوتُوا " وَأما الرُّؤْيَة فِي الْآخِرَة
فمذهب أهل الْحق أَنَّهَا وَاقعَة بالأبصار. فَإِن قلت
الرُّؤْيَة يشْتَرط فِيهَا خُرُوج شُعَاع وانطباع صُورَة
المرئي فِي الحدقة والمواجهة والمقابلة وَرفع الْحجب فَكيف
يجوز ذَلِك على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قلت هَذِه
الشُّرُوط للرؤيا عَادَة فِي الدُّنْيَا وَأما فِي
الْآخِرَة فَيجوز أَن يكون الله تَعَالَى مرئيا لنا إِذْ
هِيَ حَالَة يخلقها الله تَعَالَى فِي الحاسة فَتحصل
بِدُونِ هَذِه الشُّرُوط وَلِهَذَا جوز الأشاعرة أَن يرى
أعمى الصين بقْعَة أندلس وَقد ادّعى بعض غلات الصُّوفِيَّة
جَوَاز رُؤْيَة الله تَعَالَى بالأبصار فِي دَار
الدُّنْيَا وَقَالَ فِي قَوْله " فَإِن لم تكن ترَاهُ "
إِشَارَة إِلَى مقَام المحو والفناء وَتَقْدِيره فَإِن لم
تصر شَيْئا وفنيت عَن نَفسك حَتَّى كَأَنَّك لَيْسَ بموجود
فَإنَّك حِينَئِذٍ ترَاهُ. قلت هَذَا تَأْوِيل فَاسد
بِدَلِيل رِوَايَة كهمس فَإِن لَفظهَا " فَإنَّك أَن لَا
ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " فَسلط النَّفْي على الرُّؤْيَة
لَا على الْكَوْن وَكَذَلِكَ يبطل تأويلهم رِوَايَة أبي
فَرْوَة " فَإِن لم ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " ورد عَلَيْهِم
بَعضهم بقوله لَو كَانَ المُرَاد مَا زَعَمُوا لَكَانَ
قَوْله " ترَاهُ " نحذوف الْألف لِأَنَّهُ يصير مَجْزُومًا
لكَونه على تأويلهم جَوَاب الشَّرْط وَلم يَجِيء حذف
الْألف فِي شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث وَهَذَا الْجَواب
لَا يقطع بِهِ شغبهم لِأَن لَهُم أَن يَقُولُوا الْجَزَاء
جملَة حذف صدرها تَقْدِيره فَأَنت ترَاهُ والجزم فِي
الْجُمْلَة لَا يظْهر والمقدر كالملفوظ قَوْله " مَتى
السَّاعَة " قَالَ الْقُرْطُبِيّ الْمَقْصُود من هَذَا
السُّؤَال كف السامعين عَن السُّؤَال عَن وَقت السَّاعَة
لأَنهم كَانُوا قد أَكْثرُوا السُّؤَال عَنْهَا كَمَا ورد
فِي كثير من الْآيَات والْحَدِيث فَلَمَّا حصل الْجَواب
بِمَا ذكر حصل الْيَأْس من مَعْرفَتهَا بِخِلَاف الأسئلة
الْمَاضِيَة فَإِن المُرَاد بهَا اسْتِخْرَاج الْأَجْوِبَة
ليتعلمها السامعون ويعملوا بهَا وَهَذَا السُّؤَال
وَالْجَوَاب وَقعا بَين عِيسَى ابْن مَرْيَم وَجِبْرِيل
عَلَيْهِمَا السَّلَام أَيْضا لَكِن كَانَ عِيسَى سَائِلًا
وَجِبْرِيل مسئولا قَالَ الْحميدِي حَدثنَا سُفْيَان
حَدثنَا مَالك ابْن مغول عَن إِسْمَاعِيل بن رَجَاء عَن
الشّعبِيّ قَالَ " سَأَلَ عِيسَى ابْن مَرْيَم جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام عَن السَّاعَة قَالَ فانتفض بأجنحته
وَقَالَ مَا المسؤل عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل "
قَوْله " جَاءَ يعلم النَّاس دينهم " أَي قَوَاعِد دينهم
وكلياتها وَقَالَ ابْن الْمُنِير فِيهِ دلَالَة على أَن
السُّؤَال الْحسن يُسمى علما وتعليما لِأَن جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام لم يصدر مِنْهُ سوى السُّؤَال وَمَعَ
ذَلِك فقد سَمَّاهُ معلما وَقد اشْتهر قَوْلهم. السُّؤَال
نصف الْعلم (الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل مَا سَبَب
وُرُود هَذَا الحَدِيث وَأجِيب بِأَن سَببه مَا رَوَاهُ
مُسلم من رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " سلوني فهابوه أَن يسألوه
فجَاء رجل فَجَلَسَ عِنْد رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُول
الله
(1/291)
مَا الْإِسْلَام " الحَدِيث. وَمِنْهَا مَا
قيل مَا وَجه تَفْسِير الْإِيمَان بِأَن تؤمن وَفِيه
تَعْرِيف الشَّيْء بِنَفسِهِ وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ
تعريفا بِنَفسِهِ إِذا المُرَاد من الْمَحْدُود الْإِيمَان
الشَّرْعِيّ وَمن الْحَد الْإِيمَان اللّغَوِيّ أَو
المتضمن للاعتراف وَلِهَذَا عدى بِالْبَاء أَي أَن تصدق
معترفا بِكَذَا. وَمِنْهَا مَا قيل كَيفَ بَدَأَ جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام بالسؤال قبل السَّلَام وَأجِيب
بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك مُبَالغَة فِي التعمية
لأَمره أَو ليبين أَن ذَلِك غير وَاجِب أَو سلم فَلم
يَنْقُلهُ الرَّاوِي قلت الْأَوَّلَانِ ضعيفان والاعتماد
على الثَّالِث لِأَنَّهُ ثَبت فِي رِوَايَة أبي فَرْوَة
بعد قَوْله " كَأَن ثِيَابه لم يَمَسهَا دنس حَتَّى سلم من
طرف الْبسَاط فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا مُحَمَّد فَرد
عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ادنو يَا مُحَمَّد قَالَ أدن
فَمَا زَالَ يَقُول أدنو مرَارًا وَيَقُول أدن " وَنَحْوه
فِي رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
لَكِن قَالَ " السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله " وَفِي
رِوَايَة " يَا رَسُول الله أدنو فَقَالَ أدن " وَلم يذكر
السَّلَام فاختلفت الرِّوَايَة هَل قَالَ يَا مُحَمَّد أَو
قَالَ يَا رَسُول الله وَهل سلم أَولا وَطَرِيق
التَّوْفِيق أَن رِوَايَة من قَالَ سلم مُقَدّمَة على
رِوَايَة من سكت عَنهُ أَو أَنه قَالَ أَولا يَا مُحَمَّد
كَمَا كَانَ الْأَعْرَاب يَقُوله قصدا ااتعمية ثمَّ خاطبه
بعد ذَلِك بقوله يَا رَسُول الله وَوَقع عِنْد
الْقُرْطُبِيّ أَنه قَالَ السَّلَام عَلَيْكُم يَا
مُحَمَّد واستنبط من هَذَا أَنه يسْتَحبّ للداخل أَن يعمم
بِالسَّلَامِ ثمَّ يخصص من يُرِيد تَخْصِيصه. وَمِنْهَا
مَا قيل لم قدم السُّؤَال عَن الْإِيمَان وَأجِيب
بِأَنَّهُ الأَصْل وَثني بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يظْهر
بِهِ تَصْدِيق الدَّعْوَى وَثلث بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ
مُتَعَلق بهما وَقد وَقع فِي رِوَايَة عمَارَة بن
الْقَعْقَاع بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وثنى بِالْإِيمَان
وَقَالُوا إِنَّمَا بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ
بِالْأَمر الظَّاهِر ثمَّ بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ
بِالْأَمر الْبَاطِن وَرجح الطَّيِّبِيّ هَذَا وَقَالَ لما
فِيهِ من الترقي وَوَقع فِي وَرَايَة مطر الْوراق بَدَأَ
بِالْإِسْلَامِ وثنى بِالْإِحْسَانِ وَثلث بِالْإِيمَان
وَيُمكن أَن يُقَال عَنَّا أَن الْإِحْسَان هُوَ
الْإِخْلَاص كَمَا ذكرنَا فَكَمَا أَن مَحَله الْقلب
فَكَذَلِك ذكر فِي الْقلب وَالْحق أَن هَذَا التَّقْدِيم
وَالتَّأْخِير من الروَاة وَالله تَعَالَى أعلم. وَمِنْهَا
مَا قيل أَن السُّؤَال عَن مَاهِيَّة الْإِيمَان لِأَنَّهُ
سَأَلَهُ بِكَلِمَة مَا وَلَا يسْأَل بهَا إِلَّا عَن
الْمَاهِيّة وماهية الْإِيمَان التَّصْدِيق وَالْجَوَاب
غير مُطَابق وَأجِيب بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام علم
مِنْهُ إِنَّه إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن متعلقات الْإِيمَان
إِذْ لَو كَانَ سُؤَاله عَن حَقِيقَته لَكَانَ جَوَابه
التَّصْدِيق وَقَالَ الطَّيِّبِيّ قَوْله " أَن تؤمن
بِاللَّه " يُوهم التّكْرَار وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ
يتَضَمَّن معنى أَن تعترف وَلِهَذَا عداهُ بِالْبَاء
وَقَالَ بَعضهم والتصديق أَيْضا يعدي بِالْبَاء فَلَا
يحْتَاج إِلَى دَعْوَى التَّضْمِين قلت الطَّيِّبِيّ ادّعى
تضمين الْإِيمَان معنى الِاعْتِرَاف وَكَون التَّصْدِيق
يتَعَدَّى بِالْبَاء لَا يمْنَع دَعْوَى تضمين الْإِيمَان
معنى الِاعْتِرَاف حَتَّى يُقَال لَا يحْتَاج إِلَى
دَعْوَى التَّضْمِين. وَمِنْهَا مَا قيل الْإِيمَان بالكتب
أَيْضا وَاجِب وَلم تَركه وَأجِيب بِأَن الْإِيمَان بالرسل
مُسْتَلْزم للْإيمَان بِمَا أنزل عَلَيْهِم على أَنه
مَذْكُور فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ هَهُنَا كَمَا
ذَكرْنَاهُ وَمِنْهَا مَا قيل لم كرر لفظ تؤمن فِي قَوْله
" وتؤمن بالعبث " وَأجِيب بِأَنَّهُ نوع آخر من الْمُؤمن
بِهِ لِأَن الْبَعْث سيوجد فِيمَا بعد واخواته مَوْجُودَة
الْآن وَمِنْهَا مَا قيل ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن
الْإِيمَان لَا يتم إِلَّا على من صدق بِجَمِيعِ مَا ذكر
فَمَا بَال الْفُقَهَاء يكتفون بِإِطْلَاق الْإِيمَان على
من آمن بِاللَّه وَرَسُوله وَأجِيب بِأَن الْإِيمَان
بِرَسُولِهِ هُوَ الْإِيمَان بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ من
ربه فَيدْخل جَمِيع ذَلِك تَحت ذَلِك وَمِنْهَا مَا قيل
أَن المُرَاد من قَوْله (أَن تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ
شَيْئا) إِن كَانَ معرفَة الله تَعَالَى وتوحيده فَلَا
يحْتَاج إِلَى قَوْله (وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) وَإِن
كَانَ المُرَاد الطَّاعَة مُطلقًا فَيدْخل فِيهَا جَمِيع
الْوَظَائِف وَمَا الْفَائِدَة بعد ذَلِك فِي ذكر
الصَّلَاة وَالصَّوْم وَأجِيب بِأَن المُرَاد النُّطْق
بِالشَّهَادَتَيْنِ صرح بذلك فِي حَدِيث عمر رَضِي الله
عَنهُ قَالَ " الْإِسْلَام أَن تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا
الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله " وَلما عبر الرَّاوِي
عَن ذَلِك بِالْعبَادَة احْتِيجَ أَن يُوضح ذَلِك بقوله
وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا وَلم يحْتَج إِلَيْهِ من بَاب عطف
الْخَاص على الْعَام. وَمِنْهَا مَا قيل أَن السُّؤَال عَن
الْإِسْلَام عَام وَالْجَوَاب خَاص لقَوْله " أَن تعبد
الله " وَكَذَا قَوْله فِي الْإِيمَان " أَن تؤمن " وَفِي
الْإِحْسَان " أَن تعبد " وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ
المُرَاد بمخاطبة الْأَفْرَاد اخْتِصَاصه بذلك بل المُرَاد
تَعْلِيم السامعين الحكم فِي حَقهم وَحقّ من تخَاف عَنْهُم
وَقد بَين ذَلِك بقوله فِي آخر الحَدِيث " يعلم النَّاس
دينهم " وَمِنْهَا مَا قيل لم لم يذكر الْحَج وَأجِيب
بِأَنَّهُ فرض حِينَئِذٍ وَيرد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن
مَنْدَه فِي كتاب الْإِيمَان بِإِسْنَادِهِ الَّذِي هُوَ
على شَرط مُسلم من طَرِيق سُلَيْمَان التَّيْمِيّ من
حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ أَوله أَن رجلا فِي آخر عمر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ إِلَى
(1/292)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر
الحَدِيث بِطُولِهِ فَهَذَا يدل على أَنه إِنَّمَا جَاءَ
بعد إِنْزَال جَمِيع لتقرير أُمُور الدّين وَالصَّوَاب أَن
تَركه من الروَاة إِمَّا ذهولا وَإِمَّا نِسْيَانا
وَالدَّلِيل على ذَلِك اخْتلَافهمْ فِي ذكر بعض
الْأَعْمَال دون بعض فَفِي رِوَايَة كهمس " وتحج الْبَيْت
إِن اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا " وَكَذَا فِي حَدِيث أنس
وَفِي رِوَايَة عَطاء الخرساني لم يذكر الصَّوْم وَفِي
حَدِيث أبي عَامر ذكر الصَّلَاة وَالزَّكَاة حسب كَمَا
ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَمِنْهَا مَا قيل لَفْظَة أعلم فِي
قَوْله " مَا المسؤل عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل "
مشعرة بِوُقُوع الِاشْتِرَاك فِي الْعلم وَالنَّفْي توجه
إِلَى الزِّيَادَة فَيلْزم أَن يكون مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا
متساويان فِي الْعلم بِهِ لَكِن الْأَمر بِخِلَافِهِ
لِأَنَّهُمَا متساويان فِي نفي الْعلم بِهِ وَأجِيب بِأَن
اللَّازِم مُلْتَزم لِأَنَّهُمَا متساويان فِي الْقدر
الَّذِي يعلمَانِ لست بِأَعْلَم بهَا مِنْك وَأجِيب
بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ كَذَلِك إشعارا بالتعميم تعريضا
للسامعين إِن كل سَائل وَمَسْئُول فَهُوَ كَذَلِك
وَمِنْهَا مَا قيل أَن الأشراط جمع شَرط وَأقله ثَلَاثَة
على الْأَصَح وَلم يذكر هُنَا إِلَّا اثْنَان وَأجِيب
بِأَنَّهُ إِمَّا أَنه ورد على مَذْهَب أَن أَقَله اثْنَان
أَو حذف الثَّالِث لحُصُول الْمَقْصُود بِمَا ذكر وَقَالَ
بَعضهم فِي هَذِه الْأَجْوِبَة نظر وَلَو أُجِيب بِأَن
هَذَا دَلِيل القَوْل الصائر إِلَى أَن أقل الْجمع إثنان
لما بعد عَن الصَّوَاب قلت هَذَا الَّذِي قَالَه بعيد عَن
الصَّوَاب لِأَنَّهُ كَيفَ يكون هَذَا دَلِيلا لمن يَقُول
أَن أقل الْجمع إثنان لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن
يسْتَدلّ على ذَلِك بِلَفْظ الأشراط أَو بِلَفْظ إِذا ولدت
وَإِذا تطاول مِنْهُمَا لَا يَصح أَن يكون دَلِيلا أما
الأول فَلِأَنَّهُ لم يقل أحد أَنه ذكر الأشراط وَأَرَادَ
بِهِ الشَّرْطَيْنِ بل المُرَاد أَكثر من ثَلَاثَة وَأما
الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصُورَة التَّثْنِيَة
حَتَّى يُقَال ذكرهَا وَأَرَادَ بهَا الْجمع فَافْهَم
وَقَوله أَو حذف الثَّالِث لحُصُول الْمَقْصُود هُوَ
لاجواب المرضي لِأَن الْمَذْكُور من الأشراط ثَلَاثَة
وَإِنَّمَا بعض الروَاة اقْتصر على اثْنَيْنِ مِنْهَا
لِأَن البُخَارِيّ ذكر هُنَا الْولادَة والتطاول وَفِي
التَّفْسِير ذكر الْولادَة ورؤوس الحفاة وَفِي رِوَايَة
مُحَمَّد بن بشر الَّتِي أخرج مُسلم إسنادها وسَاق ابْن
خُزَيْمَة لفطها عَن أبي حَيَّان ذكر الثَّلَاثَة وَكَذَا
فِي مستخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن علية وَكَذَا
ذكرهَا عمَارَة بن الْقَعْقَاع. وَمِنْهَا مَا قيل لم ذكر
جمع الْقلَّة والعلامات أَكثر من الْعشْرَة فِي الْوَاقِع
وَأجِيب بِأَنَّهُ جَازَ لِأَنَّهُ قد تستقرض الْقلَّة
للكثرة وَبِالْعَكْسِ أَو لفقد جمع الْكَثْرَة للفظ
الشَّرْط أَو لِأَن الْفرق بالقلة وَالْكَثْرَة إِنَّمَا
هُوَ فِي النكرات لَا فِي المعارف. وَمِنْهَا مَا قيل
كَيفَ أطلق الرب على غير الله تَعَالَى وَقد ورد النَّهْي
عَنهُ بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " وَلَا يقل
أحدكُم رَبِّي وَليقل سَيِّدي ومولاي " وَأجِيب بِأَن
هَذَا من بَاب التَّشْدِيد وَالْمُبَالغَة وَأَن الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوص بِهِ. قلت الْمَمْنُوع
إِطْلَاق الرب على غير الله تَعَالَى بِدُونِ الْإِضَافَة
وَأما بِالْإِضَافَة فَلَا يمْنَع يُقَال رب الدَّار وَرب
النَّاقة وَمِنْهَا مَا قيل من أَيْن أستفاد الْحصْر من
قَوْله تَعَالَى {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} الْآيَة
حَتَّى يُوَافق الْحصْر الَّذِي فِي الحَدِيث وَأجِيب من
تَقْدِيم عِنْده وَأما بَيَان الْحصْر فِي إخواتها فَلَا
يخفى على الْعَارِف بالقواعد وَمِنْهَا مَا قيل مَا وَجه
الإنحصار فِي هَذِه الْخمس مَعَ أَن الْأُمُور الَّتِي لَا
يعلمهَا إِلَّا الله كَثِيرَة أُجِيب بِأَنَّهُ إِمَّا
لأَنهم كَانُوا سَأَلُوا الرَّسُول عَن هَذِه الْخمس
فَنزلت الْآيَة جَوَابا لَهُم وَأما لِأَنَّهَا عَائِدَة
إِلَى هَذِه الْخمس فَافْهَم وَمِنْهَا مَا قيل مَا
النُّكْتَة فِي الْعُدُول عَن الْإِثْبَات إِلَى النَّفْي
فِي قَوْله (وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا) وَكَذَا
فِي التَّعْبِير بالدراية دون الْعلم وَأجِيب
للْمُبَالَغَة والتعميم إِذا الدِّرَايَة اكْتِسَاب علم
الشَّيْء بحيلة فَإِذا انْتَفَى ذَلِك عَن كل نفس مَعَ
كَونه مُخْتَصًّا بهَا وَلم يَقع مِنْهُ على علم كَانَ عدم
إطلاعه على علم غير ذَلِك من بَاب أولى وَمِنْهَا مَا قيل
مَا الْحِكْمَة فِي سُؤال السَّاعَة حَيْثُ عرف جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام أَن وَقتهَا غير مَعْلُوم لخلق الله
وَأجِيب بِأَن أَقَله التَّنْبِيه على أَنه لَا يطْمع أحد
فِي التطلع إِلَيْهِ والفصل بَين مَا يُمكن مَعْرفَته
وَمَا لَا يُمكن وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب
وَمِنْهَا مَا قيل أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ
فَقَط وَالنَّاس تعلمُوا الدّين من الْجَواب لَا مِنْهُ
فَكيف قَالَ يعلم النَّاس بِإِسْنَاد التَّعْلِيم إِلَيْهِ
وَأجِيب بِأَنَّهُ لكا كَانَ سَببا فِيهِ أطلق الْمعلم
عَلَيْهِ أَو لما كَانَ غَرَضه التَّعْلِيم أطلق عَلَيْهِ
(قَالَ أَبُو عبد الله جعل ذَلِك كُله من الْإِيمَان)
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ قَوْله " جعل " أَي
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَشَارَ بذلك إِلَى
مَا ذكر فِي الحَدِيث فَإِن قلت قَالَ
(1/293)
البُخَارِيّ أَولا فَجعل ذَلِك كُله دينا
وَقَالَ هَهُنَا جعل ذَلِك كُله من الْإِيمَان قلت أما
جعله دينا فَظَاهر حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي
آخر الحَدِيث " يعلم النَّاس دينهم " وَأما جعله إِيمَانًا
فكلمة من إِمَّا تبعيضية وَالْمرَاد بِالْإِيمَان هُوَ
الْإِيمَان الْكَامِل الْمُعْتَبر عِنْد الله تَعَالَى
وَعند النَّاس فَلَا شكّ إِن الْإِسْلَام وَالْإِحْسَان
داخلان فِيهِ وَأما ابتدائية وَلَا يخفى أَن مبدأ
الْإِحْسَان وَالْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان بِاللَّه إِذْ
لَوْلَا الْإِيمَان بِهِ لم تتَصَوَّر الْعِبَادَة لَهُ
38 - (بَاب)
كَذَا وَقع بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي
الْوَقْت، وَسقط ذَلِك بِالْكُلِّيَّةِ من رِوَايَة أبي
ذَر والأصيلي وَغَيرهمَا، وَرجح النَّوَوِيّ الأول، قَالَ:
لِأَن التَّرْجَمَة، يَعْنِي: سُؤال جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام، عَن الْإِيمَان لَا يتَعَلَّق بهَا هَذَا
الحَدِيث، فَلَا يَصح ادخاله فِيهِ، وَقد قيل: نفي
التَّعْلِيق لَا يتم هُنَا على الْحَالين، لِأَنَّهُ إِن
ثَبت لفظ بَاب بِلَا تَرْجَمَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة
الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله، فَلَا بُد لَهُ من تعلق
بِهِ، وَإِن لم يثبت فتعلقه بِهِ مُتَعَيّن، لكنه
يتَعَلَّق بقوله فِي التَّرْجَمَة: جعل ذَلِك كُله دينا.
وَوجه بَيَان التَّعَلُّق أَنه سمى الدّين: إِيمَانًا فِي
حَدِيث هِرقل، فَيتم مُرَاد البُخَارِيّ بِكَوْن الدّين
هُوَ الْإِيمَان. فَإِن قلت: لَا حجَّة لَهُ فِيهِ
لِأَنَّهُ مَنْقُول عَن هِرقل. قلت: إِنَّه مَا قَالَه من
قبل اجْتِهَاده. وَإِنَّمَا أخبر بِهِ عَن استقرائه من كتب
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَأَيْضًا فهرقل قَالَه بِلِسَانِهِ الرُّومِي، فَرَوَاهُ
عَنهُ أَبُو سُفْيَان بِلِسَانِهِ الْعَرَبِيّ، وألقاه
إِلَى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهُوَ من
عُلَمَاء اللِّسَان، فَرَوَاهُ عَنهُ، وَلم يُنكره، فَدلَّ
على أَنه صَحِيح لفظا وَمعنى: وَقد يُقَال: إِن هَذَا لم
يكن أمرا شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ محاورة، وَلَا شكّ
أَن محاوراتهم كَانَت على الْعرف الصَّحِيح الْمُعْتَبر
الْجَارِي على الْقَوْلَيْنِ، فَجَاز الِاسْتِدْلَال بهَا.
فَإِن قلت: بَاب، كَيفَ يقْرَأ؟ وَهل لَهُ حَظّ من
الْإِعْرَاب؟ قلت: إِن قدرت لَهُ مُبْتَدأ يكون مَرْفُوعا
على الخبرية، وَالتَّقْدِير: وَهَذَا بَاب، وَإِلَّا لَا
يسْتَحق الْإِعْرَاب لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد
العقد والتركيب، وَيكون مثل الْأَسْمَاء الَّتِي تعد،
وَهُوَ هُنَا بِمَنْزِلَة قَوْلهم بَين الْكَلَام: فصل
كَذَا وَكَذَا، يذكرُونَهُ ليفصلوا بِهِ بَين
الْكَلَامَيْنِ.
51 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدّثنا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شهابِ عنْ
عُبَيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ
عبَّاس أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أبُو سُفْيَانَ أنّ
هرقْلَ قَالَ لَهُ سأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أمْ
يَنْقُصونَ فَزَعَمْتَ أنهُمْ يَزِيدُونَ وكَذلكَ الإيمانُ
حتَّى يتَمَّ وسألْتُكَ هلْ يَرْتَدُّ أحدٌ سَخْطَةً
لِدِينِهِ بَعْدَ أَن يَدْخُلَ فيهِ فَزَعَمْتَ أَن لَا
وكذلكَ الإيمانُ حِينَ تُخالِطُ بشَاشَتُهُ القُلُوبَ لَا
يَسْخَطُهُ أحدٌ.
(الحَدِيث 51 انْظُر الحَدِيث 7) .
لم يضع لهَذَا تَرْجَمَة، وَإِنَّمَا اقْتصر من حَدِيث أبي
سُفْيَان الطَّوِيل على هَذِه الْقطعَة لتَعلق غَرَضه
لَهَا، وَسَاقه فِي كتاب الْجِهَاد تَاما بِهَذَا
الْإِسْنَاد الَّذِي أوردهُ هَهُنَا، وَمثل هَذَا يُسمى:
خرما، وَهُوَ أَن يذكر بعض الحَدِيث وَيتْرك الْبَعْض،
فَمَنعه بَعضهم مُطلقًا، وَجوزهُ الْآخرُونَ، وَالصَّحِيح
أَنه يجوز من الْعَالم إِذا كَانَ مَا تَركه غير مُتَعَلق
بِمَا رَوَاهُ بِحَيْثُ لَا يخْتل الْبَيَان، وَلَا
تخْتَلف الدّلَالَة، وَلَا فرق بَين أَن يكون قد رَوَاهُ
قبل على التَّمام أَو لم يروه. قَالَ الْكرْمَانِي:
فَمِمَّنْ وَقع هَذَا الخرم؟ قلت: الظَّاهِر أَنه من
الزُّهْرِيّ لَا من البُخَارِيّ لاخْتِلَاف شُيُوخ
الإسنادين بِالنِّسْبَةِ إِلَى البُخَارِيّ، فَلَعَلَّ
شَيْخه: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة لم يذكر فِي مقَام
الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان دين إلاَّ هَذَا
الْقدر. قلت: كَيفَ يكون الخرم من الزُّهْرِيّ وَقد أخرجه
البُخَارِيّ بِتَمَامِهِ بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي كتاب
الْجِهَاد؟ وَلَيْسَ الخرم إلاَّ من البُخَارِيّ
لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة
بن مُحَمَّد بن مُصعب بن عبد الله بن زبير بن الْعَوام،
الْقرشِي الْأَسدي الْمدنِي، روى عَن جمَاعَة من
الْكِبَار، وروى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَغَيرهمَا، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، قَالَ ابْن
سعد: ثِقَة صَدُوق، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
بِالْمَدِينَةِ. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي
الْمدنِي، وَقد مر فِيمَا مضى. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان
الْغِفَارِيّ الْمدنِي، وَتقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن
مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَتقدم ذكره غير
(1/294)
مرّة. الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله،
بتصغير الابْن وتكبير الْأَب، ابْن عتبَة بن مَسْعُود، أحد
الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ وَقد مر ذكره.
السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مدنيون. وَمِنْهَا: أَن
فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن بَينه
وَبَين الزُّهْرِيّ هَهُنَا ثَلَاثَة أنفس. وَفِي الحَدِيث
الْمُتَقَدّم الَّذِي فِيهِ قصَّة هِرقل شَيْخَانِ هما:
أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي
حَمْزَة.
ثمَّ أعلم أَنا قد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي هَذَا
الحَدِيث فِي أول الْكتاب، غير أَن فِيهِ هَهُنَا بعض
التغييرات فِي الْأَلْفَاظ نشِير إِلَيْهَا. فَنَقُول
قَوْله: (هَل يزِيدُونَ) وَقع هُنَا: (أيزيدون) ،
بِالْهَمْزَةِ وَكَانَ الْقيَاس بِالْهَمْزَةِ، لِأَن: أم،
الْمُتَّصِلَة مستلزمة للهمزة، وَلَكِن نقُول: إِن: أم،
هَهُنَا مُنْقَطِعَة لَا مُتَّصِلَة، تَقْدِيره: بل
ينقصُونَ حَتَّى يكون إضرابا عَن سُؤال الزِّيَادَة،
واستفهاما عَن النُّقْصَان، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا
مُتَّصِلَة لَكِنَّهَا لَا تَسْتَلْزِم الْهمزَة بل
الِاسْتِفْهَام، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أم، لَا تقع إلاَّ
فِي الِاسْتِفْهَام إِذا كَانَت مُتَّصِلَة، فَهُوَ أَعم
من الْهمزَة، فَإِن قيل: شَرط بعض النُّحَاة وُقُوع
الْمُتَّصِلَة بَين الإسمين. قلت: قد صَرَّحُوا أَيْضا
بِأَنَّهَا لَو وَقعت بَين الْفِعْلَيْنِ جَازَ اتصالها،
لَكِن بِشَرْط أَن يكون فَاعل الْفِعْلَيْنِ متحدا كَمَا
فِي مَسْأَلَتنَا. فَإِن قلت: الْمَعْنى على تَقْدِير
الِاتِّصَال غير صَحِيح، لِأَن: هَل، لطلب الْوُجُود، و:
أم: الْمُتَّصِلَة لطلب التَّعْيِين، سِيمَا فِي هَذَا
الْمقَام فَإِنَّهُ ظَاهر أَنه للتعيين. قلت: يجب حمل
مطلب: هَل، على أَعم مِنْهُ تَصْحِيحا للمعنى، وتطبيقا
بَينه وَبَين الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي أول الْكتاب.
قَوْله: (فَزَعَمت) ، وَفِيمَا مضى: (فَذكرت) . قَوْله:
(وَكَذَلِكَ أَمر الْإِيمَان) وَفِيمَا مضى: (وَكَذَلِكَ
الْإِيمَان) . قَوْله: (هَل يرْتَد) ، وَفِيمَا مضى:
(أيرتد) . قَوْله: (فَزَعَمت) وَفِيمَا مضى: (فَذكرت) .
قَوْله: (لَا يسخطه أحد) ، لم يذكر فِيمَا مضى.
39 - (بابُ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرأَ لِدِينِهِ)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن قَوْله: بَاب،
مَرْفُوع مُضَاف تَقْدِيره: هَذَا بَاب فضل من
اسْتَبْرَأَ، وَكلمَة: من، مَوْصُولَة، و: اسْتَبْرَأَ،
جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير
الْمُسْتَتر فِيهِ الرَّاجِع إِلَى: من، صلَة للموصولة. و:
اسْتَبْرَأَ، استفعل، أَي: طلب الْبَرَاءَة لدينِهِ من
الذَّم الشَّرْعِيّ، أَي: طلب الْبَرَاءَة من الْإِثْم.
يُقَال: بَرِئت من الدُّيُون والعيوب، وبرئت مِنْك
بَرَاءَة، وبرئت من الْمَرَض بُرأ، بِالضَّمِّ، وَأهل
الْحجاز يَقُولُونَ: برأت من الْمَرَض برأَ، بِالْفَتْح،
وَيَقُول كلهم فِي الْمُسْتَقْبل: يبرأ بِالْفَتْح، وبرأ
الله الْخلق برأَ أَيْضا، بِالْفَتْح، وَهُوَ البارىء.
وَفِي (الْعباب) : والتركيب يدل على التباعد عَن الشَّيْء
ومزايلته، وعَلى الْخلق. قَوْله: (لدينِهِ) أَي لأجل دينه.
النَّوْع الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ
من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول بَيَان
الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْإِحْسَان، وَإِن ذَلِك كُله
دين، وَالْمَذْكُور هَهُنَا الِاسْتِبْرَاء للدّين الَّذِي
يَشْمَل الْإِيمَان وَالْإِحْسَان، وَلَا شكّ أَن
الِاسْتِبْرَاء للدّين من الدّين. النَّوْع الثَّالِث:
وَجه التَّرْجَمَة وَهُوَ أَنه لما أَرَادَ أَن يذكر
حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، رَضِي الله عَنهُ، عقيب
حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، للمناسبة الَّتِي
ذَكرنَاهَا، عقد لَهُ بَابا. وَترْجم لَهُ بقوله: فضل من
اسْتَبْرَأَ لدينِهِ، وَعين هَذَا اللَّفْظ لعمومه
واشتماله سَائِر أَلْفَاظ الحَدِيث، وَإِنَّمَا لم يقل:
اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه، اكْتِفَاء بقوله: دينه، لِأَن
الِاسْتِبْرَاء للدّين لَازم للاستبراء للعرض لِأَن
الِاسْتِبْرَاء للعرض لأجل الْمُرُوءَة فِي صون عرضه،
وَذَلِكَ من الْحيَاء، وَالْحيَاء من الْإِيمَان،
فالاستبراء للعرض أَيْضا من الْإِيمَان.
52 - حدّثنا أبُو نَعِيْمٍ حدّثنا زَكَرياءُ عَن عامِرٍ
قَالَ سَمِعْتُ النُّعمْانَ بنَ بَشِيرٍ يقولُ سَمِعْتُ
رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقولُ الحَلالُ
بَيِّنٌ والحَرامُ بَيِّنٌ وَبيْنِهما مُشَبَّهَاتٌ لَا
يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى
المُشَبَّهَات اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضهِ ومَنْ
وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعِي يَرْعَى حَولَ الحِمى
يُوشِكُ أَن يُواقِعَهُ أَلا وإنّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى
أَلا إنّ حِمَى اللَّهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلا وإنّ
فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ
كُلُّهُ وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا
وهْيَ القَلبُ.
(الحَدِيث 25 طرفه فِي: 2051) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَنه
أَخذ جزأ مِنْهُ وَترْجم بِهِ كَمَا ذكرنَا.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول:
(1/295)
أَبُو نعيم، بِضَم النُّون، الْفضل، بالضاد
الْمُعْجَمَة، ابْن دُكَيْن، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة
وَفتح الْكَاف، وَهُوَ لقب لَهُ، واسْمه عَمْرو ابْن
حَمَّاد بن زُهَيْر الْقرشِي التَّيْمِيّ الطلحي
الْملَائي، مولى آل طَلْحَة بن عبد الله، وَكَانَ يَبِيع
الملاء فَقيل لَهُ: الْملَائي، بِضَم الْمِيم وَالْمدّ.
سمع الْأَعْمَش وَغَيره من الْكِبَار، وَقل من يُشَارِكهُ
فِي كَثْرَة الشُّيُوخ، وَعنهُ أَحْمد وَغَيره من الْحفاظ.
قَالَ أَبُو نعيم: شاركت الثَّوْريّ فِي أَرْبَعِينَ شَيخا
أَو خمسين شَيخا، وَاتَّفَقُوا على الثَّنَاء عَلَيْهِ،
وَوَصفه بِالْحِفْظِ والاتقان. وَقَالَ أَيْضا: أدْركْت
ثَمَانمِائَة شيخ، مِنْهُم الْأَعْمَش فَمن دونه، فَمَا
رَأَيْت أحدا يَقُول بِخلق الْقُرْآن، وَمَا تكلم أحد
بِهَذَا إلاَّ رُمِيَ بالزندقة. وروى البُخَارِيّ عَنهُ
بِغَيْر وَاسِطَة، وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه بِوَاسِطَة، ولد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة،
وَمَات سنة ثَمَان، أَو: تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ
بِالْكُوفَةِ. الثَّانِي: زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة،
واسْمه: خَالِد بن مَيْمُون الْهَمدَانِي الْكُوفِي، سمع
جمعا من التَّابِعين مِنْهُم الشّعبِيّ والسبيعي، وَعنهُ
الثَّوْريّ وَشعْبَة وَخلق، وَمَات سنة سبع أَو تسع
وَأَرْبَعين وَمِائَة. قَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، روى
لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عَامر الشّعبِيّ وَقد تقدم
ذكره. الرَّابِع: النُّعْمَان بن بشير، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة، ابْن سعد بن
ثَعْلَبَة بن خلاس، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَتَشْديد اللَّام، الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَأمه عمْرَة
بنت رَوَاحَة أُخْت عبد الله بن رَوَاحَة، ولد بعد
أَرْبَعَة عشر شهرا من الْهِجْرَة، وَهُوَ أول مَوْلُود
ولد للْأَنْصَار بعد الْهِجْرَة وَالْأَكْثَرُونَ
يَقُولُونَ: ولد هُوَ وَعبد الله بن الزبير، رَضِي الله
عَنْهُم، فِي الْعَام الثَّانِي من الْهِجْرَة، وَقَالَ
ابْن الزبير: هُوَ أكبر مني، رُوِيَ لَهُ مائَة حَدِيث
وَأَرْبَعَة عشر حَدِيثا، قتل فِيمَا بَين دمشق وحمص يَوْم
وَاسِط سنة خمس وَسِتِّينَ، وَكَانَ زبيريا، وَقَالَ عَليّ
بن عُثْمَان النُّفَيْلِي، عَن أبي مسْهر: كَانَ
النُّعْمَان بن بشير عَاملا على حمص لِابْنِ الزبير، لما
تمردت أهل حمص خرج هَارِبا، فَاتبعهُ خَالِد بن حلى
الكلَاعِي فَقتله، وَقَالَ الْمفضل بن غَسَّان الْغلابِي:
قتل فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسلمية وَهُوَ صَحَابِيّ ابْن
صَحَابِيّ ابْن صحابية، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ
فِي الصَّحَابَة من اسْمه النُّعْمَان بن بشير غير هَذَا،
فَهُوَ من الْأَفْرَاد، وَمِنْهُم: النُّعْمَان، جماعات
فَوق الثَّلَاثِينَ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم
كوفيون، وَقد دخل النُّعْمَان الْكُوفَة وَولي إمرتها وَقد
روى أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه من طَرِيق ابْن أبي جرير،
بِفَتْح الْحَاء المهمة فِي آخِره زَاي مُعْجمَة، عَن
الشّعبِيّ: أَن النُّعْمَان بن بشير خطب بِهِ
بِالْكُوفَةِ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَنه خطب بِهِ بحمص،
والتوفيق بَينهمَا بِأَنَّهُ سمع مرَّتَيْنِ، فَإِن
النُّعْمَان ولي إمرة البلدتين وَاحِدَة بعد أُخْرَى.
وَمِنْهَا: أَن هَذَا وَقع للْبُخَارِيّ رباعيا من جِهَة
شَيْخه أَبُو نعيم، وَوَقع لَهُ من جِهَة غَيره خماسياً
لما سَيَأْتِي، وَوَقع لمُسلم فِي أَعلَى طرقه خماسياً.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ التَّصْرِيح. بِسَمَاع النُّعْمَان بن
بشير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه رد على
من يَقُول: لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: قَالَ أهل
الْمَدِينَة: لَا يَصح للنعمان سَماع من النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَحَكَاهُ القَاضِي عِيَاض عَن يحيى بن
معِين، ويحكى عَن الْوَاقِدِيّ أَيْضا. وَقَالَ أهل
الْعرَاق: سَمَاعه صَحِيح، وَيدل عَلَيْهِ مَا فِي
رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق زَكَرِيَّا، وأهوى
النُّعْمَان بإصبعيه إِلَى أُذُنَيْهِ، وَهَذَا تَصْرِيح
بِسَمَاعِهِ، وَكَذَا قَول النُّعْمَان: هَهُنَا سَمِعت،
وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المحكي عَن قَول
أهل الْمَدِينَة بَاطِل أَو ضَعِيف. قلت: وَهُوَ مِمَّن
تحمل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبيا،
وَأَدَّاهُ بَالغا وَفِيه دَلِيل على صِحَة تحمل الصَّبِي
الْمُمَيز لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ
والنعمان ابْن ثَمَان سِنِين. فَإِن قلت: إِن زَكَرِيَّا
مَوْصُوف بالتدليس وَهَهُنَا قد عنعن، وَكَذَا فِي غير
هَذِه الرِّوَايَة لَيْسَ لَهُ رِوَايَة عَن الشّعبِيّ،
إلاَّ مُعَنْعنًا. قلت: ذكر فِي فَوَائِد أبي الْهَيْثَم
من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن زَكَرِيَّا قَالَ: حَدثنَا
الشّعبِيّ فَحصل الْأَمْن من تدليسه. فَإِن قلت: قد قَالَ
أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث لم يروه عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم غير النُّعْمَان بن بشير، وَلم يروه عَن
النُّعْمَان غير الشّعبِيّ. قلت: أما الأول: فَإِن كَانَ
مُرَاده من وَجه صَحِيح فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ مُطلقًا
فَلَا نسلم، لِأَنَّهُ رُوِيَ من حَدِيث ابْن عمر وعمار
وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُم، أخرج حَدِيثهمْ
الطَّبَرَانِيّ، وَكَذَا رُوِيَ من حَدِيث وَاثِلَة، أخرجه
الْأَصْبَهَانِيّ، وَفِي أسانيدها مقَال. وَأما الثَّانِي:
فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن النُّعْمَان أَيْضا خَيْثَمَة بن
عبد الرَّحْمَن، أخرجه أَحْمد وَعبد الْملك بن عُمَيْر،
أخرجه أَبُو عوَانَة وَسَالم بن حَرْب، أخرجه
الطَّبَرَانِيّ، وَلكنه مَشْهُور عَن الشّعبِيّ، رَوَاهُ
عَنهُ خلق كثير من الْكُوفِيّين، وَرَوَاهُ عَنهُ من
الْبَصرِيين عبد الله بن عون، وَقد سَاق البُخَارِيّ
إِسْنَاده فِي الْبيُوع على مَا نذكرهُ الْآن، وَلم يسق
لَفظه، وَسَاقه أَبُو دَاوُد.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا عَن أبي نعيم عَن زَكَرِيَّا عَن عَامر عَنهُ
بِهِ، وَأخرجه فِي الْبيُوع عَن عَليّ بن عبد الله، وَعبد
الله بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة،
وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ،
كِلَاهُمَا عَن أبي
(1/296)
فَرْوَة الْهَمدَانِي، وَعَن مُحَمَّد بن
الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن عبد الله بن عون، كِلَاهُمَا
عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن
عبد الله بن نمير عَن أَبِيه، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة
عَن وَكِيع، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن
يُونُس، ثَلَاثَتهمْ عَن زَكَرِيَّا بِهِ، وَعَن إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن مطرف وَأبي فَرْوَة، وَعَن
عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده عَن
خَالِد بن يزِيد، وَعَن سعيد بن أبي هِلَال عَن عون بن عبد
الله بن عتبَة، وَعَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد
الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عجلَان عَن عبد الرَّحْمَن بن
سعيد، أربعتهم عَنهُ بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْبيُوع عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن عِيسَى بن يُونُس
بِهِ، وَعَن أَحْمد بن يُونُس عَن أبي شهَاب الحناط عَن
ابْن عون بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع عَن
هناد عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد
عَن مجَالد عَنهُ نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى
عَن خَالِد بن الْحَارِث، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن حميد بن
مسْعدَة عَن يزِيد بن زُرَيْع، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون
بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن عَمْرو بن
رَافع عَن ابْن الْمُبَارك عَن زَكَرِيَّا بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (الْحَلَال) هُوَ ضد الْحَرَام
وَهُوَ من: حل يحل من بَاب ضرب يضْرب، وَأما حلَّ
بِالْمَكَانِ فَهُوَ من بَاب: نصر ينصر، ومصدره: حل وحلول
وَمحل، وَالْمحل: الْمَكَان الَّذِي تحل فِيهِ، وَمن هَذَا
الْبَاب: حللت الْعقْدَة أحلهَا حلا إِذا فتحتها، وَمن
الأول: حل الْمحرم يحل حَلَالا، وَمن الثَّانِي: حل
الْعَذَاب يحل، أَي: وَجب، وَأحل الله الشَّيْء: جعله
حَلَالا وَأحل الْمحرم من الْإِحْرَام مثل: حل، وأحللنا،
دَخَلنَا فِي شهور الْحل، وَأحلت الشَّاة: إِذا نزل
اللَّبن فِي ضرْعهَا، والتحليل ضد التَّحْرِيم، تَقول:
حللته تحليلاً وتحلة وتحللته إِذا سَأَلته أَن يجعلك فِي
حل من قبله، واستحل الشَّيْء عده حَلَالا، وتحلحل عَن
مَكَانَهُ إِذا زَالَ. قَوْله: (بَين) أَي ظَاهر، من بَاب:
يبين بَيَانا إِذا اتَّضَح، وَهُوَ على وزن: فيعل، إِمَّا
بِمَعْنى بَائِن، أَو هُوَ صفة مشبهة. قَوْله:
(وَالْحرَام) ، هُوَ ضد الْحَلَال، وَكَذَلِكَ الْحَرَام،
بِكَسْر الْحَاء، وَرجل حرَام: أَي محرم، وَالتَّحْرِيم ضد
التَّحْلِيل، وبابه من حرم الشَّيْء، بِالضَّمِّ، حُرْمَة.
وَأما حرمه الشَّيْء يحرمه حرما مثل: سَرقه سرقا، بِكَسْر
الرَّاء، وحريمة وحرمانا، وأحرمه أَيْضا إِذا مَنعه، وَأما
حرم الرجل، بِالْكَسْرِ، يحرم، بِالْفَتْح، إِذا قمر،
وأحرمته أَنا إِذا أقمرته، وَيُقَال: حرمت الصَّلَاة على
الْمَرْأَة بِالْكَسْرِ، لُغَة فِي حرمت، وَأحرم: دخل فِي
الشَّهْر الْحَرَام، وَأحرم أَيْضا بِالْحَجِّ
وَالْعمْرَة. قَوْله: (مُشْتَبهَات) جَاءَ فِيهِ خمس
رِوَايَات. الأولى: متشبهات، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين
الْمُعْجَمَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر
الْبَاء الْمُوَحدَة، على وزن: مفتعلات، وَهِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه.
الثَّانِيَة: مُشْتَبهَات، بِضَم الْمِيم وَفتح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الشين الْمُشَدّدَة وَتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة، على وزن: متفعلات،
وَهِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ. الثَّالِثَة: مشبهات، بِضَم
الْمِيم وَفتح الشين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
الْمُشَدّدَة، على وزن: مفعلات، وَهِي رِوَايَة
السَّمرقَنْدِي وَرِوَايَة مُسلم. الرَّابِعَة: مثلهَا غير
أَن باءها مَكْسُورَة، على وزن: مفعلات، على صِيغَة
الْفَاعِل. الْخَامِسَة: مشبهات بِضَم الْمِيم وَسُكُون
الشين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة؛ وَالْكل من:
اشْتبهَ الْأَمر: إِذا لم يَتَّضِح، غير أَن معنى الأولى
المشكلات من الْأُمُور، لما فِيهِ من شبه الطَّرفَيْنِ
المتخالفين، فَيُشبه مرّة هَذَا وَمرَّة هَذَا، وَكَذَلِكَ
معنى الثَّانِيَة غير أَن فِيهِ معنى التَّكَلُّف، وَمعنى
الثَّالِثَة أَنَّهَا مشبهات بغَيْرهَا مِمَّا لم
يتَيَقَّن فِيهِ حكمهَا على التَّعْيِين، وَيُقَال:
مَعْنَاهَا مشبهات بالحلال. وَمعنى الرَّابِعَة أَنَّهَا
مشبهات أَنْفسهَا بالحلال وَمعنى الْخَامِسَة: مثل
الرَّابِعَة، غير أَن الأولى من بَاب التفعيل،
وَالثَّانيَِة من بَاب الْأَفْعَال. قَالَ القَاضِي: فِي
الثَّلَاثَة الأول كلهَا بِمَعْنى: مشكلات، وَيشْتَبه
يفتعل، أَي يشكل، وَمِنْه: {أَن الْبَقر تشابه علينا}
(الْبَقَرَة: 70) قَوْله: (فَمن اتَّقى) أَي: حذر.
(المشتبهات) وَهِي جمع: مشتبهة، وَالِاخْتِلَاف فِي
لَفظهَا من الروَاة كَالَّتِي قبلهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة
مُسلم والإسماعيلي: (فَمن اتَّقى الشُّبُهَات) بِدُونِ
الْمِيم، وَهِي جمع شُبْهَة، وَهِي الالتباس. وأصل: اتَّقى
أوتقى، لِأَنَّهُ من وقى يقي وقاية، فقلبت الْوَاو تَاء،
وأدغمت التَّاء فِي التَّاء. قَوْله: (اسْتَبْرَأَ) ،
بِالْهَمْزَةِ، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ. قَوْله: (لعرضه) ،
بِكَسْر الْعين، قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَالَ أَبُو
الْعَبَّاس: الْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان،
ذهب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَن الْقَائِل إِذا ذكر عرض
فلَان فَمَعْنَاه أُمُوره الَّتِي يرْتَفع بهَا أَو يسْقط
بذكرها، وَمن جِهَتهَا يحمد ويذم، فَيجوز أَن يكون أمورا
يُوصف هُوَ بهَا دون أسلافه، وَيجوز أَن تذكر أسلافه
لتلحقه النقيصة بعيبهم، وَلَا يعلم من أهل اللُّغَة
خِلَافه إلاَّ مَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة، فَإِنَّهُ أنكر
أَن يكون الْعرض الأسلاف، وَزعم أَن عرض الرجل نَفسه،
يُقَال: أكرمت عَنهُ عرضي، أَي: صنت عَنهُ نَفسِي، و:
فلَان نقي الْعرض أَي بَرِيء من أَن يشْتم أَو يعاب،
وَقيل: عرض الرجل
(1/297)
جَانِبه الَّذِي يصونه فِي نَفسه، وحسبه
ويحامي عَنهُ، قَالَ عنترة:
(فَإِذا شربت فإنني مستهلك ... مَالِي، وعرضي وافر لم
يكلم)
قَوْله: (وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات) ، بِضَم الشين
وَالْبَاء، وفيهَا من اخْتِلَاف الروَاة مَا تقدم. قَوْله:
(الْحمى) ، بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْمِيم المخففة، وَهُوَ
مَوضِع حظره الإِمَام لنَفسِهِ وَمنع الْغَيْر عَنهُ،
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: حميته إِذا دفعت عَنهُ، وَهَذَا
شَيْء حمي: أَي مَحْظُور: لَا يقرب؛ وَقَالَ بَعضهم:
الْحمى المحمي أطلق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول. قلت:
هَذَا لَيْسَ بمصدر بل هُوَ: اسْم مصدر، ومصدر: حمى يحمي
حماية. قَوْله: (يُوشك) بِكَسْر الشين أَي: يقرب. قَوْله:
(أَن يُوَافقهُ) أَي يَقع فِيهِ قَوْله: (مَحَارمه) أَي:
مَعَاصيه الَّتِي حرمهَا: كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَة،
وَهُوَ جمع محرم، وَهُوَ الْحَرَام، وَمِنْه يُقَال هُوَ
ذُو محرم مِنْهَا إِذا لم يحل لَهُ نِكَاحهَا، ومحارم
اللَّيْل مخاوفها الَّتِي يحرم على الجبان أَن يسلكها.
قَوْله: (مُضْغَة) أَي: قِطْعَة من اللَّحْم سميت بذلك
لِأَنَّهَا تمضغ فِي الْفَم لصغرها. قَوْله: (صلحت) ،
بِفَتْح اللَّام وَضمّهَا، وَالْفَتْح أصح، وَفِي
(الْعباب) : الصّلاح ضد الْفساد، تَقول: صلح الشَّيْء يصلح
صلوحا، مِثَال: دخل يدْخل دُخُولا. وَقَالَ الْفراء: حكى
أَصْحَابنَا أَيْضا بِضَم اللَّام. قَوْله: (فسد) من فسد
الشَّيْء يفْسد فَسَادًا وفسودا فَهُوَ فَاسد، وَقَالَ
ابْن دُرَيْد: فسد يفْسد، مِثَال: قعد يقْعد، لُغَة
ضَعِيفَة، وَقوم فسدى، كَمَا قاولوا: سَاقِط وسقطي،
وَكَذَلِكَ: فسد، بِضَم السِّين، فَسَادًا فَهُوَ فسيد،
وَقَالَ اللَّيْث: الْفساد ضد الصّلاح، والمفسدة خلاف
الْمصلحَة، وَفِي (الْعباب) الْفساد أَخذ المَال بِغَيْر
حق، هَكَذَا فسر مُسلم البطين قَوْله تَعَالَى: {للَّذين
لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا}
(الْقَصَص: 83) قَوْله: (الْقلب) ، وَفِي (الْعباب) :
الْقلب: الْفُؤَاد، وَقد يعبر بِهِ عَن الْعقل، وَقَالَ
الْفراء فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن
كَانَ لَهُ قلب} (ق: 37) أَي: عقل، يُقَال: مَا قَلْبك
مَعَك أَي: مَا عقلك. وَقيل: الْقلب أخص من الْفُؤَاد،
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: وَفِي الْبَطن الْفُؤَاد وَهُوَ
الْقلب، سمي بِهِ لتقلبه فِي الْأُمُور، وَقيل: لِأَنَّهُ
خَالص مَا فِي الْبدن، إِذْ خَالص كل شَيْء قلبه، وَأَصله
مصدر قلبت الشَّيْء أقلبه قلبا إِذا رَددته عَليّ
بِذَاتِهِ، وقلبت الْإِنَاء رَددته على وَجهه، وقلبت الرجل
عَن رَأْيه وَعَن طَرِيقه إِذا صرفته عَنهُ، ثمَّ نقل وسمى
بِهِ هَذَا الْعُضْو الشريف لسرعة الخواطر فِيهِ وترددها
عَلَيْهِ، وَقد نظم بَعضهم هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ:
(مَا سمي الْقلب إلاَّ من تقلبه ... فاحذر على الْقلب من
قلب وتحويل)
وَكَانَ مِمَّا يَدْعُو بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك) .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ، ثمَّ إِن الْعَرَب لما نقلته
لهَذَا الْعُضْو التزمت فِيهِ التفخيم فِي قافه، للْفرق
بَينه وَبَين أَصله، وَقد قَالَ بَعضهم: ليحذر اللبيب من
سرعَة انقلاب قلبه، إِذْ لَيْسَ بَين الْقلب وَالْقلب
إلاَّ التفخيم، وَمَا يَعْقِلهَا إلاَّ كل ذِي فهم
مُسْتَقِيم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (الْحَلَال) مُبْتَدأ و
(بَين) خَبره، وَكَذَلِكَ (الْحَرَام بَين) : مُبْتَدأ
وَخبر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَبَينهمَا مُشْتَبهَات) ،
وَلَكِن الْخَبَر هَهُنَا مقدم وَهُوَ الظّرْف. قَوْله:
(لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) جملَة فِي مَحل الرّفْع على
أَنَّهَا صفة لقَوْله (مُشْتَبهَات) . قَوْله: (فَمن
اتَّقى) ، كلمة: من، مَوْصُولَة مُبْتَدأ، وَقَوله:
(اتَّقى الشُّبُهَات) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل،
وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي فِي: اتَّقى، الْعَائِد إِلَى:
من، وَالْمَفْعُول، وَهُوَ قَوْله: (الشُّبُهَات) ، صلَة
لَهَا، وَقَوله: (اسْتَبْرَأَ) خَبره، و (لعرضه) يتَعَلَّق
بِهِ. قَوْله: (من وَقع) إِلَخ، كلمة من هَهُنَا يجوز أَن
تكون شَرْطِيَّة، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة. فَإِذا
كَانَت شَرْطِيَّة فَقَوله: وَقع فِي الشُّبُهَات، جملَة
وَقعت فعل الشَّرْط، وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره. وَمن
وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام. وَهَكَذَا فِي
رِوَايَة الدَّارمِيّ عَن أبي نعيم شيخ البُخَارِيّ
بِإِظْهَار الْجَواب، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من
طَرِيق زَكَرِيَّا الَّتِي أخرجه مِنْهَا البُخَارِيّ.
وَقَوله: (كرَاع يرْعَى حول الْحمى) جملَة مستأنفة،
وَقَوله: كرَاع، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي مثله كرَاع
أَي مثل رَاع يرْعَى وَقَوله: (يرْعَى) جملَة من الْفِعْل
وَالْفَاعِل صفة لراع، أَو الْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِير:
كرَاع يرْعَى مواشيه. وَقَوله: (حول الْحمى) كَلَام إضافي
نصب على الظّرْف. وَقَوله: (يُوشك إِن يواقعه) جملَة وَقعت
صفة أُخْرَى لراع ويوشك، من أَفعَال المقاربة، وَهُوَ مثل
كَاد وَعَسَى فِي الِاسْتِعْمَال: أَعنِي تَارَة يسْتَعْمل
اسْتِعْمَال: كَاد، بِأَن يرفع الْفِعْل، وَخَبره فعل
مضارع بِغَيْر أَن متأول باسم الْفِعْل، نَحْو: يُوشك زيد
يَجِيء، أَي: جائيا، نَحْو: كَاد زيد يَجِيء. وَتارَة
يسْتَعْمل اسْتِعْمَال عَسى، بِأَن يكون فاعلها على
نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون إسما نَحْو: عَسى زيد أَن
يخرج، فزيد فَاعل، وَأَن يخرج فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ
يمنزلة: قَارب زيد الْخُرُوج، وَالْآخر: أَن يكون مَعَ
صلتها فِي مَوضِع الرّفْع: نَحْو عَسى أَن يخرج زيد،
فَيكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة قرب أَن يخرج، أَي: خُرُوجه،
وَكَذَلِكَ يُوشك زيد أَن يجىء، ويوشك أَن يَجِيء زيد.
وَفِي قَوْله: (يُوشك)
(1/298)
ضمير هُوَ فَاعله. وَقَوله: (إِن يواقعه)
فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة يُقَارب الرَّاعِي
المواقعة فِي الْحمى، وَأَعَادَهُ الْكرْمَانِي إِلَى
الْحَرَام، وَمَا قُلْنَا أوجه وأصوب. وَأما إِذا كَانَت
مَوْصُولَة فَتكون مَرْفُوعَة بِالِابْتِدَاءِ، وخبرها
هُوَ قَوْله: كرَاع يرْعَى، وَلَا يكون فِيهِ حذف،
وَالتَّقْدِير: الَّذِي وَقع فِي الشُّبُهَات كرَاع
يرْعَى، أَي: مثل رَاع يرْعَى مواشيه حول الْحمى، وَقَوله:
يُوشك اسْتِئْنَاف قَوْله: (أَلا) بِفَتْح الْهمزَة
وَتَخْفِيف اللَّام، وحرف التَّنْبِيه، فَيدل على تحقق مَا
بعْدهَا، وَتدْخل على الجملتين نَحْو: {أَلا أَنهم هم
السُّفَهَاء} (الْبَقَرَة: 13) {أَلا يَوْم يَأْتِيهم
لَيْسَ مصروفا عَنْهُم} (هود: 8) . وإفادتها التَّحْقِيق
من جِهَة تركيبها من الْهمزَة، و: لَا وهمزة
الِاسْتِفْهَام إِذا دخلت على النَّفْي أفادت التَّحْقِيق
نَحْو: {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى}
(الْقِيَامَة: 40) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ولكونها
بِهَذَا المنصب من التَّحْقِيق لَا تقع الْجُمْلَة بعْدهَا
إلاَّ مصدرة بِنَحْوِ مَا يتلَقَّى بِهِ الْقسم، نَحْو:
{أَلا إِن أَوْلِيَاء الله} (يُونُس: 62) قَوْله: (أَلا
وَإِن لكل ملك حمى) ، الْوَاو فِيهِ عطف على مُقَدّر
تَقْدِيره: أَلا إِن الْأَمر كَمَا تقدم، وَإِن لكل ملك
حمى. وَقَوله: (حمى) نصب لِأَنَّهُ اسْم إِن، وخبرها هُوَ
قَوْله: (لكل ملك) مقدما. قَوْله: (أَلا وَإِن حمى الله
مَحَارمه) ، هَكَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي
رِوَايَة غَيره: (أَلا إِن حمى الله فِي أرضه مَحَارمه) .
وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة: (مَعَاصيه) بدل: مَحَارمه،
وَلم يذكر: الْوَاو، هَهُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي
رِوَايَة غَيره بِالْوَاو: (أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه)
فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر: الْوَاو، هَهُنَا وَتركهَا؟
وَمَا وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: (إِلَّا وَإِن فِي
الْجَسَد) ؟ قلت: أما وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: (أَلا وَإِن
حمى الله) فبالنظر إِلَى وجود التناسب بَين الجملتين من
حَيْثُ ذكر الْحمى فِيهَا، وَأما وَجه تَركهَا فبالنظر
إِلَى بعد الْمُنَاسبَة بَين حمى الْمُلُوك، وَبَين حمى
الله الَّذِي هُوَ الْملك الْحق لَا ملك حَقِيقَة الإل هـ
تَعَالَى، وَأما وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: (أَلا وَإِن فِي
الْجَسَد) ، فبالنظر إِلَى وجود الْمُنَاسبَة بَين جملتين
نظرا إِلَى أَن الأَصْل فِي الاتقاء والوقوع هُوَ مَا
كَانَ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ عماد الْأَمر وملاكه، وَبِه
قوامه ونظامه، وَعَلِيهِ تبنى فروعه، وَبِه تتمّ أُصُوله،
قَوْله: (مُضْغَة) نصب لِأَنَّهُ اسْم إِن وخبرها هُوَ
قَوْله: (فِي الْجَسَد) مقدما. وَقَوله: (إِذا صلحت) أَي:
المضغة وَهِي: الْقلب، وَكلمَة إِذا هَهُنَا بِمَعْنى:
إِن، لِأَن مَدْخُول: إِذا، لَا بُد أَن يكون مُتَحَقق
الْوُقُوع، وَهَهُنَا الصّلاح غير مُتَحَقق لاحْتِمَال
الْفساد، والقرينة على ذَلِك ذكر الْمُقَابل فَافْهَم.
قَوْله: (صلح الْجَسَد) جَوَاب: إِذا، وَكَذَلِكَ
الْكَلَام فِي قَوْله: (وَإِذا فَسدتْ) . قَوْله: (وَهِي
الْقلب) جملَة إسمية بِالْوَاو، وَأَيْضًا عطف على
مُقَدّر.
بَيَان الْمعَانِي: أجمع الْعلمَاء على عظم موقع هَذَا
الحَدِيث، وَأَنه أحد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا
مدَار الْإِسْلَام. قَالَت جمَاعَة: هُوَ ثلث الْإِسْلَام،
وان الاسلام يَدُور عَلَيْهِ وعَلى حَدِيث. (الاعمال
بِالنِّيَّاتِ) ، وَحَدِيث: (من حسن اسلام الْمَرْء تَركه
مَا لَا يعنيه) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: يَدُور على
أَرْبَعَة أَحَادِيث هَذِه الثَّلَاثَة وَحَدِيث: (لَا
يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) .
قَالُوا: سَبَب عظم موقعه انه، عَلَيْهِ السَّلَام، نبه
فِيهِ على صَلَاح الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس والمنكح
وَغَيرهَا، وانه يَنْبَغِي أَن يكون حَلَالا، وأرشد إِلَى
معرفَة الْحَلَال، وَأَنه يَنْبَغِي ترك المشتبهات،
فَإِنَّهُ سَبَب لحماية دينه وَعرضه، وحذر من مواقعة
الشُّبُهَات، وأوضح ذَلِك بِضَرْب الْمثل بالحمى، ثمَّ
بَين أهم الْأُمُور وَهُوَ: مُرَاعَاة الْقلب. وَقَالَ
ابْن الْعَرَبِيّ: يُمكن أَن ينتزع من هَذَا الحَدِيث
وَحده جَمِيع الْأَحْكَام، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
لِأَنَّهُ اشْتَمَل على التَّفْصِيل بَين الْحَلَال
وَغَيره، وعَلى تعلق جَمِيع الْأَعْمَال بِالْقَلْبِ فَمن
هُنَا يُمكن أَن يرد إِلَيْهِ جَمِيع الاحكام. قَوْله:
(الْحَلَال بَين) بِمَعْنى: ظَاهر، بِالنّظرِ إِلَى مَا
دلّ على الْحل بِلَا شُبْهَة، اَوْ على الْحَرَام بِلَا
شُبْهَة، (وَبَينهمَا مُشْتَبهَات) أَي: الوسائط الَّتِي
يكتنفها دليلان من الطَّرفَيْنِ، بِحَيْثُ يَقع
الِاشْتِبَاه ويعسر، تَرْجِيح دَلِيل أحد الطَّرفَيْنِ
إلاّ عِنْد قَلِيل من الْعلمَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
مَعْنَاهُ أَن الْأَشْيَاء ثَلَاثَة أَقسَام: حَلَال وَاضح
لَا يخفى حلّه كاكل الْخبز والفواكه، وكالكلام وَالْمَشْي
وَغير ذَلِك. وَحرَام بَين: كَالْخمرِ وَالدَّم وَالزِّنَا
وَالْكذب واشباه ذَلِك. واما المشبهات: فَمَعْنَاه
أَنَّهَا لَيست بواضحة الْحل وَالْحُرْمَة، وَلِهَذَا لَا
يعرفهَا كثير من النَّاس، وَأما الْعلمَاء فيعرفون حكمهَا
بِنَصّ أَو قِيَاس أَو اسْتِصْحَاب وَغَيره، فَإِذا تردد
الشَّيْء بَين الْحل وَالْحُرْمَة، وَلم يكن نَص وَلَا
إِجْمَاع، اجْتهد فِيهِ الْمُجْتَهد فألحقه بِأَحَدِهِمَا
بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ، فَإِذا ألحقهُ بِهِ صَار
حَلَالا أَو حَرَامًا. وَقد يكون دَلِيله غير خَال عَن
الِاجْتِهَاد، فَيكون الْوَرع تَركه. وَمَا لم يظْهر
للمجتهد فِيهِ شَيْء، وَهُوَ مشتبه، فَهَل يُؤْخَذ
بِالْحلِّ أَو الْحُرْمَة؟ أَو يتَوَقَّف فِيهِ؟ ثَلَاثَة
مَذَاهِب حَكَاهَا القَاضِي عِيَاض عَن أَصْحَاب
الْأُصُول، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مخرجة على الْخلاف
الْمَعْرُوف فِي حكم الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرْع،
وَفِيه أَرْبَعَة مَذَاهِب: أَحدهَا:، وَهُوَ الْأَصَح
انه: لَا يحكم بتحليل وَلَا تَحْرِيم وَلَا إِبَاحَة وَلَا
غَيرهَا، لِأَن التَّكْلِيف عِنْد أهل الْحق لَا يثبت
إلاَّ بِالشَّرْعِ. وَالثَّانِي: ان الحكم الْحل أَو
الْإِبَاحَة. وَالثَّالِث: الْمَنْع.
(1/299)
وَالرَّابِع: الْوَقْف. وَقَالَ
الْمَازرِيّ: المشتبهات الْمَكْرُوه لَا يُقَال فِيهِ
حَلَال وَلَا حرَام بَين. وَقَالَ غَيره: فَيكون الْوَرع
تَركه، وَقَالَ الْخطابِيّ: من أَمْثِلَة المتشابهات
مُعَاملَة من كَانَ فِي مَاله شُبْهَة، أَو خالطه رَبًّا،
فَهَذَا يكره مُعَامَلَته. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا شكّ
أَن ثَمَّ أموراً جلية التَّحْرِيم، وأموراً جلية
التَّحْلِيل، وأموراً مترددة بَين الْحل وَالْحُرْمَة،
وَهُوَ الَّذِي تتعارض فِيهَا الْأَدِلَّة، فَهِيَ
المشتبهات، وَاخْتلف فِي حكمهَا. فَقيل: حرَام لِأَنَّهَا
توقع فِي الْحَرَام، وَقيل: مَكْرُوهَة، والورع تَركهَا.
وَقيل: لَا يُقَال فِيهَا وَاحِد مِنْهُمَا، وَالصَّوَاب
الثَّانِي، لِأَن الشَّرْع أخرجهَا من الْحَرَام فَهِيَ
مرتاب فِيهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (دع مَا يريبك
إِلَى مَا لَا يريبك) ، فَهَذَا هُوَ الْوَرع. وَقَالَ بعض
النَّاس: إِنَّهَا حَلَال يتورع عَنْهَا. قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: لَيست هَذِه عبارَة صَحِيحَة، لِأَن أقل
مَرَاتِب الْحَلَال ان يَسْتَوِي فعله وَتَركه، فَيكون
مُبَاحا، وَمَا كَانَ كَذَلِك لَا يتَصَوَّر فِيهِ
الْوَرع، فَإِنَّهُ إِن ترجح أحد طَرفَيْهِ على الآخر خرج
عَن ان يكون مُبَاحا، وَحِينَئِذٍ: إِمَّا أَن يكون تَركه
راجحاً على فعله، وَهُوَ الْمَكْرُوه، أَو فعله راجحاً على
تَركه وَهُوَ الْمَنْدُوب، فَأَما مثل مَا تقدم مِمَّا
يكون دَلِيله غير خَال عَن الِاحْتِمَال الْبَين: كَجلْد
الْميتَة بعد الدّباغ، فَإِنَّهُ غير طَاهِر على
الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء
من الْمَائِعَات لِأَنَّهَا تنجس، لَا المَاء وَحده،
فَإِنَّهُ عِنْده يدْفع النَّجَاسَة مَا لم يتَغَيَّر،
هَذَا هُوَ الَّذِي ترجح عِنْده، لكنه كَانَ يَتَّقِي
المَاء فِي خَاصَّة نَفسه. وَحكي عَن أبي حنيفَة وسُفْيَان
الثَّوْريّ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنهم قَالَا: لِأَن
أخر من السَّمَاء أَهْون عَليّ من أَن افتي بِتَحْرِيم
قَلِيل النَّبِيذ، وَمَا شربته قطّ، وَلَا أشربه. فعملوا
بالترجيح فِي الْفتيا، وتورعوا عَنهُ فِي أنفسهم. وَقَالَ
بعض الْمُحَقِّقين، من حكم الْحَكِيم أَن يُوسع على
الْمُسلمين فِي الْأَحْكَام، ويضيق على نَفسه، يَعْنِي
بِهِ هَذَا الْمَعْنى، ومنشأ هَذَا الْوَرع الِالْتِفَات
إِلَى إِمْكَان اعْتِبَار الشَّرْع ذَلِك الْمَرْجُوح،
وَهَذَا الِالْتِفَات ينشأ من القَوْل: بَان الْمُصِيب
وَاحِد، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَمِنْه ثار
القَوْل فِي مذْهبه بمراعاة الْخلاف. قلت: وَكَذَلِكَ
أَيْضا كَانَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله، يُرَاعِي الْخلاف،
وَقد نَص على ذَلِك فِي مسَائِل، وَقد قَالَ أَصْحَابه
بمراعاة الْخلاف حَيْثُ لَا تفوت بِهِ سنة فِي مَذْهَبهم،
وَقد عقب البُخَارِيّ هَذَا الْبَاب بِمَا ذكره فِي كتاب
الْبيُوع فِي بَاب تَفْسِير الشُّبُهَات، قَالَ فِيهِ:
وَقَالَ حسان بن أبي سِنَان: مَا رَأَيْت شَيْئا أَهْون من
الْوَرع: دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك. وَأورد فِيهِ
حَدِيث الْمَرْأَة السَّوْدَاء، وَأَنَّهَا أَرْضَعَتْه
وَزَوجته. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛
وَكَيف وَقد قيل، وَحَدِيث ابْن وليدة زَمعَة، وَأَنه قضى
بِهِ لعبد بن زَمعَة أَخِيه بالفراش، ثمَّ قَالَ لسودة:
احتجبي مِنْهُ لما رأى من شبهه، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِي
الله تَعَالَى، وَحَدِيث عدي بن حَاتِم، رَضِي الله عَنهُ،
وَقَوله: اجد مَعَ كَلْبِي على الصَّيْد كَلْبا آخر، لَا
أَدْرِي أَيهمَا أَخذ. قَالَ: لَا تَأْكُل. ثمَّ ذكر
حَدِيث التمرة المسقوطة، وَقَول النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا أَن تكون صَدَقَة لأكلتها) ،
ثمَّ عقبه بِمَا لَا يجْتَنب، فَقَالَ: بَاب من لم ير
الوساوس وَنَحْوهَا من الشُّبُهَات، وَذكر فِيهِ حَدِيث
الرجل يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة. قَالَ: لَا، حَتَّى
يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة،
رَضِي الله عَنْهَا: (أَن قوما قَالُوا: يَا رَسُول الله،
إِن قوما يأتوننا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكروا اسْم
الله عَلَيْهِ أم لَا؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: سموا عَلَيْهِ وكلوه) .
قلت: فَتحصل لنا مِمَّا تقدم ذكره أَن المشتبهات
الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الَّتِي يَنْبَغِي اجتنابها
فِيهِ أَقْوَال. احدها: أَنه الَّذِي تَعَارَضَت فِيهِ
الْأَدِلَّة فاشتبهت، فَمثل هَذَا يجب فِيهِ الْوَقْف
إِلَى التَّرْجِيح، لِأَن الْإِقْدَام على أحد الْأَمريْنِ
من غير رُجْحَان الحكم بِغَيْر دَلِيل محرم. وَالثَّانِي:
المُرَاد بِهِ المكروهات، وَهُوَ قَول الْخطابِيّ والمازري
وَغَيرهمَا، وَيدخل فِيهِ مَوَاضِع اخْتِلَاف الْعلمَاء.
وَالثَّالِث: أَنه الْمُبَاح، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ حَلَال
يتورع عَنْهَا، وَقد رده الْقُرْطُبِيّ كَمَا تقدم،
وَقَالَ: فَإِن قيل: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى رفع مَعْلُوم من
الشَّرْع، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالْخُلَفَاء بعده وَأكْثر أَصْحَابه كَانُوا يزهدون فِي
الْمُبَاح، فَرَفَضُوا التنعم بِطيب الْأَطْعِمَة ولين
اللبَاس وَحسن المساكن، وتلبسوا بضدها من خشونة الْعَيْش،
وَهُوَ مَعْلُوم مَنْقُول من سيرهم، قَالَ: فَالْجَوَاب
أَن ذَلِك مَحْمُول على مُوجب شَرْعِي اقْتضى تَرْجِيح
التّرْك على الْفِعْل، فَلم يَزْهَدُوا فِي مُبَاح، لِأَن
حَقِيقَته التَّسَاوِي، بل فِي أَمر مَكْرُوه، وَلَكِن
الْمَكْرُوه تَارَة يكرههُ الشَّرْع، من حَيْثُ هُوَ،
وَتارَة يكرههُ لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ: كالقبلة للصَّائِم،
فَإِنَّهَا تكره لما يخَاف مِنْهَا من إِفْسَاد الصَّوْم،
ومسألتنا من هَذَا الْقَبِيل، لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لَهُم
من عَاقِبَة مَا خَافُوا على نُفُوسهم مِنْهُ مفاسد، أما
فِي الْحَال من الركون إِلَى الدُّنْيَا، وَأما فِي
الْمَآل من الْحساب عَلَيْهِ والمطالبة بالشكر وَغَيره،
وَهَذَا آخر كَلَامه. قلت: وَقد اخْتلف أَصْحَاب
الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي ترك الطّيب وَترك
لبس الناعم، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرائني:
إِن ذَلِك لَيْسَ بِطَاعَة، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى:
{قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات
من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا
خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} (الْأَعْرَاف: 32) . وَقَالَ
الشَّيْخ ابو الطّيب الطَّبَرِيّ: إِنَّه طَاعَة،
(1/300)
وَدَلِيله مَا علم من أَمر السّلف من خشونة
الْعَيْش. وَقَالَ ابْن الصّباغ: يخْتَلف ذَلِك بإختلاف
أَحْوَال النَّاس، وتفرغهم لِلْعِبَادَةِ وقصودهم
واشتغالهم بالضيق وَالسعَة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ، من
أَصْحَابنَا: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَأما مَا يخرج إِلَى
بَاب الوسوسة من تَجْوِيز الْأَمر الْبعيد فَهَذَا لَيْسَ
من المشتبهات الْمَطْلُوب اجتنابها، وَقد ذكر الْعلمَاء
لَهُ أَمْثِلَة؛ فَقَالُوا: هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ تَجْوِيز
أَمر بعيد كَتَرْكِ النِّكَاح من نسَاء بلد كَبِير خوفًا
أَن يكون لَهُ فِيهَا محرم، وَترك اسْتِعْمَال مَاء فِي
فلاة لجَوَاز عرُوض النَّجَاسَة، أَو غسل ثوب مَخَافَة طرؤ
نَجَاسَة عَلَيْهِ لم يشاهدها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا
يُشبههُ، فَهَذَا لَيْسَ من الْوَرع. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: الْوَرع فِي مثل هَذَا وَسْوَسَة شيطانية،
إِذْ لَيْسَ فِيهَا من معنى الشُّبْهَة شَيْء، وَسبب
الْوُقُوع فِي ذَلِك عدم الْعلم بالمقاصد الشَّرْعِيَّة.
قلت: من ذَلِك مَا ذكره الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن
يُوسُف الْجُوَيْنِيّ، وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، فَحكى
عَن قوم أَنَّهُمَا لَا يلبسُونَ ثيابًا جدداً حَتَّى
يغسلوها، لما فِيهَا مِمَّن يعاني قصر الثِّيَاب، ودقها
وتجفيفها، وإلقائها وَهِي رطبَة على الأَرْض النَّجِسَة،
ومباشرتها بِمَا يغلب على الظَّن نَجَاسَته من غير أَن
يغسل بعد ذَلِك، فَاشْتَدَّ نكيره عَلَيْهِم، وَقَالَ:
هَذِه طَريقَة الْخَوَارِج الحرورية، أبلاهم الله،
تَعَالَى بالغلق فِي غير مَوضِع القلق، وبالتهاون فِي
مَوضِع الِاحْتِيَاط، وفاعل ذَلِك معترض على أَفعَال
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة،
وَالتَّابِعِينَ، فانهم كَانُوا يلبسُونَ الثِّيَاب الجدد
قبل غسلهَا، وَحَال الثِّيَاب فِي أعصارهم، كحالها فِي
أعصارنا، وَلَو أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بغسلها مَا خَفِي، لِأَنَّهُ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى،
وَذكر أَيْضا: أَن قوما يغسلون أَفْوَاههم إِذا أكلُوا
الْخبز خوفًا من رَوْث الثيران عِنْد الدياس، فَإِنَّهَا
تقيم أَيَّامًا فِي المداسة، وَلَا يكَاد يَخْلُو طحين عَن
ذَلِك. قَالَ الشَّيْخ: هَذَا غلو وَخُرُوج عَن عَادَة
السّلف، وَمَا روى أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
أَنهم رَأَوْا غسل الْفَم من ذَلِك. فَإِن قيل: كَيفَ
قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي
التمرة الَّتِي وجدهَا فِي بَيته: لَوْلَا إِنِّي أَخَاف
أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها؟ وَدخُول الصَّدَقَة بَيت
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعيد
لِأَنَّهَا كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ. وَأجِيب عَنهُ: أَن
مَا توقعه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم
يكن بَعيدا، لانهم كَانُوا يأْتونَ بالصدقات إِلَى
الْمَسْجِد، وتوقع أَن يكون صبي أَو من لَا يعقل أَدخل
التمرة الْبَيْت، فاتقى ذَلِك لقُرْبه.
قَوْله: (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) اي: لَا يعلم
المشتبهات كثير من النَّاس، أَرَادَ: لَا يعلم حكمهَا،
وَجَاء ذَلِك مُفَسرًا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (وَهِي
لَا يدْرِي كثير من النَّاس أَمن الْحَلَال هِيَ أم من
الْحَرَام؟) وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى مُشْتَبهَات: أَي
تشتبه على بعض النَّاس دون بعض، لَا أَنَّهَا فِي نَفسهَا
مشتبهة على كل النَّاس لَا بَيَان لَهَا، بل الْعلمَاء
يعرفونها، لِأَن الله تَعَالَى جعل عَلَيْهَا دَلَائِل
يعرفهَا بهَا أهل الْعلم، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ
السَّلَام: (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) وَلم يقل: لَا
يعلمهَا كل النَّاس، أَو أحد مِنْهُم، وَقَالَ بعض
الْعلمَاء: معرفَة حكمهَا مُمكن، لَكِن للقليل من النَّاس
وهم: المجتهدون، فالمشتبهات على هَذَا فِي حق غَيرهم، وَقد
يَقع لَهُم حَيْثُ لَا يظْهر لَهُم تَرْجِيح لأحد
اللَّفْظَيْنِ. قَوْله: (اسْتَبْرَأَ) أَي: طلب
الْبَرَاءَة فِي دينه من النَّقْص، وَعرضه من الطعْن
فِيهِ. قَوْله: (لدينِهِ) إِشَارَة إِلَى مَا يتَعَلَّق
بِاللَّه تَعَالَى، وَقَوله: وَعرضه، إِشَارَة الى مَا
يتَعَلَّق بِالنَّاسِ، أَو ذَاك اشارة إِلَى مَا يتَعَلَّق
بِالشَّرْعِ، وَهَذَا إِلَى الْمُرُوءَة. فان قلت: لِمَ
قدم الْعرض على الدّين؟ قلت: الْقَصْد هُوَ ذكرهمَا
جَمِيعًا من غير نظر إِلَى التَّرْتِيب، لِأَن الْوَاو لَا
تدل على التَّرْتِيب على مَا عرف فِي مَوْضِعه، وَأما
تَقْدِيم: الْعرض، فَيمكن أَن يكون لأجل تعلقه بِالنَّاسِ
الْمُقْتَضِي لمزيد الاهتمام بِهِ. قَوْله: (وَمن وَقع فِي
الشُّبُهَات) قَالَ الْخطابِيّ: كل شَيْء أشبه الْحَلَال
من وَجه، وَالْحرَام من وَجه فَهُوَ شُبْهَة. وَقَالَ
غَيره: هَذَا يكون لأحد وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِذا عود
نَفسه عدم التحرر مِمَّا يشْتَبه أثر ذَلِك فِي استهانته،
فَوَقع فِي الْحَرَام مَعَ الْعلم بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه
إِذا تعاطى الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام فِي نفس
الْأَمر، وَقد قيل بدل الْوَجْه الثَّانِي: إِن من أَكثر
وُقُوع الشُّبُهَات أظلم قلبه عَلَيْهِ لفقدان نور الْعلم
والورع، فَيَقَع فِي الْحَرَام وَلَا يشْعر بِهِ، وَقَالَ
ابْن بطال: وَفِيه دَلِيل أَن من لم يتق الشُّبُهَات
الْمُخْتَلف فِيهَا، وانتهك حرمتهَا، فقد أوجد السَّبِيل
على عرضه فِيمَا رَوَاهُ واشهد بِهِ. قلت: حَاصِل مَا ذكر
الْعلمَاء هَهُنَا فِي تَفْسِير الشُّبُهَات أَرْبَعَة
أَشْيَاء. تعَارض الادلة، وَاخْتِلَاف الْعلمَاء، وَقسم
الْمَكْرُوه والمباح. وَقد قيل: الْمَكْرُوه عقبَة بَين
الْحل وَالْحرَام، فَمن استكثر من الْمَكْرُوه تطرق إِلَى
الْحَرَام، والمباح عقبَة بَينه وَبَين الْمَكْرُوه، فَمن
استكثر مِنْهُ تطرق إِلَى الْمَكْرُوه، ويعضد هَذَا مَا
رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق ذكر مُسلم أسنادها وَلم
يسْبق لَفظهَا، فِيهَا من الزِّيَادَة: (اجعلوا بَيْنكُم
وَبَين الْحَرَام ستْرَة من الْحَلَال، من فعل ذَلِك
اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه، وَمن ارتع فِيهِ كَانَ كالمرتع
إِلَى جنب الْحمى يُوشك ان يَقع فِيهِ) .
قَوْله: (كرَاع
(1/301)
يرْعَى حول الْحمى) : هَذَا تَشْبِيه حَال
من يدْخل فِي الشُّبُهَات بِحَال الرَّاعِي الَّذِي يرْعَى
حول الْمَكَان الْمَحْظُور بِحَيْثُ أَنه لَا يَأْمَن
الْوُقُوع فِيهِ وَوجه الشّبَه حُصُول الْعقَاب بِعَدَمِ
الِاحْتِرَاز فِي ذَلِك، فَكَمَا أَن الرَّاعِي إِذا جَرّه
رعيه حول الْحمى إِلَى وُقُوعه فِي الْحمى، اسْتحق
الْعقَاب بِسَبَب ذَلِك، فَكَذَلِك من أَكثر من
الشُّبُهَات وَتعرض لمقدماتها وَقع فِي الْحَرَام
فَاسْتحقَّ الْعقَاب. فان قلت: مَا يُسمى هَذَا
التَّشْبِيه؟ قلت: هَذَا تَشْبِيه ملفوف، لِأَنَّهُ
تَشْبِيه بالمحسوس الَّذِي لَا يخفى حَاله، شبه الْمُكَلف
بالراعي، وَالنَّفس الْبَهِيمَة بالأنعام، والمشتبهات
بِمَا حول الْحمى والمحارم بالحمى، وَتَنَاول المشتبهات
بالرتع حول الْحمى، فَيكون تَشْبِيها ملفوفاً بِاعْتِبَار
طَرفَيْهِ، وتمثيلا بِاعْتِبَار وَجهه. قَوْله: (أَلا
وَإِن لكل ملك حمى) هَذَا مثل ضربه النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذَلِكَ أَن مُلُوك الْعَرَب
كَانَت تَحْمِي مرَاعِي لمواشيها، وتتوعد على من يقربهَا،
والخائف من عُقُوبَة السُّلْطَان يبعد بماشيته خوف
الْوُقُوع، وَغير الْخَائِف يقرب مِنْهَا ويرعى فِي
جوانبها، فَلَا يَأْمَن من أَن يَقع فِيهَا من غير
اخْتِيَاره، فيعاقب على ذَلِك. وَللَّه تَعَالَى أَيْضا
حمى وَهُوَ: الْمعاصِي، فَمن ارْتكب شَيْئا مِنْهَا اسْتحق
الْعقُوبَة وَمن قاربه بِالدُّخُولِ فِي الشُّبُهَات يُوشك
أَن يَقع فِيهَا، وَقد ادّعى بَعضهم أَن هَذَا الْمثل من
كَلَام الشّعبِيّ، وَأَنه مدرج فِي الحَدِيث، وَرُبمَا
اسْتدلَّ فِي ذَلِك لما وَقع لِابْنِ الْجَارُود
والاسماعيلي من رِوَايَة ابْن عون عَن الشعبى، قَالَ ابْن
عون فِي آخر الحَدِيث: فَلَا ادري الْمثل من النَّبِي،
عَلَيْهِ السَّلَام، اَوْ من قَول الشّعبِيّ؟ وَأجِيب:
بِأَن تردد ابْن عون فِي رَفعه لَا يسْتَلْزم كَونه
مدرجاً، لِأَن الاثبات قد جزموا باتصاله وَرَفعه، فَلَا
يقْدَح شكّ بَعضهم فِيهِ. فان قلت: قد سقط الْمثل فِي
رِوَايَة بعض الروَاة، كَأبي فَرْوَة عَن الشّعبِيّ،
فَدلَّ على الإدراج. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن هَذَا لَا
يقْدَح فِيمَن اثْبتْ من الْحفاظ الاثبات، وَيُؤَيِّدهُ
مَا رَوَاهُ ابْن حبَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا. وَقَالَ
بَعضهم: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي حذف البُخَارِيّ
قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، ليصير مَا قبل الْمثل مرتبطاً
بِهِ، فَيسلم من دَعْوَى الإدراج. قلت: هَذَا الْكَلَام
لَيْسَ لَهُ معنى أصلا، وَلَا هُوَ دَلِيل على منع دَعْوَى
الإدراج، وَذَلِكَ لَان قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، لم
يحذفه البُخَارِيّ عمدا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ فِي هَذِه
الطَّرِيق هَكَذَا، مثل مَا سَمعه، وَقد ثَبت ذَلِك فِي
غير هَذِه الطَّرِيق، وَكَيف يحذف لفظا مَرْفُوعا مُتَّفقا
عَلَيْهِ لأجل الدّلَالَة على رفع لفظ قد قيل فِيهِ
بالإدراج؟ وَقَوله: (ليصير) مَا قبل الْمثل مرتبطاً بِهِ،
إِن أَرَادَ بِهِ الارتباط الْمَعْنَوِيّ فَلَا يَصح، لَان
كلاًّ مِنْهُمَا كَلَام بِذَاتِهِ مُسْتَقل، وَإِن اراد
بِهِ الارتباط اللَّفْظِيّ فَكَذَلِك لَا يَصح، وَهُوَ
ظَاهر.
قَوْله: (مُضْغَة) أطلقها على الْقلب إِرَادَة تَصْغِير
الْقلب بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَد، مَعَ أَن
صَلَاح الْجَسَد وفساده تابعان لَهُ، أَو لما كَانَ هُوَ
سُلْطَان الْبدن لما صلح صلح الْأَعْضَاء الْأُخَر الَّتِي
هِيَ كالرعية، وَهُوَ بِحَسب الطِّبّ أول نقطة تكون من
النُّطْفَة، وَمِنْه تظهر القوى، وَمِنْه تنبعث
الْأَرْوَاح، وَمِنْه ينشأ الْإِدْرَاك ويبتدىء التعقل،
فلهذه الْمعَانِي خص الْقلب بذلك، وَاحْتج جمَاعَة بِهَذَا
الحَدِيث، وَبِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {لَهُم قُلُوب لَا
يعْقلُونَ بهَا} (الْحَج: 46) على أَن الْعقل فِي الْقلب
لَا فِي الرَّأْس. قلت: فِيهِ خلاف مَشْهُور، فمذهب
الشَّافِعِيَّة والمتكلمين أَنه فى الْقلب، وَمذهب أبي
حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه فِي الدِّمَاغ.
وَحكي الأول عَن الفلاسفة، وَالثَّانِي عَن الْأَطِبَّاء.
وَاحْتج بِأَنَّهُ إِذا فسد الدِّمَاغ فسد الْعقل. وَقَالَ
ابْن بطال: وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الْعقل إِنَّمَا هُوَ
فِي الْقلب، وَمَا فِي الرَّأْس مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ
عَن الْقلب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِيهِ دلَالَة
على أَن الْعقل فِي الْقلب، وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على
أَن: من حلف لَا يَأْكُل لَحْمًا، فَأكل قلباً، حنث. قلت:
ولأصحاب الشَّافِعِي فِيهَا قَولَانِ، احدهما: يَحْنَث،
وَإِلَيْهِ مَال أَبُو بكر الصيدلاني الْمروزِي، وَالأَصَح
انه: لَا يَحْنَث، لِأَنَّهُ لَا يُسمى لَحْمًا.
40 - (بَاب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإيمانِ)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن لفظ: بَاب،
مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، مُضَاف إِلَى
مَا بعده، وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب أَدَاء الْخمس. أَي:
بَاب فِي بَيَان أَن أَدَاء الْخمس شُعْبَة من شعب
الْإِيمَان. وَيجوز أَن يقطع عَن الْإِضَافَة،
فَحِينَئِذٍ: أَدَاء الْخمس، كَلَام إضافي مُبْتَدأ.
وَقَوله: من الايمان، خَبره. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة
بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب
الأول هُوَ الْحَلَال الَّذِي هُوَ الْمَأْمُور بِهِ،
وَالْحرَام الَّذِي هُوَ الْمنْهِي عَنهُ، فَكَذَلِك فِي
هَذَا الْبَاب، الْمَذْكُور هُوَ الْمَأْمُور بِهِ،
والمنهي عَنهُ. أما الْمَأْمُور بِهِ فَهُوَ: الايمان
بِاللَّه وَرَسُوله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة
وَصِيَام رَمَضَان وَإِعْطَاء الْخمس، وَأما الْمنْهِي
عَنهُ فَهُوَ: الحنتم وَأَخَوَاتهَا، وَبِهَذَا الْبَاب
ختمت الْأَبْوَاب الَّتِي يذكر فِيهَا شعب الْإِيمَان
وأموره. الثَّالِث: قَوْله: (الْخمس) ، بِضَم الْخَاء، من:
خمست الْقَوْم
(1/302)
اخمسهم، بِالضَّمِّ، إِذا أخذت مِنْهُم
خُمس أَمْوَالهم، وَأما: خمستهم أخمسهم، بِالْكَسْرِ،
فَمَعْنَاه: إِذا كنت خامسهم، أَو كملتهم خَمْسَة
بِنَفْسِك، وَهُوَ المُرَاد من قَوْله تَعَالَى:
{وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَإِن لله خمسه}
(الْأَنْفَال: 41) وَقد قيل: إِنَّه رُوِيَ هُنَا بِفَتْح
الْخَاء، وَهِي الْخمس من الْأَعْدَاد، وَأَرَادَ بهَا
قَوَاعِد الْإِسْلَام الْخمس الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث:
(بني الاسلام على خمس) ، فَهَذَا، وَإِن كَانَ لَهُ وَجه،
وَلَكِن فِيهِ بعد، لِأَن الْحَج لم يذكر هَهُنَا، وَلِأَن
غَيره من الْقَوَاعِد قد تقدم ذكره، وَهَهُنَا إِنَّمَا
ترْجم الْبَاب على أَن أَدَاء خمس الْغَنِيمَة من
الْإِيمَان. فَإِن قلت: مَا وَجه كَونه من الْإِيمَان؟
قلت: لما سَأَلَ الْوَفْد عَن الْأَعْمَال الَّتِي إِذا
عملوها يدْخلُونَ بهَا الْجنَّة. فأجيبوا بأَشْيَاء من
جُمْلَتهَا أَدَاء الْخمس، فأداء الْخمس من الْأَعْمَال
الَّتِي يدْخل بهَا الْجنَّة، وكل عمل يدْخل بِهِ الْجنَّة
فَهُوَ من الْإِيمَان، فأداء الْخمس من الْإِيمَان.
فَافْهَم.
1 - حَدثنَا عَليّ بن الْجَعْد قَالَ أخبرنَا شُعْبَة عَن
أبي جَمْرَة قَالَ كنت اقعد مَعَ ابْن عَبَّاس يجلسني على
سَرِيره فَقَالَ أقِم عِنْدِي حَتَّى أجعَل لَك سَهْما من
مَالِي فاقمت مَعَه شَهْرَيْن ثمَّ قَالَ إِن وَفد عبد
الْقَيْس لما أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ من الْقَوْم أَو من الْوَفْد قَالُوا ربيعَة قَالَ
مرْحَبًا بالقوم أَو بالوفد غير حزايا وَلَا ندامى
فَقَالُوا يَا رَسُول الله إِنَّا لَا نستطيع أَن نَأْتِيك
إِلَّا فِي شهر الْحَرَام وبيننا وَبَيْنك هَذَا الْحَيّ
من كفار مُضر فمرنا بِأَمْر فصل نخبر بِهِ من رواءنا وندخل
بِهِ الْجنَّة وسألوه عَن الاشربة فَأَمرهمْ بِأَرْبَع
ونهاهم عَن أَربع أَمرهم بِالْإِيمَان بِاللَّه وَحده
قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاللَّه وَحده قَالُوا
الله وَرَسُوله أعلم قَالَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا
الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء
الزَّكَاة وَصِيَام رَمَضَان وَأَن تعطوا من الْمغنم
الْخمس ونهاهم عَن أَربع عَن الحنتم والدباء والنقير
والمزفت وَرُبمَا قَالَ المقير وَقَالَ احفظوهن وأخبروا
بِهن من وراءكم. مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة
لِأَنَّهُ عقد الْبَاب على جُزْء مِنْهُ وَهُوَ قَوْله "
وَإِن تعطوا من الْمغنم خمْسا " فَإِن قلت لم عين هَذَا
للتَّرْجَمَة دون غَيره من الَّذِي ذكره مَعَه قلت عقد لكل
وَاحِد غَيره بَابا على مَا تقدم (بَيَان رِجَاله) وهم
أَرْبَعَة الأول أَبُو الْحسن على بن الْجَعْد بِفَتْح
الْجِيم ابْن عبيد الْجَوْهَرِي الْهَاشِمِي مَوْلَاهُم
الْبَغْدَادِيّ سمع الثَّوْريّ ومالكا وَغَيرهمَا من
الاعلام وَعنهُ أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَآخَرُونَ وَقَالَ مُوسَى بن دَاوُد مَا رَأَيْت احفظ
مِنْهُ وَكَانَ أَحْمد يحض على الْكِتَابَة مِنْهُ وَقَالَ
يحيى بن معِين هُوَ رباني الْعلم ثِقَة فَقيل لَهُ هَذَا
الَّذِي كَانَ مِنْهُ أَنه كَانَ يتهم بالجهم فَقَالَ
ثِقَة صَدُوق وَقيل أَن الَّذِي كَانَ يَقُول بالجهم
وَلَده الْحسن قَاضِي بَغْدَاد وَبَقِي سِتِّينَ سنة أَو
سبعين سنة يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا ولد سنة سِتّ
وَثَلَاثُونَ وَمِائَة وَمَات سنة ثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ وَدفن بمقبرة بَاب حَرْب بِبَغْدَاد.
الثَّانِي شُعْبَة بن الْحجَّاج وَقد تقدم. الثَّالِث أَو
جَمْرَة بِالْجِيم وَالرَّاء واسْمه نصر بن عمرَان بن
عِصَام وَقيل عَاصِم بن وَاسع الضبعِي الْبَصْرِيّ سمع
ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم وخلقا من التَّابِعين وَعنهُ أَيُّوب وَغَيره
من التَّابِعين وَغَيرهم كَانَ مُقيما بنيسابور ثمَّ خرج
إِلَى مرو ثمَّ إِلَى سرخس وَبهَا توفّي سنة ثَمَان
وَعشْرين وَمِائَة وثقته مُتَّفق عَلَيْهَا وَقَالَ ابْن
قُتَيْبَة مَاتَ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ أَبوهُ عمرَان رجلا
جَلِيلًا قَاضِي الْبَصْرَة وَاخْتلف فِي أَنه صَحَابِيّ
لَا وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من يكنى بِهَذِهِ الكنية
غَيره وَلَا من اسْمه جَمْرَة بل وَلَا فِي بَاقِي الْكتب
السِّتَّة أَيْضا وَلَا فِي الْمُوَطَّأ وَفِي كتاب
الحياني أَنه وَقع فِي نُسْخَة أبي ذَر عَن أبي الْهَيْثَم
حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي وَذَلِكَ وهم
وَمَا عداهُ أَبُو حَمْزَة بِالْحَاء والزاء وَقد روى
مُسلم عَن أبي حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة عَن أبي
عَطاء القصاب بياع الْقصب الوَاسِطِيّ حَدِيثا وَاحِدًا
عَن ابْن عَبَّاس فِيهِ ذكر مُعَاوِيَة وإرسال النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عَبَّاس خَلفه وَقَالَ بعض
الْحفاظ يروي شُعْبَة عَن سَبْعَة يروون عَن ابْن عَبَّاس
كلهم أَبُو حَمْزَة بِالْحَاء وَالزَّاي إِلَّا هَذَا
وَيعرف هَذَا من غَيره مِنْهُم أَنه إِذا أطلق عَن ابْن
عَبَّاس أَبُو حَمْزَة فَهُوَ هَذَا وَإِذا أَرَادوا غَيره
مِمَّن هُوَ بِالْحَاء قيدوه بِالِاسْمِ وَالنّسب
(1/303)
وَالْوَصْف كابني حَمْزَة القصاب. والضبعي
بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة من
بني ضبيعة بِضَم أَوله مصغر أَو هُوَ بطن من عبد الْقَيْس
كَمَا جزم الشاطى وَفِي بكر بن وَائِل بطن يُقَال لَهُم
بَنو ضبيعة أَيْضا وَقد وهم من نسب أَبَا جَمْرَة
إِلَيْهِم من شرَّاح البُخَارِيّ فقد روى الطَّبَرَانِيّ
وَابْن مَنْدَه فِي تَرْجَمَة نوح بن مخلد جد أبي جَمْرَة
أَنه قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
لَهُ مِمَّن أَنْت قَالَ من ضبيعة ربيعَة فَقَالَ خير
ربيعَة عبد الْقَيْس ثمَّ الْحَيّ الَّذِي أَنْت مِنْهُم.
الرَّابِع عبد الله ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) . مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث
وَالْأَخْبَار والعنعنة وَالْأَخْبَار فِي أخبرنَا شُعْبَة
وَفِي كثير من النّسخ حَدثنَا شُعْبَة. وَمِنْهَا أَن
رِجَاله مَا بَين بغدادي وواسطي وَبصرى. وَمِنْهَا أَن
فيهم من هُوَ من الْأَفْرَاد وَهُوَ أَبُو جَمْرَة وَكَذَا
عَليّ بن الْجَعْد انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ وَأَبُو
دَاوُد عَن بَقِيَّة السِّتَّة (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن
أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع هُنَا
كَمَا ترى وَفِي الْخمس عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد
وَفِي خبر الْوَاحِد عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة
وَعَن إِسْحَق عَن النَّضر عَن شُعْبَة وَفِي كتاب الْعلم
عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة وَفِي الصَّلَاة عَن
قُتَيْبَة عَن عباد بن عباد وَفِي الزَّكَاة عَن حجاج بن
الْمنْهَال عَن حَمَّاد وَفِي الْخمس عَن أبي النُّعْمَان
عَن حَمَّاد وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش عَن مُسَدّد عَن
حَمَّاد وَفِي الْمَغَازِي عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن
حَمَّاد وَعَن إِسْحَاق عَن أبي عَامر الْعَقدي عَن قُرَّة
وَفِي الْأَدَب عَن عمرَان بن ميسرَة عَن عبد الْوَارِث
عَن أبي التياح وَفِي التَّوْحِيد عَن عَمْرو بن عَليّ عَن
أبي عَاصِم عَن قُرَّة وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي مُوسَى وَبُنْدَار ثَلَاثَتهمْ
عَن عبد ربه وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَعَن
نصر بن عَليّ عَن أَبِيه كِلَاهُمَا عَن قُرَّة بِهِ
وَفِيه وَفِي الاشربة عَن خلف ابْن هِشَام عَن حَمَّاد بن
زيد وَعَن يحيى بن يحيى عَن عباد بن عباد بِهِ وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الاشربة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب
وَمُحَمّد ابْن عبيد بن حِسَاب كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن
زيد بِهِ وَعَن مُسَدّد عَن عباد بن عباد وَفِي السّنة عَن
أَحْمد بن حَنْبَل عَن يحيى بن سعيد عَن شُعْبَة وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن قُتَيْبَة عَن عباد بن عباد
وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ مُخْتَصرا وَفِي
الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَنْهُمَا بِطُولِهِ وَقَالَ حسن
صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن بنْدَار بِهِ
وَفِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَن عباد بن عباد بِهِ
وَفِي الاشربة عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن أبي عتاب
بن سهل بن حَمَّاد عَن قُرَّة بِهِ وَفِي الصَّلَاة عَن
مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد عَن شُعْبَة بِهِ
وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي طرقه
قصَّة الْأَشَج وَذكرهَا مُسلم فِي الحَدِيث فَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلَام للأشج اشج عبد الْقَيْس " أَن فِيك
لخصلتين يحبهما الله الأناة والحلم " (بَيَان اللُّغَات)
قَوْله " على سَرِيره " وَفِي الْعباب السرير مَعْرُوف
وَجمعه أسرة وسرر قَالَ الله تَعَالَى (على سرر
مُتَقَابلين) إِلَّا أَن بَعضهم يستثقل اجْتِمَاع الضمتين
مَعَ التَّضْعِيف فَيرد الأولى مِنْهُمَا إِلَى الْفَتْح
لخفته فَيَقُول سرر وَكَذَلِكَ مَا اشبهه من الْجمع مثل
ذليل وَذَلِكَ وَنَحْوه انْتهى وَقيل أَنه مَأْخُوذ من
السرر لِأَنَّهُ مجْلِس السرُور قلت السرير أَيْضا
مُسْتَقر الرَّأْس والعنق وَقد يعبر بالسرير عَن الْملك
وَالنعْمَة وخفض الْعَيْش وَقَالَ ابْن السّكيت السرير
مَوضِع بِأَرْض بني كنَانَة قَوْله " سَهْما " أَي نَصِيبا
وَالْجمع سَهْمَان بِالضَّمِّ قَوْله " أَن وَفد عبد
الْقَيْس " قَالَ ابْن سَيّده يُقَال وَفد عَلَيْهِ
وَإِلَيْهِ وَفْدًا ووفودا ووفادة وافادة على الْبَدَل قدم
ووافادة وإفادة على الْبَدَل قدم واوفده عَلَيْهِ وهم
الْوَفْد والوفود فَأَما الْوَفْد فاسم جمع وَقيل جمع
وَأما الْوُفُود فَجمع وَافد وَقد أوفده إِلَيْهِ وَفِي
الْجَامِع للقزاز ووفودة وَالْقَوْم يفدون وأوفدتهم أَنا
أَيْضا وَوَاحِد الْوَفْد وَافد وَفِي الصِّحَاح وَفد
فلَان على الْأَمِير رَسُولا وَالْجمع وَفد وَجمع
الْوَافِد أوفاد وَالِاسْم الْوِفَادَة واوفدته أَنا إِلَى
الْأَمِير إِي أَرْسلتهُ وَفِي المغيث الْوَفْد قوم
يَجْتَمعُونَ فيردون الْبِلَاد وَكَذَا ذكره الْفَارِسِي
فِي مجمع الغرائب. وَقَالَ صَاحب التَّحْرِير والوفد
الْجَمَاعَة المختارة من الْقَوْم ليتقدموهم إِلَى لقى
العظماء والمصير إِلَيْهِم فِي الْمُهِمَّات وَقَالَ
القَاضِي هم الْقَوْم يأْتونَ الْملك ركابا وَيُؤَيّد مَا
ذكره أَن ابْن عَبَّاس فسر قَوْله تَعَالَى {يَوْم نحْشر
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا} قَالَ ركبانا
وَعبد الْقَيْس أَبُو قَبيلَة وَهُوَ ابْن افصى بِفَتْح
الْهمزَة وَسُكُون الْفَاء وبالصاد الْمُهْملَة
الْمَفْتُوحَة ابْن دعمى بِضَم الدَّال الْمُهْملَة
وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبياء النِّسْبَة ابْن جديلة
بِفَتْح الْجِيم بن
(1/304)
أَسد بن ربيعَة بن نزار كَانُوا ينزلون
الْبَحْرين وحوالي القطيف والأحساء وَمَا بَين هجر إِلَى
الديار المصرية قَوْله " ربيعَة " هُوَ ابْن نزار بن معد
بن عدنان وَإِنَّمَا قَالُوا ربيعَة لِأَن عبد الْقَيْس من
أَوْلَاده قَوْله " مرْحَبًا " أَي صادفت مرْحَبًا أَي
سَعَة فاستأنس وَلَا تستوحش قَوْله " خزايا " جمع خزيان من
الخزي وَهُوَ الاستحياء من خزى يخزي من بَاب علم يعلم
خزاية أَي استحيى فَهُوَ خزيان وَقوم خزايا وَامْرَأَة
خزيا وَكَذَلِكَ خزى يخزي من هَذَا الْبَاب بِمَعْنى ذل
وَهَان ومصدره خزى وَقَالَ ابْن السّكيت وَقع فِي بلية
وأخزاه الله وَالْمعْنَى هَهُنَا على هَذَا يَعْنِي غير
أذلاء مهانين فَافْهَم. قَوْله " وَلَا ندامى " جمع ندمان
بِمَعْنى النادم وَقيل جمع نادم قَوْله " فِي الشَّهْر
الْحَرَام " المُرَاد بِهِ الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْأَشْهر
الْحرم الْأَرْبَعَة رَجَب وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة
وَالْمحرم وَيعرف الْمحرم دون رَجَب وسمى الشَّهْر بالشهر
لشهرته وَطهُوره وبالحرم لحرمه الْقِتَال فِيهِ قَوْله "
وَهَذَا الْحَيّ " قَالَ ابْن سَيّده أَنه بطن من بطُون
الْعَرَب وَفِي الْمطَالع هُوَ اسْم لمنزلة الْقَبِيلَة
ثمَّ سميت الْقَبِيلَة بِهِ وَذكر الجواني فِي الفاضلة أَن
الْعَرَب على طَبَقَات عشر اعلاها الجذم ثمَّ الْجُمْهُور
ثمَّ الشعوب وَاحِدهَا شعب ثمَّ الْقَبِيلَة ثمَّ
الْعِمَارَة ثمَّ الْبَطن ثمَّ الْفَخْذ ثمَّ الْعَشِيرَة
ثمَّ الفصيلة ثمَّ الرَّهْط وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَأول
الْعَرَب شعوب ثمَّ قبائل ثمَّ عمائر ثمَّ بطُون ثمَّ
أفخاذ ثمَّ فصائل ثمَّ عشاءر وَقدم الْأَزْهَرِي العشائر
على الْفَضَائِل قَالَ وهم الْأَحْيَاء وَقَالَ ابْن
دُرَيْد الشّعب الْحَيّ الْعَظِيم من النَّاس قلت: الجذم
بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة أصل
الشَّيْء والشعب بِالْفَتْح مَا تشعب من قبائل الْعَرَب
والعجم والعمارة بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الْمِيم وَجوز
الْخَلِيل فتح عينهَا قَالَ فِي الْعباب وَهِي الْقَبِيلَة
وَالْعشيرَة وَقيل هِيَ الْحَيّ ينْفَرد بظعنه قَوْله "
مُضر " بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة غير
منصرف وَهُوَ مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَيُقَال لَهَا
مُضر الْحَمْرَاء ولأخيه ربيعَة الْفرس لِأَنَّهُمَا لما
اقْتَسمَا الْمِيرَاث أعْطى مُضر الذَّهَب وَرَبِيعَة
الْخَيل وكفار مُضر كَانُوا بَين ربيعَة وَالْمَدينَة
وَلَا يُمكنهُم الْوُصُول إِلَى الْمَدِينَة إِلَّا
عَلَيْهِم وَكَانُوا يخَافُونَ مِنْهُم إِلَّا فِي
الْأَشْهر الْحرم لامتناعهم من الْقِتَال فِيهَا قَوْله "
بِأَمْر فصل " بِلَفْظ الصّفة لَا بِالْإِضَافَة وَالْأَمر
أما وَاحِد الْأُمُور أَي الشَّأْن وَأما وَاحِد
الْأَوَامِر أَي القَوْل الطَّالِب للْفِعْل وَفصل بِفَتْح
الْفَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة أما بِمَعْنى
الْفَاصِل كالعدل أَي يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَأما
بِمَعْنى الْمفصل أَي وَاضح بِحَيْثُ ينْفَصل بِهِ
المُرَاد عَن غَيره قَوْله " من الْمغنم " أَي الْغَنِيمَة
قَالَ الْجَوْهَرِي الْمغنم وَالْغنيمَة بِمَعْنى قَوْله "
الحنتم " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون
وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق قَالَ أَبُو هُرَيْرَة
هِيَ الجرار الْخضر وَقَالَ ابْن عمر هِيَ الجرار كلهَا
وَقَالَ أنس بن مَالك جرار يُؤْتى بهَا من مُضر مقيرات
الأجواف وَقَالَت عَائِشَة جرار حمر اعناقها فِي جنوبها
يجلب فِيهَا الْخمر من مُضر وَقَالَ ابْن أبي ليلى افواهها
فِي جنوبها يجلب فِيهَا الْخمر من الطَّائِف وَكَانُوا
ينبذون فِيهَا وَقَالَ عَطاء هِيَ جرار تعْمل من طين وَدم
وَشعر وَفِي الْمُحكم الحنتم جرار خضر تضرب إِلَى الْحمرَة
وَفِي مجمع الغرائب حمر وَقَالَ الْخطابِيّ هِيَ جرة مطلية
بِمَا يسد مسام الخزف وَلها التَّأْثِير فِي الانتباذ
لِأَنَّهَا كالمزفت وَقَالَ أبي حبيب الحنتم الجرو وكل مَا
كَانَ من فخار أَبيض وأخضر وَقَالَ الْمَازرِيّ قَالَ بعض
أهل الْعلم لَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا الحنتم مَا طلى من
الفخار بالحنتم الْمَعْمُول بالزجاج وَغَيره قَوْله "
والدباء " بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء وبالمد وَقد
يقصر وَقد تكسر الدَّال وَهُوَ اليقطين الْيَابِس أَي
الْوِعَاء مِنْهُ وَهُوَ القرع وَهُوَ جمع والواحدة باءة
وَمن قصر قَالَ دباة قَالَ عِيَاض وَلم يحك أَبُو عَليّ
والجوهري غير الْمَدّ قَوْله " والنقير " بِفَتْح النُّون
وَكسر الْقَاف وَجَاء تَفْسِيره فِي صَحِيح مُسلم " أَنه
جذع ينقرون وَسطه وينبذون فِيهِ " قَوْله " والمزفت "
بتَشْديد الْفَاء أَي المطلي بالزفت أَي القار بِالْقَافِ
وَرُبمَا قَالَ ابْن عَبَّاس المقير بدل المزفت وَيُقَال
الزفت نوع من القار وَقَالَ ابْن سَيّده هُوَ شَيْء أسود
يطلى بِهِ الْإِبِل والسفن وَقَالَ أَبُو حنيفَة أَنه شجر
مر والقار يُقَال لَهُ القير بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف قيل هُوَ نبت يحرق إِذا يبس يطلى
بِهِ السفن وَغَيرهَا كَمَا يطلى بالزفت وَفِي مُسْند أبي
دَاوُد الطَّيَالِسِيّ بِإِسْنَاد حسن عَن أبي بكرَة قَالَ
أما الدُّبَّاء فَإِن أهل الطَّائِف كَانُوا يَأْخُذُونَ
القرع فيخرطون فِيهِ الْعِنَب ثمَّ يدفنونه حَتَّى يهدر
ثمَّ يَمُوت وَأما النقير فَإِن أهل الْيَمَامَة كَانُوا
ينقرون أصل النَّخْلَة ثمَّ ينتبذون الرطب واليسر ثمَّ
يَدعُونَهُ حَتَّى يهدر ثمَّ يَمُوت وَأما الحنتم فجرار
كَانَت تحمل إِلَيْنَا فِيهَا الْخمر وَأما المزفت
فَهَذِهِ الأوعية الَّتِي فِيهَا الزفت (بَيَان
الْإِعْرَاب) قَوْله " كنت اقعد " التَّاء فِي كنت اسْم
كَانَ وَالْجُمْلَة اعني اقعد فِي مَحل النصب خَبره قَوْله
" مَعَ ابْن عَبَّاس " أَي مصاحبا مَعَه أَو هُوَ بِمَعْنى
عِنْد أَي عِنْد ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَوْله
" فيجلسني " عطف على قَوْله " اقعد " فَإِن قلت
(1/305)
الاجلاس قبل الْقعُود فَكيف جَاءَ
بِالْفَاءِ قلت الاجلاس على السرير بعد الْقعُود وَمَا
الدَّلِيل على امْتِنَاعه قَوْله " اجْعَل " بِالنّصب
بِأَن الْمقدرَة بعد حَتَّى وَسَهْما مَنْصُوب لِأَنَّهُ
مفعول اجْعَل وَكلمَة من فِي من مَالِي بَيَانِيَّة مَعَ
دلَالَته على التَّبْعِيض قَوْله " فاقمت مَعَه " أَي
مصاحبا لَهُ وَإِنَّمَا قَالَ مَعَه وَلم يقل عِنْده
مُطَابقَة لقَوْله اقم عِنْدِي لأجل الْمُبَالغَة لِأَن
المصاحبة بلغ من العندية قَوْله " شَهْرَيْن " نصب على
الظّرْف وَالتَّقْدِير مُدَّة شَهْرَيْن قَوْله " من
الْقَوْم " جملَة اسمية وَكلمَة من للاستفهام قَوْله " أَو
من الْوَفْد " شكّ من الرَّاوِي وَالظَّاهِر أَنه شُعْبَة
وَيحْتَمل أَن يكون أَبَا جَمْرَة وَلَيْسَ كَمَا قَالَ
الْكرْمَانِي وَالظَّاهِر أَنه من ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنْهُمَا قَوْله " ربيعَة " خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف
تَقْدِيره نَحن ربيعَة وَالْجُمْلَة مقول الْقُوَّة قَوْله
" قَالَ مرْحَبًا " أَي قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مرْحَبًا وَهُوَ اسْم وضع مَوضِع الترحيب
وانتصابه على المصدرية من رَحبَتْ الأَرْض ترحب من بَاب
كرم يكرم رحبا بِضَم الرَّاء إِذا اتسعت قَالَ سِيبَوَيْهٍ
هُوَ من المصادر النائية عَن أفعالها تَقْدِيره رَحبَتْ
وَقَالَ غَيره هُوَ من المفاعيل المنصوبة بعامل مُضْمر
لَازم اضماره تستعمله الْعَرَب كثيرا وَمَعْنَاهُ صادفت
رحبا أَي سَعَة فاستأنس وَلَا تستوحش وَفِي الْعباب
وَالْعرب تَقول أَيْضا مرحبك الله ومسهلك ومرحبابك الله
ومسهلا وَقَالَ العسكري أول من قَالَ مرْحَبًا سيف ذُو يزن
فَإِن قلت أَنه بِالْإِضَافَة صَار معرفَة وَشرط الْحَال
أَن تكون نكرَة قلت شَرط تعرفه أَن يكون الْمُضَاف ضدا
للمضاف إِلَيْهِ وَنَحْوه وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك ويروى
غير بِكَسْر الرَّاء على أَنه صفة للْقَوْم فَإِن قلت أَنه
نكرَة كَيفَ وَقعت صفة للمعرفة قلت للمعرف بِلَا جنس قرب
الْمسَافَة بَينه وَبَين النكرَة فَحكمه حكم النكرَة إِذْ
لَا تَوْقِيت فِيهِ وَلَا تعْيين وَفِي رِوَايَة مُسلم "
غير خزايا وَلَا ندامى " بِاللَّامِ فِي الندامى وَفِي بعض
الرِّوَايَات " غير الخزايا وَلَا الندامى " بِاللَّامِ
فيهمَا وَقَالَ النَّوَوِيّ وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
فِي الْأَدَب من طَرِيق أبي التياح عَن أبي جَمْرَة "
مرْحَبًا بالوفد الَّذين جاؤا غير خزايا وَلَا ندامى "
وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق قُرَّة "
فَقَالَ مرْحَبًا بالوفد لَيْسَ خزايا وَلَا النادمين "
وَهَذَا يشْهد لمن قَالَ كَانَ الأَصْل فِي وَلَا ندامى
نادمين وَلكنه اتبع خزايا تحسينا للْكَلَام كَمَا يُقَال
لَا دَريت وَلَا تليت وَالْقِيَاس لَا تَلَوت والغدايا
والعشايا وَالْقِيَاس بالغدوات فَجعل تَابعا لما يقارنه
وَإِذا افردت لم يجز إِلَّا الغدوات وَكَذَلِكَ قَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام " ارْجِعْنَ مَأْزُورَات غير
مَأْجُورَات " وَلَو افردت لقيل موزورات بِالْوَاو
لِأَنَّهُ من الْوزر وَمِنْه قَول الشَّاعِر هُنَاكَ اخبية
ولاج ابوية فَجمع الْبَاب على ابوبة اتبَاعا لاخبية وَلَو
أفرد لم يجز وَقَالَ الْقَزاز والجوهري وَيُقَال فِي نادم
ندمان فعلى هَذَا يكون الْجمع على الأَصْل وَلَا يكون من
بَاب الِاتِّبَاع قَوْله " أَن نَأْتِيك " فِي مَحل النصب
على المفعولية وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير أَن لَا
نستطيع الاتيان إِلَيْك قَوْله " الْحَرَام " بِالْجَرِّ
صفة للشهر وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة إِلَّا فِي
شهر الْحَرَام وَهِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا وَهُوَ من
إِضَافَة الِاسْم إِلَى صفته بِحَسب الظَّاهِر كمسجد
الْجَامِع وَنسَاء الْمُؤْمِنَات وَلكنه مؤول تَقْدِيره
إِلَّا فِي شهر الْأَوْقَات الْحَرَام وَمَسْجِد الْوَقْت
الْجَامِع وَقَالَ بَعضهم هَذَا من إِضَافَة الشَّيْء قلت
إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه لَا تجوز كَمَا عرف فِي
مَوْضِعه وَفِي رِوَايَة قُرَّة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي
الْمَغَازِي " إِلَّا فِي أشهر الْحرم " وَتَقْدِير فِي
أشهر الْأَوْقَات الْحرم وَالْحرم بِضَمَّتَيْنِ جمع حرَام
وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد أخرجهَا البُخَارِيّ فِي
المناقب (غلا فِي كل شهر حرَام " قَوْله " وبيننا وَبَيْنك
" الْوَاو فِيهِ للْحَال وَكلمَة من فِي قَوْله " من كفار
" مُضر للْبَيَان وَمُضر مُضَاف إِلَيْهِ وَلَكِن جَرّه
بِالْفَتْح لِأَن الصّرْف منع مِنْهَا للعملية والتأنيث
قَوْله " فمرنا " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ
الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي مر وَالْمَفْعُول وَهُوَ نَا
وأصل مر اؤمر بهمزتين لِأَنَّهُ من أَمر يَأْمر فحذفت
الْهمزَة الْأَصْلِيَّة للاستثقال فَصَارَ امْر فاستغنى
عَن همزَة الْوَصْل فحذفت فبقى مر على وزن عل لِأَن
الْمَحْذُوف فَاء الْفِعْل قَوْله " بِأَمْر فصل "
كِلَاهُمَا بِالتَّنْوِينِ على الوصفية لَا الْإِضَافَة
قَوْله " نخبر بِهِ " روى بِالرَّفْع وبالجزم أما الرّفْع
فعلى أَنه صفة لامر وَأما الْجَزْم فعلى أَنه جَوَاب الامر
قَوْله " من وَرَاءَنَا " كلمة من بِفَتْح الْمِيم
مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وَقَوله
وَرَاءَنَا خَبره وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على
أَنَّهَا مفعول نخبر وَالْخَبَر فِي الْحَقِيقَة مَحْذُوف
تَقْدِيره من استقروا وَرَاءَنَا أَي خلفنا وَالْمرَاد
قَومهمْ الَّذين خلفوهم فِي بِلَادهمْ وَقد علم أَن نَحْو
خلف ووراء إِذا وَقع خَبرا فَإِن كَانَ بَدَلا عَن عَامله
الْمَحْذُوف نَحْو زيد خَلفك أَو وَرَاءَك بَقِي على مَا
كَانَ عَلَيْهِ من الْإِعْرَاب وَإِن لم يكن بَدَلا نَحْو
ظهرك خَلفك ورجلاك أسفلك جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ النصب
على الظَّرْفِيَّة وَالرَّفْع على الخبرية. ثمَّ اعْلَم
أَن لَفْظَة وَرَاء من الاضداد لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَعْنى
خلف وَبِمَعْنى قُدَّام وَهِي مُؤَنّثَة وَقَالَ
(1/306)
ابْن السّكيت يذكر وَيُؤَنث وَهُوَ
مَهْمُوز اللَّام ذكره الصغاني فِي بَاب مَا يكون فِي
آخِره همزَة وَذكر الْجَوْهَرِي فِي بَاب مَا يكون فِي
آخِره يَاء وَهُوَ غلط فَكَأَنَّهُ ظن أَن همزته لَيست
بأصلية وَلَيْسَ كَذَلِك بِدَلِيل وجودهَا فِي تصغيره
وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات من
وَرَائِنَا بِكَسْر الْمِيم قلت قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين
فِي شَرحه وَلَا خلاف أَن قَوْله نحبر بِهِ من وَرَاءَنَا
بِفَتْح الْمِيم والهمزة فَإِن قلت أَن صَحَّ مَا قَالَه
الْكرْمَانِي فَمَا تكون من بِالْكَسْرِ قلت إِن صحت هَذِه
الرِّوَايَة يحْتَمل أَن تكون من للغاية بِمَعْنى أَو
قَومهمْ يكونُونَ غَايَة لأخبارهم قَوْله " وندخل بِهِ
الْجنَّة " بِرَفْع اللَّام وجزمها عطفا على قَوْله نخبر
الموجه بِوَجْهَيْنِ وَفِي بعض الرِّوَايَات ندخل بِدُونِ
الْوَاو وَكَذَا وَقع فِي مُسلم بِلَا وَاو وعَلى هَذِه
الرِّوَايَة يتَعَيَّن رَفعه وَهِي جملَة مستأنفة لَا مَحل
لَهَا من الْإِعْرَاب قَوْله " وسألوه " أَي النَّبِي
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الاشربة أَي عَن ظرف
الْأَشْرِبَة فالمضاف مَحْذُوف وَالتَّقْدِير سَأَلُوهُ
عَن الاشربة الَّتِي تكون فِي الْأَوَانِي الْمُخْتَلفَة
فعلى هَذَا يكون مَحْذُوف الصّفة فَافْهَم قَوْله "
فَأَمرهمْ بِأَرْبَع " الْفَاء للتعقيب أَي بِأَرْبَع
خِصَال أَو بِأَرْبَع جمل لقَوْله حَدثنَا بجمل من الْأَمر
وَهِي رِوَايَة قُرَّة عِنْد البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي
وَقَوله ونهاهم عطف على فَأمر قَوْله " أَمرهم
بِالْإِيمَان " تَفْسِير لقَوْله " فَأَمرهمْ بِأَرْبَع "
وَلِهَذَا ترك العاطف فَإِن قلت كَيفَ يكون تَفْسِيرا
وَالْمَذْكُور خمس قلت قَالَ النَّوَوِيّ عد جمَاعَة
الحَدِيث من المشكلات حَيْثُ قَالَ أَمرهم بِأَرْبَع
وَالْمَذْكُور خمس وَاخْتلفُوا فِي الْجَواب عَنهُ فَقَالَ
الْبَيْضَاوِيّ الظَّاهِر أَن الْأُمُور الْخَمْسَة
تَفْسِير للْإيمَان وَهُوَ أحد الْأَرْبَعَة الْمَأْمُور
بهَا وَالثَّلَاثَة الْبَاقِيَة حذفهَا الرَّاوِي
نِسْيَانا واختصارا وَقَالَ الطَّيِّبِيّ من عَادَة
البلغاء أَن الْكَلَام إِذا كَانَ منصبا لغَرَض من
الْأَغْرَاض جعلُوا سِيَاقه لَهُ وتوجهه إِلَيْهِ كَأَن
مَا سواهُ مرفوض مطرح فههنا لم يكن الغر ض فِي إِيرَاد ذكر
الشَّهَادَتَيْنِ لِأَن الْقَوْم كَانُوا مقرين بهما
بِدَلِيل قَوْلهم الله وَرَسُوله أعلم وَلَكِن كَانُوا
يظنون أَن الْإِيمَان مَقْصُور عَلَيْهِمَا وأنهما كافيتان
لَهُم وَكَانَ الْأَمر فِي أول الْإِسْلَام كَذَلِك لم
يَجعله الرَّاوِي من الْأَوَامِر وَجعل الاعطاء مِنْهَا
لِأَنَّهُ هُوَ الْغَرَض من الْكَلَام لأَنهم كَانُوا
أَصْحَاب غزوات مَعَ مَا فِيهِ من بَيَان أَن الْإِيمَان
غير مَقْصُور على ذكر الشَّهَادَتَيْنِ وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ قيل أَن أول الْأَرْبَع الْمَأْمُور بهَا
أَقَامَ الصَّلَاة وَإِنَّمَا ذكر الشَّهَادَتَيْنِ تبركا
بهما كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا إِنَّمَا
غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه} وَهَذَا نَحْو كَلَام
الطَّيِّبِيّ فَإِن قلت قَوْله " وَأقَام الصَّلَاة "
مَرْفُوع عطفا على قَوْله " شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا
الله " وَهَذَا يرد مَا قَالَه الطَّيِّبِيّ والقرطبي
وَأجِيب بِأَنَّهُ يجوز أَن يقْرَأ وَأقَام الصَّلَاة
بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله " أَمرهم بِالْإِيمَان "
وَالتَّقْدِير أَمرهم بِالْإِيمَان مصدرا بِهِ وبشرطه فِي
الشَّهَادَتَيْنِ وَأمرهمْ بأقام الصَّلَاة إِلَى آخِره
ويعضد هَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَدَب من طَرِيق
أبي التياح عَن أبي جَمْرَة وَلَفظه " أَربع وَأَرْبع
أقِيمُوا " إِلَى آخِره فَإِن قيل ظَاهر مَا ترْجم بِهِ
المُصَنّف من أَن أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان يَقْتَضِي
إِدْخَاله مَعَ الْخِصَال فِي تَفْسِير الْإِيمَان
وَالتَّقْدِير الْمَذْكُور يُخَالِفهُ فَأجَاب ابْن رشد
بِأَن الْمُطَابقَة تحصل من جِهَة أُخْرَى وَهِي أَنهم
سَأَلُوا عَن الْأَعْمَال الَّتِي يدْخلُونَ بهَا الْجنَّة
فأجيبوا بأَشْيَاء من أَدَاء الْخمس والأعمال الَّتِي
يدْخل بهَا الْجنَّة هِيَ أَعمال الْإِيمَان فَيكون أَدَاء
الْخمس من الْإِيمَان بِهَذَا التَّقْرِير (فَإِن قلت) قد
قَالَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن أبي جَمْرَة "
أَمركُم بِأَرْبَع الْإِيمَان بِاللَّه شَهَادَة أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله وعقدة وَاحِدَة " أخرجهَا البُخَارِيّ
فِي الْمَغَازِي وَأخرج فِي فرض الْخمس وَعقد بِيَدِهِ
الْحجَّاج بن منهال فَدلَّ على أَن الشَّهَادَة إِحْدَى
الْأَرْبَع وَكَذَا فِي رِوَايَة عباد بن عباد فِي
أَوَائِل الْمَوَاقِيت وَلَفظه " أَمركُم بِأَرْبَع ونهاكم
عَن أَربع الْإِيمَان بِاللَّه ثمَّ فَسرهَا لَهُم
شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا
رَسُول الله " الحَدِيث وَهَذَا أَيْضا يدل على أَنه عد
الشَّهَادَتَيْنِ من الْأَرْبَع لِأَنَّهُ أعَاد الضَّمِير
فِي قَوْله ثمَّ فَسرهَا مؤنثا فَيَعُود على الْأَرْبَع
وَلَو أَرَادَ تَفْسِير لأعاده مذكرا قلت أجَاب عَنهُ
القَاضِي وَابْن بطال بِأَنَّهُ عد الْأَرْبَع الَّتِي
وعدهم ثمَّ زادهم خَامِسَة وَهِي أَدَاء الْخمس لأَنهم
كَانُوا مجاورين لكفار مُضر وَكَانُوا أهل جِهَاد
وَغَنَائِم قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ الصَّحِيح وَقَالَ
الْكرْمَانِي لَيْسَ الصَّحِيح ذَلِك هَهُنَا لِأَن
البُخَارِيّ عقد الْبَاب على أَن أَدَاء الْخمس من
الْإِيمَان فَلَا بُد أَن يكون دَاخِلا تَحت أَجزَاء
الْإِيمَان كَمَا أَن ظَاهر الْعَطف يَقْتَضِي ذَلِك بل
الصَّحِيح مَا قيل أَنه لم يَجْعَل الشَّهَادَة
بِالتَّوْحِيدِ وبالرسالة من الْأَرْبَع لعلمهم بذلك
وَإِنَّمَا أَمرهم بِأَرْبَع لم يكن فِي علمهمْ أَنَّهَا
دعائم الْإِيمَان قلت لَو اطلع الْكرْمَانِي على رِوَايَة
حَمَّاد بن زيد عَن أبي جَمْرَة وَرِوَايَة عباد لما نفى
الصَّحِيح وَأثبت غير الصَّحِيح وَالتَّعْلِيل الَّذِي
علله
(1/307)
هُوَ السُّؤَال الَّذِي أجَاب عَنهُ ابْن
رشد فَإِن قلت قد وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي
الزَّكَاة " وَشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " بواو
الْعَطف قلت هَذِه زِيَادَة شَاذَّة لم يُتَابع عَلَيْهَا
قَوْله " وَأَن تعطوا " عطف على قَوْله " بِأَرْبَع " أَي
أَمركُم بِأَرْبَع وَبِأَن تعطوا وَأَن مَصْدَرِيَّة
وَالتَّقْدِير وبإعطاء الْخمس من الْمغنم قَوْله " ونهاهم
" عطف على قَوْله أَمرهم قَوْله " عَن الحنتم " بدل من
قَوْله عَن أَربع وَمَا بعده عطف وَفِيه الْمُضَاف
مَحْذُوف تَقْدِيره ونهاهم عَن نَبِيذ الحنتم والدباء
قَوْله " وَرُبمَا " كلمة رب هَهُنَا للتقيل وَإِذا زيدت
عَلَيْهَا مَا فالغالب أَن تكفها عَن الْعَمَل وَأَن
تهيئها للدخول على الْجمل الفعلية وَأَن يكون الْفِعْل
مَاضِيا لفظا وَمعنى فَإِن قلت مَا تَقول فِي قَوْله
تَعَالَى {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا} قلت هُوَ مؤول
بالماضي على حد قَوْله تَعَالَى 0 وَنفخ فِي الصُّور}
قَوْله " وأخبروا بِهن " بِفَتْح الْهمزَة قَوْله " من
وَرَائِكُمْ " مفعول ثَان لَا خبروا وَمن بِفَتْح الْمِيم
مَوْصُولَة مُبْتَدأ وَقَوله وراءكم خَبره والتقدبر أخبروا
الَّذين كَانُوا وراءكم واستقروا وَرِوَايَة البُخَارِيّ
بِفَتْح من كَمَا ذكرنَا وَكَذَا رِوَايَة مُسلم من طَرِيق
ابْن المثني وَغَيره وَوَقع لَهُ من طَرِيق ابْن أبي شيبَة
من وَرَائِكُمْ بِكَسْر الْمِيم والهمزة (بَيَان
الْمعَانِي) قَوْله " كنت اقعد مَعَ ابْن عَبَّاس رَضِي
الله عَنْهُمَا " يَعْنِي زمن ولَايَته الْبَصْرَة من قبل
عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ. وَوَقع فِي رِوَايَة
البُخَارِيّ فِي الْعلم بَيَان السَّبَب فِي إكرام ابْن
عَبَّاس لأبي جَمْرَة وَهُوَ " كنت أترجم بَين ابْن
عَبَّاس وَبَين النَّاس " وَفِي مُسلم " كنت بَين يَدي
ابْن عَبَّاس وَبَين النَّاس " فَقيل أَن لَفظه يَدي
زَائِدَة وَقيل بَينه مُرَاده مقدرَة أبي بَيِّنَة وَبَين
النَّاس قَوْله " أترجم " من التَّرْجَمَة وَهِي
التَّعْبِير بلغَة عَن لُغَة لمن لَا يفهم فَقيل كَانَ
يتَكَلَّم بِالْفَارِسِيَّةِ وَكَانَ يترجم لِابْنِ
عَبَّاس عَمَّن تكلم بهَا وَقَالَ ابْن الصّلاح وَعِنْدِي
أَنه كَانَ يبلغ كَلَام ابْن عَبَّاس إِلَى من خَفِي
عَلَيْهِ من النَّاس أما الزحام أَو لاختصار يمْنَع من
فهمه وَلَيْسَت التَّرْجَمَة مَخْصُوصَة بتفسير لُغَة
بلغَة أُخْرَى فقد أطْلقُوا على قَوْلهم بَاب كَذَا اسْم
التَّرْجَمَة لكَونه يعبر عَمَّا يذكرهُ بعد قَالَ
النَّوَوِيّ وَالظَّاهِر أَنه يفهمهم عَنهُ ويفهمه عَنْهُم
وَقَالَ القَاضِي فِيهِ جَوَاز التَّرْجَمَة وَالْعَمَل
بهَا وَجَوَاز المترجم الْوَاحِد لِأَنَّهُ من بَاب
الْخَبَر لَا من بَاب الشَّهَادَة على الْمَشْهُور قلت
قَالَ أَصْحَابنَا وَالْوَاحد يَكْفِي للتزكية والرسالة
والترجمة لِأَنَّهَا خبر وَلَيْسَت بِشَهَادَة حَقِيقَة
وَلِهَذَا لَا يشْتَرط لَفْظَة الشَّهَادَة قَوْله " أَن
وَفد عبد الْقَيْس " قَالَ النَّوَوِيّ كَانُوا أَرْبَعَة
عشر رَاكِبًا كَبِيرهمْ الْأَشَج وسمى مِنْهُم صَاحب
التَّحْرِير وَصَاحب مَنْهَج الراغبين شارحا مُسلم
ثَمَانِيَة أنفس الأول رئيسهم وَكَبِيرهمْ الْأَشَج واسْمه
المندر بن عَائِذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بن الْمُنْذر بن
الْحَارِث بن النُّعْمَان بن زِيَاد بن عصر كَذَا نسبه
أَبُو عمر وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ المندر بن عَوْف بن
عَمْرو بن زِيَاد بن عصر وَكَانَ سيد قومه قلت عصر بِفَتْح
الْمُهْمَلَتَيْنِ بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن بكر بن
عَوْف بن أَنْمَار بن عَمْرو بن وَدِيعَة بن لكيز بِضَم
اللَّام وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة بن افصى بِالْفَاءِ بن
عبد الْقَيْس بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار
وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْأَشَج لأثر كَانَ فِي وَجهه الثَّانِي عَمْرو بن
المرجوم بِالْجِيم وَاسم المرجوم عَامر بن عَمْرو بن عدي
بن عَمْرو بن قيس بن شهَاب بن زيد بن عبد الله بن زِيَاد
بن عصر كَانَ من أَشْرَاف الْعَرَب وساداتها الثَّالِث
عبيد بن همام بن مَالك بن همام الرَّابِع الْحَارِث بن
شُعَيْب الْخَامِس مزيدة بن مَالك السَّادِس منقذ بن حبَان
السَّابِع الْحَارِث بن حبيب العايشي بِالْمُعْجَمَةِ
الثَّامِن صحار بِضَم الصَّاد وَتَخْفِيف الْحَاء وَفِي
آخِره رَاء كلهَا مهملات وَقَالَ صَاحب التَّحْرِير لم
أظفر بعد طول التتبع لأسماء البَاقِينَ قلت السِّتَّة
الْبَاقِيَة على مَا ذكرُوا هم عتبَة بن حروة والجهيم بن
قثم والرسيم الْعَدْوى وجويرة الْكِنْدِيّ والزارع بن
عَائِد الْعَبْدي وَقيس بن النُّعْمَان وَقَالَ
الْبَغَوِيّ فِي مُعْجمَة حَدثنِي زِيَاد بن أَيُّوب ثَنَا
إِسْحَاق بن يُوسُف انبأنا عَوْف عَن أبي القموس زيد بن
عَليّ حَدِيث الْوَفْد الَّذين وفدوا على رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم من عبد الْقَيْس وَفِيه قَالَ
النُّعْمَان بن قيس " سألناه عَن أَشْيَاء حَتَّى سألناه
عَن الشَّرَاب فَقَالَ لَا تشْربُوا من دباء وَلَا حنتم
وَلَا فِي نقير وَاشْرَبُوا فِي الْحَلَال الموكي عَلَيْهِ
فَإِن اشْتَدَّ عَلَيْكُم فاكسروا بِالْمَاءِ فَإِن أعياكم
فاهريقوه " الحَدِيث فَإِن قلت روى ابْن مَنْدَه ثمَّ
الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق هود العصري عَن جده لِأَنَّهُ
مزيدة قَالَ " بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يحدث أَصْحَابه إِذا قَالَ لَهُم سيطلع لكم من هَذَا
الْوَجْه ركب هُوَ خير أهل الْمشرق فَقَامَ عمر رَضِي الله
عَنهُ فلقي ثَلَاثَة عشر رَاكِبًا فَرَحَّبَ وَقرب من
الْقَوْم وَقَالَ من الْقَوْم قَالُوا وَفد عبد الْقَيْس
وروى الدولابي
(1/308)
وَغَيره من طَرِيق أبي خيرة بِفَتْح
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَبعدهَا الرَّاء الصباحي بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف حاء مُهْملَة
نِسْبَة إِلَى الصَّباح بن لكيز بن افصى بن عبد الْقَيْس
قَالَ " كنت فِي الْوَفْد الَّذين اتوا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رجلا فنهانا عَن
الدُّبَّاء والنقير " الحَدِيث قلت أجَاب بَعضهم عَن الأول
بِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون أحد الْمَذْكُورين غير رَاكب
وَعَن الثَّانِي بِأَن الثَّلَاثَة عشر كَانُوا رُؤُوس
الْوَفْد قلت هَذَا عَجِيب مِنْهُ لِأَنَّهُ لم يسلم
التَّنْصِيص على الْعدَد الْمَذْكُور فَكيف يوفق بَينه
وَبَين ثَلَاثَة عشر وَأَرْبَعين حَتَّى قَالَ وَقد وَقع
فِي جملَة من الْأَخْبَار ذكر جمَاعَة من عبد الْقَيْس فعد
مِنْهُم أَخا الزَّارِع وَابْن مطر وَابْن أَخِيه وشمرخا
السَّعْدِيّ وَقَالَ روى حَدِيثه ابْن السكن وَأَنه قدم
مَعَ وَفد عبد الْقَيْس وجذيمة بن عَمْرو وَجَارِيَة
بِالْجِيم ابْن جاب وَهَمَّام بن ربيعَة وَقَالَ ذكرهم
ابْن شاهين ونوح بن مخلد جد أبي جَمْرَة الصباحي قلت وَمن
الَّذين كَانُوا فِي الْوَفْد الْأَعْوَر بن مَالك بن عمر
ابْن عَوْف بن عَامر بن ذبيان بن الديل بن صباح وَكَانَ من
أَشْرَاف عبد الْقَيْس وشجعانهم فِي الْجَاهِلِيَّة قَالَ
أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ وَكَانَ مِمَّن وَفد على
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم مَعَ الْأَشَج
ذكره الرشاطي وَمِنْهُم الْقَائِف وَإيَاس ابْنا عِيسَى بن
أُميَّة بن ربيعَة بن عَامر بن دبيان بن الديل بن صباح
وَكَانَا من سَادَات بني صباح وَمِنْهُم شريك بن عبد
الرَّحْمَن والْحَارث بن عِيسَى وَعبد الله بن قيس والذراع
بن عَامر وَعِيسَى بن عبد الله كَانُوا مَعَ الَّذين وفدوا
على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ الْأَشَج
ذكرهم كلهم أَبُو عُبَيْدَة وَمِنْهُم ربيعَة بن خرَاش
ذكره الْمَدَائِنِي وَقَالَ أَنه وَفد وَمِنْهُم محَارب بن
مرْثَد وفدوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَعَ وَفد عبد الْقَيْس ذكره ابْن الْكَلْبِيّ وَمِنْهُم
عباد بن نَوْفَل بن خِدَاش وَابْنه عبد الرَّحْمَن بن عباد
وَعبد الرَّحْمَن بن حَيَّان وَأَخُوهُ الحكم بن حَيَّان
وَعبد الرَّحْمَن بن أَرقم وفضالة بن سعد وَحسان ابْن
يزِيد وَعبد الله بن همام وَسعد بن عمر وَعبد الرَّحْمَن
بن همام وَحَكِيم بن عَامر وَأَبُو عَمْرو بن شييم كلهم
وفدوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا من
سَادَات عبد الْقَيْس وأشرافها وفرسانها ذكرهم أَبُو
عُبَيْدَة فَهَؤُلَاءِ اثْنَان وَعِشْرُونَ رجلا زِيَادَة
على مَا ذكره هَذَا الْقَائِل فجملة الْجمع تكون خَمْسَة
وَأَرْبَعين نفسا فَعلمنَا أَن التَّنْصِيص على عدد معِين
لم يَصح وَلِهَذَا لم يُخرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
بِالْعدَدِ الْمعِين وَكَانَ سَبَب قدومهم أَن منقذ بن
حبَان أحد بن غنم بن وَدِيعَة كَانَ يتجر إِلَى يثرب
بملاحف وتمر من هجر بعد الْهِجْرَة فَمر بِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَنَهَضَ منقذ إِلَيْهِ فَقَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " يَا منقذ ابْن حبَان كَيفَ جمع
قَوْمك ثمَّ سَأَلَهُ عَن أَشْرَافهم يسميهم فَأسلم منقذ
وَتعلم الْفَاتِحَة وَأقر أَثم رَحل إِلَى هجر فَكتب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جمَاعَة عبد
الْقَيْس فكتمه ثمَّ اطَّلَعت عَلَيْهِ امْرَأَته وَهِي
بنت الْمُنْذر بن عَائِد وَهُوَ الْأَشَج الْمَذْكُور
وَكَانَ منقذ يُصَلِّي وَيقْرَأ فَذكرت لأَبِيهَا فتلاقيا
فَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبه ثمَّ سَار الْأَشَج إِلَى
قومه عصر ومحارب بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِم فَوَقع الْإِسْلَام فِي قُلُوبهم
وَأَجْمعُوا على الْمسير إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَسَار الْوَفْد فَلَمَّا دنوا من
الْمَدِينَة قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "
أَتَاكُم وَفد عبد الْقَيْس خير أهل الْمشرق وَفِيهِمْ
الْأَشَج العصري غير ناكبين وَلَا مبدلين وَلَا مرتابين
إِذا لم يسلم قوم حَتَّى وتروا قَالَ القَاضِي كَانَ
وفودهم عَام الْفَتْح قبل خُرُوج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة قَوْله " قَالُوا ربيعَة "
فِيهِ التَّعْبِير بِالْبَعْضِ عَن الْكل لأَنهم بعض
ربيعَة وَيدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى
وَهِي طَرِيق عباد بن عباد عَن أبي جَمْرَة فَقَالُوا "
أَنا هَذَا الْحَيّ من ربيعَة " أخرجهَا البُخَارِيّ فِي
الصَّلَاة وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا والحي مَنْصُوب على
الِاخْتِصَاص قَوْله " غير خزايا وَلَا ندامى " مَعْنَاهُ
لم يكن مِنْكُم تَأَخّر الْإِسْلَام وَلَا أَصَابَكُم قتال
وَلَا سبي وَلَا أسر وَمَا أشبهه مِمَّا تستحيون مِنْهُ
أَو تذلون أَو تفضحون بِسَبَبِهِ أَو تَنْدمُونَ عَلَيْهِ
وَهَذَا يدل على أَنهم أَسْلمُوا قبل وفودهم إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا
قَوْلهم يَا رَسُول الله وَيدل أَيْضا على تقدم إسْلَامهمْ
على قبائل مُضر الَّذين كَانُوا بَينهم وَبَين الْمَدِينَة
وَكَانَت مساكنهم بِالْبَحْرَيْنِ وَمَا والاها من
أَطْرَاف الْعرَاق وَلِهَذَا قَالُوا فِي رِوَايَة شُعْبَة
عِنْد البُخَارِيّ فِي الْعلم " أَنا نَأْتِيك من شقة
بعيدَة " أَن أول جُمُعَة جمعت بعد جُمُعَة مَسْجِد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس
بجواثي من الْبَحْرين " وَهِي بِضَم الْجِيم وَبعد الْألف
ثاء مُثَلّثَة مَفْتُوحَة وَهِي قَرْيَة مَشْهُورَة
(1/309)
لَهُم فِي الْمطَالع جواثي بواو ومخففة
وَمِنْهُم من يهمزها وَهِي مَدِينَة وَإِنَّمَا جمعت بعد
رُجُوع وفدهم إِلَيْهِم فَدلَّ على أَنهم سبقوا جَمِيع
المدن إِلَى الْإِسْلَام وَجَاء فِي هَذَا الْخَبَر " أَن
وَفد عبد الْقَيْس لما وصلوا إِلَى الْمَدِينَة بَادرُوا
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ الْأَشَج
فَجمع رِجَالهمْ وعقل نَاقَته وَلبس ثيابًا جددا ثمَّ أقبل
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَجْلسهُ إِلَى
جَانِبه ثمَّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
لَهُم تُبَايِعُونِي على أَنفسكُم وقومكم فَقَالَ الْقَوْم
نعم فَقَالَ الْأَشَج يَا رَسُول الله إِنَّك لن تزايل
الرجل عَن شَيْء أَشد عَلَيْهِ من دينه نُبَايِعك على
أَنْفُسنَا وَترسل مَعنا من يَدعُوهُم فَمن اتبع كَانَ منا
وَمن أبي قَاتَلْنَاهُ قَالَ صدقت إِن فِيك لخصلتين يحبهما
الله الْحلم والإناة " وَجَاء فِي مُسْند أبي يعلى الْموصل
" أكانا فِي أم حَدثا قَالَ بل قديم قلت الْحَمد لله
الَّذِي جعلني على خلقين يحبهما الله تَعَالَى " والأناة
بِفَتْح الْهمزَة مَقْصُورَة قَالَ الْجَوْهَرِي الأناة
على وزن قناة يُقَال تأنى فِي الْأَمر أَن توقف وانتطر
وَرجل آن على وزن فَاعل أَي كثير الأناة وَقَالَ القَاضِي
آنيت ممدودا وأنيت وتأنيت وَزَاد غَيره اسْتَأْنَيْت وَاصل
الْحلم بِالْكَسْرِ الْعقل (بَيَان استنباط الْأَحْكَام)
وَهُوَ على وُجُوه الأول فِيهِ وفادة الرؤساء إِلَى
الْأَئِمَّة عِنْد الْأُمُور المهمة الثَّانِي قَالَ ابْن
التِّين يستنبط من وقله " اجْعَل لَك سَهْما من مَالِي "
على جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على التَّعْلِيم الثَّالِث
فِيهِ استعانة الْعَالم فِي تفهيم الْحَاضِرين والفهم
عَنْهُم كَمَا فعله ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
الرَّابِع فِيهِ اسْتِحْبَاب قَول مرْحَبًا للزوار
الْخَامِس فِيهِ أَنه يَنْبَغِي أَن يحث النَّاس على
تَبْلِيغ الْعلم. السَّادِس فِيهِ الْأَمر
بِالشَّهَادَتَيْنِ. السَّابِع فِيهِ الْأَمر
بِالصَّلَاةِ. الثَّامِن فِيهِ الْأَمر بأَدَاء الزَّكَاة.
التَّاسِع فِيهِ الْأَمر بصيام شهر رَمَضَان. الْعَاشِر
فِيهِ وجوب الْخمس فِي الْغَنِيمَة قلت أم كثرت وَإِن لم
يكن الإِمَام فِي السّريَّة الغازية. الْحَادِي عشر
النَّهْي عَن الانتباذ فِي الْأَوَانِي الْأَرْبَع وَهِي
أَن تجْعَل فِي المَاء حبا من تمر أَو زبيب أَو نَحْوهمَا
ليحلو وَيشْرب لِأَنَّهُ يسْرع فِيهَا الاسكار فَيصير
حَرَامًا وَلم ينْه عَن الانتباذ فِي أسقية الْأدم بل أذن
فِيهَا لِأَنَّهَا لرقتها لَا يبْقى فِيهَا الْمُسكر بل
إِذا صَار مُسكر أشقها غَالِبا ثمَّ إِن هَذَا النَّهْي
كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام ثمَّ نسخ فَفِي صَحِيح
مُسلم من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " كنت
نَهَيْتُكُمْ عَن الانتباذ إِلَّا فِي الأسقية فانتبذوا
فِي كل وعَاء وَلَا تشْربُوا مُسكرا " وَهُوَ مَذْهَب أبي
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور وَذَهَبت طَائِفَة
إِلَى أَن النَّهْي بَاقٍ مِنْهُم مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق
حَكَاهُ الْخطابِيّ عَنْهُم قَالَ وَهُوَ مروى عَن عمر
وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَذكر ابْن عَبَّاس
هَذَا الحَدِيث لما استفتى دَلِيل على أَنه يعْتَقد
النَّهْي وَلم يبلغهُ النَّاسِخ وَالصَّوَاب الْجَزْم
بِالْإِبَاحَةِ لتصريح النّسخ. الثَّانِي عشر فِيهِ دَلِيل
على عدم كَرَاهَة قَول رَمَضَان من غير تَقْيِيد بالشهر.
الثَّالِث عشر فِيهِ أَنه لَا عيب عل الطَّالِب للعلوم أَو
المستفتي أَن يَقُول للْعَالم أوضح لي الْجَواب وَنَحْو
هَذِه الْعبارَة الرَّابِع عشر فِيهِ ندب الْعَالم إِلَى
إكرام الْفَاضِل الْخَامِس عشر فِيهِ أَن الثَّنَاء على
الْإِنْسَان فِي وَجهه لَا يكره إِذا لم يخف فِيهِ بإعجاب
وَنَحْوه السَّادِس عشر فِيهِ دَلِيل على أَن الْإِيمَان
وَالْإِسْلَام بِمَعْنى وَاحِد لِأَنَّهُ فسر الْإِسْلَام
فِيمَا مضى بِمَا فسر الْإِيمَان هَهُنَا السَّابِع عشر
فِيهِ أَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة إِذا قبلت تدخل
صَاحبهَا الْجنَّة الثَّامِن عشر أَنه يبْدَأ بالسؤال عَن
الأهم التَّاسِع عشر فِيهِ دَلِيل على الْعذر عِنْد
الْعَجز عَن تَوْفِيَة الْحق وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا
قَالَه ابْن أبي جَمْرَة الْعشْرُونَ فِيهِ الِاعْتِمَاد
على أَخْبَار الْآحَاد كَمَا ذَكرْنَاهُ (الأسئلة
والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل أَن قَوْله كنت فعل ماضي
وَقَوله اقعد للْحَال أَو للاستقبال فَمَا وَجه الْجمع
بَينهمَا أُجِيب بِأَن أقعد حِكَايَة عَن الْحَال
الْمَاضِيَة فَهُوَ مَاض وَذكر بِلَفْظ الْحَال استحضار
لتِلْك الصُّورَة للحاضرين وَمِنْهَا مَا قيل كَيفَ قَالَ
أَمرهم بِأَرْبَع ثمَّ قَالَ أَمرهم بِالْإِيمَان أُجِيب
بِأَن الْإِيمَان بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء الْأَرْبَعَة
صَحَّ إِطْلَاق الْأَرْبَع عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا قيل لم
لم يذكر الْحَج وَهُوَ أَيْضا من أَرْكَان الدّين أُجِيب
بأجوبة. الأول إِنَّمَا ترك ذكره لكَونه على التَّرَاخِي
وَهَذَا لَيْسَ بجيد لِأَن كَونه على التَّرَاخِي لَا
يمْنَع من الْأَمر بِهِ وَفِيه خلاف بَين الْفُقَهَاء
فَعِنْدَ أبي يُوسُف وُجُوبه على الْفَوْر وَهُوَ مَذْهَب
مَالك أَيْضا وَمذهب أَحْمد أَنه على التَّرَاخِي وَهُوَ
مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَن فرض الْحَج كَانَ بعد
الْهِجْرَة وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
قَادر على الْحَج فِي سنة ثَمَان وَفِي سنة تسع وَلم يحجّ
إِلَّا فِي عشر وَأجِيب بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام
كَانَ عَالما بإدراكه فَلذَلِك أَخّرهُ بِخِلَاف غَيره
مَعَ وُرُود الْوَعيد فِي تَأْخِيره بعد الْوُجُوب.
الثَّانِي إِنَّمَا تَركه لشهرته عِنْدهم وَهَذَا أَيْضا
(1/310)
لَيْسَ بجيد لِأَنَّهُ عِنْد غَيرهم أشهر
مِنْهُ عِنْدهم. الثَّالِث إِنَّمَا تَركه لِأَنَّهُ لم
يكن لَهُم سَبِيل إِلَيْهِ من أجل كفار مُضر وَهَذَا
أَيْضا لَيْسَ بجيد لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم
الِاسْتِطَاعَة ترك الْأَخْبَار بِهِ ليعْمَل بِهِ عِنْد
الْإِمْكَان على أَن الدَّعْوَى أَنهم كَانُوا إِلَّا
سَبِيل لَهُم إِلَى الْحَج بَاطِلَة لِأَن الْحَج يقه فِي
الْأَشْهر الْحرم وَقد ذكرُوا أَنهم كَانُوا يأمنون فِيهَا
لَكِن يُمكن أَن يُقَال إِنَّمَا أخْبرهُم بِبَعْض
الْأَوَامِر لكَوْنهم سَأَلُوهُ أَن يُخْبِرهُمْ بِمَا
يدْخلُونَ بِهِ الْجنَّة فاقتصر فِي المناهى عَن الانتباذ
فِي الأوعية لِكَثْرَة تعاطيهم لَهَا. الرَّابِع وَهُوَ
الْمُتَعَمد عَلَيْهِ مَا أجَاب بِهِ القَاضِي عِيَاض من
أَن السَّبَب فِي كَونه لم يذكر الجح لِأَنَّهُ لم يكن فرض
لِأَن قدومهم كَانَ فِي سنة ثَمَان قبل فتح مَكَّة وَالْحج
فرض فِي سنة تسع فَإِن قلت الْأَصَح أَن الْحَج فرض سنة
سِتّ وقدومهم فِي سنة ثَمَان أَو عَام الْفَتْح كَمَا نقل
عَنهُ وَقد ذَكرْنَاهُ قلت اعْتِمَاد القَاضِي على أَنه
فرض فِي سنة تسع فَإِن قلت أخرج الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن
الْكَبِير من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أبي زيد الْهَرَوِيّ
عَن قُرَّة فِي هَذَا الحَدِيث وَفِيه ذكر الْحَج وَلَفظه
" وتحجوا الْبَيْت الْحَرَام " وَلم يتَعَرَّض لعدد قلت
هَذِه رِوَايَة شَاذَّة وَقد أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم
وَمن استخرج عَلَيْهِمَا وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة
من طَرِيق قُرَّة وَلم يذكر أحد مِنْهُم الْحَج. وَمِنْهَا
مَا قيل لم عدل عَن لفظ الْمصدر الصَّرِيح فِي قَوْله "
وَأَن تعطوا من الْمغنم " إِلَى مَا فِي معنى الْمصدر
وَهِي أَن مَعَ الْفِعْل أُجِيب بِأَنَّهُ للإشعار
بِمَعْنى التجدد الَّذِي للْفِعْل لِأَن سَائِر الْأَركان
كَانَت ثَابِتَة قبل ذَلِك بِخِلَاف إِعْطَاء الْخمس فَإِن
فرضيته كَانَت متجددة وَمِنْهَا مَا قيل لم خصصت الأوعية
الْمَذْكُورَة بالنهى أُجِيب بِأَنَّهُ يسْرع إِلَيْهِ
الاسكار فِيهَا فَرُبمَا شربه بعد إسكاره من لم يطلع
عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي
الْإِجْمَال بِالْعدَدِ قبل التَّفْسِير فِي قَوْله
بِأَرْبَع وَعَن أَربع أُجِيب لأجل تشويق النَّفس إِلَى
التَّفْصِيل لتسكن إِلَيْهِ ولتحصيل حفظهَا للسامع حَتَّى
إِذا نسي شَيْئا من تفاصيل مَا أجمل طلبته نَفسه
بِالْعدَدِ فَإِذا لم يسْتَوْف الْعدَد الَّذِي حفظه علم
أَنه قد فَاتَهُ بعض مَا سمع فَافْهَم وَالله أعلم
بِالصَّوَابِ
41 - (بَاب مَا جاءَ أنّ الأعْمَال بالنِّيَّةِ
والحِسْبَةِ ولِكُلِّ امرِىء مَا نَوَى)
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: التَّقْدِير: هَذَا
بَاب بَيَان مَا جَاءَ، وارتفاع الْبَاب على أَنه خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ مُضَاف إِلَى كلمة: مَا،
الَّتِي هِيَ مَوْصُولَة، وَأَن، مَفْتُوحَة فِي مَحل
الرّفْع على أَنَّهَا فَاعل جَاءَ، وَالْمعْنَى: مَا ورد
فِي الحَدِيث (إِن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . أخرجه
البُخَارِيّ هَهُنَا بِهَذَا اللَّفْظ على مَا يَأْتِي
الْآن، وَكَذَلِكَ أخرجه بِهَذَا اللَّفْظ فِي بَاب
هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرنَا
فِي أول الْكتاب أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث فِي سَبْعَة
مَوَاضِع عَن سَبْعَة شُيُوخ. وَقَوله: (وَلكُل امرىء مَا
نوى) من بعض هَذَا الحَدِيث وَقَوله: (والحسبة) لَيْسَ من
لفظ الحَدِيث أصلا، لَا من هَذَا الحَدِيث وَلَا من غَيره،
وَإِنَّمَا أَخذه من لَفْظَة: يحتسبها، الَّتِي فِي حَدِيث
أبي مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، الَّذِي ذكره فِي هَذَا
الْبَاب، فَإِن قلت: والحسبة، عطف على قَوْله:
بِالنِّيَّةِ، وداخل فِي حكمه، وَقَوله: مَا جَاءَ يَشْمَل
كليهمَا، وكل مِنْهُمَا يُؤذن بِأَنَّهُ من لفظ الحَدِيث
وَلَيْسَ كَذَلِك. قلت: لَا نسلم. أما الْمَعْطُوف فَلَا
يلْزم أَن يكون مشاركا للمعطوف عَلَيْهِ فِي جَمِيع
الْأَحْكَام، وَأما شُمُول قَوْله: مَا جَاءَ كلا
اللَّفْظَيْنِ، فَإِنَّهُ أَعم أَن يكون بِاللَّفْظِ
الْمَرْوِيّ بِعَيْنِه، أَو بِلَفْظ يدل عَلَيْهِ مَأْخُوذ
مِنْهُ، وَقَوله: الْحِسْبَة، إسم من قَوْله: يحتسبها،
الَّذِي ورد فِي حَدِيث أبي مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ،
فَحِينَئِذٍ دخلت هَذِه اللَّفْظَة تَحت قَوْله: مَا
جَاءَ. فَإِن قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن قَوْله: (وَلكُل
امرىء مَا نوى) من تَتِمَّة قَوْله: (الْأَعْمَال
بِالنِّيَّةِ) ، وَقَوله: (والحسبة) لَيْسَ مِنْهُ وَلَا
من غَيره بِهَذَا اللَّفْظ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول:
بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَلكُل امرىء
مَا نوى والحسبة. قلت: نعم كَانَ هَذَا مُقْتَضى
الظَّاهِر، وَلَكِن لما كَانَ لفظ: الْحِسْبَة، من
الاحتساب، وَهُوَ: الْإِخْلَاص، كَانَ ذكره عقيب النِّيَّة
أمسّ من ذكره عقيب قَوْله: (وَلكُل امرىء مَا نوى) ، لِأَن
النِّيَّة إِنَّمَا تعْتَبر إِذا كَانَت بالإخلاص. قَالَ
الله تَعَالَى: {مُخلصين لَهُ الدّين} وَجَوَاب آخر،
وَهُوَ: أَنه عقد هَذَا الْبَاب على ثَلَاث تراجم: الأولى:
هِيَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَالثَّانيَِة: هِيَ
الْحِسْبَة، وَالثَّالِثَة: هِيَ قَول: (وَلكُل امرىء مَا
نوى) . وَلِهَذَا أخرج فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة
أَحَادِيث، لكل تَرْجَمَة حَدِيث، فَحَدِيث عمر، رَضِي
الله عَنهُ، لقَوْله: (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) وَحَدِيث
أبي مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لقَوْله:
(والحسبة) وَحَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ
لقَوْله: (وَلكُل امرىء مَا نوى) . فَلَو أخر لفظ:
الْحِسْبَة، إِلَى آخر الْكَلَام، وَذكره عقيب قَوْله:
(1/311)
(وَلكُل امرىء مَا نوى) ، كَانَ يفوت قَصده
التَّنْبِيه على ثَلَاث تراجم، وَإِنَّمَا كَانَ يفهم
مِنْهُ ترجمتان: الأولى: من قَوْله (الْأَعْمَال
بِالنِّيَّةِ وَلكُل امرىء مَا نوى) وَالثَّانيَِة: من
قَوْله (والحسبة) فَانْظُر إِلَى هَذِه النكات، هَل ترى
شارحا ذكرهَا أَو حام حولهَا؟ وكل ذَلِك بالفيض الإل هِيَ
والعناية الرحمانية.
الْوَجْه الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ
من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ
الْأَعْمَال الَّتِي يدْخل بهَا العَبْد الْجنَّة، وَلَا
يكون الْعَمَل عملا إلاَّ بِالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص،
فَلذَلِك ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب الْمَذْكُور.
وَأَيْضًا فَالْبُخَارِي أَدخل الْإِيمَان فِي جملَة
الْأَعْمَال، فَيشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، وَهُوَ
اعْتِقَاد الْقلب بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
(الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ
البُخَارِيّ الرَّد على المرجئة: أَن الْإِيمَان قَول
بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب، أَلا يرى إِلَى تأكيده
بقوله: (فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله) إِلَى
آخر الحَدِيث.
الْوَجْه الثَّالِث: إِن الْحِسْبَة، بِكَسْر الْحَاء
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، اسْم من الاحتساب،
وَالْجمع: الْحسب. يُقَال: احتسبت بِكَذَا أجرا عِنْد
الله، أَي: اعتددته أنوي بِهِ وَجه الله تَعَالَى. وَمِنْه
قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (من صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا
واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . وَفِي حَدِيث عمر،
رَضِي الله عَنهُ: (يَا أَيهَا النَّاس! احتسبوا
أَعمالكُم، فَإِن من احتسب عمله كتب لَهُ أجر عمله وَأجر
حسبته) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: احتسبت بِكَذَا
أجرا عِنْد الله، وَالِاسْم: الْحِسْبَة، بِالْكَسْرِ،
وَهِي الْأجر. وَكَذَا قَالَ فِي (الْعباب) : الْحِسْبَة
بِالْكَسْرِ: الْأجر، وَيُقَال: إِنَّه يحسن الْحِسْبَة
فِي الْأَمر: إِذا كَانَ حسن التَّدْبِير لَهُ والحسبة،
أَيْضا: من الْحساب. مِثَال: الْعقْدَة وَالركبَة، وَقَالَ
ابْن دُرَيْد: احتسبت عَلَيْهِ بِكَذَا، أَي: أنكرته
عَلَيْهِ. وَمِنْه: محتسب الْبَلَد، واحتسب فلَان ابْنا
أَو بِنْتا، إِذا مَاتَ وَهُوَ كَبِير، فَإِن مَاتَ
صَغِيرا قيل: افترطه. وَقَالَ ابْن السّكيت: احتسبت
فلَانا: اختبرت مَا عِنْده، وَالنِّسَاء يحتسبن مَا عِنْد
الرِّجَال لَهُنَّ: أَي يختبرن. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد
بالحسبة طلب الثَّوَاب. قلت: لم يقل أحد من أهل اللُّغَة:
إِن الْحِسْبَة طلب الثَّوَاب، بل مَعْنَاهَا مَا
ذَكرْنَاهُ من أَصْحَاب اللُّغَات، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ
أَيْضا مَا يشْعر بِمَعْنى الطّلب، وَإِنَّمَا الْحِسْبَة
هُوَ: الثَّوَاب، على مَا فسره الْجَوْهَرِي، وَالثَّوَاب:
هُوَ الْأجر على أَنه لَا يُفَسر بِهِ فِي كل مَوضِع، أَلا
ترى إِلَى حَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ: فَإِن فِيهِ أجر
حسبته، وَلَو فسرت الْحِسْبَة بِالْأَجْرِ فِي كل
الْمَوَاضِع يصير الْمَعْنى فِيهِ: كتب لَهُ أجر عمله
وَأجر أجره، وَهَذَا لَا معنى لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنى:
لَهُ أجر عمله وَأجر احتساب عمله، وَهُوَ إخلاصه فِيهِ.
أَو الْمَعْنى: من اعْتد عمله نَاوِيا، كتب لَهُ أجر عمله
وَأجر نِيَّته.
فَدَخَلَ فيهِ: الإيمانُ والوضُوء والصَّلاةُ والزَّكاةُ
والحَجُّ والصَّوْم والأحْكامُ
هَذَا من مقول البُخَارِيّ لَا من تَتِمَّة مَا جَاءَ،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ماصرح بِهِ فِي رِوَايَة ابْن
عَسَاكِر، فَقَالَ: قَالَ أَبُو عبد الله فَدخل فِيهِ
الْإِيمَان إِلَخ، وَالْمرَاد بِأبي عبد الله هُوَ:
البُخَارِيّ نَفسه. فَإِن قلت: مَا الْفَاء فِي قَوْله:
فَدخل؟ قلت: فَاء جَوَاب شَرط مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِذا
كَانَ الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ فَدخل فِيهِ الْإِيمَان
... الخ، وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى مَا تقدم من
قَوْله: بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ ...
الخ، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور.
ثمَّ اعْلَم أَنه ذكر هُنَا سَبْعَة أَشْيَاء:
الأول: الْإِيمَان، فَدَخَلُوا فِي ذَلِك على مَا ذهب
إِلَيْهِ البُخَارِيّ من أَن الْإِيمَان عمل، وَقد علم أَن
معنى الْإِيمَان إِمَّا التَّصْدِيق أَو معرفَة الله
تَعَالَى بِأَنَّهُ وَاحِد لَا شريك لَهُ، وكل مَا جَاءَ
من عِنْده حق، فَإِن كَانَ المُرَاد الأول فَلَا دخل
للنِّيَّة فِيهِ، لِأَن الشَّارِع قَالَ: الْأَعْمَال
بِالنِّيَّةِ، والأعمال حركات الْبدن، وَلَا دخل للقلب
فِيهِ. وَإِن كَانَ المُرَاد الثَّانِي، فدخول النِّيَّة
فِيهِ محَال، لِأَن معرفَة الله تَعَالَى، لَو توقفت على
النِّيَّة، مَعَ أَن النِّيَّة قصد الْمَنوِي بِالْقَلْبِ،
لزم أَن يكون عَارِفًا بِاللَّه قبل مَعْرفَته، وَهُوَ
محَال، وَلِأَن الْمعرفَة، وَكَذَا الْخَوْف والرجاء،
متميزة لله تَعَالَى بصورتها، وَكَذَا التَّسْبِيح
وَسَائِر الْأَذْكَار والتلاوة لَا يحْتَاج شَيْء مِنْهَا
إِلَى نِيَّة التَّقَرُّب.
الثَّانِي: الْوضُوء، فدخوله فِي ذَلِك على مذْهبه، وَهُوَ
مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَعَامة أَصْحَاب
الحَدِيث، وَعَن أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حييّ: لَا يدْخل، وَقَالُوا:
لَيْسَ الْوضُوء عبَادَة مُسْتَقلَّة، وَإِنَّمَا هِيَ
وَسِيلَة إِلَى الصَّلَاة. وَقَالَ الْخصم: ونوقضوا
بِالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ وَسِيلَة، وَقد اشْترط
الْحَنَفِيَّة النِّيَّة فِيهِ. قلت: هَذَا التَّعْلِيل
ينْتَقض بتطهير الثَّوْب وَالْبدن عَن الْخبث، فَإِنَّهُ
طَهَارَة، وَلم يشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، فَإِن قَالُوا:
الْوضُوء تَطْهِير حكمي ثَبت شرعا غير مَعْقُول، لِأَن لَا
يعقل فِي الْمحل نَجَاسَة تَزُول بِالْغسْلِ إِذْ
الْأَعْضَاء طَاهِرَة حَقِيقَة وَحكما، إِمَّا حَقِيقَة
فَظَاهر، وَأما حكما فَلِأَنَّهُ لَو صلى إِنْسَان وَهُوَ
حَامِل مُحدث جَازَت الصَّلَاة، وَإِذا ثَبت أَنه تعبدي،
وَحكم الشَّرْع بِالنَّجَاسَةِ فِي حق الصَّلَاة فَجَعلهَا
كالحقيقة، كَانَ مثل التَّيَمُّم، حَيْثُ جعل الشَّارِع
مَا لَيْسَ بمطهر حَقِيقَة مطهرا حكما، فَيشْتَرط فِيهِ
النِّيَّة كالتيمم، تَحْقِيقا لِمَعْنى التَّعَبُّد إِذْ
(1/312)
الْعِبَادَة لَا تتأدى بِدُونِ النِّيَّة،
بِخِلَاف غسل الْخبث، فَإِنَّهُ مَعْقُول لما فِيهِ من
إِزَالَة عين النَّجَاسَة عَن الْبدن أَو الثَّوْب، فَلَا
يتَوَقَّف على النِّيَّة. قُلْنَا: المَاء مطهر بطبعه
لِأَنَّهُ خلق مطهرا. قَالَ الله تَعَالَى: {وأنزلنا من
السَّمَاء مَاء طهُورا} (الْفرْقَان: 48) كَمَا أَنه مزيل
للنَّجَاسَة ومطهر بطبعه، وَإِذا كَانَ كَذَلِك تحصل
الطَّهَارَة بِاسْتِعْمَالِهِ، سَوَاء نوى أَو لم ينْو،
كالنار يحصل بهَا الإحراق، وَإِن لم يقْصد. وَالْحَدَث يعم
الْبدن لِأَنَّهُ غير متجزىء فيسري إِلَى الْجَمِيع،
وَلِهَذَا يُوصف بِهِ كُله، فَيُقَال: فلَان مُحدث،
كَسَائِر الصِّفَات، إِذْ لَيْسَ بعض الْأَعْضَاء أولى
بِالسّرَايَةِ من الْبَعْض، إِذْ لَو خصص بعض الْأَعْضَاء
بِالْحَدَثِ لخصَّ مَوضِع خُرُوج النَّجَاسَة بذلك،
لِأَنَّهُ أولى الْمَوَاضِع بِهِ لخُرُوج النَّجَاسَة
مِنْهُ، لكنه لم يخص، فَإِنَّهُ لَا يُقَال: مخرجه مُحدث،
فَإِذا لم يخص الْمخْرج بذلك فَغَيره أولى، وَإِذا ثَبت
أَن الْبدن كُله مَوْصُوف بِالْحَدَثِ كَانَ الْقيَاس غسل
كُله، إلاَّ أَن الشَّرْع اقْتصر على غسل الْأَعْضَاء
الْأَرْبَعَة الَّتِي هِيَ الْأُمَّهَات للأعضاء تيسيرا،
وَأسْقط غسل الْبَاقِي فِيمَا يكثر وُقُوعه، كالحدث
الْأَصْغَر، دفعا للْحَرج، وَفِيمَا عداهُ، وَهُوَ الَّذِي
لَا يكثر وجوده كالحدث الْأَكْبَر، مثل: الْجَنَابَة
وَالْحيض وَالنّفاس، أقرّ على الأَصْل حَيْثُ أوجب غسل
الْبدن فِيهَا، فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن مَا لَا يعقل
مَعْنَاهُ وصف كل الْبدن بِالنَّجَاسَةِ مَعَ كَونه
طَاهِرا حَقِيقَة، وَحكمهَا دون تَخْصِيص الْمخْرج،
وَكَذَا الِاقْتِصَار على غسل بعض الْبدن، وَهُوَ
الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة، بعد سرَايَة الْحَدث إِلَى
جَمِيع الْبدن غير مَعْقُول، وكونهما مِمَّا لَا يعقل لَا
يُوجب تَغْيِير صفة المطهر، فَبَقيَ المَاء مطهرا كَمَا
كَانَ، فيطهر مُطلقًا. وَالنِّيَّة لَو اشْترطت، إِنَّمَا
تشْتَرط للْفِعْل الْقَائِم بِالْمَاءِ وَهُوَ
التَّطْهِير، لَا الْوَصْف الْقَائِم بِالْمحل وَهُوَ
الْحَدث، لِأَنَّهُ ثَابت بِدُونِ النِّيَّة، وَقد بَينا
أَن المَاء، فِيمَا يقوم بِهِ من صفة التَّطْهِير، لَا
يحْتَاج إِلَى النِّيَّة، لِأَنَّهُ مطهر طبعا، فَيكون
التَّطْهِير بِهِ معقولاً، فَلَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة،
كَمَا لَا يحْتَاج فِي غسل الْخبث بِخِلَاف التُّرَاب،
فَإِنَّهُ غير مطهر بطبعه لكَونه ملوثا بالطبع، وَإِنَّمَا
صَار مطهرا شرعا حَال إِرَادَة الصَّلَاة بِشَرْط فقد
المَاء، فَإِذا وجدت نِيَّة إِرَادَة الصَّلَاة صَار
مطهرا، وَبعد إِرَادَة الصَّلَاة وصيرورته مطهرا شرعا
مستغن عَن النِّيَّة، كَمَا اسْتغنى المَاء عَنْهَا بِلَا
فرق بَينهمَا.
الثَّالِث: الصَّلَاة، وَلَا خلاف أَنَّهَا لَا تجوز
إِلَّا بِالنِّيَّةِ.
الرَّابِع: الزَّكَاة، فَفِيهَا تَفْصِيل، وَهُوَ: أَن
صَاحب النّصاب الحولي إِذا دفع زَكَاته إِلَى مستحقيها لَا
يجوز لَهُ ذَلِك إلاَّ بنية مُقَارنَة للْأَدَاء، أَو
عِنْد عزل مَا وَجب مِنْهَا تيسيرا لَهُ، وَأما إِذا كَانَ
لَهُ دين على فَقير فَأَبْرَأهُ عَنهُ، سقط زَكَاته عَنهُ
نوى بِهِ الزَّكَاة أَو لَا، وَلَو وهب دينه من فَقير،
وَنوى عَنهُ زَكَاة دين آخر على رجل آخر، أَو نوى زَكَاة
عين لَهُ، لَا يَصح. وَلَو غلب الْخَوَارِج على بَلْدَة
فَأخذُوا الْعشْر سقط عَن أَرْبَاب الْأَمْوَال بِخِلَاف
الزَّكَاة، فَإِن للْإِمَام أَن يَأْخُذهَا ثَانِيًا،
لِأَن التَّقْصِير هَهُنَا من جِهَة صَاحب المَال حَيْثُ
مر بهم، وَهُنَاكَ التَّقْصِير فِي الإِمَام حَيْثُ قصر
فيهم. وَقَالَت الشَّافِعِي: السُّلْطَان إِذا أَخذ
الزَّكَاة فَإِنَّهَا تسْقط وَلَو لم ينْو صَاحب المَال،
لِأَن السُّلْطَان قَائِم مقَامه. قلت: كَانَ يَنْبَغِي
على أصلهم أَن لَا تسْقط إلاَّ بِالنِّيَّةِ مِنْهُ، لِأَن
السُّلْطَان قَائِم مقَامه فِي دَفعهَا إِلَى
الْمُسْتَحقّين لَا فِي النِّيَّة، وَلَا حرج فِي
اشْتِرَاط النِّيَّة عِنْد أَخذ السُّلْطَان.
الْخَامِس: الْحَج، وَلَا خلاف فِيهِ أَنه لَا يجوز إلاَّ
بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ دَاخل فِي عُمُوم الحَدِيث. فَإِن
قلت: قَالَ الشَّافِعِي: إِذا نوى الْحَج عَن غَيره
ينْصَرف إِلَى حج نَفسه، ويجزيه عَن فَرْضه، وَقد ترك
الْعَمَل بِعُمُوم الحَدِيث. قلت: قَالَت الشَّافِعِيَّة:
أخرجه الشَّافِعِي من عُمُوم الحَدِيث بِحَدِيث شبْرمَة،
وَالْعَمَل بالخاص مقدم لِأَنَّهُ جمع بَين
الدَّلِيلَيْنِ، وَحَدِيث شبْرمَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
عَن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل وهناد بن السّري الْمَعْنى
وَاحِد. قَالَ إِسْحَاق: أَنبأَنَا عَبدة بن سُلَيْمَان
عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن عُرْوَة عَن سعيد
بن جُبَير: (عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة.
قَالَ: من شبْرمَة؟ قَالَ: أَخ لَهُ، أَو قريب لَهُ.
قَالَ: حججْت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: حج عَن نَفسك،
ثمَّ حج عَن شبْرمَة) . رُوَاته كلهم رجال مُسلم، إلاَّ
إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل شيخ أبي دَاوُد، وَقد وَثَّقَهُ
بَعضهم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح
لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب أصح مِنْهُ، وَقد أخرجه ابْن
مَاجَه أَيْضا فِي (سنَنه) وَجَاء فِي رِوَايَة
الْبَيْهَقِيّ: (فَاجْعَلْ هَذِه عَن نَفسك، ثمَّ حج عَن
شبْرمَة) . وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا: (هَذِه عَنْك،
وَحج عَن شبْرمَة) . وَقَالَ: فهم من هَذَا الحَدِيث: أَنه
لَا بُد من تَقْدِيم فرض نَفسه، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، واحتجت الْحَنَفِيَّة
بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم: (أَن امْرَأَة من خثعم
قَالَت: يَا رَسُول الله إِن أبي أَدْرَكته فَرِيضَة
الْحَج، وَإنَّهُ شيخ كَبِير لَا يسْتَمْسك على
الرَّاحِلَة، أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم حجي عَن أَبِيك) من
غير استفسار: هَل حججْت أم لَا؟ وَهَذَا أصح من حَدِيث
شبْرمَة، على أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: الصَّحِيح من
الرِّوَايَة: (اجْعَلْهَا فِي نَفسك ثمَّ حج عَن شبْرمَة)
قَالُوا: كَيفَ يَأْمُرهُ بذلك وَالْإِحْرَام
(1/313)
وَقع عَن الأول؟ قُلْنَا: يحْتَمل أَنه
كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين لم يكن الْإِحْرَام
لَازِما على مَا رُوِيَ عَن بعض الصَّحَابَة أَنه تحلل فِي
حجَّة الْوَدَاع عَن الْحَج بِأَفْعَال الْعمرَة، فَكَانَ
يُمكنهُ فسخ الأول وَتَقْدِيم حج نَفسه، والزيادات الَّتِي
رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ لم تثبت.
السَّادِس: الصَّوْم، فَفِيهِ خلاف، فمذهب عَطاء وَمُجاهد
وَزفر أَن الصَّحِيح الْمُقِيم فِي رَمَضَان لَا يحْتَاج
إِلَى نِيَّة، لِأَنَّهُ لَا يَصح فِي رَمَضَان النَّفْل
فَلَا معنى للنِّيَّة؟ وَعند الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة:
لَا بُد من النِّيَّة، غير أَن تعْيين الرمضانية لَيْسَ
بِشَرْط عِنْد الْحَنَفِيَّة، حَتَّى لَو صَامَ رَمَضَان
بنية قَضَاء أَو نذر عَلَيْهِ أَو تطوع أَنه يجزىء عَن فرض
رَمَضَان. فَإِن قلت: لِمَ قدم الْحَج على الصَّوْم؟ قلت:
بِنَاء على مَا ورد عِنْده فِي حَدِيث: (بني الْإِسْلَام
على خمس) . وَقد تقدم.
السَّابِع: الْأَحْكَام، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله:
الْأَحْكَام أَي: بِتَمَامِهَا، فَيدْخل فِيهِ تَمام
الْمُعَامَلَات والمناكحات والجراحات، إِذْ يشْتَرط فِي
كلهَا الْقَصْد إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَو سبق لِسَانه من
غير قصد إِلَى: بِعْت ورهنت وَطلقت ونكحت، لم يَصح شَيْء
مِنْهَا. قلت: كَيفَ يَصح أَن يُقَال: الْأَحْكَام
بِتَمَامِهَا، وَكثير مِنْهَا لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة،
بِخِلَاف بَين الْعلمَاء؟ فَإِن قَالَ هَذَا بِنَاء على
مذْهبه فمذهبه لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن القَاضِي أَبَا
الطّيب نقل عَن الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي أَن: مَن
صرح بِلَفْظ الطَّلَاق وَالظِّهَار وَالْعِتْق، وَلم يكن
لَهُ نِيَّة، يلْزمه فِي الحكم. وَكَذَلِكَ أَدَاء الدّين
ورد الودائع وَالْأَذَان والتلاوة والأذكار وَالْهِدَايَة
إِلَى الطَّرِيق وإماطة الْأَذَى عبادات كلهَا تصح بِلَا
نِيَّة إِجْمَاعًا. وَقَالَ بَعضهم: وَالْأَحْكَام أَي:
الْمُعَامَلَات الَّتِي يدْخل فِيهَا الِاحْتِيَاج إِلَى
المحاكمات فَيشْمَل الْبيُوع والأنكحة والأقارير
وَغَيرهَا. قلت. هَذَا أَيْضا مثل ذَلِك، فَإِن رد الودائع
فِيمَا تقع بِهِ فِيهِ المحاكمة، مَعَ أَن النِّيَّة لَيست
بِشَرْط فِيهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ أَدَاء الدّين.
فَإِن قلت: مؤدي الدّين أَو راد الْوَدِيعَة يقْصد
بَرَاءَة الذِّمَّة، وَذَلِكَ عبَادَة. قلت: نَحن لَا ندعي
أَن النِّيَّة لَا تُوجد فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء،
وَإِنَّمَا ندعي عدم اشْتِرَاطهَا، ومؤدي الدّين إِذا قصد
بَرَاءَة الذِّمَّة بَرِئت ذمَّته وَحصل بِهِ الثَّوَاب،
وَلَيْسَ لنا فِيهِ نزاع، وَإِذا أدّى من غير نِيَّة
بَرَاءَة الذِّمَّة، هَل يَقُول أحد إِن ذمَّته لَا تَبرأ.
وَقَالَ ابْن الْمُنِير: كل عمل لَا تظهر لَهُ فَائِدَة
عَاجلا، بل الْمَقْصُود بِهِ طلب الثَّوَاب، فالنية شَرط
فِيهِ، وكل عمل ظَهرت فَائِدَته ناجزة، وتقاضته الطبيعة،
فَلَا يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة، إلاَّ لمن قصد بِفِعْلِهِ
معنى آخر يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الثَّوَاب قَالَ: وَإِنَّمَا
اخْتلفت الْعلمَاء فِي بعض الصُّور لتحَقّق منَاط
التَّفْرِقَة. قَالَ: وَأما مَا كَانَ من الْمعَانِي
المختصة: كالخوف والرجاء، فَهَذَا لَا يُقَال فِيهِ
بِاشْتِرَاط النِّيَّة، لِأَنَّهُ لَا يُمكن إلاَّ منوياً
وَمَتى فرضت النِّيَّة مفقودة فِيهِ استحالت حَقِيقَته،
فالنية فِيهَا شَرط عَقْلِي، وَكَذَلِكَ لَا تشْتَرط
النِّيَّة للنِّيَّة فِرَارًا من التسلسل.
قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: فِي قَوْله: كل عمل لَا
يظْهر لَهُ فَائِدَة، فَإِنَّهُ منقوض بِتِلَاوَة
الْقُرْآن وَالْأَذَان وَسَائِر الْأَذْكَار. فَإِنَّهَا
أَعمال لَا تظهر لَهَا فَائِدَة عَاجلا، بل الْمَقْصُود
مِنْهَا طلب الثَّوَاب، مَعَ أَن النِّيَّة لَيست بِشَرْط
فِيهَا بِلَا خلاف. الثَّانِي: فِي قَوْله: وكل عمل ظَهرت.
إِلَى آخِره. فَإِنَّهُ منقوض أَيْضا بِالْبيعِ وَالرَّهْن
وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح بسبق اللِّسَان من غير قصد،
فَإِنَّهُ منقوض لم يَصح شَيْء مِنْهَا على أصلهم لعدم
النِّيَّة. الثَّالِث: فِي قَوْله: وَأما مَا كَانَ من
الْمعَانِي المختصة. إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ جعل النِّيَّة
فِيهِ حَقِيقَة تِلْكَ الْمعَانِي، ثمَّ قَالَ: فالنية
فِيهَا شَرط عَقْلِي، وَبَين الْكَلَامَيْنِ تنَاقض.
الرَّابِع: فِي قَوْله: وَكَذَلِكَ لَا تشْتَرط النِّيَّة
للنِّيَّة فِرَارًا من التسلسل، فَإِنَّهُ بنى عدم
اشْتِرَاط النِّيَّة للنِّيَّة على الْفِرَار من التسلسل
وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الشَّارِع شَرط النِّيَّة
للأعمال، وَهِي حركات الْبدن، وَالنِّيَّة خطرة الْقلب
وَلَيْسَت من الْأَعْمَال، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله) .
فَإِذا كَانَت النِّيَّة عملا يكون الْمَعْنى: عمل
الْمُؤمن خير من عمله. وَهَذَا لَا معنى لَهُ.
وَقَالَ الله تَعَالَى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَل على
شاكِلَتِهِ} على نيَّتِهِ.
قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه جملَة حَالية لَا عطف،
وَحَكَاهُ بَعضهم عَنهُ، ثمَّ قَالَ: أَي مَعَ أَن الله
قَالَ: قلت: لَيْت شعري مَا هَذِه الْحَال؟ وَأَيْنَ ذُو
الْحَال؟ وَهل هِيَ مَبْنِيَّة لهيئة الْفَاعِل أَو لهيئة
الْمَفْعُول؟ على أَن الْقَوَاعِد النحوية تَقْتَضِي أَن
الْفِعْل الْمَاضِي الْمُثبت إِنَّمَا يَقع حَالا إِذا
كَانَ فِيهِ: قد، لِأَن الْمَاضِي من حَيْثُ إِنَّه
مُنْقَطع الْوُجُود عَن زمَان الْحَال منَاف لَهُ، فَلَا
بُد من: قد، لتقربه من الْحَال لِأَن الْقَرِيب من
الشَّيْء فِي حكمه. فَإِن قلت: لَا يلْزم أَن تكون
ظَاهِرَة، بل يجوز أَن تكون مضمرة، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {أَو جَاءَكُم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90)
أَي: قد حصرت. قلت: أنكر الْكُوفِيُّونَ إِضْمَار: قد،
وَقَالُوا: هَذَا خلاف الأَصْل، أولُوا الْآيَة: بأوجاءكم
حاصرة صُدُورهمْ. نعم، يُمكن أَن تجْعَل الْوَاو هُنَا
للْحَال، لَكِن بِتَقْدِير مَحْذُوف، وَتَقْدِير هَذِه
الْجُمْلَة إسمية، وَهُوَ أَن يُقَال تَقْدِيره: وَكَيف
لَا يدْخل الْإِيمَان وأخواته الَّتِي ذكرهَا فِي قَوْله
الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَالْحَال أَن الله تَعَالَى
قَالَ: {قل كل يعْمل
(1/314)
على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) وَقَوله:
لَا عطف، لَيْسَ بسديدٍ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون للْعَطْف
على مَحْذُوف، تَقْدِيره: يدْخل فِيهِ الْإِيمَان. الخ،
لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْأَعْمَال
بِالنِّيَّةِ) وَقَالَ تَعَالَى: {قل كل يعْمل على شاكلته}
(الْإِسْرَاء: 84) ، وَتَفْسِير بَعضهم بقوله: أَي إِن
الله تَعَالَى، يشْعر بِأَن الْوَاو هَهُنَا للمصاحبة،
وَقد تبع الْكرْمَانِي بِأَنَّهَا للْحَال، وَبَينهمَا
تنافٍ، على أَن الْوَاو بِمَعْنى: مَعَ، لَا تَخْلُو
إِمَّا أَن تكون من بَاب الْمَفْعُول مَعَه، أَو هِيَ
الْوَاو الدَّاخِلَة على الْمُضَارع الْمَنْصُوب لعطفه على
اسْم صَرِيح أَو مؤول كَقَوْلِه.
(وَلبس عباءة وتقر عَيْني.)
وَالثَّانِي: شَرطه أَن يتَقَدَّم الْوَاو نفي أَو طلب،
ويسمي الْكُوفِيُّونَ هَذِه: وَاو الصّرْف، وَلَيْسَ النصب
بهَا خلافًا لَهُم، ومثاله: {وَلما يعلم الله الَّذين
جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} (آل عمرَان: 142) وَقَول
الشَّاعِر:
(لَا تنهَ عَن خلق وَتَأْتِي مثله)
وَالْوَاو هُنَا لَيست من القبيلين الْمَذْكُورين، وَيجوز
أَن تكون الْوَاو هَهُنَا بِمَعْنى: لَام التَّعْلِيل، على
مَا نقل عَن الْمَازرِيّ، أَنَّهَا تَجِيء بِمَعْنى لَام
التَّعْلِيل، فَالْمَعْنى على هَذَا، فَدخل فِيهِ
الْإِيمَان وأخواته لقَوْله تَعَالَى: {قل كل يعْمل على
شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) قَالَ اللَّيْث: الشاكلة من
الْأُمُور مَا وَافق فَاعله، وَالْمعْنَى أَن كل أحد يعْمل
على طَرِيقَته الَّتِي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعْمل مَا
يشبه طَرِيقَته من الْإِعْرَاض عِنْد النِّعْمَة واليأس
عِنْد الشدَّة، وَالْمُؤمن يعْمل مَا يشبه طَرِيقَته من
الشُّكْر عِنْد الرخَاء وَالصَّبْر عِنْد الْبلَاء، وَيدل
عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى
سَبِيلا} (الْإِسْرَاء: 84) وَقَالَ الزّجاج: على شاكلته:
على طَرِيقَته ومذهبه، وَنقل ذَلِك عَن مُجَاهِد أَيْضا،
وَمن هَذَا أَخذ الزَّمَخْشَرِيّ، وَقَالَ: أَي على مذْهبه
وطريقته الَّتِي تشاكل كل حَاله فِي الْهدى والضلالة، من
قَوْلهم: طَرِيق ذُو شواكل، وَهِي الطّرق الَّتِي تتشعب
مِنْهُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله {فربكم أعلم بِمن
هُوَ أهْدى سَبِيلا} (الْإِسْرَاء: 84) أَي أَسد مذهبا،
وَطَرِيقَة وَقَوله على نِيَّته تَفْسِير لقَوْله: على
شاكلته، وَحذف مِنْهُ حرف التَّفْسِير، وَهَذَا
التَّفْسِير رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُعَاوِيَة
بن قُرَّة الْمُزنِيّ وَقَتَادَة فِيمَا أخرجه عبد بن حميد
والطبري عَنْهُم. وَفِي (الْعباب) وَقَوله تَعَالَى: {قل
كل يعْمل على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) أَي: على ناحيته
وطريقته. وَقَالَ قَتَادَة: أَي على جَانِبه وعَلى مَا
يَنْوِي. وَقَالَ ابْن عَرَفَة: أَي على خليقته ومذهبه
وطريقته. ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب: والتركيب يدل معظمه
على الْمُمَاثلَة.
قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَكِنْ جهِادٌ
ونِيَّةٌ.
هُوَ قِطْعَة من حَدِيث لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله
عَنْهُمَا أَوله: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح، وَلَكِن
جِهَاد وَنِيَّة، وَإِذا استنفرتم فانفروا) ، أخرجه
هَهُنَا مُعَلّقا، وَأخرجه مُسْندًا فِي الْحَج وَالْجهَاد
والجزية، أما فِي الْحَج فَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة،
وَفِيه، وَفِي الْجِزْيَة عَن عَليّ بن عبد الله
كِلَاهُمَا عَن جرير، وَأما فِي الْجِهَاد فَعَن آدم عَن
شَيبَان، وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَعَمْرو بن عَليّ
كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان، وَأخرجه مُسلم
فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى، وَفِيه وَفِي الْحَج عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن جرير، وَفِيهِمَا
أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن يحيى بن آدم، وَفِي
نُسْخَة عَن مُحَمَّد بن رَافع وَإِسْحَاق عَن يحيى بن آدم
عَن مفضل بن مهلهل، وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر
وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان، وَعَن عبد
بن حميد عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل، وَفِي
نُسْخَة عَن شَيبَان بدل إِسْرَائِيل، خمستهم عَن مَنْصُور
عَنهُ بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد وَالْحج
عَن عُثْمَان بِهِ مقطعاً، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
السّير عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ عَن زِيَاد بن عبد
الله البكائي عَن مَنْصُور بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الْبيعَة عَن إِسْحَاق
بن مَنْصُور عَن يحيى بن سعيد بِهِ، وَفِي الْحَج عَن
مُحَمَّد بن قدامَة عَن جرير، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع
بِهِ مُخْتَصرا، وَالْمعْنَى: أَن تَحْصِيل الْخَيْر
بِسَبَب الْهِجْرَة قد انْقَطع بِفَتْح مَكَّة وَلَكِن
حصلوه فِي الْجِهَاد وَنِيَّة صَالِحَة، وَفِيه الْحَث على
نِيَّة الْخَيْر مُطلقًا وَإنَّهُ يُثَاب على النِّيَّة.
قَوْله: (جِهَاد) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، أَي: وَلَكِن طلب الْخَيْر جِهَاد وَنِيَّة.
ونفَقَةُ الرَّجُلِ على أهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً.
هَذَا من معنى حَدِيث أبي مَسْعُود الَّذِي يذكرهُ عَن
قريب. قَوْله (وَنَفَقَة الرجل) كَلَام إضافي مُبْتَدأ
وَخَبره قَوْله (صَدَقَة) ، وَقَوله (يحتسبها) حَال من
الرجل أَي: حَال كَونه مرِيدا بهَا وَجه الله تَعَالَى،
وَقد فسرنا معنى الاحتساب مُسْتَوفى عَن قريب. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: ذكر هَذَا تَقْوِيَة لما ذكره من قبل. قلت:
لما عقد الْبَاب على ثَلَاث تراجم ذكر لكل تَرْجَمَة مَا
يطابقها من الْكَلَام بعد قَوْله، فَدخل فِيهِ الْإِيمَان
وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وَالصَّوْم
وَالْأَحْكَام. فَقَوله: وَقَالَ تَعَالَى: {قل كل يعْمل
على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) لقَوْله (إِن الْأَعْمَال
بِالنِّيَّةِ) . وَقَوله: قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة) لقَوْله
(وَلكُل امرىء مَا نوى) ،
(1/315)
وَقَوله (وَنَفَقَة الرجل على أَهله
يحتسبها صَدَقَة) لقَوْله: والحسبة، وَلذَلِك ذكر ثَلَاثَة
أَحَادِيث، فَحَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ، لقَوْله
(الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . وَحَدِيث أبي مَسْعُود،
لقَوْله (والحسبة) ، وَحَدِيث سعد بن أبي وَقاص، لقَوْله:
(وَلكُل امرىء مَا نوى) .
54 - حدّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ أخْبَرَنَا
مالِكٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنْ مُحَمّدِ بنِ
إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ بنِ وَقَّاصٍ عنْ عُمَرَ أنّ
رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الأَعْمَالُ
بالنِّيَّةِ ولِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى فَمَنْ كانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ ورسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى
اللَّهِ ورسولِهِ ومَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ لدنْيَا
يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُهُ
إِلَى مَا هاجَرَ إِليهِ.
(الحَدِيث 54 انْظُر الحَدِيث رقم 1) .
قد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي أول الْكتاب
لِأَنَّهُ صدر كِتَابه بِهَذَا الحَدِيث، وَكَذَلِكَ
الْكَلَام فِي رِجَاله ومسلمة، بِفَتْح الميمين وَاللَّام،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لما كَانَ الحَدِيث
بِتَمَامِهِ صَحِيحا ثَابتا عِنْد البُخَارِيّ لم خرمه فِي
صدر الْكتاب؟ مَعَ أَن الخرم جَوَازه مُخْتَلف فِيهِ. قلت:
لأخرم، بِالْجَزْمِ، لِأَن المقامات مُخْتَلفَة، فَلَعَلَّ
فِي مقَام بَيَان أَن الْإِيمَان من النِّيَّة، واعتقاد
الْقلب سمع الحَدِيث تَمامًا، وَفِي مقَام أَن الشُّرُوع
فِي الْأَعْمَال إِنَّمَا يَصح بِالنِّيَّةِ، سمع ذَلِك
الْقدر الَّذِي روى، ثمَّ إِن الخرم مُحْتَمل أَن يكون من
بعض شُيُوخ البُخَارِيّ لَا مِنْهُ، ثمَّ إِن كَانَ مِنْهُ
فخرمه ثمَّة لِأَن الْمَقْصُود يتم بذلك الْمِقْدَار.
فَإِن قلت: كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر عِنْد الخرم الشق
الَّذِي يتَعَلَّق بمقصوده، وَهُوَ: أَن النِّيَّة
يَنْبَغِي أَن تكون لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَعَلَّه نظر إِلَى مَا هُوَ
الْغَالِب الْكثير بَين النَّاس. انْتهى. قلت: هَذَا كُله
إطناب فِي الْكَلَام، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال، إِن
هَذِه الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي هَذَا الحَدِيث
وَأَمْثَاله من اخْتِلَاف الروَاة، فَكل مِنْهُم قد روى
مَا سَمعه. فَلَا خرم فِيهِ لَا من البُخَارِيّ وَلَا من
شُيُوخه، وَإِنَّمَا البُخَارِيّ ذكر كل مَا رَوَاهُ من
الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا زِيَادَة ونقصان بِحَسب مَا
يُنَاسب الْبَاب الَّذِي وَضعه تَرْجَمَة لَهُ.
55 - حدّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ
قَالَ أخْبَرَنِي عَدِيُّ بنُ ثابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عبَد
اللَّهِ بنَ يَزِيدَ عنْ أبي مَسْعُودٍ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا أنْفَقَ الرَّجُلُ على
أهْلِهِ يَحْتَسِبُها فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ.
قد قُلْنَا: إِن الْبَاب مَعْقُود على ثَلَاث تراجم،. لكل
تَرْجَمَة حَدِيث يطابقها، وَهَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة
الثَّانِيَة، وَهِي قَوْله (والحسبة) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: الْحجَّاج بن منهال،
بِكَسْر الْمِيم، أَبُو مُحَمَّد الْأنمَاطِي السّلمِيّ،
مَوْلَاهُم وَغَيره، سمع شُعْبَة من الْأَعْلَام، وروى
عَنهُ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي وَابْن وارة وَالْبَغوِيّ
وَإِسْمَاعِيل القَاضِي وَالْبُخَارِيّ وَآخَرُونَ، اتّفق
على توثيقه، وَكَانَ رجلا صَالحا وَكَانَ سمساراً يَأْخُذ
من كل دِينَار حَبَّة، فجَاء خراساني مُوسر من أَصْحَاب
الحَدِيث فَاشْترى لَهُ أنماطاً وَأَعْطَاهُ ثَلَاثِينَ
دِينَارا، فَقَالَ: خُذ هَذِه سمسرتك، قَالَ: دنانيرك
أَهْون عَليّ من هَذَا التُّرَاب، هَات من كل دِينَار
حَبَّة، وَأخذ ذَلِك. قَالَ أَحْمد بن عبد الله: هُوَ
بَصرِي ثِقَة، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة سِتّ عشرَة أَو
سَبْعَة عشرَة وَمِائَتَيْنِ، قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين
فِي (شَرحه) وروى لَهُ البُخَارِيّ، وروى مُسلم
وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل
عَنهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شَرحه) : روى عَنهُ
البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ الْمُزنِيّ
فِي (تهذيبه) : روى لَهُ السِّتَّة، وَالصَّوَاب أَن
البُخَارِيّ وَمُسلمًا وَأَبا دَاوُد رووا عَنهُ،
وَالثَّلَاثَة الْبَقِيَّة رووا لَهُ، وَلَيْسَ فِي الْكتب
السِّتَّة حجاج بن منهال سواهُ. الثَّانِي: شُعْبَة بن
حجاج، وَقد مر ذكره غير مرّة. الثَّالِث: عدي بن ثَابت
الْأنْصَارِيّ الْكُوفِي، سمع جده لأمه عبد الله بن زيد
الْأنْصَارِيّ والبراء بن عَازِب وَغَيرهمَا من
الصَّحَابَة، روى عَنهُ الْأَعْمَش وَشعْبَة وَغَيرهمَا،
قَالَ أَحْمد، ثِقَة: وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق
وَكَانَ إِمَام مَسْجِد الشِّيعَة بِالْكُوفَةِ وقاضيهم،
مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الرَّابِع: عبد الله بن يزِيد بن حُصَيْن بن عَمْرو بن
الْحَارِث بن خطمة، واسْمه عبد الله بن خَيْثَم بن مَالك
بن أَوْس، أخي الْخَزْرَج ابْني حَارِثَة بن ثَعْلَبَة
العنقاء، لطول عُنُقه، ابْن عَمْرو مزيقيا ابْن عَامر مَاء
السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس البطريق
بن ثَعْلَبَة البهلول بن مَازِن بن الأزد، الْأنْصَارِيّ
الخطمي الصَّحَابِيّ، سكن الْكُوفَة، وَكَانَ أَمِيرا
عَلَيْهَا، شهد
(1/316)
الْحُدَيْبِيَة وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة،
وَشهد صفّين والجمل والنهروان مَعَ عَليّ رَضِي الله
عَنهُ، وَكَانَ الشّعبِيّ كَاتبه، وَكَانَ من أفاضل
الصَّحَابَة وَقيل: إِن لِأَبِيهِ يزِيد صُحْبَة، رُوِيَ
لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة
وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا حديثين:
أَحدهمَا فِي الاسْتِسْقَاء مَوْقُوف، وَفِي الْمَظَالِم
حَدِيث النَّهْي عَن النهبى والمثلة، وَمُسلم أَحدهمَا،
وَأَخْرَجَا لَهُ عَن الْبَراء وَأبي مَسْعُود وَزيد بن
ثَابت: رَضِي الله عَنْهُم، مَاتَ زمن ابْن الزبير رَضِي
الله عَنْهُمَا، قَالَ الْوَاقِدِيّ، وَفِي الصَّحَابَة
عبد الله بن زيد جمَاعَة، هَذَا أحدهم، وَالثَّانِي: عبد
الله بن يزِيد الْقَارِي، لَهُ ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام، سمع قِرَاءَته. وَالثَّالِث: عبد
الله بن يزِيد النَّخعِيّ، وَالرَّابِع: عبد الله بن زيد
البَجلِيّ، لَهُ حَدِيث: (إِذا أَتَاكُم كريم قوم فأكرموه)
. أوردهُ ابْن قَانِع. وَالْخَامِس: غلط فِيهِ ابْن
الْمُبَارك فِي حَدِيث ابْن مربع. كَانُوا على
مَسَاجِدكُمْ. الْخَامِس: أَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو
بن ثَعْلَبَة بن أسيرة، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين،
وَقيل بضَمهَا، وَقيل: يسيرَة، بِضَم أَوله، بن عسيرة،
بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، ابْن
عَطِيَّة بن جدارة، بِكَسْر الْجِيم، وَقَالَ ابْن عبد
الْبر بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة، ابْن عَوْف بن
الْخَزْرَج، الْأنْصَارِيّ الخزرجي البدري، شهد الْعقبَة
مَعَ السّبْعين، وَكَانَ أَصْغَرهم، وَشهد أحدا ثمَّ
الْجُمْهُور على أَنه لم يشْهد بَدْرًا، وَإِنَّمَا سكنها.
وَقَالَ حمدون بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَابْن إِسْحَاق
صَاحب (الْمَغَازِي) ، وَالْبُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) :
شَهِدَهَا، وَكَذَا الحكم بن عتبَة، وَقَالَ ابْن سعد:
قَالَ مُحَمَّد بن عمر وَسعد بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهمَا:
لم يشْهد بَدْرًا، وَقَالَ الحكم وَغَيره من أهل
الْكُوفَة: شَهِدَهَا، وَأهل الْمَدِينَة أعلم بذلك.
رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مائَة حَدِيث وحديثان، اتفقَا مِنْهَا على تِسْعَة،
وللبخاري حَدِيث، وَلمُسلم سَبْعَة، روى عَنهُ عبد الله بن
يزِيد الخطمي وَابْنه بشير وَغَيرهمَا، سكن الْكُوفَة
وَمَات بهَا، وَقيل: بِالْمَدِينَةِ، قبل الْأَرْبَعين،
قيل: سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة إِحْدَى أَو
اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَفِي
الصَّحَابَة: أَبُو مَسْعُود، هَذَا، وَأَبُو مَسْعُود
الْغِفَارِيّ قيل: اسْمه عبد الله، وثالث الظَّاهِر أَنه
الأول.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْأنمَاطِي: بِفَتْح الْهمزَة
وَسُكُون النُّون، نِسْبَة إِلَى بيع الأنماط، وَهُوَ جمع
نمط، وَهُوَ ضرب من الْبسط. السّلمِيّ، بِضَم السِّين
وَفتح اللَّام، نِسْبَة إِلَى سليم بن مَنْصُور بن
عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس غيلَان، وَهُوَ من شَاذ
النّسَب، وَالْقِيَاس: السليمي. وَقَالَ الرشاطي:
السّلمِيّ فِي قيس غيلَان، وَفِي الأزد، فَالَّذِي فِي قيس
غيلَان سليم بن مَنْصُور كَمَا ذكرنَا، وَالَّذِي فِي
الأزد سليم بن فهم بن غنم بن دوس. الخطمي، بِفَتْح الْخَاء
المعحمة وَسُكُون الطَّاء، نِسْبَة إِلَى: خطمة، أحد أجداد
عبد الله بن يزِيد، وَقد ذكرنَا أَن اسْمه عبد الله،
وَإِنَّمَا سمي: خطمة، لِأَنَّهُ ضرب رجلا على خطمه، أَي:
أَنفه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الخطم من كل طَائِر منقاره،
وَمن كل دَابَّة مقدم أَنفه، وَفِيه: والمخاطم الأنوف،
وَاحِدهَا: مخطم، بِكَسْر الطَّاء. وَرجل أخطم طَوِيل
الْأنف. البدري، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة
إِلَى بدر، وَهُوَ الْموضع الَّذِي لَقِي فِيهِ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُشْركين من قُرَيْش،
فأعز الْإِسْلَام وَأظْهر دينه، وَهَذَا الْموضع يُسمى:
بَدْرًا باسم الَّذِي احتفر فِيهِ الْبِئْر، وَهُوَ: بدر
بن يخلد بن النَّضر بن كنَانَة، بَينه وَبَين الْمَدِينَة
ثَمَانِيَة برد وميلان.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والإخبار وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته
مَا بَين بَصرِي وواسطي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَنه وَقع
للْبُخَارِيّ غَالِبا خماسياً. وَلمُسلم من جَمِيع طرقه
سداسياً.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا عَن حجاج بن منهال، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُسلم،
وَفِي النَّفَقَات عَن آدم. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة
عَن ابْن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن مُحَمَّد بن بشار، وَأبي
بكر بن رَافع عَن غنْدر، وَعَن أبي كريب عَن وَكِيع، كلهم
عَن شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت عَن عبد الله بن يزِيد عَن
أبي مَسْعُود بِهِ وَقَالَ: حسن صَحِيح وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن ابْن بشار عَن غنْدر،
وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن
بشر بن الْمفضل كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله (انفق) من: إِنْفَاق المَال،
وَهُوَ إنفاده وإهلاكه، وَالنَّفقَة اسْم، وَهِي من
الدَّرَاهِم وَغَيرهَا، وَيجمع على نفاق، بِالْكَسْرِ.
نَحْو: ثَمَرَة وثمار، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: انفق
الشَّيْء وأنفده أَخَوان، وَعَن يَعْقُوب: نفق الشَّيْء
ونفد، وَاحِد وكل مَا جَاءَ مِمَّا فاؤه نون، وعينه فَاء،
فدال على معنى الْخُرُوج والذهاب، وَنَحْو ذَلِك، إِذا
تَأَمَّلت. قلت: معنى قَوْله: إخْوَان بَينهمَا
الِاشْتِقَاق الْأَكْبَر، فَإِن بَينهمَا تنَاسبا فِي
التَّرْكِيب وَفِي الْمَعْنى لاشتمال كل مِنْهُمَا على
معنى الْخُرُوج والذهاب. قَوْله (على أَهله) ، وَفِي
(الْعباب) : الْأَهْل أهل الرجل وَأهل الدَّار، وَكَذَلِكَ
الْأَهِلّة، وَالْجمع: أهلات وأهلون، والأهالي زادوا فِيهِ
الْيَاء على غير قِيَاس
(1/317)
كَمَا جمعُوا لَيْلًا على ليَالِي، وَقد
جَاءَ فِي الشّعْر:
(أهال مثل: فرخ وأفراخ)
وَأنْشد الْأَخْفَش:
(وبلدة مَا الْأنس من أهالها ... ترى بهَا العوهق من
وائالها)
ومنزل أهلَّ بِهِ أَهله، وَقَالَ ابْن السّكيت مَكَان
مأهول فِيهِ أَهله، وَمَكَان آهل لَهُ أهل، وَقَالَ ابْن
عباد: يَقُولُونَ: هُوَ أهلة، لكل خير بِالْهَاءِ،
وَالْفرق بَين الْأَهْل والآل أَن: الْآل يسْتَعْمل فِي
الْأَشْرَاف: وَفِي (الْعباب) : آل الرجل: أَهله
وَعِيَاله، وَآله: أَيْضا أَتْبَاعه. قَالَ تَعَالَى:
{كدأب آل فِرْعَوْن} (آل عمرَان: 11، الْأَنْفَال: 52 و
54) وَقَالَ ابْن عَرَفَة: يَعْنِي من آل إِلَيْهِ بدين
أَو مَذْهَب أَو نسب، وَآل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: عشيرته. وَقَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ: (سُئِلَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَن آل مُحَمَّد؟
قَالَ: كل تَقِيّ) . قلت: هُوَ واوي، فَلذَلِك ذكره أهل
اللُّغَة فِي بَاب أول. قَوْله (يحتسبها) من الاحتساب وَقد
فسرناه عَن قريب. قَوْله (صَدَقَة) وَهِي: مَا تَصَدَّقت
بِهِ على الْفُقَرَاء.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (إِذا) كلمة فِيهَا معنى
الشَّرْط و: (انفق الرجل) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل
فعل الشَّرْط، قَوْله: (على أَهله) يتَعَلَّق بانفق.
قَوْله (يحتسبها) جملَة فعلية مضارعية وَقعت حَالا من:
الرجل، والمضارع إِذا وَقع حَالا وَكَانَ مثبتاً لَا يجوز
فِيهِ الْوَاو على مَا عرف. قَوْله (فَهُوَ لَهُ صَدَقَة)
جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت فِيهَا الْفَاء. قَوْله
(فَهُوَ) مُبْتَدأ. وَالْجُمْلَة، أَعنِي قَوْله (لَهُ
صَدَقَة) ، خَبره فَقَوله: صَدَقَة، مُبْتَدأ و: لَهُ،
مقدما خَبره، وَالضَّمِير أَعنِي: هُوَ، يرجع إِلَى
الْإِنْفَاق الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله (أنْفق) ، كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى}
(الْمَائِدَة: 8) أَي: الْعدْل أقرب إِلَى التَّقْوَى.
بَيَان الْمعَانِي: فِي قَوْله: (إِذا أنْفق) ، حذف
الْمَعْمُول ليُفِيد التَّعْمِيم، وَالْمعْنَى: إِذا أنْفق
أَي نَفَقَة كَانَت صَغِيرَة أَو كَبِيرَة، وَفِيه ذكر:
إِذا، دون إِن، لِأَن أصل: إِن، عدم الْجَزْم بِوُقُوع
الشَّرْط، وَاصل: إِذا، الْجَزْم بِهِ، وَغلب لفظ
الْمَاضِي مَعَ: إِذا، على الْمُسْتَقْبل فِي
الِاسْتِعْمَال، فَإِن اسْتِعْمَال: إِذا أكرمتني أكرمتك،
مثلا، أَكثر من اسْتِعْمَال: إِذا تكرمني أكرمك، لكَون
الْمَاضِي أقرب إِلَى الْقطع بالوقوع من الْمُسْتَقْبل،
نظرا إِلَى اللَّفْظ لَا إِلَى الْمَعْنى، فَإِنَّهُ يدل
على الِاسْتِقْبَال لوُقُوعه فِي سِيَاق الشَّرْط، وَفِيه
التَّنْبِيه بِالْحَال لإِفَادَة زِيَادَة تَخْصِيص لَهُ،
فَكلما ازْدَادَ الْكَلَام تَخْصِيصًا ازْدَادَ الحكم
بعدا، كَمَا أَنه كلما ازْدَادَ عُمُوما ازْدَادَ قرباً،
وَمَتى كَانَ احْتِمَال الحكم أبعد كَانَت الْفَائِدَة فِي
إِيرَاده أقوى. قَوْله (يحتسبها) أَي: يُرِيد بهَا وَجه
الله، وَالنَّفقَة الْمُطلقَة فِي الْأَحَادِيث ترد إِلَى
هَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله الْمُقَيد بِالنِّيَّةِ،
لحَدِيث امْرَأَة عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ،
وَامْرَأَة من الْأَنْصَار وسؤالهما: اتجزىء الصَّدَقَة
عَنْهُمَا على أزواجهما وأيتامهما؟ فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَهما أَجْرَانِ: أجر
الْقَرَابَة، وَأجر الصَّدَقَة) . وَقَول أم سَلمَة رَضِي
الله عَنْهُمَا: (هَل لي أجر فِي بني أبي سَلمَة أنْفق
عَلَيْهِم؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
نعم لَك أجر مَا أنفقت) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي
قَوْله: يحتسبها، أَفَادَ بمنطوقه أَن الْأجر فِي
الْإِنْفَاق إِنَّمَا يحصل بِقصد الْقرْبَة وَاجِبَة أَو
مُبَاحَة، وَأفَاد بمفهومه أَن من لم يقْصد الْقرْبَة لم
يُؤجر، لَكِن تَبرأ ذمَّته من الْوَاجِبَة لِأَنَّهَا
معقولة الْمَعْنى.
بَيَان الْبَيَان: فِيهِ إِطْلَاق النَّفَقَة على
الصَّدَقَة مجَازًا، إِذْ لَو كَانَت الصَّدَقَة
حَقِيقِيَّة كَانَت تحرم على الرجل أَن ينْفق على زَوجته
الهاشمية، وَوُجُود الْإِجْمَاع على جَوَاز الْإِنْفَاق
على الزَّوْجَات الهاشميات وَغَيرهَا قَامَ قرينَة صارفة
عَن إِرَادَة الْحَقِيقَة، والعلاقة بَين الْمَوْضُوع لَهُ
وَبَين الْمَعْنى الْمجَازِي ترَتّب الثَّوَاب عَلَيْهِمَا
وتشابههما فِيهِ، فَإِن قلت: كَيفَ يتشابهان وَهَذَا
الْإِنْفَاق وَاجِب، وَالصَّدَََقَة فِي الْعرف لَا تطلق
إلاَّ على غير الْوَاجِب، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن تقيد
بِالْفَرْضِ وَنَحْوه؟ قلت: التَّشْبِيه فِي أصل الثَّوَاب
لَا فِي كميته وَلَا كيفيته. فَإِن قلت: شَرط البيانيون
فِي التَّشْبِيه أَن يكون الْمُشبه بِهِ أقوى، وَهَهُنَا
بِالْعَكْسِ، لِأَن الْوَاجِب أقوى فِي تَحْصِيل الثَّوَاب
من النَّفْل. قلت: هَذَا هُوَ التشابه لَا التَّشْبِيه،
والتشبيه لَا يشْتَرط فِيهِ ذَلِك، وَتَحْقِيق هَذَا
الْكَلَام أَنه إِذا أُرِيد مُجَرّد الْجمع بَين
الشَّيْئَيْنِ فِي أَمر، وأنهما متساويان فِي جِهَة
التَّشْبِيه: كعمامتين متساويتين فِي اللَّوْن،
فَالْأَحْسَن ترك التَّشْبِيه إِلَى الحكم بالتشابه،
ليَكُون كل وَاحِد من الطَّرفَيْنِ مشبهاً ومشبهاً بِهِ
احْتِرَازًا من تَرْجِيح أحد المتساويين من جِهَة
التَّشْبِيه على الآخر، لِأَن فِي التَّشْبِيه تَرْجِيحا،
وَفِي التشابه تَسَاويا. وَيجوز التَّشْبِيه أَيْضا فِي
مَوضِع التشابه، لَكِن إِذا وَقع التَّشْبِيه فِي بَاب
التشابه صَحَّ فِيهِ الْعَكْس، بِخِلَافِهِ فِيمَا عداهُ،
وَكَانَ حكم الْمُشبه بِهِ على خلاف مَا ذكر من أَن حَقه
أَن يكون أعرف بِجِهَة التَّشْبِيه من الْمُشبه، وَأقوى
حَالا، كتشبيه غرَّة الْفرس بالصبح وَعَكسه، فَيُقَال: بدا
الصُّبْح كغرة الْفرس، وبدت غرَّة الْفرس كالصبح، مَتى
أُرِيد بِوَجْه الشّبَه ظُهُور مُنِير فِي سَواد أَكثر
مِنْهُ مظلم،
(1/318)
أَو حُصُول بَيَاض، فَإِنَّهُ مَتى كَانَ
المُرَاد بِوَجْه الشّبَه هَذَا كَانَ من بَاب التشابه،
وينعكس التَّشْبِيه لعدم اخْتِصَاص وَجه الشّبَه حينئذٍ
بِشَيْء من الطَّرفَيْنِ، بِخِلَاف مَا لَو لم يكن وَجه
الشّبَه ذَلِك، كالمبالغة فِي الضياء، فَإِنَّهُ لَا يكون
من بَاب التشابه، وَلَا مِمَّا ينعكس فِي التَّشْبِيه.
قَوْله (على أَهله) خَاص بِالْوَلَدِ وَالزَّوْجَة،
لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْإِنْفَاق فِي الْأَمر الْوَاجِب
كالصدقة فَلَا شكّ أَن يكون آكِد، وَيلْزم مِنْهُ كَونه
صَدَقَة فِي غير الْوَاجِب بِالطَّرِيقِ الأولى.
56 - حدّثنا الحَكَمُ بنُ نافعٍ قَالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدّثني عامِرُ بنُ سَعْدٍ عنْ
سَعْدِ بنِ أبي وَقاصٍ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنّ رَسُول
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّكَ لَنْ
تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللَّهِ إلاَّ
أُجِرْتَ عَليْها حتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي
امْرَأَتِكَ..
هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة الثَّالِثَة، كَمَا ذكرنَا،
وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد ذكر فِي بَاب: إِذا لم
يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة، وَكَانَ على الاستسلام
أَو الْخَوْف من الْقَتْل.
وَالْحكم بِفَتْح الْكَاف: هُوَ أَبُو الْيَمَان
الْحِمصِي. وَالزهْرِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: هَذَا الحَدِيث
قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل مَشْهُور، أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا كَمَا ترى، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن
يُونُس، وَفِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل،
وَفِي الْهِجْرَة عَن يحيى بن قزعة، ثَلَاثَتهمْ عَن
إِبْرَاهِيم بن سعد، وَفِي الْجَنَائِز عَن عبد الله بن
يُوسُف عَن مَالك، وَفِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة، وَفِي
الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب أَيْضا، وَعَن
الْحميدِي عَن سُفْيَان، خمستهم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم
فِي الْوَصَايَا عَن يحيى بن يحيى عَن إِبْرَاهِيم بن سعد
بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة كِلَاهُمَا
عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح
وحرملة بن يحيى كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة
عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا
عَن مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر عَن سُفْيَان بِهِ،
وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
عَمْرو بن عُثْمَان بن سُفْيَان عَن سُفْيَان بِهِ، وَفِي
عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن
الْقَاسِم عَن مَالك بِبَعْضِه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الْوَصَايَا عَن هِشَام بن عمار، وَالْحُسَيْن بن الْحسن
الْمروزِي، وَسَهل بن أبي سهل بن سهل الرَّازِيّ،
ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله (إِنَّك) ، إِن: حرف من
الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ، فالكاف إسمها و: (لن
تنْفق) ، خَبَرهَا وَكلمَة: لن، حرف نصب، وَنفي واستقبال،
وَفِيه ثَلَاثَة مَذَاهِب: الأول: إِنَّه حرف مقتضب
بِرَأْسِهِ، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور. وَالثَّانِي:
وَهُوَ مَذْهَب الْفراء أَن أَصله: لَا، فابدلت النُّون من
الْألف، فَصَارَ: لن. وَالثَّالِث: وَهُوَ مَذْهَب
الْخَلِيل وَالْكسَائِيّ. أَن أَصله: لَا إِن، فحذفت
الْهمزَة تَخْفِيفًا، وَالْألف لالتقاء الساكنين. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: إِنَّه يُفِيد توكيد النَّفْي، قَالَه
فِي (الْكَشَّاف) وَقَالَ فِي (انموذجه) يُفِيد تأييد
النَّفْي، ورد بِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيل، وَقَالُوا:
لَو كَانَت للتأبيد لِمَ يُقيد منفيها بِالْيَوْمِ فِي:
{لن أكلم الْيَوْم إنسياً} (مَرْيَم: 26) . ولكان ذكر
الْأَبَد فِي: {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} (الْبَقَرَة:
95) تَكْرَارا، وَالْأَصْل عَدمه. قَوْله (تنْفق) مَنْصُوب
بهَا. وَقَوله (نَفَقَة) نصب على أَنه مفعول مُطلق. قَوْله
(تبتغي) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَقعت حَالا من
الضَّمِير الَّذِي فِي: لن تنْفق، وَالْبَاء فِي: بهَا
إِمَّا للمقابلة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا
الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (النَّحْل: 32)
وَإِمَّا للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ)
وَإِمَّا للظرفية بِمَعْنى: فِيهَا وَإِنَّمَا قُلْنَا
هَكَذَا لِأَن تبتغي، متعدٍ يُقَال: ابْتَغَيْت الشَّيْء
وتبغيته إِذا طلبته، من: بغيت الشَّيْء: طلبته. قَوْله:
(وَجه الله) ، كَلَام إضافي مفعول: تبتغي. قَوْله (إِلَّا
أجرت) ، بِضَم الْهمزَة، على صِيغَة الْمَجْهُول،
والمستثنى مَحْذُوف لِأَن الْفِعْل لَا يَقع اسْتثِْنَاء،
وَالتَّقْدِير: لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله
تَعَالَى إلاَّ نَفَقَة أجرت بهَا. وَيكون قَوْله أجرت
بهَا صفة للمستثنى، وَالْمعْنَى على هَذَا، لِأَن
النَّفَقَة الْمَأْجُور فِيهَا هِيَ الَّتِي تكون
ابْتِغَاء لوجه الله تَعَالَى. لِأَنَّهَا لَو لم تكن لوجه
الله تَعَالَى لما كَانَت مأجوراً فِيهَا. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: التَّقْدِير: إلاَّ فِي حَالَة أجرت بهَا،
ثمَّ فسر ذَلِك بقوله: أَي: لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا
وَجه الله تَعَالَى فِي حَال من الْأَحْوَال إلاَّ وَأَنت
فِي حَال مأجوريتك عَلَيْهَا. قلت: لَو قدر هَكَذَا لن
تنْفق نَفَقَة لوجه الله تَعَالَى إلاَّ حَال كونك مأجوراً
عَلَيْهَا كَانَ أحسن على مَا لَا يخفى. فَإِن قلت:
الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل أَو مُنْقَطع؟ قلت: مُتَّصِل،
لِأَن الْمُسْتَثْنى من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ. قَوْله
(بهَا) ، الْبَاء إِمَّا للسَّبَبِيَّة، وَإِمَّا
(1/319)
للمقابلة، وَإِمَّا بِمَعْنى: على، وَلِهَذَا فِي بعض
النّسخ، عَلَيْهَا، بدل: بهَا، وَالْبَاء تَجِيء بِمَعْنى:
على كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَن إِن تأمنه بقنطار}
(آل عمرَان: 75) قَوْله (حَتَّى) ، قَالَ الْكرْمَانِي:
هِيَ العاطفة لَا الجارة، وَمَا بعْدهَا مَنْصُوب الْمحل،
وَبَعْضهمْ تبعه على هَذَا. قلت: حَتَّى، هَذِه ابتدائية،
أَعنِي؛ حرف تبتدأه بعده الْجمل، أَي: تسْتَأْنف فَتدخل
على الْجُمْلَة الإسمية وَالْجُمْلَة الفعلية، وَذَلِكَ
لِأَن: حَتَّى، العاطفة لَهَا شُرُوط مِنْهَا: أَنَّهَا
لَا تعطف الْجمل، لِأَن شَرط معطوفها أَن يكون جزأ مِمَّا
قبلهَا، أَو جُزْء مِنْهُ، وَلَا يتأتي ذَلِك إلاَّ فِي
الْمُفْردَات، على أَن الْعَطف بحتى قَلِيل، وَأهل
الْكُوفَة ينكرونه الْبَتَّةَ، وَمَا بعد حَتَّى هَهُنَا
جملَة، لِأَن قَوْله (مَا) ، مَوْصُولَة مُبْتَدأ، وَخَبره
مَحْذُوف، وَكَذَا الْعَائِد إِلَى الْمَوْصُول،
تَقْدِيره؛ حَتَّى الَّذِي تجْعَل فِي فَم امْرَأَتك
فَأَنت مأجور فِيهِ، وَوجه آخر يمْنَع من كَون: حَتَّى،
عاطفة، هُوَ: أَن الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ،
فَإِذا جعلت: حَتَّى، عاطفة لَا يُسْتَفَاد أَن: مَا
يَجْعَل فِي فَم امْرَأَته مأجور فِيهِ. فَإِن قلت: قَالَ
الْكرْمَانِي: يُسْتَفَاد ذَلِك من حَيْثُ إِن قيد
الْمَعْطُوف عَلَيْهِ قيد فِي الْمَعْطُوف. قلت: الْقَيْد
فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هُوَ الابتغاء لوجه الله
تَعَالَى والآجر لَيْسَ بِقَيْد فِيهِ، لِأَنَّهُ أصل
الْكَلَام، وَالْمَقْصُود فِي الْمَعْطُوف حُصُول الْأجر
بالانفاق الْمُقَيد بالابتغاء. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي:. فِيهِ تَمْثِيل باللقمة مُبَالغَة فِي
حُصُول الْأجر، لِأَن الْأجر إِذا ثَبت فِي لقْمَة زَوْجَة
غير مضطرة، ثَبت فِيمَن أطْعم الْمُحْتَاج كسرة، أَو
رغيفاً بِالطَّرِيقِ الأولى، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا
بَيَان لقاعدة مهمة، وَهِي: أَن مَا أُرِيد بِهِ وَجه الله
تَعَالَى ثَبت فِيهِ الْأجر، وَإِن حصل لفَاعِله فِي ضمنه
حَظّ نفس من لَذَّة أَو غَيرهَا، فَلهَذَا مثل صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِوَضْع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة،
وَمَعْلُوم أَنه غَالِبا يكون بحظ النَّفس والشهوة
واستمالة قَلبهَا، فَإِذا كَانَ الَّذِي هُوَ من حظوظ
النَّفس بِالْمحل الْمَذْكُور من ثُبُوت الْأجر فِيهِ،
وَكَونه طَاعَة وَعَملا أخروياً إِذا أُرِيد بِهِ وَجه
الله تَعَالَى، فَكيف الظَّن بِغَيْرِهِ مِمَّا يُرَاد
بِهِ وَجه الله تَعَالَى وَهُوَ مباعد للحظوظ النفسانية؟
قَوْله (تبتغي بهَا وَجه الله) ، أَي: ذَاته، عز وَجل.
الْمَعْنى: أَنه لَا يطْلب غير الله تَعَالَى. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْوَجْه والجهة بِمَعْنى، يُقَال: هَذَا
وَجه الرَّائِي، أَي: هُوَ الرَّائِي نَفسه. قلت: هَذَا
كَلَام الْجَوْهَرِي، فَإِن أَرَادَ بِذكرِهِ أَن الْوَجْه
هَهُنَا بِمَعْنى الْجِهَة فَلَا وَجه لَهُ، وَإِن أَرَادَ
أَنه من قبيل هَذَا وَجه الرَّائِي فَلَا وَجه لَهُ
أَيْضا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن تكون لَفْظَة: وَجه،
زَائِدَة. وَحمل الْكَلَام على الْفَائِدَة أولى. وَقَالَ
الْكرْمَانِي هُنَا أَيْضا، فَإِن قلت: مَفْهُومه أَن
الْآتِي بِالْوَاجِبِ إِذا كَانَ مرائياً فِيهِ لَا يُؤجر
عَلَيْهِ. قلت: هُوَ حق، نعم يسْقط عَنهُ الْعقَاب لَكِن
لَا يحصل لَهُ الثَّوَاب. قلت: حكمه بِسُقُوط الْعقَاب
مُطلقًا غير صَحِيح، بل الصَّحِيح التَّفْصِيل فِيهِ،
وَهُوَ أَن الْعقَاب الَّذِي يَتَرَتَّب على ترك الْوَاجِب
يسْقط لِأَنَّهُ أَتَى بِعَين الْوَاجِب، وَلكنه كَانَ
مَأْمُورا أَن يَأْتِي بِمَا عَلَيْهِ بالإخلاص وَترك
الرِّيَاء، فَيَنْبَغِي أَن يُعَاقب على ترك الْإِخْلَاص.
لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ، وتارك الْمَأْمُور بِهِ يُعَاقب.
قَوْله (فِي فَم امْرَأَتك) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
(فِي فِي امْرَأَتك) ، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: حذف الْمِيم أصوب، وبالميم لُغَة
قَليلَة. قلت: لِأَن أصل فَم: فوه على وزن فعل، بِدَلِيل
قَوْلهم: أَفْوَاه، وَهُوَ جمع مَا كَانَ على: فَعْلٍ
سَاكن الْعين مُعْتَلًّا كَقَوْلِهِم: ثوب واثواب، وحوض
وأحواض، فَإِذا أفردت عوضت من واوها، مِيم، لتثبت، وَلَا
تعوض فِي حَال الْإِضَافَة إلاَّ شاذاً، وَإِعْرَابه فِي
الْمِيم مَعَ فتح الْفَاء فِي الْأَحْوَال الثَّلَاث،
تَقول: هَذَا فَم، وَرَأَيْت فَمَا، وانتفعت بِفَم.
وَمِنْهُم من يكسر الْفَاء على كل حَال، وَمِنْهُم من يرفع
على كل حَال، وَمِنْهُم من يعربه من مكانين. فَإِن قلت: لم
خص الْمَرْأَة بِالذكر؟ قلت: لِأَن عود مَنْفَعَتهَا إِلَى
الْمُنفق، فَإِنَّهَا تؤتر فِي حسن بدنهَا ولباسها،
وَالزَّوْجَة من أحظ حظوظه الدُّنْيَوِيَّة وملاذه،
وَالْغَالِب من النَّاس النَّفَقَة على الزَّوْجَة لحُصُول
شَهْوَته وَقَضَاء وطره، بِخِلَاف الْأَبَوَيْنِ،
فَإِنَّهَا رُبمَا تخرج بكلفة ومشقة، فَأخْبر صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَنه إِذا قصد باللقمة الَّتِي يَضَعهَا
فِي فَم الزَّوْجَة وَجه الله تَعَالَى، وَجعل لَهُ الْأجر
مَعَ الداعية، فَمَعَ غير الداعية وتكلف الْمَشَقَّة أولى. |