عمدة القاري شرح صحيح البخاري

7 - (بَاب مَا يُذْكَرُ فِي المُناوَلَةِ)

أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يذكر فِي المناولة، وَهِي فِي اللُّغَة من: ناولته الشَّيْء فتناوله، من النوال. وَهُوَ الْعَطاء. وَفِي اصْطِلَاح الْمُحدثين هِيَ على نَوْعَيْنِ: احدهما: المقرونة بِالْإِجَازَةِ، كَمَا أَن يرفع الشَّيْخ إِلَى الطَّالِب أصل سَمَاعه مثلا، وَيَقُول: هَذَا سَمَاعي، وأجزت لَك رِوَايَته عني، وَهَذِه حَالَة السماع عِنْد مَالك وَالزهْرِيّ وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، فَيجوز إِطْلَاق: حَدثنَا وَأخْبرنَا فِيهَا، وَالصَّحِيح أَنه منحط عَن دَرَجَته، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَئِمَّة، وَالْآخر المناولة الْمُجَرَّدَة عَن الْإِجَازَة بِأَن يناوله أصل السماع، كَمَا تقدم، وَلَا يَقُول لَهُ: أجزت لَك الرِّوَايَة عني، وَهَذِه لَا تجوز الرِّوَايَة بهَا على الصَّحِيح، وَمُرَاد البُخَارِيّ من الْبَاب الْقسم الأول. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق، وَفِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَفِي هَذَا الْبَاب وُجُوه التَّحَمُّل الْمُعْتَبرَة عِنْد الْجُمْهُور، والأبواب الثَّلَاثَة أَنْوَاع شَيْء وَاحِد وَلَا تُوجد مُنَاسبَة أقوى من هَذَا.
وكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ

وَكتاب: بِالْجَرِّ عطف على قَوْله فِي: المناولة، وَالتَّقْدِير: وَمَا يذكر فِي كتاب أهل الْعلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ الْكتاب يحْتَمل عطفه على المناولة، وعَلى مَا يذكر، قلت: الْفرق بَينهمَا أَن لفظ الْكتاب يكون مجروراً فِي الأول: بِحرف الْجَرّ، وَفِي الثَّانِي: بِالْإِضَافَة، وَالْكتاب هُنَا مصدر وَكلمَة إِلَى، الَّتِي للغاية تتَعَلَّق بِهِ. وَقَوله: (إِلَى الْبلدَانِ) ، فِيهِ حذف، أَي: إِلَى أهل الْبلدَانِ، وَهُوَ جمع بلد، وَهَذَا على سَبِيل الْمِثَال دون الْقَيْد، لِأَن الحكم عَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى أهل الْقرى والصحارى وَغَيرهمَا. ثمَّ اعْلَم أَن الْمُكَاتبَة هِيَ أَن يكْتب الشَّيْخ إِلَى الطَّالِب شَيْئا من حَدِيثه، وَهِي أَيْضا نَوْعَانِ: إِحْدَاهمَا: المقرونة بِالْإِجَازَةِ، وَالْأُخْرَى: المتجردة عَنْهَا. وَالْأولَى: فِي الصِّحَّة وَالْقُوَّة شَبيهَة بالمناولة المقرونة بِالْإِجَازَةِ. وَأما الثَّانِيَة: فَالصَّحِيح الْمَشْهُور فِيهَا أَنَّهَا تجوز الرِّوَايَة بهَا، بِأَن يَقُول: كتب إِلَيّ فلَان قَالَ: حَدثنَا بِكَذَا، وَقَالَ بَعضهم: يجوز حَدثنَا واخبرنا فِيهَا، وَقد سوى البُخَارِيّ الْكِتَابَة المقرونة بِالْإِجَازَةِ بالمناولة، وَرجح قوم المناولة عَلَيْهَا لحُصُول المشافهة بهَا، بِالْإِذْنِ دون الْمُكَاتبَة، وَقد جوز جمَاعَة من القدماء الْأَخْبَار فيهمَا، وَالْأول مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من اشْتِرَاط بَيَان ذَلِك.
وَقَالَ أَنَسٌ: نَسَخَ عُثْمانُ المَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِها إِلَى الآفاقِ.
أنس: هُوَ ابْن مَالك الصَّحَابِيّ، خَادِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعُثْمَان: هُوَ ابْن عَفَّان، أحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، رَضِي الله عَنْهُم، والمصاحف بِفَتْح الْمِيم، جمع مصحف، وَيجوز فِي ميمه الحركات الثَّلَاث عَن ثَعْلَب، قَالَ: الْفَتْح: لُغَة صَحِيحَة فصيحة، وَقَالَ الْفراء: قد استثقلت الْعَرَب الضمة فِي حُرُوف، وكسروا ميمها، وَأَصلهَا الضَّم، من ذَلِك مصحف ومخدع ومطرف ومغزل

(2/24)


ومجسد، لِأَنَّهَا مَأْخُوذَة فِي الْمَعْنى من: أصحفت، أَي: جمعت فِيهِ الصُّحُف، وأطرف، أَي جعل فِي طَرفَيْهِ علما، وأجسد، أَي: ألصق بالجسد، وَكَذَلِكَ المغزل، إِنَّمَا هُوَ أدير وفتل، وَقَالَ أَبُو زيد: تَمِيم تَقول بِكَسْر الْمِيم، وَقيس تَقول بضَمهَا. ثمَّ قُلْنَا: إِن الْمُصحف مَا جمعت فِيهِ الصُّحُف، والصحف، بِضَمَّتَيْنِ، جمع صحيفَة، والصحيفة: الْكتاب. قَالَ الله تَعَالَى {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} (الْأَعْلَى: 19) يَعْنِي: الْكتب الَّتِي أنزلت عَلَيْهِمَا، وأصل التَّرْكِيب يدل على انبساط فِي الشَّيْء وسعة، ثمَّ هَذَا الَّذِي ذكره البُخَارِيّ من قَوْله: قَالَ أنس: نسخ عُثْمَان الْمَصَاحِف، قِطْعَة من حَدِيث لأنس، رَضِي الله عَنهُ، ذكره البُخَارِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن أنس: أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان قدم على عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ يغازي أهل الشَّام فِي فتح أرمينية، وَفِيه: فَفَزعَ حُذَيْفَة من اخْتلَافهمْ فِي الْقِرَاءَة، فَقَالَ لعُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ: أدْرك هَذِه الْأمة قبل أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْكتاب اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا، أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف، ثمَّ نردها إِلَيْك. فَأرْسلت بهَا حَفْصَة إِلَى عُثْمَان، فَأمر زيد بن ثَابت، وَعبد اللَّه بن الزبير، وَسَعِيد بن الْعَاصِ، وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام، رَضِي الله عَنْهُم، فنسخوها فِي الْمَصَاحِف، وَفِيه: حَتَّى إِذا نسخوا الصُّحُف فِي الْمَصَاحِف، رد عُثْمَان الصُّحُف إِلَى حَفْصَة وَأرْسل إِلَى كل أفق بمصحف مِمَّا نسخوا. وَفِي غير البُخَارِيّ: أَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، بعث مُصحفا إِلَى الشَّام، ومصحفاً إِلَى الْحجاز، ومصحفاً إِلَى الْيمن، ومصحفاً إِلَى الْبَحْرين، وَأبقى عِنْده مُصحفا ليجتمع النَّاس على قِرَاءَة مَا يعلم ويتيقن. وَقَالَ أَبُو عَمْرو الداني: أَكثر الْعلمَاء على أَن عُثْمَان كتب أَربع نسخ، فَبعث إِحْدَاهُنَّ إِلَى الْبَصْرَة، وَأُخْرَى إِلَى الْكُوفَة، وَأُخْرَى إِلَى الشَّام، وَحبس عِنْده أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: كتب سَبْعَة، فَبعث إِلَى مَكَّة وَاحِدًا، وَإِلَى الشَّام آخر، وَإِلَى الْيمن آخر وَإِلَى الْبَحْرين آخر، وَإِلَى الْبَصْرَة آخر، وَإِلَى الْكُوفَة آخر، وَدلَالَة هَذَا على تَجْوِيز الرِّوَايَة بالمكاتبة ظَاهِرَة، فَإِن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَمرهم بالاعتماد على مَا فِي تِلْكَ الْمَصَاحِف، وَمُخَالفَة مَا عَداهَا. والمستفاد من بَعثه الْمَصَاحِف إِنَّمَا هُوَ قبُول إِسْنَاد صُورَة الْمَكْتُوب بهَا، لَا أصل ثُبُوت الْقُرْآن، فَإِنَّهُ متواتر.
وَرَأَى عبدُ اللَّه بنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ ومالِكٌ ذَلكَ جَائِزا.
أَي: عبد اللَّه بن عمر بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، أَبُو عبد الرحمان الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَمَالك بن أنس الْمدنِي. أما عبد اللَّه ابْن عمر هَذَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: كنت أرى الزُّهْرِيّ يَأْتِيهِ الرجل بِكِتَاب لم يقرأه عَلَيْهِ، وَلم يقْرَأ عَلَيْهِ، فَيَقُول: أرويه عَنْك؟ فَيَقُول: نعم. وَقَالَ: مَا أَخذنَا نَحن وَلَا مَالك عَن الزُّهْرِيّ إِلَّا عرضا. وَأما يحيى وَمَالك فَإِن الْأَثر عَنْهُمَا بذلك أخرجه الْحَاكِم فِي (عُلُوم الحَدِيث) من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. قَالَ: سَمِعت خَالِي، مَالك بن أنس، يَقُول: قَالَ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الْعرَاق: الْتقط لي مائَة حَدِيث من حَدِيث ابْن شهَاب، حَتَّى أرويها عَنْك! قَالَ مَالك: فكتبتها، ثمَّ بعثتها إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم: عبد اللَّه بن عمر هَذَا، كنت أَظُنهُ، الْعمريّ الْمدنِي، ثمَّ ظهر لي، من قرينَة تَقْدِيمه فِي الذّكر على يحيى بن سعيد، أَنه لَيْسَ إِيَّاه، لِأَن يحيى بن سعيد أكبر مِنْهُ سنا وَقدرا، فتتبعته فَلم أَجِدهُ. عَن عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب صَرِيحًا، وَلَكِن وجدت فِي (كتاب الْوَصِيَّة) لِابْنِ الْقَاسِم بن مَنْدَه من طَرِيق البُخَارِيّ بِسَنَد لَهُ صَحِيح إِلَى أبي عبد اللَّه الحبلي، بِضَم الْمُهْملَة وَالْمُوَحَّدَة، أَنه أَتَى عبد اللَّه بِكِتَاب فِيهِ أَحَادِيث، فَقَالَ انْظُر فِي هَذَا الْكتاب، فَمَا عرفت مِنْهُ أتركه، وَمَا لم تعرفه امحه. وَعبد اللَّه: يحْتَمل أَن يكون هوّ ابْن عمر بن الْخطاب فَأن الحبلي سمع مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِن الحبلي مَشْهُور بالرواية مِنْهُ. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: أَن تَقْدِيم عبد اللَّه بن عمر الْمَذْكُور على يحيى بن سعيد لَا يسْتَلْزم أَن يكون هُوَ الْعمريّ الْمدنِي الْمَذْكُور، فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ بَيَان الْمُلَازمَة. الثَّانِي: أَن قَول الحبلي: إِنَّه أَتَى عبد اللَّه، لَا يدل بِحَسب الِاصْطِلَاح إلاَّ على عبد اللَّه بن مَسْعُود، فَإِنَّهُ إِذا أطلق عبد اللَّه غير مَنْسُوب يفهم مِنْهُ عبد اللَّه بن مَسْعُود إِن كَانَ مَذْكُورا بَين الصَّحَابَة، وَعبد اللَّه بن الْمُبَارك إِن كَانَ فِيمَا بعدهمْ. الثَّالِث: أَنه إِن أَرَادَ من قَوْله: وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، أَن يكون المُرَاد من قَول البُخَارِيّ من: عبد اللَّه بن عمر، عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَذَاك غير صَحِيح، لِأَنَّهُ لم يثبت فِي نُسْخَة من نسخ البُخَارِيّ إِلَّا عبد اللَّه بن عمر، بِدُونِ الْوَاو، وَالَّذِي يظْهر لي أَن عبد اللَّه بن عمر هَذَا هُوَ الْعمريّ الْمدنِي كَمَا

(2/25)


جزم بِهِ الْكرْمَانِي، مَعَ الِاحْتِمَال الْقوي أَنه عبد اللَّه بن عمر بن الْخَاطِب، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَلَا يلْزم من عدم وجدان هَذَا الْقَائِل مَعَ تتبعه عَن عبد اللَّه بن عمر فِي ذَلِك شَيْئا صَرِيحًا أَن لَا يكون عَنهُ رِوَايَة فِي هَذَا الْبَاب، وَأَن لَا يكون هُوَ عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا. قَوْله: (ذَلِك جَائِزا) إِشَارَة إِلَى كل وَاحِد من: المناولة وَالْكِتَابَة بِاعْتِبَار الْمَذْكُور، وَقد وَردت الْإِشَارَة بذلك إِلَى الْمثنى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {عوان بَين ذَلِك} (الْبَقَرَة: 68) .
ثمَّ اعْلَم أَن البُخَارِيّ، رَحمَه الله، بوب على أَعلَى الْإِجَازَة، وَنبهَ على جنس الْإِجَازَة بِذكر نَوْعَيْنِ مِنْهَا، فَهَذِهِ ثَمَانِيَة أوجه لأصول الرِّوَايَة، وَقد تقدّمت الثَّلَاثَة الأول فِي الْبَابَيْنِ الْأَوَّلين. وَأما الرَّابِع: فالمناولة المقرونة بِالْإِجَازَةِ، وَصورتهَا أَن يَقُول الشَّيْخ: هَذِه روايتي، أَو حَدِيثي عَن فلَان، فاروه عني، أَو: أجزت لَك رِوَايَته عني، ثمَّ يملكهُ الْكتاب. أَو يَقُول: خُذْهُ وانسخه، وقابل بِهِ ثمَّ رده إِلَيّ، أَو نَحوه، أَو يَأْتِي إِلَيْهِ بِكِتَاب فيتأمله الشَّيْخ الْعَارِف المتيقظ ويعيده إِلَيْهِ، فَيَقُول لَهُ: وقفت على مَا فِيهِ وَهُوَ رِوَايَته، فاروه عني. أَو: أجزت لَك ذَلِك، وَهَذَا كالسماع بِالْقُوَّةِ عِنْد جمَاعَة، حَكَاهُ الْحَاكِم عَنْهُم، مِنْهُم: الزُّهْرِيّ، وَرَبِيعَة، وَيحيى الْأنْصَارِيّ، وَمُجاهد، وَابْن الزبير، وَابْن عُيَيْنَة فِي جمَاعَة من المكيين و: عَلْقَمَة وَإِبْرَاهِيم وَقَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة وَابْن وهب وَابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَغَيرهم، وروى الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد اللَّه الْعمريّ أَنه قَالَ: دفع إِلَيّ ابْن شهَاب صحيفَة فَقَالَ: إنسخ مَا فِيهَا وَحدث بِهِ عني. قلت: أَو يجوز ذَلِك؟ قَالَ: نعم، ألم تَرَ إِلَى الرجل يشْهد على الْوَصِيَّة وَلَا يفتحها، فَيجوز ذَلِك وَيُؤْخَذ بِهِ. قَالَ أَبُو عمر وَابْن الصّلاح: وَالصَّحِيح أَنَّهَا منحطة عَن السماع وَالْقِرَاءَة، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، والبويطي والمزني صَاحِبيهِ، وَأحمد وَإِسْحَاق وَيحيى بن يحيى، وَمِنْه أَن يناول الشَّيْخ الطَّالِب سَمَاعه ويخبره بِهِ، ثمَّ يمسِكهُ الشَّيْخ، وَهَذِه دونه، لكنه يجوز الرِّوَايَة بهَا إِذا وجد الْكتاب أَو مَا قوبل بِهِ كَمَا يعْتَبر فِي الْإِجَازَة الْمُجَرَّدَة فِي معِين. الْخَامِس: المناولة الْمُجَرَّدَة، مثل أَن يناوله مُقْتَصرا على قَوْله: هَذَا سَمَاعي، وَلَا يَقُول إروه عني، أَو أجزت لَك رِوَايَته، وَنَحْوه. قَالَ ابْن الصّلاح: لَا يجوز الرِّوَايَة بهَا على الصَّحِيح، وَقد أجَاز بهَا الرِّوَايَة جمَاعَة. السَّادِس: الْكِتَابَة المقرونة، مثل أَن يكْتب مسموعه لغَائِب أَو حَاضر بِخَطِّهِ أَو بأَمْره، وَيَقُول: أجزت لَك مَا كتبت إِلَيْك، وَنَحْوه، وَهِي مثل المناولة فِي الصِّحَّة وَالْقُوَّة. السَّابِع: الْكِتَابَة الْمُجَرَّدَة، أجازها الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم أَيُّوب وَمَنْصُور وَاللَّيْث وَأَصْحَاب الْأُصُول وَغَيرهم، وعدوه من الْمَوْصُول لإشعاره بِمَعْنى الْإِجَازَة. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: هِيَ أقوى من الْإِجَازَة، واكتفوا فِيهَا بِمَعْرِِفَة الْخط. وَالصَّحِيح أَنه يَقُول فِي الرِّوَايَة بهَا: كتب إِلَيّ فلَان، أَو أَخْبرنِي كِتَابَة، وَنَحْوه. وَلَا يجوز إِطْلَاق: حَدثنَا وَأخْبرنَا فِيهِ، وأجازهما اللَّيْث وَمَنْصُور وَغَيرهم. الثَّامِن: الْإِجَازَة، وأقواها أَن يُجِيز معينا لمُعين، كأجزتك البُخَارِيّ وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فهرسته، وَالصَّحِيح جَوَاز الرِّوَايَة وَالْعَمَل، وَقَالَ الْبَاجِيّ: لَا خلاف فِي جَوَاز الرِّوَايَة وَالْعَمَل بِالْإِجَازَةِ، وَادّعى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْعَمَل. وَقَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: وَالصَّحِيح ثُبُوت الْخلاف، وَجَوَاز الرِّوَايَة بهَا، إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول جمَاعَة. وَقَالَ شُعْبَة: لَو صحت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم قَالَ: سَأَلت مَالِكًا عَن الْإِجَازَة، فَقَالَ: لَا أرى ذَلِك، وَإِنَّمَا يُرِيد أحدهم أَن يُقيم الْمقَام الْيَسِير وَيحمل الْعلم الْكثير. وَقَالَ الْخَطِيب: قد ثَبت عَن مَالك أَنه كَانَ يصحح الرِّوَايَة وَالْإِجَازَة بهَا، وَيحمل هَذَا القَوْل من مَالك على كَرَاهَة أَن يُجِيز الْعلم لمن لَيْسَ من أَهله وَلَا خدمه. وَمِنْهَا: أَن يُجِيز غير معيّن بِوَصْف الْعُمُوم، كأجزت الْمُسلمين، وَأهل زماني. فَفِيهِ خلاف الْمُتَأَخِّرين.
واحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحجَازِ فِي المُناوَلَةِ بِحَدِيثِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيثُ كَتبَ لأَمِيرِ السَّريَّةِ كِتَاباً وَقَالَ: (لَا تقْرَأْهُ حتَّى تَبْلُغَ مَكانَ كَذَا وكَذا) فَلمَّا بَلَغَ ذَلكَ المَكانَ قَرَأَهُ على النَّاسِ وأخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
المُرَاد من بعض أهل الْحجاز هُوَ الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ احْتج فِي المناولة أَي فِي صِحَة المناولة، بِحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن هَذَا الحَدِيث لم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي كِتَابه مَوْصُولا. وَله طَرِيقَانِ: أَحدهمَا مُرْسل ذكره ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَن زيد بن بن رُومَان، وَأَبُو الْيَمَان فِي نسخته عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، كِلَاهُمَا عَن عُرْوَة بن الزبير. وَالْآخر مَوْصُول: أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث البَجلِيّ بِإِسْنَاد حسن، وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ

(2/26)


الطَّبَرَانِيّ فِي تَفْسِيره. الثَّانِي: وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَنه جَازَ لَهُ الْإِخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فِيهِ، وَإِن كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، لم يقرأه وَلَا هُوَ قَرَأَ عَلَيْهِ، فلولا أَنه حجَّة لم يجب قبُوله، فَفِيهِ المناولة وَمعنى الْكِتَابَة وَيُقَال: فِيهِ نظر، لِأَن الْحجَّة إِنَّمَا وَجَبت بِهِ لعدم توهم التبديل والتغيير فِيهِ لعدالة الصَّحَابَة، بِخِلَاف من بعدهمْ. حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ. قلت: شَرط قيام الْحجَّة بِالْكِتَابَةِ أَن يكون الْكتاب مَخْتُومًا، وحامله مؤتمناً، والمكتوب إِلَيْهِ يعرف الشَّيْخ، إِلَى غير ذَلِك من الشُّرُوط، لتوهم التَّغْيِير. الثَّالِث: قَوْله: أهل الْحجاز، هِيَ بِلَاد سميت بِهِ لِأَنَّهَا حجزت بَين نجد والغور، وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة ويمامة ومخاليفها، أَي: قراها: كخيبر للمدينة، والطائف لمَكَّة شرفها الله تَعَالَى. قَوْله: (امير السّريَّة) اسْمه عبد اللَّه بن جحش الْأَسدي، أَخُو زَيْنَب، أم الْمُؤمنِينَ. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: عبد اللَّه بن جحش ابْن ربَاب، أَخُو أبي أَحْمد وَزَيْنَب زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأم حَبِيبَة وَحمْنَة أخوهم عبيد اللَّه، تنصر بِأَرْض الْحَبَشَة. وَعبد اللَّه وَأَبُو أَحْمد كَانَا من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين. وَعبد اللَّه يُقَال لَهُ: المجدع، شهد بَدْرًا وَقتل يَوْم أحد بعد أَن قطع أَنفه وَأذنه. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: كَانَت هَذِه السّريَّة أول سَرِيَّة غنم فِيهَا الْمُسلمُونَ، وَكَانَت فِي رَجَب من السّنة الثَّانِيَة قبل بدر الْكُبْرَى، بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ ثَمَانِيَة رَهْط من الْمُهَاجِرين، وَكتب لَهُ كتابا وَأمره أَن لَا ينظر حَتَّى يسير يَوْمَيْنِ، ثمَّ ينظر فِيهِ، فيمضي لما أَمر بِهِ، وَلَا يستكره من أَصْحَابه أحدا، فَلَمَّا سَار يَوْمَيْنِ فَتحه، فَإِذا فِيهِ: إِذا نظرت فِي كتابي هَذَا فأمضِ حَتَّى تنزل نَخْلَة، بَين مَكَّة والطائف، فترصد بهَا قُريْشًا، وَتعلم لنا أخبارهم، وَفِيه: وَقتلُوا عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ فِي أول يَوْم من رَجَب واستأسروا اثْنَيْنِ، فَأنْكر عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: مَا أَمرتكُم بِقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام. وَقَالَت قُرَيْش: قد اسْتحلَّ مُحَمَّد الشَّهْر الْحَرَام، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل قتال فِيهِ كَبِير} (الْبَقَرَة: 217) فَهَذِهِ أول غنيمَة، وَأول أَسِير، وَأول قَتِيل قَتله الْمُسلمُونَ انْتهى. والسرية، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: قِطْعَة من الْجَيْش.

64 - حدّثنا إسمْاعِيلُ بن عبدِ اللَّه قَالَ: حدّثني إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَن صالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ عَن عُبَيْدِ اللَّه بنِ عبدِ اللَّه بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعودٍ أنّ عبدَاللَّه بنَ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنْ رسولَ اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ بِكِتابِهِ رَجُلاً وأَمَرَهُ أَن يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البْحَرَيْنِ، فدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْن إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ. فَحَسِبْتُ أنّ ابنَ المُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعا عَلَيْهِم رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث لجزئي التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، أما للجزء الأول فَمن حَيْثُ إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ناول الْكتاب لرَسُوله، وَأمر أَن يخبر عَظِيم الْبَحْرين أَن هَذَا الْكتاب كتاب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِن لم يكن سمع مَا فِيهِ وَلَا قَرَأَهُ، وَأما للجزء الثَّانِي فَمن حَيْثُ إِنَّه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب كتابا وَبَعثه إِلَى عَظِيم الْبَحْرين ليَبْعَثهُ إِلَى كسْرَى، وَلَا شكّ أَنه كتاب من سَيِّدي ذَوي الْعُلُوم إِلَى بعض الْبلدَانِ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة، الأول: إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه، وَهُوَ ابْن أبي أويس الْمدنِي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد، سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان الْغِفَارِيّ الْمدنِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس، وَالْكل قد مر ذكرهم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث، بِالْجمعِ والإفراد، والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث عَن يُونُس، وَفِي الْجِهَاد عَن عبد اللَّه بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن عقيل، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي السّير عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، قَاضِي دمشق، عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْهَاشِمِي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان وَابْن أخي الزُّهْرِيّ، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بكتابه رجلا) أَي: بعث رجلا ملتبساً بكتابه مصاحباً لَهُ، وانتصاب رجلا، على المفعولية. قَوْله:

(2/27)


(وَأمره) عطف على: بعث. قَوْله: (أَن يَدْفَعهُ) ، أَي: بِأَن يَدْفَعهُ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: بِدَفْعِهِ. قَوْله: (فَدفعهُ) ، مَعْطُوف على مُقَدّر: أَي: فَذهب إِلَى عَظِيم الْبَحْرين فَدفعهُ إِلَيْهِ، ثمَّ بَعثه الْعَظِيم إِلَى كسْرَى فَدفعهُ إِلَيْهِ، وَمثل هَذِه الْفَاء تسمى: فَاء: الفصيحة. قَوْله: (مزقه) ، جَوَاب: لما. قَوْله: (إِن ابْن الْمسيب) ، فِي مَحل النصب على أَنه أحد مفعولي: حسبت. قَوْله: (قَالَ) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان: لحسبت. قَوْله: (فَدَعَا) مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره: لما مزقه، وَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك غضب فَدَعَا، والمحذوف هُوَ مقول القَوْل. قَوْله: (أَن يمزقوا) ، أَي: بِأَن يمزقوا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، أَي: بالتمزيق. قَوْله: (كل ممزق) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على النِّيَابَة عَن الْمصدر، كَمَا فِي قَوْله.
(يظنان كل الظَّن أَن لَا تلاقيا)

والممزق، بِفَتْح الزَّاي، مصدر على وزن اسْم الْمَفْعُول بِمَعْنى: التمزيق.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (رجلا) ، هُوَ عبد اللَّه بن حذافة السَّهْمِي، وَقد سَمَّاهُ البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي، وحذافة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف فَاء، ابْن قيس بن عدي بن سعد، بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْعين، ابْن سهم بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي، أَخُو خُنَيْس بن حذافة، زوج حَفْصَة. أَصَابَته جِرَاحَة بِأحد، فَمَاتَ مِنْهَا، وَخلف عَلَيْهَا بعده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعبد اللَّه هُوَ الَّذِي قَالَ: (يَا رَسُول الله من أبي؟ قَالَ: أَبوك حذافة، أسلم قَدِيما وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، وَكَانَت فِيهِ دعابة) . وَقيل: إِنَّه شهد بَدْرًا، وَلم يذكرهُ الزُّهْرِيّ وَلَا مُوسَى بن عقبَة، وَلَا ابْن إِسْحَاق فِي الْبَدْرِيِّينَ، وأسره الرّوم فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فأرادوه على الْكفْر. وَله فِي ذَلِك قصَّة طَوِيلَة، وَآخِرهَا: أَنه قَالَ لَهُ ملكهم: قبِّل رَأْسِي أطلقك. قَالَ: لاَ، قَالَ لَهُ: وَأطلق من مَعَك من أسرى الْمُسلمين، فَقبل رَأسه، فَأطلق مَعَه ثَمَانِينَ أَسِيرًا من الْمُسلمين. فَكَانَ الصَّحَابَة يَقُولُونَ لَهُ: قبَّلت رَأس علج. فَيَقُول: اطلق الله بِتِلْكَ الْقبْلَة ثَمَانِينَ أَسِيرًا من الْمُسلمين. توفّي عبد اللَّه فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (عَظِيم الْبَحْرين) هُوَ الْمُنْذر بن ساوي، بِالسِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو، والبحرين بلد بَين الْبَصْرَة وعمان، هَكَذَا يُقَال، بِالْيَاءِ، وَفِي (الْعباب) : قَالَ الحذاق: يُقَال هَذِه البحران، وانتهينا إِلَى الْبَحْرين. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: إِنَّمَا ثنوا الْبَحْرين لِأَن فِي نَاحيَة قراها بحيرة على بَاب الأحساء، وقرى هَجَر بَينهَا وَبَين الْبَحْر الْأَخْضَر عشرَة فراسخ، قَالَ: وقدرت الْبحيرَة بِثَلَاثَة أَمْيَال فِي مثلهَا، وَلَا يغيض مَاؤُهَا راكد زعاق، وَالنِّسْبَة إِلَى الْبَحْرين: بحراني. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد اليزيدي: سَأَلَني الْمهْدي، وَسَأَلَ الْكسَائي عَن النِّسْبَة إِلَى الْبَحْرين، وَإِلَى حصنين: لم قَالُوا: بحراني وحصني؟ فَقَالَ الْكسَائي: كَرهُوا أَن يَقُولُوا: حصناني، لِاجْتِمَاع النونين. وَقلت: إِنَّمَا كَرهُوا أَن يَقُولُوا: بحري، فَيُشبه النِّسْبَة إِلَى الْبَحْر. قلت: قد صَالح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الْبَحْرين، وَأمر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ، وَبعث أَبَا عُبَيْدَة فَأتى بجزيتها، وَقد ذكرنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ إِلَى الْمُنْذر بن ساوي الْعَبْدي، ملك الْبَحْرين، فَصدق واسلم. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يقل: إِلَى ملك الْبَحْرين؟ وَقَالَ: عَظِيم الْبَحْرين؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا ملك وَلَا سلطنة للْكفَّار، إِذْ الْكل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلمن ولاه. قَوْله: (إِلَى كسْرَى) ، بِفَتْح الْكَاف وَكسرهَا، وَقَالَ ابْن الجواليقي: الْكسر أفْصح، وَهُوَ فَارسي مُعرب: خسرو، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَجمعه أكاسرة، على غير قِيَاس، لِأَن قِيَاسه: كسرون، بِفَتْح الرَّاء. وَقد ذكرنَا فِي قصَّة هِرقل أَن: كسْرَى، لقب لكل من ملك الْفرس، كَمَا أَن: قَيْصر، لقبٌ لكل من ملك الرّوم. وَالَّذِي مزق الْكتاب من الأكاسرة هُوَ برويز بن هُرْمُز بن أنوشروان، وَلما مزق الْكتاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مزق ملكه) . وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا مَاتَ كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده) . قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَسلط على كسْرَى ابْنه شرويه وَقَتله سنة سبع، فتمزق ملكه كل ممزق، وَزَالَ من جَمِيع الأَرْض واضمحل بدعوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ أنو شرْوَان هُوَ الَّذِي ملك النُّعْمَان بن الْمُنْذر على الْعَرَب، وَهُوَ الَّذِي قَصده سيف بن ذِي يزن يستنصره على الْحَبَشَة، فَبعث مَعَه قائداً من قواده، فنفوا السودَان. وَكَانَ ملكه سبعا وَأَرْبَعين سنة وَسَبْعَة أشهر. وَقَالَ ابْن سعد: لما مزق كسْرَى كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث إِلَى باذان، عَامله فِي الْيمن، أَن ابْعَثْ من عنْدك رجلَيْنِ جلدين إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي بالحجاز فليأتياني بِخَبَرِهِ، فَبعث باذان قهرمانه ورجلاً آخر، وَكتب مَعَهُمَا كتابا، فَقدما الْمَدِينَة فدفعا كتاب باذان إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَتَبَسَّمَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ودعاهما إِلَى الْإِسْلَام وفرائصهما ترْعد، وَقَالَ لَهما: (أبلغا صاحبكما أَن رَبِّي قتل ربه كسْرَى فِي هَذِه اللَّيْلَة لسبع سَاعَات مَضَت مِنْهَا) ، وَهِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لعشر مضين من جُمَادَى الأولى سنة سبع، وَأَن الله سلط عَلَيْهِ ابْنه شرويه فَقتله. وَقَالَ ابْن هِشَام: لما مَاتَ وهرز الَّذِي كَانَ بِالْيمن على جَيش الْفرس، أَمر كسْرَى ابْنه، يَعْنِي ابْن وهرز، ثمَّ عَزله وَولى باذان، فَلم يزل عَلَيْهَا حَتَّى بعث الله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: فبلغني عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: كتب كسْرَى إِلَى

(2/28)


باذان: إِنَّه بَلغنِي أَن رجلا من قُرَيْش يزْعم أَنه نَبِي، فسر إِلَيْهِ فاستتبه، فَإِن تَابَ وإلاَّ فَابْعَثْ إِلَيّ بِرَأْسِهِ. فَبعث باذان بكتابه إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكتب إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله وَعَدَني بقتل كسْرَى فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا من شهر كَذَا وَكَذَا) . فَلَمَّا أَتَى باذانَ الكتابُ قَالَ: إِن كَانَ نَبيا سَيكون مَا قَالَ. فَقتل الله كسْرَى فِي الْيَوْم الَّذِي قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الزُّهْرِيّ: فَلَمَّا بلغ باذان بعث بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَام من مَعَه من الْفرس. قَوْله: (فحسبت) الْقَائِل هُوَ: ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، رَاوِي الحَدِيث. أَي قَالَ الزُّهْرِيّ. ظَنَنْت أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ ... إِلَى آخِره.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ جَوَاز الْكِتَابَة بِالْعلمِ إِلَى الْبلدَانِ. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الدُّعَاء على الْكفَّار إِذا أساؤوا الْأَدَب وأهانوا الدّين. الثَّالِث: فِيهِ أَن الرجل الْوَاحِد يجزىء فِي حمل كتاب الْحَاكِم إِلَى الْحَاكِم، وَلَيْسَ من شَرطه أَن يحملهُ شَاهِدَانِ كَمَا تصنع الْقُضَاة الْيَوْم، قَالَه ابْن بطال. قلت: إِنَّمَا حملُوا على شَاهِدين لما دخل على النَّاس من الْفساد، فاحتيط لتحصين الدِّمَاء والفروج وَالْأَمْوَال بِشَاهِدين.

65 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أُبو الحَسَنِ أخْبَرَنا عبدُ اللَّهِ قَالَ: أخْبَرَنا شُعْبَةُ عَن قَتادَةَ عَن أَنَسِ بْنِ مالِكٍ قَالَ: كَتَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كِتَاباً أَو أَرادَ أنْ يَكْتُبَ فَقِيلَ لَهُ: إنِّهمْ لاَ يقْرَأُنَ كِتاباً إلاَّ مَخْتُوماً، فاتَّخَذَ خاتَماً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رسولُ الله، كأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمدٌ رسولُ الله؟ قَالَ أنَسٌ..
هَذَا يُطَابق الْجُزْء الْأَخير للتَّرْجَمَة، وَهُوَ ظَاهر.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مقَاتل، بِصِيغَة الْفَاعِل، من الْمُقَاتلَة بِالْقَافِ وبالمثناة من فَوق، الْمروزِي، شيخ البُخَارِيّ، انْفَرد بِهِ عَن الْأَئِمَّة الْخَمْسَة، روى عَن ابْن الْمُبَارك ووكيع، وروى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَمُحَمّد بن عبد الرحمان النَّسَائِيّ. قَالَ الْخَطِيب: كَانَ ثِقَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق، توفّي آخر سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد اللَّه بن الْمُبَارك، وَقد تقدم ذكره. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي. الْخَامِس: أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ، وَقد تقدمُوا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وواسطي وبصري، وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن الْجَعْد، وَفِي اللبَاس عَن آدم، وَفِي الْأَحْكَام عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة، وَفِي السّير، وَفِي الْعلم، وَفِي التَّفْسِير عَن حميد بن مسْعدَة عَن بشر بن الْمفضل، خمستهم عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (مَخْتُومًا) ، من ختمت الشَّيْء ختماً فَهُوَ مختوم، ومختم، شدد للْمُبَالَغَة، وَختم الله لَهُ بِالْخَيرِ، وختمت الْقُرْآن: بلغت آخِره، واختتمت الشَّيْء نقيض افتتحت. قَوْله: (خَاتمًا) فِيهِ لُغَات، الْمَشْهُور مِنْهَا أَرْبَعَة: فتح التَّاء، وَكسرهَا، وخاتام، وخيتام، وَالْجمع: الْخَوَاتِم. وتختمت إِذا لبسته، والختام الَّذِي يخْتم بِهِ. قَوْله: (نقشه) ، من نقشت الشَّيْء فَهُوَ منقوش، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: النقش نقشك الشَّيْء بلونين، أَو ألوان كَائِنا مَا كَانَ، والنقاش الَّذِي ينقشه والنقاشة حرفته.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (كتابا) مفعول كتب، وَهُوَ مفعول بِهِ لِأَن الْكتاب هُنَا اسْم غير مصدر. قَوْله: (أَن يكْتب) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول: أَرَادَ، وَأَن، مَصْدَرِيَّة أَي: الْكِتَابَة. قَوْله: (إلاَّ مَخْتُومًا) ، نصب على الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ من كَلَام غير مُوجب. قَوْله: (خَاتمًا) مفعول إتخذ، وَكلمَة: من، فِي: من فضَّة، بَيَانِيَّة. قَوْله: (نقشه) كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ. وَقَوله: (مُحَمَّد رَسُول الله) جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، خبر الْمُبْتَدَأ. فَإِن قلت: الْجُمْلَة إِذا وَقعت خَبرا لَا بُد لَهَا من عَائِد. قلت: إِذا كَانَ الْخَبَر عين الْمُبْتَدَأ لَا حَاجَة إِلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهِي وَإِن كَانَت جملَة، وَلكنهَا فِي تَقْدِير الْمُفْرد، تَقْدِيره: نقشه هَذِه الْكَلِمَات. قلت: هَذِه الْكَلِمَات، أَيْضا جملَة، لِأَنَّهَا مُبْتَدأ وَخبر. قَوْله: (كَأَنِّي) أصل: كَأَن، للتشبيه لَكِنَّهَا هَهُنَا للتحقيق، ذكره الْكُوفِيُّونَ والزجاج، وَمَعَ هَذَا لَا يَخْلُو عَن معنى التَّشْبِيه. قَوْله: (أنظر إِلَى بياضه) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: كَأَن. قَوْله: (فِي يَده) حَال إِمَّا من الْبيَاض، أَو من الْمُضَاف إِلَيْهِ، أَي كَأَنِّي انْظُر إِلَى بَيَاض الْخَاتم حَال كَون الْخَاتم فِي يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: الْخَاتم لَيْسَ فِي الْيَد، بل فِي

(2/29)


الاصبع. قلت: هَذَا من قبيل إِطْلَاق الْكل وارادة الْجُزْء. فَإِن قلت: الإصبع فِي خَاتم لَا الْخَاتم فِي الإصبع. قلت: هُوَ من بَاب الْقلب، نَحْو: عرضت النَّاقة على الْحَوْض. قَوْله: (مَنْ قَالَ) ، جملَة إسمية: وَمن، إستفهامية. لَا وَقَوله: (نقشه: مُحَمَّد رَسُول الله) ، مقول القَوْل. قَوْله: (قَالَ: أنس) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، ومقول القَوْل مَحْذُوف، أَي: قَالَ أنس: نقشه مُحَمَّد رَسُول الله.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كتابا) أَي: إِلَى الْعَجم أَو إِلَى الرّوم، فقد جَاءَ الرِّوَايَتَانِ صريحتين بهما فِي كتاب اللبَاس. قَوْله: (أَو أَرَادَ أَن يكْتب) شكّ من الرَّاوِي، وَقيل: هُوَ أنس. قَوْله: (إِنَّهُم) أَي: إِن الرّوم والعجم، وَلَا يُقَال: إِنَّه، إضمارٌ قبل الذّكر لقِيَام الْقَرِينَة، وَهِي قَوْله: (لَا يقرأون الْكتاب إلاَّ مَخْتُومًا) ، وَكَانُوا لَا يقرأون إِلَّا مَخْتُومًا خوفًا من كشف أسرارهم، وإشعاراً بِأَن الْأَحْوَال المعروضة عَلَيْهِم يَنْبَغِي أَن يكون مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهَا غَيرهم، وَعَن أنس: إِن ختم كتاب السُّلْطَان والقضاة سنة متبعة. وَقد قَالَ بَعضهم: هُوَ سنة لفعل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد قيل فِي قَوْله تعالي: {إِنِّي ألقِي إِلَيّ كتاب كريم} (النَّمْل: 29) إِنَّهَا إِنَّمَا قَالَت ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مَخْتُومًا. وَفِي ذَلِك أَيْضا مخالقة النَّاس بأخلاقهم، واستئلاف الْعَدو بِمَا لَا يضر، وَقد جَاءَ فِي بعض طرقه عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ، لما أَرَادَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يكْتب إِلَى الرّوم، وَفِي بَعْضهَا إِلَى الرَّهْط أَو النَّاس من الْأَعَاجِم، وَفِي مُسلم (أَرَادَ أَن يكْتب إِلَى كسْرَى وَقَيْصَر وَالنَّجَاشِي، فَقيل لَهُ: إِنَّهُم لَا يقبلُونَ كتابا إلاَّ مَخْتُومًا)
وَذكر الحَدِيث. فَإِن قلت: مَا كَانَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يكْتب؟ فَكيف قَالَ: كتب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ باسناد الْكِتَابَة إِلَيْهِ. قلت: قد نقل أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب بِيَدِهِ، وَسَيَجِيءُ، إِن شَاءَ الله فِي كتاب الْجِهَاد، وَإِن ثَبت أَنه لم يكْتب أصلا يكون الْإِسْنَاد فِيهِ مجازياً، نَحْو: كتب الْأَمِير كتابا، أَي: كتبه الْكَاتِب بأَمْره، والقرينة للمجاز الْعرف، لِأَن الْعرف أَن الْأَمِير لَا يكْتب الْكتاب بِنَفسِهِ. قَوْله: (فَقلت) ، الْقَائِل هُوَ: شُعْبَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ جَوَاز الْكِتَابَة بِالْعلمِ إِلَى الْبلدَانِ. الثَّانِي: جَوَاز الْكِتَابَة إِلَى الْكفَّار. الثَّالِث: فِيهِ ختم الْكتاب للسُّلْطَان والقضاة والحكام. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز اسْتِعْمَال الْفضة للرِّجَال عِنْد التَّخَتُّم، وَقَالَ عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على جَوَاز اتِّخَاذ الْخَوَاتِم من الْوَرق وَهِي الْفضة للرِّجَال إلاَّ مَا رُوِيَ عَن بعض أهل الشَّام من كَرَاهَة لبسه إلاَّ لذِي سُلْطَان، وَهُوَ شَاذ مَرْدُود، وَأَجْمعُوا على تَحْرِيم خَاتم الذَّهَب على الرِّجَال، إلاَّ مَا رُوِيَ عَن أبي بكر مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم إِبَاحَته، وَرُوِيَ عَن بَعضهم كَرَاهَته. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَانِ النقلان باطلان، وَحكى الْخطابِيّ أَنه يكره للنِّسَاء التَّخَتُّم بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ من زِيّ الرِّجَال، ورد عَلَيْهِ ذَلِك. قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب أَنه لَا يكره لَهَا ذَلِك، وَقَول الْخطابِيّ ضَعِيف أَو بَاطِل لَا أصل لَهُ.
وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: فِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد. مِنْهَا: نسخ جَوَاز لبس خَاتم الذَّهَب بعد أَن كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لبسه، وَلَا يُعَارض ذَلِك مَا جَاءَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم عَن أنس أَنه رأى فِي يَد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاتمًا من ورق يَوْمًا وَاحِدًا، ثمَّ إِن النَّاس اصطنعوا الْخَاتم من ورق فَلَبِسُوهَا، فَطرح رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاتمه، فَطرح النَّاس خواتيمهم، رَوَاهُ يُونُس وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وَزِيَاد، وزاده أَبُو دَاوُد وَابْن مُسَافر، فَهَؤُلَاءِ خَمْسَة من رُوَاة الزُّهْرِيّ الثِّقَات يَقُولُونَ عَنهُ: من ورق، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اجْمَعْ أهل الحَدِيث أَن هَذَا وهم من ابْن شهَاب، من خَاتم الذَّهَب إِلَى خَاتم الْوَرق، وَالْمَعْرُوف من رِوَايَة أنس من غير طَرِيق ابْن شهَاب اتِّخَاذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتم فضَّة، وَأَنه لم يطرحه، وَإِنَّمَا طرح خَاتم الذَّهَب. وَقَالَ الْمُهلب وَغَيره: وَقد يُمكن أَن يتَأَوَّل لِابْنِ شهَاب مَا يَنْفِي عَنهُ الْوَهم، وَإِن كَانَ الْوَهم أظهر بِاحْتِمَال أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما عزم على طرح خَاتم الذَّهَب اصْطنع خَاتم الْفضة، بِدَلِيل أَنه لَا يَسْتَغْنِي عَن الْخَتْم بِهِ على الْكتب إِلَى الْبلدَانِ، وأجوبة الْعمَّال وَغَيرهمَا، فَلَمَّا لبس خَاتم الْفضة أرَاهُ النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم ليعلمهم إِبَاحَته، وَأَن يصطنعوا مثله ثمَّ طرح خَاتم الذَّهَب وأعلمهم تَحْرِيمه، فَطرح النَّاس خَوَاتِيم الذَّهَب. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز نقش الْخَاتم، وَنقش اسْم صَاحب الْخَاتم، وَنقش اسْم الله تَعَالَى فِيهِ، بل فِيهِ كَونه مَنْدُوبًا، وَهُوَ قَول مَالك وَابْن الْمسيب وَغَيرهمَا، وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين. وَأما نَهْيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن ينقش أحد على نقش خَاتمه، فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا نقش فِيهِ ذَلِك ليختم بِهِ كتبه إِلَى الْمُلُوك، فَلَو نقش على نقشه لدخلت الْمفْسدَة وَحصل الْخلَل.

(2/30)


8 - (بَاب مَنْ قعَدَ حَيْث يَنْتَهِي بِه المَجْلِسُ ومَنْ رَأى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيها)

الْكَلَام فِيهِ على نَوْعَيْنِ: الأول: أَن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من قعد ... إِلَى آخِره، وَهُوَ مَرْفُوع على الخبرية مُضَاف إِلَى من، وَهِي مَوْصُولَة، و: قعد، جملَة الْفِعْل وَالْفَاعِل صلتها، و: حَيْثُ، ظرف للمكان مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة محلا، وَبني على الضَّم تَشْبِيها بالغايات. وَمن الْعَرَب من يعربه. قَوْله: (الْمجْلس) ، مَرْفُوع بقوله: يَنْتَهِي. قَوْله: (وَمن رأى) عطف على: من قعد، و (الفرجة) بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، لُغَتَانِ، وَهِي الْخلَل بَين الشَّيْئَيْنِ؛ قَالَه النَّوَوِيّ. وَقَالَ النّحاس: الفرجة، بِالْفَتْح، فِي الْأَمر، والفرجة بِالضَّمِّ فِيمَا يرى من الْحَائِط وَنَحْوه، وَفِي (الْعباب) : الفرجة، بِالْكَسْرِ، والفرجة بِالضَّمِّ لُغَتَانِ فِي فُرْجَة الْهم. وَقَالَ أَيْضا: الفرجة يَعْنِي، بِالْفَتْح: التفصي من الْهم. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الفرجة: الرَّاحَة من الْغم، وَذكر فِيهَا فتح الْفَاء وَضمّهَا وَكسرهَا، وَقد فرج لَهُ فِي الْحلقَة والصف وَنَحْو ذَلِك، بِفَتْح الْعين، يفرج بضَمهَا، وَلم يذكر الْجَوْهَرِي فِي الفرجة بَين الشَّيْئَيْنِ غير الضَّم، وَفِي التفصي من الْهم غير الْفَتْح، وَأنْشد عَلَيْهِ:
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأُم ... ر لَهُ فُرْجَة كحل العقال)

(وَالْحَلقَة) ، هُنَا بِإِسْكَان اللَّام، وَحكى الْجَوْهَرِي فتحهَا، وَالْأول أشهر. وَفِي (الْعباب) : الْحلقَة، بالتسكين: الدروع، وَكَذَلِكَ حَلقَة الْبَاب، وحلقة الْقَوْم، وَالْجمع الْحلق على غير قِيَاس، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْجمع الْحلق، مِثَال: بدرة وَبدر، وقصعة وقصع. وَنهى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الْحلق قبل الصَّلَاة، يَعْنِي صَلَاة الْجُمُعَة، نَهَاهُم عَن التحليق والاجتماع على مذاكرة الْعلم قبل الصَّلَاة، وَحكى يُونُس عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: حَلقَة، فِي الْوَاحِد بِالتَّحْرِيكِ. وَالْجمع: حلق وحلقات. وَقَالَ ثَعْلَب: كلهم يُجِيز ذَلِك على ضعف. وَقَالَ الْفراء فِي نوادره: الْحلقَة، بِكَسْر اللَّام، لُغَة لِلْحَارِثِ بن كَعْب فِي الْحلقَة وَالْحَلقَة. وَقَالَ ابْن السّكيت: سَمِعت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ يَقُول: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب حَلقَة، بِالتَّحْرِيكِ، إلاَّ فِي قَوْلهم: هَؤُلَاءِ حَلقَة، للَّذين يحلقون الشّعْر جمع حالق. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول فِيهِ ذكر المناولة، وَهِي تكون فِي مجْلِس الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان شَأْن من يَأْتِي إِلَى الْمجْلس كَيفَ يقْعد، وَالْمرَاد مِنْهُ مجْلِس الْعلم، وَقَالَ بَعضهم: مُنَاسبَة هَذَا الْبَاب لكتاب الْعلم من جِهَة أَن المُرَاد بالحلقة: حَلقَة الْعلم، فَيدْخل فِي آدَاب الطَّالِب من هَذَا الْوَجْه. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هَذَا بَيَان وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان وَجه مُنَاسبَة إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْعلم، وَلَيْسَ الْقُوَّة إلاَّ فِي بَيَان وُجُوه الْمُنَاسبَة بَين الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة فِي كتب هَذَا الْكتاب، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هَذَا الْبَاب حَقه أَن يَأْتِي عقب بَاب: من رفع صَوته بِالْعلمِ، أَو عقب بَاب: طرح الْمَسْأَلَة، لِأَن كليهمَا من آدَاب الْعَالم، وَهَذَا الْبَاب من آدَاب المتعلم، وَمَا بعد هَذَا الْبَاب يُنَاسب الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ قَوْله: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رب مبلَّغٍ أوعى من سامع) . لِأَن فِيهِ معنى التَّحَمُّل عَن غير الْعَارِف، وَغير الْفَقِيه. قلت: الَّذِي ذَكرْنَاهُ أنسب لِأَن الْبَاب السَّابِق فِي بَيَان مناولة الْعَالم فِي مجْلِس علمه، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان أدب من يحضر هَذَا الْمجْلس، كَمَا ذكرنَا.

66 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدَّثني مَالِكٌ عَن إسْحاقَ بن عبدِ اللَّه أبي طَلْحَةَ أنّ أَبَا مُرَّة، مَوْلَى عَقِيلِ بنِ أبي طَالِبٍ، أخْبَرَهُ عنْ أبي واقِدٍ اللَّيثَّي أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينَمَا هُو جالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاس مَعَهُ إِذ أَقَبَلَ ثَلاَثةُ نَفَرٍ، فأقْبَلَ اثْنانِ إِلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذَهَبَ واحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفا على رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأمّا أحدُهمُا فَرَأى فُرْجَةً فِي الحَلقَةِ فَجَلَس فِيهَا، وأمّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلفَهُم، وأمّا الثالِثُ فأدْبَرَ ذاهِباً. فلمَّا فَرَغَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَلا أُخُبِرُكُمْ عَن النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أمّا أحدُهُمْ فَأَوَى إِلَى الله فآوَاهُ الله، وأمّا الآخَرُ فاستَحْيا فاسْتحيْا الله مِنُه، وأمّا الآخَرُ فأعْرَضَ فأَعْرَضَ الله عَنهُ) .
(الحَدِيث 66 طرفه فِي 474) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة فِيمَن قعد حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس، وفيمن رأى فُرْجَة فِي الْحلقَة فَجَلَسَ فِيهَا

(2/31)


، والْحَدِيث مُشْتَمل على ذكر الْحلقَة والفرجة، وعَلى من جلس حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس، وَلأَجل هَذَا قَالَ: فِي الْحلقَة، وَلم يقل: وَمن رأى فُرْجَة فِي الْمجْلس، ليطابق مَا فِي الْبَاب من ذكر الْحلقَة، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الأول بِلَفْظ الْمجْلس للإشعار بِأَن حكمهمَا وَاحِد هَهُنَا.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: إِسْمَاعِيل بن أويس. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام. الثَّالِث: إِسْحَاق بن عبد اللَّه بن أبي طَلْحَة زيد بن سُهَيْل بن الْأسود بن حرَام الْأنْصَارِيّ النجاري، ابْن أخي أنس لأمه كَانَ يسكن دَار جده بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ تَابِعِيّ، سمع أَبَاهُ وَعَمه لأمه أنس بن مَالك وَغَيرهمَا، وَاتَّفَقُوا على توثيقه، وَهُوَ أشهر أخوته وَأَكْثَرهم حَدِيثا. وهم: عبد اللَّه وَيَعْقُوب وَإِسْمَاعِيل وَعمر بَنو عبد اللَّه، وَكَانَ مَالك لَا يقدم على إِسْحَاق فِي الحَدِيث أحدا، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، اسْمه يزِيد، مولى عقيل بن أبي طَالب، وَقيل: مولى أَخِيه عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: مولى اختهما أم هانىء. روى عَن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأبي هُرَيْرَة وَأبي الدَّرْدَاء وَأبي وَاقد، روى لَهُ الْجَمَاعَة. قَالَ ابْن مَيْمُونَة: كَانَ شَيخا قَدِيما. الْخَامِس: أَبُو وَاقد، بِالْقَافِ الْمَكْسُورَة وبالدال الْمُهْملَة، وَهُوَ مَشْهُور بكنيته، وَاخْتلف فِي اسْمه، فَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: اسْمه الْحَارِث بن عَوْف، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحَارِث بن مَالك. وَقَالَ غَيرهمَا: عَوْف بن الْحَارِث. قَالَ أَبُو عَمْرو: الأول أصح، ابْن أسيد بن جَابر بن عويرة بن عبد مَنَاة ابْن شجع بن عَامر بن لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن عَليّ بن كنَانَة بن خُزَيْمَة. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: قَالَ بَعضهم: شهد بَدْرًا وَلم يذكرهُ مُوسَى بن عقبَة، وَلَا ابْن إِسْحَاق فِي الْبَدْرِيِّينَ، وَذكر بَعضهم أَنه كَانَ قديم الْإِسْلَام، وَيُقَال: أسلم يَوْم الْفَتْح، وَأخْبر عَن نَفسه أَنه شهد حنيناً. قَالَ: وَكنت حَدِيث عهد بِكفْر، وَهَذَا يدل على تَأَخّر إِسْلَامه. وَشهد بعد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اليرموك، ثمَّ جاور بِمَكَّة سنة، وَتُوفِّي بهَا، وَدفن بمقبرة الْمُهَاجِرين. روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة وَعشْرين حَدِيثا، اتفقَا على حَدِيث، وَهُوَ هَذَا، وَزَاد مُسلم حَدِيثا آخر، وَهُوَ مَا كَانَ يقْرَأ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَضْحَى. وَقيل: إِنَّه ولد فِي الْعَام الَّذِي ولد فِيهِ ابْن عَبَّاس، قَالَ الْمَقْدِسِي: وَفِي هَذَا وشهوده بَدْرًا نظر، وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْن خمس وَسبعين سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَفِي الصَّحَابَة من يكنى بِهَذِهِ الكنية ثَلَاثَة، هَذَا أحدهم، وثانيهم: أَبُو واقدٍ مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، روى عَنهُ أَبُو عمر زَاذَان. وثالثهم: أَبُو وَاقد النميري، روى عَنهُ نَافِع بن سرجس والليثي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَالتَّاء الْمُثَلَّثَة، نِسْبَة إِلَى لَيْث بن بكر الْمَذْكُور.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِي إِسْنَاده التحديث بِالْجمعِ والإفراد والعنعنة والاخبار. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَنه لَيْسَ للْبُخَارِيّ عَن أبي وَاقد غير هَذَا الحَدِيث، لم يروه عَنهُ إلاَّ أَبُو مرّة، وَلم يرو عَن أبي مرّة إلاَّ ابْن إِسْحَاق، وَقد صرح النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته بِالتَّحْدِيثِ من طَرِيق يحيى بن أبي كثير عَن إِسْحَاق، فَقَالَ عَن أبي مرّة: إِن أَبَا وَاقد حَدثهُ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد اللَّه ابْن يُوسُف عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن أَحْمد بن الْمُنْذر عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن حَرْب بن شَدَّاد وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن حبَان بن هِلَال عَن أبان بن يزِيد، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن أبي كثير عَن إِسْحَاق بن عبد الله بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ، عَن معن بن مَالك وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن أبي الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَعَن عَليّ بن سعيد بن جرير عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (نفر) ، بِالتَّحْرِيكِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: عدَّة رجال، من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَفِي (الْعباب) : النَّفر والنفير عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، وَجمع النَّفر: أَنْفَار وانفرة ونفراء. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: نفر الرجل رهطه. فَإِن قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير أقل مَا يفهم مِنْهُ هَهُنَا تِسْعَة رجال، لِأَن أقل النَّفر ثَلَاثَة؟ لكنه لَيْسَ كَذَلِك، إِذْ لم يكن المقبلون إلاَّ رجَالًا ثَلَاثَة. قلت: مَعْنَاهُ ثَلَاثَة هِيَ نفر، كَأَن النَّفر هُوَ بَيَان للثَّلَاثَة، أَو المُرَاد من النَّفر مَعْنَاهُ الْعرفِيّ، إِذْ هُوَ بِحَسب الْعرف يُطلق على الرجل، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثَة رجال. فَإِن قلت: مُمَيّز الثَّلَاثَة لَا بُد أَن يكون جمعا، والنفر لَيْسَ بِجمع. قلت: النَّفر إسم جمع فِي وُقُوعه تمييزاً كالجمع. نَحْو قَوْله تَعَالَى: {تِسْعَة رَهْط} (النَّمْل: 48) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِنَّمَا جَاءَ تَمْيِيز التِّسْعَة بالرهط لِأَنَّهُ فِي معنى الْجَمَاعَة،

(2/32)


فَكَأَنَّهُ قيل: تِسْعَة أنفسٍ، وَالْفرق بَين الرَّهْط والنفر: أَن الرَّهْط من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، أَو من السَّبْعَة إِلَى الْعشْرَة، والنفر من الثَّلَاثَة إِلَى التِّسْعَة، وَلَا يخفى مُخَالفَته لما فِي (الصِّحَاح) . قَوْله: (فَأَدْبَرَ) من الإدبار، وَهُوَ التولي. قَوْله: (فأوى إِلَى الله) بِالْهَمْزَةِ الْمَقْصُورَة. وَقَوله: (فآواه الله) بِالْهَمْزَةِ الممدودة، وَيُقَال بالمقصورة أَيْضا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الرِّوَايَة الصَّحِيحَة قصر الأول وَمد الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُور فِي اللُّغَة، وَفِي الْقُرْآن: {إِذْ أَوَى الْفتية إِلَى الْكَهْف} (الْكَهْف: 10) بِالْقصرِ، {وآويناهما إِلَى ربوة} (الْمُؤْمِنُونَ: 50) بِالْمدِّ. وَقَالَ القَاضِي: حكى بَعضهم فيهمَا اللغتين: الْقصر وَالْمدّ، وَالْمَشْهُور الْفرق وَفِي (الْمطَالع) قَوْله: (فأوى إِلَى الله) مَقْصُور الْألف، فآواه الله، مَمْدُود الْألف هَذَا هُوَ الْأَشْهر فِيمَا روينَاهُ. وَقد جَاءَ الْمَدّ فِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا، وَالْقصر فِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا، لَكِن الْمَدّ فِي الْمُتَعَدِّي أشهر، وَالْقصر فِي اللَّازِم أشهر، وَمعنى: آواه الله: جعل الله لَهُ فِيهِ مَكَانا وفسحة لما انْضَمَّ إِلَيْهِ، أَعنِي مجْلِس النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: قربه إِلَى مَوضِع نبيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: يؤويه إِلَى ظلّ عَرْشه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أَوَى فلَان إِلَى منزله يأوي أوياً، على فعول، وآويته إيواءً وأويته: إِذا انزلته بك. فعلت وأفعلت بِمَعْنى.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَيْنَمَا) قد مر غير مرّة أَن: بَيْنَمَا، أَصله: بَين، زيدت فِيهِ لَفْظَة: مَا. وَهُوَ من الظروف الَّتِي لَزِمت إضافتها إِلَى الْجُمْلَة، وَفِي بعض النّسخ: بَينا، بِغَيْر لَفْظَة: مَا، وأصل: بَينا، أَيْضا بَين، فاشبعت فَتْحة النُّون بِالْألف، وَالْعَامِل فِيهِ معنى المفاجأة المستفادة من لَفْظَة: إِذْ أقبل، وَقد قُلْنَا: إِن الْأَصْمَعِي لَا يستفصح مَجِيء إِذا وَإِذ فِي جَوَاب بَين. قَوْله: (هُوَ) ، مُبْتَدأ و: جَالس، خَبره. وَقَوله: (فِي الْمَسْجِد) حَال، كَذَا قَوْله: (وَالنَّاس مَعَه) جملَة حَالية. قَوْله: (إِذْ أقبل) جَوَاب: بَيْنَمَا. وَقَوله: (ثَلَاثَة نفر) فَاعل أقبل. قَوْله: (وَذهب وَاحِد) ، جملَة فعلية عطف على قَوْله: (فَأقبل اثْنَان) . قَوْله: (فوقفا) عطف على قَوْله: (أقبل اثْنَان) قَوْله: (فَأَما) ، كلمة: اما، للتفصيل، و: أحدهم، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره: فَرَأى فُرْجَة، وَإِنَّمَا دخلت: الْفَاء، لتضمن: اما، معنى الشَّرْط. وَإِنَّمَا أخرت إِلَى الْخَبَر كَرَاهَة أَن يوالى بَين حرفي الشَّرْط وَالْجَزَاء لفظا. قَوْله: (فَجَلَسَ فِيهَا) عطف على قَوْله: (فَرَأى) ، وَالْكَلَام فِي إِعْرَاب: (وَأما الآخر فَجَلَسَ خَلفهم) ، كَالْكَلَامِ فِي الأول، وخلفهم، نصب على الظَّرْفِيَّة، وَكَذَا الْكَلَام فِي: أدبر. قَوْله: (ذَاهِبًا) . حَال. قَوْله: (قَالَ: ألاَ) جَوَاب لما، وَألا، حرف التَّنْبِيه سَوَاء فِيهِ مَا كَانَ الْمُخَاطب بِهِ مُفردا أَو مثنى أَو مجموعاً، وَيحْتَمل أَن تكون الْهمزَة للاستفهام، و: لَا، للنَّفْي. قَوْله: (أما أحدهم) الْكَلَام فِي إعرابه، وَفِي إِعْرَاب: أما، الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة مثل الْكَلَام فِي إِعْرَاب: أما أَحدهمَا فَرَأى فُرْجَة.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِذْ أقبل ثَلَاثَة نفر) : اعْلَم أَن هَهُنَا إقبالين: أَحدهمَا: إقبالهم أَولا من الطَّرِيق، أَقبلُوا ودخلوا الْمَسْجِد مارين، يدل عَلَيْهِ حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ: (فَإِذا ثَلَاثَة نفر يَمرونَ) ، وَالْآخر: إقبال الِاثْنَيْنِ مِنْهُم حِين رَأَوْا مجْلِس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الثَّالِث فَإِنَّهُ اسْتمرّ ذَاهِبًا. وَبِهَذَا التَّقْدِير سقط سُؤال من قَالَ: كَيفَ قَالَ أَولا: أقبل ثَلَاثَة؟ ثمَّ قَالَ: فَأقبل اثْنَان؟ وَالْحَال لَا يَخْلُو من أَن يكون الْمقبل اثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَة. قَوْله: (فوقفا) زَاد فِي رِوَايَة (الْمُوَطَّأ) : (فَلَمَّا وَقفا سلما) ، وَكَذَا عِنْد التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَلم يذكر البُخَارِيّ هَهُنَا، وَلَا فِي الصَّلَاة، السَّلَام وَكَذَا لم يَقع فِي رِوَايَة مُسلم. وَمعنى قَوْله: (فوقفا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقفا على مجْلِس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مَعْنَاهُ: أشرفا عَلَيْهِ، وَمِنْه وقفته على ذَنبه أَي: أطلعته عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم: على، بِمَعْنى: عِنْد. قلت: لم تجىء: على، بِمَعْنى: عِنْد، فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان من كَلَام الْعَرَب. قَوْله: (وَأما الآخر) ، بِفَتْح الْخَاء بِمَعْنى: وَأما الثَّانِي، لِأَن الآخر، بِالْفَتْح، أحد الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ اسْم أفعل، وَالْأُنْثَى: أُخْرَى إلاَّ أنّ فِيهِ معنى الصّفة، لِأَن أفعل من كَذَا لَا يكون إلاَّ فِي الصّفة. وَأما الآخر بِكَسْر الْخَاء، فَهُوَ بعد الأول، وَهُوَ صفة، يُقَال: جَاءَ آخرا، أَي: أخيراً. وَتَقْدِيره فَاعل، وَالْأُنْثَى آخِرَة، وَالْجمع أَوَاخِر. قَوْله: (فَلَمَّا فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: عَمَّا كَانَ مشتغلاً بِهِ من الْخطْبَة، وَتَعْلِيم الْعلم أَو الذّكر، وَنَحْوه. قَوْله: (أما أحدهم) فِيهِ حذف تَقْدِيره قَالُوا: أخبرنَا، فَقَالَ: أما أحدهم فاوى إِلَى الله أَي: لَجأ إِلَى الله. وَقَالَ القَاضِي: مَعْنَاهُ: دخل مجْلِس ذكر الله. قَوْله: (فآواه الله) ، من بَاب المشاكلة. والمقابلة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله} (آل عمرَان: 54) فَسمى مجازاته باسم فعله بطرِيق الْمجَاز، وَذَلِكَ لِأَن الإيواء هُوَ الْإِنْزَال عنْدك، وَهُوَ لَا يتَصَوَّر فِي حق الله تَعَالَى، فَيكون مجَازًا عَن لَازمه، وَهُوَ إِرَادَة إِيصَال الْخَيْر وَنَحْوه، فَيكون من ذكر الْمَلْزُوم، وَإِرَادَة اللَّازِم. وَيُقَال: مَعْنَاهُ فآواه الله إِلَى جنته. قَوْله: (وَأما الآخر فاستحيى) أَي: ترك الْمُزَاحمَة كَمَا فعل رَفِيقه حَيَاء من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والحاضرين. قَالَه القَاضِي عِيَاض.

(2/33)


وَيُقَال: مَعْنَاهُ استحيى من الذّهاب عَن الْمجْلس، كَمَا فعل رَفِيقه الثَّالِث، وَيُؤَيّد هَذَا الْمَعْنى مَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْحَاكِم الثَّانِي: (فَلبث ثمَّ جَاءَ فَجَلَسَ) . قَوْله: (فاستحيى مِنْهُ) . أَي: جازاه بِمثل فعله بِأَن رَحمَه وَلم يُعَاقِبهُ، وَهَذَا أَيْضا من بَاب المشاكلة، وَذَلِكَ لِأَن الْحيَاء تغير وانكسار يعتري الْإِنْسَان من خوف مَا يذم بِهِ، وَهَذَا محَال على الله تَعَالَى، فَيكون مجَازًا عَن ترك الْعقَاب للاستحياء، فَيكون هَذَا أَيْضا من قبيل ذكر الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم. قَوْله: (وَأما الآخر فاعرض) أَي: عَن مجْلِس رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ، بل ولى مُدبرا. قَوْله: (فاعرض الله عَنهُ) أَي: جازاه بِأَن سخط عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضا من بَاب المشاكلة، وَذَلِكَ لِأَن الْإِعْرَاض هُوَ الِالْتِفَات إِلَى جِهَة أُخْرَى، وَذَلِكَ لَا يَلِيق فِي حق الله تَعَالَى، فَيكون مجَازًا عَن السخط وَالْغَضَب الْمجَاز عَن إِرَادَة الانتقام. وَالْقَاعِدَة فِي مثل هَذِه الإطلاقات الَّتِي لَا يُمكن حملهَا على ظواهرها أَن يُرَاد بِهِ غاياتها ولوازمها، والعلاقة بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَالْمعْنَى الْمجَازِي: اللُّزُوم والقرينة الصارفة عَن إِرَادَة الْحَقِيقَة هُوَ الْعقل، إِذا لَا يتَصَوَّر الْعقل صُدُور هَذِه الْأَشْيَاء من الله تَعَالَى. فَإِن قلت: هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة إِخْبَار أَو دُعَاء. قلت: يحْتَمل الْمَعْنيين فِي لَفْظَة: الإيواء والإعراض، وَلَكِن مَا وَقع فِي رِوَايَة أنس: (وَأما الآخر فاستغنى فاستغنى الله عَنهُ) ، يُؤَيّد معنى الْإِخْبَار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون من بَاب التَّشْبِيه، أَي: يفعل الله تَعَالَى كَمَا يفعل المؤوي والمستحي والمعرض. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يستحي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا} (آل عمرَان: 54) فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ وصف الْقَدِيم بالاستحياء؟ قلت: هُوَ جَار على سَبِيل التَّمْثِيل، وَمثل تَركه يتْرك من يتْرك شَيْئا حَيَاء مِنْهُ.
ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله: (فاعرض الله) ، مَحْمُول على من ذهب معرضًا، لَا لعذر. قَالَ القَاضِي عِيَاض: من أعرض عَن نبيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وزهد مِنْهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن وَإِن كَانَ هَذَا مُؤمنا وَذهب لحَاجَة دنياوية أَو ضَرُورِيَّة فإعراض الله عَنهُ ترك رَحمته وعفوه، فَلَا يثبت لَهُ حَسَنَة وَلَا يمحو عَنهُ سَيِّئَة. قلت: وَإِن كَانَ ذَاك منافقاً كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطلع على أمره، فَلذَلِك قَالَ: فاعرض الله عَنهُ.
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ أَن من جلس إِلَى حَلقَة علم أَنه فِي كنف الله تَعَالَى وَفِي ايوائه، وَهُوَ مِمَّن تضع لَهُ الْمَلَائِكَة اجنحتها. وَقَالَ ابْن بطال: وَكَذَلِكَ يجب على الْعَالم أَن يؤوي المتعلم لقَوْله: (فآواه الله) . الثَّانِي: أَن فِيهِ أَن من قصد الْعَالم ومجالسته فاستحيى مِمَّن قَصده فَإِن الله يستحيي مِنْهُ فَلَا يعذبه. الثَّالِث: فِيهِ أَن من أعرض عَن مجالسة الْعَالم فَإِن الله يعرض عَنهُ، وَمن أعرض الله عَنهُ فقد تعرض لسخطه. الرَّابِع: اسْتِحْبَاب التحلق للْعلم وَالذكر فِي الْمَسْجِد. الْخَامِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْقرب من الْكَبِير فِي الْحلقَة ليسمع كَلَامه. السَّادِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب الثَّنَاء على من فعل جميلاً. السَّابِع: فِيهِ أَن الْإِنْسَان إِذا فعل قبيحاً أَو مذموماً وباح بِهِ جَازَ أَن ينْسب إِلَيْهِ. الثَّامِن: فِيهِ أَن من حسن الْأَدَب أَن يجلس الْمَرْء حَيْثُ انْتهى مَجْلِسه، وَلَا يُقيم أحدا. وَقد رُوِيَ ذَلِك فِي الحَدِيث أَيْضا. التَّاسِع: فِيهِ ابْتِدَاء الْعَالم جلساءه بِالْعلمِ قبل أَن يسْأَل عَنهُ. الْعَاشِر: فِيهِ أَن من سبق إِلَى مَوضِع فِي مجْلِس كَانَ هُوَ أَحَق بِهِ، لتَعلق حَقه بِهِ فِي الْجُلُوس. الْحَادِي عشر: فِيهِ سد خلل الْحلقَة، كَمَا ورد التَّرْغِيب فِي سد خلل الصُّفُوف فِي الصَّلَاة. الثَّانِي عشر: فِيهِ جَوَاز التخطي لسد الْخلَل مَا لم يؤذ أحدا، فَإِن خشِي اسْتحبَّ أَن يجلس حَيْثُ يَنْتَهِي. الثَّالِث عشر: فِيهِ الثَّنَاء على من زاحم فِي طلب الْخَيْر.

9 - (بَاب قَولِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سامِعٍ)

الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه: الأول: التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رب مبلغ اوعى من سامع) ، وَالْبَاب مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى مَا بعده. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب حَال الْمبلغ، بِفَتْح اللَّام، وَمن جملَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق الْجَالِس فِي الْحلقَة، وَهُوَ أَيْضا من جملَة المبلغين، لِأَن حَلقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت مُشْتَمِلَة على الْعُلُوم، وَالْأَمر بتعلمها والتبليغ إِلَى الغائبين، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّبْوِيب الِاسْتِدْلَال على جَوَاز الْحمل على من لَيْسَ بفقيه من الشُّيُوخ الَّذين لَا علم عِنْدهم وَلَا فقه، إِذا ضبط مَا يحدث بِهِ. قلت: هَذَا بَيَان وَجه وضع هَذَا الْبَاب وَلَيْسَ فِيهِ تعرض إِلَى وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله، وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح

(2/34)


تعرض لهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث: قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُعَلّقا، وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنى الحَدِيث الَّذِي ذكره بعده بِالْإِسْنَادِ، فَهُوَ من بَاب نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَإِمَّا أَنه ثَبت عِنْده بِهَذَا اللَّفْظ من طَرِيق آخر. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَقد جَاءَت لَفْظَة التَّرْجَمَة فِي التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عبد الرحمان بن عبد اللَّه بن مَسْعُود عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (نضر الله أمرأ سمع منَّا شَيْئا فَبَلغهُ كَمَا سمع، فَرب مبلغ اوعى من سامع) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. قلت: كل مِنْهُمَا قد أبعد وتعسف، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال هُوَ: إِن هَذَا حَدِيث مُعَلّق، أورد البُخَارِيّ مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَأما لَفظه: فَهُوَ مَوْصُول عِنْده فِي: بَاب الْخطْبَة بمنى، من كتاب الْحَج، أخرجه من طَرِيق قُرَّة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، وَرجل آخر أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن بن حميد بن عبد الرَّحْمَن، كِلَاهُمَا عَن أبي بكرَة، قَالَ: (خَطَبنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم النَّحْر، قَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟) وَفِي آخِره هَذَا اللَّفْظ. وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ. فِي (جَامعه) وَابْن حباب وَالْحَاكِم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (نصر الله أمرأ سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها فأداها إِلَى من لم يسْمعهَا، فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه، وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَوْله: (نضر) بِالتَّشْدِيدِ أَكثر من التَّخْفِيف، أَي: حسن، وَيُقَال: نضر الله وَجهه، ونضر، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي. قلت: وَجَاء: نضر، بِالْفَتْح أَيْضا، حَكَاهُ أَبُو عبيد. والمصدر: نضارة ونضرة أَيْضا، وَهُوَ: الْحسن والرونق. فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ التِّرْمِذِيّ لحَدِيث ابْن مَسْعُود: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد تكلم النَّاس فِي سَماع عبد الرحمان عَن أَبِيه، فَقَالُوا: كَانَ صَغِيرا؟ وَقَالَ يحيى بن معِين: عبد الرَّحْمَن وَأَبُو عُبَيْدَة ابْنا عبد اللَّه ابْن مَسْعُود لم يسمعا من أَبِيهِمَا. وَقَالَ أَحْمد: مَاتَ عبد اللَّه ولعَبْد الرَّحْمَن ابْنه سِتّ سِنِين أَو نَحْوهَا؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يعبأ بِمَا قيل فِي عدم سَماع عبد الرَّحْمَن من أَبِيه لصغره، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: لم يخرج البُخَارِيّ لأبي عُبَيْدَة شَيْئا، وَأخرج هُوَ وَمُسلم لعبد الرَّحْمَن عَن مَسْرُوق، فَلَمَّا كَانَ الحَدِيث لَيْسَ من شَرطه جعله فِي التَّرْجَمَة. قلت: هَذَا بِنَاء على تعسفه فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَالَّذِي جعله فِي التَّرْجَمَة قد ذكره فِي كتاب الْحَج على مَا ذكرنَا. الرَّابِع: قَوْله: (رب) هُوَ للتقليل، لكنه كثر فِي الِاسْتِعْمَال للتكثير بِحَيْثُ غلب حَتَّى صَارَت كَأَنَّهَا حَقِيقَة فِيهِ، وَهِي حرف خلافًا للكوفيين فِي دَعْوَى إسميته، وَقَالُوا: قد أخبر عَنهُ الشَّاعِر فِي قَوْله.
(وَرب قتل عَار)

وَأجِيب: بِأَن عَار، خبر لمبتدأ مَحْذُوف، وَالْجُمْلَة صفة للمجرور، أَو خبر للمجرور، إِذْ هُوَ فِي مَوضِع مُبْتَدأ، وينفرد: رب، بِوُجُوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إِن كَانَ ظَاهرا، وإفراده وتذكيره وتمييزه بِمَا يُطَابق الْمَعْنى إِن كَانَ ضميراً، وَغَلَبَة حذف معداها ومضيه، وَوُجُوب كَون فعلهَا مَاضِيا لفظا أَو معنى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وفيهَا لُغَات عشر، ثمَّ عدهَا. قلت: فِيهَا سِتّ عشرَة لُغَة: ضم الرَّاء، وَفتحهَا، وَكِلَاهُمَا مَعَ التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف، وَالْأَوْجه الْأَرْبَعَة مَعَ تَاء التَّأْنِيث الساكنة أَو المتحركة، أَو مَعَ التجرد مِنْهَا، فَهَذِهِ اثْنَتَيْ عشرَة، وَالضَّم وَالْفَتْح مَعَ إسكان الْبَاء، وَضم الحرفين مَعَ التَّشْدِيد وَمَعَ التَّخْفِيف. قَوْله: (مبلغ) ، بِفَتْح اللَّام أَي: مبلغ إِلَيْهِ، فَحذف الْجَار وَالْمَجْرُور كَمَا يُقَال الْمُشْتَرك وَيُرَاد بِهِ الْمُشْتَرك فِيهِ. قَوْله: (أوعى) أفعل التَّفْضِيل من الوعي، وَهُوَ الْحِفْظ. فَإِن قلت: كَيفَ إِعْرَاب هَذَا الْكَلَام؟ قلت: إعرابه على مَذْهَب الْكُوفِيّين: أَن (رب مبلغ) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله (أوعى من سامع) خَبره، وَالْمعْنَى: رب مبلغ إِلَيْهِ عني أفهم وأضبط لما أَقُول من سامع مني، وَلَا بُد من هَذَا الْقَيْد لِأَن الْمَقْصُود ذَلِك، وَقد صرح بذلك ابْن مَنْدَه فِي رِوَايَته من طَرِيق هودة عَن ابْن عون، وَلَفظه: (فَإِنَّهُ عَسى أَن يكون بعض من لم يشْهد أوعى لما أَقُول من بعض من شهد) . وَأما على مَذْهَب الْبَصرِيين، فَإِن قَوْله: (مبلغ) ، وَإِن كَانَ مجروراً بِالْإِضَافَة، وَلكنه مَرْفُوع على الِابْتِدَاء محلا. وَقَوله: (أوعى) صفة لَهُ، وَالْخَبَر مَحْذُوف وَتَقْدِيره: يكون أَو يُوجد، أَو نَحْوهمَا. وَقَالَ النُّحَاة فِي نَحْو: رب رجل صَالح عِنْدِي، مَحل مجرورها رفع على الابتدائية وَفِي نَحْو: رب رجل لَقيته، نصب على المفعولية، وَفِي نَحْو: رب رجل صَالح لَقيته، رفع أَو نصب كَمَا فِي قَوْلك: هَذَا لَقيته.

67 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حدّثنا بِشْرُ قَالَ: حدّثنا ابنُ عَوْنٍ عَن ابنِ سِيرِينَ عَن عبدِ الرَّحْمَنِ بن أبي بَكْرَةَ عَن أبِيهِ، ذَكَرَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قعَدَ على بَعِيرِهِ وأمْسَك إنسانٌ بِخِطامِهِ

(2/35)


أوْ بِزِمامِهِ قَالَ: (أيُّ يَوْمٍ هَذَا؟) فَسَكَتْنا حتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِيهِ سِوَى اسمِهِ؟ قَالَ: (ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ) قُلْنا: بَلَى. قَالَ: (فأَيّ شَهُرٍ هَذَا) فَسَكتنا حتَّى ظَنَنَّا أنهُ سَيُسَميِّهِ بِغَيْرِ اسمِهِ، فَقَالَ: (ألَيْسَ بِذِى الحِجةِ؟) قُلْنا: بَلَى. قَالَ: (فإنّ دِماءَكُمْ وَأَمُوالَكُمْ وأعْراضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرامُ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشاهِدُ الغائِبَ فإنّ الشاهدَ عَسَى أَن يُبَلِّغَ مَن هُو أوْعَى لهُ مِنهُ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى كَمَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، ابْن الْمفضل بن لَاحق الرقاشِي أَبُو إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، سمع ابْن الْمُنْكَدر وَعبد اللَّه بن عون وَغَيرهمَا، روى عَنهُ أَحْمد، وَقَالَ: إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي التثبت بِالْبَصْرَةِ. قَالَ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث عثمانياً، توفّي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقَالَ: إِنَّه كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَكْعَة. يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عبد اللَّه بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ، وأرطبان مولى عبد اللَّه بن مُغفل الصَّحَابِيّ، رأى أنس بن مَالك وَلم يثبت لَهُ مِنْهُ سَماع، وَسمع الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَالْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين وَغَيرهم، روى عَنهُ شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَآخَرُونَ، وَعَن خَارِجَة قَالَ: صَحِبت ابْن عون أَرْبعا وَعشْرين سنة فَمَا أعلم أَن الْمَلَائِكَة كتبت عَلَيْهِ خَطِيئَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ عَمْرو بن عَليّ: ولد سنة سِتّ وَسِتِّينَ، وَمَات وَهُوَ ابْن خمس وَثَمَانِينَ، وَيُقَال: توفّي سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة نفيع بن الْحَارِث أَبُو عمر الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ، أَخُو عبيد اللَّه وَمُسلم ووراد، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بِالْبَصْرَةِ سنة أَربع عشرَة، سمع أَبَاهُ وعلياً وَغَيرهمَا، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي غير مَوضِع عَن ابْن سِيرِين وَعبد الْملك بن عُمَيْر وخَالِد الْحذاء، وَعنهُ عَن أَبِيه قَالَ ابْن معِين: توفّي سنة تسع وَتِسْعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: أَبوهُ أَبُو بكرَة، واسْمه نفيع، بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء، ابْن الْحَارِث وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن فِي رُوَاته ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وهم: عبد اللَّه ابْن عون، وَابْن سِيرِين، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد عَن قُرَّة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَرجل آخر أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن كِلَاهُمَا عَن أبي بكرَة، وَزَاد فِي آخِره: قَالَ عبد الرَّحْمَن: حَدَّثتنِي أُمِّي عَن أبي بكرَة أَنه قَالَ: لَو دخلُوا عَليّ مَا نهشت لَهُم بقصبة، وَفِي الْحَج عَن عبد اللَّه بن مُحَمَّد عَليّ أبي عَامر الْعَقدي عَن قُرَّة بن خَالِد بِإِسْنَادِهِ نَحوه، وسمى الرجل حميد بن عبد الرَّحْمَن وَلم يذكر حَدِيث عبد الرَّحْمَن عَن أمه، وَفِي التَّفْسِير، وَفِي بَدْء الْخلق عَن أبي مُوسَى، وَفِي الْأَضَاحِي عَن مُحَمَّد بن سَلام كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَفِي الْعلم وَالتَّفْسِير أَيْضا عَن عبد اللَّه بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي عَن حَمَّاد بن زيد، كِلَاهُمَا عَن أَيُّوب، وَأخرجه مُسلم فِي الدِّيات عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيحيى بن حبيب ابْن عَرَبِيّ، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ، وَعَن نصر بن عَليّ عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَعَن أبي مُوسَى عَن حَمَّاد بن مسْعدَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون بِهِ، وَزَاد فِي آخِره: ثمَّ انكفأ إِلَى كبشين أملحين فذبحهما إِلَى جريعة من الْغنم، فَقَسمهَا بَيْننَا. وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن يحيى بن سعيد نَحوه، وَلم يذكر حَدِيث عبد الرَّحْمَن عَن أمه، وَعَن مُحَمَّد ابْن عَمْرو بن جبلة، وَأحمد بن الْحسن بن خرَاش، كِلَاهُمَا عَن أبي عَامر الْعَقدي نَحوه، وسمى حميد بن عبد الرحمان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بن بشر بن الْمفضل نَحوه، وَعَن يحيى بن مسْعدَة عَن يزِيد بن زُرَيْع نَحوه، وَفِيه وَفِي الْعلم عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ عَن أبي عَامر الْعَقدي نَحوه، وَذكر حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَعَن سُلَيْمَان بن مُسلم عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن أبي عون. واخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُم، بِنَحْوِهِ، وَله طرق تَأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَذكره ابْن مَنْدَه فِي (مستخرجه) من حَدِيث سَبْعَة عشر صحابياً.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (على بعيره) الْبَعِير الْجمل الْبَاذِل، وَقيل: الْجذع، وَقد يكون للْأُنْثَى. وَحكي عَن بعض الْعَرَب: شربت من لبن بَعِيري وصرعتني بَعِيري. وَفِي (الْجَامِع) : الْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان، يجمع الْمُذكر والمؤنث من النَّاس، إِذا

(2/36)


رَأَيْت جملا على الْبعد. قلت: هَذَا بعير فَإِذا استثبته قلت: جمل أَو نَاقَة، وَيجمع على: أَبْعِرَة وأباعر وأباعير وبعر وبعران. وَفِي (الْعباب) : يُقَال للجمل بعير وللناقة بعير، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: بعير وشعير، بِكَسْر الْبَاء والشين وَالْفَتْح هُوَ الصَّحِيح، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ: بعير إِذا جذع، وَالْجمع أَبْعِرَة فِي أدنى الْعدَد، وأباعر فِي الْكثير، وأباعير وبعران هَذِه عَن الْفراء. قَوْله: (أمسك إِنْسَان بخطامه) أَي: تمسك بِهِ، ومسكت بِهِ مثل أَمْسَكت بِهِ. قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب} (الْأَعْرَاف: 170) أَي: يتمسكون بِهِ، وَقَرَأَ البصريون: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} (الممتحنه: 10) بِالتَّشْدِيدِ، والخطام، بِكَسْر الْخَاء: الزِّمَام الَّذِي يشد فِيهِ الْبرة، بِضَم الْبَاء وَفتح الرَّاء؛ حَلقَة من صفر تجْعَل فِي لحم أنف الْبَعِير. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: تجْعَل فِي إِحْدَى جَانِبي المنخرين. قَوْله: (بِذِي الْحجَّة) بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا وَالْكَسْر افصح، وَيجمع على: ذَوَات الْحجَّة، وَذي الْقعدَة، بِكَسْر الْقَاف، وَيجمع على ذَوَات الْعقْدَة. قَوْله: (وَأَعْرَاضكُمْ) جمع عرض، بِكَسْر الْعين، وَهُوَ مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه. وَقيل: الْعرض الْحسب، وَقيل: الْخلق، وَقيل: النَّفس. وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (الشَّاهِد) أَي الْحَاضِر، من: شهد إِذا حضر. قَوْله: (أوعى) أَي: أحفظ، من الوعي وَهُوَ: الْحِفْظ والفهم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (ذكر النَّبِي) ، بِنصب: النَّبِي، لِأَنَّهُ مفعول: ذكر، وَالضَّمِير فِي ذكر يرجع إِلَى الرَّاوِي. الْمَعْنى عَن أبي بكرَة أَنه كَانَ يُحَدِّثهُمْ، فَذكر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: (قعد على بعيره) ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر عَن أبي بكرَة أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، (قعد) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، عَن أبي بكرَة، قَالَ وَذكر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فالواو: وَاو الْحَال، وَيجوز أَن تكون وَاو الْعَطف، على أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ محذوفاً. فَافْهَم. قَوْله: (قعد على بعيره) جملَة وَقعت مقول قَالَ الْمُقدر. قَوْله: (وَأمْسك) يجوز أَن تكون الْوَاو، فِيهِ للْحَال. وَقد علم أَن الْمَاضِي إِذا وَقع حَالا تجوز فِيهِ الْوَاو وَتركهَا، وَلَكِن لَا بُد من قد، ظَاهِرَة أَو مقدرَة، وَيجوز أَن تكون للْعَطْف على قعد. قَوْله: (أَي يَوْم هَذَا؟) جملَة وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فسكتنا) عطف على: قَالَ. قَوْله: (حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى. قَوْله: (أَنه) ، بِفَتْح الْهمزَة فِي مَحل النصب على المفعولية. قَوْله: (سيسميه) : السِّين فِيهِ تفِيد توكيد النِّسْبَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ سيرحمهم الله} (التَّوْبَة: 71) السِّين مفيدة وجود الرَّحْمَة لَا محَالة، فَهِيَ تؤكد الْوَعْد كَمَا تؤكد الْوَعيد إِذا قلت: سأنتقم مِنْك. قَوْله: (أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟) الْهمزَة فِيهِ لَيست للاستفهام الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا هِيَ تفِيد نفي مَا بعْدهَا، وَمَا بعْدهَا هَهُنَا منفي، فَتكون إِثْبَاتًا. لِأَن نفي النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمَعْنى: هُوَ يَوْم النَّحْر. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} (الزمر: 39) أَي: الله كَاف عَبده، وَكَذَلِكَ قَوْله: {ألم نشرح لَك صدرك} (الإنشراح: 1) فَمَعْنَاه: شرحنا صدرك، وَلِهَذَا عطف عَلَيْهِ قَوْله: {ووضعنا} (الإنشراح: 2) . قَوْله: (فَقُلْنَا) عطف على قَوْله: قَالَ. قَوْله: (بلَى) مقول القَوْل أقيم مقَام الْجُمْلَة الَّتِي هِيَ مقول القَوْل، وَهِي حرف يخْتَص بِالنَّفْيِ ويفيد إِبْطَاله سَوَاء كَانَ مُجَردا نَحْو: {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي} (التغابن: 7) أَو مَقْرُونا بالاستفهام حَقِيقِيًّا كَانَ نَحْو: أَلَيْسَ زيد بقائم، فَتَقول: بلَى، أَو توبيخاً نَحْو: {أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى} (الزخرف: 80) . {أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه بلَى} (الْقِيَامَة: 3) . أَو تقريراً نَحْو: {ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى} (الْملك: 8 9) . {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} (الْأَعْرَاف: 172) . أجروا النَّفْي مَعَ التَّقْدِير مجْرى النَّفْي الْمُجَرّد فِي رده ببلى، وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو قَالُوا: نعم كفرُوا، لِأَن: نعم، تَصْدِيق للْخَبَر بِنَفْي أَو إِيجَاب، وَلذَلِك قَالَت جمَاعَة من الْفُقَهَاء: لَو قَالَ: أَلَيْسَ لي عَلَيْك ألف؟ فَقَالَ: بلَى، لَزِمته. وَلَو قَالَ: نعم، لم تلْزمهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: تلْزمهُ فيهمَا، وجروا فِي ذَلِك على مُقْتَضى الْعرف لَا اللُّغَة. قَوْله: (حرَام) خبر: إِن، قَوْله: (ليبلغ) ، بِكَسْر الْغَيْن، لِأَنَّهُ أَمر، وَلكنه لما وصل بِمَا بعده حرك بِالْكَسْرِ، لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك أَن يُحَرك بِالْكَسْرِ. قَوْله: (عَسى أَن يبلغ) ، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: إِن، وَقد علم أَن لعسى استعمالان: أَحدهمَا: أَن يكون فَاعله إسماً نَحْو: عَسى زيد أَن يخرج، فزيد مَرْفُوع بالفاعلية، و: أَن يخرج، فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة: قَارب زيد الْخُرُوج. وَالْآخر: أَن تكون أَن مَعَ صلتها فِي مَوضِع الرّفْع نَحْو: عَسى أَن يخرج زيد، فَيكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة: قرب أَن يخرج، أَي: خُرُوجه. وَمَا فِي الحَدِيث من هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (مِنْهُ) ، صلَة لأَفْعَل التَّفْضِيل، أَعنِي قَوْله: (أوعى) . فَإِن قلت: صلته كالمضاف إِلَيْهِ، فَكيف جَازَ الْفَصْل بَينهمَا بِلَفْظَة: لَهُ؟ قلت: جَازَ، لِأَن فِي الظّرْف سَعَة كَمَا جَازَ الْفَصْل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بِهِ، قَالَ.
(فرشني بِخَير لأكونن ومدحتي ... كناحت يَوْمًا صَخْرَة بعسيل)

فَإِن قَوْله: يَوْمًا، فصل بَين: ناحت، الَّذِي هُوَ مُضَاف، وَبَين صَخْرَة، الَّذِي هُوَ مُضَاف إِلَيْهِ. وَقَوله: (فرشني) أَمر من راش

(2/37)


يريش، يُقَال: رَشَّتْ فلَانا إِذا أصلحت حَاله، والعسيل، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة، مكنسة الْعَطَّار الَّذِي يجمع بِهِ الْعطر.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (قعد على بعيره) ، وَذَلِكَ كَانَ بمنى فِي يَوْم النَّحْر فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (وَأمْسك إِنْسَان بخطامه) قيل: هَذَا الممسك كَانَ بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أم الْحصين، قَالَت: حججْت فَرَأَيْت بِلَالًا يَقُود بِخِطَام رَاحِلَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيُقَال: كَانَ الممسك عَمْرو بن خَارِجَة، فَإِنَّهُ وَقع فِي السّنَن من حَدِيثه، قَالَ: كنت آخذ بزمام نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... فَذكر الْخطْبَة. قيل: هُوَ أولى أَن يُفَسر بِهِ الْمُبْهم، لِأَنَّهُ أخبر عَن نَفسه أَنه كَانَ ممسكاً بزمام نَاقَته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُقَال: كَانَ الممسك هُوَ أَبَا بكرَة الرَّاوِي، لما روى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْحُسَيْن عَن سُفْيَان عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك عَن أبي عون بِسَنَدِهِ إِلَى أبي بكرَة. قَالَ: (خطب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على رَاحِلَته يَوْم النَّحْر، وَأَمْسَكت، إِمَّا قَالَ: بخطامها أَو بزمامها) . قَوْله: (أَي يَوْم) ، هَذَا؟ لَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والأصيلي والحموي السُّؤَال عَن الشَّهْر، وَالْجَوَاب الَّذِي قبله وَلَفْظهمَا: (أَي يَوْم هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحجَّة؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وكريمة بالسؤال عَن الشَّهْر وَالْجَوَاب الَّذِي قبله، وَهِي أَيْضا كَذَلِك فِي مُسلم وَغَيره، وَكَذَا وَقع فِي مُسلم وَغَيره السُّؤَال عَن الْبَلَد، فَهَذِهِ ثَلَاثَة اسئلة عَن الْيَوْم والشهر والبلد، وَهِي ثَابِتَة عِنْد البُخَارِيّ فِي الْأَضَاحِي من رِوَايَة أَيُّوب، وَفِي الْحَج أَيْضا من رِوَايَة قُرَّة، كِلَاهُمَا عَن ابْن سِيرِين. وَذكر فِي أول حَدِيثه: (خَطَبنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم، فَسكت حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه) . وَذكر قَوْله: الله وَرَسُوله أعلم فِي الْجَواب عَن الأسئلة الثَّلَاثَة، وَكَذَلِكَ أوردهُ من رِوَايَة ابْن عمر، وَجَاء من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: (خَطَبنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَيهَا النَّاس! أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْم حرَام. قَالَ: فَأَي بلد هَذَا؟ قَالُوا: بلد حرَام. قَالَ: فَأَي شهر هَذَا؟ قَالُوا: شهر حرَام) . فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس يشْعر بِأَنَّهُم أجابوه بقَوْلهمْ: هَذَا يَوْم حرَام وبلد حرَام وَشهر حرَام، وَهُوَ مُخَالف للمذكور هُنَا من حَدِيث أبي بكرَة، وَمن حَدِيث ابْن عمر أَيْضا أَنهم سكتوا حَتَّى ظنُّوا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه، الْجَواب أَنه يحْتَمل أَن تكون الْخطْبَة مُتعَدِّدَة، فَأجَاب فِي الثَّانِيَة من علم فِي الأولى، وَلم يجب من لم يعلم فَنقل كل من الروَاة مَا سمع، وَيُقَال: إِن حَدِيث أبي بكرَة من رِوَايَة مُسَدّد وَقع نَاقِصا مخروماً لنسيان وَقع من بعض الروَاة. قَوْله: (فَإِن دماءكم) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: سفك دمائكم، وَكَذَا فِي: أَمْوَالكُم، التَّقْدِير: أَخذ أَمْوَالكُم، وَكَذَا فِي: أعراضكم، التَّقْدِير: سلب أعراضكم. قَوْله: (ليبلغ الشَّاهِد) ، أَي الْحَاضِر فِي الْمجْلس الْغَائِب عَنهُ، وَالْمرَاد مِنْهُ إِمَّا تَبْلِيغ القَوْل الْمَذْكُور، أَو تَبْلِيغ جَمِيع الْأَحْكَام. فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: هُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ أَن الْعَالم يجب عَلَيْهِ تَبْلِيغ الْعلم لمن لم يبلغهُ، وتبيينه لمن لَا يفهمهُ، وَهُوَ الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه الله تَعَالَى على الْعلمَاء. {ليبيننه للنَّاس وَلَا يكتمونه} (آل عمرَان: 187) . الثَّانِي: فِيهِ أَنه يَأْتِي فِي آخر الزَّمَان من يكون لَهُ من الْفَهم فِي الْعلم من لَيْسَ لمن تقدمه، وَأَن ذَلِك يكون فِي الْأَقَل، لِأَن: رب، مَوْضُوعَة للتقليل، و: عَسى، موضعهَا الإطماع، وَلَيْسَت لتحقيق الشَّيْء. الثَّالِث: فِيهِ أَن حَامِل الحَدِيث يجوز أَن يُؤْخَذ عَنهُ، وَإِن كَانَ جَاهِلا بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ مَأْخُوذ من تبليغه، مَحْسُوب فِي زمرة أهل الْعلم. الرَّابِع: فِيهِ أَن مَا كَانَ حَرَامًا يجب على الْعَالم أَن يُؤَكد حرمته، ويغلظ عَلَيْهِ بأبلغ مَا يُوجد، كَمَا فعل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي المتشابهات. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْقعُود على ظهر الدَّوَابّ إِذا احْتِيجَ إِلَى ذَلِك، لَا للأشر والبطر، وَالنَّهْي فِي قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا تَتَّخِذُوا ظُهُور الدَّوَابّ مجَالِس) ، مَخْصُوص بِغَيْر الْحَاجة. السَّادِس: فِيهِ الْخطْبَة على مَوضِع عَال ليَكُون أبلغ فِي سماعهَا للنَّاس، ورؤيتهم إِيَّاه. السَّابِع: فِيهِ مُسَاوَاة المَال وَالدَّم وَالْعرض فِي الْحُرْمَة. الثَّامِن: فِيهِ تَشْبِيه الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض بِالْيَوْمِ وبالشهر وبالبلد فِي الْحُرْمَة دَلِيل على اسْتِحْبَاب ضرب الْأَمْثَال، وإلحاق النظير بالنظير قِيَاسا، قَالَه النَّوَوِيّ.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: لِمَ شبه الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض فِي الْحُرْمَة بِالْيَوْمِ والشهر والبلد فِي غير هَذِه الرِّوَايَة؟ أُجِيب: بِأَنَّهُم كَانُوا لَا يرَوْنَ اسْتِبَاحَة هَذِه الْأَشْيَاء وانتهاك حرمتهَا بِحَال، وَكَانَ تَحْرِيمهَا ثَابتا فِي نُفُوسهم مقرراً عِنْدهم بِخِلَاف الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض، فَإِنَّهُم فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يستبيحونها. وَقَالَ بَعضهم: أعلمهم الشَّارِع بِأَن تَحْرِيم دم الْمُسلم وَمَاله وَعرضه أعظم من تَحْرِيم الْبَلَد والشهر وَالْيَوْم، فَلَا يرد كَون الْمُشبه بِهِ أَخفض رُتْبَة من الْمُشبه لِأَن الْخطاب إِنَّمَا وَقع

(2/38)


بِالنِّسْبَةِ لما اعتاده المخاطبون قبل تَقْرِير الشَّرْع. قلت: لَا نسلم أَن الشَّارِع قَالَ: حُرْمَة هَذِه الْأَشْيَاء أعظم من حُرْمَة تِلْكَ الْأَشْيَاء حَتَّى يرد السُّؤَال بِكَوْن الْمُشبه بِهِ أَخفض رُتْبَة من الْمُشبه، وَإِنَّمَا الشَّارِع شبه حُرْمَة تِلْكَ بِحرْمَة هَذِه، لما ذكرنَا من وَجه التَّشْبِيه من غير تعرض إِلَى غير ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: لمَ سَأَلَ، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة وَسكت بعد كل سُؤال مِنْهَا؟ أُجِيب: لاستحضار فهومهم وليقبلوا عَلَيْهِ بكليتهم وليعلموا عَظمَة مَا يُخْبِرهُمْ عَنهُ، وَلذَلِك قَالَ بعد هَذَا: (فَإِن دماكم)
إِلَى آخِره، مُبَالغَة فِي تَحْرِيم الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ كَانَ جوابهم عَن كل سُؤال بقَوْلهمْ: الله وَرَسُوله أعلم، على مَا ثَبت فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ وَغَيره؟ أُجِيب: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لحسن أدبهم. لأَنهم كَانُوا يعلمُونَ أَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مَا يعرفونه من الْجَواب، وَأَنه لَيْسَ مُرَاد مُطلق الْإِخْبَار بِمَا يعرفونه، وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَة الْبَاب: (حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه) وَفِيه إِشَارَة إِلَى تَفْوِيض الْأُمُور بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الشَّارِع، والانعزال عَمَّا ألفوه من الْمُتَعَارف الْمَشْهُور. وَمِنْهَا مَا قيل: لم أمسك الممسك بِخِطَام نَاقَته؟ أُجِيب: لصونه الْبَعِير عَن الِاضْطِرَاب والتشويش على رَاكِبه.

10 - (بابٌ العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ لِقولِهِ تَعَالَى {فاعلَمْ أنَّهُ لَا إلَهَ إلاَّ الله} (مُحَمَّد: 19) فبَدَأ بالعلْمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْعلم قبل القَوْل وَالْعَمَل، أَرَادَ أَن الشَّيْء يعلم أَولا، ثمَّ يُقَال وَيعْمل بِهِ، فالعلم مقدم عَلَيْهِمَا بِالذَّاتِ، وَكَذَا مقدم عَلَيْهِمَا بالشرف، لِأَنَّهُ عمل الْقلب، وَهُوَ أشرف أَعْضَاء الْبدن. وَقَالَ ابْن بطال: الْعَمَل لَا يكون إلاَّ مَقْصُودا، يَعْنِي مُتَقَدما، وَذَلِكَ الْمَعْنى هُوَ علم مَا وعد الله عَلَيْهِ بالثواب. وَقَالَ ابْن الْمُنِير، أَرَادَ أَن الْعلم شَرط فِي صِحَة القَوْل وَالْعَمَل، فَلَا يعتبران إلاَّ بِهِ، فَهُوَ مُتَقَدم عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مصحح النِّيَّة المصححة للْعَمَل، فنبه البُخَارِيّ على ذَلِك حَتَّى لَا يسْبق إِلَى الذِّهْن من قَوْلهم: إِن الْعلم لَا يُفِيد إلاَّ بِالْعَمَلِ تهوين أَمر الْعلم والتساهل فِي طلبه. قَوْله: (فَبَدَأَ بِالْعلمِ) أَي: بَدَأَ الله تَعَالَى بِالْعلمِ أَولا حَيْثُ قَالَ: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} (مُحَمَّد: 19) ثمَّ قَالَ: {واستغفر لذنبك} (مُحَمَّد: 19) الاسْتِغْفَار إِشَارَة إِلَى القَوْل وَالْعَمَل؛ وَالْخطاب، وَإِن كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهُوَ متناول لأمته. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ مُتَعَلق بِمَحْذُوف؛ الْمَعْنى، قد بَينا وَقُلْنَا مَا يدل على أَن الله تَعَالَى وَاحِد، فَاعْلَم ذَلِك. وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قد علم ذَلِك، وَلكنه خطاب يدْخل النَّاس مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن} (الطَّلَاق: 1) ، وَالْمعْنَى: من علم فَليقمْ على ذَلِك الْعلم، كَقَوْلِه تَعَالَى {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} (الْفَاتِحَة: 6) أَي ثبتنا. وَقيل: يتَعَلَّق بِمَا قبله، وَالْمعْنَى: إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة فَاعْلَم أَن لَا ملك وَلَا حكم لأحد إلاّ لله، وَيبْطل مَا عداهُ. وَسُئِلَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن فضل الْعلم، فَقَالَ: ألم تسمع قَوْله تَعَالَى حِين بَدَأَ بِهِ فَقَالَ: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله واستغفر لذنبك} (مُحَمَّد: 19) فَأمره بِالْعَمَلِ بعد الْعلم، وَيعلم من الْآيَة أَن التَّوْحِيد مِمَّا يجب الْعلم بِهِ، وَلَا يجوز فِيهِ تَقْلِيد. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَكْفِي الِاعْتِقَاد الْجَازِم، وَإِن لم يعرف الْأَدِلَّة، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من سيرة السّلف. وَمذهب أَكثر الْمُتَكَلِّمين أَن إِيمَان الْمُقَلّد فِي أصُول الدّين غير صَحِيح. وَقَالَ محيي السّنة: يجب على كل مُكَلّف معرفَة علم الْأُصُول، وَلَا يسع فِيهِ التَّقْلِيد لظُهُور دلائله. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ حَال الْمبلغ وَالسَّامِع، والمبلغ، بِكَسْر اللَّام، والمبلغ، بِفَتْحِهَا، لَا يقدران على التَّعْلِيم والتعلم إِلَّا بِالْعلمِ، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان الْعلم قبل القَوْل وَالْعَمَل.
وأنّ العُلَماءَ هُمْ ورَثَةُ الأنْبِياءِ ورَّثُوا العِلْمَ، مَن أخَذَهُ أخَذَ بِحَظِّ وافِرٍ.
يجوز فِي: أَن، الْكسر وَالْفَتْح، أما الْفَتْح فبالعطف على مَا قبله، وَأما الْكسر فعلى سَبِيل الْحِكَايَة، أَو على تَقْدِير بَاب هَذِه الْجُمْلَة، وَهَذَا من حَدِيث مطول أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مَحْمُود بن خِدَاش عَن مُحَمَّد بن يزِيد الوَاسِطِيّ عَن عَاصِم بن رَجَاء بن حَيْوَة عَن قيس بن كثير عَن أبي الدَّرْدَاء، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، قَالَ: (من سلك طَرِيقا يطْلب فِيهِ علما سهل الله لَهُ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة، وَأَن الْمَلَائِكَة لتَضَع أَجْنِحَتهَا رَضِي لطَالب الْعلم، وَأَن الْعَالم ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض، حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء. وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر على سَائِر الْكَوَاكِب، وَأَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، وَأَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما، وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذه أَخذ بحظ وافر) . ثمَّ قَالَ: كَذَا حَدثنَا مَحْمُود، وَإِنَّمَا يرْوى هَذَا

(2/39)


الحَدِيث عَن عَاصِم عَن دَاوُد بن جميل عَن كثير بن قيس عَن أبي الدَّرْدَاء، وَهَذَا أصح من حَدِيث مَحْمُود، وَلَا يعرف هَذَا الحَدِيث إلاَّ من حَدِيث عَاصِم. وَلَيْسَ إِسْنَاده عِنْدِي بمتصلٍ وَفِي (علل) الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن كثير بن قيس، عَن يزِيد بن سَمُرَة عَن أبي الدَّرْدَاء. قَالَ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يقمه الْأَوْزَاعِيّ، وَقد خلط فِيهِ. وَقَالَ حَمْزَة: رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن عبد السَّلَام بن سليم عَن يزِيد بن سَمُرَة وَغَيره من أهل الْعلم عَن كثير بن قيس. قَالَ أَبُو عمر: وَعَاصِم بن رَجَاء، هَذَا ثِقَة مَشْهُور، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عَاصِم بن رَجَاء وَمن فَوْقه إِلَى أبي الدَّرْدَاء ضعفاء، وَلَا يثبت. قَالَ: دَاوُد بن جميل، مَجْهُول، وَقَالَ الْبَزَّار: دَاوُد بن جميل وَكثير بن قيس لَا يعلمَانِ فِي غير هَذَا الحَدِيث، وَلَا نعلم روى عَن كثير غير دَاوُد والوليد بن مرّة، وَلَا نعلم روى عَن دَاوُد عَن غير عَاصِم. قَالَ ابْن الْقطَّان: اضْطربَ فِيهِ عَاصِم، فَعَنْهُ فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: قَول عبد اللَّه بن دَاوُد عَن عَاصِم بن دَاوُد عَن كثير بن قيس. الثَّانِي: قَول أبي نعيم عَن عَاصِم عَمَّن حَدثهُ عَن كثير. الثَّالِث: قَول مُحَمَّد بن يزِيد الوَاسِطِيّ عَن عَاصِم عَن كثير، لم يذكر بَينهمَا أحد. والمتحصل من حَال هَذَا الْخَبَر هُوَ الْجَهْل بِحَال رَاوِيَيْنِ من رُوَاته، وَالِاضْطِرَاب فِيهِ مِمَّن لم يثبت عَدَالَته. انْتهى. وَقد مر من عِنْد التِّرْمِذِيّ أَن مُحَمَّد بن يزِيد روى عَن مَحْمُود بن خِدَاش فَسَماهُ قيس بن كثير، فَصَارَ اضطراباً رَابِعا، وَالْخَامِس: قَالَ فِي (التَّهْذِيب) : دَاوُد بن جميل، وَقَالَ بَعضهم: الْوَلِيد بن جميل. وَفِي (جَامع بَيَان الْعلم) لِابْنِ عبد الْبر، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن عَاصِم عَن جميل بن قيس، ثمَّ قَالَ: قَالَ حَمْزَة بن مُحَمَّد، كَذَا قَالَ ابْن عَيَّاش: فِي هَذَا الْخَبَر جميل بن قيس. وَقَالَ مُحَمَّد بن يزِيد وَغَيره عَن عَاصِم عَن كثير بن قيس، قَالَ: وَالْقلب إِلَى مَا قَالَه مُحَمَّد بن يزِيد أميل، وَهَذَا اضْطِرَاب سادس. وسابع: ذكره الدَّارَقُطْنِيّ، وَقد تقدم. وثامن: ذكره ابْن قَانِع فِي كتاب الصَّحَابَة، وَزعم أَن كثير بن قيس صَحَابِيّ، وَأَنه هُوَ الرَّاوِي عَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، هَذَا الحَدِيث، وَتبع ابْن القانع ابْن الْأَثِير على هَذَا. وَقَول ابْن الْقطَّان: لَا يعلم كثير فِي غير هَذَا الحَدِيث يردهُ قَول أبي عمر: روى عَن أبي الدَّرْدَاء، وَعبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَمَعَ ذَلِك فقد قَالَ أَبُو عمر: قَالَ حَمْزَة: وَهُوَ حَدِيث حسن غَرِيب. وَالْتزم الْحَاكِم صِحَّته، وَكَذَلِكَ ابْن حبَان رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الثَّقَفِيّ: ثَنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، قَالَ: ثَنَا عبد اللَّه بن دَاوُد، فَذكره مطولا. وَلما ذكر فِي (كتاب الضُّعَفَاء) تأليفه حَدِيث جَابر بن عبد اللَّه قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أكْرمُوا الْعلمَاء فَإِنَّهُم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء) قَالَ: فِيهِ الضَّحَّاك بِهِ حَمْزَة، وَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقد رُوِيَ: (الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء) بأسانيد صَالِحَة، وَرَوَاهُ أَبُو عمر من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم عَن خَالِد بن يزِيد عَن عُثْمَان بن أَيمن عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ، وَلما ذكر الْخَطِيب فِي (تَارِيخه) حَدِيث نَافِع عَن مَوْلَاهُ ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (حَملَة الْعلم فِي الدُّنْيَا خلفاء الْأَنْبِيَاء، وَفِي الْآخِرَة من الشُّهَدَاء) . قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر لم نَكْتُبهُ إلاَّ بِهَذَا السَّنَد، وَهُوَ غير ثَابت، وَإِنَّمَا سمى الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء لقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} (فاطر: 32) . قَوْله: (ورثوا الْعلم) ، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء من التوريث. وَيجوز بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء المخففة، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى الْأَنْبِيَاء فِي قِرَاءَة التَّشْدِيد، وَإِلَى الْعلمَاء فِي قِرَاءَة التَّخْفِيف، وَأعَاد بَعضهم الضَّمِير إِلَى الْعلمَاء فِي الْوَجْهَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيح، وَيجوز ضم الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة أَيْضا، فعلى هَذَا يرجع الضَّمِير أَيْضا إِلَى الْعلمَاء. قَوْله: (من أَخذه) أَي: من أَخذ الْعلم من مِيرَاث النُّبُوَّة أَخذ بحظ، أَي: بِنَصِيب وافر كثير كَامِل، فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يفصح البُخَارِيّ بِكَوْن هَذَا حَدِيثا. قلت: للعلل الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَلذَا لَا يعد أَيْضا من تعاليقه، وَلَكِن إِيرَاده فِي التَّرْجَمَة يشْعر بِأَن لَهُ أصلا، وَشَاهده فِي الْقُرْآن.
ومَنَ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ بِهِ عِلْماً سَهَّلَ الله لَهُ طَرِيقاً إِلى الجَنةِ
هَذَا أخرجه مُسلم من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل أَوله: (من نفس عَن مُؤمن كربَة)
الحَدِيث، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقَالَ: حَدِيث حسن. فَإِن قلت: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلذَا أخرجه مُسلم، فَكيف اقْتصر التِّرْمِذِيّ على قَوْله: حسن، وَلم يقل: حسن صَحِيح؟ قلت: لِأَنَّهُ يُقَال: إِن الْأَعْمَش دلّس فِيهِ، فَقَالَ: حدثت عَن أبي صَالح، وَلَكِن فِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي أُسَامَة عَن الْأَعْمَش: حَدثنَا أَبُو صَالح، فانتفت تُهْمَة تدليسه. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن أبي الْأَحْوَص عَن هَارُون بن عنترة عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، مَوْقُوفا. قَوْله: (يطْلب) جملَة وَقعت حَالا، وَالضَّمِير فِي: بِهِ، رَجَعَ إِلَى المسلك الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: سلك، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . قَوْله: (علما) ، إِنَّمَا نكره ليتناول

(2/40)


أَنْوَاع الْعُلُوم الدِّينِيَّة، وليندرج فِيهِ الْقَلِيل وَالْكثير. قَوْله: (سهل الله لَهُ) ، أَي فِي الْآخِرَة، أَو المُرَاد مِنْهُ: وَفقه الله للأعمال الصَّالِحَة فيوصله بهَا إِلَى الْجنَّة أَو: سهل عَلَيْهِ مَا يزِيد بِهِ علمه، لِأَنَّهُ أَيْضا من طرق الْجنَّة بل أقربها.
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {إنَّما يَخْشَى الله مِن عِبادِهِ العُلَماءُ} (فاطر: 28)

هَذَا فِي الْمَعْنى عطف على قَوْله: لقَوْل الله تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} (مُحَمَّد: 19) . الْمَعْنى؛ إِنَّمَا يخَاف الله من عباده الْعلمَاء، أَي: من علم قدرته وسلطانه، وهم الْعلمَاء. قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: المُرَاد الْعلمَاء الَّذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَمَا لَا يجوز، فعظموه وقدروه وخشوه حق خَشيته، وَمن ازْدَادَ بِهِ علما ازْدَادَ مِنْهُ خوفًا، وَمن كَانَ عَالما بِهِ كَانَ آمنا. وَفِي الحَدِيث: (أعلمكُم بِاللَّه أَشدّكُم لَهُ خشيَة) . وَقَالَ رجل لِلشَّعْبِيِّ: افتني أَيهَا الْعَالم؟ فَقَالَ: الْعَالم من خشِي الله. وَقيل: نزلت فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، وَقد ظهر عَلَيْهِ الخشية حَتَّى عرفت. انْتهى. وقرىء: (إِنَّمَا يخْشَى الله) بِرَفْع لَفْظَة: الله، وَنصب: الْعلمَاء، وَهُوَ قِرَاءَة عمر بن عبد الْعَزِيز وَأبي حنيفَة، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَوجه هَذِه الْقِرَاءَة أَن الخشية فِيهَا تكون اسْتِعَارَة، وَالْمعْنَى: إِنَّمَا يجلهم ويعظمهم، وَمن لَوَازِم الخشية التَّعْظِيم، فَيكون هَذَا من قبيل ذكر الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم. وَفِي أَيَّام اشتغالي على الإِمَام الْعَلامَة أبي الرّوح شرف الدّين عِيسَى السِّرّ ماري فِي علمي التَّفْسِير والمعاني وَالْبَيَان، تغمده الله برحمته، حضر شخص من أهل الْعلم وَقت الدَّرْس وَسَأَلَهُ عَن هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: خشيَة الله تَعَالَى مَقْصُورَة على الْعلمَاء بقضية الْكَلَام، وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى أَن الْجنَّة لمن خشِي، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك لمن خشِي ربه} (الْبَيِّنَة: 8) فليزم من ذَلِك أَن لَا تكون الْجنَّة إِلَّا للْعُلَمَاء خَاصَّة، فَسكت جَمِيع من كَانَ هُنَاكَ من الْفُضَلَاء الأذكياء الَّذين كَانَ كل مِنْهُم يزْعم أَنه المفلق فِي العلمين الْمَذْكُورين، فَأجَاب الشَّيْخ، رَحمَه الله: إِن المُرَاد من الْعلمَاء: الموحدون، وَإِن الْجنَّة لَيست إلاَّ للموحدين الَّذين يَخْشونَ الله تَعَالَى. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذِه الْآيَة فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ ظَاهر، وَذَلِكَ أَن الْبَاب فِي الْعلم، وَالْآيَة فِي مدح الْعلمَاء، وَلم يستحقوا هَذَا الْمَدْح إلاَّ بِالْعلمِ.
وَقَالَ {وَمَا يَعْقِلُها إِلاَّ العالِمُون} (العنكبوت: 43)
أَي: وَمَا يعقل الْأَمْثَال المضروبة إلاَّ الْعلمَاء الَّذين يعْقلُونَ عَن الله، وروى جَابر، رَضِي الله عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تَلا هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: الْعَالم الَّذِي عقل عَن الله فَعمل بِطَاعَتِهِ واجتنب سخطه) . وَوجه إدخالها فِي التَّرْجَمَة مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْآيَة السَّابِقَة.
وَقَالُوا: {لَو كُنّا نَسْمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا فِي أصْحابِ السَّعِيرِ} (الْملك: 10)
هَذَا حِكَايَة عَن قَول الْكفَّار حِين دُخُولهمْ النَّار، أَي: لَو كُنَّا نسْمع الْإِنْذَار سَماع طَالِبين للحق، أَو نعقله عقل متأملين، وَإِنَّمَا حذف مفعول نعقل لِأَنَّهُ جعل كالفعل اللَّازِم، وَالْمعْنَى: لَو كُنَّا من أهل الْعلم لما كُنَّا من أهل النَّار، وَإِنَّمَا جمع بَين السّمع وَالْعقل لِأَن مدَار التَّكْلِيف على أَدِلَّة السّمع وَالْعقل. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ لَو كُنَّا نسْمع سمع من يعي، أَو نعقل عقل من يُمَيّز وَينظر، مَا كُنَّا من أهل النَّار. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (إِن لكل شَيْء دعامة، ودعامة الْمُؤمن عقله) . فبقدر مَا يعقل يعبد ربه، وَلَقَد نَدم الْفجار يَوْم الْقِيَامَة فَقَالُوا: {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} (الْملك: 10) روى أنس، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا؛ (إِن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم من فجور الْفَاجِر، وَإِنَّمَا يرْتَفع الْعباد غَدا فِي الدَّرَجَات، وينالون الزلفى من رَبهم على قدر عُقُولهمْ. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذِه الْآيَة فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: وَجهه أَن المُرَاد من الْعقل الْعلم هَهُنَا، فَإِن الْكفَّار تمنوا أَن لَو كَانَ لَهُم الْعلم لما دخلُوا النَّار.
وَقَالَ {هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعلَمُون والذِينَ لاَ يَعلمُون} (الزمر: 9)
أَرَادَ بالذين يعلمُونَ: العاملين من عُلَمَاء الدّيانَة، كَأَنَّهُ جعل من لَا يعْمل غير عَالم، وَفِيه ازدراء عَظِيم بالذين يقتنون الْعُلُوم ثمَّ يفتنون بالدنيا، وَوجه دُخُولهَا فِي التَّرْجَمَة هُوَ أَن الله تَعَالَى نفى الْمُسَاوَاة بَين الْعلم وَالْجَاهِل، وَيَقْتَضِي نفي الْمُسَاوَاة أَيْضا بَين الْعَالم وَالْجَاهِل، وَفِيه مدح للْعلم وذم للْجَهْل.
وَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَن يُرِدِ الله بِهِ خَيراً يُفَقِّههُ

(2/41)


ذكره مُعَلّقا، وَقد علم أَن مَا كَانَ من هَذَا فَهُوَ عِنْده فِي حكم الْمُتَّصِل لإيراده لَهُ بِصِيغَة الْجَزْم، مَعَ أَنه ذكره مَوْصُولا بعد هَذَا ببابين، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، من حَدِيث مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (يفقهه) أَي: يفهمهُ، إِذْ الْفِقْه فِي اللُّغَة الْفَهم. قَالَ تَعَالَى {يفقهوا قولي} (طه: 28) أَي: يفهموا قولي، من فقه يفقه، من بَاب: علم يعلم، ثمَّ خص بِهِ علم الشَّرِيعَة، والعالم بِهِ يُسمى فَقِيها. وَجَاء: فقه، بِالضَّمِّ، فقاهة، وَهَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين: يفقه، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بِالْهَاءِ الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة بعْدهَا مِيم، وَأخرجه ابْن أبي عَاصِم بِهَذَا اللَّفْظ فِي كتاب الْعلم من طَرِيق ابْن عمر عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا بِإِسْنَاد حسن.
{وَإِنَّمَا العِلم بالتَّعَلُّمِ}

قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ. قلت: هَذَا حَدِيث مَرْفُوع أوردهُ ابْن أبي عَاصِم وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ، بِلَفْظ: (يَا أَيهَا النَّاس تعلمُوا إِنَّمَا الْعلم بالتعلم، وَالْفِقْه بالتفقه وَمن يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين) ، إِسْنَاده حسن، والمبهم الَّذِي فِيهِ اعتضد بمجيئه من وَجه آخر، وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب (الْفَقِيه والمتفقه) من حَدِيث مَكْحُول عَن مُعَاوِيَة وَلم يسمع مِنْهُ. قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا الْعلم بالتعلم وَالْفِقْه بالتفقه) . وروى الْبَزَّار نَحوه من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا: (بالتعلم) ، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد اللَّام، وَفِي بعض النّسخ بالتعليم، أَي لَيْسَ الْعلم المعتد إلاَّ الْمَأْخُوذ عَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، على سَبِيل التَّعَلُّم والتعليم، فيفهم مِنْهُ أَن الْعلم لَا يُطلق إلاَّ على علم الشَّرِيعَة، وَلِهَذَا لَو أوصى رجل للْعُلَمَاء لَا ينْصَرف إلاَّ على أَصْحَاب الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه.
وَقَالَ أبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصمَّصْامَةَ على هَذِه، وأشارَ إِلَى قَفَاهُ، ثمَّ ظَنَنْتُ أنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُها مِنَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ أَن تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُها.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الدَّارمِيّ مَوْصُولا فِي (مُسْنده) من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي مرْثَد بن أبي مرْثَد عَن أَبِيه قَالَ: (أتيت أَبَا ذَر وَهُوَ جَالس عِنْد الْجَمْرَة الْوُسْطَى، وَقد اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ يستفتونه، فَأَتَاهُ رجل فَوقف عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: ألَمْ تُنْهَ عَن الْفتيا؟ فَرفع رَأسه إِلَيْهِ، فَقَالَ: أرقيب أَنْت عَليّ؟ لَو وضعتم) فَذكر مثله. وَرَوَاهُ أَحْمد بن منيع عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِي، عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن مرْثَد بن أبي مرْثَد عَن أَبِيه قَالَ: (جَلَست إِلَى أبي ذَر الْغِفَارِيّ، رَضِي الله عَنهُ، إِذْ وقف عَلَيْهِ رجل فَقَالَ: ألم ينهك أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن الْفتيا؟ فَقَالَ أَبُو ذَر: وَالله لَو وضعتم الصمصامة على هَذِه، وَأَشَارَ إِلَى حلقه، على أَن أترك كلمة سَمعتهَا من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأنفذتها قبل أَن يكون ذَلِك) . قلت: كَانَ سَبَب ذَلِك أَن أَبَا ذَر كَانَ بِالشَّام، وَاخْتلف مَعَ مُعَاوِيَة فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 24) فَقَالَ مُعَاوِيَة: نزلت فِي أهل الْكتاب خَاصَّة، وَقَالَ أَبُو ذَر: نزلت فِينَا وَفِيهِمْ، فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَأرْسل إِلَى أبي ذَر، فحصلت مُنَازعَة أدَّت إِلَى انْتِقَال أبي ذَر عَن الْمَدِينَة، فسكن الربذَة، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة، إِلَى أَن مَاتَ، وَقد ذَكرْنَاهُ، واسْمه جند بن جُنَادَة. قَوْله: (الصمصامة) قَالَ الْجَوْهَرِي: الصمصام والصمصامة: السَّيْف الصارم الَّذِي لَا ينثني، وَأَشَارَ بقوله: هَذِه، إِلَى: الْقَفَا، والقفا: يذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ مَقْصُور مُؤخر الْعُنُق. قَوْله: (أنفذ) ، بِضَم الْهمزَة والذال الْمُعْجَمَة، أَي ظَنَنْت أَنِّي أقدر على إِنْفَاذ كلمة أَي: تبليغها. وَقَوله: (قبل أَن تجيزوا) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَبعد الْيَاء زَاي مُعْجمَة، أَي قبل أَن يقطعوا عَليّ، أَرَادَ بِهِ: قبل أَن يقطعوا رَأْسِي. وَقَالَ الصغاني: والتركيب يدل على قطع الشَّيْء. قلت: وَمِنْه قَوْله:
(حَتَّى أجَاز الْوَادي)

أَي: قطعه.

(فَأَكُون أول من يُجِيز)

أَي: أول من يقطع مَسَافَة الصِّرَاط. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وتجيزوا، أَي الصمصامة عَليّ، أَي: على قفاي. قلت: هُوَ من أجَاز الشَّيْء إِذا انفذه، و: الصمصامة، مَفْعُوله، وَكلمَة: على لَيست صلَة لأجل التَّعَدِّي. وَحَاصِل الْمَعْنى: أَنه يبلغ مَا يحملهُ فِي كل حَال، وَلَا ينثني عَن ذَلِك، وَلَو عرض عَلَيْهِ الْقَتْل أَو وضع على قَفاهُ السَّيْف، وَفِيه دَلِيل على أَن أَبَا ذَر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ لَا يرى بِطَاعَة الإِمَام إِذا نَهَاهُ عَن الْفتيا، لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَن ذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ لأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتبليغ عَنهُ، وَلَعَلَّه أَيْضا سمع الْوَعيد فِي حق من كتم علما يُعلمهُ. فَإِن قلت: لَو لِامْتِنَاع الثَّانِي لِامْتِنَاع الأول على الْمَشْهُور، فَمَعْنَاه: انْتَفَى الإنفاذ لانْتِفَاء الْوَضع، وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ. قلت: هُوَ مثل: (لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ) . يَعْنِي: يكون الحكم ثَابتا على تَقْدِير النقيض بِالطَّرِيقِ الأولى، فَالْمُرَاد أَن الإنفاذ حَاصِل على تَقْدِير الْوَضع، وعَلى تَقْدِير عدم الْوَضع حُصُوله أولى، أَو إِن: لَو هَهُنَا لمُجَرّد الشَّرْط يَعْنِي حكمهَا حكم: إِن، من

(2/42)


غير مُلَاحظَة الِامْتِنَاع. وَفِيه من الْفِقْه أَنه يجوز للْعَالم أَن يَأْخُذ فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بالشدة، ويتحمل الْأَذَى، ويحتسب رَجَاء ثَوَاب الله تَعَالَى، وَيُبَاح لَهُ أَن يسكت إِذا خَافَ الْأَذَى كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ: لَو حدثتكم بِكُل مَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقطع هَذَا البلعوم، وَعنهُ: لَو حدثتكم بِكُل مَا فِي جوفي لرميتموني بالبعر. وَقَالَ الْحسن: صدق، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مَا يتَعَلَّق بالفتن مِمَّا لَا يتَعَلَّق بِذكرِهِ مصلحَة شَرْعِيَّة.
وَقَالَ ابنُ عَباسٍ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَماءَ فُقَهاءَ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب (الْفَقِيه والمتفقه) بِسَنَد صَحِيح عَن أبي بكر الْحَرْبِيّ: ثَنَا أَبُو مُحَمَّد حَاجِب ابْن أَحْمد الطوسي، ثَنَا عبد الرَّحِيم بن حبيب، ثَنَا الفضيل ابْن عِيَاض عَن عَطاء عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ. وَرَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب (الْعلم) عَن الْمقدمِي: ثَنَا أَبُو دَاوُد عَن معَاذ عَن سماك عَن عِكْرِمَة عَنهُ، وَقد فسر ابْن عَبَّاس: الرباني بِأَنَّهُ الْحَكِيم الْفَقِيه، وَوَافَقَهُ ابْن مَسْعُود فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي غَرِيبه عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح، والرباني: مَنْسُوب إِلَى الرب، وَأَصله الربي، فزيدت فِيهِ الْألف وَالنُّون للتَّأْكِيد وَالْمُبَالغَة فِي النِّسْبَة. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي كِتَابه (الْمُنْتَهى) : فِي اللُّغَة الرباني: المتأله الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى، وربيت الْقَوْم سستهم أَي: كنت فَوْقهم. وَقَالَ أَبُو نصر: هُوَ من الربوبية، وَعَن ابْن الْأَعرَابِي لَا يُقَال للْعَالم رباني حَتَّى يكون عَالما معلما. وَيُقَال: هُوَ العالي الدرجَة فِي الْعلم، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: الرباني مَنْسُوب إِلَى الرب كَأَنَّهُ الَّذِي يقْصد مَا أمره الرب، وَفِي كتاب (الْفَقِيه) للخطيب عَن مُجَاهِد: الربانيون الْفُقَهَاء، وهم فَوق الْأَحْبَار. وَقَالَ نفطويه: قَالَ أَحْمد بن يحيى: إِنَّمَا قيل للْعُلَمَاء ربانيون لأَنهم يربون الْعلم، أَي: يقومُونَ بِهِ. وَفِي كتاب (الْفِقْه) عَنهُ إِذا كَانَ الرجل عَالما عَاملا معلما قيل لَهُ: هَذَا رباني. فَإِن خرم خصْلَة مِنْهَا لم يقل لَهُ رباني. وَعند الطَّبَرِيّ عَن ابْن زيد: الربيون الأتباع، والربانيون الْوُلَاة، والربيون الرّعية. وَعَن الْأَزْهَرِي: هم أَرْبَاب الْعلم الَّذين يعلمُونَ مَا يعلمُونَ. وَقَالَ أَبُو عبيد: سَمِعت رجلا عَالما بالكتب يَقُول: الربانيون الْعلمَاء بالحلال وَالْحرَام. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الربي، وَالْجمع: ربيون: هم الْعباد الَّذين يصحبون الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، ويصبرون مَعَهم، وهم الربانيون، نسبوا إِلَى عبَادَة الرب، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقيل: هم الْعلمَاء الصَّبْر. وَقيل: لَيْسَ ربيون بلغَة الْعَرَب، إِنَّمَا هِيَ سريانية أَو عبرانية. وَحكي عَن بعض اللغويين أَن الْعَرَب لَا تعرف الرباني، وَقَالَ: إِنَّمَا فسره الْفُقَهَاء. قَالَ الْقَزاز: وَأَنا أرى أَن يكون عَرَبيا. قَوْله: (حكماء) جمع حَكِيم، وَالْحكمَة صِحَة القَوْل وَالْعقد وَالْفِعْل، وَيُقَال: الْحِكْمَة، الْفِقْه فِي الدّين. وَقيل: الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْفُقَهَاء جمع فَقِيه، وَالْفِقْه: الْفَهم لُغَة، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة العملية من أدلتها التفصيلية، وَفِي بعض النّسخ: (حلماء) ، جمع حَلِيم بِاللَّامِ، والحلم هُوَ الطُّمَأْنِينَة عِنْد الْغَضَب، وَفِي بَعْضهَا عُلَمَاء، وَهُوَ من بَاب ذكر الْخَاص بعد الْعَام، وَالظَّاهِر أَن حكماء وفقهاء تَفْسِير للربانيين.
ويُقالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي الناسَ بِصِغارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ

هَذَا حِكَايَة البُخَارِيّ عَن قَول بَعضهم، وَهُوَ من التربية أَي: الَّذِي يُربي النَّاس بجزئيات الْعلم قبل كلياته، أَو بفروعه قبل أُصُوله، أَو بمقدماته قبل مقاصده. فَإِن قلت: هَذَا كُله هُوَ التَّرْجَمَة، فَأَيْنَ مَا هَذِه تَرْجَمته؟ قلت: إِمَّا أَنه أَرَادَ أَن يلْحق الْأَحَادِيث الْمُنَاسبَة إِلَيْهَا، فَلم يتَّفق لَهُ. وَإِمَّا أَنه للإشعار بِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ مَا يُنَاسِبهَا، وَإِمَّا أَنه اكْتفى بِمَا ذكره تَعْلِيقا، لِأَن الْمَقْصُود من الْبَاب بَيَان فَضِيلَة الْعلم، وَيعلم ذَلِك من الْمَذْكُور آيَة وحديثاً وإجماعاً سكوتياً من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، بِحَيْثُ انْتهى إِلَى حد علم الضَّرُورَة فَلم يحْتَج إِلَى الزِّيَادَة، أَو لسَبَب آخر، وَالله أعلم.