عمدة القاري شرح صحيح البخاري

3 - (كتاب الْعلم)

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول: أَن لفظ: كتاب، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى الْعلم، وَالتَّقْدِير: هَذَا كتاب الْعلم. أَي: فِي بَيَان مَا يتَعَلَّق بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي بَيَان مَاهِيَّة الْعلم، لِأَن النّظر فِي الماهيات وحقائق الْأَشْيَاء لَيْسَ من فن الْكتاب.
الثَّانِي: أَنه قدم هَذَا الْكتاب على سَائِر الْكتب الَّتِي بعده لِأَن مدَار تِلْكَ الْكتب كلهَا على الْعلم، وَإِنَّمَا لم يقدم على كتاب الْإِيمَان لِأَن الْإِيمَان أول وَاجِب على الْمُكَلف، أَو لِأَنَّهُ أفضل الْأُمُور على الْإِطْلَاق وَأَشْرَفهَا. وَكَيف لَا وَهُوَ مبدأ كل خير علما وَعَملا؟ ومنشأ كل كَمَال دقاً وجلاً؟ . فَإِن قلت: فَلِمَ قدم كتاب الْوَحْي عَلَيْهِ؟ قلت: لتوقف معرفَة الْإِيمَان وَجَمِيع مَا يتَعَلَّق بِالدّينِ عَلَيْهِ، أَو لِأَنَّهُ أول خير نزل من السَّمَاء إِلَى هَذِه الْأمة. وَقد أشبعنا الْكَلَام فِي كتاب الْإِيمَان. فليعاود هُنَاكَ.
الثَّالِث: أَن الْعلم فِي اللُّغَة مصدر: علمت وَأعلم علما. قَالَ الْجَوْهَرِي: علمت الشَّيْء أعلمهُ علما: عَرفته، بِالْكَسْرِ، فَهَذَا كَمَا ترى لم يفرق بَين الْعلم والمعرفة، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، لِأَن الْمعرفَة إِدْرَاك الجزئيات، وَالْعلم إِدْرَاك الكليات، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال: الله عَارِف كَمَا يُقَال: عَالم. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْعلم نقيض الْجَهْل، علم علما، وَعلم هُوَ نَفسه، وَرجل عَالم وَعَلِيم من قوم عُلَمَاء، وعلاَّم وعلامة من قوم علامين، والعلام والعلامة: النسابة. وَيُقَال، إِذا بولغ فِي وصف الشَّخْص بِالْعلمِ، يُقَال لَهُ: عَلامَة، وَعلمه الْعلم وأعلمه إِيَّاه فتعلمه، وَفرق سِيبَوَيْهٍ بَينهمَا، فَقَالَ: علمت كأدبت، وأعلمت كأديت. وَقَالَ أَبُو عبيد عبد الرحمان: عالمني فلَان فعلمته أعلمهُ، بِالضَّمِّ، وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ من هَذَا الْبَاب بِالْكَسْرِ فِي: يفعل، فَإِنَّهُ فِي بَاب المغالبة يرفع إِلَى الضَّم: كضاربته فضربته أضربه. وَعلم بالشَّيْء: شعر، وَقَالَ يَعْقُوب: إِذا قيل لَك: اعْلَم كَذَا. قلت: قد علمت. وَإِذا قيل: تعلم. لم تقل: قد تعلمت. وَفِي الْمُخَصّص: عَلمته الْأَمر، وأعلمته إِيَّاه فَعلمه وتعلمه. وَقَالَ أَبُو عَليّ: سمي الْعلم علما لِأَنَّهُ من الْعَلامَة، وَهِي الدّلَالَة وَالْإِشَارَة، وَمِمَّا هُوَ ضرب من الْعلم. قَوْلهم: الْيَقِين، وَلَا ينعكس فَنَقُول: كل يَقِين علم، وَلَيْسَ كل علم يَقِينا، وَذَلِكَ أَن الْيَقِين علم يحصل بعد استكمال اسْتِدْلَال وَنظر لغموض فِيهِ، وَالْعلم: النّظر والتصفح، وَمن الْعلم الدِّرَايَة، وَهِي ضرب مِنْهُ مَخْصُوص. ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي حد الْعلم، فَقَالَ بَعضهم: لَا يحد، وَهَؤُلَاء اخْتلفُوا فِي سَبَب عدم تحديده، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ: لعسر تحديده، وَإِنَّمَا تَعْرِيفه بِالْقِسْمَةِ والمثال. وَقَالَ بَعضهم، وَمِنْهُم الإِمَام فَخر الدّين: لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ، إِذْ لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور، وَاللَّازِم بَاطِل، فالملزوم مثله. بَيَان الْمُلَازمَة: أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لَكَانَ نظرياً، إِذْ لَا وَاسِطَة، وَلَو كَانَ نظرياً لزم الدّور، ينْتج أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه لَو كَانَ نظرياً لزم الدّور، لِأَنَّهُ لَو كَانَ نظرياً لعلم بِغَيْر الْعلم لِامْتِنَاع اكتسابه من نَفسه، وَغير الْعلم لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فليزم معرفَة الْعلم بِغَيْر الْعلم الَّذِي لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فَيلْزم الدّور، وَهُوَ محَال لاستلزامه تقدم الشَّيْء على نَفسه، واستلزامه امْتنَاع تصور الْعلم المتصور. وَقَالَ الْآخرُونَ: إِنَّه يحد، وَلَهُم فِيهِ أَقْوَال، وَأَصَح الْحُدُود أَنه صفة من صِفَات النَّفس، توجب تمييزاً لَا يحْتَمل النقيض فِي الْأُمُور المعنوية، فَقَوله: صفة، جنس لتنَاوله لجَمِيع صِفَات النَّفس. وَقَوله: توجب تمييزاً، احْتِرَاز عَمَّا لم يُوجب تمييزاً كالحياة. وَقَوله: لَا يحْتَمل النقيض، احْتِرَاز عَن مِثَال الظَّن، وَقَوله: فِي الْأُمُور المعنوية، يخرج إِدْرَاك الْحَواس، لِأَن إِدْرَاكهَا فِي الْأُمُور الظَّاهِرَة المحسوسة.

(2/2)


1 - (بابُ فَضْلِ العِلْمِ)

كَذَا وَقع فِي بعض النّسخ، مصدرا بالبسملة بعْدهَا: بَاب فضل الْعلم، وَفِي بَعْضهَا، لَا يُوجد ذَلِك كُله، بل الْمَوْجُود هَكَذَا: كتاب الْعلم، وَقَول الله تَعَالَى ... الخ. وَفِي بَعْضهَا الْبَسْمَلَة مُقَدّمَة على لفظ كتاب الْعلم، هَكَذَا: بِسم الله الرحمان الرَّحِيم كتاب الْعلم. وَهِي رِوَايَة أبي ذَر، وَالْأول رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة وَغَيرهمَا، اعني أَن روايتهما، أَن الْبَسْمَلَة بَين الْكتاب وَالْبَاب.
وقَوْلُ الله تَعالى: {يَرْفَع الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيْرٌ} (المجادلة: 11) وقَوْلِهِ: {عَزَّ وَجَلَّ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) .
اكْتفى البُخَارِيّ فِي بَيَان فضل الْعلم بِذكر الْآيَتَيْنِ الكريمتين، لِأَن الْقُرْآن من أقوى الْحجَج القاطعة، وَالِاسْتِدْلَال بِهِ فِي بَاب الْإِثْبَات وَالنَّفْي أقوى من الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ. وَنقل الْكرْمَانِي عَن بعض الشاميين أَن البُخَارِيّ بوب الْأَبْوَاب وَذكر التراجم، وَكَانَ يلْحق بالتدريج إِلَيْهَا الْأَحَادِيث الْمُنَاسبَة لَهَا، فَلم يتَّفق لَهُ أَن يلْحق إِلَى هَذَا الْبَاب وَنَحْوه شَيْئا مِنْهَا، إِمَّا لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده حَدِيث يُنَاسِبه بِشَرْطِهِ، وَإِمَّا لأمر آخر. وَنقل أَيْضا عَن بعض أهل الْعرَاق أَنه ترْجم لَهُ، وَلم يذكر شَيْئا فِيهِ قصدا مِنْهُ، ليعلم أَنه لم يثبت فِي ذَلِك الْبَاب شَيْء عِنْده. قلت: هَذَا كُله كَلَام غير سديد لَا طائل تَحْتَهُ، وَالْأَحَادِيث والْآثَار الصَّحِيحَة كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب، وَلم يكن البُخَارِيّ عَاجِزا عَن إِيرَاد حَدِيث صَحِيح على شَرطه، أَو أثر صَحِيح من الصَّحَابَة أَو التَّابِعين، مَعَ كَثْرَة نَقله واتساع رِوَايَته، وَلَئِن سلمنَا أَنه لم يثبت عِنْده مَا يُنَاسب هَذَا الْبَاب، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يذكر هَذَا الْبَاب. فَإِن قلت: ذكره للإعلام بِأَنَّهُ لم يثبت فِيهِ شَيْء عِنْده، كَمَا قَالَه بعض أهل الْعرَاق. قلت: ترك الْبَاب فِي مثل هَذَا يدل على الْإِعْلَام بذلك، فَلَا فَائِدَة فِي ذكره حينئذٍ. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا يترجم بعد هَذَا بِبَاب فضل الْعلم وينقل فِيهِ حَدِيثا يدل على فضل الْعلم؟ قلتُ: الْمَقْصُود بذلك الْفضل غير هَذَا، الْفضل إِذْ ذَاك بِمَعْنى: الْفَضِيلَة، أَي الزِّيَادَة فِي الْعلم، وَهَذَا بِمَعْنى كَثْرَة الثَّوَاب عَلَيْهِ. قلت: هَذَا فرق عَجِيب، لِأَن الزِّيَادَة فِي الْعلم تَسْتَلْزِم كَثْرَة الثَّوَاب عَلَيْهِ. فَلَا فرق بَينهمَا فِي الْحَقِيقَة، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن لفظ: بَاب الْعلم، لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مَذْكُورا هَهُنَا، وَبعد بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، على مَا عَلَيْهِ بعض النّسخ، أَو يكون مَذْكُورا هُنَاكَ فَقَط. فَإِن كَانَ الأول فَهُوَ تكْرَار فِي التَّرْجَمَة بِحَسب الظَّاهِر، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا يحْتَاج إِلَى الاعتذارات الْمَذْكُورَة، مَعَ أَن الْأَصَح من النّسخ هُوَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور هَهُنَا: كتاب الْعلم، وَقَول الله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} الْآيَة (المجادلة: 11) . وَلَئِن صَحَّ وجود: بَاب فضل الْعلم، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَنَقُول: لَيْسَ بتكرار، لِأَن المُرَاد من بَاب فضل الْعلم، هُنَا التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلمَاء بِدَلِيل الْآيَتَيْنِ المذكورتين: فَإِنَّهُمَا فِي فَضِيلَة الْعلمَاء، وَالْمرَاد من: بَاب فضل الْعلم، هُنَاكَ التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلم، فَلَا تكْرَار حينئذٍ. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب فضل الْعلمَاء، قلت: بَيَان فضل الْعلم يسْتَلْزم بَيَان فضل الْعلمَاء، لِأَن الْعلم صفة قَائِمَة بالعالم. فَذكر بَيَان فضل الصّفة يسْتَلْزم بَيَان فضل من هِيَ قَائِمَة بِهِ، على أَنا نقُول: إِن لم يكن المُرَاد من هَذَا الْبَاب بَيَان فضل الْعلمَاء، لَا يُطَابق ذكر الْآيَتَيْنِ المذكورتين التَّرْجَمَة، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين رَحمَه الله فِي (شَرحه) بعد الْآيَتَيْنِ، ش: جَاءَ فِي الْآثَار أَن دَرَجَات الْعلمَاء تتلو دَرَجَات الْأَنْبِيَاء، وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، ورثوا الْعلم وبينوه للْأمة، وحموه من تَحْرِيف الْجَاهِلين. وروى ابْن وهب، عَن مَالك، قَالَ: سَمِعت زيد بن أسلم، يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى: {نرفع دَرَجَات من نشَاء} (الْأَنْعَام: 83) قَالَ: بِالْعلمِ. وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم} (المجادلة: 11) . مدح الله الْعلمَاء فِي هَذِه الْآيَة، وَالْمعْنَى: يرفع الله الَّذين آمنُوا وأوتوا الْعلم على الَّذين آمنُوا فَقَط وَلم يؤتوا الْعلم دَرَجَات فِي دينهم إِذا فعلوا مَا أمروا بِهِ. وَقيل: يرفعهم فِي الثَّوَاب والكرامة، وَقيل: يرفعهم فِي الْفضل فِي الدُّنْيَا والمنزلة. وَقيل: يرفع الله دَرَجَات الْعلمَاء فِي الْآخِرَة على الْمُؤمنِينَ الَّذين لم يؤتوا الْعلم. وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب زِدْنِي علما} (طه: 114) أَي: بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ كلما نزل شَيْء من الْقُرْآن ازْدَادَ بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، علما. وَقيل: مَا أَمر الله رَسُوله بِزِيَادَة الطّلب فِي شَيْء إِلَّا فِي الْعلم، وَقد طلب مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، الزِّيَادَة فَقَالَ: {هَل أتبعك على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا} (الْكَهْف: 66) وَكَانَ ذَلِك لما سُئِلَ: أَي النَّاس أعلم؟ فَقَالَ: أَنا أعلم. فعتب الله عَلَيْهِ إِذْ لم يرد الْعلم إِلَيْهِ. وَقَوله: دَرَجَات، مَنْصُوب بقوله يرفع. فَإِن قلت: قَوْله: وَقَول الله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم} (المجادلة: 11) مَا حَظه من الْإِعْرَاب؟ قلت: الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَحْوَال

(2/3)


التَّرْكِيب أَن يكون مجروراً، عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي قَوْله: بَاب فضل الْعلم، على تَقْدِير: وجود الْبَاب، أَو على الْعلم فِي قَوْله: كتاب الْعلم، على تَقْدِير عدم وجوده. وَقَالَ بَعضهم: ضبطناه فِي الْأُصُول بِالرَّفْع على الِاسْتِئْنَاف. قلت: إِن أَرَادَ بالاستئناف الْجَواب على السُّؤَال فَذا لَا يَصح، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يَقْتَضِي هَذَا، وَإِن أَرَادَ الِابْتِدَاء الْكَلَام، فَذا أَيْضا لَا يَصح، لِأَنَّهُ على تَقْدِير الرّفْع لَا يَتَأَتَّى الْكَلَام، لِأَن قَوْله: وَقَول الله، لَيْسَ بِكَلَام، فَإِذا رفع لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون رَفعه بالفاعلية، أَو بِالِابْتِدَاءِ، وكل مِنْهُمَا لَا يَصح، أما الأول فَظَاهر، وَأما الثَّانِي فلعدم الْخَبَر. فَإِن قلت: الْخَبَر مَحْذُوف. قلت: حذف الْخَبَر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون جَوَازًا أَو وجوبا. فَالْأول: فِيمَا إِذا قَامَت قرينَة، وَهِي وُقُوعه فِي جَوَاب الِاسْتِفْهَام عَن الْمخبر بِهِ، أَو بعد إِذا المفاجأة، أَو يكون الْخَبَر قبل قَول وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك هَهُنَا. وَالثَّانِي: إِذا الْتزم فِي مَوْضِعه غَيره، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضا كَذَلِك، فَتعين بطلَان دَعْوَى الرّفْع.

2 - (بَاب مَنْ سُئِلَ عِلْماً وَهوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأتَمَّ الحَدِيثَ ثُمَّ أجابَ السَّائِلَ.)

الْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن: الأول: أَن بَاب، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى قَوْله: من سُئِلَ، وَمن، مَوْصُولَة. قَوْله: سُئِلَ، على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول النَّائِب عَن الْفَاعِل وَقعت صلَة لَهَا. وَقَوله: علما، نصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان، وَقَوله: وَهُوَ مشتغل فِي حَدِيثه، جملَة وَقعت حَالا عَن الضَّمِير الَّذِي فِي: سُئِلَ، وَذكر قَوْله: فَأَتمَّ، بِالْفَاءِ وَقَوله: ثمَّ أجَاب، بِكَلِمَة: ثمَّ، لِأَن إتْمَام الحَدِيث حصل عقيب الِاشْتِغَال بِهِ. وَالْجَوَاب بعد الْفَرَاغ مِنْهُ. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ على تَقْدِير وجود الْبَاب السَّابِق فِي بعض النّسخ، من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول، وَإِن كَانَ الْمَذْكُور فِيهِ فضل الْعلم، وَلَكِن المُرَاد التَّنْبِيه على فضل الْعلمَاء، كَمَا حققنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ حَال الْعَالم المسؤول مِنْهُ عَن مَسْأَلَة معضلة، وَلَا يسْأَل عَن الْمسَائِل المعضلات إِلَّا الْعلمَاء الْفُضَلَاء الْعَامِلُونَ الداخلون فِي قَوْله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} (المجادلة: 11) . وَأما على تَقْدِير عدم الْبَاب السَّابِق فِي النّسخ، فالابتداء بِهَذَا الْبَاب الْإِشَارَة إِلَى مَا قيل من أَن الْعلم سُؤال وَجَوَاب، وَالسُّؤَال نصف الْعلم، فتميز هَذَا الْبَاب عَن بَقِيَّة الْأَبْوَاب الَّتِي تضمنها كتاب الْعلم، فَاسْتحقَّ بذلك التصدير على بَقِيَّة الْأَبْوَاب. فَافْهَم.

59 - حدّثنا مُحمَّدُ بْنُ سِنَان قَالَ: حدّثنا فُلَيْحُ (ح) وحدَّثني إبْراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ: حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْح قَالَ: حدّثني أبي قَالَ: حدّثني هِلاَلُ بْنُ عَليٍّ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: بَيْنَمَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَجْلِس يُحَدِّثُ القَوْمَ جاءَهُ أعْرَابِيُّ فقالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قالَ: وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذا قَضى حَدِيثَهُ قَالَ أيْنَ ارَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قالَ: هَا أَنا يَا رَسولَ! الله قَالَ: (فإذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ) قالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) .
(الحَدِيث 59 طرفه فِي: 6496) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالنونين، أَبُو بكر الْبَاهِلِيّ العوقي الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة مَأْمُون، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن رجل عَنهُ، توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، ابْن سُلَيْمَان بن أبي الْمُغيرَة، وَهُوَ حنين ابْن أخي عبيد بن حنين، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك، ولقبه فليح واشتهر بلقبه، الْخُزَاعِيّ الْمدنِي، وكنيته أَبُو يحيى، روى عَن نَافِع وعدة، وروى عَنهُ عبد اللَّه بن وهب وَيحيى الوحاظي وَابْن أعين وَشُرَيْح بن النُّعْمَان وَآخَرُونَ، قَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ضَعِيف مَا أقربه من ابْن أبي أويس، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: لَيْسَ بِقَوي وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ النَّسَائِيّ أَيْضا: لَيْسَ بِالْقَوِيّ: وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ، وَقد اعْتَمدهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه، وَقد روى عَنهُ زيد بن أبي أنيسَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: واجتماع البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَيْهِ فِي إخراجهما عَنهُ فِي الْأُصُول يُؤَكد أمره ويسكن الْقلب فِيهِ إِلَى تَعْدِيل، توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد اللَّه ابْن الْمُنْذر بن الْمُغيرَة بن عبد اللَّه بن خَالِد بن حزَام بن خويلد

(2/4)


الْقرشِي الْحزَامِي الْمدنِي أَبُو إِسْحَاق، روى عَنهُ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَابْن مَاجَه وَغَيرهم، وروى البُخَارِيّ عَنهُ، وروى أَيْضا عَن مُحَمَّد بن غَالب عَنهُ، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وروى لَهُ التِّرْمِذِيّ. قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. مَاتَ سنة سِتّ، وَقيل: خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْمَدِينَةِ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن فليح الْمَذْكُور، روى عَن هِشَام بن عُرْوَة وَغَيره، روى عَنهُ هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي وَغَيره، لينه ابْن معِين: وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا بِهِ بَأْس لَيْسَ بذلك الْقوي، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة. روى لَهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. الْخَامِس: أَبُو فليح الْمَذْكُور. السَّادِس: هِلَال بن عَليّ، وَيُقَال لَهُ: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال لَهُ: هِلَال ابْن أبي هِلَال، وَيُقَال لَهُ: هِلَال بن أُسَامَة، نسبته إِلَى جده، وَقد يظنّ أَرْبَعَة وَالْكل وَاحِد. قَالَ مَالك هِلَال بن أبي أُسَامَة: تَابعه على ذَلِك أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ، وَقَالَ: هُوَ الفِهري الْقرشِي الْمدنِي، وَهُوَ من صغَار التَّابِعين، وَشَيْخه فِي هَذَا الحَدِيث من أوساطهم، سمع أنسا وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَهُوَ شيخ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ فِي آخر خلَافَة هِشَام، وروى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّابِع: عَطاء بن يسَار، مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَقد تقدم ذكره. الثَّامِن: أَبُو هُرَيْرَة، وَقد تقدم ذكره أَيْضا.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْبَاهِلِيّ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى باهلة بنت صَعب بن سعد الْعَشِيرَة ابْن مَالك بن كَذَا، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج. العوقي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْوَاو وبالقاف: نِسْبَة إِلَى العوقة، وهم حَيّ من عبد الْقَيْس، وَلم يكن مُحَمَّد بن سِنَان من العوقة، وَإِنَّمَا نزل فيهم، كَانَ لَهُم محلّة بِالْبَصْرَةِ فَنزل عِنْدهم فنسب إِلَى العوقة. الْخُزَاعِيّ، بِضَم الْخَاء وبالزاي المعجمتين: نِسْبَة إِلَى خُزَاعَة، وَهُوَ عَمْرو بن ربيعَة. وَقَالَ الرشاطي: الْخُزَاعِيّ فِي الأزد وَفِي قضاعة. فَالَّذِي فِي الأزد ينْسب إِلَى خُزَاعَة وَهُوَ عَمْرو بن ربيعَة. وَفِي قضاعة بطن وَهُوَ خُزَاعَة بن مَالك بن عدي. الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي الْمُعْجَمَة: نِسْبَة إِلَى حزَام أحد الأجداد. وَقَالَ الرشاطي: الْحزَامِي فِي أَسد قُرَيْش وَفِي فَزَارَة. فَالَّذِي فِي قُرَيْش: حزَام بن خويلد بن أَسد، وَالَّذِي فِي فَزَارَة: حزَام بن سعد بن عدي بن فَزَارَة. الفِهري، بِكَسْر الْفَاء نِسْبَة إِلَى فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: إِن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والتحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ قَوْله: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا. وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، وَهُوَ أَن الشَّيْخ إِذا حدث لَهُ وَهُوَ السَّامع وَحده يَقُول: حَدثنِي، وَإِذا حدث وَمَعَهُ غَيره، يَقُول: حَدثنَا. وَفِيه العنعنة أَيْضا. وَمِنْهَا: أَن هَذَا إسنادان. أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح عَن هِلَال عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه عَن هِلَال ... إِلَى آخِره، وَهَذَا أنزل من الأول بِوَاحِد. وَمِنْهَا: أَن رجال الْإِسْنَاد الآخير كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِي غَالب النّسخ قبل قَوْله: وحَدثني إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر صُورَة (ح) وَهِي حاء مُهْملَة مُفْردَة. قيل: إِنَّهَا مَأْخُوذَة من التَّحَوُّل لتحوله من إِسْنَاد إِلَى آخر، وَيَقُول القارىء إِذا انْتهى إِلَيْهَا: حا، وَيسْتَمر فِي قِرَاءَة مَا بعْدهَا. وَقيل: إِنَّهَا من حَال بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا حجز لكَونهَا حَالَة بَين الإسنادين، وَأَنه لَا يلفظ عِنْد الإنتهاء إِلَيْهَا بِشَيْء. وَقيل: إِنَّهَا رمز إِلَى قَوْله: الحَدِيث وَأهل الْمغرب إِذا وصلوا إِلَيْهَا يَقُولُونَ الحَدِيث. وَقد كتب جمَاعَة عَن حفاظ عراق الْعَجم موضعهَا صَحَّ، فيشعر بِأَنَّهَا رمز صَحِيح، وَحسن هُنَا كِتَابَة صَحَّ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه سقط متن الْإِسْنَاد الأول، وَهِي كَثِيرَة فِي (صَحِيح مُسلم) : قَليلَة فِي البُخَارِيّ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا كَمَا ترى، وَأخرجه أَيْضا فِي الرقَاق مُخْتَصرا عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح بن سلمَان عَن هِلَال بن عَليّ بِهِ، وَلم يُخرجهُ من أَصْحَاب السِّتَّة غَيره.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (أَعْرَابِي) ، هُوَ الَّذِي يسكن الْبَادِيَة، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْأَعْرَاب سَاكِني الْبَادِيَة، من الْعَرَب الَّذِي لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة، وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، سَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ عَرَبِيّ، وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا لعرب، وَلم يعرف اسْم هَذَا الْأَعرَابِي. قَوْله: (السَّاعَة) قَالَ الْأَزْهَرِي: السَّاعَة: الْوَقْت الَّذِي تقوم فِيهِ الْقِيَامَة، وَسميت بذلك لِأَنَّهَا تفجأ النَّاس فِي سَاعَة، فَيَمُوت الْخلق كلهم بصيحة وَاحِدَة. وَفِي (الْعباب) : السَّاعَة الْقِيَامَة. قلت: أَصله: سوعة، قلبت الْوَاو الْفَا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. قَوْله: (وسد) ، من وسدته الشَّيْء فتوسده إِذا جعله تَحت رَأسه، وَالْمعْنَى: إِذا فوض الْأَمر وَأسْندَ، وَفِي (الْمطَالع) : إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله، كَذَا لكافة الروَاة، أَي: أسْند وَجعل إِلَيْهِم وقلدوه، وَعند الْقَابِسِيّ: أَسد، وَقَالَ: الَّذِي احفظ: وسد، وَقَالَ: هما بِمَعْنى. قَالَ القَاضِي: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد قَالُوا: وساد، وأساد، واشتقاقها وَاحِد، وَالْوَاو هُنَا بعد الْألف، ولعلها صُورَة الْهمزَة. والوساد: مَا يتوسد إِلَيْهِ للنوم. يُقَال: اساد وإسادة ووسادة. وَفِي (الْعباب) : الوساد والوسادة

(2/5)


والوسدة: المخدة وَالْجمع: وسد ووسائد. وسدته كَذَا أَي: جعلته لَهُ وسَادَة، وتوسد الشَّيْء جعله تَحت رَأسه. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله وسد أَي: جعل لَهُ غير أَهله وساداً. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ. كَذَا، بل الْمَعْنى: إِذا وضعت وسَادَة الْأَمر لغير أَهلهَا، وَالْمرَاد من الْأَمر جنس الْأَمر الَّذِي يتَعَلَّق بِالدّينِ، فَإِذا وضعت وسادته لغير أَهلهَا تهان وتحقر، على مَا نبينه عَن قريب. قَوْله: (فانتظر) أَمر من الإنتظار.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَيْنَمَا) : أَصله: بَين، فزيدت عَلَيْهِ: مَا، وَهُوَ ظرف زمَان بِمَعْنى المفاجأة. قَوْله: (النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مُبْتَدأ، وَقَوله: (يحدث الْقَوْم) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول خَبره، وَيحدث يَقْتَضِي مفعولين، وَأحد المفعولين هَهُنَا مَحْذُوف لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ، وَالْقَوْم: هم الرِّجَال دون النِّسَاء، وَقد تدخل النِّسَاء فِيهِ على سَبِيل التبع، لِأَن قوم كل نَبِي رجال وَنسَاء، جمعه أَقوام، وَجمع الْجمع أقاوم. وَقَوله: (فِي مجْلِس) حَال. قَوْله: (جَاءَهُ أَعْرَابِي) : جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ: أَعْرَابِي، وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي جَاءَهُ، الْعَائِد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ جَوَاب: بَيْنَمَا، وَهُوَ الْعَامِل فِي: بَيْنَمَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْأَفْصَح فِي جَوَابه أَن لَا يكون بإذ وَإِذا. وَقَالَ غَيره: بِالْعَكْسِ، وَالصَّوَاب مَعَه لوُرُود الحَدِيث هَكَذَا. وَقيل: بَيْنَمَا ظرف يتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك اقْتضى جَوَابا، وَفِيه نظر. قَوْله: (مَتى السَّاعَة؟) مُبْتَدأ وَخبر، وَكلمَة: مَتى، هَهُنَا للاستفهام. قَوْله: (يحدث) أَي: يحدث الْقَوْم، وَفِي بعض الرِّوَايَات بحَديثه، بِحرف الْجَرّ وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: يحدثه، بِزِيَادَة الْهَاء، وَلَيْسَت فِي رِوَايَة البَاقِينَ. وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ لَا يعود على الْأَعرَابِي، وَإِنَّمَا التَّقْدِير: يحدث الْقَوْم الحَدِيث الَّذِي كَانَ فِيهِ. فَإِن قلت: مَا مَحل: يحدث، من الْإِعْرَاب؟ قلت: محلهَا النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي مضى. قَوْله: (فَقَالَ بعض الْقَوْم) من هَهُنَا إِلَى قَوْله: (لم يسمع) جملَة مُعْتَرضَة. فَإِن قلت: هَل يجوز الِاعْتِرَاض بِالْفَاءِ؟ قلت: نعم جَائِز. قَوْله: (سمع) أَي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مَا قَالَ) أَي الْأَعرَابِي، وَمَا، مَوْصُولَة. وَقَالَ: جملَة صلته، والعائد مَحْذُوف أَي: مَا قَالَه. وَالْجُمْلَة مفعول: سمع. وَيجوز أَن تكون مَا مَصْدَرِيَّة أَي: سمع قَوْله، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله: (فكره مَا قَالَ) . قَوْله: (بل لم يسمع) قَالَ الْكرْمَانِي: علام عطف: بل لم يسمع؟ إِذْ لَا يَصح أَن يعْطف على مَا تقدم، إِذْ الإضراب إِنَّمَا يكون عَن كَلَام نَفسه، بل لَا يَصح عطف أصلا على كَلَام غير العاطف: قلت: لَا نسلم امْتنَاع صِحَة الْعَطف، والإضراب بَين كَلَام متكلمين، وَمَا الدَّلِيل عَلَيْهِ سلمنَا، لَكِن يكون الْكل من كَلَام الْبَعْض الأول كَأَنَّهُ قَالَ الْبَعْض الآخر للْبَعْض الأول: قل بل لم يسمع، أَو كَلَام الْبَعْض الآخر بِأَن يقدر لفظ: سمع، قبله كَأَنَّهُ قَالَ: سمع بل لم يسمع. قلت: هَذَا كُله تعسف نَشأ من عدم الْوُقُوف على أسرار الْعَرَبيَّة، فَنَقُول: التَّحْقِيق هَاهُنَا أَن كلمة: بل، حرف إضراب، فَإِن تَلَاهَا جملَة كَانَ معنى الإضراب إِمَّا الْإِبْطَال وَإِمَّا الِانْتِقَال عَن غَرَض إِلَى غَرَض، وَإِن تَلَاهَا مُفْرد فَهِيَ عاطفة، وَهَهُنَا تَلَاهَا جملَة، أَعنِي، قَوْله: لم يسمع، فَكَانَ الإضراب بِمَعْنى الْإِبْطَال. قَوْله: (حَتَّى إِذا قضى) يتَعَلَّق بقوله: فَمضى يحدث، لَا بقوله: لم يسمع. قَوْله: (قَالَ: أَيْن أرَاهُ السَّائِل؟) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة، مَعْنَاهُ: أَظن، وَهُوَ شكّ من مُحَمَّد بن فليح، وَرَوَاهُ الْحسن بن سُفْيَان وَغَيره عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن يُونُس عَن مُحَمَّد بن فليح من غير شكّ. وَلَفظه: (قَالَ أَيْن السَّائِل؟) فَإِن قلت: السَّائِل، مَرْفُوع بِمَاذَا؟ قلت: مَرْفُوع على ابْتِدَاء، وَخَبره قَوْله: (أَيْن) مقدما، وَأَيْنَ، سُؤال عَن الْمَكَان بنيت لتضمنها حرف الِاسْتِفْهَام. وَقَول بَعضهم: السَّائِل، بِالرَّفْع على الْحِكَايَة خطأ، بل هُوَ رفع على الِابْتِدَاء كَمَا قُلْنَا. وَقَوله: (أرَاهُ) جملَة مُعْتَرضَة بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وَالْمعْنَى: أَظن أَنه قَالَ: أَيْن السَّائِل. قَوْله: (قَالَ) . أَي: الْأَعرَابِي: هَا، حرف التنبية، وَفِي (الْعباب) : هَاء، بِالْمدِّ تكون تَنْبِيها بِمَعْنى جَوَابا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هَا، قد تكون جَوَاب النداء تمد وتقصر، وَأَيْضًا: هَا، مَقْصُورَة للتقريب إِذا قيل لَك: أَيْن أَنْت؟ تَقول: هَا أناذا. قَوْله: (أَنا) مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: أَنا سَائل، وَإِنَّمَا ترك العاطف عِنْد: قَالَ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ السُّؤَال وَالْجَوَاب، لِأَن الْمقَام كَانَ مقَام المقاولة، والراوي يَحْكِي ذَلِك كَأَنَّهُ، لما قَالَ الْأَعرَابِي ذَلِك، سَأَلَ سَائل: مَاذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَابه؟ وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (فَإِذا ضيعت الْأَمَانَة) كلمة إِذا، تضمن معنى الشَّرْط، وَلِهَذَا جَاءَ جوابها بِالْفَاءِ. وَهُوَ قَوْله: (فانتظر السَّاعَة) . قَوْله: (قَالَ: كَيفَ إضاعتها؟) أَي: قَالَ الْأَعرَابِي: كَيفَ إِضَاعَة الْأَمَانَة؟ وَفِي بعض النّسخ: (فَقَالَ) ، بِالْفَاءِ، وَمَا بعده من قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِلَا فَاء، وَوَجهه أَن السُّؤَال عَن كَيْفيَّة الإضاعة متفرع على مَا قبله، فَلهَذَا عقبه بِالْفَاءِ، بِخِلَاف اختيه. قَوْله: (قَالَ: إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله) جَوَاب لقَوْله: (كَيفَ إضاعتها؟) . فَإِن قلت: السُّؤَال إِنَّمَا هُوَ عَن كَيْفيَّة الإضاعة لقَوْله: كَيفَ، وَالْجَوَاب هُوَ بِالزَّمَانِ لَا بَيَان الْكَيْفِيَّة، فَمَا وَجهه؟ قلت: مُتَضَمّن للجواب إِذْ يلْزم مِنْهُ بَيَان

(2/6)


أَن كيفيتها هِيَ بالتوسد الْمَذْكُور. قَوْله: (فانتظر السَّاعَة) الْفَاء فِيهِ للتفريع، أَو جَوَاب شَرط مَحْذُوف يَعْنِي: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فانتظر السَّاعَة. وَلَيْسَت هِيَ جَوَاب إِذا الَّتِي فِي قَوْله: (إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله) لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّن هَهُنَا معنى الشَّرْط. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: لغير أَهله. قلت: إِنَّمَا قَالَ: إِلَى غير أَهله، ليدل على معنى تضمين الْإِسْنَاد.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (مَتى السَّاعَة؟) أَي: مَتى يكون قيام السَّاعَة. قَوْله: (فكره مَا قَالَ) : أَي فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَه الْأَعرَابِي، وَلِهَذَا لم يلْتَفت إِلَى الْجَواب. فَلذَلِك حصل للصحابة، رَضِي الله عَنْهُم، التَّرَدُّد، مِنْهُم من قَالَ: سمع فكره، وَمِنْهُم من قَالَ: لم يسمع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره السُّؤَال عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بخصوصها. قَوْله: (أَيْن السَّائِل عَن السَّاعَة؟) أَي عَن زمَان السَّاعَة. قَوْله: (إِذا وسد الْأَمر) المُرَاد بِهِ جنس الْأُمُور الَّتِي تتَعَلَّق بِالدّينِ: كالخلافة وَالْقَضَاء والإفتاء، وَنَحْو ذَلِك. وَيُقَال: أَي بِولَايَة غير أهل الَّذين والأمانات. وَمن يعينهم على الظُّلم والفجور، وَعند ذَلِك تكون الْأَئِمَّة قد ضيعوا الْأَمَانَة الَّتِي فرض الله عَلَيْهِم حَتَّى يؤتمن الخائن ويخون الْأمين، وَهَذَا إِنَّمَا يكون إِذا غلب الْجَهْل وَضعف أهل الْحق عَن الْقيام بِهِ. فَإِن قلت: تَأَخّر الْجَواب عَن السُّؤَال هَهُنَا، وَهل يجوز تَأْخِيره فِيمَا يتَعَلَّق بِالدّينِ؟ قلت: الْجَواب من وَجْهَيْن: الأول: بطرِيق الْمَنْع، فَنَقُول: لَا نسلم اسْتِحْقَاق الْجَواب هَهُنَا، لِأَن الْمَسْأَلَة لَيست مِمَّا يجب تعلمهَا، بل هِيَ مِمَّا لَا يكون الْعلم بهَا إِلَّا لله تَعَالَى. وَالثَّانِي: بطرِيق التَّسْلِيم فنقوله: سلمنَا ذَلِك، وَلكنه يحْتَمل أَن يكون، عَلَيْهِ السَّلَام، مشتغلاً فِي ذَلِك الْوَقْت بِمَا كَانَ أهم من جَوَاب هَذَا السَّائِل، وَيحْتَمل أَنه أَخّرهُ انتظاراً للوحي، أَو أَرَادَ أَن يتم حَدِيثه لِئَلَّا يخْتَلط على السامعين، وَيحْتَمل أَن يكون فِي ذَلِك الْوَقْت فِي جَوَاب سُؤال سَائل آخر مُتَقَدم، فَكَانَ أَحَق بِتمَام الْجَواب.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ وجوب تَعْلِيم السَّائِل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيْن السَّائِل) ثمَّ إخْبَاره عَن الَّذِي سَأَلَ عَنهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن من آدَاب المتعلم أَن لَا يسْأَل الْعَالم مَا دَامَ مشتغلاً بِحَدِيث أَو غَيره، لِأَن من حق الْقَوْم الَّذين بَدَأَ بِحَدِيثِهِمْ أَن لَا يقطعهُ عَنْهُم حَتَّى يتمه. الثَّالِث: فِيهِ الرِّفْق بالمتعلم وَإِن جَفا فِي سُؤَاله أَو جهل، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يوبخه على سُؤَاله قبل إِكْمَال حَدِيثه. الرَّابِع: فِيهِ مُرَاجعَة الْعَالم عِنْد عدم فهم السَّائِل، لقَوْله: كَيفَ إضاعتها؟ الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز اتساع الْعَالم فِي الْجَواب أَنه يَنْبَغِي مِنْهُ، إِذا كَانَ ذَلِك لِمَعْنى أَو لمصْلحَة. السَّادِس: فِيهِ التَّنْبِيه على تَقْدِيم الأسبق فِي السُّؤَال لأَنا قُلْنَا: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون تَأْخِير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب لكَونه مَشْغُولًا بِجَوَاب سُؤال سَائل آخر، فنبه بذلك أَنه يجب على القَاضِي والمفتي والمدرس تَقْدِيم الأسبق لاستحقاقه بِالسَّبقِ.

3 - (بابُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعلْمِ)

أَي: هَذَا بَاب من رفع صَوته، فالباب: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى: من، وَهِي مَوْصُولَة، وَرفع صَوته، جملَة صلتها. فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر رفع الصَّوْت بِالْعلمِ، وَالْعلم صفة معنوية؟ قلت: هَذَا من بَاب إِطْلَاق اسْم الْمَدْلُول على الدَّال، وَالتَّقْدِير: من رفع صَوته بِكَلَام يدل على الْعلم. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق سُؤال السَّائِل عَن الْعلم، والعالم قد يحْتَاج إِلَى رفع الصَّوْت فِي الْجَواب لأجل غَفلَة السَّائِل وَنَحْوهَا، لَا سِيمَا إِذا كَانَ سُؤَاله وَقت اشْتِغَال الْعَالم لغيره، وَهَذَا الْبَاب يُنَاسب ذَاك الْبَاب من هَذِه الْحَيْثِيَّة.

60 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ عَارِمُ بنُ الفَضْلِ قَالَ: حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بنِ ماهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمُرٍ وَقَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاها فأَدْرَكَنا وقَدْ أرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ ونَحْنُ نَتَوضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمسَحُ عَلَى أرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأعْلى صَوْتِهِ: (ويْلٌ لْلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ) مَرَّتَيْن أوْ ثَلاَثاً
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (فَنَادَى بِأَعْلَى صَوته) ، وَهُوَ رفع الصَّوْت.

(2/7)


بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَقد تقدم. الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، الوضاح الْيَشْكُرِي، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، جَعْفَر بن إِيَاس الْيَشْكُرِي الْمَعْرُوف بِابْن أبي وحشية، والواسطي. وَقيل: الْبَصْرِيّ. قَالَ أَحْمد وَيحيى وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة كثير الحَدِيث، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: يُوسُف بن مَاهك ابْن بهزاد، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل بضَمهَا أَيْضا، وَالْأول أصح، وبالزاي الْمُعْجَمَة، الْفَارِسِي الْمَكِّيّ، نزلها. سمع ابْن عمر وَابْن عَمْرو وَعَائِشَة وَغَيرهَا، وَسمع أَبَاهُ مَاهك. قَالَ يحيى: ثِقَة، توفّي سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَة. روى لَهُ الْجَمَاعَة. ويوسف فِيهِ سِتَّة أوجه، وَقد ذَكرنَاهَا. وماهك: بِفَتْح الْهَاء، غير منصرف لِأَنَّهُ اسْم اعجمي علم، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ منصرف، وَقَالَ بَعضهم: فَكَأَنَّهُ لحظ فِيهِ الْوَصْف وَلم يبين مَاذَا الْوَصْف، وَقد أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِن قلت: العجمة والعلمية فِيهِ عقب قَول الْأصيلِيّ إِنَّه منصرف! ؟ قلت: شَرط العجمة مَفْقُود. وَهُوَ العلمية فِي العجمية. لِأَن مَاهك مَعْنَاهُ القمير، فَهُوَ إِلَى الْوَصْف أقرب. قلت: كل مِنْهُمَا لم يُحَقّق كَلَامه، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن من يمنعهُ الصّرْف يُلَاحظ فِيهِ العلمية والعجمة، أما العلمية فَظَاهر، وَأما العجمة فَإِن مَاهك بِالْفَارِسِيَّةِ تَصْغِير ماه، وَهُوَ الْقَمَر بالعربي، وقاعدتهم أَنهم إِذا صغروا الِاسْم أدخلُوا فِي آخِره الْكَاف، وَأما من يصرفهُ فَإِنَّهُ يُلَاحظ فِيهِ معنى الصّفة، لِأَن التصغير من الصِّفَات، وَالصّفة لَا تجامع العلمية، لإن بَينهمَا تضاداً، فَحِينَئِذٍ يبْقى الِاسْم بعلة وَاحِدَة فَلَا يمْنَع من الصّرْف، وَلَو جوز الْكسر فِي الْهَاء يكون عَرَبيا صرفا، فَلَا يمْنَع من الصّرْف أصلا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون اسْم فَاعل، من مهكت الشَّيْء أمهكه مهكاً إِذا بالغت فِي سحقه، قَالَه ابْن دُرَيْد، وَفِي (الْعباب) : مهكت الشَّيْء إِذا ملسته، أَو يكون من مهكة الشَّبَاب، بِالضَّمِّ: وَهُوَ امتلاؤه وارتواؤه ونماؤه،، وَذكر الصغاني هَذِه الْمَادَّة، ثمَّ قَالَ عقيبها: ويوسف بن مَاهك من التَّابِعين الثِّقَات، وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّه عَرَبِيّ مَعَ كَون الْهَاء مَفْتُوحَة بِأَن يكون علما مَنْقُولًا من مَاهك، وَهُوَ فعل مَاض من المماهكة، وَهُوَ: الْجهد فِي الْجِمَاع من الزَّوْجَيْنِ، فعلى هَذَا لَا يجوز صرفه أصلا للعلمية، وَوزن الْفِعْل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَاهك اسْم أمه، وَالْأَكْثَر على أَنه اسْم أَبِيه، وَاسم أمه مُسَيْكَة. وَعَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ: أَن يُوسُف بن مَاهك، ويوسف بن ماهان وَاحِد. قلت: فعلى قَول الدَّارَقُطْنِيّ يمْنَع من الصّرْف أصلا للعلمية والتأنيث. فَافْهَم. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَمْرو ابْن الْعَاصِ، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومكي. وَمِنْهَا: أَن فِي رِوَايَة كَرِيمَة عَن الْمُسْتَمْلِي: حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان عَارِم بن الْفضل، وَاقْتصر غَيره على أبي النُّعْمَان.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن اخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن أبي النُّعْمَان، وَفِي الْعلم أَيْضا عَن مُسَدّد، وَفِيه: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة صَلَاة الْعَصْر) . وَفِي الطَّهَارَة عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَفِيه: (فَأَدْرَكنَا وَقد ارهقتنا الْعَصْر) . واخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن شَيبَان بن فروخ وَأبي كَامِل الجحدري عَن أبي عوَانَة. واخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن ابي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن أبي الْوَلِيد عَن مُعَاوِيَة بن صَالح عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك عَن أَبى عوَانَة عَن أبي بشر عَنهُ، واخرجه الطَّحَاوِيّ عَن أَحْمد بن دَاوُد الْمَكِّيّ عَن سهل بن بكار عَن أبي عوَانَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (تخلف) ، أَي: تَأَخّر خلفنا. قَوْله: (فادركنا) أَي لحق بِنَا، قَوْله: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة) أَي: غشيتنا الصَّلَاة، أَي حملتنا الصَّلَاة على أَدَائِهَا. وَقيل: قد أعجلتنا، لضيق وَقتهَا؛ وَقَالَ القَاضِي: وَمِنْه الْمُرَاهق، بِالْفَتْح فِي الْحَج وَيُقَال بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الَّذِي أعجله ضيق الْوَقْت أَن يطوف. وَفِي (الموعب) : قَالَ أَبُو زيد: رهقتنا الصَّلَاة، بِالْكَسْرِ، رهوقاً: حانت، وأرهقنا عَن الصَّلَاة إرهاقاً: أخرناها عَن وَقتهَا. وَقَالَ صَاحب (الْعين) : استأخرنا عَنْهَا حَتَّى يدنو وَقت الْأُخْرَى، ورهقت الشَّيْء رهقاً أَي: دَنَوْت مِنْهُ. وَفِي (الْمُحكم) : ارهقنا اللَّيْل دنا منا. ورهقتنا الصَّلَاة رهقاً: حانت وَفِي رهقتنا الصَّلَاة: غشيتنا. وَفِي (الِاشْتِقَاق) ، للرماني: أصل الرهق الغشيان، وكذ قَالَه الزّجاج، وَقَالَ أَبُو النَّصْر: رهقني دنا مني. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: رهقته وأرهقته بِمَعْنى: دَنَوْت مِنْهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: رهقه، بِالْكَسْرِ، ويرهقه رهقاً، أَي: غشيه؛ قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة} (يُونُس: 26) وَقَالَ أَبُو زيد: أرهقه عسراً: إِذا كلفه إِيَّاه. يُقَال: لَا ترهقني لَا ارهقك، أَي: لَا تعسرني لَا أعسرك. وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا ترهقني من أَمْرِي عسرا} (الْكَهْف: 73) أَي: لَا تلْحق بِي، من قَوْلهم: رهقه الشَّيْء إِذا غشيه، وَقيل: لَا تعجلني، وَيَجِيء على قَوْله أبي زيد: لَا تكلفني. قَوْله: (ويل) ، يُقَابل وَيْح،

(2/8)


وَيُقَال لمن وَقع فِيمَا لَا يسْتَحقّهُ ترحماً عَلَيْهِ. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ: ويل: وَاد فِي جَهَنَّم لَو أرْسلت فِيهِ الْجبَال لماعت من حره، وَقيل: ويل: صديد أهل النَّار. قلت: ويل من المصادر الَّتِي لَا أَفعَال لَهَا، وَهِي كلمة عَذَاب وهلاك. قَوْله: (للاعقاب) جمع عقب مِثَال كبد، وَهُوَ المستأخر الَّذِي يمسك مُؤخر شِرَاك النَّعْل، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: عقب وعقب مِثَال: كبد وصفر، وَهِي مُؤَنّثَة، وَلم يكسروا الْعين كَمَا فِي: كبد وكتف. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: الْعقب يكون فِي الْمَتْن والساقين مختلط بِاللَّحْمِ، يمشق مِنْهُ مشقاً ويهذب وينقى من اللَّحْم ويسوى مِنْهُ الْوتر، وَأما العصب فالعلياء الغليظ، وَلَا خير فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْث: الْعقب مُؤخر الْقدَم فَهُوَ من العصب لَا من الْعقب. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْعقب مَا أصَاب الأَرْض مُؤخر الرجل، إِلَى مَوضِع الشرَاك. وَفِي (الْمُخَصّص) : عرش الْقدَم أصُول سلامياتها المنتشرة الْقَرِيبَة من الْأَصَابِع، وعقبها مؤخرها الَّذِي يفصل عَن مُؤخر الْقدَم، وَهُوَ موقع الشرَاك من خلفهَا.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (تخلف) فعل، وفاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فِي سفرة) فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (سافرناها) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ على أَنَّهَا صفة: لسفرة، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ وَقع مَفْعُولا مُطلقًا، أَي سافرنا تِلْكَ السفرة، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم: زيدا أَظُنهُ منطلق، أَي: زيد ينْطَلق أَظن الظَّن، أَو: ظنا. قَوْله: (فادركنا) ، بِفَتْح الْكَاف: جملَة من الْفِعْل، وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ، وَالْمَفْعُول وَهُوَ قَوْله: نَا. قَوْله: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة) ، جملَة وَقعت حَالا. قَالَ عِيَاض: رُوِيَ بِرَفْع الصَّلَاة على أَنَّهَا الْفَاعِل، وَرُوِيَ: ارهقنا الصَّلَاة، بِالنّصب، على أَنَّهَا مفعول. أَي: أخرنا الصَّلَاة. قلت: رُوِيَ فِي وَجه الرّفْع وَجْهَان أَيْضا، أَحدهمَا: أرهقتنا بتأنيث الْفِعْل بِالنّظرِ إِلَى لفظ الصَّلَاة، وَالْآخر: أَرْهقنَا، بِدُونِ التَّاء لِأَن تَأْنِيث الصَّلَاة غير حَقِيقِيّ. قَوْله: (وَنحن نَتَوَضَّأ) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَجعلنَا) هُوَ من أَفعَال المقاربة، وَيسْتَعْمل اسْتِعْمَال كَاد، وَهُوَ أَنه يرفع الِاسْم، وَخَبره فعل مضارع بِغَيْر أَن، متأول باسم الْفَاعِل، نَحْو: كَاد زيد يخرج. أَي: خَارِجا. وَإِنَّمَا ترك: أَن، مَعَ كَاد، وَأثبت مَعَ عَسى لِأَن: كَاد، أبلغ فِي تقريب الشَّيْء من الْحَال. أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: كَادَت الشَّمْس تغرب، كَانَ الْمَعْنى قرب غُرُوبهَا جدا. وَعَسَى، أذهب فِي الدّلَالَة على الِاسْتِقْبَال، أَلا ترى تَقول: عَسى الله أَن يدخلني الْجنَّة، وَإِن لم يكن هَذَا شَدِيد الْقرب من الْحَال، فَلَمَّا كَانَ الْأَمر على ذَا، حذف علم الِاسْتِقْبَال مَعَ كَاد، وَأثبت مَعَ عَسى، وَقد شبهه بعسى من قَالَ:
(قد كَانَ من طول الْبلَاء أَن يمصحا)

ثمَّ قَوْله: نَا فِي: فَجعلنَا، اسْم جعل، وَقَوله: نمسح، خَبره. قَوْله: (ويل) مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، والمخصص كَونه مصدرا فِي. معنى الدُّعَاء كَمَا فِي سَلام عَلَيْكُم، وَخَبره قَوْله: للاعقاب، قَوْله: (من النَّار) : كلمة من، للْبَيَان كَمَا فِي قَوْله: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} (الْحَج: 30) وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله: تَعَالَى: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) أَي: فِي يَوْم الْجُمُعَة قَوْله: (مرَّتَيْنِ) : تَثْنِيَة مرّة، وَتجمع على مَرَّات، وانتصاب: كلهَا، على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (أَو ثَلَاثًا) شكّ من عبد اللَّه بن عَمْرو.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (تخلف عَنَّا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي سفرة) هَذِه السفرة قد جَاءَت مبينَة فِي بعض طرق رِوَايَات مُسلم: (رَجعْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة حَتَّى إِذا كُنَّا فِي الطَّرِيق تعجل قوم عِنْد الْعَصْر، فتوضؤا وهم عِجَال، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِم وَأَعْقَابهمْ تلوح لم يَمَسهَا المَاء. فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار، أَسْبغُوا الْوضُوء) . قَوْله: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة) ، وَهِي: صَلَاة الْعَصْر، على مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم مصرحة. وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق مُسَدّد، على مَا ذكرنَا. قَوْله: (وَنحن نَتَوَضَّأ، فَجعلنَا نمسح على أَرْجُلنَا) قَالَ القَاضِي عِيَاض: مَعْنَاهُ نغسل كَمَا هُوَ المُرَاد فِي الْآيَة، بِدَلِيل تبَاين الرِّوَايَات، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعضهم أَنه دَلِيل على أَنهم كَانُوا يمسحون، فنهاهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، وَأمرهمْ بِالْغسْلِ. وَقَالُوا أَيْضا: لَو كَانَ غسلا لأمرهم بِالْإِعَادَةِ لما صلوا، وَهَذَا لَا حجَّة فِيهِ لقائله، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، قد أعلمهم بِأَنَّهُم مستوجبون النَّار على فعلهم، بقوله: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . وَهَذَا لَا يكون إلاَّ فِي الْوَاجِب. وَقد أَمرهم بِالْغسْلِ، بقوله: (اسبغوا الْوضُوء) . وَلم يَأْتِ أَنهم صلوا بِهَذَا الْوضُوء، وَلَا أَنَّهَا كَانَت عَادَتهم قبلُ، فَيلْزم أَمرهم بِالْإِعَادَةِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، مَا ملخصه: أَنهم كَانُوا يمسحون عَلَيْهَا مثل مسح الرَّأْس، ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنعهم عَن ذَلِك وَأمرهمْ بِالْغسْلِ، فَهَذَا يدل على انتساخ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من الْمسْح، وَفِيه نظر، لِأَن قَوْله: نمسح على أَرْجُلنَا، يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: نغسل غسلا خَفِيفا مبقعاً. حَتَّى يرى كَأَنَّهُ مسح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي الرِّوَايَة الآخرى، (رأى قوما توضؤا وَكَأَنَّهُم تركُوا من أَرجُلهم شَيْئا) . فَهَذَا يدل على أَنهم كَانُوا يغسلون، وَلَكِن غسلا قَرِيبا من الْمسْح، فَلذَلِك قَالَ لَهُم: أَسْبغُوا الْوضُوء، وَأَيْضًا إِنَّمَا يكون الْوَعيد على ترك الْفَرْض، وَلَو لم يكن الْغسْل فِي الأول

(2/9)


فرضا عِنْدهم لما توجه الْوَعيد، لِأَن الْمسْح لَو كَانَ هُوَ المشمول فِيمَا بَينهم كَانَ يَأْمُرهُم بِتَرْكِهِ وانتقالهم إِلَى الْغسْل بِدُونِ الْوَعيد، وَلأَجل ذَلِك قَالَ القَاضِي عِيَاض: مَعْنَاهُ: نغسل كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإسباغ الْوضُوء، ووعيده وإنكاره عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْغسْل يدل على أَن وَظِيفَة الرجلَيْن هُوَ الْغسْل الوافي لَا الْغسْل المشابه بِالْمَسْحِ كَغسْل هَؤُلَاءِ. وَقَول عِيَاض: وَقد أَمرهم بِالْغسْلِ بقوله: (اسبغوا الْوضُوء) ، غير مُسلم لِأَن الْأَمر بالإسباغ أَمر بتكميل الْغسْل، وَالْأَمر بِالْغسْلِ فهم من الْوَعيد لِأَنَّهُ لَا يكون إلاَّ فِي ترك وَاجِب، فَلَمَّا فهم ذَلِك من الْوَعيد أكده بقوله: (اسبغوا الْوضُوء) ، وَلِهَذَا ترك العاطف، فَوَقع هَذَا تَأْكِيدًا عَاما يَشْمَل الرجلَيْن وَغَيرهمَا من أَعْضَاء الْوضُوء، لِأَنَّهُ لم يقل: اسبغوا الرجلَيْن: بل قَالَ: (اسبغوا الْوضُوء) ، وَالْوُضُوء هُوَ غسل الْأَعْضَاء الثَّلَاثَة، وَمسح الرَّأْس، ومطلوبية الإسباغ غير مُخْتَصَّة بِالرجلَيْنِ، فَكَمَا أَنه مَطْلُوب فيهمَا، فَكَذَلِك مَطْلُوب فِي غَيرهمَا. فَإِن قلت: لم ذكر الإسباغ عَاما والوعيد خَاصّا. قلت: لأَنهم مَا قصروا إلاَّ فِي وَظِيفَة الرجلَيْن، فَلذَلِك ذكر لفظ الأعقاب، فَيكون الْوَعيد فِي مُقَابلَة ذَلِك التَّقْصِير الْخَاص.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دَلِيل على وجوب غسل الرجلَيْن فِي الْوضُوء، لِأَن الْمسْح لَو كَانَ كَافِيا لما أوعد من ترك غسل الْعقب بالنَّار، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي بَابه مُسْتَوفى. الثَّانِي: فِيهِ وجوب تَعْمِيم الْأَعْضَاء بالمطهر، وَإِن ترك الْبَعْض مِنْهَا غير مجزىء. الثَّالِث: تَعْلِيم الْجَاهِل وإرشاده. الرَّابِع: أَن الْجَسَد يعذب، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. الْخَامِس: جَوَاز رفع الصَّوْت فِي المناظرة بِالْعلمِ. السَّادِس: أَن الْعَالم يُنكر مَا يرى من التضييع للفرائض وَالسّنَن، ويغلظ القَوْل فِي ذَلِك، وَيرْفَع صَوته للإنكار. السَّابِع: تكْرَار الْمَسْأَلَة تَأْكِيدًا لَهَا ومبالغة فِي وُجُوبهَا، وَسَيَأْتِي ذكره فِي بَاب: من أعَاد الحَدِيث ثَلَاثًا ليفهم.
الأسئلة والاجوبة: مِنْهَا مَا قيل: إِن الرجل لَهُ رجلَانِ وَلَيْسَ لَهُ أرجل، فَالْقِيَاس أَن يُقَال على رجلينا. أُجِيب: بِأَن الْجمع إِذا قوبل بِالْجمعِ يُفِيد التَّوْزِيع، فتوزع الأرجل على الرِّجَال. وَمِنْهَا مَا قيل: فعلى هَذَا يكون لكل رجل رجل. أُجِيب: بِأَن جنس الرجل يتَنَاوَل الْوَاحِد والإثنين، وَالْعقل يعين الْمَقْصُود، سِيمَا فِيمَا هُوَ محسوس. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْمسْح على ظهر الْقدَم لَا على الرجل كلهَا. أُجِيب: بِأَنَّهُ أطلق الرجل، وَأُرِيد الْبَعْض أَي: ظهر الْقدَم، ولقرينة الْعرف الشَّرْعِيّ إِذْ الْمَعْهُود مسح ذَلِك، وَهَذَا فِيهِ نظر، لأَنهم مَا كَانُوا يمسحون مثل مسح الرَّأْس، وإنماا كَانُوا يغسلون، وَلَكِن غسلا خَفِيفا، فَلذَلِك أطْلقُوا عَلَيْهِ الْمسْح وَقد حققناه عَن قريب. وَمِنْهَا مَا قيل: لم خص الأعقاب بِالْعَذَابِ؟ أُجِيب: لِأَنَّهَا الْعُضْو الَّتِي لم تغسل. وَفِي (الغريبين) : وَفِي الحَدِيث: (ويل للعقب من النَّار) ، أَي: لصَاحب الْعقب المقصر عَن غسلهَا، كَمَا قَالَ: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 82) أَي: أهل الْقرْيَة، وَقيل: إِن الْعقب يخص بالمؤلم من الْعقَاب إِذا قصر فِي غسلهَا، وَفِي (الْمُنْتَهى فِي اللُّغَة) : وَفِي الحَدِيث: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . أَرَادَ التَّغْلِيظ فِي إسباغ الْوضُوء، وَهُوَ التَّكْمِيل والإتمام والسبوغ: الشُّمُول. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا الْألف وَاللَّام فِي: الأعقاب؟ أُجِيب: بِأَنَّهَا للْعهد، أَي: لِلْأَعْقَابِ الَّتِي رَآهَا كَذَلِك لم تمسها المَاء، أَو يكون المُرَاد: الأعقاب الَّتِي صفتهَا هَذِه، لَا كل الأعقاب. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن اللَّام للاختصاص النافع إِذْ الْمَشْهُور أَن اللَّام تسْتَعْمل فِي الْخَيْر، وعَلى فِي الشَّرّ، نَحْو: {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} (الْبَقَرَة: 286) وَأجِيب: بِأَنَّهَا للاختصاص هَهُنَا نَحْو: {وَإِن اسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) وَنَحْو: {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} (الْبَقَرَة: 10، 174، آل عمرَان: 77، 91، 177، 188، الْمَائِدَة: 36، التَّوْبَة: 61، 79، إِبْرَاهِيم، 22، النَّحْل: 63، 104، 117، الشورى: 21، 242، الْحَشْر: 15، التغابن: 5) قلت: وَقد تسْتَعْمل اللَّام فِي مَوضِع: على. وَقَالُوا: إِن اللَّام فِي: {وَإِن اسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) بِمَعْنى: عَلَيْهَا. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أخرت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، الصَّلَاة عَن الْوَقْت الْفَاضِل؟ أُجِيب: بِأَنَّهُم إِنَّمَا أخروها عَنهُ طَمَعا أَن يصلوها مَعَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، لفضل الصَّلَاة مَعَه، فَلَمَّا خَافُوا الْفَوات استعجلوا، فانكر عَلَيْهِم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَمِنْهَا مَا قيل: روى مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، رأى رجلا لم يغسل عقبه، فَقَالَ: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . وَكَذَلِكَ حَدِيث مُسلم عَن عبد اللَّه بن عَمْرو الَّذِي مضى ذكره عَن قريب، وَفِيه: (فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِم وَأَعْقَابهمْ تلوح لم يَمَسهَا المَاء، فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . وَهَذَانِ الحديثان تَصْرِيح بِأَن الْوَعيد وَقع على عدم اسْتِيعَاب الرِجل بِالْمَاءِ، وَحَدِيث البُخَارِيّ يدل على أَن الْمسْح لَا يجزىء عَن الْغسْل فِي الرجل، وَأجِيب: بِأَنَّهُ ترد الْأَحَادِيث إِلَى معنى وَاحِد، وَيكون معنى قَوْله: (لم يَمَسهَا المَاء) ، أَي: بِالْغسْلِ، وَإِن مَسهَا بِالْمَسْحِ فَيكون الْوَعيد وَقع على

(2/10)


الِاقْتِصَار على الْمسْح دون الْغسْل. قلت: هَذَا الْجَواب يُؤَيّد مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَن نظر، وَالله أعلم.

4 - (بَاب قَوْلِ المُحَدِّثِ: حدّثنا أوْ أخْبَرَنَا وأنْبأَنَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الْمُحدث: حَدثنَا وَأخْبرنَا وأنبأنا، هَل فِيهِ فرق أم الْكل وَاحِد؟ وَالْمرَاد بالمحدث اللّغَوِيّ، وَهُوَ الَّذِي يحدث غَيره، لَا الاصطلاحي، وَهُوَ الَّذِي يشْتَغل بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيّ. فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْعلم؟ وَمَا وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله؟ قلت: أما ذكره مُطلقًا فللتنبيه على أَنه بنى كِتَابه على المسندات المروية عَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. وَأما ذكره فِي كتاب الْعلم فَظَاهر لِأَنَّهُ من جملَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُحدث فِي معرفَة الْفرق بَين الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة لُغَة وَاصْطِلَاحا، وَأما وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ فَهُوَ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق: رفع الْعَالم صَوته بِالْعلمِ ليتعلم الْحَاضِرُونَ ذَلِك، ويعلمون غَيرهم بالرواية عَنهُ، فَعِنْدَ الرِّوَايَة وَالنَّقْل عَنهُ لَا بُد من ذكر لَفْظَة من الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة، فحينئذٍ ظهر الِاحْتِيَاج إِلَى مَعْرفَتهَا لُغَة وَاصْطِلَاحا. وَمن حَيْثُ الْفرق بَينهَا وَعَدَمه، وَفِي بعض النّسخ: أخبرنَا وَحدثنَا وأنبأنا.
وَقَالَ لَنَا الحُمَيْدِيُّ كانَ عِنْدَ ابنِ عُيَيْنَةَ: حدّثنا وأخْبَرَنَا وأنْبَانَا، وسَمِعْتُ واحِداً.
الْحميدِي، بِضَم الْحَاء، هُوَ أَبُو بكر عبد اللَّه بن الزبير الْقرشِي الْأَسدي الْمَكِّيّ، أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَقد مر ذكره. وتصدير الْبَاب بقوله تَنْبِيه على أَنه اخْتَار هَذَا القَوْل فِي عدم الْفرق بَين هَذِه الْأَلْفَاظ الْأَرْبَعَة، نقل هَذَا عَن شَيْخه الْحميدِي، والْحميدِي أَيْضا نقل ذَلِك عَن شَيْخه سُفْيَان بن عَيْنِيَّة، وَهُوَ أَيْضا قد ذكر. وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ لنا الْحميدِي، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي. وَكَذَا ذكر أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَلَيْسَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة: وانبأنا، وَالْكل فِي رِوَايَة أبي ذَر. ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله: قَالَ الْحميدِي، لَا يدل جزما على أَنه سَمعه مِنْهُ، فَيحْتَمل الْوَاسِطَة، وَهُوَ أحط مرتبَة من: حَدثنَا وَنَحْوه، سَوَاء كَانَ بِزِيَادَة: لنا، أَو لم يكن، لِأَنَّهُ يُقَال على سَبِيل المذاكرة، بِخِلَاف نَحْو: حَدثنَا، فَإِنَّهُ يُقَال على سَبِيل النَّقْل والتحمل. وَقَالَ جَعْفَر بن حمدَان النَّيْسَابُورِي: كلما قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: قَالَ لي فلَان، فَهُوَ عرض ومناولة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا خلاف أَنه يجوز فِي السماع من لفظ الشَّيْخ أَن يَقُول السَّامع فِيهِ: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، وانبأنا، وسمعته يَقُول، وَقَالَ لنا فلَان، وَذكر لنا فلَان؛ وَإِلَيْهِ مَال الطَّحَاوِيّ. وَصحح هَذَا الْمَذْهَب ابْن الْحَاجِب، وَنقل هُوَ وَغَيره عَن الْحَاكِم أَنه مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْمُحدثين مِنْهُم الزُّهْرِيّ وَيحيى الْقطَّان. وَقيل: إِنَّه قَول مُعظم الْحِجَازِيِّينَ والكوفيين فَلذَلِك اخْتَارَهُ البُخَارِيّ بنقله عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقَالَ آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ إلاَّ مُقَيّدا مثل: حَدثنَا فلَان قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين. وَقَالَ آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي: حَدثنَا، وبالجواز فِي أخبرنَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَمُسلم بن الْحجَّاج وَجُمْهُور أهل الْمشرق، وَنقل عَن أَكثر الْمُحدثين مِنْهُم ابْن جريج وَالْأَوْزَاعِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن وهب. وَقيل: إِن عبد اللَّه ابْن وهب أول من أحدث هَذَا الْفرق بِمصْر، وَصَارَ هُوَ الشَّائِع الْغَالِب على أهل الحَدِيث، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه اصْطِلَاح مِنْهُم أَرَادوا بِهِ التَّمْيِيز بَين النَّوْعَيْنِ، وخصصوا قِرَاءَة الشَّيْخ: بحدثنا، لقُوَّة إشعاره بالنطق والمشافهة، وأحدث الْمُتَأَخّرُونَ تَفْصِيلًا آخر وَهُوَ أَنه مَتى سمع وَحده من لفظ الشَّيْخ أفرد، فَقَالَ: حَدثنِي أَو أَخْبرنِي أَو سَمِعت، وَمَتى سمع مَعَ غَيره جمع فَقَالَ: حَدثنَا أَو أخبرنَا، وَمَتى قَرَأَ بِنَفسِهِ على الشَّيْخ أفرد فَقَالَ: أَخْبرنِي. وخصصوا الإنباء بِالْإِجَازَةِ الَّتِي يشافه بهَا الشَّيْخ من يُخبرهُ، وكل هَذَا مستحسن، وَلَيْسَ بِوَاجِب عِنْدهم، لِأَن هَذَا اصْطِلَاح وَلَا مُنَازعَة فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: التحديث والإخبار والإنباء سَوَاء وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ عِنْد أهل الْعلم بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الحَدِيث هُوَ القَوْل، وَالْخَبَر من الْخَبَر، بِضَم الْخَاء وَسُكُون الْبَاء، وَهُوَ الْعلم بالشَّيْء من خبرت الشَّيْء أخبرهُ خَبرا وخبرة، وَمن أَيْن خبرت هَذَا أَي: عَلمته، وَإِنَّمَا اسْتِوَاء هَذِه الْأَلْفَاظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاصْطِلَاح، وكل مَا جَاءَ من لفظ الْخَبَر وَمَا يشتق مِنْهُ فِي الْقُرْآن والْحَدِيث وَغَيرهمَا فَمَعْنَاه الْأَصْلِيّ هُوَ الْعلم. فَافْهَم.

(2/11)


وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: حدّثنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهَوَ الصَّادِقُ المَصْدُوق، وَقَالَ شَقِيقُ عَنْ عَبْدِ اللَّه: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلِمَةً، وَقَالَ حذَيْفَةُ: حدّثنا رسولُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثَيْنِ.
هَذِه ثَلَاث تعاليق أوردهَا تَنْبِيها على أَن الصَّحَابِيّ تَارَة كَانَ يَقُول: حَدثنَا، وَتارَة كَانَ يَقُول: سَمِعت، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لَا فرق بَينهمَا. التَّعْلِيق الأول: الَّذِي رَوَاهُ عبد اللَّه بن مَسْعُود طرف من الحَدِيث الْمَشْهُور، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْقدر، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو وَائِل شَقِيق عَن عبد اللَّه هُوَ ابْن مَسْعُود، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز. الثَّالِث: رَوَاهُ حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَاسم الْيَمَان: حسل، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، وَيُقَال: حسيل، بِالتَّصْغِيرِ ابْن جَابر بن عَمْرو بن ربيعَة بن جروة، بِالْجِيم الْمَكْسُورَة، ابْن الْحَارِث بن مَازِن بن قطيعة بن عبس بن بغيض، بِفَتْح الْمُوَحدَة وغين وضاد معجمتين، ابْن ريث، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، بن غطفان بن سعد بن قيس بن غيلَان بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان الْعَبْسِي، حَلِيف بني عبد الْأَشْهَل من الْأَنْصَار. قَالُوا: واليمان، لقب حسل. وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَابْن سعد: هُوَ لقب جروة، وَإِنَّمَا لقب الْيَمَان لِأَن جروة أصَاب دَمًا فِي قومه فهرب إِلَى الْمَدِينَة، فَخَالف بني عبد الْأَشْهَل من الْأَنْصَار، فَسَماهُ قومه: الْيَمَان، لِأَنَّهُ حَالف اليمانية، أسلم هُوَ وَأَبوهُ وشهدا أحدا، وَقتل أَبوهُ يَوْمئِذٍ، قَتله الْمُسلمُونَ خطأ، فوهب لَهُم دَمه، وَأسْلمت أم حُذَيْفَة وَهَاجَرت، وأرادا أَن يشهدَا بَدْرًا فَاسْتَحْلَفَهُمَا الْمُشْركُونَ أَن لَا يشهدَا مَعَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَحَلفا لَهُم ثمَّ سَأَلَا النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: (نفي لَهُم بعهدهم ونستعين بِاللَّه عَلَيْهِم) . وَكَانَ صَاحب سر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمُنَافِقين، يعلمهُمْ وَحده. وَسَأَلَهُ عمر، رَضِي الله عَنهُ: هَل فِي عمالهم أحد مِنْهُم؟ قَالَ: نعم، وَاحِد. قَالَ: من هُوَ؟ قَالَ: لَا أذكرهُ، فَعَزله عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَأَنَّمَا دلّ عَلَيْهِ. وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا مَاتَ ميت، فَإِن حضر الصَّلَاة عَلَيْهِ حُذَيْفَة صلى عَلَيْهِ عمر، رَضِي الله عَنهُ، وإلاَّ فَلَا. وَحَدِيثه لَيْلَة الْأَحْزَاب مَشْهُور فِيهِ معجزات، وَكَانَ فتح هَمدَان والري والدينور على يَده، ولاه عمر، رَضِي الله عَنهُ، الْمَدَائِن، وَكَانَ كثير السُّؤَال لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْفِتَن وَالشَّر ليجتنبهما، ومناقبه كَثِيرَة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا. قَالَه الْكرْمَانِي فِي شَرحه، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: أخرجَا لَهُ اثْنَي عشر حَدِيثا اتفقَا عَلَيْهَا وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثمَانِيَة، وَمُسلم بسبعة عشر. قلت: فَهَذَا يدل على سقط عدد من الْكرْمَانِي إِمَّا مِنْهُ وَإِمَّا من النساخ، توفّي حُذَيْفَة بِالْمَدَائِنِ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بعد قتل عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
وقالَ أبُو العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، وقالَ أنَسُ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وجَلَّ.
هَذِه ثَلَاث تعاليق أُخْرَى أوردهَا تَنْبِيها على حكم العنعنة، وَأَن حكمهَا الْوَصْل عِنْد ثُبُوت اللقى، وَفِيه تَنْبِيه آخر وَهُوَ أَن رِوَايَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا هِيَ عَن ربه، سَوَاء صرح بذلك الصَّحَابِيّ أم لَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، روى عَنهُ حَدِيثه الْمَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَلم يذكر فِيهِ: عَن ربه، لَا يُقَال: ذكر العنعنة لَا تعلق لَهُ بالترجمة، وَكَذَا ذكر الرِّوَايَة، لأَنا نقُول: لفظ الرِّوَايَة شَامِل لجَمِيع الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة، وَكَذَا لفظ العنعنة، لاحْتِمَاله كلاًّ من هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة، وَهَذِه التَّعَالِيق وَصلهَا البُخَارِيّ فِي كتاب التَّوْحِيد، وَهَؤُلَاء الصَّحَابَة قد ذكرُوا فِيمَا مضى، وَأما أَبُو الْعَالِيَة فقد قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: هُوَ الْبَراء، بالراء الْمُشَدّدَة، واسْمه زِيَاد بن فَيْرُوز الْبَصْرِيّ الْقرشِي مَوْلَاهُم، وَقيل: اسْمه أذينة، وَقيل: كُلْثُوم، وَقيل: زِيَاد بن أذينة، سمع ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَغَيرهم، قَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة توفّي سنة تسعين، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: الْبَراء، لِأَنَّهُ كَانَ يبري النبل، وَمثله: أَبُو معشر الْبَراء، واسْمه يُوسُف، وَكَانَ يبري النبل. وَقيل يبري الْعود، وَمن عداهما الْبَراء مخفف، وَكله مَمْدُود، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَبُو الْعَالِيَة، بِالْمُهْمَلَةِ والتحتانية، وَالظَّاهِر أَنه رفيع،

(2/12)


بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء، ابْن مهْرَان الريَاحي، أَعتَقته امْرَأَة من بني ريَاح، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم بعد موت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِسنتَيْنِ، مَاتَ سنة تسعين. ورياح، بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّة، حَيّ من بني تَمِيم، وَقَالَ بَعضهم: أَبُو الْعَالِيَة الْمَذْكُور هَهُنَا هُوَ الريَاحي، وَهُوَ رفيع، بِضَم الرَّاء، وَمن زعم أَنه: الْبَراء، بالراء المثقلة فقد وهم، فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور مَعْرُوف بِرِوَايَة الريَاحي دونه. قلت: كل وَاحِد من أبي الْعَالِيَة الْبَراء، وَأبي الْعَالِيَة رفيع من الروَاة عَن ابْن عَبَّاس، وترجيح أَحدهمَا على الآخر فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس يحْتَاج إِلَى دَلِيل. وَقَوله: فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور مَعْرُوف بِرِوَايَة الريَاحي دونه، يحْتَاج إِلَى نقل عَن أحد مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ.

61 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حدّثنا إسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قالَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ ورَقُهَا وإِنَّها مَثَلُ المُسْلِمِ فَحَدِّثونِي مَا هِيَ) فَوقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوْادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّه: ووقَعَ فِي نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ فاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قالُوا: حدّثنا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّه: (قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ قَالُوا: حَدثنَا مَا هِيَ يَا رَسُول الله) وَفِي قَوْله: (فحدثوني مَا هِيَ) . فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بِثَلَاثَة أَلْفَاظ، وَهِي التحديث والإخبار والإنباء، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث إِلَّا لفظ التحديث، قلت: أَلْفَاظ الحَدِيث مُخْتَلفَة، فَإِذا جمعت طرقه يُوجد ذَلِك كُله، فَفِي رِوَايَة عبد اللَّه بن دِينَار الْمَذْكُورَة هَهُنَا لفظ: حَدثُونِي مَا هِيَ، وَفِي رِوَايَة نَافِع عَنهُ فِي التَّفْسِير عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا: اخبروني، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن نَافِع عَنهُ: انبؤني، فَاشْتَمَلَ الحَدِيث الْمَذْكُور على هَذَا الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَالْكل ذكرُوا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْعلم هَذَا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن ابْن دِينَار عَن ابْن عمر وَعَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان عَن ابْن دِينَار بِهِ، وَعَن عَليّ عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَعَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن دِينَار بِهِ، وَفِيه: (فَقَالُوا: يَا رَسُول الله أخبرنَا بهَا) . واخرجه فِي الْبيُوع فِي: بَاب بيع الْجمار وَأكله، عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَعَن أبي نعيم عَن مُحَمَّد ابْن طَلْحَة عَن زبيد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَلَفظ حَدِيث عمر بن حَفْص: (بَينا نَحن عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جُلُوس، إِذْ أُتِي بجمار نَخْلَة، فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن من الشّجر لما بركته كبركة الْمُسلم، فَظَنَنْت أَنه يَعْنِي النَّخْلَة، فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة يَا رَسُول الله! ثمَّ الْتفت فَإِذا أَنا عَاشر عشرَة أَنا أحدثهم، فَسكت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هِيَ النَّخْلَة) . وَفِي أول بعض طرقه: (كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَأْكُل الْجمار) ، وَأخرجه فِي الْأَدَب فِي: بَاب لَا يستحي من الْحق، عَن آدم عَن شُعْبَة عَن محَارب عَن أبن عمر، قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (مثل الْمُؤمن كَمثل شَجَرَة خضراء لَا يسْقط وَرقهَا وَلَا يتحات، فَقَالَ الْقَوْم: هِيَ شَجَرَة كَذَا، فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة، وَأَنا غُلَام شَاب فَاسْتَحْيَيْت، فَقَالَ: هِيَ النَّخْلَة) . وَعَن شُعْبَة عَن خبيب عَن حَفْص عَن ابْن عمر مثله، وَزَاد: (فَحدثت بِهِ عمر، فَقَالَ: لَو كنت قلتهَا لَكَانَ أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا) . وَأخرجه مُسلم فِي تلو كتاب التَّوْبَة عَن مُحَمَّد بن عبيد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن أبي الْجَلِيل، وَعَن أبي بكر وَابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن أبي نجيح، وَعَن أبي نمير عَن أَبِيه عَن سيف بن سُلَيْمَان، وَقَالَ ابْن أبي سُلَيْمَان: كلهم عَن مُجَاهِد بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة، وَأبي أَيُّوب، وَابْن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن ابْن دِينَار عَن ابْن عمر بِهِ، وَفِي بَعْضهَا قَالَ ابْن عمر: (فَألْقى الله تَعَالَى فِي روعي أَنَّهَا النَّخْلَة) . الحَدِيث.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من الشّجر) ، قَالَ الصغاني فِي (الْعباب) : الشّجر والشجرة مَا كَانَ على سَاق من نَبَات الأَرْض، وَقَالَ الدينَوَرِي: من الْعَرَب من يَقُول: شَجَرَة وشجرة، فيكسر الشين وبفتح الْجِيم، وَهِي لُغَة لبني سليم، وَأَرْض شجراء كَثِيرَة الْأَشْجَار، وَلَا يُقَال: وَاد شجر، وَوَاحِد الشجراء شَجَرَة، وَلم يَأْتِ على هَذَا الْمِثَال إلاَّ أحرف يسيرَة، وَهِي شَجَرَة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء. وَقَالَ سيبوبه: الشجراء وَاحِد وَجمع، وَكَذَلِكَ: القصباء والطرفاء والحلفاء. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:

(2/13)


الشَّجَرَة، بِكَسْر الشين، والشيرة، بِكَسْر الشين وَالْيَاء، وَعَن أبي عَمْرو أَنه كرهها، وَقَالَ: يقْرَأ بهَا برابر مَكَّة وسودانها. قَوْله: (الْبَوَادِي) ، جمع بادية وَهِي خلاف الْحَاضِرَة، والبدو مثل الْبَادِيَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِمَا بدوي، وَعَن أبي زيد: بداوي، وَأَصلهَا بَاء ودال وواو، من البدو، وَهُوَ الظُّهُور، وَهُوَ ظَاهر فِي معنى الْبَادِيَة، وَفِي بعض الرِّوَايَات البواد، بِحَذْف الْيَاء، وَهِي لُغَة. قَوْله: (النَّخْلَة) ، وَاحِدَة النّخل وَفِي (الْعباب) : النّخل والنخيل بِمَعْنى وَاحِد، الْوَاحِدَة نَخْلَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (شَجَرَة) نصب لِأَنَّهُ اسْم: إِن، وخبرها قَوْله: (من الشَّجَرَة) ، وَكلمَة: من، للتَّبْعِيض، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى من جنس الشَّجَرَة. قَوْله: (لَا يسْقط وَرقهَا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لشَجَرَة. قَوْله: (وَأَنَّهَا) ، بِالْكَسْرِ عطف على (إِن) الأولى. قَوْله (مَا هِيَ) مُبْتَدأ وَخبر وَالْجُمْلَة سدت حسد المفعولين لفعل الحَدِيث. قَوْله: (إِنَّهَا النحلة) . بِفَتْح: أَن لِأَنَّهَا فَاعل وَقع، والنخلة، مَرْفُوع لِأَنَّهَا خبر ان. قَوْله: (حَدثنَا مَا هِيَ) مُبْتَدأ وَهِي خَبره، وَالْجُمْلَة سدت مسد المفعولين أَيْضا، وَقَوله: (هِيَ النَّخْلَة) مُبْتَدأ وَخبر وَقعت مقول القَوْل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِن من الشّجر شَجَرَة) ، مخرج على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر، لِأَن المخاطبين فِيهِ كَانُوا مستشرفين كاستشراف الطَّالِب المتردد، فَلذَلِك حسن تأكيده: بِأَن، وصوغه بِالْجُمْلَةِ الإسمية. قَوْله: (لَا يسْقط وَرقهَا) صفة سلبية تبين أَن موصوفها مُخْتَصّ بهَا دون غَيره. قَوْله: (وَإِنَّهَا مثل الْمُسلم) كَذَلِك مخرج على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (فَوَقع النَّاس فِي شجر الْبَوَادِي) أَي: ذهبت أفكارهم إِلَى شجر الْبَوَادِي وذهلوا عَن النَّخْلَة، فَجعل كل مِنْهُم يُفَسِّرهَا بِنَوْع من الْأَنْوَاع، يُقَال: وَقع الطَّائِر على الشَّجَرَة. إِذا نزل عَلَيْهَا. قَوْله: (قَالَ عبد اللَّه) أَي: عبد اللَّه بِهِ عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَوْله: (فَاسْتَحْيَيْت) زَاد فِي رِوَايَة مُجَاهِد، فِي: بَاب الْفَهم فِي الْعلم: (فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة، فَإِذا أَنا أَصْغَر الْقَوْم) . وَله فِي الْأَطْعِمَة: (فَإِذا أَنا عَاشر عشرَة أَنا أحدثهم) . وَفِي رِوَايَة نَافِع: (وَرَأَيْت أَبَا بكر وَعمر لَا يتكلمان، فَكرِهت أَن أَتكَلّم) . وَفِي رِوَايَة مَالك عَن عبد اللَّه بن دِينَار عِنْد البُخَارِيّ، فِي بَاب الْحيَاء فِي الْعلم، قَالَ عبد اللَّه: (فَحدثت أبي بِمَا وَقع (نَفسِي) ، فَقَالَ: لِأَن كنت قلتهَا أحب إِلَيّ من أَن يكون لي كَذَا وَكَذَا) . زَاد ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : (احسبه قَالَ: حمر النعم) .
بَيَان الْبَيَان: قَوْله: (مثل الْمُسلم) ، بِفَتْح الْمِيم والثاء مَعًا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مثل، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الثَّاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: مثل، كلمة تَسْوِيَة. يُقَال: هَذَا مثله ومثيله. كَمَا يُقَال: شبهه وشبيهه، بِمَعْنى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْمثل، فِي أصل كَلَامهم بِمَعْنى الْمثل، يُقَال: مثل وَمثل ومثيل كشبه وَشبه وشبيه، ثمَّ قيل لِلْقَوْلِ السائر الممثل مضربه بمورده: مثل، وَلم يضْربُوا مثلا وَلَا رَأَوْهُ أَهلا للتسيير، وَلَا جَدِيرًا بالتداول وَالْقَبُول إلاَّ قولا فِيهِ غرابة من بعض الْوُجُوه. قلت: لضرب الْمثل شَأْن فِي إبراز خبيئات الْمعَانِي، وَرفع الاستار عَن الْحَقَائِق، فَإِن الْأَمْثَال تري المخيل فِي صُورَة الْمُحَقق، والمتوهم فِي معرض الْمُتَيَقن، وَالْغَائِب كَأَنَّهُ مشَاهد، وَلَا يضْرب مثل إلاَّ قَول فِيهِ غرابة، فَإِن قلت: مَا المورد وَمَا المضرب؟ قلت: المورد: الصُّورَة الَّتِي ورد فِيهَا ذَلِك القَوْل، والمضرب هِيَ الصُّورَة الَّتِي شبهت بهَا. ثمَّ اعْلَم أَن الْمثل لَهُ مَفْهُوم لغَوِيّ، وَهُوَ النظير. وَمَفْهُوم عرفي، وَهُوَ القَوْل السائر، وَمعنى مجازي وَهُوَ الْحَال الغريبة، واستعير الْمثل هُنَا كاستعارة الْأسد للمقدام، للْحَال العجيبية أَو الصّفة الغريبة، كَأَنَّهُ قيل: حَال الْمُسلم العجيب الشَّأْن كَحال النَّخْلَة، أَو: صفة الْمُسلم الغريبة كصفة النَّخْلَة، فالمسلم هُوَ الْمُشبه، والنخلة هُوَ الْمُشبه بهَا، وَأما وَجه الشّبَه فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَثْرَة خَيرهَا ودوام ظلها وَطيب ثَمَرهَا ووجودها على الدَّوَام، فَإِنَّهُ من حِين يطلع ثَمَرهَا لَا يزَال يُؤْكَل مِنْهُ حَتَّى ييبس، وَبعد أَن ييبس يتَّخذ مِنْهَا مَنَافِع كَثِيرَة، من خشبها وورقها وَأَغْصَانهَا، فيستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً ومحاضر وحصراً وحبالاً وأواني، وَغير ذَلِك مِمَّا ينْتَفع بِهِ من أَجْزَائِهَا، ثمَّ آخرهَا نَوَاهَا ينْتَفع بِهِ، علفاً لِلْإِبِلِ وَغَيره، ثمَّ جمال نباتها وَحسن ثَمَرَتهَا وَهِي كلهَا مَنَافِع، وَخير وجمال، وَكَذَلِكَ الْمُؤمن خير كُله من كَثْرَة طاعاته وَمَكَارِم أخلاقه ومواظبته على صلَاته وصيامه وَذكره وَالصَّدَََقَة وَسَائِر الطَّاعَات، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي وَجه الشّبَه. وَقَالَ بَعضهم: وَجه التَّشْبِيه أَن النَّخْلَة إِذا قطعت رَأسهَا مَاتَت بِخِلَاف بَاقِي الشّجر، وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا لَا تحمل حَتَّى تلقح، وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا تَمُوت إِذا مزقت أَو فسد مَا هُوَ كالقلب لَهَا. وَقَالَ بَعضهم: لِأَن لطلعها رَائِحَة الْمَنِيّ، وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا تعشق كالإنسان، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا ضَعِيفَة من حَيْثُ إِن التَّشْبِيه إِنَّمَا وَقع بِالْمُسلمِ، وَهَذِه الْمعَانِي تَشْمَل الْمُسلم وَالْكَافِر. قَوْله: (حَدثنَا) صُورَة أَمر وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الطّلب وَالسُّؤَال، وَقد علم أَن الْأَمر إِذا كَانَ

(2/14)


بالعلو والاستعلاء، يكون حَقِيقَة فِي بَابه، وَإِذا كَانَ لمساويه يكون التماساً، وَإِذا كَانَ لأعلى مِنْهُ يكون طلبا وسؤالاً. فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ اسْتِحْبَاب إِلْقَاء الْعَالم الْمَسْأَلَة على أَصْحَابه ليختبر أفهامهم، ويرغبهم فِي الْفِكر. الثَّانِي: فِيهِ توقير الْكِبَار وَترك التَّكَلُّم عِنْدهم، وَقد بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ بَابا، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْحيَاء مَا لم يؤد إِلَى تَفْوِيت مصلحَة، وَلِهَذَا تمنى عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن يكون ابْنه لم يسكت. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز اللغز مَعَ بَيَانه. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُعَاوِيَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه نهى عَن الأغلوطات) ، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، أحد رُوَاته: هِيَ صعاب الْمسَائِل. قلت: هُوَ مَحْمُول على مَا إِذا أخرج على سَبِيل تعنيت المسؤول أَو تعجيزه أَو تخجيله وَنَحْو ذَلِك. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز ضرب الْأَمْثَال والأشباه لزِيَادَة الأفهام، وتصوير الْمعَانِي فِي الذِّهْن، وتحديد الْفِكر، وَالنَّظَر فِي حكم الْحَادِثَة. السَّادِس: فِيهِ تلويح إِلَى أَن التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ، وَلَا يلْزم أَن يكون الْمُشبه مثل الْمُشبه بِهِ فِي جَمِيع الْوُجُوه. السَّابِع: فِيهِ أَن الْعَالم الْكَبِير قد يخفى عَلَيْهِ بعض مَا يُدْرِكهُ من هُوَ دونه، لِأَن الْعلم منح إلهية ومواهب رحمانية، وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء. الثَّامِن: فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة النّخل. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: {ضرب الله مثلا كلمة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 24) لَا إلاه إِلَّا الله، {كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 24) هِيَ: النَّخْلَة {أَصْلهَا ثَابت} (إِبْرَاهِيم: 24) فِي الأَرْض، {وفرعها فِي السَّمَاء} (إِبْرَاهِيم: 24) أَي: رَأسهَا {تؤتي أكلهَا كل} (إِبْرَاهِيم: 25) وَقت. شبه الله الْإِيمَان بالنخلة لثبات الْإِيمَان فِي قلب الْمُؤمن، كثبات النَّخْلَة فِي منبتها، وَشبه ارْتِفَاع عمله إِلَى السَّمَاء بارتفاع فروع النَّخْلَة، وَمَا يكتسبه الْمُؤمن من بركَة الْإِيمَان وثوابه فِي كل وَقت وزمان بِمَا ينَال من ثَمَر النَّخْلَة فِي أَوْقَات السّنة كلهَا من الرطب وَالتَّمْر، وَقد ورد ذَلِك صَرِيحًا فِيمَا رَوَاهُ الْبَزَّار من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... فَذكر هَذِه الْآيَة فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هِيَ؟ قَالَ ابْن عمر: لم يخف عَليّ أَنَّهَا النَّخْلَة، فَمَنَعَنِي أَن أَتكَلّم لمَكَان سني، فَقَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام: هِيَ النَّخْلَة) . وروى ابْن حبَان من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن مُسلم عَن عبد اللَّه بن دِينَار عَن عبد اللَّه بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من يُخْبِرنِي عَن شَجَرَة مثلهَا مثل الْمُؤمن {أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء} (إِبْرَاهِيم: 24) ؟ فَذكر الحَدِيث، وروى الْبَزَّار أَيْضا من طَرِيق سُفْيَان بن حُسَيْن عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مثل الْمُؤمن مثل النَّخْلَة، فَمَا أَتَاك مِنْهَا نفعك) . هَكَذَا أوردهُ مُخْتَصرا، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَقَالَ قَالَ الْبَزَّار: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بِهَذَا السِّيَاق إلاَّ ابْن عمر وَحده، وَلما ذكره التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة. قلت: أخرجه عبد بن حميد فِي تَفْسِيره بِلَفْظ: مثل الْمُؤمن مثل النَّخْلَة، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن حبَان من حَدِيث أنس، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قَرَأَ: {مثلا كلمة طيبَة كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 24) ، قَالَ: هِيَ النَّخْلَة) . تفرد بِرَفْعِهِ حَمَّاد بن سَلمَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل: إِن النَّخْلَة خلقت من بَقِيَّة طِينَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَهِيَ كالعمة للأناسي. قلت: رُوِيَ فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع، وَلكنه لم يثبت.

5 - (بَاب طرْحِ الإِمَامِ المَسْألَةَ عَلى أصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ)

62 - حدّثنا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حدّثنا سُلَيْمانُ حدّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِنّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ ورَقَهَا، وإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ حَدِّثونِي مَا هِي) قَال: فَوقعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي. قَالَ عَبْدُ: اللَّهِ فَوقَعَ فِي نَفْسي أنَّهَا النَّخْلَةُ. ثُمَّ قَالُوا حدِّثنا مَا هِيَ يَا رسُول الله! قَالَ: (هَيَ النَّخْلَةُ) .

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِلْقَاء الإِمَام الْمَسْأَلَة على أَصْحَابه ليختبر أَي: ليمتحن، من الاختبار وَهُوَ الامتحان. وَكلمَة: من، فِي الْعلم بَيَانِيَّة. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، فَإِن الحَدِيث فيهمَا وَاحِد عَن صَحَابِيّ وَاحِد، غير أَن الِاخْتِلَاف فِي التَّرْجَمَة، فَلذَلِك أعَاد الحَدِيث.
وَأما التَّفَاوُت فِي نفس متن الحَدِيث فشيء يسير، وَهُوَ وجود الْفَاء فِي: فحدثوني، فِي الْبَاب الأول، وَهَهُنَا بِلَا فَاء. على أَن فِي بعض النّسخ كِلَاهُمَا بِالْفَاءِ. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الَّذِي بِالْفَاءِ وَبَين الَّذِي بغَيْرهَا؟ قلت: الأَصْل عدم الْفَاء لعدم الْجِهَة الجامعة بَين الجملتين الْمُقْتَضِيَة للْعَطْف. أما الأول: فَهُوَ الْفَاء الَّتِي وَقعت جَوَابا لشرط مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِن عرفتموها فحدثوني. فَإِن قلت: إِذا كَانَت إِعَادَة الحَدِيث لأجل استفادة التَّرْجَمَة الَّتِي عقد الْبَاب لَهَا مِنْهُ، فَمَا الْفَائِدَة فِي تَغْيِير رجال

(2/15)


الْإِسْنَاد؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: المقامات مُخْتَلفَة، فرواية قُتَيْبَة للْبُخَارِيّ إِنَّمَا كَانَت فِي مقَام بَيَان معنى التحديث، وَرِوَايَة خَالِد فِي مقَام بَيَان طرح الْمَسْأَلَة، فَلهَذَا ذكر البُخَارِيّ فِي كل مَوضِع شَيْخه الَّذِي روى الحَدِيث لَهُ لذَلِك الْأَمر الَّذِي روى لأَجله، مَعَ مَا فِيهِ من التَّأْكِيد وَغَيره. قلت: فِيهِ قائدة أُخْرَى، وَهُوَ التَّنْبِيه على تعدد مشايخه، واتساع رِوَايَته حَتَّى إِنَّه رُبمَا أخرج حَدِيثا وَاحِدًا من شُيُوخ كَثِيرَة.
ثمَّ خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة، أَبُو الْهَيْثَم الْقَطوَانِي، بِفَتْح الْقَاف والطاء، البَجلِيّ، مَوْلَاهُم الْكُوفِي. وقطوان مَوضِع بِالْكُوفَةِ. روى عَن مَالك وَسليمَان بن بِلَال وَغَيرهمَا. روى عَنهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وابنا أبي شيبَة وَمُحَمّد ابْن بنْدَار وَالْبُخَارِيّ عَن ابْن كَرَامَة عَنهُ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل وَأَبُو حَاتِم: لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ يحيى بن معِين: مَا بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ من المكثرين فِي محدثي الْكُوفَة، وَهُوَ عِنْدِي، إِن شَاءَ الله، لَا بَأْس بِهِ. وروى الْبَقِيَّة غير أبي دَاوُد عَن رجل عَنهُ، مَاتَ فِي الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَسليمَان هَذَا هُوَ ابْن بِلَال أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال أَبُو أَيُّوب التَّيْمِيّ الْقرشِي الْمدنِي، مولى عبد اللَّه بن أبي عَتيق واسْمه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر الصّديق، كَانَ بربرياً جميلاً حسن الْهَيْئَة عَاقِلا مفتياً، ولي خراج الْمَدِينَة، وَتُوفِّي بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة فِي خلَافَة هَارُون الرشيد. وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ ثِقَة. وَعَن يحيى بن معِين: ثِقَة صَالح، روى لَهُ الْجَمَاعَة.

6 - (بابٌ القِرَاءَةُ والعَرْضُ عَلَى المُحَدِّثِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْقِرَاءَة وَالْعرض على الْمُحدث. قَوْله: (على الْمُحدث) يتَعَلَّق بِالْقِرَاءَةِ وَالْعرض كليهمَا، فَهُوَ من بَاب تنَازع العاملين على مَعْمُول وَاحِد.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ قِرَاءَة الشَّيْخ، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَالسَّمَاع عَلَيْهِ، وَهَذِه مُنَاسبَة قَوِيَّة، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين، لما ذكر البُخَارِيّ فِي الْبَاب الأول قِرَاءَة الشَّيْخ، وَهُوَ قَوْله: بَاب قَول الْمُحدث: حَدثنَا وَأخْبرنَا وأنبأنا، عقب بِهَذَا الْبَاب، فَذكر الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَالسَّمَاع عَلَيْهِ، فَقَالَ: بَاب الْقِرَاءَة وَالْعرض على الْمُحدث، وَكَانَ من حَقه أَن يقدم هَذَا الْبَاب على: بَاب قَول الْمُحدث: حَدثنَا وأنبأنا، لِأَن قَول الْمُحدث: حَدثنَا وأنبأنا فرع عَن تحمله، هَل كَانَ بِالْقِرَاءَةِ أَو بِالْعرضِ، أَو يَقُول: بَاب قِرَاءَة الشَّيْخ، ثمَّ يَقُول: بَاب الْقِرَاءَة على الْمُحدث. قلت: كَلَامه مشْعر بِبَيَان الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق على هَذَا الْبَاب، وَهُوَ: بَاب قَول الْمُحدث: حَدثنَا وَأخْبرنَا. وَحقّ الْمُنَاسبَة هُوَ الَّذِي يكون بَين الْبَابَيْنِ المتواليين، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَقَوله: وَكَانَ من حَقه ... إِلَخ، لَيْسَ كَذَلِك، بل الَّذِي رتبه هُوَ الْحق، لأَنا قد قُلْنَا: إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ قِرَاءَة الشَّيْخ، وَفِي هَذَا الْبَاب الْقِرَاءَة على الشَّيْخ، وَقِرَاءَة الشَّيْخ أقوى، والأقوى يسْتَحق التَّقْدِيم. فَإِن قلت: مَا مَقْصُود البُخَارِيّ من وضع هَذَا الْبَاب المترجم بالترجمة الْمَذْكُورَة؟ قلت: أَرَادَ بِهِ الرَّد على طَائِفَة لَا يعتدون إلاَّ بِمَا يسمع من أَلْفَاظ الْمَشَايِخ دون مَا يقْرَأ لَهُ عَلَيْهِم، وَلِهَذَا قَالَ عقيب الْبَاب: وَرَأى الْحسن وَالثَّوْري وَمَالك الْقِرَاءَة جَائِزَة ... إِلَخ.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين مفهومي الْقِرَاءَة وَالْعرض؟ قلت: الْمَفْهُوم من كَلَام الْكرْمَانِي أَن بَينهمَا مُسَاوَاة، لِأَنَّهُ قَالَ: المُرَاد بِالْعرضِ هُوَ عرض الْقِرَاءَة بِقَرِينَة مَا يذكر بعد التَّرْجَمَة، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يَصح عطف الْعرض على الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ نَفسهَا. قلت: الْعرض تَفْسِير الْقِرَاءَة، وَمثله يُسمى بالْعَطْف التفسيري، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا غاير بَينهمَا بالْعَطْف لما بَينهمَا من الْعُمُوم وَالْخُصُوص، لِأَن الطَّالِب إِذا قَرَأَ كَانَ أَعم من الْعرض وَمن غَيره، وَلَا يَقع الْعرض إلاَّ بِالْقِرَاءَةِ، لِأَن الْعرض عبارَة عَمَّا يُعَارض بِهِ الطَّالِب أصل شَيْخه مَعَه أَو مَعَ غَيره بِحَضْرَتِهِ، فَهُوَ أخص من الْقِرَاءَة. قلت: هَذَا كَلَام مخبط لِأَنَّهُ تَارَة جعل الْقِرَاءَة أَعم من الْعرض، وَتارَة جعلهَا مُسَاوِيَة لَهُ، لِأَن قَوْله: لِأَن الطَّالِب إِذا قَرَأَ كَانَ أَعم من الْعرض وَمن غَيره، مشْعر بِأَن بَين الْقِرَاءَة وَالْعرض عُمُوما وخصوصاً مُطلقًا لاستلزام صدق أَحدهمَا صدق الآخر، كالإنسان وَالْحَيَوَان،، وَقَوله: وَلَا يَقع الْعرض إلاَّ بِالْقِرَاءَةِ، مشْعر بِأَن بَينهمَا مُسَاوَاة، لِأَنَّهُمَا متلازمان فِي الصدْق كالإنسان والناطق، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن الْعرض بِالْمَعْنَى الْأَخَص مساوٍ للْقِرَاءَة، وبالمعنى الْأَعَمّ يكون بَينهمَا عُمُوم وخصوص مُطلق لاستلزام صدق أَحدهمَا صدق الآخر، والمستلزم أخص مُطلقًا، وَاللَّازِم أَعم، فالقراءة بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان، وَالْعرض

(2/16)


بِمَنْزِلَة الْحَيَوَان. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن الْعرض لَهُ مَعْنيانِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِقِرَاءَة أَو لَا، فَالْأول: يُسمى عرض قِرَاءَة. وَالثَّانِي: عرض مناولة، وَهُوَ أَن يَجِيء الطَّالِب إِلَى الشَّيْخ بِكِتَاب فيعرضه عَلَيْهِ، فيتأمل الشَّيْخ وَهُوَ عَارِف متيقظ، ثمَّ يُعِيدهُ إِلَيْهِ وَيَقُول لَهُ: وقفت على مَا فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثي عَن فلَان، فأجزت رِوَايَته عني، وَنَحْوه.
وَرَأَى الحَسَنُ والثَّوْرِيُّ ومالكٌ القِرَاءَةَ جائزِةً.
أَي: رأى الْحسن الْبَصْرِيّ، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَالْإِمَام مَالك الْقِرَاءَة على الْمُحدث جَائِزَة فِي صِحَة النَّقْل عَنهُ، فَذكر عَنْهُم أَولا مُعَلّقا، ثمَّ أسْند عَنْهُم على مَا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهَذَا كَلَام مُسْتَأْنف غير دَاخل فِي التَّرْجَمَة، وَجوز الْكرْمَانِي أَن يكون دَاخِلا فِي التَّرْجَمَة بِتَأْوِيل الْفِعْل الْمَاضِي بِالْمَصْدَرِ، أَي: بَاب الْقِرَاءَة وَرَأى الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهَذَا بعيد.
واحْتَجَّ بَعْضُهُم فِي القَراءَةِ عَلَى العَالِمِ بِحَدِيثِ ضَمامِ بنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ للنَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الله أمَرَكَ أنْ نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ؟ قالَ: (نَعَمْ) قَالَ: فَهاذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبْرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذلِكَ فأَجَازُوهُ.
أَرَادَ: بِالْبَعْضِ، هَذَا، شَيْخه الْحميدِي، فَإِنَّهُ احْتج فِي جَوَاز الْقِرَاءَة على الْمُحدث فِي صِحَة النَّقْل عَنهُ بِحَدِيث ضمام بن ثَعْلَبَة، فَإِنَّهُ قدم على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام، ثمَّ رَجَعَ إِلَى قومه فَأخْبرهُم بِهِ، فاسلموا. وَقَوله: (آللَّهُ أَمرك) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام فِي لَفْظَة: (آللَّهُ) ، وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ. وَقَوله: (أَمرك) جملَة خَبره، قَوْله: (أَن نصلي الصَّلَاة) أَي: بِأَن نصلي، وَالْبَاء، مقدرَة فِيهِ، وَنُصَلِّي: إِمَّا بتاء الْخطاب أَو بنُون الْجمع المصدرة على مَا يَأْتِي بَيَانه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (قَالَ: نعم) أَي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نعم الله أمرنَا بِأَن نصلي. قَوْله: (فَهَذِهِ قِرَاءَة) أَي: قَالَ الْبَعْض الَّذِي احْتج فِي الْقِرَاءَة على الْعَالم بِحَدِيث ضمام: هَذِه قِرَاءَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي قَالَ الْبَعْض المحتج، وَهُوَ الْحسن وَالثَّوْري وَنَحْوهمَا، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن المُرَاد بِالْبَعْضِ هُوَ الْحميدِي كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: يحْتَمل أَن يكون هَذَا المحتج بعض الْمَذْكُورين. أَعنِي: الْحسن وَالثَّوْري ومالكاً. قلت: لَا يمْنَع من ذَلِك، وَلَكِن حق الْعبارَة على هَذَا أَن يُقَال: قَالَ الْبَعْض المحتج من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، لَا كَمَا يَقُوله الْكرْمَانِي. قَوْله: (قِرَاءَة على النَّبِي) هَكَذَا هُوَ فِي غَالب النّسخ بِإِظْهَار كلمة: على، الَّتِي للاستعلاء، وَفِي بَعْضهَا: قِرَاءَة النَّبِي، فَإِن صحت تكون الْإِضَافَة فِيهِ للْمَفْعُول، وَيقدر على: فِيهِ. قَوْله: (فأجازوه) ، أَي: قبلوا مِنْهُ، وَلَيْسَ المُرَاد الْإِجَازَة المصطلحة بَين أهل الحَدِيث، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى قوم ضمام، وَجوز الْكرْمَانِي: أَن يرجع الضَّمِير إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وصحابته، وَهَذَا بعيد، سِيمَا من حَيْثُ الْمرجع. لَا يُقَال: إجَازَة قومه لَا حجَّة فِيهِ لأَنهم كفرة، لأَنا نقُول: المُرَاد الْإِجَازَة بعد الْإِسْلَام، أَو كَانَ فيهم مُسلمُونَ يومئذٍ. فَإِن قلت: قَوْله: أخبر قومه بذلك، لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي سَاقه البُخَارِيّ، فَكيف يحْتَج بِهِ؟ قلت: إِن لم يَقع فِي هَذَا الطَّرِيق فقد وَقع فِي طَرِيق آخر، ذكره أَحْمد وَغَيره من طَرِيق ابْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: (بعث بَنو سعد بن بكر ضمام بن ثَعْلَبَة)
فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِي آخِره: إِن ضماماً قَالَ لِقَوْمِهِ عِنْدَمَا رَجَعَ إِلَيْهِم: (إِن الله قد بعث رَسُولا، وَأنزل الله عَلَيْهِ كتابا وَقد جِئتُكُمْ من عِنْده بِمَا أَمركُم بِهِ ونهاكم عَنهُ. قَالَ: فوَاللَّه مَا أَمْسَى فِي ذَلِك الْيَوْم وَفِي حاضرته رجل وَلَا امْرَأَة إلاَّ مُسلما) .
واحْتَجَّ مالِكٌ بالصَّكِّ يُقْرَأُ على القَوْمِ فيَقُولُونَ: أشهْدَنَا فُلاَنُ، وَيُقْرَأُ ذَلكَ قِراءَةً عَلَيْهِمْ، ويُقْرَأُ على المُقْرِىءِ فَيَقُولُ القَارِىءُ: أقْرَأَنِي فُلانٌ.
أَرَادَ بالصك الْمَكْتُوب الَّذِي يكْتب فِيهِ إِقْرَار الْمقر. قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّك: الْكتاب، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَالْجمع صكاك وصكوك، وَفِي (الْعباب) وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ: صك، وَالْجمع: أصك وصكاك وصكوك، وَلَيْلَة الصَّك: لَيْلَة الْبَرَاءَة، وَهِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، لِأَنَّهُ يكْتب فِيهَا من صكاك الأوراق. قَوْله: (يقْرَأ) بِضَم الْيَاء فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي: وَيقْرَأ، الثَّانِي.

(2/17)


قَوْله: (فلَان) ، منون، وَفِي بَعْضهَا بعد فلَان: وَإِنَّمَا ذَلِك قِرَاءَة عَلَيْهِم، وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذِه حجَّة قَاطِعَة، لِأَن الْإِشْهَاد أقوى حالات الْإِخْبَار، وَأما قِيَاس مَالك قِرَاءَة الحَدِيث على قِرَاءَة الْقُرْآن فَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي الْكِتَابَة من طَرِيق ابْن وهب، قَالَ: سَمِعت مَالِكًا، وَسُئِلَ عَن الْكتب الَّتِي تعرض عَلَيْهِ: أيقول الرجل: حَدثنِي؟ قَالَ: نعم، كَذَلِك الْقُرْآن، أَلَيْسَ الرجل يقْرَأ على الرجل فَيَقُول، أَقْرَأَنِي فلَان، فَكَذَلِك إِذا قرىء على الْعَالم صَحَّ أَن يرْوى عَنهُ، وروى الْحَاكِم فِي عُلُوم الحَدِيث عَن طَرِيق مطرف، قَالَ: صَحِبت مَالِكًا سبع عشرَة سنة فَمَا رَأَيْت قَرَأَ (المؤطأ) على أحد، يقرأون عَلَيْهِ. قَالَ: وسمعته يَأْبَى أَشد الإباء على من يَقُول: لَا يجْزِيه إلاَّ السماع من لفظ الشَّيْخ، وَيَقُول: كَيفَ لَا يجْزِيك هَذَا فِي الحَدِيث، ويجزيك فِي الْقُرْآن، وَالْقُرْآن أعظم؟
حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ حدّثنا مُحَمدُ بنُ الحَسَنِ الوَاسِطيُّ عَن عوفٍ عَنِ الحَسَن قَالَ: لاَ بأسَ بالقِراءَةِ على العالِمِ.
هَذَا إِسْنَاده فِيمَا ذكره عَن الْحسن أَولا مُعَلّقا عَن مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف اللَّام على الْأَصَح، البيكندي، عَن مُحَمَّد بن الْحسن بن عمرَان الْمُزنِيّ، قَاضِي وَاسِط، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الْأَثر هُنَا خَاصَّة، وَثَّقَهُ ابْن معِين: وَقَالَ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَأحمد: لَيْسَ بِهِ بَأْس، توفّي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَهُوَ يروي عَن عَوْف بن أبي جميلَة الْمَعْرُوف بالأعرابي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وروى الْخَطِيب هَذَا الْأَثر بأتم سياقاً مِنْهُ من طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن الْحسن الوَاسِطِيّ عَن عَوْف الْأَعرَابِي: أَن رجلا سَأَلَ الْحسن، فَقَالَ: يَا أَبَا سعيد، منزلي بعيد وَالِاخْتِلَاف يشق عَليّ، فَإِن لم تكن ترى بَأْسا قَرَأت عَلَيْك. قَالَ: مَا أُبَالِي قَرَأت عَلَيْك أَو قَرَأت عَليّ. قَالَ: فاقول: حَدثنِي الْحسن؟ قَالَ: نعم، قل: حَدثنِي الْحسن. قَوْله: (لَا بَأْس) ، أَي: فِي صِحَة النَّقْل عَن الْمُحدث بِالْقِرَاءَةِ على الْعَالم أَي الشَّيْخ، وَقَوله: (على الْعَالم) لَيْسَ خَبرا لقَوْله: لَا بَأْس، بل هُوَ مُتَعَلق بِالْقِرَاءَةِ.
حدّثنا عُبَيْدُ اللَّه بنُ مُوسَى عنْ سُفْيانَ قَالَ: إِذا قُرِىءَ على المُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَن تَقُولَ: حدّثني. قَالَ: وسَمِعْتُ أَبَا عاصِمٍ يَقولُ: عنْ مالِكٍ وسفُيانَ: القِراءَةُ على العالِمِ وقرِاءَتُهُ سَواءٌ.
هَذَا إِسْنَاده فِيمَا ذكره عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بن أنس أَولا مُعَلّقا عَن عبيد اللَّه بن مُوسَى بن باذام الْعَبْسِي، بالمهملتين، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. قَوْله: (فَلَا بَأْس) ، أَي على القارىء أَن يَقُول: حَدثنِي، كَمَا جَازَ أَن يَقُول: أَخْبرنِي، فَهُوَ مشْعر بِأَن لَا تفَاوت عِنْده بَين حَدثنِي وَأَخْبرنِي، وَبَين أَن يقْرَأ على الشَّيْخ أَو يقرأه الشَّيْخ عَلَيْهِ. قَوْله: (قَالَ) أَي البُخَارِيّ، وَسمعت أَبَا عَاصِم، وَهُوَ الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم، ابْن الضَّحَّاك بن مُسلم ابْن رَافع بن الْأسود بن عَمْرو بن والان بن ثَعْلَبَة بن شَيبَان، الْبَصْرِيّ الْمَشْهُور بالنبيل، بِفَتْح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره لَام، لقب بِهِ لِأَنَّهُ قدم الْفِيل الْبَصْرَة، فَذهب النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ابْن جرير: مَالك لَا تنظر؟ فَقَالَ: لَا أجد مِنْك عوضا. فَقَالَ: أَنْت نبيل، أَو لقب بِهِ لكبر أَنفه أَو لِأَنَّهُ كَانَ يلْزم زفر، رَحمَه الله تَعَالَى، وَكَانَ حسن الْحَال فِي كسوته؟ وَكَانَ أَبُو عَاصِم آخر رث الْحَال ملازماً لَهُ، فجَاء النَّبِيل يَوْمًا إِلَى بَابه فَقَالَ الْخَادِم لزفَر: أَبُو عَاصِم بِالْبَابِ! فَقَالَ لَهُ: أَيهمَا؟ فَقَالَ: ذَلِك النَّبِيل. وَقيل: لقبه الْمهْدي، مَاتَ فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ عَن تسعين سنة وَسِتَّة أشهر، وَهَذَا الَّذِي نَقله أَبُو عَاصِم عَن مَالك وسُفْيَان هُوَ مذْهبه أَيْضا فِيمَا حَكَاهُ الرامَهُرْمُزِي عَنهُ، ثمَّ اخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي مساواتهما للسماع من لَفْظَة الشَّيْخ فِي الرُّتْبَة، أَو دونه، أَو فَوْقه على ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: أَنه أرجح من قِرَاءَة الشَّيْخ وسماعه، قَالَه أَبُو حنيفَة وَابْن أبي ذِئْب وَمَالك فِي رِوَايَة، وَآخَرُونَ. وَاسْتحبَّ مَالك الْقِرَاءَة على الْعَالم، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب الروَاة) عَن مَالك أَنه كَانَ يذهب إِلَى أَنَّهَا أثبت من قِرَاءَة الْعَالم. الثَّانِي: عَكسه أَن قِرَاءَة الشَّيْخ بِنَفسِهِ أرجح من الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَقيل: إِنَّه مَذْهَب جُمْهُور أهل الْمشرق. الثَّالِث: أَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ قَول ابْن أبي الزِّنَاد وَجَمَاعَة، حَكَاهُ عَنْهُم ابْن سعد، وَقيل: إِنَّه مَذْهَب مُعظم عُلَمَاء الْحجاز والكوفة، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأَتْبَاعه من عُلَمَاء الْمَدِينَة، وَمذهب البُخَارِيّ وَغَيرهم.

(2/18)


63 - حدّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثنا اللَّيثُ عْن سَعِيدٍ هُوَ المَقْبُرِيُّ عَن شَرِيكِ بن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي نِمَرِ أنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بنَ مالِكٍ يَقولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ على جَمَلٍ فأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثمَّ عَقَلَهُ ثمَّ قَالَ لَهُمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَّكىءٌ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ. فقُلْنا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِيءُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ. ابنَ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قَدْ أجَبْتُك) فَقَالَ الرَّجُلُ للنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنّي سائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدُ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: (سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ) فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَن قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى الناسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ نَعَمْ) قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّه آللَّهُ أَمَرَكَ أَن نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ واللَّيْلَةِ؟ قَالَ: (اللَّهُمَّ نَعَم) . قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّه آللَّهُ أَمَرَكَ أَن نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: (اللَّهُمَّ نَعَمْ) قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّه آللَّهُ أَمَرَكَ أَن تَأْخُذَ هذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيائِنا فَتَقْسِمَها على فُقَرائِنا؟ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ نَعَمْ) فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِما جِئْتَ بِهِ وَأَنا رَسُولُ مَنْ ورَائِي مِن قَوْمِي، وَأَنا ضِمَامُ بنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعدِ بنِ بَكْرٍ.
لما ذكر احتجاج بَعضهم فِي الْقِرَاءَة على الْعَالم، لحَدِيث ضمام بن ثَعْلَبَة، أخرجه هَهُنَا بِتَمَامِهِ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد اللَّه بن يُوسُف التنيسِي، وقدمر. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ، وَقد مر. الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وَقد مر. الرَّابِع: شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم، الْقرشِي، أَبُو عبد اللَّه الْمدنِي الْقرشِي، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: اللَّيْثِيّ، وَقَالَ غَيره: الْكِنَانِي؛ وجده أَبُو نمر شهد أحدا مَعَ الْمُشْركين، ثمَّ هداه الله إِلَى الْإِسْلَام، سمع أنس بن مَالك وَسَعِيد بن الْمسيب وَأَبا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَعَطَاء بن يسَار وَغَيرهم، روى عَنهُ مَالك وَسَعِيد المَقْبُري وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَسليمَان بن بِلَال وَغَيرهم، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، وَقَالَ يحيى بن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَقَالَ ابْن عدي: شريك رجل مَشْهُور من أهل الحَدِيث، حدث عَنهُ الثِّقَات، وَحَدِيثه إِذا روى عَنهُ ثِقَة فَلَا بَأْس بِهِ، إلاَّ أَن يروي عَنهُ ضَعِيف، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ التِّرْمِذِيّ، توفّي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك، وَقد مر.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومصري ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث فِيهِ اخْتِلَاف من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّسَائِيّ رَوَاهُ من طَرِيق يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن اللَّيْث، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عجلَان وَغَيره عَن سعيد. وَالثَّانِي: أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا، وَالْبَغوِيّ من طَرِيق الْحَارِث بن عمر عَن عبد اللَّه الْعمريّ عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج ابْن مَنْدَه من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة. قلت: أما الأول: فَإِنَّهُ يُمكن أَن يكون اللَّيْث قد سمع من سعيد بِوَاسِطَة، ثمَّ لقِيه فَحدث بِهِ، وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يُونُس بن مُحَمَّد عَن اللَّيْث: حَدثنِي سعيد، وَكَذَا رِوَايَة ابْن مَنْدَه من طَرِيق ابْن وهب عَن اللَّيْث. وَأما الثَّانِي فَلِأَن اللَّيْث أثبتهم فِي سعيد.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث نَحوه، وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن عِيسَى بن حَمَّاد بِهِ، وَعَن عبيد اللَّه بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن اللَّيْث: حَدثنِي ابْن عجلَان وَغَيره، من أَصْحَابنَا، عَن سعيد المَقْبُري، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن عِيسَى بن حَمَّاد بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (على جمل) ، وَهُوَ زوج النَّاقة، وتسكين الْمِيم فِيهِ لُغَة، وَمِنْه قِرَاءَة أبي السماك {حَتَّى يلج الْجمل} (الْأَعْرَاف: 40) بِسُكُون الْمِيم، وَالْجمع: جمال وجمالة وجمالات وجمائل وأجمال. قَوْله: (فأناخه) يُقَال: أنخت الْجمل أبركته، وَيُقَال أَيْضا: أَنَاخَ الْجمل نَفسه أَي: برك. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: لَا يُقَال: أَنَاخَ وَلَا ناخ. قَوْله: (ثمَّ عقله) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْقَاف، قَالَ الْجَوْهَرِي: عقلت الْبَعِير

(2/19)


أعقله عقلا، وَهُوَ أَن يثني وظيفه مَعَ ذراعه ليشدهما جَمِيعًا فِي وسط الذِّرَاع، والوظيف هُوَ مستدق السَّاق والذراع من الْإِبِل، وَالْحَبل الَّذِي يشد بِهِ هُوَ العقال، وَالْجمع عُقُل. قَوْله: (متكىء) ، مَهْمُوز، يُقَال: اتكأ على الشَّيْء فَهُوَ متكىء، والموضع مُتكأ، كُله مَهْمُوز الآخر، وتوكأت على الْعَصَا، وكل من اسْتَوَى على وطاء فَهُوَ متكأ، وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ المُرَاد فِي الحَدِيث. قَوْله: (بَين ظهرانيهم) ، بِفَتْح الظَّاء وَالنُّون، وَفِي (الْفَائِق) : يُقَال: أَقَامَ فلَان بَين ظهراني قومه، وَبَين ظهرانيهم، أَي: بَينهم، وأقحم لفظ، الظّهْر، ليدل على أَن إِقَامَته بَينهم على سَبِيل الِاسْتِظْهَار بهم، أَي: مِنْهُم والإستناد إِلَيْهِم، وَكَانَ معنى التَّثْنِيَة فِيهِ أَن ظهرا مِنْهُم قدامه وَآخر وَرَاءه، فَهُوَ مكتوف من جانبيه، ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله فِي الْإِقَامَة بَين الْقَوْم مُطلقًا، وَإِن لم يكن مكتوفاً، وَأما زِيَادَة الْألف وَالنُّون بعد التَّثْنِيَة فَإِنَّمَا هِيَ للتَّأْكِيد، كَمَا تزاد فِي النِّسْبَة، نَحْو نفساني فِي النِّسْبَة إِلَى النَّفس، وَنَحْوه. قَوْله: (فَلَا تَجِد عَليّ) ، بِكَسْر الْجِيم، أَي: لَا تغْضب يُقَال: وجد عَلَيْهِ موجدة فِي الْغَضَب، وَوجد مَطْلُوبه وجودا، وَوجد ضالته وجداناً، وَوجد فِي الْحزن وجدا، وَوجد فِي المَال جدة، أَي اسْتغنى. هَذَا الَّذِي ذكره الشُّرَّاح، وَهِي خَمْسَة مصَادر، وَقَالَ بَعضهم: ومادة وجد متحدة الْمَاضِي والمضارع، مُخْتَلفَة المصادر بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي. قلت: لَا نسلم ذَلِك، بل يُقَال: وجد مَطْلُوبه يجده، بِكَسْر الْجِيم، ويجده، بِالضَّمِّ، وَهِي لُغَة عامرية، وَوجد، بِكَسْر الْجِيم، لُغَة، قَالَه فِي (الْعباب) : وَكَذَلِكَ يُقَال: وجد عَلَيْهِ فِي الْغَضَب يجد، بِكَسْر الْجِيم، ويجد، بضَمهَا، موجدة ووجداناً أَيْضا، حَكَاهَا بَعضهم. وَأنْشد الْفراء فِي نوادره، لصخر الغي يرثي ابْنه تليداً:
(وَقَالَت: لن ترى أبدا تليداً ... بِعَيْنِك آخر الْعُمر الْجَدِيد)

(كِلَانَا رد صَاحبه بيأسٍ ... وإثباتٍ ووجدانٍ شَدِيد)

وَكَذَا يُقَال: وجد فِي المَال وجدا ووجداً ووجداً، وَجدّة، أَربع مصَادر. وَقَرَأَ الْأَعْرَج وَنَافِع وَيحيى بن يعمر وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن أبي عبلة وطاووس وَأَبُو حَيْوَة وَأَبُو الْبر هشيم: من وجدكم، بِفَتْح الْوَاو. وَقَرَأَ أَبُو الْحسن روح بن عبد الْمُؤمن: من وجدكم، بِالْكَسْرِ، وَالْبَاقُونَ من وجدكم، بِالضَّمِّ. قَوْله: (عَمَّا بدا) ، أَي ظهر، من البدو. قَوْله: (انشدك) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَضم الشين الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ: اسألك بِاللَّه، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: نشدت فلَانا أنْشدهُ نشداً، إِذا قلت لَهُ: نشدتك الله، أَي: سَأَلتك بِاللَّه، كَأَنَّك ذكرته إِيَّاه، فتنشد، أَي: تذكر. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) : أَصله من النشيد، وَهُوَ رفع الصَّوْت. وَالْمعْنَى: سَأَلتك رَافعا صوتي، وَفِي (الْعباب) : نشدت فلَانا أنْشدهُ نشداً، ونشدت الضَّالة أنشدها نشداً ونشدة ونشداناً، طلبتها. قَوْله: (هَذِه الصَّدَقَة) ، أَرَادَ بِهِ الزَّكَاة.
بَيَان التصريف: قَوْله: (جُلُوس) جمع: جَالس، كركوع جمع: رَاكِع. قَوْله: (فأناخه) أَصله: فأنوخه، قلبت الْوَاو ألفا بعد نقل حركتها إِلَى مَا قبلهَا. قَوْله: (وَالنَّبِيّ متكىء) اسْم فَاعل من: اتكأ يتكىء، أَصله موتكأ، قلبت الْوَاو تَاء وأدغمت التَّاء فِي التَّاء، وَكَذَلِكَ أصل: اتكأ ويتكىء يوتكىء، لِأَن مادته: وَاو وكاف وهمزة، وَمِنْه يُقَال: رجل تكاة، أَصله وكأة، مثل تؤدة إِذا كَانَ كثير الاتكاء، والإتكاء أَيْضا مَا يتكؤ عَلَيْهِ، وَهِي المتكأ. قَالَ الله تَعَالَى: {وأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ} (يُوسُف: 31) . قَالَ الْأَخْفَش: هُوَ فِي معنى: مجلسٍ. قَوْله: (فمشدد) ، اسْم فَاعل من شدد تشديداً، وَالْمَسْأَلَة، بِفَتْح الْمِيم، مصدر ميمي يُقَال: سَأَلته الشَّيْء، وَسَأَلته عَن الشَّيْء سؤالاً وَمَسْأَلَة. وَقد تخفف الْهمزَة فَيُقَال: سَأَلَ يسْأَل، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَنَافِع وَابْن كثير. {سَأَلَ سَائل} (المعارج: 1) بتَخْفِيف الْهمزَة. قَوْله: (سل) . أَمر من: سَأَلَ يسْأَل، وَأَصله اسْأَل، على وزن: إفعل فنقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى السِّين، فحذفت للتَّخْفِيف، وَاسْتغْنى عَن همزَة الْوَصْل، فحذفت فَصَارَ: سل، على وزن: قل، لِأَن السَّاقِط هُوَ عين الْفِعْل. قَوْله: (فَلَا تَجِد) على أَصله: فَلَا تُوجد لِأَنَّهُ من وجد عَلَيْهِ. قَوْله: (بدا) فعل مَاض، تَقول: بدا الْأَمر بدواً، مثل: قعد قعُودا أَي: ظهر. وأبديته: أظهرته.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَيْنَمَا) أَصله، بَين، زيدت عَلَيْهِ: مَا، وَهُوَ من الظروف الزمانية اللَّازِمَة الْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وَبَين، وبينما، يتضمنان بِمَعْنى المجازات، وَلَا بُد لَهما من جَوَاب، وَالْعَامِل فيهمَا الْجَواب إِذا كَانَ مُجَردا من كلمة المفاجأة، وإلاَّ فَمَعْنَى المفاجأة. قَوْله: (نَحن) مُبْتَدأ و: جُلُوس، خَبره. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) اللَّام فِيهِ للْعهد، أَي: مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (دخل رجل) ، هُوَ جَوَاب. بَيْنَمَا، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، (إِذْ دخل رجل) . وَقد مر غير مرّة، أَن الْأَصْمَعِي لَا يستفصح إِذْ وَإِذا فِي جَوَاب: بَين وبينما. قَوْله: (على جمل) فِي مَحل الرّفْع على أَنه صفة الرجل. قَوْله: (فأناخه) عطف على قَوْله دخل. قَوْله:

(2/20)


(أَيّكُم) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ و (مُحَمَّد) ، خَبره. وَأي، هَهُنَا للاستفهام. قَوْله: (وَالنَّبِيّ متكىء) ، جملَة اسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (هَذَا الرجل) ، مُبْتَدأ، وَخبر، مقول القَوْل، والأبيض بِالرَّفْع صفة للرجل، وَكَذَلِكَ المتكىء. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) أَي فَقَالَ الرجل للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (ابْن عبد الْمطلب) . بِفَتْح النُّون لِأَنَّهُ منادى مُضَاف، وَأَصله: يَا ابْن عبد الْمطلب، فَحذف حرف النداء. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يَا ابْن عبد الْمطلب، باثبات حرف النداء. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ الرجل) أَي: الرجل الْمَذْكُور، فِي قَوْله: (دخل رجل على جمل) ، قَوْله: (إِنِّي سَائِلك) جملَة إسمية مُؤَكدَة بِأَن، مقول القَوْل. قَوْله: (فمشدد) عطف على: (سَائِلك) . قَوْله: (فَلَا تَجِد) نهي كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَقَالَ: سل) أَي: فَقَالَ الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للرجل: سل. قَوْله: (بِرَبِّك) أَي: بِحَق رَبك، الْبَاء للقسم. قَوْله: (آللَّهُ؟) بِالْمدِّ فِي الْمَوَاضِع كلهَا، لِأَنَّهَا همزتان: الأولى همزَة الِاسْتِفْهَام، وَالثَّانيَِة: همزَة لَفْظَة الله، وَهُوَ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وأرسلك، خَبره. قَوْله: (اللَّهُمَّ نعم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: اللَّهُمَّ، أَصله: يَا الله، فَحذف حرف النداء، وَجعل الْمِيم بَدَلا مِنْهُ. وَالْجَوَاب: هُوَ نعم، وَذكر لفظ: اللَّهُمَّ، للتبرك، وَكَأَنَّهُ اسْتشْهد بِاللَّه فِي ذَلِك تَأْكِيدًا لصدقه. قلت: اللَّهُمَّ، تسْتَعْمل على ثَلَاثَة أنحاء: الأول: للنداء الْمَحْض، وَهُوَ ظَاهر. وَالثَّانِي: للإيذان بندرة الْمُسْتَثْنى، كَمَا يُقَال: اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يكون كَذَا. وَالثَّالِث: الْبَدَل على تَيَقّن الْمُجيب فِي الْجَواب المقترن هُوَ بِهِ، كَقَوْلِك لمن قَالَ: أَزِيد قَائِم؟ اللَّهُمَّ نعم. أَو: اللَّهُمَّ لَا. كَأَنَّهُ يُنَادِيه تَعَالَى مستشهداً على مَا قَالَه من الْجَواب. قَوْله: (أنْشدك) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَالْبَاء فِي: بِاللَّه، للقسم. قَوْله: (أَن تصلي) بتاء الْخطاب، وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ بالنُّون، قَوْله: (الصَّلَوَات الْخمس) هَكَذَا بِجمع الصَّلَوَات عِنْد الْأَكْثَرين وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني والسرخسي: (الصَّلَاة) . بِالْإِفْرَادِ. فَإِن قلت: على هَذَا كَيفَ تُوصَف الصَّلَاة بالخمس وَهِي مُفْردَة؟ قلت: هِيَ للْجِنْس، فَيحْتَمل التَّعَدُّد. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: أَن نصلي، بالنُّون، أوجه، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ثَابت عَن أنس بِلَفْظ: (إِن علينا خمس صلوَات ليومنا وليلتنا) . قَوْله: (أَن تَصُوم) بتاء المخاطبة. وَعند الْأصيلِيّ: بالنُّون. قَوْله: (هَذَا الشَّهْر) أَي: شهر رَمَضَان من السّنة، أَي: من كل سنة إِذْ اللَّام للْعهد، وَالْإِشَارَة فِيهِ لنَوْع هَذَا الشَّهْر لَا لشخص ذَلِك الشَّهْر بِعَيْنِه. قَوْله: (أَن تَأْخُذ هَذِه الصَّدَقَة) ، بتاء الْمُخَاطب، وَكَذَلِكَ: (تقسمها) :. وَأَن، مَصْدَرِيَّة، وَأَصلهَا: بِأَن تَأْخُذ، أَي: تَأْخُذ الصَّدَقَة. قَوْله: (فتقسمها) بِالنّصب، عطف على قَوْله: (أَن تأخذها) . قَوْله: (بِمَا جِئْت) ، أَي: بِالَّذِي جِئْت بِهِ. قَوْله: (وَأَنا) ، مُبْتَدأ و (رَسُول) خَبره مُضَاف إِلَى: من، بِفَتْح الْمِيم، وَهِي مَوْصُولَة. وَكلمَة: من، فِي قَوْله: من قومِي، للْبَيَان.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فأناخه فِي الْمَسْجِد) فِيهِ حذف، وَالتَّقْدِير، فأناخه فِي رحبة الْمَسْجِد، وَنَحْوهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا هَكَذَا لتتفق هَذِه الرِّوَايَة بالروايات الْأُخْرَى، فَإِن فِي رِوَايَة أبي نعيم: أقبل على بعير لَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِد فأناخه ثمَّ عقله، فَدخل الْمَسْجِد. وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، ولفظها: (فاناخ بعيره على بَاب الْمَسْجِد فعقله ثمَّ دخل) . قَوْله: (هَذَا الرجل الْأَبْيَض) المُرَاد بِهِ الْبيَاض النير الزَّاهِر، وَأما مَا ورد فِي صفته أَنه، لَيْسَ بأبيض وَلَا آدم، فَالْمُرَاد بِهِ الْبيَاض الصّرْف كلون الجص، كريه المنظر، فَإِنَّهُ لون البرص. وَيُقَال: المُرَاد بالأبيض، وَهُوَ الْأَبْيَض المشرب بحمرة، يدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْحَارِث بن عُمَيْر: (فَقَالَ: أيكما ابْن عبد الْمطلب؟ فَقَالُوا: هُوَ الأمغر المرتفق) . قَالَ اللَّيْث: الأمغر الَّذِي فِي وَجهه حمرَة مَعَ بَيَاض صَاف. وَقَالَ غَيره: الأمغر: الْأَحْمَر الشّعْر وَالْجَلد على لون الْمغرَة، وَقَالَ ابْن فَارس: الأمغر من الْخَيل الْأَشْقَر. قلت: مادته: مِيم وغين مُعْجمَة وَرَاء مُهْملَة. قَوْله: (اجبتك) ، وَمَعْنَاهُ: سَمِعتك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَتى أجَاب حَتَّى أخبر عَنهُ؟ قلت: أجبْت بِمَعْنى: سَمِعت، أَو المُرَاد مِنْهُ إنْشَاء الْإِجَابَة، وَإِنَّمَا أَجَابَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام: بِهَذِهِ الْعبارَة لِأَنَّهُ أخل بِمَا يجب من رِعَايَة غَايَة التَّعْظِيم وَالْأَدب بِإِدْخَال الْجمل فِي الْمَسْجِد، وخطابه: بأيكم مُحَمَّد؟ وبابن عبد الْمطلب؟ انْتهى. قلت: لَا يَخْلُو ضمام إِمَّا أَنه قدم مُسلما وَإِمَّا غير مُسلم، فَإِن كَانَ الأول: فَإِنَّهُ يحمل مَا صدر مِنْهُ من هَذِه الْأَشْيَاء على أَنه لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت وقف على أُمُور الشَّرْع، وَلَا على النَّهْي، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} (النُّور: 63) على أَنه كَانَت فِيهِ بَقِيَّة من جفَاء الْأَعْرَاب وجهلهم، وَإِن كَانَ الثَّانِي: فَلَا يحْتَاج إِلَى الِاعْتِذَار عَنهُ. وَاخْتلفُوا، هَل كَانَ مُسلما عِنْد قدومه أم لَا؟ فَقَالَ جمَاعَة: إِنَّه كَانَ أسلم قبل وفوده، حَتَّى زعمت طَائِفَة مِنْهُم أَن البُخَارِيّ فهم إِسْلَام ضمام قبل قدومه، وَأَنه جَاءَ يعرض على النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلِهَذَا بوب عَلَيْهِ: بَاب الْقِرَاءَة وَالْعرض على الْمُحدث، وَلقَوْله آخر الحَدِيث: (آمَنت بِمَا جِئْت بِهِ وَأَنا

(2/21)


رَسُول من ورائي من قومِي) . وَإِن هَذَا إِخْبَار، وَهُوَ اخْتِيَار البُخَارِيّ، وَرجحه القَاضِي عِيَاض، وَقَالَ جمَاعَة أُخْرَى: لم يكن مُسلما وَقت قدومه، وَإِنَّمَا كَانَ إِسْلَامه بعده، لِأَنَّهُ جَاءَ مستثبتاً. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق وَغَيره، وَفِيه: (أَن بني سعد بن بكر بعثوا ضمام بن ثَعْلَبَة)
الحَدِيث، وَفِي آخِره: (حَتَّى إِذا فرغ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله) ، وَأَجَابُوا عَن قَوْله: آمَنت، بِأَنَّهُ انشاء وَابْتِدَاء إِيمَان، لَا إِخْبَار بِإِيمَان تقدم مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَأَنا رَسُول من ورائي) ورجحة الْقُرْطُبِيّ لقَوْله فِي حَدِيث ثَابت عَن أنس عِنْد مُسلم وَغَيره: فَإِن رَسُولك زعم. قَالَ: والزعم: القَوْل الَّذِي لَا يوثق بِهِ. قَالَه ابْن السّكيت وَغَيره: وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَن الزَّعْم يُطلق على القَوْل الْمُحَقق أَيْضا، كَمَا نَقله أَبُو عمر الزَّاهِد فِي شرح فصيح شَيْخه، ثَعْلَب. قلت: أصل وَضعه، كَمَا قَالَه ابْن السّكيت، واستعماله فِي القَوْل الْمُحَقق مجَاز يحْتَاج إِلَى قرينَة، وَأَجَابُوا أَيْضا عَن قَوْلهم: إِن البُخَارِيّ فهم إِسْلَام ضمام قبل قدومه، بِأَنَّهُ لَا يلْزم من تبويب البُخَارِيّ مَا ذَكرُوهُ، لِأَن الْعرض على الْمُحدث هُوَ الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، أَعم من أَن يكون تقدّمت لَهُ، أَو أبتدأ الْآن على الشَّيْخ بِقِرَاءَة شَيْء لم يتَقَدَّم قِرَاءَته وَلَا نظره، وَقَالُوا: قد بوب أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ بَاب الْمُشرك يدْخل الْمَسْجِد. وَهُوَ أَيْضا يدل على أَنه لم يكن مُسلما قبل قدومه. وَقد مَال الْكرْمَانِي إِلَى مقَالَة الْأَوَّلين حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: من أَيْن عرف حَقِيقِيَّة كَلَام الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، وَصدق رسَالَته، إِذْ لَا معْجزَة فِيمَا جرى من هَذِه الْقِصَّة؟ وَهَذَا الْإِيمَان لَا يُفِيد إلاَّ تَأْكِيدًا وتقريراً؟ قلت: الرجل كَانَ مُؤمنا عَارِفًا بنبوته، عَالما بمعجزاته قبل الْوُفُود، وَلِهَذَا مَا سَأَلَ إلاَّ عَن تَعْمِيم الرسَالَة إِلَى جَمِيع النَّاس، وَعَن شرائع الْإِسْلَام. قلت: عَكسه الْقُرْطُبِيّ فاستدل بِهِ على إِيمَان الْمُقَلّد بالرسول، وَلَو لم تظهر لَهُ معْجزَة، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الصّلاح. قَوْله: (وانا ضمام ابْن ثَعْلَبَة) ، بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وثعلبة، بالثاء الْمُثَلَّثَة الْمَفْتُوحَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، أَخُو بني سعد بن بكر السَّعْدِيّ، قدم على النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بَعثه إِلَيْهِ بَنو سعد، فَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام، ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِم فَأخْبرهُم بِهِ فاسلموا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَا سمعنَا بوافد قطّ أفضل من ضمام ابْن ثَعْلَبَة. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ قدوم ضمام هَذَا سنة تسع، وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة والطبري وَغَيرهمَا، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ سنة خمس، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن حبيب، وَفِيه نظر من وُجُوه الأول: أَن فِي رِوَايَة مُسلم أَن ذَلِك كَانَ حِين نزل النَّهْي فِي الْقُرْآن عَن سُؤال الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، وَآيَة النَّهْي فِي الْمَائِدَة، ونزولها مُتَأَخّر. الثَّانِي: أَن إرْسَال الرُّسُل إِلَى الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام، إِنَّمَا كَانَ ابتداؤه بعد الْحُدَيْبِيَة، ومعظمه بعد فتح مَكَّة، شرفها الله. الثَّالِث: أَن فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَن قومه أطاعوه ودخلوا فِي الْإِسْلَام بعد رُجُوعه إِلَيْهِم، وَلم يدْخل بَنو سعد بن بكر بن هوَازن فِي الْإِسْلَام إلاَّ بعد وقْعَة حنين، وَكَانَت فِي شَوَّال سنة ثَمَان. قَوْله: (اخو بني بن سعد بن بكر) بن هوَازن، وهم أخوال رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي الْعَرَب سعود قبائل شَتَّى، مِنْهَا: سعد تَمِيم، وَسعد هُذَيْل، وَسعد قيس، وَسعد بكر هَذَا. وَفِي الْمثل: بِكُل وَاد بَنو سعد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: قَالَ ابْن الصّلاح. فِيهِ دلَالَة لصِحَّة مَا ذهب إِلَيْهِ الْعلمَاء من أَن الْعَوام المقلدين مُؤمنُونَ، وَأَنه يكْتَفى مِنْهُم بِمُجَرَّد اعْتِقَادهم الْحق، جزما من غير شكّ وتزلزل، خلافًا للمعتزلة، وَذَلِكَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قرر ضماماً على مَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي تعرف رسَالَته، وَصدقه بِمُجَرَّد إخْبَاره إِيَّاه بذلك، وَلم يُنكره عَلَيْهِ، وَلَا قَالَ لَهُ: يجب عَلَيْك معرفَة ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى معجزاتي، وَالِاسْتِدْلَال بالأدلة القطعية. الثَّانِي: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد، لِأَن قومه لم يَقُولُوا لَهُ: لَا نقبل خبرك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يأتينا من طَرِيق آخر. الثَّالِث: قَالَ أَيْضا: فِيهِ جَوَاز إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ دَلِيل على طَهَارَة أَبْوَال الْإِبِل وأرواثها، إِذْ لَا يُؤمن ذَلِك مِنْهُ مُدَّة كَونه فِي الْمَسْجِد. قلت: هَذَا احْتِمَال لَا يحكم بِهِ فِي بَاب الطَّهَارَة، على أَنا قد بينَّا أَن المُرَاد من قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) فِي الحَدِيث فِي رحبة الْمَسْجِد، وَنَحْوهَا. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز تَسْمِيَة الْأَدْنَى للأعلى دون أَن يكنيه، إلاَّ أَنه نسخ فِي حق الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام: بقوله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} (النُّور: 63) . الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الاتكاء بَين النَّاس فِي الْمجَالِس. السَّادِس: فِيهِ مَا كَانَ للنَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، من ترك التكبر، لقَوْله: (ظهرانيهم) . السَّابِع: فِيهِ جَوَاز تَعْرِيف الرجل بِصفة من الْبيَاض والحمرة، والطول وَالْقصر، وَنَحْو ذَلِك. الثَّامِن: فِيهِ الِاسْتِحْلَاف على الْخَبَر لعلم الْيَقِين، وَفِي مُسلم: (فبالذي خلق السَّمَاء، وَخلق الأَرْض، وَنصب هَذِه الْجبَال، آللَّهُ أرسلك؟ قَالَ: نعم) التَّاسِع: فِيهِ التَّعْرِيف

(2/22)


بالشخص، فَإِنَّهُ قَالَ: (ايكم مُحَمَّد؟ وَقَالَ: ابْن عبد الْمطلب؟) . الْعَاشِر: فِيهِ النِّسْبَة إِلَى الأجداد، فَإِنَّهُ قَالَ: (ابْن عبد الْمطلب؟) وَجَاء فِي (صَحِيح مُسلم) : (يَا مُحَمَّد) . الْحَادِي عشر: استنبط مِنْهُ الْحَاكِم طلب الْإِسْنَاد العالي، وَلَو كَانَ الرَّاوِي ثِقَة، إِذْ البدوي لم يقنعه خبر الرَّسُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رَحل بِنَفسِهِ، وَسمع مَا بلغه الرَّسُول عَنهُ، قيل: إِنَّمَا يتم مَا ذكره إِذا كَانَ ضمام قد بلغه ذَلِك أَولا. قلت: قد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم. الثَّانِي عشر: فِيهِ تَقْدِيم الْإِنْسَان بَين يَدي حَدِيثه مُقَدّمَة يعْتَذر فِيهَا ليحسن موقع حَدِيثه عِنْد الْمُحدث، وَهُوَ من حسن التَّوَصُّل، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله: (إِنِّي سَائِلك فمشدد عَلَيْك) .
الأسئلة الاجوبة: مِنْهَا مَا قيل: قَالَ: (على فقرائنا) ، وأصناف الْمصرف ثَمَانِيَة لَا تَنْحَصِر على الْفُقَرَاء. وَأجِيب: بِأَن ذكرهم بِاعْتِبَار أَنهم الْأَغْلَب من سَائِر الْأَصْنَاف، أَو لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة ذكر الْأَغْنِيَاء. وَمِنْهَا مَا قيل: لمَ لَمْ يذكر الْحَج؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ قبل فَرضِيَّة الْحَج، أَو لِأَنَّهُ لم يكن من أهل الِاسْتِطَاعَة لَهُ، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لم يذكر الْحَج فِي رِوَايَة شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر عَن أنس، وَقد ذكره مُسلم وَغَيره فِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس وَهُوَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس أَيْضا، وَمَا قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ مَنْقُول عَن ابْن التِّين، وَالْحَامِل لَهُم على ذَلِك مَا رُوِيَ عَن الْوَاقِدِيّ من أَن قدوم ضمام كَانَ سنة خمس، وَقد بَينا فَسَاده. وَمِنْهَا ماقيل: لَم لَمْ يُخَاطب بِالنُّبُوَّةِ وَلَا بالرسالة، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} (النُّور: 63) وَأجِيب: بأوجه: الأول: أَنه لم يكن آمن بعد. الثَّانِي: أَنه باقٍ على جفَاء الْجَاهِلِيَّة، لكنه لم يُنكر عَلَيْهِ، وَلَا رد عَلَيْهِ. الثَّالِث: لَعَلَّه كَانَ قبل النَّهْي عَن مخاطبته عَلَيْهِ السَّلَام بذلك. الرَّابِع: لَعَلَّه لم يبلغهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، عَن قريب، وَيُقَال إِنَّمَا قَالَ: (ابْن عبد الْمطلب؟) لِأَنَّهُ لما دخل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَيّكُم ابْن عبد الْمطلب؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: أَنا ابْن عبد الْمطلب) . فَقَالَ ابْن عبد الْمطلب؟ على مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من طَرِيق ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (ايكم ابْن عبد الْمطلب؟ فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: انا ابْن عبد الْمطلب) . فَقَالَ يَابْنَ عبد الْمطلب وسَاق الحَدِيث. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره الانتساب إِلَى الْكفَّار، فَكيف قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: انا ابْن عبد الْمطلب؟ . وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ هَهُنَا تطابق الْجَواب السُّؤَال. لِأَن ضماماً خاطبه بقوله: (ايكم ابْن عبد الْمطلب؟ فَأجَاب عَلَيْهِ السَّلَام، بقوله: أَنا ابْن عبد الْمطلب) فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ يكره ذَلِك؟ وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم حنين: (أَنا ابْن عبد الْمطلب؟) قلت: لم يذكرهُ إلاَّ للْإِشَارَة إِلَى رُؤْيا رَآهَا عبد الْمطلب مَشْهُورَة، كَانَت إِحْدَى دَلَائِل نبوته، فَذكرهمْ بهَا، وبخروج الْأَمر على الصدْق. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة الْإِيمَان الْمَذْكُورَة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا جرت للتَّأْكِيد وَتَقْرِير الْأَمر، لَا لافتقار إِلَيْهَا كَمَا أقسم الله تَعَالَى على أَشْيَاء كَثِيرَة كَقَوْلِه: (قل: أَي وربي إِنَّه لحق) ، (قل: بلَى وربي لتبعثن) ، (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق) . وَمِنْهَا مَا قيل: هَل النجدي السَّائِل فِي حَدِيث طَلْحَة بن عبيد اللَّه الْمَذْكُور فِيمَا مضى هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة أَو غَيره؟ أُجِيب: بِأَن جمَاعَة قد قَالُوا: إِنَّه هُوَ إِيَّاه، والنجدي هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة، وَمَال إِلَى هَذَا ابْن عبد الْبر وَالْقَاضِي عِيَاض وَغَيرهمَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يبعد أَن يَكُونَا وَاحِدًا لتباين أَلْفَاظ حديثيهما ومساقهما.
رَواهُ مُوسَى وعَلِيُّ بنُ عبدِ الحَميدِ عنْ سُلَيْمانَ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذا.
أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وَقد مر ذكره، وَهُوَ يروي هَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة أبي سعيد الْقَيْسِي الْبَصْرِيّ عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) مَوْصُولا بِهَذَا الطَّرِيق، وَكَذَا ابْن مَنْدَه فِي الْإِيمَان. فَإِن قلت: لم علقه البُخَارِيّ وَلم يُخرجهُ مَوْصُولا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ يروي عَن شَيْخه مُوسَى بالواسطة، فَيكون تَعْلِيقا. وَفَائِدَة ذكره الاستشهاد وتقوية مَا تقدم. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا علقه البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لم يحْتَج بشيخه سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، يَعْنِي شيخ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الَّذِي هُوَ شيخ البُخَارِيّ. قلت: كَيفَ يَقُول: لم يحْتَج بِهِ، وَقد روى لَهُ حَدِيثا وَاحِدًا عَن ابْن أبي اياس عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن حميد بن هِلَال عَن أبي صَالح السمان، قَالَ: (رَأَيْت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، فِي يَوْم جُمُعَة يُصَلِّي إِلَى شَيْء يستره من النَّاس)
الحَدِيث، ذكره فِي بَاب: يرد الْمُصَلِّي من بَين يَدَيْهِ؟ وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل فِيهِ: ثَبت ثَبت ثِقَة ثِقَة. وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة ثَبت. وَقَالَ

(2/23)


شُعْبَة: سيد أهل الْبَصْرَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: كَانَ من خِيَار النَّاس، سمع الْحسن وَابْن سِيرِين وثابت الْبنانِيّ، روى عَنهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة، وَتُوفِّي سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. قَوْله (وَعلي بن عبد الحميد) عطف على مُوسَى، وروى الحَدِيث الْمَذْكُور أَيْضا عَليّ بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مَوْصُولا من طَرِيقه، وَأخرجه الدَّارمِيّ عَن عَليّ بن عبد الحميد ... الخ، وَهُوَ عَليّ بن عبد الحميد بن مُصعب أَبُو الْحُسَيْن المعني، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر النُّون بعْدهَا يَاء النِّسْبَة، نِسْبَة إِلَى معن بن مَالك بن فهم بن غنم بن دوس. قَالَ الرشاطي: المعني فِي الأزد وَفِي طي وَفِي ربيعَة. فَالَّذِي فِي أَزْد: معن بن مَالك. وَالَّذِي فِي طي: معن بن عتود بن غَسَّان بن سلامان بن نفل بن عَمْرو بن الْغَوْث بن طي، وَالَّذِي فِي ربيعَة: معن بن زَائِدَة بن عبد اللَّه بن زَائِدَة بن مطر بن شريك. وروى عَنهُ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وَقَالا: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: روى عَنهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا، وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. قلت: لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع الْمُعَلق، وَأما ثَابت الْبنانِيّ فَهُوَ ابْن أسلم، أَبُو حَامِد الْبنانِيّ الْبَصْرِيّ العابد، سمع ابْن الزبير وَابْن عمر وأنساً وَغَيرهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، روى عَنهُ خلق كثير، وَقَالَ أَحْمد وَيحيى وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وَلَا خلاف فِيهِ. توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، والبناني: بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنونين، نِسْبَة إِلَى بنانة بطن من قُرَيْش. وَقَالَ الزبير بن بكار: كَانَت بنانة أمة لسعد بن لؤَي حضنت بنيه فنسبوا إِلَيْهَا. وَقَالَ الْخَطِيب: بنانة هم بَنو سعد بن غلب، وَأم سعد بنانة. قَوْله: (بِهَذَا) ، أَشَارَ إِلَى معنى الحَدِيث الْمَذْكُور، لِأَن اللَّفْظ مُخْتَلف فَافْهَم.