عمدة القاري شرح صحيح البخاري

17 - (بَاب قوْل النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا لفظ الحَدِيث، وَضعه تَرْجَمَة على صُورَة التَّعْلِيق، ثمَّ ذكره مُسْندًا، وَهل يُقَال لمثله مُرْسل أم لَا؟ فِيهِ خلاف. فَإِن قلت: مَا أَرَادَ من وضع هَذَا تَرْجَمَة؟ قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن هَذَا لَا يخْتَص جَوَازه بِابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن من جملَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول غَلَبَة ابْن عَبَّاس على حر بن قيس فِي تماريهما فِي صَاحب مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَاكَ من كَثْرَة علمه وغزارة فَضله، وَفِي هَذَا الْبَاب إِشَارَة إِلَى أَن علمه الغزير وفضيلته الْكَامِلَة ببركة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ لَهُ: (اللَّهُمَّ علمه الْكتاب) . وَوجه آخر: أَن فِي الْبَاب الأول بَيَان استفادة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْخضر من الْعلم الَّذِي لم يكن عِنْده من ذَلِك شَيْء، وَفِي هَذَا الْبَاب بَيَان استفادة ابْن عَبَّاس علم الْكتاب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

75 - حدّثناأبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوَارثِ قَالَ: حَدثنَا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّني رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَّمُهُ الكِتابَ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، بل هُوَ عين التَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد اللَّه بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج ميسرَة، الْبَصْرِيّ المقعد، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين، الْمنْقري الْحَافِظ الْحجَّة، سمع عبد الْوَارِث الدَّرَاورْدِي وَغَيرهمَا، روى عَنهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالْبُخَارِيّ، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ. قَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ثِقَة عَاقل، وَفِي رِوَايَة: ثَبت، وَكَانَ يَقُول بِالْقدرِ، توفّي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد ابْن ذكْوَان التَّمِيمِي الْعَنْبَري أَبُو عُبَيْدَة الْبَصْرِيّ، روى عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَغَيره، قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة حجَّة. توفّي بِالْبَصْرَةِ فِي الْمحرم سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، أَبُو الْمنَازل، بِضَم الْمِيم، كَذَا ذكره أَبُو الْحسن، وَقَالَ عبد الْغَنِيّ: مَا كَانَ من منَازِل فَهُوَ بِضَم الْمِيم إلاَّ يُوسُف بن منَازِل فَإِنَّهُ بِفَتْح الْمِيم. قَالَ الْبَاجِيّ: قَرَأت على الشَّيْخ أبي ذَر، يَعْنِي الْهَرَوِيّ، فِي كتاب (الْأَسْمَاء والكنى) لمُسلم: خَالِد بن مهْرَان أَبُو الْمنَازل، بِفَتْح الْمِيم، وَكَذَا ذكره فِي سَائِر الْبَاب، وَالضَّم أظهر. وَقَالَ مُحَمَّد ابْن سعد: هُوَ مولى لأبي عبد اللَّه عَامر بن كريز الْقرشِي، وَلم يكن بحذّاء إِنَّمَا كَانَ يجلس إِلَيْهِم. يُقَال إِنَّه مَا حذا نعلا قطّ، وَإِنَّمَا كَانَ يجلس إِلَى صديق لَهُ حذاء. وَقيل: إِنَّه كَانَ يَقُول: أخذُوا عَليّ هَذَا النَّحْو، فلقب بِهِ. تَابِعِيّ، رأى أنس بن مَالك، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ يحيى وَأحمد: ثِقَة، توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى عبد اللَّه بن عَبَّاس، أَبُو عبد اللَّه الْمدنِي. أَصله من البربر من أهل الْمغرب، سمع مَوْلَاهُ وَعبد اللَّه بن عمر وخلقاً من الصَّحَابَة، وَكَانَ من الْعلمَاء فِي زَمَانه بِالْعلمِ وَالْقُرْآن، وَعنهُ أَيُّوب وخَالِد الْحذاء وَخلق، وَتكلم فِيهِ بِرَأْيهِ، رَأْي الْخَوَارِج، وَأطلق نَافِع وَغَيره عَلَيْهِ الْكَذِب، وروى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بطاوس وَسَعِيد بن جُبَير، وَاعْتَمدهُ البُخَارِيّ فِي أَكثر مَا يَصح عَنهُ من الرِّوَايَات، وَرُبمَا عيب عَلَيْهِ إِخْرَاج حَدِيثه، وَمَات ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة مَمْلُوك فَبَاعَهُ عَليّ ابْنه من خَالِد بن مُعَاوِيَة بأَرْبعَة آلَاف دِينَار، فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَة: بِعْت علم أَبِيك بأَرْبعَة آلَاف دِينَار؟ فاستقاله فأقاله وَأعْتقهُ. وَكَانَ جوالاً فِي الْبِلَاد، وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة خمس، أَو سِتّ، أَو سبع وَمِائَة، وَمَات مَعَه فِي ذَلِك الْيَوْم كُثَيِّر الشَّاعِر، فَقيل: مَاتَ الْيَوْم أفقه النَّاس وأشعر النَّاس. وَقيل: مَاتَ عِكْرِمَة سنة خمس عشرَة وَمِائَة، وَقد بلغ ثَمَانِينَ. وَاجْتمعَ حفاظ ابْن عَبَّاس على عِكْرِمَة، فيهم عَطاء وَطَاوُس

(2/65)


وَسَعِيد بن جُبَير فَجعلُوا يسْأَلُون عِكْرِمَة عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَجعل يُحَدِّثهُمْ. وَسَعِيد كلما حدث بِحَدِيث وضع أُصْبُعه الْإِبْهَام على السبابَة، أَي سوى، حَتَّى سَأَلُوهُ عَن الْحُوت وقصة مُوسَى، فَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَ يسايرهما فِي ضحضاح من المَاء، فَقَالَ سعيد: أشهد على ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: يحملانه فِي مكتل، يعْنى الزنبيل. قَالَ أَيُّوب: ورأيي، وَالله أعلم، أَن ابْن عَبَّاس حدث بالخبرين جَمِيعًا. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْمنْقري، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْقَاف بعْدهَا رَاء، نِسْبَة إِلَى منقر بن عبيد بن الْحَارِث، وَهُوَ مقاعس بن عَمْرو بن كَعْب بن سعيد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. قَالَ ابْن دُرَيْد: من نقرت عَن الْأَمر: كشفت عَنهُ. التَّمِيمِي: فِي مُضر ينْسب إِلَى تَمِيم بن مر ابْن أد بن طابخة بن الياس. الْعَنْبَري، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا رَاء، فِي تَمِيم ينْسب إِلَى العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث، والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته بصريون خلا عِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس. وهما أَيْضا سكنا الْبَصْرَة مُدَّة. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده على شَرط الْأَئِمَّة السِّتَّة، قَالَه بعض الشَّارِحين. وَفِيه نظر. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه هُنَا عَن أبي معمر، وَأخرجه أَيْضا فِي فَضَائِل الصَّحَابَة عَن أبي معمر ومسدد عَن عبد الْوَارِث وَعَن مُوسَى عَن وهيب، كِلَاهُمَا عَن خَالِد، قَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي: هُوَ عِنْد القواريري عَن عبد الْوَارِث، وَأخرجه أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن عبد اللَّه بن مُحَمَّد، حَدثنَا هَاشم بن الْقَاسِم. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل ابْن عَبَّاس، حَدثنَا زُهَيْر وَأَبُو بكر بن أبي النَّصْر، حَدثنَا هَاشم بن الْقَاسِم، حَدثنَا وَرْقَاء عَن عبيد اللَّه بن أبي يزِيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن بشار عَن الثَّقَفِيّ عَن عبد الْوَارِث بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمر بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأبي بكر بن خَلاد، كِلَاهُمَا عَن الثَّقَفِيّ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (ضمني) : من ضم يضم ضماً، وضممت الشَّيْء إِلَى الشَّيْء فانضم إِلَيْهِ، وَهُوَ من بَاب: نصر ينصر. قَوْله: (اللَّهُمَّ) أَصله: يَا الله، فَحذف حرف النداء وَعوض عَنهُ الْمِيم، وَلذَلِك لَا يَجْتَمِعَانِ. وَأما قَول الشَّاعِر:

(وَمَا عَلَيْك أَن تَقول كلماسبحت أَو صليت يَا اللهما)

ارْدُدْ علينا شَيخنَا مُسلما
فَلَيْسَ يثبت، وَهَذَا من خَصَائِص اسْم الله تَعَالَى، كَمَا اخْتصَّ بِالْبَاء فِي الْقسم، وبقطع همزته فِي: يَا الله، وَبِغير ذَلِك. وَكَأَنَّهُم لما أَرَادوا أَن يكون نداؤه باسمه متميزاً عَن نِدَاء عباده باسمائهم من أول الْأَمر، حذفوا حرف النداء من الأول وَزَادُوا الْمِيم لقربها من حرف الْعلَّة، كالنون فِي الآخر، وخصت لِأَن النُّون كَانَت ملتبسة بضمير النِّسَاء صُورَة، وشددت لِأَنَّهَا خلف من حرفين، وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهٍ أَن لَا تُوصَف، لِأَن وُقُوع خلف حرف النداء بَين الْمَوْصُوف وَالصّفة، كوقوع حرف النداء بَينهمَا، وَمذهب الْكُوفِيّين أَن أَصله: يَا الله أم، أَي: أقصد بِخَير، فتصرف فِيهِ، وَرجح الْأَكْثَرُونَ قَول الْبَصرِيين، وَرجح الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ قَول الْكُوفِيّين من وَجه وَكَأن الأَصْل أَن: يَا، الَّذِي هُوَ حرف النداء لَا يدْخل على مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام إلاَّ بِوَاسِطَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} (المزمل: 1) وَشبهه، وَإِنَّمَا ادخلوها هُنَا لخصوصية هَذَا الِاسْم الشريف بِاللَّه تَعَالَى، وَاللَّام فِيهِ لَازِمَة غير مُفَارقَة لِأَنَّهَا عوض عَمَّا حذف مِنْهُ، وَهِي الْهمزَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (ضمني) فعل ومفعول، و: (رَسُول الله) فَاعله، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. قَوْله: (وَقَالَ) ، عطف على: (ضمني) . قَوْله: (اللَّهُمَّ علمه الْكتاب) ، مقول القَوْل، وَالْهَاء فِي: علمه، مفعول أول لعلم، و: الْكتاب، مفعول ثَان. فَإِن قلت: هَذَا الْبَاب، أَعنِي: التَّعْلِيم، يتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَة مفاعيل، ومفعوله الأول كمفعول أَعْطَيْت، وَالثَّانِي وَالثَّالِث كمفعولي: علمت، يَعْنِي لَا يجوز حذف الثَّانِي أَو الثَّالِث فَقَط، فَكيف هَهُنَا؟ قلت: علمه بِمَعْنى عرفه، فَلَا يَقْتَضِي إلاَّ مفعولين.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (ضمني) فِيهِ حذف تَقْدِيره ضمني إِلَى نَفسه، أَو إِلَى صَدره، وَقد جَاءَ بذلك مُصَرحًا فِي رِوَايَته الْأُخْرَى عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَارِث: (إِلَى صَدره) . قَوْله: (الْكتاب) أَي: الْقُرْآن، لِأَن الْجِنْس الْمُطلق مَحْمُول على الْكَامِل، وَلِأَن الْعرف الشَّرْعِيّ عَلَيْهِ، أَو لِأَن اللَّام للْعهد. فَإِن قلت: المُرَاد نفس الْقُرْآن أَي: لَفظه، أَو مَعَانِيه أَي: أَحْكَام الدّين؟ قلت: اللَّفْظ، بِاعْتِبَار دلَالَته على مَعَانِيه، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسَدّد: (الْحِكْمَة) بدل: (الْكتاب) . وَذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن ذَلِك هُوَ الثَّابِت فِي الطّرق كلهَا عَن خَالِد الْحذاء، وَفِيه نظر، لِأَن البُخَارِيّ أخرجه أَيْضا من حَدِيث وهيب عَن خَالِد بِلَفْظ: الْكتاب،

(2/66)


أَيْضا فَيحمل على أَن المُرَاد بالحكمة أَيْضا الْقُرْآن، فَيكون بَعضهم رَوَاهُ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَمن يُؤْت الْحِكْمَة} الْآيَة (الْبَقَرَة: 269) . إِن الْحِكْمَة الْقُرْآن. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دَعَا لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَوتى الْحِكْمَة مرَّتَيْنِ. قلت: يحْتَمل تعدد الْوَاقِعَة فَيكون المُرَاد بِالْكتاب الْقُرْآن، وبالحكمة السّنة، وَقد فسرت الْحِكْمَة بِالسنةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة} (الْبَقَرَة: 129) قَالُوا: المُرَاد بالحكمة هُنَا السّنة الَّتِي سنّهَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِوَحْي من الله تَعَالَى، وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة عبد اللَّه بن أبي يزِيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، الَّتِي أخرجهَا الشَّيْخَانِ بِلَفْظ: (اللَّهُمَّ فقهه) ، وَزَاد البُخَارِيّ فِي رِوَايَة: (فِي الدّين) . وَذكر الْحميدِي فِي (الْجمع) : أَن أَبَا مَسْعُود ذكر فِي (أَطْرَاف الصَّحِيحَيْنِ) ، بِلَفْظ: (اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل) . قَالَ الْحميدِي: هَذِه الزِّيَادَة لَيست فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهِي فِي رِوَايَة سعيد بن جُبَير عِنْد أَحْمد وَابْن حبَان، وَوَقع فِي بعض نسخ ابْن مَاجَه من طَرِيق عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن خَالِد الْحذاء بِلَفْظ: (اللَّهُمَّ علمه الْحِكْمَة وَتَأْويل الْكتاب) . وَهَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة من هَذَا الْوَجْه، وَقد رَوَاهَا التِّرْمِذِيّ والإسماعيلي وَغَيرهمَا من طَرِيق عبد الْوَهَّاب بِدُونِهَا، وروى ابْن سعد من وَجه آخر عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (دَعَاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمسح على ناصيتي وَقَالَ: اللَّهُمَّ علمه الْحِكْمَة وَتَأْويل الْكتاب) . وَقد رَوَاهُ أَحْمد عَن هشيم عَن خَالِد فِي حَدِيث الْبَاب بِلَفْظ: (مسح على رَأْسِي) . فَإِن قلت: مَا معنى تَسْمِيَة الْكتاب وَالسّنة بالحكمة؟ قلت: أما الْكتاب فَلِأَن الله تَعَالَى أحكم فِيهِ لِعِبَادِهِ حَلَاله وَحَرَامه، وَأمره وَنَهْيه. وَأما السّنة فحكمة فصل بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل، وبيَّن بهَا مُجمل الْقُرْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل جَازَ أَن لَا يُسْتَجَاب دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة، وَإجَابَة الْبَاقِي فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى، وَأما هَذَا الدُّعَاء فمما لَا شكّ فِي قبُوله، لِأَنَّهُ كَانَ عَالما بِالْكتاب، حبر الْأمة، بَحر الْعلم، رَئِيس الْمُفَسّرين، ترجمان الْقُرْآن. وَكَونه فِي الدرجَة القصوى فِي الْمحل الْأَعْلَى مِنْهُ، مِمَّا لَا يخفى. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ ابْن عَبَّاس من الْأَحْبَار الراسخين فِي علم الْقُرْآن وَالسّنة، أجيبت فِيهِ الدعْوَة، إِلَى هُنَا كَلَام الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا السُّؤَال لَا يُعجبنِي، فَإِن فِيهِ بشاعة، وَأَنا لَا أَشك أَن جَمِيع دعوات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستجابة. وَقَوله: (لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة) ، لَا يَنْفِي ذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحصور. فَإِن قلت: مَا كَانَ سَبَب هَذَا الدُّعَاء لِابْنِ عَبَّاس؟ قلت: بيَّن ذَلِك البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: (دخل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْخَلَاء فَوضعت لَهُ وضوأ) . زَاد مُسلم: (فَلَمَّا خرج ثمَّ اتفقَا قَالَ: من وضع هَذَا؟ فَأخْبر) . وَلمُسلم: (قَالُوا: ابْن عَبَّاس) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَنهُ أَن مَيْمُونَة هِيَ الَّتِي أخْبرته بذلك،، وَأَن ذَلِك كَانَ فِي بَيتهَا لَيْلًا. قلت: وَلَعَلَّ ذَلِك فِي اللَّيْلَة الَّتِي بَات فِيهَا ابْن عَبَّاس عِنْدهَا ليرى صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان استناط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بركَة دُعَائِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وإجابته. الثَّانِي: فِيهِ فضل الْعلم والحض على تعلمه وعَلى حفظ الْقُرْآن وَالدُّعَاء بذلك. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الضَّم، وَهُوَ إِجْمَاع للطفل والقادم من سفر ولغيرهما، ومكروه عِنْد الْبَغَوِيّ، وَالْمُخْتَار جَوَازه، وَمحل ذَلِك إِذا لم يؤد إِلَى تَحْرِيك شَهْوَة. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَمذهب أبي حنيفَة أَن ذَلِك يجوز إِذا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيص، وَقَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور الماتريدي: الْمَكْرُوه من المعانقة مَا كَانَ على وَجه الشَّهْوَة، وَأما على وَجه الْبر والكرامة فَجَائِز.

18 - (بَاب متَى يَصِحُّ سَماعُ الصَّغِيرِ)

وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الصَّبِي الصَّغِير، أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون، وَكلمَة: مَتى، للاستفهام. إِذا قلت: مَتى الْقِتَال؟ كَانَ الْمَعْنى الْيَوْم أم غَدا أم بعد غَد. وَبني لتَضَمّنه معنى حرف الِاسْتِفْهَام، كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور. قَالَ الْكرْمَانِي: معنى الصِّحَّة جَوَاز قبُول مسموعه. وَقَالَ بَعضهم هَذَا تَفْسِير لثمرة الصِّحَّة لَا لنَفس الصِّحَّة. قلت: كَأَنَّهُ فهم: أَن الْجَوَاز هُوَ ثَمَرَة الصِّحَّة وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْجَوَاز هُوَ الصِّحَّة وَثَمَرَة الصِّحَّة عدم ترَتّب الشَّيْء. عَلَيْهِ عِنْد الْعَمَل فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن مَا ذكر فِي الْبَاب الأول من دُعَائِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِابْنِ عَبَّاس، إِنَّمَا كَانَ وَابْن عَبَّاس إِذْ ذَاك غُلَام مُمَيّز، وَالْمَذْكُور

(2/67)


فِي هَذَا الْبَاب حَال الْغُلَام الْمُمَيز فِي السماع، على أَن الْقَضِيَّة هَهُنَا لِابْنِ عَبَّاس أَيْضا، كَمَا كَانَت فِي الْبَاب الأول، وَمرَاده الِاسْتِدْلَال على أَن الْبلُوغ لَيْسَ شرطا فِي التَّحَمُّل. وَاخْتلفُوا فِي السن الَّذِي يَصح فِيهِ السماع للصَّغِير، فَقَالَ مُوسَى بن هَارُون الْحَافِظ: إِذا فرق بَين الْبَقَرَة وَالدَّابَّة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: إِذا عقل وَضبط. وَقَالَ يحيى بن معِين: أقل سنّ التَّحَمُّل خَمْسَة عشر سنة، لكَون ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، رد يَوْم أُحد، إِذْ لم يبلغهَا، وَلما بلغ أَحْمد أنكر ذَلِك. وَقَالَ: بئس القَوْل. وَقَالَ عِيَاض: حدد أهل الصّفة ذَلِك أَن أَقَله سنّ مَحْمُود بن الرّبيع، ابْن خمس. كَذَا ذكره البُخَارِيّ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه كَانَ ابْن أَربع، وَقَالَ ابْن الصّلاح: والتحديد بِخمْس هُوَ الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ عمل أهل الحَدِيث من الْمُتَأَخِّرين، فيكتبون لِابْنِ خمس سِنِين فَصَاعِدا سمع ولدون حضر أَو أحضر، وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي ذَلِك اعْتِبَار التَّمْيِيز، فَإِن فهم الْخطاب ورد الْجَواب كَانَ مُمَيّزا وصحيح السماع، وَإِن كَانَ دون خمس. وَإِن لم يكن كَذَلِك لم يَصح سَمَاعه وَلَو كَانَ ابْن خمس، بل ابْن خمسين. وَعَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ: رَأَيْت صَبيا، ابْن أَربع سِنِين، قد حمل إِلَى الْمَأْمُون قد قَرَأَ الْقُرْآن وَنظر فِي الْآي، غير أَنه إِذا جَاع بَكَى. وَحفظ الْقُرْآن أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّه بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ وَله خمس سِنِين، فامتحنه فِيهِ أَبُو بكر بن الْمقري وَكتب لَهُ بِالسَّمَاعِ وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين، وَحَدِيث مَحْمُود لَا يدل على التَّحْدِيد بِمثل سنه.

76 - حدّثنا إِسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ قَالَ حدّثني مالِكٌ عَن ابْن شِهابٍ عنْ عُبَيدِ اللَّه ابنِ عَبْدِ اللَّه بنِ عُتْبَةَ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أقْبَلْتُ راكِباً عَلَى حِمارٍ أَتانٍ، وأنَا يوْمَئِذٍ قَدْ ناهَزْتُ الإحْتِلامَ، ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِمِنَى إِلى غَيْرِ جِدارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وأرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِك علَيَّ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْعلمَاء جوزوا الْمُرُور بَين يَدي الْمُصَلِّي، إِذا لم يكن ستْرَة، بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس هَذِه، وَابْن عَبَّاس تحمل هَذَا فِي حَالَة الصبى، فَعلم مِنْهُ قبُول سَماع الصَّبِي إِذا أَدَّاهُ بعد الْبلُوغ. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي سَماع الصَّغِير وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث سَماع الصَّبِي. قلت: الْمَقْصُود من السماع هُوَ وَمَا يقوم مقَامه لتقرير الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي مَسْأَلَتنَا لمروره. فَإِن قلت: عقد الْبَاب على الصَّبِي الصَّغِير، أَو الصَّغِير فَقَط، على اخْتِلَاف الرِّوَايَة، والمناهز للاحتلام لَيْسَ صَغِيرا، فَمَا وَجه الْمُطَابقَة؟ قلت: المُرَاد من الصَّغِير غير الْبَالِغ، وَذكره مَعَ الصَّبِي من بَاب التَّوْضِيح وَالْبَيَان.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا، وَإِسْمَاعِيل هُوَ: ابْن عبد اللَّه الْمَشْهُور بِابْن أبي أويس، ابْن أُخْت مَالك، وَابْن شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الصَّلَاة عَن عبد اللَّه بن يُوسُف والقعنبي، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك، وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن سعد عَن ابْن أخي ابْن شهَاب، وَفِي الْمَغَازِي، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وَعَن يحيى بن يحيى، وَعَمْرو النَّاقِد، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن عبد بن حميد كِلَاهُمَا عِنْد عبد الرَّزَّاق عَن معمر، خمستهم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمَالِك أبي الشَّوَارِب عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن هِشَام بن عمار عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (على حمَار) ، قَالَ فِي (الْعباب) : الْحمار العير، وَالْجمع: حمير وحمر وحمر وحمرات واحمرة ومحمور، والحمارة: الأتان، والحمارة أَيْضا: الْفرس الهجين، وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ: يالانى،، واليحمور حمَار الْوَحْش. (أتان) ، بِفَتْح الْهمزَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره نون: وَهِي الْأُنْثَى من الْحمر، وَقد يُقَال، بِكَسْر الْهمزَة، حَكَاهُ الصغاني فِي (شوارده) ،

(2/68)


وَلَا يُقَال: أتانة. وَحكى يُونُس وَغَيره: أتانة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الاتان الحمارة وَلَا يُقَال: أتانة. وَثَلَاث أتن مثل: عنَاق وأعنق، وَالْكثير اتن واتن، والمأتونا الاتن مثل، المعبورا. قَوْله: (ناهزت الِاحْتِلَام) ، أَي: قاربت يُقَال: ناهز الصَّبِي الْبلُوغ إِذا قاربه وداناه. قَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : ناهز الصَّبِي الْفِطَام دنا مِنْهُ، ونهز الشَّيْء أَي: قرب، وَقَالَ شمر: المناهزة الْمُبَادرَة، فَقيل للأسد: نهز، لِأَنَّهُ يُبَادر مَا يفترسه، والنهزة بِالضَّمِّ: الفرصة. ونهزت الشَّيْء دَفعته، ونهزت إِلَيْهِ: نهضت إِلَيْهِ. والاحتلام: الْبلُوغ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ مُشْتَقّ من الحالم بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَا يرَاهُ النَّائِم. قَوْله: (بمنى) ، مَقْصُور: مَوضِع بِمَكَّة تذبح فِيهِ الْهَدَايَا وترمى فِيهِ الجمرات. قَالَ الْجَوْهَرِي: مُذَكّر مَصْرُوف؛ قلت: لِأَنَّهُ علم للمكان فَلم يُوجد فِيهِ شَرط الْمَنْع. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ لُغَتَانِ: الصّرْف وَالْمَنْع، وَلِهَذَا يكْتب بِالْألف وَالْيَاء، والأجود صرفهَا وكتابتها بِالْألف، سميت بهَا لما يمنى بهَا من الدِّمَاء أَي: تراق. قَوْله: (ترتع) ، بتاءين مثناتين من فَوق مفتوحتين وَضم الْعين أَي: تَأْكُل مَا تشَاء، من: رتعت الْمَاشِيَة ترتع رتوعاً. وَقيل: تسرع فِي الْمَشْي وَجَاء أَيْضا، بِكَسْر الْعين على وزن تفتعل، من: الرَّعْي: وَأَصله: ترتعي، وَلَكِن حذفت الْيَاء تَخْفِيفًا، وَالْأول أصوب وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْحَج: نزلت عَنْهَا فرتعت.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَقبلت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. قَوْله: (رَاكِبًا) نصب على الْحَال. (وعَلى حمَار) يتَعَلَّق بِهِ قَوْله: (أتان) : صفة للحمار أَو بدل مِنْهُ. فَإِن قلت: من أَي قسم من أَقسَام الْبَدَل؟ قلت: قيل: إِنَّه بدل غلط، وَقَالَ القَاضِي: وَعِنْدِي أَنه بدل الْبَعْض من الْكل، إِذْ قد يُطلق الْحمار على الْجِنْس فَيشْمَل الذّكر وَالْأُنْثَى، كَمَا قَالُوا: بعير. وَقَالَ النَّوَوِيّ والقرطبي وَغَيرهمَا أَيْضا: إِن الْحمار اسْم جنس للذّكر والانثى، كلفظة الشَّاة وَالْإِنْسَان. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي بعض طرقه: على حمَار، أَرَادَ بِهِ الْجِنْس وَلم يرد الذُّكُورَة، وَفِي بَعْضهَا: أتان. وَجمع البُخَارِيّ بَينهمَا، فَقَالَ: (على حمَار أتان) . وَقَالَ القَاضِي: وَجَاء فِي البُخَارِيّ (على حمَار أتان) ، بِالتَّنْوِينِ فيهمَا، إِمَّا على الْبَدَل أَو الْوَصْف. وَقد ذَكرْنَاهُ، وَرُوِيَ: (على حمَار أتان) ، بِالْإِضَافَة، أَي: حمَار أُنْثَى، كفحل اتن. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا استدرك الحمارة بِالْأُنْثَى ليعلم أَن الْأُنْثَى من الْحمر لَا تقطع الصَّلَاة، فَكَذَلِك لَا تقطعها الْمَرْأَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم قَالَ: على حمارة، فيستغني عَن لفظ: أتان؟ قلت: لِأَن التَّاء فِي حمارة يحْتَمل أَن تكون للوحدة وللتأنيث فَلَا تكون نصا فِي الْأُنُوثَة. قلت: هُنَا قرينَة تدل على تَرْجِيح المُرَاد بأنوثته فَلَا يَقع الْجَواب موقعه، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِي الْجَواب: إِن الحمارة قد تطلق على الْفرس الهجين، كَمَا نَقَلْنَاهُ عَن الصغاني عَن قريب، فَلَو قَالَ: على حمارة، رُبمَا كَانَ يفهم أَنه أقبل على فرس هجين، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، على أَن الْجَوْهَرِي حكى أَن الحمارة فِي الْأُنْثَى شَاذ. قَوْله: (وَأَنا يَوْمئِذٍ) ، الْوَاو: فِيهِ للْحَال و: أَنا، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (قد ناهزت الِاحْتِلَام) . قَوْله: (وَرَسُول الله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاو: فِيهِ للْحَال، وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (يُصَلِّي) . قَوْله: (بمنى) ، نصب على الظّرْف. قَوْله: (إِلَى غير جِدَار) فِي مَحل النصب على الْحَال، وَفِيه حذف تَقْدِيره: يُصَلِّي غير مُتَوَجّه إِلَى جِدَار. قَوْله: (وارسلت) ، عطف على: مَرَرْت، و: الأتان، بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (ترتع) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة، وَالتَّقْدِير: مُقَدرا رتوعها. قَوْله: (وَدخلت) ، بِالْوَاو عطف على: (أرْسلت) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فد خلت) ، وبالفاء الَّتِي للتعقيب. قَوْله: (فَلم يُنكر) على صِيغَة الْمَعْلُوم، أَي: فَلم يُنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك عَليّ، وَرُوِيَ بِلَفْظ الْمَجْهُول: أَي لم يُنكر أحد لَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غَيره مِمَّن كَانُوا مَعَه.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَقبلت رَاكِبًا على حمَار) ، وَزَاد البُخَارِيّ فِيهِ فِي الْحَج: (أَقبلت أَسِير على أتان حَتَّى صرت بَين يَدي الصَّفّ ثمَّ نزلت عَنْهَا) . وَلمُسلم: (فَسَار الْحمار بَين يَدي بعض الصَّفّ) . قَوْله: (إِلَى غير جِدَار) يَعْنِي: إِلَى غير ستْرَة. فَإِن قلت: لَفْظَة إِلَى غير جِدَار، لَا يَنْفِي شَيْئا غَيره، فَكيف يُفَسر، بِغَيْر ستْرَة؟ إِخْبَار ابْن عَبَّاس عَن مروره بالقوم وَعَن عدم جِدَار، مَعَ أَنهم لم ينكروا عَلَيْهِ، وَأَنه مَظَنَّة إِنْكَار يدل على حُدُوث أَمر لم يعْهَد قبل ذَلِك، من كَون الْمُرُور مَعَ الستْرَة غير مُنكر، فَلَو فرض ستْرَة أُخْرَى غير الْجِدَار لم يكن لهَذَا الْإِخْبَار فَائِدَة. قَوْله: (بَين يَدي بعض الصَّفّ) : هُوَ مجَاز عَن القدام، لِأَن الصَّفّ لَا يَد لَهُ، وَبَعض الصَّفّ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ صف من الصُّفُوف، أَو بعض من الصَّفّ الْوَاحِد، يَعْنِي المُرَاد بِهِ: إِمَّا جُزْء من الصَّفّ، وَإِمَّا جزئي مِنْهُ. قَوْله: (ناهزت الِاحْتِلَام) قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فِيهِ معنى يَقْتَضِي تَأْكِيد الحكم، وَهُوَ عدم بطلَان الصَّلَاة بمرور الْحمار، لِأَنَّهُ اسْتدلَّ على ذَلِك بِعَدَمِ الْإِنْكَار، وَعدم الْإِنْكَار على من هُوَ فِي مثل هَذَا السن أدل على هَذَا الحكم، فَإِنَّهُ لَو كَانَ فِي سنّ عدم التَّمْيِيز لاحتمل أَن يكون عدم الْإِنْكَار عَلَيْهِ لعدم مؤاخذته لصِغَر سنه، فَعدم الْإِنْكَار دَلِيل على جَوَاز الْمُرُور،

(2/69)


وَالْجَوَاز دَلِيل على عدم إِفْسَاد الصَّلَاة. وَقَالَ عِيَاض: وَقَوله: (ناهزت الِاحْتِلَام) يصحح قَول الْوَاقِدِيّ: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، توفّي وَابْن عَبَّاس ابْن ثَلَاث عشرَة سنة. وَقَول الزبير بن بكار: إِنَّه ولد فِي الشّعب قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين. وَمَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ، توفّي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة. قَالَ أَحْمد: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ يرد رِوَايَة من يروي عَنهُ، أَنه قَالَ: توفّي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنا ابْن عشر سِنِين. وَقد يتَأَوَّل، إِن صَحَّ، على أَن مَعْنَاهُ رَاجع إِلَى مَا بعده، وَهُوَ قَوْله وَقد قَرَأت (الْمُحكم) .
بَيَان استنباط الاحكام: الأول: فِيهِ جَوَاز سَماع الصَّغِير، وَضَبطه السّنَن والتحمل لَا يشْتَرط فِيهِ كَمَال الْأَهْلِيَّة، وَإِنَّمَا يشْتَرط عِنْد الْأَدَاء. ويلتحق بِالصَّبِيِّ فِي ذَلِك: العَبْد وَالْفَاسِق وَالْكَافِر. وَقَامَت حِكَايَة ابْن عَبَّاس لفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَقْرِيره مقَام حِكَايَة قَوْله. الثَّانِي: فِيهِ إجَازَة من علم الشَّيْء صَغِيرا وَأَدَّاهُ كَبِيرا، وَلَا خلاف فِيهِ، وَأَخْطَأ من حكى فِيهِ خلافًا، وَكَذَا الْفَاسِق وَالْكَافِر إِذا أديا حَال الْكَمَال. الثَّالِث: فِيهِ احْتِمَال بعض الْمَفَاسِد لمصْلحَة أرجح مِنْهَا، فَإِن الْمُرُور أَمَام الْمُصَلِّين مفْسدَة، وَالدُّخُول فِي الصَّلَاة وَفِي الصَّفّ مصلحَة راجحة، فاغتفرت الْمفْسدَة للْمصْلحَة الراجحة من غير إِنْكَار. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الرّكُوب إِلَى صَلَاة الْجَمَاعَة. الْخَامِس: قَالَ الْمُهلب: فِيهِ أَن التَّقَدُّم إِلَى الْقعُود لسَمَاع الْخطْبَة إِذا لم يضر أحدا والخطيب يخْطب جَائِز، بِخِلَاف مَا إِذا تخطى رقابهم. السَّادِس: أَن مُرُور الْحمار لَا يقطع الصَّلَاة، وَعَلِيهِ بوب أَبُو دَاوُد، فِي (سنَنه) ، وَمَا ورد من قطع ذَلِك مَحْمُول على قطع الْخُشُوع. السَّابِع: فِيهِ صِحَة صَلَاة الصَّبِي. الثَّامِن: فِيهِ أَنه إِذا فُعل بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء وَلم يُنكره فَهُوَ حجَّة. التَّاسِع: جَوَاز إرْسَال الدَّابَّة من غير حَافظ أَو مَعَ حَافظ غير مُكَلّف. الْعَاشِر: قَالَ ابْن بطال وأبوعمر وَالْقَاضِي عِيَاض: فِيهِ دَلِيل على أَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه، وَكَذَا بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ، وَحكى ابْن بطال وَأَبُو عمر فِيهِ الْإِجْمَاع. قَالَا: وَقد قيل: الإِمَام نَفسه ستْرَة لمن خَلفه، وَأما وَجه الدّلَالَة فَقَالَ عِيَاض: قَوْله: فَلم يُنكر ذَلِك أحد، لِأَنَّهُ إِن كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ، وَهُوَ الظَّاهِر لقَوْله، بَين يَدي الصَّفّ فَهُوَ حجَّة لتقريره، وَإِن كَانَ بِموضع لم يره فقد رَآهُ أَصْحَابه بجملتهم فَلم ينكروه، وَلَا أحد مِنْهُم، فَدلَّ على أَنه لَيْسَ عِنْدهم بمنكر، وَقَالَ غَيره: يحْتَمل أَن لَفْظَة: أحد، تَشْمَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره، لما فِيهَا من الْعُمُوم، لكنه ضَعِيف بِأَنَّهُ لَا معنى لعدم إِنْكَار غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ حُضُوره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعدم إِنْكَاره أَيْضا، فَيجوز أَن يكون الصَّفّ ممتداً فَلَا يرَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلِهَذَا أَن ابْن عَبَّاس ذكر الرائين وَلم يذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِرَازًا مِنْهُ. قلت: فعلى هَذَا لَا يكون من بَاب الْمَرْفُوع قطعا، بل مِمَّا يتَوَجَّه فِيهِ الْخلاف، وَيحْتَمل كَمَا قَالُوا فِي شبهه. وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، هَذَا يخص بِحَدِيث ابْن سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، يرفعهُ: (إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يدع أحدا يمر بَين يَدَيْهِ) . قَالَ: فَحَدِيث أبي سعيد هَذَا يحمل على الإِمَام وَالْمُنْفَرد، فَأَما الْمَأْمُوم فَلَا يضرّهُ من مر بَين يَدَيْهِ لحَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا، قَالَ: وَهَذَا كُله لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء، وَمِمَّا يُوضحهُ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بهم الظّهْر، أَو الْعَصْر، فَجَاءَت بَهِيمَة تمر بَين يَدَيْهِ، فَجعل يدرؤها حَتَّى رَأَيْته ألصق مَنْكِبَيْه بالجدار فمرت من خَلفه) . قلت: أخرجه أَبُو دَاوُد من أَبُو دَاوُد من أَوله: كَانَ يُصَلِّي إِلَى جدر، وَفِيه: حَتَّى ألصق بَطْنه بالجدر. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: بَاب ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. قَالَ: والمرور بَين يَدي الْمُصَلِّي مَكْرُوه إِذا كَانَ إِمَامًا أَو مُنْفَردا أَو مُصَليا إِلَى ستْرَة، وَأَشد مِنْهُ أَن يدْخل الْمَار بَين الستْرَة وَبَينه، وَأما الْمَأْمُوم فَلَا يضرّهُ من مر بَين يَدَيْهِ، كَمَا أَن الإِمَام أَو الْمُنْفَرد لَا يضر وَاحِد مِنْهُمَا مَا مر من وَرَاء سترته، لِأَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. وَقد قيل: إِن الإِمَام نَفسه ستْرَة لمن خَلفه. قَالَ: وَهَذَا كُله إِجْمَاع لَا خلاف فِيهِ. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف أَصْحَاب مَالك فِيمَن صلى إِلَى غير ستْرَة فِي فضاء يَأْمَن أَن يمر أحد بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يجوز وَلَا حرج عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون ومطرف: السّنة أَن يُصَلِّي إِلَى ستْرَة مُطلقًا. قَالَ: وَحَدِيث ابْن عَبَّاس يشْهد لصِحَّة قَول ابْن الْقَاسِم وَهُوَ قَول عَطاء وَسَالم وَعُرْوَة وَالقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالْحسن، وَكَانُوا يصلونَ فِي الفضاء إِلَى غير ستْرَة، وَسَيَأْتِي بسط الْكَلَام فِيهِ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

77 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثنا أبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حدّثني مُحمَّدُ بنُ حَرْب حدّثني

(2/70)


الزُّبَيْدِيُّ عنِ الزُّهْرِيّ عنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبيِعِ قَالَ: عَقَلْتُ منَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجَّةً مجَّها فِي وجْهي وَأَنا ابنُ خَمْسِ سنِينَ مِنْ دَلْوٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ استدلالهم بِهِ على إِبَاحَة مج الرِّيق على الْوَجْه إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة، وعَلى طَهَارَته وَغير ذَلِك، وَلَيْسَ ذَلِك إلاَّ لاعتبارهم نقل مَحْمُود بن الرّبيع، فَدلَّ على أَن سَماع الصَّغِير صَحِيح، والترجمة فِيهِ، بل مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة أَشد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَإِن من ناهز الِاحْتِلَام لَا يُسمى صَغِيرا عرفا، ومحمود ابْن الرّبيع أخبر بذلك وعمره خمس سِنِين.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي، أَبُو أَحْمد، نَص عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَذَلِكَ لِأَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ لَيْسَ لَهُ رِوَايَة عَن أبي مسْهر. الثَّانِي: أَبُو مسْهر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء، واسْمه عبد الْأَعْلَى أَبُو مسْهر الغساني الدِّمَشْقِي. قيل: مَا رُؤي أحد فِي كورة من الكور أعظم قدرا وَلَا أجلّ عِنْد أَهلهَا من أبي مسْهر بِدِمَشْق، وَكَانَ إِذا خرج إِلَى الْمَسْجِد اصطف النَّاس يسلمُونَ عَلَيْهِ، ويقبلون يَده. وَحمله الْمَأْمُون إِلَى بَغْدَاد فِي أَيَّام المحنة، فَجرد للْقَتْل على أَن يَقُول بِخلق الْقُرْآن، وَمد رَأسه إِلَى السَّيْف، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك مِنْهُ حمل إِلَى السجْن، فَمَاتَ بِبَغْدَاد سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَدفن بِبَاب التِّين، وَقد لقِيه البُخَارِيّ وَسمع مِنْهُ شَيْئا كثيرا، وَحدث هُنَا بِوَاسِطَة، وَذكر ابْن المرابط فِيمَا نَقله ابْن رشيد عَنهُ أَن أَبَا مسْهر تفرد بِرِوَايَة هَذَا الحَدِيث وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِن النَّسَائِيّ رَوَاهُ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) عَن مُحَمَّد بن الْمُصَفّى عَن مُحَمَّد بن حَرْب، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمدْخل) من رِوَايَة ابْن جوصا، بِفَتْح الْجِيم وَالصَّاد الْمُهْملَة، عَن سَلمَة بن الْخَلِيل وَابْن التقي، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْقَاف، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن حَرْب، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة غير أبي مسْهر رَوَوْهُ عَن مُحَمَّد بن حَرْب، فَكَأَنَّهُ الْمُنْفَرد بِهِ عَن الزبيدِيّ. الثَّالِث: مُحَمَّد بن حَرْب، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: هُوَ الأبرش أَي: الَّذِي يكون فِيهِ نكت صغَار يُخَالف سَائِر لَونه، الْخَولَانِيّ الْحِمصِي أَبُو عبد اللَّه، سمع الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره، وتقضى بِدِمَشْق وَهُوَ ثِقَة، مَاتَ سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو الْهُذيْل مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن عَامر الزبيدِيّ الشَّامي الْحِمصِي قاضيها، الثِّقَة الْكَبِير الْمُفْتِي الْكَبِير، روى عَن مَكْحُول وَالزهْرِيّ وَغَيرهمَا، وَعنهُ مُحَمَّد بن حَرْب وَيحيى بن حَمْزَة، وَهُوَ أثبت أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، مَاتَ بِالشَّام سنة سبع، وَقيل: ثَمَان واربعين وَمِائَة وَهُوَ شَاب، قَالَه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْبَغْدَادِيّ. وَقَالَ ابْن سعد: ابْن سبعين، سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى التِّرْمِذِيّ. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. السَّادِس: مَحْمُود بن الرّبيع بن سراقَة بن عَمْرو بن زيد بن عَبدة ابْن عَامر بن عدي بن كَعْب بن الْخَزْرَج بن الْحَارِث ابْن الْخَزْرَج، الْأنْصَارِيّ الخزرجي، أَبُو نعيم. وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، مدنِي مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين عَن ثَلَاث وَتِسْعين، وَهُوَ ختن عبَادَة ابْن الصَّامِت، نزل بَيت الْمُقَدّس وَمَات بهَا.
بَيَان الْأَنْسَاب: الغساني: نِسْبَة إِلَى غَسَّان، مَاء بالمشلل قريب من الْجحْفَة، وَالَّذين شربوا مِنْهُ تسموا بِهِ، وهم من ولد مَازِن بن الأزد، فَإِن مَازِن جماع غَسَّان فَمن نزل من بنيه ذَلِك المَاء فَهُوَ غَسَّان، وَذكر الرشاطي الغساني فِي الأزد. وَقَالَ ابْن هِشَام: نسبوا إِلَى مَاء بسد مأرب كَانَ شرباً لولد مَازِن فسموا بِهِ. الْخَولَانِيّ: فِي قبائل، حكى الْهَمدَانِي فِي كتاب (الإكليل) قَالَ: خولان بن عَمْرو بن الحاف بن قضاعة، وخولان بن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن أدد، قَالَ: وخولان حُضُور، وخولان ردع هُوَ خولان بن قحطان، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب (المعارف) : وخولان بن سعد بن مذْحج. الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالدَّال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى زبيد، قَبيلَة من مذْحج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة. وَذكر الرشاطي الزبيدِيّ فِي قبائل مذْحج وَغَيرهَا، فَالَّذِي فِي مذْحج: زبيد، واسْمه مُنَبّه الْأَكْبَر بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مَالك، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج. قَالَ ابْن دُرَيْد: زبيد تَصْغِير: زبد، والزبد الْعَطِيَّة، زبدته أزبده زبداً. وَفِي الأزد: زبيد بطن، وَهُوَ زبيد بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب ابْن الْحَارِث الغطريف الْأَصْغَر بن عبد اللَّه بن عَامر الغطريف الْأَكْبَر بن بكر بن يشْكر بن بشير بن كَعْب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن عبد اللَّه بن مَالك بن نصر بن الأزد. وَفِي خولان القضاعية: زبيد بطن ابْن الْخِيَار بن زِيَاد بن سُلَيْمَان بن الناجش بن حَرْب بن سعد بن خولان.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته إِلَى الزُّهْرِيّ شَامِيُّونَ.

(2/71)


وَمِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَفِي الدَّعْوَات عَن عبد الْعَزِيز بن عبد اللَّه عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن مصفى عَن مُحَمَّد بن حَرْب بِهِ، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ نَحوه، وَلم يذكر: وَأَنا ابْن خمس سِنِين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (عقلت) أَي: عرفت. وَيُقَال: مَعْنَاهُ حفظت، عَن: عقل يعقل من بَاب: ضرب يضْرب، عقلا ومعقولاً. وَهُوَ مصدر. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَهُوَ صفة، وَكَانَ يَقُول: إِن الْمصدر لَا يَتَأَتَّى على وزن مفعول الْبَتَّةَ. قَوْله: (مجة) يُقَال: مج الشَّرَاب من فِيهِ إِذا رمى بِهِ. وَقَالَ أهل اللُّغَة: المج إرْسَال المَاء من الْفَم مَعَ نفخ. وَقيل لَا يكون مجاً حَتَّى تبَاعد بِهِ. وَكَذَلِكَ مج لعابه والمجاجة والمجاج الرِّيق الَّذِي تمجه من فِيك، ومجاجة الشَّيْء إيضاً عصارته، وَيُقَال: إِن الْمَطَر مجاج المزن وَالْعَسَل مجاج النَّحْل والمجاج أَيْضا اللَّبن، لِأَن الضَّرع يمجه والتركيب يدل على رمي الشَّيْء بِسُرْعَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (عقلت) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل. قَوْله: (مجة) بِالنّصب مَفْعُوله، قَوْله: (مجها) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لمجة، وَالضَّمِير فِيهَا يرجع إِلَى المجة. قَوْله: (فِي وَجْهي) حَال من مجه. قَوْله: (من دلو) ، أَي: من مَاء دلو والدلو يذكر وَيُؤَنث. وَقَوله: (وَأَنا ابْن خمس سِنِين) جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مُعْتَرضَة وَقعت حَالا: إمّا من: تَاء، عقلت، أَو من: يَاء وَجْهي.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وَأَنا ابْن خمس سِنِين) ، قد ذكرنَا أَن الْمُتَأَخِّرين قد حددوا أقل سنّ التَّحَمُّل بِخمْس سِنِين. وَقَالَ ابْن رشيد: الظَّاهِر أَنهم أَرَادوا بتحديد الْخمس أَنَّهَا مَظَنَّة لذَلِك، لَا أَن بُلُوغهَا شَرط لَا بُد من تحَققه، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَلَا فِي غَيرهمَا من الْجَوَامِع وَالْمَسَانِيد التَّقْيِيد بِالسِّنِّ عِنْد التَّحَمُّل فِي شَيْء من طرقه إلاَّ فِي طَرِيق الزبيدِيّ هَذِه، وَهُوَ من كبار الْحفاظ المتقنين عَن الزُّهْرِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ والخطيب فِي (الْكِفَايَة) ، من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن نمر، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي مَحْمُود بن الرّبيع: وَتُوفِّي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ ابْن خمس سِنِين، واستفيد من هَذِه الرِّوَايَة أَن الْوَاقِعَة الَّتِي ضَبطهَا كَانَت فِي آخر سنة من حَيَاة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد ذكر ابْن حبَان وَغَيره أَنه مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين سنة، وَهُوَ مُطَابق لهَذِهِ الرِّوَايَة. وَذكر عِيَاض فِي (الإلماع) وَغَيره أَن فِي بعض الرِّوَايَات أَنه كَانَ ابْن أَربع سِنِين، وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَات شَيْء يُصَرح بذلك، فَكَأَن ذَلِك أَخذ من قَول ابْن عمر أَنه عقل المجة وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين أوخمس، وَكَأن الْحَامِل لَهُ على هَذَا التَّرَدُّد قَول الْوَاقِدِيّ: إِنَّه كَانَ ابْن ثَلَاث وَتِسْعين سنة لما مَاتَ، وَالْأول أصح. قَوْله: (من دلو) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من دلو مُعَلّق) ، وَفِي (الرقَاق) من رِوَايَة معمر: (من دلو كَانَت فِي دَارهم) . وَفِي الطَّهَارَة وَالصَّلَاة وَغَيرهمَا: (من بِئْر) ، بدل: (دلو) . وَلَا تعَارض بَينهمَا، لِأَنَّهُ يتَأَوَّل بِأَن المَاء أَخذ بالدلو من الْبِئْر وتناوله النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الدَّلْو.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بركَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا جَاءَ من أَنه يحنك الصّبيان بِأَن يَأْخُذ التمرة يمضغها ويجعلها فِي فَم الصَّبِي، وحنك بهَا: حنكه بالسبابة حَتَّى تحللت فِي حلقه، وَكَانَت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، يحرصون على ذَلِك إِرَادَة بركته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لأولادهم، كَمَا رَأَوْا بركته فِي المحسوسات والأجرام من تَكْثِير المَاء بمجه فِي فرلادين وَفِي بِئْر الْحُدَيْبِيَة. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز سَماع الصَّغِير وَضَبطه بالسنن. الثَّالِث: قَالَ التَّيْمِيّ: فِيهِ جَوَاز مداعبة الصَّبِي، إِذْ داعبه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأخذ مَاء من الدَّلْو فمجه فِي وَجهه.
فَائِدَة: تعقب ابْن أبي صفرَة على البُخَارِيّ من ذكره حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع فِي اعْتِبَار خمس سِنِين، وإعقاله حَدِيث عبد اللَّه بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه رأى أَبَاهُ يخْتَلف إِلَى بني قُرَيْظَة فِي يَوْم الخَنْدَق ويراجعهم، فَفِيهِ السماع مِنْهُ وَكَانَ سنه إِذْ ذَاك ثَلَاث سِنِين، أَو أَربع، فَهُوَ أَصْغَر من مَحْمُود، وَلَيْسَ فِي قصَّة مَحْمُود ضَبطه لسَمَاع شَيْء، فَكَانَ ذكره حَدِيث ابْن الزبير أولى لهذين الْمَعْنيين. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ إِنَّمَا أَرَادَ نقل السّنَن النَّبَوِيَّة لَا الْأَحْوَال

(2/72)


الوجودية، ومحمود نقل سنة مَقْصُودَة فِي كَون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مج مجة فِي وَجهه لإفادته الْبركَة، بل فِي مُجَرّد رُؤْيَته إِيَّاه فَائِدَة شَرْعِيَّة يثبت بهَا كَونه صحابياً. وَأما قصَّة ابْن الزبير فَلَيْسَ فِيهَا نقل سنة من السّنَن النَّبَوِيَّة حَتَّى يدْخل فِي هَذَا الْبَاب. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي (تنقيحه) : وَيحْتَاج الْمُهلب إِلَى ثُبُوت أَن قَضِيَّة ابْن الزبير صَحِيحَة على شَرط البُخَارِيّ. قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، فَإِن قَضِيَّة ابْن الزبير الْمَذْكُورَة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي مَنَاقِب الزبير فِي (الصَّحِيح) ، وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ. وَالله أعلم.

19 - (بابُ الخُرُوجِ فِي طَلَبِ العِلْمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخُرُوج لأجل طلب الْعلم، وَأطلق الْخُرُوج ليشْمل سفر الْبَحْر وَالْبر. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول إقبال ابْن عَبَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاة، ودخوله فِيهَا مَعَه، ثمَّ إخْبَاره ذَلِك كُله لمن روى عَنهُ الحَدِيث. وَفِي ذَلِك كُله معنى طلب الْعلم، وَمعنى الْخُرُوج فِي طلبه، وَمَعَ هَذَا كَانَ ذكر هَذَا الْبَاب عقيب بَاب مَا ذكره فِي ذهَاب مُوسَى إِلَى الْخضر فِي الْبَحْر أنسب وأليق على مَا لَا يخفى.
ورَحَلَ جابِرُ بنُ عَبدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلى عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ واحِدٍ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَنه أَرَادَ بِذكر هَذَا الْأَثر الْمُعَلق التَّنْبِيه على فَضِيلَة السّفر والرحلة فِي طلب الْعلم برا وبحراً.
الثَّانِي: أَن جَابر بن عبد اللَّه هُوَ الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، وَعبد اللَّه بن أنيس، بِضَم الْهمزَة، مصغر أنس ابْن مسعد الْجُهَنِيّ، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء، حَلِيف الْأَنْصَار، شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين من الْأَنْصَار، وَشهد أحدا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَبَعثه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحده سَرِيَّة. وَاخْتلف فِي شُهُوده بَدْرًا. لَهُ خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، روى لَهُ مُسلم حَدِيثا وَاحِدًا فِي لَيْلَة الْقدر، وروى لَهُ الْأَرْبَعَة. وَلم يذكرهُ الكلاباذي وَغَيره فِيمَن روى لَهُ البُخَارِيّ، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي كتاب (الرَّد على الْجَهْمِية) : وَيذكر عَن جَابر بن عبد اللَّه عَن عبد اللَّه بن أنيس، فَذكره. توفّي بِالشَّام سنة أَربع وَخمسين فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ: عَن عبد اللَّه بن أنيس الْأنْصَارِيّ، عَنهُ ابْنه عِيسَى، وَلَعَلَّه الأول. وَفِي الصَّحَابَة، أَو أنيس عبد اللَّه بن أنيس، أَو أنيس. قيل: هُوَ الَّذِي رمى ماعزاً لما رَجَمُوهُ فَقتله، وَعبد اللَّه بن أنيس قتل يَوْم الْيَمَامَة، وَعبد اللَّه بن أنيس العامري لَهُ وفادة، وَمن رِوَايَة يعلى بن الْأَشْدَق وَعبد اللَّه بن أبي أنيسَة، قَالَ الْوَلِيد بن مُسلم: ثَنَا دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْمَكِّيّ عَن عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن عقيل عَن جَابر سَمِعت حَدِيثا فِي الْقصاص لم يبْق أحد يحفظه إلاَّ رجل بِمصْر يُقَال لَهُ، عبد اللَّه بن أبي أنيسَة.
الثَّالِث: قَوْله: (فِي حَدِيث وَاحِد) أَي لأجل حَدِيث وَاحِد، وَكلمَة: فِي، تَجِيء للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} (يُوسُف: 32) وَقَوله:: {لمسكم فِيمَا افضتم} (النُّور: 14) وَفِي الحَدِيث: (أَن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها) .
الرَّابِع: قَالَ ابْن بطال: أَرَادَ بقوله: (فِي حَدِيث وَاحِد) ، حَدِيث السّتْر على الْمُسلم، قيل: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ يُقَال: إِن أَبَا أَيُّوب خَالِد بن زيدٍ الْأنْصَارِيّ، رَحل إِلَى عقبَة بن عَامر، أخرجه الْحَاكِم: حَدثنَا عَليّ بن حَمَّاد، حَدثنَا بشر بن مُوسَى، حَدثنَا الْحميدِي، حَدثنَا سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن أبي سعيد الْأَعْمَى عَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: خرج أَبُو أَيُّوب إِلَى عقبَة بن عَامر يسْأَله عَن حَدِيث سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يبْق أحد سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره وَغير عقبَة، فَلَمَّا قدم أَبُو أَيُّوب منزل سَلمَة بن مخلد الْأنْصَارِيّ، أَمِير مصر، فاخبره، فَعجل عَلَيْهِ فَخرج إِلَيْهِ فعانقه، ثمَّ قَالَ: مَا جَاءَ بك يَا أَبَا أَيُّوب؟ قَالَ: حَدِيث سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبْق أحد سَمعه من رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، غَيْرِي وَغَيْرك فِي ستر الْمُؤمن. قَالَ عقبَة: نعم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من ستر مُؤمنا فِي الدُّنْيَا على عَورَة ستره الله يَوْم الْقِيَامَة) . فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوب: صدقت، ثمَّ انْصَرف أَبُو أَيُّوب إِلَى رَاحِلَته، فركبها رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة. وَفِي (مُسْند عبد اللَّه بن وهب) ، صَاحب مَالك: أَنبأَنَا عبد الْجَبَّار بن عمر، حَدثنَا مُسلم بن أبي حرَّة عَن رجل من الْأَنْصَار عَن رجل من أهل قبا أَنه قدم مصر على مسلمة بن مخلد، فَقَالَ: أرسل معي إِلَى فلَان، رجل من الصَّحَابَة، قَالَ: حسبت أَنه قَالَ: سرق، قَالَ: فَذهب إِلَيْهِ فِي قريته، فَقَالَ: هَل تذكر مَجْلِسا كنت أَنا وَأَنت فِيهِ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ أحد مَعنا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: كَيفَ سمعته يَقُول؟ فَقَالَ: سمعته يَقُول: (من أطلع من أَخِيه على عَورَة ثمَّ سترهَا، جعلهَا الله لَهُ يَوْم الْقِيَامَة

(2/73)


حِجَابا من النَّار) . قَالَ: كنت أعرف ذَلِك، وَلَكِن أوهمت الحَدِيث فَكرِهت أَن أحدث بِهِ على غير مَا كَانَ، ثمَّ ركب رَاحِلَته وَرجع. وَقَالَ ابْن وهب: أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث، عَن أَبِيه عَن مولى لخارجة عَن أبي صياد الْأسود الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ عريفهم، أَن رجلا قدم على مسلمة بن مخلد، فَلم ينزل، وَقَالَ: أرسل معي إِلَى عقبَة بن عَامر، فَأرْسل مَعَه أَبَا صياد، فَقَالَ الرجل لعقبة: هَل تذكر مَجْلِسا لنا فِيهِ عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: (من ستر عَورَة مُؤمن كَانَت لَهُ كموؤودة أَحْيَاهَا) فَقَالَ عقبَة: نعم، فَكبر الرجل، قَالَ: لهَذَا ارتحلت من الْمَدِينَة، ثمَّ رَجَعَ. وَالصَّحِيح أَن المُرَاد من قَوْله: فِي حَدِيث وَاحِد، هُوَ الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب (الرَّد على الْجَهْمِية) آخر الْكتاب، فَقَالَ: وَنَذْكُر عَن جَابر بن عبد اللَّه عَن عبد اللَّه بن أنيس: سَمِعت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقُول: (يحْشر الله الْعباد فيناديهم، بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب: أَنا الْملك أَنا الديَّان) لم يزدْ البُخَارِيّ على هَذَا، وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) من طَرِيق عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن عقيل أَنه سمع جَابر بن عبد اللَّه يَقُول: بَلغنِي عَن رجل حَدِيث سَمعه عَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فاشتريت بَعِيرًا، ثمَّ شددت رحلي فسرت إِلَيْهِ شهرا حَتَّى قدمت الشَّام، فَإِذا عبد اللَّه بن أنيس، فَقلت للبواب: قل لَهُ جَابر بن عبد اللَّه على الْبَاب. فَقَالَ: ابْن عبد اللَّه؟ قلت: نعم. فَخرج فاعتنقني، فَقلت: حَدِيث بَلغنِي عَنْك أَنَّك سمعته من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَخَشِيت أَن أَمُوت قبل أَن أسمعك. فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (يحْشر الله النَّاس يَوْم الْقِيَامَة عُرَاة غرلًا بهما، فيناديهم بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب: أَنا الْملك، أَنا الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة وَاحِد من أهل النَّار يَطْلُبهُ بمظلمة حَتَّى يقتصه مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَة قَالَ: وَكَيف، وَإِنَّمَا نأتي عُرَاة غرلًا؟ قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ والسيئات وَأخرجه ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب الْعلم عَن شَيبَان: حَدثنَا همام، حَدثنَا الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد، حَدثنِي عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن عقيل أَن جَابِرا حَدثهُ ... إِلَى آخِره. وَأخرجه أَيْضا الْحَارِث بن أبي أُسَامَة فِي مُسْنده عَن هدبة عَن همام بِسَنَدِهِ نَحوه. وَأخرجه أَيْضا نصر الْمَقْدِسِي فِي كتاب (الْحجَّة على تَارِك المحجة) عَن عَليّ ابْن طَاهِر: حَدثنَا الْحُسَيْن بن خرَاش، حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، ثَنَا همام إِلَى آخِره. فَإِن قلت: ذكر أَبُو سعيد بن يُونُس بِسَنَدِهِ عَن جَابر قَالَ: بَلغنِي حَدِيث فِي الْقصاص عَن عقبَة بن عَامر، وَهُوَ بِمصْر، فاشتريت بَعِيرًا فشددت عَلَيْهِ رحلاً وسرت إِلَيْهِ شهرا حَتَّى أتيت مصر وَذكر الحَدِيث. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين، وَتَمام فِي (فَوَائده) من طَرِيق الْحجَّاج بن دِينَار عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر، قَالَ: كَانَ بَلغنِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث فِي الْقصاص، وَكَانَ صَاحب الحَدِيث بِمصْر، فاشتريت بَعِيرًا فسرت حَتَّى وَردت مصر، فقصدت إِلَى بَاب الرجل ... ، فَذكر نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِسْنَاده صَالح. وروى الْخَطِيب فِي كتاب (الرحلة) ، من حَدِيث عبد الوارث بن سعيد عَن الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد عَن ابْن عقيل عَن جَابر قَالَ: تقدّمت على ابْن أنيس بِمصْر ... وَرَوَاهُ أَيْضا، من طَرِيق عِيسَى الغنجار عَن عمر بن صَالح عَن مقَاتل بن حبَان عَن أبي جارود الْعَبْسِي عَن جَابر، فَأتيت مصر فَإِذا هُوَ بِبَاب الرجل، فَخرج إليَّ وَفِيه: (والرب على عَرْشه يُنَادى بِصَوْت رفيع غير فظيع)
الحَدِيث. قلت: يحْتَمل أَن يَكُونَا وَاقِعَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا لعبد اللَّه بن أنيس، وَالْأُخْرَى: لعقبة بن عَامر، رَضِي الله عَنْهُمَا. قَوْله: (عُرَاة) جمع عَار. قَوْله: (غرلًا) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء جمع أغرل وَهُوَ: الأقلف. وَقَوله: (بهما) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: لَيْسَ مَعَهم شَيْء، وَيُقَال أصحاء. قلت: يَعْنِي لَيْسَ فيهم شَيْء من العاهات: كالعمى والعور وَغَيرهمَا، وَإِنَّمَا أجساد صَحِيحَة للخلود، إِمَّا فِي الْجنَّة وَإِمَّا فِي النَّار. والبهم فِي الأَصْل الَّذِي يخالط لَونه لون سَواد. قَوْله: (فيناديهم بِصَوْت) قَالَ القَاضِي الْمَعْنى يَجْعَل ملكا يُنَادي، أَو يخلق صَوتا ليسمعه النَّاس، وَأما كَلَام الله تَعَالَى فَلَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر (فينادي بِصَوْت) على مَا لم يسم فَاعله.
الْخَامِس: ادَّعَت جمَاعَة أَن البُخَارِيّ قد نقض قَاعِدَته، وَذَلِكَ أَن من قَوَاعِده أَنه يذكر التَّعْلِيق إِذا كَانَ صَحِيحا بِصِيغَة الْجَزْم. وَإِذا كَانَ ضَعِيفا بِصِيغَة التمريض، وَهنا قَالَ: ورحل جَابر بن عبد اللَّه بِصِيغَة الْجَزْم، وَقَالَ فِي أَوَاخِر (صَحِيحَة) : وَيذكر جَابر بِصِيغَة التمريض، وَأجَاب عَنهُ الشَّيْخ قطب الدّين بِأَنَّهُ جزم: بالرحلة دون الحَدِيث، فَعِنْدَ مَا ذكر الحَدِيث اتى بِصِيغَة التمريض، فَقَالَ: وَيذكر عَن جَابر بن عبد اللَّه.

78 - حدّثنا أَبُو القاسِمِ خالِدُ بنُ خلِيٍّ قَالَ: حدّثنا مُحمَّدُ بنُ حَرْبٍ قَالَ: قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: أخبرنَا الزُهْرَي)

(2/74)


عنْ عُبيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ عَن ابْن عَبَّاس أنَّهُ تَمَارَى هُوَ والحُرّ بنُ قَيْسِ بن حصْنٍ الفَزَاريُّ فِي صاحِبِ مُوسَى، فَمَرَّ بِهِما أبَيُّ بنُ كَعْبٍ، فَدَعاهُ ابنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي تَمارَيْتُ أَنا وصاحِبِي هَذا فِي صاحِبِ مُوسى الَّذِي سأَل السَّبِيلَ إلَى لُقِيِّه، هَلْ سَمِعْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ شَأْنَه؟ فَقَالَ ابَيٌّ: نَعَمْ! سَمعْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ شأْنَهُ يَقُولُ: (بَيْنَما مُوسَى فِي مَلأٍ مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أتَعْلَمُ أحَداً أعْلَمَ منْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لاَ. فأَوْحَى الله عَزَّ وجَلَّ إلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنا خضِرٌ، فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلىَ لُقِيِّهِ فَجَعَلَ الله لَهُ الحُوتَ آيَةً وقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإِنَّكَ سَتَلْقاهُ، فَكان مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَّبِعُ أثَرَ الحُوتِ فِي البحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَي لِمُوسَى: {أرَأيْتَ إِذْ أوَيْنَا إِلى الصَّخْرَةِ فانِّي نَسيتُ الحُوتَ وَمَا أنْسانِيهِ إِلا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ} قَالَ مُوسى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فارْتَدَّا علَى آثارِهِما قَصَصَاً فَوَجدا خَضِراً، فَكان مِنْ شَأنهمَا مَا قَصَّ الله فِي كِتابهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد عقد على هَذَا الحَدِيث بَابَيْنِ بترجمتين. الأول: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر. وَالثَّانِي: هَذَا الْبَاب.
والتفاوت فِي بعض الروَاة، فَإِن هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن غرير عَن يَعْقُوب عَن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن صَالح عَن ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ: وَهَهُنَا: عَن أبي الْقَاسِم خَالِد بن خلي عَن مُحَمَّد بن حَرْب عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَا التَّفَاوُت فِي بعض الْأَلْفَاظ. فَإِن هُنَاكَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ خضر، بعد قَوْله: فِي صَاحب مُوسَى، وَقبل قَوْله: فَمر بهما أبي بن كَعْب. وَهُنَاكَ: هَل سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَهَهُنَا: هَل سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَهُنَاكَ: قَالَ: نعم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهَهُنَا: نعم، سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر شَأْنه. وَهُنَاكَ: جَاءَ رجل فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَهَهُنَا: إِذْ جَاءَهُ. وَهُنَاكَ: فَقَالَ: هَل تعلم أحدا؟ وَهَهُنَا: فَقَالَ: تعلم أحدا؟ وَهُنَاكَ: فَكَانَ يتبع الْحُوت، وَهَهُنَا: فَكَانَ مُوسَى يتبع أثر الْحُوت. وَهُنَاكَ: فَقَالَ لمُوسَى فتاه: أريت؟ وَهَهُنَا: فَقَالَ فَتى مُوسَى لمُوسَى: أَرَأَيْت؟ وَوَقع هَهُنَا فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: تمارى وَالْحر بِغَيْر لَفظه هُوَ، وَهُوَ عطف على الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل بِغَيْر التَّأْكِيد بالمنفصل، وَذَلِكَ جَائِز عِنْد الْكُوفِيّين وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَكَذَا الْكَلَام فِي رِجَاله مَا خلا شيخ البُخَارِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ أما شَيْخه فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم خَالِد بن خلي الْحِمصِي الكلَاعِي من حَدِيث عبد الْوَارِث بن سعيد عَن الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد عَن ابْن عقيل عَن جَابر، انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَهُوَ قَاضِي حمص، صَدُوق، أخرج لَهُ هَهُنَا، وَفِي التَّعْبِير، روى عَن بَقِيَّة وطبقته، وَعنهُ ابْنه مُحَمَّد وَأَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي، وَأخرج لَهُ من أهل السّنَن: النَّسَائِيّ فَقَط. وخلي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء، على وزن: عَليّ، وَقَالَ بَعضهم: وَقع عِنْد الزَّرْكَشِيّ مضبوطاً بلام مُشَدّدَة، وَهُوَ سبق قلم، أَو خطأ من النَّاسِخ قلت: لَيْسَ الزَّرْكَشِيّ ضَبطه هَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ: بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة وَلَام مَكْسُورَة وياء مُشَدّدَة بِوَزْن عَليّ. وَأما الْأَوْزَاعِيّ فَهُوَ أحد الْأَعْلَام أَبُو عَمْرو عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن يحمد، وَقيل: كَانَ اسْمه عبد الْعَزِيز فَسمى نَفسه عبد الرَّحْمَن، أحد اتِّبَاع التَّابِعين، كَانَ يسكن دمشق خَارج بَاب الفراديس ثمَّ تحول إِلَى بيروت فسكنها مرابطاً إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة سبع وَخمسين وَمِائَة، آخر خلَافَة أبي جَعْفَر، دخل الْحمام فَذهب الحمامي فِي حَاجَة وأغلق عَلَيْهِ الْبَاب، ثمَّ جَاءَ فَفتح عَلَيْهِ الْبَاب فَوَجَدَهُ مَيتا متوسداً يَمِينه مُسْتَقْبل الْقبْلَة، رَحمَه الله. وَكَانَ مولده ببعلبك سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَكَانَ أَصله من سبي الْهِنْد، روى عَن عَطاء وَمَكْحُول وَغَيرهمَا، وَرَأى ابْن سِيرِين، وَعنهُ قَتَادَة وَيحيى بن أبي كثير وهما من شُيُوخه، وَكَانَ رَأْسا فِي الْعِبَادَة وَالْعلم، وَكَانَ أهل الشَّام وَالْمغْرب على مذْهبه قبل انتقالهم إِلَى مَذْهَب مَالك، وَسُئِلَ عَن الْفِقْه، يَعْنِي: استفتي، وَهُوَ ابْن ثَلَاث عشرَة، وَقيل: إِنَّه أفتى فِي ثَمَانِينَ ألف مَسْأَلَة. ونسبته إِلَى الأوزاع، بِفَتْح الْهمزَة، قيل: إِنَّهَا قَرْيَة بِقرب دمشق خَارج بَاب الفراديس، سميت بذلك لِأَنَّهُ سكنها فِي صدر الْإِسْلَام قبائل شَتَّى، وَقيل: الأوزاع، بطن من حمير. وَقيل: من هَمدَان بِسُكُون الْمِيم، وَقيل: هُوَ نِسْبَة إِلَى

(2/75)


أوزاع الْقَبَائِل: أَي: فرقها وبقاياها مجتمعة من قبائل شَتَّى.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ: حَدثنَا مُحَمَّد بن حَرْب قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ: أخبرنَا الزُّهْرِيّ، وَفِي الطَّرِيق السَّابِقَة عَن صَالح عَن ابْن شهَاب، وَابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ، وَهَذَا الِاخْتِلَاف من جملَة ضبط البُخَارِيّ وَقُوَّة احتياطه حَيْثُ يَقُول تَارَة: ابْن شهَاب، وَتارَة: الزُّهْرِيّ، وَتارَة: مُحَمَّد بن مُسلم، لِأَنَّهُ يَنْقُلهُ فِي كل مَوضِع بِاللَّفْظِ الَّذِي نَقله شَيْخه.

20 - (بَاب فَضْل مَنْ عَلِمَ وعلَّمَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من علم، بتَخْفِيف اللَّام الْمَكْسُورَة، أَي: صَار عَالما، وعلّم، بِفَتْح اللَّام الْمُشَدّدَة، من التَّعْلِيم؛ أَي: علم غَيره.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ بَيَان حَال الْعَالم والمعلم، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان فضلهما.

79 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ العَلاءِ قَالَ: حدّثنا حَمَّادُ بنُ أُسامةَ عنْ بُريْدِ بن عبد اللَّه عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسى عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَثَلُ مَا بَعثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضاً، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكَلأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادبُ أمْسَكَتِ الماءَ فَنَفَعَ الله بِها النَّاسَ فَشَربُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصابَتْ مِنْها طائِفَةٌ أخْرَى إِنَّما هِيَ قِيعانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاء وَلَا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دينِ الله ونَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَم يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بهِ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الْبَاب مَعْقُود على قَوْله فِي الحَدِيث: فَعلم وَعلم، وَفضل من بَاشر الْعلم والتعليم ظَاهر مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي معرض الْمَدْح على سَبِيل التَّمْثِيل على مَا نبينه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان رِجَاله: وهم خسمة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء، بِالْمُهْمَلَةِ وبالمد، ابْن كريب الْهَمدَانِي، بِسُكُون الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة، المكنى بِأبي كريب، بِضَم الْكَاف، مصغر كرب، بِالْمُوَحَّدَةِ. وشهرته بالكنية أَكثر. روى عَنهُ الْجَمَاعَة وَآخَرُونَ، وَهُوَ صَدُوق لَا بَأْس بِهِ، وَهُوَ مكثر. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن سعيد: ظهر لَهُ بِالْكُوفَةِ ثَلَاثَة مائَة ألف حَدِيث، مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة بن زيد الْهَاشِمِي الْقرشِي الْكُوفِي، مولى الْحسن بن عَليّ أَو غَيره، وشهرته بكنيته أَكثر. روى عَن بريد وَغَيره، وَأكْثر عَن هِشَام ابْن عُرْوَة، لَهُ عَنهُ سِتّمائَة حَدِيث، وَعنهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا، وَكَانَ ثِقَة ثبتاً صَدُوقًا حَافِظًا حجَّة اخبارياً، رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: كتبت بإصبعي هَاتين مائَة ألف حَدِيث، مَاتَ سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة، فِيمَا قيل، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من هُوَ بِهَذِهِ الكنية سواهُ، وَفِي النَّسَائِيّ أَبُو أُسَامَة الرقي النَّخعِيّ زيد بن عَليّ بن دِينَار، صَدُوق، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اشْتهر بِهَذِهِ الكنية سواهُمَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن عبد اللَّه بن أبي بردة ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، والمكنى بِأبي بردة الْكُوفِي وَقد تقدم. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء: عَامر بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقد تقدم. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى عبد اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن بريداً يروي عَن جده، وجده عَن أَبِيه، وَهَذِه لَطِيفَة.

(2/76)


وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى، وَلم يقل: عَن أبي بردة عَن أَبِيه. قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تفنناً. قلت: التفنن هُوَ التنوع فِي أَنْوَاع الْكَلَام وأساليبه من الْفَنّ وَاحِد الْفُنُون، وَهِي الْأَنْوَاع، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ باخْتلَاف الْعبارَات، وَلَيْسَ هَهُنَا إلاَّ عبارَة وَاحِدَة فَكيف يكون من هَذَا الْقَبِيل.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا فَقَط. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعبد اللَّه بن براد وَأبي كريب، وَالنَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا الْكُوفِي، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي أُسَامَة عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (مثل) ، بِفَتْح الْمِيم والثاء الْمُثَلَّثَة: المُرَاد بِهِ هَهُنَا الصّفة العجبية لَا القَوْل السائر. قَوْله: (من الْهدى) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْهدى الرشاد، وَالدّلَالَة، يذكر وَيُؤَنث. يُقَال: هداه الله للدّين هدى، وهديته الطَّرِيق وَالْبَيْت هِدَايَة، أَي: عَرفته، هَذِه لُغَة أهل الْحجاز وَغَيرهم. تَقول: هديته إِلَى الطَّرِيق وَإِلَى الدَّار، حَكَاهَا الْأَخْفَش، وَهدى واهتدى بِمَعْنى، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْهدى: هُوَ الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية. قَوْله: (وَالْعلم) هُوَ صفة توجب تمييزاً لَا يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة. قَوْله: (الْغَيْث) هُوَ الْمَطَر، وغيثت الأَرْض فَهِيَ مغيثة ومغيوثة. يُقَال: غاث الْغَيْث الأَرْض إِذا أَصَابَهَا. وغاث الله الْبِلَاد يغيثها غيثاً. قَوْله: (نقية) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: من النَّقَاء، هَكَذَا هُوَ عِنْد البُخَارِيّ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَوَقع عِنْد الْخطابِيّ والْحميدِي، وَفِي حَاشِيَة أصل أبي ذَر: ثغبة، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة خَفِيفَة مَفْتُوحَة، قَالَ الْخطابِيّ: هِيَ مستنقع المَاء فِي الْجبَال والصخور، وَقَالَ الصغاني: الثغب، بِالتَّحْرِيكِ: الغدير، يكون فِي ظلّ جبل لَا تصيبه الشَّمْس فيبرد مَاؤُهُ، وَالْجمع: ثغبان. مثل: شبث وشبثان. وَقد يسكن فَيُقَال: ثغب، وَيجمع على: ثغبان، مثل: ظهر وظهران. وَيجمع على: ثغاب أَيْضا. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هَذِه الرِّوَايَة غلط من الناقلين وتصحيف، وإحالة للمعنى لِأَنَّهُ إِنَّمَا جعلت هَذِه الطَّائِفَة الأولى مثلا لما تنْبت، والثغبة لَا تنْبت، ويروى: بقْعَة، ويروى: (طيبَة) . كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (قبلت المَاء) : من الْقبُول، وَهِي بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَهَذَا الْموضع لَا خلاف فِيهِ. قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْخلاف فِي قَوْله: قَالَ إِسْحَاق: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَة قبلت المَاء، يَعْنِي: هَل يُقَال فِيهِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة، أَو بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف على مَا يَجِيء عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى؟ وَقَالَ بَعضهم: كَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات. وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ: قيلت، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. قلت: ذكر هَذَا هَهُنَا غير مُنَاسِب، لِأَن هَذَا الْموضع لَا خلاف فِيهِ، كَمَا قَالَه الشَّيْخ قطب الدّين، وَإِنَّمَا يذكر هَذَا عِنْد قَول إِسْحَاق. قَوْله: (الْكلأ) ، بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام، وَفِي آخِره همزَة بِلَا مد. قَالَ الصغاني: الْكلأ العشب، وَقد كلئت الأَرْض فَهِيَ كليئة، ثمَّ قَالَ فِي بَاب العشب: العشب الْكلأ الرطب، وَلَا يُقَال لَهُ حشيش حَتَّى يهيج، وأعشبت الأَرْض إِذا أنبتت العشب. وَقَالَ فِي بَاب الْحَشِيش: الحشيس الْكلأ الْيَابِس، وَلَا يُقَال لَهُ: رطب حشيش. قلت: علم من كَلَامه أَن الْكلأ يُطلق على الرطب من النَّبَات واليابس مِنْهُ، وَكَذَا صرح بِهِ ابْن فَارس والجوهري وَالْقَاضِي عِيَاض: الْكلأ يُطلق على الرطب واليابس من النَّبَات، وَفهم من قَول الصغاني أَيْضا أَن الْحَشِيش لَا يُطلق على الرطب، كَذَا صرح بِهِ الْجَوْهَرِي، وَهُوَ مَنْقُول عَن الْأَصْمَعِي ذكره البطليوسي فِي (أدب الْكتاب) وَنقل عَن أبي حَاتِم إِطْلَاقه عَلَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْكلأ، بِالْهَمْزَةِ: هُوَ النَّبَات يَابسا ورطباً، وَأما العشب والخلاء مَقْصُورا فمختصان بالرطب، والحشيش مُخْتَصّ. باليابس. قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: الْخَلَاء، مَقْصُور: الْحَشِيش الْيَابِس، الْوَاحِدَة خلاءة. وَالصَّوَاب مَعَ الْكرْمَانِي، فالجوهري سهى فِيهِ لِأَن الْخَلَاء الرطب، فَإِذا يبس فَهُوَ حشيش. قَوْله: (أجادب) ، بِالْجِيم وبالدال الْمُهْملَة: جمع جَدب على غير قِيَاس، كَمَا قَالُوا فِي: حسن، جمعه: محَاسِن. وَالْقِيَاس أَنه جمع: محسن، أَو جمع: جديب. وَهُوَ من الجدب الَّذِي هُوَ الْقَحْط، وَالْأَرْض الجدبة الَّتِي لم تمطر، وَالْمرَاد هَهُنَا الأَرْض الَّتِي لَا تشرب لصلابتها فَلَا تنْبت شَيْئا. وَفِي (الْعباب) : أَرض جدبة وجدوب أَيْضا، وارضون جدوب، وَمَكَان جَدب وجديب بَين الجدوبة، وعام جَدب، واجدب الْقَوْم أَصَابَهُم الجدب، وأجدبت أَرض كَذَا أَي: وَجدتهَا جدبة. وَقَالَ ابْن السّكيت: جادبت الْإِبِل الْعَام إِذا كَانَ الْعَام محلا، فَصَارَت لَا تَأْكُل إلاَّ الدرين الْأسود ودرين الثمام، وَهَكَذَا هُوَ عَامَّة الرِّوَايَات فِي البُخَارِيّ، وَرِوَايَة مُسلم أَيْضا هَكَذَا، وَضَبطه الْمَازرِيّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَكَذَا ذكره الْخطابِيّ، وَقَالَ: هِيَ صلاب الأَرْض الَّتِي تمسك المَاء. وَقَالَ القَاضِي: هَذَا وهم. قلت: إِن صَحَّ مَا قَالَه الْخطابِيّ يكون من الجذب، وَهُوَ انْقِطَاع الرِّيق، قَالَه أَبُو عَمْرو. وَيُقَال للناقة إِذا قل لَبنهَا: قد جذبت فَهِيَ جاذب، وَالْجمع: جواذب،

(2/77)


وجذاب أَيْضا، مثل: نَائِم ونيام، وَرَوَاهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى عَن أبي كريب: أُحَارب، بحاء وَرَاء مهملتين. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لم يضبطه أَبُو يعلى، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَيست هَذِه الرِّوَايَة بِشَيْء. قلت: إِن صَحَّ هَذَا يكون من الحرباء، وَهِي النشز من الأَرْض، وَمثل هَذِه لَا تمسك المَاء لِأَنَّهُ ينحدر عَنْهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: قَالَ بَعضهم: أجارد، بجيم وَرَاء ثمَّ دَال مُهْملَة: جمع جرداء، وَهِي البارزة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا. قَالَ: وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنى إِن ساعدته الرِّوَايَة. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الأجارد من الأَرْض الَّتِي لَا تنْبت الْكلأ، مَعْنَاهُ: أَنَّهَا جرداء بارزة لَا يَسْتُرهَا النَّبَات. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: إخاذات، بِكَسْر الْهمزَة وَالْخَاء والذال المعجمتين وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، جمع.، إخاذة: وَهِي الأَرْض الَّتِي تمسك المَاء، وَيُقَال: هِيَ الغدران الَّتِي تمسك المَاء. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن عبد الغافر الْفَارِسِي: هُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ الشَّيْخ مغلطاي: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هِيَ أخذات سقط مِنْهَا الْألف، والأخذات مساكات المَاء، واحدتها اخذة. قلت: على مَا قَالَه الْبَعْض يَنْبَغِي أَن تفتح الْهمزَة فِي الأخذات، وَفِي الأخذة أَيْضا الَّذِي هُوَ مفردها وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هِيَ بِكَسْر الْهمزَة فِي الْجمع والمفرد. وَفِي (الْعباب) : الْأَخْذ جمع إخاذ وَهُوَ كالغدير مِثَال: كتاب وَكتب، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الأخاذة والأخاذ، بِالْهَاءِ وَبِغير الْهَاء، صنع للْمَاء ليجتمع فِيهِ، وَسمي إخاذاً لِأَنَّهُ يَأْخُذ مَاء السَّمَاء، وَيُقَال لَهُ: المساكة لِأَنَّهُ تمسكه. ونهيا ونهيا وتنهية: لِأَنَّهُ ينهاه ويحبسه ويمنعه من الجري، وَيُسمى حاجزاً لِأَنَّهُ يحجزه، حائراً لِأَنَّهُ يحار المَاء فِيهِ فَلَا يدْرِي كَيفَ يجْرِي. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هَذِه كلهَا منقولة مروية. قلت: وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) إلاَّ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (شرح مُسلم) : لم يُرو هَذَا الْحَرْف فِي مُسلم وَغَيره إلاَّ بِالدَّال الْمُهْملَة، من الجدب الَّذِي ضد الخصب، وَعَلِيهِ شرح الشارحون. قَوْله: (وَسقوا) قَالَ أهل اللُّغَة: سقى واسقى بِمَعْنى لُغَتَانِ، وَقيل: سقَاهُ: نَاوَلَهُ ليشْرب، وأسقاه: جعل لَهُ سقيا. قَوْله: (طَائِفَة) أَي قِطْعَة أُخْرَى من الأَرْض. قَوْله: (قيعان) ، بِكَسْر الْقَاف: جمع القاع وَهِي الأَرْض المتسعة. وَقيل: الملساء، وَقيل: الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَهَذَا هُوَ المُرَاد فِي الحَدِيث. قلت: أصل قيعان: قوعان، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، والقاع يجمع أَيْضا على: قوع وأقواع. والقيعة بِكَسْر الْقَاف بِمَعْنى القاع. قَوْله: (من فقه) قَالَ النَّوَوِيّ: رُوِيَ هُنَا بِالْوَجْهَيْنِ، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر وَالضَّم أشهر، قلت: الْفِقْه: الْفَهم، يُقَال فقه بِكَسْر الْقَاف كفرح يفرح، وَأما الْفِقْه الشَّرْعِيّ فَقَالُوا: يُقَال مِنْهُ فقه، بِضَم الْقَاف، وَقَالَ ابْن دُرَيْد بِكَسْرِهَا، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا هُوَ الثَّانِي، فتضم الْقَاف على الْمَشْهُور، على قَول ابْن دُرَيْد تكسر، وَقد مر الْكَلَام مُسْتَوفى.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (مثل مَا) كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره، قَوْله: (كَمثل الْغَيْث) و: مَا، مَوْصُولَة: (وبعثني الله) جملَة صلتها، والعائد قَوْله: بِهِ. قَوْله: (من الْهدى) كلمة من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (وَالْعلم) بِالْجَرِّ عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (أصَاب أَرضًا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على الْحَال، بِتَقْدِير: قد. قَوْله: (فَكَانَ) الْفَاء للْعَطْف. (ونقية) بِالرَّفْع اسْم كَانَ. (وَمِنْهَا) مقدما خَبره، قَوْله: (قبلت المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لنقية. قَوْله: (فانبتت) ، عطف على: قبلت، و: الْكلأ، مَنْصُوب بِهِ، و: العشب، عطف عَلَيْهِ، و: الْكثير، بِالنّصب صفة العشب. قَوْله: (وَكَانَت) عطف على قَوْله: (فَكَانَ) ، و: (أجادب) ، بِالرَّفْع اسْم: كَانَ وَخَبره قَوْله: (مِنْهَا) مقدما. قَوْله: (أَمْسَكت المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة: أجادب. قَوْله: (فنفع الله) جملَة معطوفة على الَّتِي قبلهَا، و: الْفَاء، التعقيبية. يكون التعقيب فِيهَا بِحَسب الشَّيْء الَّذِي يدْخل فِيهِ. قَوْله: (فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا) جمل عطف بَعْضهَا على بعض. قَوْله: (وَأصَاب) عطف على قَوْله: (أصَاب أَرضًا) ، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: الْغَيْث. كَمَا فِي: أصَاب، الأول. و: طَائِفَة، مَنْصُوب بِهِ لِأَنَّهُ مفعول، و: أُخْرَى، صفة طَائِفَة. قَوْله: (مِنْهَا) حَال مُتَقَدم من طَائِفَة، وَقد علم أَن الْحَال إِذا كَانَ عَن نكرَة تتقدم على صَاحبهَا. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: (أَصَابَت) ، وَالتَّقْدِير: أَصَابَت طَائِفَة أُخْرَى. وَوَقع كَذَلِك صَرِيحًا عِنْد النَّسَائِيّ. قَوْله: (إِنَّمَا هِيَ قيعان) أَي: مَا هِيَ إلاَّ قيعان لِأَن: إِنَّمَا، من أدوات الْحصْر، و: هِيَ، مُبْتَدأ، و: قيعان، خَبره. قَوْله: (لَا تمسك مَاء) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة: قيعان. قَوْله: (وَلَا تنْبت كلأ) عطف عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا صفته. قَوْله: (فَكَذَلِك) الْفَاء فِيهِ تفصيلية، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، وَهُوَ فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. وَقَوله: (مثل من فقه) كَلَام إضافي خَبره. قَوْله: (ونفعه) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول عطف على: (من فقه) . وَقَوله: (مَا بَعَثَنِي الله) فِي مَحل الرّفْع على أَنه فَاعل لقَوْله: ونفعه، و: مَا، مَوْصُولَة، (وبعثني الله بِهِ) جملَة صلتها. قَوْله: (فَعلم) عطف على قَوْله: (فقه) ، و: علم، عطف على: علم، قَوْله: (وَمثل من) كَلَام إضافي عطف على قَوْله: (مثل

(2/78)


من فقه) و: من، مَوْصُولَة و: لم يرفع بذلك رَأْسا، صلتها. قَوْله: (وَلم يقبل) عطف على: (من لم يرفع) . و: (هدى الله) كَلَام إضافي مفعول: لم يقبل، وَقَوله: (الَّذِي أرْسلت بِهِ) ، فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة هدى. و: أرْسلت، مَجْهُول، وَالضَّمِير فِي: بِهِ، يرجع إِلَى: الَّذِي. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ عطف الْمَدْلُول على الدَّلِيل: لِأَن الْهدى هُوَ الدّلَالَة، وَالْعلم هُوَ الْمَدْلُول، وجهة الْجمع بَينهمَا هُوَ النّظر إِلَى أَن الْهدى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْر أَي التَّكْمِيل، وَالْعلم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّخْص أَي الْكَمَال. وَيُقَال: الْهدى الطَّرِيقَة، وَالْعلم هُوَ الْعَمَل، وَفِيه عطف الْخَاص على الْعَام: لِأَن العشب أَعم من الْكلأ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. والتخصيص بِالذكر لفائدة الاهتمام بِهِ لشرفه، وَنَحْوه. وَفِيه حذف المفاعيل من قَوْله: (فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا) ، لكَونهَا مَعْلُومَة، وَلِأَنَّهَا فضلَة فِي الْكَلَام. وَالتَّقْدِير: فَشَرِبُوا من المَاء وَسقوا دوابهم وزرعوا مَا يصلح للزَّرْع. وَفِيه ضرب الْأَمْثَال. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا مثل ضرب لمن قبل الْهدى وَعلم ثمَّ علم غَيره فنفعه الله ونفع بِهِ، وَمن لم يقبل الْهدى فَلم ينفع بِالْعلمِ وَلم ينْتَفع بِهِ. قلت: فعلى هَذَا لم يَجْعَل النَّاس على ثَلَاثَة أَنْوَاع، بل على نَوْعَيْنِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْقِسْمَة الثنائية هِيَ المتصورة، وَذَلِكَ أَن: (أصَاب مِنْهَا طَائِفَة) ، مَعْطُوف على: أصَاب أَرضًا. و: كَانَت، الثَّانِيَة معطوفة على: كَانَ، لَا على: أصَاب. وَقسمت الأَرْض الأولى إِلَى النقية وَإِلَى الاجادب، وَالثَّانيَِة على عكسها، وَفِي: كَانَ، ضم وتر إِلَى وتر، وَفِي أصَاب، ضم شفع إِلَى شفع، وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (الْأَحْزَاب: 35) من جِهَة أَنه عطف الْإِنَاث على الذُّكُور أَولا، ثمَّ عطف الزَّوْجَيْنِ على الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَا هَهُنَا عطف: كَانَت على كَانَت، ثمَّ عطف: أصَاب على أصَاب. فَالْحَاصِل أَنه قد ذكر فِي الحَدِيث الطرفان العالي فِي الاهتداء والعالي فِي الضلال، فَعبر عَمَّن قبل هدى الله وَالْعلم بقوله: (فقه) ، وَعَن أَبى قبُولهَا بقوله: (لم يرفع بذلك رَأْسا) . لِأَن مَا بعْدهَا وَهُوَ: نَفعه ... إِلَى آخِره، فِي الأول. وَلم يقبل هدى الله ... إِلَى آخِره، فِي الثَّانِي عطف تفسيري لفقه، وَلقَوْله: (لم يرفع) ، وَذَلِكَ لِأَن الْفَقِيه هُوَ الَّذِي علم وَعمل، ثمَّ علم غَيره وَترك الْوسط، وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحدهمَا: الَّذِي انْتفع بِالْعلمِ فِي نَفسه فَحسب، وَالثَّانِي: الَّذِي لم ينْتَفع هُوَ بِنَفسِهِ، وَلَكِن نفع الْغَيْر. وَقَالَ المظهري فِي (شرح المصابيح) : إعلم أَنه ذكر فِي تَقْسِيم الأَرْض ثَلَاثَة أَقسَام، وَفِي تَقْسِيم النَّاس بِاعْتِبَار قبُول الْعلم قسمَيْنِ: أَحدهمَا من فقه ونفع الْغَيْر، وَالثَّانِي من لم يرفع بِهِ رَأْسا. وَإِنَّمَا ذكره كَذَلِك لِأَن الْقسم الأول وَالثَّانِي من أَقسَام الأَرْض كقسم وَاحِد من حَيْثُ إِنَّه ينْتَفع بِهِ، وَالثَّانِي هُوَ مَا لَا ينْتَفع بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاس قِسْمَانِ: من يقبل وَمن لَا يقبل. وَهَذَا يُوجب جعل النَّاس فِي الحَدِيث على قسمَيْنِ: من ينْتَفع بِهِ وَمن لَا ينْتَفع. وَأما فِي الْحَقِيقَة فَالنَّاس على ثَلَاثَة أَقسَام: فَمنهمْ من يقبل من الْعلم بِقدر مَا يعْمل بِهِ وَلم يبلغ دَرَجَة الإفادة، وَمِنْهُم من يقبل ويبلغ، وَمِنْهُم من لَا يقبل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل لفظ الحَدِيث تثليث الْقِسْمَة فِي النَّاس أَيْضا، بِأَن يقدر قبل لَفْظَة: نَفعه، كلمة: من، بِقَرِينَة عطفه على: من فقه، كَمَا فِي قَوْله حسان، رَضِي الله عَنهُ.
(أَمن يهجو رَسُول الله مِنْكُم ... ويمدحه وينصره سَوَاء؟)

إِذْ تَقْدِيره: وَمن يمدحه، وحينئذٍ يكون الْفَقِيه بِمَعْنى الْعَالم بالفقه مثلا فِي مُقَابلَة الأجادب، والنافع فِي مُقَابلَة النقية على اللف والنشر غير الْمُرَتّب، وَمن لم يرفع فِي مُقَابلَة القيعان. فَإِن قلت: لمَ حذف لَفْظَة: من؟ قلت: إشعاراً بِأَنَّهُمَا فِي حكم شَيْء وَاحِد، أَي: فِي كَونه ذَا انْتِفَاع فِي الْجُمْلَة كَمَا جعل للنقية والاجادب حكما وَاحِدًا، وَلِهَذَا لم يعْطف بِلَفْظ أصَاب فِي الأجادب. انْتهى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى هَذَا التَّمْثِيل أَن الأَرْض ثَلَاثَة أَنْوَاع، فَكَذَلِك النَّاس. فالنوع الأول: من الأَرْض ينْتَفع بالمطر فتحيي بعد أَن كَانَت ميتَة، وتنبت الْكلأ فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب. وَالنَّوْع الأول: من النَّاس يبلغهُ الْهدى وَالْعلم فيحفظه ويحيي قلبه وَيعْمل بِهِ ويعلمه غَيره فينتفع وينفع. وَالنَّوْع الثَّانِي: من الأَرْض: مَا لَا يقبل الِانْتِفَاع فِي نَفسهَا، لَكِن فِيهَا فَائِدَة وَهِي إمْسَاك المَاء لغَيْرهَا، فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب. وَكَذَا النَّوْع الثَّانِي: من النَّاس: لَهُم قُلُوب حافظة، لَكِن لَيست لَهُم أذهان ثاقبة وَلَا رسوخ لَهُم فِي الْعلم يستنبطون بِهِ الْمعَانِي وَالْأَحْكَام، وَلَيْسَ لَهُم اجْتِهَاد فِي الْعَمَل بِهِ، فهم يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَجِيء أهل الْعلم للنفع وَالِانْتِفَاع، فَيَأْخذهُ مِنْهُم فينتفع بِهِ، فَهَؤُلَاءِ نفعوا بِمَا بَلغهُمْ. وَالثَّالِث: من الأَرْض: هُوَ السباخ الَّتِي لَا تنْبت، فَهِيَ لَا تنْتَفع بِالْمَاءِ وَلَا تمسكه لينْتَفع بِهِ غَيرهَا، وَكَذَلِكَ الثَّالِث من النَّاس: لَيست لَهُم قُلُوب حافظة، وَلَا أفهام وَاعِيَة، فَإِذا سمعُوا الْعلم لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَحْفَظُونَهُ لنفع غَيرهم. الأول: المنتفع النافع، وَالثَّانِي: النافع غير المنتفع. وَالثَّالِث: غير النافع وَغير المنتفع. فَالْأول: إِشَارَة إِلَى الْعلمَاء. وَالثَّانِي إِلَى النقلَة. وَالثَّالِث: إِلَى من لَا علم لَهُ وَلَا عقل. قلت: الصَّوَاب مَعَ الطَّيِّبِيّ، لِأَن تَقْسِيم الأَرْض، وَإِن كَانَ ثَلَاثَة

(2/79)


بِحَسب الظَّاهِر، وَلكنه فِي الْحَقِيقَة قِسْمَانِ، لِأَن النَّوْعَيْنِ محمودان وَالثَّالِث مَذْمُوم، وتقسيم النَّاس نَوْعَانِ: أَحدهمَا ممدوح، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى) الخ وَالْآخر مَذْمُوم، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَمثل من لم يرفع بذلك رَأْسا) ، وَمَا ذكره الْكرْمَانِي تعسف، وَهَذَا التَّقْدِير الَّذِي ذكره غير سَائِغ فِي الِاخْتِيَار. وَبَاب الشّعْر وَاسع. وَأَيْضًا يلْزمه أَن يكون تَقْسِيم النَّاس أَرْبَعَة: الأول: قَوْله: (مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى) . وَالثَّانِي: قَوْله: (ونفعه مَا بَعَثَنِي الله بِهِ) على قَوْله: وَالثَّالِث: قَوْله: (وَمثل من لم يرفع بذلك رَأْسا) . وَالرَّابِع: (وَلم يقبل هدى الله) . قَوْله: (فنفع الله بهَا) أَي: بأجادب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بِهِ، وتذكيره الضَّمِير بِاعْتِبَار المَاء. قَوْله: (وزرعوا) من الزَّرْع، كَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ، وَلمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: (ورعوا) ، من الرَّعْي. قَالَ النَّوَوِيّ: كِلَاهُمَا صَحِيح، وَرجح القَاضِي عِيَاض رِوَايَة مُسلم. وَقَالَ: هُوَ رَاجع إِلَى الأولى، لِأَن الثَّانِيَة لم يحصل مِنْهَا نَبَات. قلت: وَيُمكن أَن يرجع إِلَى الثَّانِيَة أَيْضا، بِمَعْنى أَن المَاء الَّذِي اسْتَقر بهَا سقيت مِنْهُ أَرض أُخْرَى فأنبتت. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَيحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: (ورعوا) ، النَّاس الَّذِي أخذُوا الْعلم عَن الَّذين حملوه على النَّاس، وهم غير الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة على رَأْي جمَاعَة. وَرُوِيَ: ووعوا، وَهُوَ تَصْحِيف. قَوْله: (من لم يرفع بذلك رَأْسا) يَعْنِي: تكبر، يُقَال ذَلِك وَيُرَاد بِهِ أَنه لم يلْتَفت إِلَيْهِ من غَايَة تكبره.
بَيَان الْبَيَان: فِيهِ تَشْبِيه مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الدّين بالغيث الْعَام الَّذِي يَأْتِي النَّاس فِي حَال حَاجتهم إِلَيْهِ، وتشبيه السامعين لَهُ بِالْأَرْضِ الْمُخْتَلفَة. فَالْأول: تَشْبِيه الْمَعْقُول بالمحسوس، وَالثَّانِي: تَشْبِيه المحسوس بالمحسوس، وعَلى قَول من يَقُول بِتَثْلِيث الْقِسْمَة يكون ثَلَاث تشبيهات على مَا لَا يخفى، وَيحْتَمل أَن يكون تَشْبِيها وَاحِدًا من بَاب التَّمْثِيل، أَي تَشْبِيه صفة الْعلم الْوَاصِل إِلَى أَنْوَاع النَّاس من جِهَة اعْتِبَار النَّفْع وَعَدَمه بِصفة الْمَطَر الْمُصِيب، إِلَى أَنْوَاع الأَرْض من تِلْكَ الْجِهَة. قَوْله: (فَذَلِك مثل من فقه) تَشْبِيه آخر ذكر كالنتيجة للْأولِ، ولبيان الْمَقْصُود مِنْهُ. والتشبيه هُوَ الدّلَالَة على مُشَاركَة أَمر لأمر فِي وصف من أَوْصَاف أَحدهمَا فِي نَفسه: كالشجاعة فِي الْأسد، والنور فِي الشَّمْس. وَلَا بُد فِيهِ من: الْمُشبه، والمشبه بِهِ، وأداة التَّشْبِيه، وَوجه الشّبَه. أما الْمُشبه والمشبه بِهِ فظاهران، وَكَذَا أَدَاة التَّشْبِيه وَهِي الْكَاف، وَأما وَجه الشّبَه فَهُوَ الْجِهَة الجامعة بَين الْعلم والغيث، فَإِن الْغَيْث يحيي الْبَلَد الْمَيِّت، وَالْعلم يحيي الْقلب الْمَيِّت. فَإِن قلت: لم اختير الْغَيْث من بَين سَائِر أَسمَاء الْمَطَر؟ قلت: ليؤذن باضطرار الْخلق إِلَيْهِ حينئذٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ينزل الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا} (الشورى: 28) . وَقد كَانَ النَّاس قبل المبعث قد امتحنوا بِمَوْت الْقُلُوب، وتصوب الْعلم حَتَّى أَصَابَهُم الله برحمة من عِنْده: وَفِيه التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، فَقَوله: (أصَاب أَرضًا) مُجمل، وَقَوله: (فَكَانَ مِنْهَا نقية) إِلَى آخِره ... تَفْصِيل، فَلذَلِك ذكره بِالْفَاءِ. فَإِن قلت: لِمَ كرر لَفْظَة: مثل، فِي قَوْله: (من لم يرفع) ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ نوع آخر مُقَابل لما تقدم، فَلذَلِك كَرَّرَه.
قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحاقُ: وكانَ مِنْها طائِفةٌ قَيَّلَتِ الماءَ
أَبُو عبد اللَّه هُوَ البُخَارِيّ، أَرَادَ أَن إِسْحَاق قَالَ: قيلت، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، مَكَان قبلت بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ الْأصيلِيّ: قيلت، تَصْحِيف من إِسْحَاق، وَإِنَّمَا هِيَ: قبلت، كَمَا ذكر فِي أول الحَدِيث، وَقَالَ غَيره: معنى قيلت: شربت القيل. وَهُوَ شرب نصف النَّهَار، يُقَال: قيلت الْإِبِل إِذا شربت نصف النَّهَار. وَقيل: معنى: قيلت: جمعت وحبست. قَالَ القَاضِي: وَقد رَوَاهُ سَائِر الروَاة، غير الْأصيلِيّ: قبلت، يَعْنِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي أول الحَدِيث وَفِي قَول إِسْحَاق، فعلى هَذَا إِنَّمَا خَالف إِسْحَاق فِي لَفْظَة طَائِفَة جعلهَا مَكَان نقية، قَالَه الشَّيْخ قطب الدّين وبنحوه قَالَ الْكرْمَانِي. قَالَ إِسْحَاق: وَفِي بعض النّسخ بعده: عَن أبي أُسَامَة، يَعْنِي حَمَّاد بن أُسَامَة، وَالْمَقْصُود مِنْهُ أَنه روى إِسْحَاق عَن حَمَّاد لفظ: طَائِفَة، بدل مَا روى مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن حَمَّاد لفظ: نقية. وَأما إِسْحَاق، فقد قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هَذَا من الْمَوَاضِع المشكلة فِي كتاب البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ ذكر جمَاعَة فِي كِتَابه لم ينسبهم، فَوَقع من بعض النَّاس اعْتِرَاض عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك لما يحصل من اللّبْس وَعدم الْبَيَان، وَلَا سِيمَا إِذا شاركهم ضَعِيف فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة، وأزال الْحَاكِم ابْن الرّبيع اللّبْس بِأَن نسب بَعضهم، وَاسْتدلَّ على نسبته. وَذكر الكلاباذي بَعضهم، وَذكر ابْن السكن بَعْضًا، وَمن جملَة التراجم المعترضة: إِسْحَاق، فَإِنَّهُ ذكر هَذِه التَّرْجَمَة فِي مَوَاضِع من كِتَابه مُهْملَة، وَهِي كَثِيرَة جدا. قَالَ أَبُو عَليّ الجياني: روى البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ، وَإِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أبي أُسَامَة، وَقد حدث

(2/80)


مُسلم أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج عَن أبي أُسَامَة. قلت: إِسْحَاق الْمَذْكُور هُنَا لَا يخرج عَن أحد الثَّلَاثَة، ويترجح أَن يكون إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه لِكَثْرَة رِوَايَته عَنهُ، وَقد حكى الجياني عَن سعيد بن السكن الْحَافِظ: أَن مَا كَانَ فِي كتاب البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَهُوَ: بِالْهَاءِ وَالْوَاو المفتوحتين وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال أَيْضا: بِالْهَاءِ المضمومة وبالياء أخر الْحُرُوف الْمَفْتُوحَة، وَهُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام، أَبُو يَعْقُوب الْحَنْظَلِي الْمروزِي، سكن نيسابور، وَقَالَ عبد اللَّه بن طَاهِر لَهُ: لِمَ قيل لَك ابْن رَاهَوَيْه؟ قَالَ: إعلم أَيهَا الْأَمِير أَن أبي ولد فِي طَرِيق مَكَّة، فَقَالَ المراوزة: راهوي، لِأَنَّهُ ولد فِي الطَّرِيق، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ: رَاه، وَهُوَ أحد أَرْكَان الْمُسلمين، وَعلم من أَعْلَام الدّين، مَاتَ بنيسابور سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، قلت: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، بِالْخَاءِ العجمة، نزيل الْمَدِينَة، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، أَو: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج الْمروزِي، مَاتَ عَام أحد وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، إِذْ البُخَارِيّ فِي هَذَا الصَّحِيح يروي عَن الثَّلَاثَة عَن أبي أُسَامَة، قَالَ الغساني فِي كتاب (تَقْيِيد المهمل) إِن البُخَارِيّ إِذا قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق، غير مَنْسُوب، حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، يَعْنِي بِهِ أحد هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، وَلَا يَخْلُو عَن أحدهم.
قاعٌ يَعْلُوهُ الماءُ، والصَّفْصَفٌ المُسْتَوي منَ الأَرْض

لما كَانَ فِي الحَدِيث لفظ: قيعان، أَشَارَ بقوله: (قاع يعلوه المَاء) إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن قيعان، الْمَذْكُورَة وَاحِدهَا: قاع. وَالْآخر: أَن القاع هِيَ الأَرْض الَّتِي يعلوها المَاء وَلَا يسْتَقرّ فِيهَا، وَذكر: الصفصف، مَعَه بطرِيق الاستطراد، لِأَن من عَادَته تَفْسِير مَا وَقع فِي الحَدِيث من الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي الْقُرْآن، وَوَقع فِي الْقُرْآن: {قاعا صفصفا} (طه: 106) قَالَ أَكثر أهل اللُّغَة: الصفصف المستوي من الأَرْض، مثل مَا فسره البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن عباد الصفصف، حرف الْجَبَل. وَوَقع فِي بعض النّسخ: والمصطف المستوي من الأَرْض، وَهُوَ تَصْحِيف. ثمَّ قَوْله: قاع ... إِلَى آخِره، إِنَّمَا هُوَ ثَابت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره لَيْسَ بموجود.

21 - (بَاب رفْعِ العِلْمِ وظُهُورِ الجَهْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، وَإِنَّمَا قَالَ: وَظُهُور الْجَهْل، مَعَ أَن رفع الْعلم يسْتَلْزم ظُهُور الْجَهْل، لزِيَادَة الْإِيضَاح. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول: فضل الْعَالم والمتعلم، وَفِيه التَّرْغِيب فِي تَحْصِيل الْعلم وَالْإِشَارَة إِلَى فَضِيلَة الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ ضد ذَلِك، لِأَن فِيهِ: رفع الْعلم المستلزم لظُهُور الْجَهْل، وَفِيه التحذير وذم الْجَهْل وبالضد تتبين الْأَشْيَاء.
وَقَالَ رَبيعَةُ لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ العِلْمِ أنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.
ربيعَة: هُوَ الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي، بِإِسْكَان الْهمزَة، إِنَّمَا قيل لَهُ ذَلِك لِكَثْرَة اشْتِغَاله بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد، وَهُوَ ابْن أبي عبد الرَّحْمَن فروخ، بِالْفَاءِ وَالرَّاء الْمُشَدّدَة المضمومة وبالخاء الْمُعْجَمَة، الْمدنِي التَّابِعِيّ الْفَقِيه، شيخ مَالك بن أنس، روى عَنهُ الْأَعْلَام مِنْهُم أَبُو حنيفَة. توفّي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: بالأنبار، فِي دولة أبي الْعَبَّاس. فَإِن قلت: مَا وَجه مُنَاسبَة قَول ربيعَة هَذَا للتبويب فِي رفع الْعلم؟ قلت: من كَانَ لَهُ فهم وَقبُول يلْزمه من فرض الْعلم مَا لَا يلْزم غَيره، فَيَنْبَغِي أَن يجْتَهد فِيهِ وَلَا يضيع علمه فيضيع نَفسه، فَإِنَّهُ إِذا لم يتَعَلَّم أفْضى إِلَى رفع الْعلم، لِأَن البليد لَا يقبل الْعلم، فَهُوَ عَنهُ مُرْتَفع. فَلَو لم يتَعَلَّم الْفَهم لارتفع الْعلم عَنهُ أَيْضا، فيرتفع عُمُوما، وَذَلِكَ من أَشْرَاط السَّاعَة. وَيُقَال: معنى كَلَام ربيعَة: الْحَث على نشر الْعلم، لِأَن الْعَالم فِي قومه إِذا لم ينشر علمه، وَمَات قبل ذَلِك، أدّى ذَلِك إِلَى رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، وَهَذَا الْمَعْنى أَيْضا يُنَاسب التَّبْوِيب. وَيُقَال: مَعْنَاهُ: أَنه لَا يَنْبَغِي للْعَالم أَن يَأْتِي بِعِلْمِهِ أهل الدُّنْيَا. وَلَا يتواضع لَهُم إجلالاً للْعلم. فعلى هَذَا فَالْمَعْنى فِي مُنَاسبَة التَّبْوِيب مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ من قلَّة الإشتغال بِالْعلمِ والاهتمام بِهِ لما يرى من ابتذال أَهله وَقلة الاحترام لَهُم. قَوْله: (أَن يضيع) وَفِي بعض النّسخ: يضيع، بِدُونِ: أَن، مَعْنَاهُ، بِأَن لَا يُفِيد النَّاس وَلَا يسْعَى فِي تَعْلِيم الْغَيْر، وَقد قيل:
(وَمن منع المستوجبين فقد ظلم)

وَقَالَ التَّيْمِيّ:

(2/81)


قَالَ الْفُقَهَاء: لزم معِين الْبَلَد للْقَضَاء طلبه لحَاجَة إِلَى رزقة من بَيت المَال أَو لخمول ذكره وَعدم شهرة فضيلته، يَعْنِي: إِذا ولي الْقَضَاء انْتَشَر علمه. فَإِن قلت: مَا حَال هَذَا التَّعْلِيق؟ قلت: قد علم أَن مَا يذكر البُخَارِيّ بِصِيغَة الْجَزْم يدل على صِحَّته عِنْده، وَمَا يذكرهُ بِصِيغَة التمريض يدل على ضعفه. وَهَذَا بِصِيغَة الْجَزْم وَوَصله الْخَطِيب فِي (الْجَامِع) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الْمدْخل) من طَرِيق عبد الْعَزِيز الأويسي عَن مَالك عَن ربيعَة.

80 - حدّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّ منْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَثْبُتَ الجَهْلُ وَيُشْرَبَ الخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنا) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: عمرَان، بِكَسْر الْعين: ابْن ميسرَة، بِفَتْح الْمِيم، ضد الميمنة: أَبُو الْحسن الْمنْقري الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف والحاء الْمُهْملَة: اسْمه يزِيد بن زِيَادَة بن حميد الضبعِي، من أنفسهم، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من يشْتَرك مَعَه فِي هَذِه الكنية، وَرُبمَا كنى بِأبي حَمَّاد، وَهُوَ ثِقَة ثَبت صَالح: مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، روى عَنهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة: وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده رباعي.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عمرَان بن ميسرَة، وَمُسلم فِي الْقدر عَن شَيبَان بن فروخ، وَالنَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عمرَان بن مُوسَى الْقَزاز، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الْوَارِث عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من أَشْرَاط السَّاعَة) ، بِفَتْح الْهمزَة: أَي: علاماتها، وَهُوَ جمع شَرط، بِفَتْح الشين وَالرَّاء، وَبِه سميت: شَرط السُّلْطَان، لأَنهم جعلُوا لأَنْفُسِهِمْ عَلَامَات يعْرفُونَ بهَا. وَقد مر زِيَادَة الْكَلَام فِيهِ فِي الْإِيمَان. قَوْله: (وَيثبت الْجَهْل) ، من الثُّبُوت، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ ضد النَّفْي. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (ويبث) ، من البث، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والثاء الْمُثَلَّثَة. وَهُوَ الظُّهُور والفشو. وَقَالَ بَعضهم: وغفل الْكرْمَانِي فعزاها إِلَى البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) . قلت: لم يقل الْكرْمَانِي: وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، وَلَا قَالَ: روى، وَإِنَّمَا قَالَ: وَفِي بعض النّسخ: يبث من البث، وَهُوَ النشر، وَلَا يلْزم من هَذِه الْعبارَة نسبته إِلَى البُخَارِيّ، لِأَنَّهُ يُمكن أَن تكون هَذِه الرِّوَايَة من غير البُخَارِيّ وَقد كتب فِي كِتَابه، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: ينْبت من النَّبَات، بالنُّون. والمعترض الْمَذْكُور أَيْضا، وَلَيْسَت هَذِه فِي شَيْء من الصَّحِيحَيْنِ قَالَ وَلَا يلْزم من عدم اطِّلَاعه على ذَلِك نَفْيه بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُبمَا ثَبت ذَلِك عِنْد أَحْمد من نَقله (الصَّحِيحَيْنِ) ، فنقله ثمَّ جعل ذَلِك نُسْخَة، وَالْمُدَّعِي بالفن لَا يقدر على إحاطة جَمِيع مَا فِيهِ، وَلَا سِيمَا علم الرِّوَايَة، فَإِنَّهُ علم وَاسع لَا يدْرك ساحله. قَوْله: (وَيشْرب الْخمر) قَالَ بَعضهم: المُرَاد كَثْرَة ذَلِك واشتهاره، ثمَّ أكد كَلَامه بقوله: وَعند المُصَنّف فِي النِّكَاح من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة: (وَيكثر شرب الْخمر) . أَو الْعَلامَة مَجْمُوع ذَلِك. قلت: لَا نسلم أَن المُرَاد كَثْرَة ذَلِك، بل شرب الْخمر مُطلقًا هُوَ جُزْء الْعلَّة من أَشْرَاط السَّاعَة، وَقَوله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (وَيكثر شرب الْخمر) لَا يسْتَلْزم أَن يكون نفي مُطلق الشّرْب من أشراطها، لِأَن الْمُقَيد بِحكم لَا يسْتَلْزم نفي الحكم الْمُطلق، وَالْأَصْل إِجْرَاء كل لفظ على مُقْتَضَاهُ، وَلَا تنَافِي بَين حكم يُمكن حُصُوله مُعَلّقا بِشَرْط تَارَة، وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى، وَنَظِيره: الْملك، فَإِنَّهُ يُوجد بِالشِّرَاءِ وَغَيره، وَهَذَا الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من كَلَام الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: شرب الْخمر كَيفَ يكون من علاماتها، وَالْحَال أَنه كَانَ وَاقعا فِي جَمِيع الْأَزْمَان، وَقد حد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض النَّاس لشربه إِيَّاهَا؟ قلت: المُرَاد مِنْهُ أَن يشرب شرباً فاشياً، أَو أَن نقس الشّرْب وَحده لَيْسَ عَلامَة، بل الْعَلامَة مَجْمُوع الْأُمُور الْمَذْكُورَة. قلت: هَذَا السُّؤَال غير وَارِد لِأَنَّهُ لَا يلْزم من وُقُوعهَا فِي جَمِيع الْأَزْمَان، وحد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شاربها أَن لَا يكون من عَلَامَات السَّاعَة. نعم قَوْله: بل الْعَلامَة مَجْمُوع الْأُمُور الْمَذْكُورَة هُوَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة

(2/82)


وَالسَّلَام، جمع بَين الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِحرف الْجمع، وَالْجمع بِحرف الْجمع كالجمع بِلَفْظ الْجمع، وَوُجُود الْمَجْمُوع هُوَ الْعَلامَة لوُقُوع السَّاعَة، وكل مِنْهَا جُزْء الْعلَّة، فحينئذٍ تَقْيِيد الشّرْب بِالْكَثْرَةِ لَا يُفِيد. وَقد قُلْنَا: إِن مَا ورد من قَوْله: وَيكثر شرب الْخمر، لَا يُنَافِي كَون مُطلق الشّرْب جُزْء عِلّة، وكل من الشّرْب الْمُطلق وَالشرب الْمُقَيد بِالْكَثْرَةِ والشهرة جُزْء عِلّة لِأَن الْعلَّة الدَّالَّة على وُقُوع الحكم هِيَ الْعلَّة المركبة من وجود الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة. ثمَّ الْخمر فِي اللُّغَة من التخمير، وَهُوَ: التغطية. سميت بِهِ لِأَنَّهَا تغطي الْعقل. وَمِنْه الْخمار للْمَرْأَة، وَفِي (الْعباب) : يُقَال: خمرة وخمر وخمور. مِثَال تَمْرَة وتمر وتمور، وَيُقَال: خمرة صرف، وَفِي الحَدِيث: (الْخمْرَة مَا خامر الْعقل) . وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: سميت الْخمْرَة خمرًا لِأَنَّهَا تركت فَاخْتَمَرت، واختمارها تَغْيِير رِيحهَا، وَعند الْفُقَهَاء: الْخمر هِيَ النيء من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد، وَيلْحق بهَا غَيرهَا من الْأَشْرِبَة إِذا أسكر. قَوْله: (وَيظْهر الزِّنَا) أَي: يفشو وينتشر، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ويفشو الزِّنَا) ، وَالزِّنَا: يمد وَيقصر، وَالْقصر لأهل الْحجاز قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تقربُوا الزِّنَا} (الْإِسْرَاء: 32) وَالْمدّ لأهل نجد، وَقد زنى يَزْنِي وَهُوَ من النواقص اليائية، وَالنِّسْبَة إِلَى الْمَقْصُور: زنوي، وَإِلَى المدود: زنائي.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَن) : حرف من الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ يرفع وَينصب فَقَوله: (أَن يرفع الْعلم) فِي مَحل النصب إسمها، و: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْرِيره: رفع الْعلم. وخبرها قَوْله: (من أَشْرَاط السَّاعَة) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم) ، من غير أَن فِي أَوله، فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون مَحل (أَن يرفع الْعلم) الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما (من أَشْرَاط السَّاعَة) . وَقَالَ بَعضهم: وَسَقَطت: أَن، من رِوَايَة النَّسَائِيّ حَيْثُ أخرجه عَن عمرَان شيخ البُخَارِيّ. قلت: هَذَا غَفلَة وسهو، لِأَن شيخ البُخَارِيّ هُوَ عمرَان بن ميسرَة، وَشَيخ النَّسَائِيّ هُوَ عمرَان بن مُوسَى. قَوْله: (وَيثبت) بِالنّصب عطفا على: (أَن يرفع) ، وَكَذَلِكَ: (وَيشْرب وَيظْهر) منصوبان بالْعَطْف على الْمَنْصُوب، و: أَن، مقدرَة فِي الْجمع، و: يرفع وَيشْرب، مَجْهُولَانِ، و: وَيثبت وَيظْهر، معلومان.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَن يرفع الْعلم) فِيهِ إِسْنَاد مجازي، وَالْمرَاد: رَفعه بِمَوْت حَملته وَقبض الْعلمَاء، وَلَيْسَ المُرَاد محوه من صُدُور الْحفاظ وَقُلُوب الْعلمَاء، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي بَاب: كَيفَ يقبض الْعلم؟ عَن عبد اللَّه بن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِن الله عز وَجل لَا يقبض الْعلم انتزاعاً ينتزعه من الْعباد، وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيسألوا، فافتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا) . وَبَين بِهَذَا الحَدِيث أَن المُرَاد بِرَفْع الْعلم هُنَا قبض أَهله وهم الْعلمَاء لَا محوه من الصُّدُور، لَكِن بِمَوْت أَهله واتخاذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيحكمون فِي دين الله تَعَالَى برأيهم ويفتون بجهلهم، قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقد وجد ذَلِك فِي زَمَاننَا، كَمَا أخبر بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: قلت: هَذَا قَوْله مَعَ توفر الْعلمَاء فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا؟ قَالَ العَبْد الضَّعِيف: هَذَا قَوْله مَعَ كَثْرَة الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والمحدثين الْكِبَار فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا الَّذِي خلت الْبِلَاد عَنْهُم، وتصدرت الْجُهَّال بالإفتاء والتعين فِي الْمجَالِس والتدريس فِي الْمدَارِس؟ فنسأل السَّلامَة والعافية.

81 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حدّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ قالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثاً لَا يُحَدِّثُكُمْ أحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (منْ أشْراطِ السَّاعَةِ أنْ يَقلَّ العِلْمُ، ويَظْهَرَ الجَهلُ، ويَظْهَرَ الزِّنا، وتَكْثُرَ النِّساءُ ويَقِلَّ الرِّجالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسينَ امْرَأةً القَيِّمُ الوَاحدُ) ..
مُطَابقَة هَذَا أَيْضا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَفِي التَّرْجَمَة: رفع الْعلم، من لفظ الحَدِيث الأول، وفيهَا: ظُهُور الْجَهْل من لفظ هَذَا الحَدِيث.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَالْكل قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَالْكل بصريون، وَبِهَذَا التَّرْتِيب وَقع فِي بَاب الْإِيمَان: (أَن يحب لاخيه) . وَفِي إِسْنَاده تحديث وعنعنة وَسَمَاع. قَوْله: (عَن أنس) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: عَن أنس بن مَالك.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْقدر عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عَمْرو بن عَليّ وَأبي مُوسَى، وَابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ.

(2/83)


بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (أَن يقل) ، بِكَسْر الْقَاف: من الْقلَّة ضد الْكَثْرَة. قَوْله: (الْقيم الْوَاحِد) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة، وَهُوَ الْقَائِم بِأُمُور النِّسَاء، وَكَذَا الْقيام والقوام. يُقَال: فلَان قوام أهل بَيته وقيامه، وَهُوَ الَّذِي يُقيم شَأْنهمْ. وَمِنْه قَوْله: تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} (النِّسَاء: 5) وقوام الْأَمر أَيْضا: ملاكه الَّذِي يقوم بِهِ، وأصل: قيم قيوم على وزن فيعل، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فابدلت من الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. وَلم يعكس الْأَمر هَهُنَا هرباً من الالتباس: بِقوم، الَّذِي هُوَ ماضٍ من التَّقْوِيم. قَوْله: (لأحدثنكم) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة، وَهُوَ جَوَاب قسم مَحْذُوف، أَي وَالله لاحدثنكم، وَلِهَذَا جَازَ دُخُول النُّون الْمُؤَكّدَة عَلَيْهِ، وَصرح بِهِ أَبُو عوَانَة من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن غنْدر عَن شُعْبَة: (أَلا أحدثكُم) . فَيحْتَمل أَن يكون قَالَ لَهُم أَولا: أَلا أحدثكُم، فَقَالُوا: نعم. فَقَالَ: لأحدثنكم. قَوْله: (حَدِيثا) قَائِم مقَام أحد المفعولين: لأحدثنكم. قَوْله: (لَا يُحَدثكُمْ أحد) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله: (حَدِيثا) . قَوْله: (بعدِي) ، كَلَام إضافي صفة: لأحد، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يحدث أحد بعدِي) . بِحَذْف الْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن غنْدر عَن شُعْبَة: (لَا يُحَدثكُمْ بِهِ أحد بعدِي) . وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق هِشَام: (لَا يُحَدثكُمْ بِهِ غَيْرِي) . وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من هَذَا الْوَجْه: لَا يُحَدثكُمْ أحد سَمعه من رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بعدِي. قَوْله: (سَمِعت) بَيَان أَو بدل لقَوْله: (لأحدثنكم) وَقد مر تَوْجِيه كَيْفيَّة جعل الذَّات مسموعاً. قَوْله: (يَقُول) جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (أَن يقل الْعلم) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَأَن: مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (من أَشْرَاط السَّاعَة) خبر مقدم، وَالتَّقْدِير: من أَشْرَاط السَّاعَة قلَّة الْعلم. قَوْله: (وَيظْهر) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، و: تكْثر ويقل، فِي الْأَخير كلهَا منصوبات بِتَقْدِير: أَن، لِأَنَّهَا عطف على قَوْله: (أَن يقل الْعلم) وَالْكل على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (حَتَّى يكون) حَتَّى، هَهُنَا للغاية، بِمَعْنى إِلَى، و: أَن، بعْدهَا مقدرَة. قَوْله: (الْقيم) مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: يكون، و: الْوَاحِد، صفته.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال) قَالَ القَاضِي وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا: يقل الرِّجَال بِكَثْرَة الْقَتْل فَيَمُوت الرِّجَال فتكثر النِّسَاء، وبقتلهم يكثر الْفساد وَالْجهل. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: هُوَ إِشَارَة إِلَى كَثْرَة الْفتُوح فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل الْوَاحِد عدَّة موطوآت. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ صرح بِالْعِلَّةِ فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْآتِي فِي الزَّكَاة عِنْد المُصَنّف. فَقَالَ: (من قلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء) . وَالظَّاهِر أَنَّهَا عَلامَة مَحْضَة لَا لسَبَب آخر. قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى شَيْء من التَّنْبِيه على الْعلَّة، لَا صَرِيحًا وَلَا دلَالَة، وَإِنَّمَا معنى قَوْله: (من قلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء) مثل معنى قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث: (وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال) ، وَالْعلَّة لهَذَا لَا تطلب إلاَّ من خَارج، وَقد ذكرُوا هذَيْن الْوَجْهَيْنِ، وَيُمكن أَن يُقَال: يكثر فِي آخر الزَّمَان ولادَة الْإِنَاث، ويقل ولادَة الذُّكُور، وبقلة الرِّجَال يظْهر الْجَهْل وَيرْفَع الْعلم، وَيَكْفِي كثرتهن فِي قلَّة الْعلم وَظُهُور الْجَهْل وَالزِّنَا، لِأَن النِّسَاء حبائل الشَّيْطَان وَهن ناقصات عقل وَدين. قَوْله: (لخمسين امْرَأَة) يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا حَقِيقَة هَذَا الْعدَد، وَأَن يُرَاد بهَا كَونهَا مجَازًا عَن الْكَثْرَة، وَلَعَلَّ السِّرّ فِيهِ أَن الْأَرْبَعَة فِي كَمَال نِصَاب الزَّوْجَات، فَاعْتبر الْكَمَال مَعَ زِيَادَة وَاحِدَة عَلَيْهِ، ثمَّ اعْتبر كل وَاحِدَة بِعشر أَمْثَالهَا ليصير فَوق الْكَمَال مُبَالغَة فِي الْكَثْرَة، أَو لِأَن الْأَرْبَعَة مِنْهَا يُمكن تألف الْعشْرَة، لِأَن فِيهَا وَاحِد أَو اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة، وَهَذَا الْمَجْمُوع: عشرَة، وَمن العشرات المئات، وَمن المئات الألوف، فَهِيَ أصل جَمِيع مَرَاتِب الْأَعْدَاد، فزيد فَوق الأَصْل وَاحِد آخر ثمَّ اعْتبر كل وَاحِدَة مِنْهَا بِعشر أَمْثَالهَا أَيْضا تَأْكِيدًا للكثرة، ومبالغة فِيهَا.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: من أَيْن عرف أنس، رَضِي الله عَنهُ، أَن أحدا لَا يحدث بعده؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ لَعَلَّه عرفه بِإِخْبَار الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو قَالَ بِنَاء على ظَنّه أَنه لم يسمع الحَدِيث غَيره من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن أنسا، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يبْق من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره، أَو لما رأى من التَّغَيُّر وَنقص الْعلم فوعظهم بِمَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نقص الْعلم أَنه من أَشْرَاط السَّاعَة، ليحضهم على طلب الْعلم، ثمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ على نَصه. قلت: يحْتَمل أَن يكون الْخطاب بذلك لأهل الْبَصْرَة خَاصَّة، لِأَنَّهُ آخر من مَاتَ بِالْبَصْرَةِ، رَضِي الله عَنهُ. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قلَّة الْعلم تَقْتَضِي بَقَاء شَيْء مِنْهُ، وَفِي الحَدِيث السَّابِق: (يرفع الْعلم) ، وَالرَّفْع عدم بَقَائِهِ، فبينهما تناف. أُجِيب: بِأَن الْقلَّة قد تطلق وَيُرَاد بهَا الْعَدَم، أَو كَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار الزمانين، كَمَا يُقَال مثلا: الْقلَّة فِي ابْتِدَاء أَمر الإشراط والعدم

(2/84)


فِي انتهائه، وَلِهَذَا قَالَ ثمَّة: (يثبت الْجَهْل) ، وَهَهُنَا (يظْهر) وَمن الدَّلِيل على إِطْلَاق الْقلَّة وَإِرَادَة الْعَدَم وَالرَّفْع أَنه وَقع هَهُنَا فِي رِوَايَة مُسلم عَن غنْدر، وَغَيره عَن شُعْبَة: أَن يرفع الْعلم. وَكَذَا فِي رِوَايَة سعيد عِنْد ابْن أبي شيبَة، وَهَمَّام عِنْد البُخَارِيّ فِي الْحُدُود، وَهِشَام عِنْده فِي النِّكَاح، كلهم عَن قَتَادَة، وَهُوَ مُوَافق لرِوَايَة أبي التياح. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة، من طَرِيق هِشَام: أَن يقل، فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة التَّعْرِيف فِي قَوْله: (الْقيم) ، وَكَانَ حق الظَّاهِر أَن يُقَال: قيم وَاحِد؟ أُجِيب: بِأَن فَائِدَته الْإِشْعَار بِمَا هُوَ مَعْهُود من: {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} (النِّسَاء: 34) فَاللَّام للْعهد. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة تَخْصِيص هَذِه الْأَشْيَاء الْخَمْسَة بِالذكر؟ أُجِيب: بِأَن فَائِدَة ذَلِك أَنَّهَا مشعرة باختلال الضرورات الْخمس الْوَاجِبَة رعايتها فِي جَمِيع الْأَدْيَان الَّتِي بحفظها صَلَاح المعاش والمعاد ونظام أَحْوَال الدَّاريْنِ، وَهِي: الدّين وَالْعقل وَالنَّفس وَالنّسب وَالْمَال، فَرفع الْعلم مخل بِحِفْظ الدّين، وَشرب الْخمر بِالْعقلِ وبالمال أَيْضا، وَقلة الرِّجَال سَبَب الْفِتَن بِالنَّفسِ وَظُهُور الزِّنَا بِالنّسَبِ، وَكَذَا بِالْمَالِ. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ كَانَ اختلال هَذِه الْأُمُور من علاماتها؟ أُجِيب: لِأَن الْخَلَائق لَا يتركون سدى وَلَا نَبِي بعد هَذَا الزَّمَان، فَتعين خراب الْعَالم، وَقرب الْقِيَامَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث علم من أَعْلَام النُّبُوَّة، إِذْ أخبر عَن أُمُور ستقع فَوَقَعت، خُصُوصا فِي هَذِه الْأَزْمَان. وَالله الْمُسْتَعَان.

22 - (بابُ فَضْلِ العلْمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْعلم، وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، لِأَن الْمَذْكُور فِي كل مِنْهُمَا الْعلم، وَلَكِن فِي كل وَاحِد بِصفة من الصِّفَات، فَفِي الأول: بَيَان رَفعه، وَفِي هَذَا بَيَان فَضله. وَلَا يُقَال: إِن هَذَا الْبَاب مُكَرر لِأَنَّهُ ذكره مرّة فِي أول كتاب الْعلم، لأَنا نقُول: هَذَا الْبَاب بِعَيْنِه لَيْسَ بِثَابِت فِي أول كتاب الْعلم فِي عَامَّة النّسخ، وَلَئِن سلمنَا وجوده هُنَاكَ فَالْمُرَاد التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلمَاء، وَهَهُنَا التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلم، وَقد حققنا الْكَلَام هُنَاكَ كَمَا يَنْبَغِي. وَقَالَ بَعضهم: الْفضل هَهُنَا بِمَعْنى: الزِّيَادَة أَي: مَا فضل عَنهُ، وَالْفضل الَّذِي تقدم فِي أول كتاب الْعلم بِمَعْنى: الْفَضِيلَة، فَلَا يظنّ أَنه كَرَّرَه. قلت: لم يبوب البُخَارِيّ هَذَا الْبَاب لبَيَان أَن الْفضل بِمَعْنى الزِّيَادَة، وَلم يقْصد بِهِ الْإِشَارَة إِلَى مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، بل قَصده من التَّبْوِيب بَيَان فَضِيلَة الْعلم، وَلَا سِيمَا الْبَاب من جملَة أَبْوَاب كتاب الْعلم، فَإِن كَانَ الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الحَدِيث: (ثمَّ أَعْطَيْت فضلي عمر بن الْخطاب) ، فَإِنَّهُ لَا دخل لَهُ فِي التَّرْجَمَة، فَإِنَّهَا لَيست فِي بَيَان إِعْطَاء النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فَضله لعمر، رَضِي الله عَنهُ. وَإِنَّمَا تَرْجَمته فِي بَيَان فضل الْعلم وَشرف قدره، واستنبط البُخَارِيّ بِأَن إعطاءه، عَلَيْهِ السَّلَام، فَضله لعمر عبارَة عَن الْعلم، وَهُوَ عين الْفَضِيلَة، لِأَنَّهُ جُزْء من النُّبُوَّة، وَمَا فضل عَنهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، فَضِيلَة وَشرف، وَقد فسره: بِالْعلمِ، فَدلَّ على فَضِيلَة الْعلم.

82 - حدّثنا سَعيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ قَالَ: حدّثني عُقَيْلٌ عَن ابْن شِهابٍ عنْ حَمْزَةَ بن عَبْدِ اللَّه بنِ عُمَرَ أنَّ ابنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (بَيْنا أَنا نائِمٌ أتيِتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى أَنِّي لأرى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أظْفارِي، ثُمَّ أعْطَيْتُ فَضْلي عُمَرَ بن الخَطَّابِ) . قالُوا: فمَا أوَّلْتَهُ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: (العِلْمَ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، وَقد مر. الثَّانِي: لَيْث بن سعد، الإِمَام الْكَبِير الْمصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين وَفتح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره لَام: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد تقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: حَمْزَة بن عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُم، المكنى: بَابي عمَارَة، بِضَم الْعين؛ الْقرشِي الْمدنِي الْعَدوي التَّابِعِيّ، سمع أَبَاهُ وَعَائِشَة. قَالَ أَحْمد بن عبد اللَّه:

(2/85)


تَابِعِيّ ثِقَة. وَقَالَ ابْن سعد: أمه أم ولد، وَهِي أم سَالم وَعبيد اللَّه، وَكَانَ ثِقَة قَلِيل الحَدِيث، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِي إِسْنَاده التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة وَالسَّمَاع، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: حَدثنِي اللَّيْث حَدثنِي عقيل، وللبخاري فِي التَّعْبِير: أَخْبرنِي، حَمْزَة. وَمِنْهَا: أَن نصف رُوَاته مصريون ونصفهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن آخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن سعيد بن عفير، وَفِي تَعْبِير الرُّؤْيَا عَن يحيى بن بكير وقتيبة، ثَلَاثَتهمْ عَن لَيْث عَن عقيل. وَفِيه عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن الصَّلْت الْكُوفِي، وَفِي فضل عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن عَبْدَانِ، كِلَاهُمَا، عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس، وَفِيه عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن صَالح، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد ابْن حميد كِلَاهُمَا عَن يَعْقُوب بِهِ، وَعَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الرُّؤْيَا، وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن عبد اللَّه بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب بِهِ، وَفِي المناقب عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأَعَادَهُ فِي الْعلم عَن قُتَيْبَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (بقدح) ، الْقدح، بِفتْحَتَيْنِ وَاحِد الأقداح الَّتِي هِيَ للشُّرْب فِيهَا، و: الْقدح؛ بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال: السهْم قبل أَن يراش ويركب نصله، وقدح الميسر أَيْضا، والقدح بِالْكَسْرِ: مَا يقْدَح بِهِ النَّار، والقدح: المغرفة. والمقديح: المغرف، والقدوح: الذُّبَاب. قَوْله: (الرّيّ) ، بِكَسْر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: مصدر، يُقَال: رويت من المَاء، بِالْكَسْرِ، أروي رياً بِالْكَسْرِ، وَحكى الْجَوْهَرِي الْفَتْح أَيْضا وَقَالَ: ريا وريا، وَرُوِيَ أَيْضا مثل: رضى رضى، وارتويت وترويت كُله بِمَعْنى. وَقَالَ غَيره: يُقَال: رُوِيَ من المَاء وَالشرَاب، بِكَسْر الْوَاو ويروى بِفَتْحِهَا: رياً، بِالْكَسْرِ فِي الِاسْم والمصدر، قَالَ القَاضِي: وَحكى الدَّاودِيّ الْفَتْح فِي الْمصدر، وَأما فِي الرِّوَايَة فعكسه، تَقول: رويت الحَدِيث أرويه رِوَايَة، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُسْتَقْبل، والرواء من المَاء مَا يروي إِذا مددت فتحت الرَّاء، وَإِذا كسرت قصرت. قلت: الرّيّ: أَصله الروي اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فأبدلت الْيَاء من الْوَاو وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (فِي أظفاري) : جمع ظفر. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الظفر ظفر الْإِنْسَان، وَالْجمع أظفار، وَلَا تَقول: ظفر، بِالْكَسْرِ. وَإِن كَانَت الْعَامَّة قد أولعت بِهِ، وَتجمع أظفار على أظافير. قَالَ: وَقَالَ قوم: بل الأظافير جمع أظفور، وَالظفر والأظفور سَوَاء، وأظفار الْإِبِل مناسمها، وأظفار السبَاع براثنها.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَينا) ، قد مر غير مرّة أَن أَصله: بَين، فاشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا، وَقد تدخل عَلَيْهَا: مَا، فَيُقَال: بَيْنَمَا. وَقَوله: أَنا، مُبْتَدأ، و: نَائِم، خَبره. قَوْله: (أتيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهُوَ جَوَاب: بَينا، وعامل فِيهِ. والأصمعي لَا يستفصح إلاَّ طرح إِذْ وَإِذا مِنْهُ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (بقدح لبن) كَلَام إضافي يتَعَلَّق بأتيت. قَوْله: (فَشَرِبت) عطف على: أتيت. قَوْله: (حَتَّى) إِمَّا ابتدائية وَإِمَّا جَارة، فعلى الأول: أَتَى بِكَسْر الْهمزَة، وعَلى الثَّانِي بِفَتْحِهَا، وياء الْمُتَكَلّم اسْم: إِن، وَخَبره قَوْله: لأري الرّيّ) ، وَاللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. وَقَالَ بَعضهم: اللَّام جَوَاب قسم مَحْذُوف. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لَيْسَ هُنَا قسم صَرِيح وَلَا مُقَدّر، وَلَا يَصح التَّقْدِير، وَإِنَّمَا هَذِه اللَّام هِيَ اللَّام الدَّاخِلَة فِي خبر إِن للتَّأْكِيد، كَمَا فِي قَوْلك: إِن زيدا لقائم. وَقَوله: اري، إِن كَانَ من الرُّؤْيَة، بِمَعْنى: الْعلم يَقْتَضِي مفعولين، أَحدهمَا هُوَ قَوْله: الرّيّ، وَالْآخر هُوَ قَوْله (يخرج فِي أظفاري) . وَإِن كَانَ من الرُّؤْيَة، بِمَعْنى: الإبصار، لَا يَقْتَضِي إلاَّ مَفْعُولا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْله: (الرّيّ) . وَقَوله: (يخرج) حينئذٍ يكون حَالا من: اللَّبن، وَيكون الضَّمِير فِيهِ رَاجعا إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون حَالا من: الرّيّ، تجوزاً، وَيكون الضَّمِير رَاجعا إِلَيْهِ. قَوْله: (وَفِي اظفاري) وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: (من أظفاري) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير: (من أطرافي) ، وَالْكل بِمَعْنى: فِي الْحَقِيقَة، فَإِن قلت: يخرج من أظفاري ظَاهر، فَمَا معنى قَوْله: يخرج فِي أظفاري؟ قلت: يجوز أَن تكون: فِي، هَهُنَا بِمَعْنى: على، أَي: على أظفاري، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 71) أَي: عَلَيْهَا، وَيكون بِمَعْنى: يظْهر عَلَيْهَا، وَالظفر إِمَّا منشأ الْخُرُوج أَو ظرفه. قَوْله: (ثمَّ اعطيت) عطف على قَوْله: (فَشَرِبت) ، وَهِي جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. وَقَوله: (فضلي) كَلَام إضافي، مَفْعُوله الأول، وَقَوله: عمر بن الْخطاب، مَفْعُوله الثَّانِي. قَوْله: (فَمَا أولته) كلمة مَا استفهامية، وأولته جملَة من الْفِعْل

(2/86)


وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى شرب اللَّبن الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (فَشَرِبت) . قَوْله: (يَا رَسُول الله) منادى مَنْصُوب. فَإِن قلت: مَا الْفَاء فِي قَوْله: (فَمَا أولته) ؟ قلت: زَائِدَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {هَذَا فليذوقوه} (ص: 57) قَوْله: (الْعلم) بِالنّصب وَالرَّفْع رِوَايَتَانِ، أما وَجه النصب فعلى المفعولية، وَالتَّقْدِير: أولته الْعلم. وَأما وَجه الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: المؤول بِهِ الْعلم.
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ: حذف الْمَفْعُول من قَوْله: (فَشَرِبت) ، للْعلم بِهِ وَالتَّقْدِير: فَشَرِبت اللَّبن، يَعْنِي: مِنْهُ، لِأَنَّهُ شرب حَتَّى رُوِيَ ثمَّ أعْطى فَضله لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ. وَفِيه: اسْتِعْمَال الْمُضَارع مَوضِع الماضى، وَهُوَ قَوْله: (يخرج) ، وَكَانَ حَقه أَن يُقَال: خرج، وَلكنه أَرَادَ استحضار صُورَة الرُّؤْيَة للسامعين قصدا إِلَى أَن يبصرهم تِلْكَ الْحَالة وقوعاً وحدوثاً. قَوْله: (ثمَّ أَعْطَيْت فضلي) أَي: مَا فضل من اللَّبن الَّذِي هُوَ فِي الْقدح الَّذِي شربت مِنْهُ. قَوْله: (فَمَا أولته) ؟ أَي: فَمَا عبرته؟ والتأويل فِي اللُّغَة: تَفْسِير مَا يؤول إِلَيْهِ الشَّيْء. وَهَهُنَا المُرَاد بِهِ تَعْبِير الرُّؤْيَا. وَفِيه: تَأْكِيد الْكَلَام بصوغه جملَة إسمية، وتأكيدها بِأَن وَاللَّام فِي الْخَبَر، وَهُوَ قَوْله: (إِنِّي لأري الرّيّ) . فَإِن قلت: لم تكن الصَّحَابَة منكرين وَلَا مترددين فِي أخباره، فَمَا فَائِدَة هَذِه التأكيدات؟ قلت: قَوْله: (أرى الرّيّ يخرج فِي أظفاري) أورثهم حيرة فِي خُرُوج اللَّبن من الْأَظْفَار، فأزال تِلْكَ الْحيرَة بِهَذِهِ التأكيدات، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ابرىء نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء} (يُوسُف: 53) لِأَن: مَا أبرىء، أَي: مَا أزكي، أورث الْمُخَاطب حيرة فِي أَنه كَيفَ لَا ينزه نَفسه عَن السوء مَعَ كَونهَا مطمئنة زكية، فأزال تِلْكَ الْحيرَة بقوله: {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} (يُوسُف: 53) فِي جَمِيع الْأَشْخَاص إلاَّ من عصمه الله. قَوْله: (الْعلم) ، تَفْسِير اللَّبن بِالْعلمِ لِكَوْنِهِمَا مشتركين فِي كَثْرَة النَّفْع بهما، وَفِي أَنَّهُمَا سَببا الصّلاح، فاللبن غذَاء الْإِنْسَان وَسبب صَلَاحهمْ وَقُوَّة أبدانهم، وَالْعلم سَبَب الصّلاح فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وغذاء الْأَرْوَاح. وَقَالَ الْمُهلب: رُؤْيَة اللَّبن فِي النّوم تدل على السّنة والفطرة وَالْعلم وَالْقُرْآن، لِأَنَّهُ أول شَيْء يَنَالهُ الْمَوْلُود من طَعَام الدُّنْيَا، وَبِه تقوم حَيَاته كَمَا تقوم بِالْعلمِ حَيَاة الْقُلُوب، فَهُوَ يُنَاسب الْعلم من هَذِه الْجِهَة، وَقد يدل على الْحَيَاة لِأَنَّهَا كَانَت فِي الصغر، وَقد يدل على الثَّوَاب لِأَنَّهُ من نعيم الْجنَّة، إِذْ روى نهر من اللَّبن، وَقد يدل على المَال والحلال. قَالَ: وَإِنَّمَا أَوله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعلمِ فِي عمر، رَضِي الله عَنهُ، لصِحَّة فطرته وَدينه، وَالْعلم زِيَادَة فِي الْفطْرَة. فَإِن قلت: رُؤْيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، حق، فَهَل كَانَ هَذَا الشَّرَاب وَمَا يتَعَلَّق بِهِ وَاقعا حَقِيقَة، أَو هُوَ على سَبِيل التخيل؟ قلت: وَاقع حَقِيقَة وَلَا مَحْذُور فِيهِ إِذْ هُوَ مُمكن، وَالله على كل شَيْء قدير.
بَيَان الْبَيَان: فِيهِ: الِاسْتِعَارَة الْأَصْلِيَّة، وَهِي قَوْله: (إِنِّي لأري الرّيّ) ، لِأَن الرّيّ لَا يرى، وَلكنه شبه بالجسم، وأوقع عَلَيْهِ الْفِعْل ثمَّ أضيف إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص الْجِسْم، وَهُوَ كَونه مرئيا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ فَضِيلَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَجَوَاز تَعْبِير الرُّؤْيَا، ورعاية الْمُنَاسبَة بَين التَّعْبِير. وَمَا لَهُ التَّعْبِير.

23 - (بَاب الفُتْيا وهْوَ واقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وغَيْرها)

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن الْبَاب مَرْفُوع بِأَنَّهُ خير مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى مَا بعده، وَفِيه حذف تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يستفتى بِهِ الشَّخْص وَهُوَ وَاقِف، أَي: وَالْحَال أَنه وَاقِف على ظهر الدَّابَّة أَو غَيرهَا. الثَّانِي: أَن الْفتيا، بِضَم الْفَاء: إسم، وَكَذَلِكَ الْفَتْوَى، وَهُوَ الْجَواب فِي الْحَادِثَة. يُقَال: استفتيت الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة فأفتاني، وتفاتوا إِلَى الْفَقِيه: ارتفعوا إِلَيْهِ فِي الْفتيا، وَفِي (الْمُحكم) : أفتاه فِي الْأَمر أبانه لَهُ، والفتى والفتيا وَالْفَتْوَى مَا افتى بِهِ الْفَقِيه، الْفَتْح لأهل الْمَدِينَة. وَقَالَ الشَّيْخ، قطب الدّين: الْفتيا اسْم، ثمَّ قَالَ: وَلم يَجِيء من المصادر على: فعلى، غير الْفتيا والرجعي وبقيا ولقيا. قلت: فِيهِ نظران إحدهما: أَنه قَالَ أَولا: الْفتيا اسْم، ثمَّ قَالَ: مصدر. الثَّانِي: أَنه قَالَ: لم يجىء من المصادر على فعلى، يَعْنِي بِضَم الْفَاء، غير هَذِه الْأَمْثِلَة الْأَرْبَعَة، وَقد جَاءَ: العذرى بِمَعْنى الْعذر، والعسرى بِمَعْنى الْعسر، واليسرى بِمَعْنى الْيُسْر، والعتبى: بِمَعْنى العتاب، وَالْحُسْنَى بِمَعْنى الْإِحْسَان، والشورى بِمَعْنى المشورة، والرغبى بِمَعْنى الرَّغْبَة، والنهبى بِمَعْنى الانتهاب، وزلفى بِمَعْنى التزلف، وَهُوَ التَّقَرُّب، والبشرى بِمَعْنى الْبشَارَة. قَوْله: (على ظهر الدَّابَّة) ، وَفِي بعض النّسخ: على الدَّابَّة، من دب على الأَرْض يدب دبيباً، وكل ماش على الأَرْض دَابَّة ودبيب، وَالدَّابَّة

(2/87)


الَّتِي تركب، قَالَه فِي (الْعباب) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: الدَّابَّة لُغَة: الْمَاشِيَة على الأَرْض، وَعرفا الْخَيل والبغل وَالْحمار، وَقَالَ بَعضهم: وَبَعض أهل الْعرف خصها بالحمار. قلت: لَيْسَ كَمَا قَالَا، وَإِنَّمَا الدَّابَّة فِي الْعرف اسْم لذات الْأَرْبَع من الْحَيَوَان، وَلَكِن مُرَاد البُخَارِيّ مَا قَالَه الصغاني، وَهِي: الدَّابَّة الَّتِي تركب. وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى جَوَاز سُؤال الْعَالم، وَإِن كَانَ مشتغلاً رَاكِبًا وماشياً وواقفاً وعَلى كل أَحْوَاله، وَلَو كَانَ فِي طَاعَة. وَقَالَ بعض الشَّارِحين: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي أخرجه فِي الْبَاب لفظ الدَّابَّة ليطابق مَا بوب عَلَيْهِ. وَأجَاب بَعضهم: بِأَنَّهُ أحَال بِهِ على الطَّرِيق الْأُخْرَى الَّتِي أوردهَا فِي الْحَج، فَقَالَ: كَانَ على نَاقَته. قلت: بعد هَذَا الْجَواب كبعد الثرى من الثريا، وَكَيف يعْقد بَاب بترجمة، ثمَّ يُحَال مَا يُطَابق ذَلِك على حَدِيث يَأْتِي فِي بَاب آخر؟ وَيُمكن أَن يُجَاب: بِأَن بَين قَوْله: وَغَيرهَا، أَي: وَغير الدَّابَّة، وَبَين حَدِيث الْبَاب مُطَابقَة، لِأَن مَا فِيهِ وَهُوَ قَوْله: (وقف فِي حجَّة الْوَدَاع بمنى للنَّاس) ، أَعم من أَن يكون وُقُوفه على الأَرْض أَو على الدَّابَّة، وَيكون ذكر لفظ الدَّابَّة إِشَارَة إِلَى أَنه فِي حَدِيث الْبَاب طَرِيق أُخْرَى فِيهَا ذكر الدَّابَّة، وَهِي قَوْله: كَانَ على نَاقَته. الثَّالِث: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ فضل الْعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْفتيا، وَهُوَ أَيْضا من الْعلم.

83 - حدّثنا إِسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عَن ابنِ شِهابٍ عنْ عِيَسى بن طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ اللَّهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بنِ العَاص أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمنى للنَّاس يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أشْعُرْ فَحَلقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ {فَقَالَ: (ادْبَحْ ولاَ حَرَجَ) فَجَاءَ آخرُ فَقَالَ: لَمْ أشْعُرْ فَنحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْميَ} قَالَ: (ارْمِ وَلَا حَرجَ) فمَا سُئِلَ النبيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ شَيْءٍ قُدِّمَ ولاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: (افْعَلْ ولاَ حَرَجَ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الحَدِيث هُوَ الاستفتاء والإفتاء، والترجمة هِيَ الْفتيا.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، ابْن اخت مَالك. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عِيسَى بن طَلْحَة ابْن عبيد اللَّه الْقرشِي التَّيْمِيّ تَابِعِيّ، ثِقَة من أفاضل أهل الْمَدِينَة وعقلائهم، أَخُو مُوسَى وَمُحَمّد، مَاتَ سنة مائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف أسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَفِي الْعلم أَيْضا عَن أبي نعيم عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة، وَفِي الْحَج عَن عبد اللَّه بن يُوسُف عَن مَالك، وَعَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح، وَعَن سعيد بن يحيى بن سعيد الْأمَوِي عَن أَبِيه عَن ابْن جريج، وَفِي النذور: وحَدثني عُثْمَان بن الْهَيْثَم عَن ابْن جريج، أربعتهم عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن سعيد ابْن يحيى عَن أَبِيه، وَعَن عَليّ بن خشرم عَن عِيسَى بن يُونُس، وَعَن عبد بن حميد عَن مُحَمَّد بن بكر، ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن جريج بِهِ، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَعَن ابْن عَمْرو عبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن عبد الرازق عَن معمر، وَعَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن قهزاد عَن عَليّ بن الْحسن عَن ابْن شَقِيق عَن ابْن الْمُبَارك عَن مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة، أربعتهم عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي وَابْن أبي عمر كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي عَن غنْدر عَن معمر بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بن سعيد عَن مَالك بِهِ، وَعَن أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن مَالك وَيُونُس بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ أَيْضا عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان بِهِ مُخْتَصرا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سُئِلَ عَمَّن ذبح قبل أَن يحلق أَو حلق قبل أَن يذبح؟ قَالَ: لَا حرج) .

(2/88)


بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (العَاصِي) : الْجُمْهُور على كِتَابَته بِالْيَاءِ، وَهُوَ الفصيح عِنْد أهل الْعَرَبيَّة، وَيَقَع فِي كثير من الْكتب بحذفها، وَقد قرىء فِي السَّبع نَحوه {كالكبير المتعال} (الرَّعْد: 9) و: {الداع} (الْبَقَرَة: 86، وَالْقَمَر: 6 و 8) قَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: أجوف، وَجمعه الأعياض. قلت: العَاصِي من الْعِصْيَان وَجمعه عصاة، كَالْقَاضِي يجمع على قُضَاة. والأعياص جمع عيص، بِكَسْر الْعين: وَهُوَ الشّجر الْكثير الملتف. وَقَالَ عمار: الْعيص من السدر والعوسج وَالسّلم من العصاة، كلهَا إِذا اجْتمع وتدانى والتف. وَفِي (الْعباب) : وَالْجمع عيصان وأعياص، وَفِيه: والأعياص من قُرَيْش أَوْلَاد أُميَّة بن عبد شمس الْأَكْبَر، وهم أَرْبَعَة: الْعَاصِ، وَأَبُو الْعَاصِ، والعيص وَأَبُو الْعيص. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: العيصان من معادن بِلَاد الْعَرَب. قَوْله: (فِي حجَّة الْوَدَاع) ، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَالْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَة الْفَتْح، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحجَّة، بالكسرة: الْمرة الْوَاحِدَة، وَهُوَ من الشواذ، لِأَن الْقيَاس الْفَتْح. وَفِي (الْعباب) : الْحَج، بِالْكَسْرِ، الِاسْم. وَالْحجّة: الْمرة الْوَاحِدَة، وَهَذَا من الشواذ. قلت: يَعْنِي الْقيَاس فِي الْمرة الْفَتْح، قَالُوا. المفعل للموضع، والمفعل للآلة. والفعلة للمرة والفعلة للحالة. وَالْحجّة أَيْضا: السّنة، وَالْجمع: الْحجَج. وَذُو الْحجَّة: شهر الْحَج، وَالْجمع: ذَوَات الْحجَّة، كذوات الْقعدَة، وَلم يَقُولُوا: ذووا على واحده. وَالْحجّة، أَيْضا: شحمة الْأذن، و: الْوَدَاع، بِفَتْح الْوَاو، اسْم التوديع: كالسلام بِمَعْنى التَّسْلِيم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: جَازَ الْكسر بِأَن يكون من بَاب المفاعلة، وَتَبعهُ على هَذَا بَعضهم، وَمَا أَظن هَذَا صَحِيحا لِأَنَّهُ بِالْكَسْرِ يتَغَيَّر الْمَعْنى، لِأَن الْمُوَادَعَة مَعْنَاهَا الْمُصَالحَة، وَكَذَا الْوَدَاع بِالْكَسْرِ، وَالْمعْنَى هُوَ التوديع، وَهُوَ عِنْد الرحيل مَعْرُوف، وَهُوَ تخليف الْمُسَافِر النَّاس خافضين وادعين وهم يودعونه إِذا سَافر تفاؤلاً بالدعة الَّتِي يصير إِلَيْهَا إِذا نقل، أَو يتركونه وسفره. قَوْله: (بمنى) ؛ هُوَ قَرْيَة بِالْقربِ من مَكَّة تذبح فِيهَا الْهَدَايَا، وترمى فِيهَا الجمرات، وَهُوَ مَقْصُور مُذَكّر مَصْرُوف. قَوْله: (لم أشعر) ، بِضَم الْعين، أَي: لم أعلم، أَي: لم افطنه. يُقَال شعر يشْعر من بَاب: نصر ينصر، شعرًا وشعرة وشعرى، بِالْكَسْرِ فِيهِنَّ، وشعرة وبالفتح، وشعوراً ومشعوراً ومشعورة. قَالَ الصغاني: شَعرت بالشَّيْء أعلمت بِهِ، وفطنت لَهُ، وَمِنْه قَوْلهم: لَيْت شعري: مَعْنَاهُ: لَيْتَني أشعر، وَالشعر وَاحِد الْأَشْعَار. قَوْله: (وَلَا حرج) أَي: وَلَا إِثْم. قَوْله: (فنحرت) ، النَّحْر فِي اللبة مثل الذّبْح فِي الْحلق، وتستعمل بِمَعْنى الذَّبِيح.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وقف) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (بمنى) ، فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (يسألونه) فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: وقف، وَيجوز أَن يكون: من النَّاس، أَي: وقف لَهُم حَال كَونهم سائلين عَنهُ، وَيجوز أَن يكون استئنافاً بيانياً لعِلَّة الْوُقُوف. قَوْله: (فجَاء رجل) ، عطف على قَوْله: وقف. قَوْله: (فحلقت) الْفَاء فِيهِ سَبَبِيَّة، وَكَذَلِكَ الْفَاء فِي: فنحرت، كَأَنَّهُ جعل الْحلق والنحر كلا مِنْهُمَا مسبباً عَن عدم شعوره، كَأَنَّهُ يعْتَذر لتَقْصِيره. قَوْله: (قبل أَن أذبح) أَن: فِيهِ مَصْدَرِيَّة، أَي: قبل الذّبْح. قَوْله: (وَلَا حرج) ، كلمة: لَا، للنَّفْي. وَقَوله: (حرج) اسْمه، مَبْنِيّ على الْفَتْح، وَخَبره مَحْذُوف وَالتَّقْدِير: لَا حرج عَلَيْك قَوْله: (فجَاء آخر) أَي: رجل آخر. قَوْله: (أَن ارمي) أَن: فِيهِ أَيْضا مَصْدَرِيَّة، أَي: قبل الرَّمْي. قَوْله: (فَمَا سُئِلَ) على صِيغَة الْمَجْهُول، و: النَّبِي، مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، و: عَن شَيْء، يتَعَلَّق بالسؤال. قَوْله: (قدم) على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة: لشَيْء. قَوْله: (وَلَا أُخر) أَيْضا على صِيغَة الْمَجْهُول، عطف على: قدم، وَالتَّقْدِير: لَا قدم وَلَا أخر، لِأَن الْكَلَام الفصيح قل مَا يَقع: لَا، الدَّاخِلَة على الْمَاضِي فِيهِ إلاَّ مكررة، وَحسن ذَلِك هُنَا لِأَنَّهُ وَقع فِي سِيَاق النَّفْي، وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} (الْأَحْقَاف: 9) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا سُئِلَ عَن شَيْء قدم أَو أخر إلاَّ قَالَ: إفعل وَلَا حرج) .
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ: حذف المفاعيل من قَوْله: (فحلقت) و (أَن أذبح) و (أذبح) و (فنحرت) و (أَن ارمي) و (ارْمِ) للْعلم بهَا بِقَرِينَة الْمقَام. قَوْله: (عَن شَيْء) أَي، مِمَّا هُوَ من الْأَعْمَال يَوْم الْعِيد، وَهِي: الرَّمْي والنحر وَالْحلق وَالطّواف. قَوْله: (افْعَل وَلَا حرج) قَالَ القَاضِي: قيل: هَذَا إِبَاحَة لما فعل وَقدم، وإجازة لَهُ لَا أَمر بالعيادة، كَأَنَّهُ قَالَ: إفعل ذَلِك كَمَا فعلته قبل، أَو مَتى شِئْت وَلَا حرج عَلَيْك، لِأَن السُّؤَال إِنَّمَا كَانَ عَمَّا انْقَضى وَتمّ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ جَوَاز سُؤال الْعَالم رَاكِبًا وماشياً وواقفاً. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الْجُلُوس على الدَّابَّة للضَّرُورَة بل للْحَاجة، كَمَا كَانَ جُلُوسه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَلَيْهَا ليشرف على النَّاس، وَلَا يخفى عَلَيْهِم كَلَامه لَهُم. الثَّالِث: فِي تَرْتِيب الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث، هَل هُوَ سنة وَلَا شَيْء فِي تَركه، أَو وَاجِب يتَعَلَّق الدَّم بِتَرْكِهِ؟ فَإلَى الأول ذهب الشَّافِعِي وَأحمد، وَإِلَى الثَّانِي ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك. وَقَالَ عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على أَن سنة الْحَاج أَن يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر، ثمَّ يطوف

(2/89)


وَقَالَ غَيره فَلَو خَالف وَقدم بَعْضهَا على بعض جَازَ، وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا فديَة لهَذَا الحَدِيث، ولعموم وَقَوله: (وَلَا حرج) ، وَهَذَا مَذْهَب عَطاء وَطَاوُس وَمُجاهد. وَقَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَالْمَشْهُور من قَول الشَّافِعِي، وحملوا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة: 196) على الْمَكَان الَّذِي يَقع فِيهِ النَّحْر. وَللشَّافِعِيّ قَول ضَعِيف أَنه إِذا قدم الْحلق على الرَّمْي وَالطّواف لزمَه الدَّم، بِنَاء على قَوْله الضَّعِيف عِنْد أَصْحَابه أَن الْحلق لَيْسَ بنسك. قَالَ النَّوَوِيّ: وَبِهَذَا القَوْل قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك، ويروى عَن سعيد بن جُبَير وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة، وَرِوَايَة شَاذَّة عَن ابْن عَبَّاس: أَن من قدم بَعْضهَا على بعض لزمَه الدَّم. وَقَالَ الْمَازرِيّ: لَا فديَة عَلَيْهِ عِنْد مَالك، يَعْنِي: فِي تَقْدِيم بَعْضهَا على بعض إلاَّ الْحلق على الرَّمْي فَعَلَيهِ الْفِدْيَة. وَقَالَ عِيَاض: وَكَذَا إِذا قدم الطّواف للإفاضة على الرَّمْي عِنْده، فَقيل: يُجزئهُ، وَعَلِيهِ الْهَدْي. وَقيل: لَا يُجزئهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ: إِذا رمى ثمَّ أَفَاضَ قبل أَن يحلق. وَأَجْمعُوا على أَن من نحر قبل الرَّمْي لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا فرق بَين الْعَامِد والساهي فِي وجوب الْفِدْيَة وَعدمهَا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْإِثْم وَعَدَمه عِنْد من منع التَّقْدِيم. قلت: إِذا حلق قبل أَن يذبح فَعَلَيهِ دم عِنْد أبي حنيفَة، وَإِن كَانَ قَارنا فعلية دمان. وَقَالَ زفر: إِذا حلق قبل أَن ينْحَر عَلَيْهِ ثَلَاثَة دِمَاء: دم للقران، وَدَمَانِ للحلق قبل النَّحْر. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: من حلق قبل أَن يذبح أهرق دَمًا. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم خلافًا فِيمَن نحر قبل أَن يَرْمِي أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ. قَالَ: وَاخْتلفُوا فِيمَن أَفَاضَ قبل أَن يحلق بعد الرَّمْي، فَكَانَ ابْن عمر يَقُول: يرجع فيحلق أَو يقصر، ثمَّ يرجع إِلَى الْبَيْت فيفيض. وَقَالَ عَطاء وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَسَائِر الْفُقَهَاء: يُجزئهُ الْإِفَاضَة ويحلق أَو يقصر، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قلت: احْتج الشَّافِعِي وَأحمد وَمن تبعهما فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِظَاهِر الحَدِيث الْمَذْكُور، فَإِن معنى قَوْله: (وَلَا حرج) أَي: لَا شَيْء عَلَيْك مُطلقًا من الْإِثْم، لَا فِي ترك التَّرْتِيب وَلَا فِي ترك الْفِدْيَة، واحتجت الْحَنَفِيَّة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: من قدم شَيْئا من حجه أَو اخره فليهرق لذَلِك دَمًا. وَتَأْويل الحَدِيث الْمَذْكُور: لَا إِثْم عَلَيْكُم فِيمَا فعلتموه من هَذَا، لأنكم فعلتموه على الْجَهْل مِنْكُم، لَا الْقَصْد مِنْكُم خلاف السّنة. وَكَانَت السّنة خلاف هَذَا، وَأسْقط عَنْهُم الْحَرج، وأعذرهم لأجل النسْيَان وَعدم الْعلم. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول السَّائِل: فَلم أشعر، وَقد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا فِي حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح: (أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سَأَلَهُ رجل فِي حجَّته فَقَالَ: إِنِّي رميت وأفضت ونسيت فَلم احْلق. قَالَ: فَاحْلِقْ وَلَا حرج. ثمَّ جَاءَ رجل آخر فَقَالَ: إِنِّي رميت وحلقت ونسيت أَن أنحر. فَقَالَ: انْحَرْ وَلَا حرج) . فَدلَّ ذَلِك على أَن الْحَرج الَّذِي رَفعه الله عَنْهُم، إِنَّمَا كَانَ لأجل نسيانهم ولجهلهم أَيْضا بِأَمْر الْمَنَاسِك، لَا لغير ذَلِك. وَذَلِكَ أَن السَّائِلين كَانُوا نَاسا أعراباً لَا علم لَهُم بالمناسك، فأجابهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (لَا حرج) يَعْنِي: فِيمَا فَعلْتُمْ بِالنِّسْيَانِ وبالجهل، لَا أَنه أَبَاحَ لَهُم ذَلِك فِيمَا بعد وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا ويؤكده قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، الْمَذْكُور. وَالْحَال أَنه أحد رُوَاة الحَدِيث الْمَذْكُور، فَلَو لم يكن معنى الحَدِيث عِنْده على مَا ذكرنَا لما قَالَ بِخِلَافِهِ. وَمن الدَّلِيل على مَا ذكرنَا أَن ذَلِك كَانَ بِسَبَب جهلهم مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، أخرجه الطَّحَاوِيّ قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ بَين الْجَمْرَتَيْن، عَن رجل حلق قبل أَن يَرْمِي. قَالَ: لَا حرج. وَعَن رجل ذبح قبل أَن يَرْمِي، قَالَ: لَا حرج، ثمَّ قَالَ: عباد اللَّه، وضع الله عز وَجل الْحَرج والضيق، وتعلموا مَنَاسِككُم فَإِنَّهَا من دينكُمْ) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَفلا يرى إِلَى أَنه أَمرهم بتَعَلُّم مناسكهم لأَنهم كَانَ لَا يحسنونها، فَدلَّ ذَلِك أَن الْحَرج الَّذِي رَفعه الله عَنْهُم هُوَ لجهلهم بِأَمْر مناسكهم، لَا لغير ذَلِك. فَإِن قلت: قد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات الصَّحِيحَة: وَلم يَأْمر بكفارة، قلت: يحْتَمل أَنه لم يَأْمر بهَا لأجل نِسْيَان السَّائِل، أَو أَمر بهَا وَذهل عَنهُ الرَّاوِي.

24 - (بَاب مَنْ أجَاب الفُتْيا باشارَةِ اليَدِ والرَّأسِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمُفْتِي الَّذِي أجَاب المستفتي فِي فتياه بِإِشَارَة بِيَدِهِ أَو رَأسه. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر.

84 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ: حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ: حدّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عَن ابْن

(2/90)


عَبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ، فَأْوَمَأ بِيدِهِ قَالَ: (وَلَا حَرَجَ) . قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، فَأوْمأ بِيَدِهِ ولاَ حَرَجَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِشَارَة بِالْيَدِ فِي جَوَاب الْفتيا، وَهُوَ قَوْله: (فاومأ بِيَدِهِ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: التَّبُوذَكِي الْحَافِظ الْبَصْرِيّ. وَقد مر ذكره. الثَّانِي: وهيب، بِضَم الْوَاو وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن خَالِد الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: عِكْرِمَة، مولى ابْن الْعَبَّاس. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أَيُّوب بِهِ نَحوه. وَأخرجه أَيْضا فِي الْحَج عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل عَن وهيب عَن عبد اللَّه بن طَاوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن وهيب عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن الْمُعَلَّى بن أَسد عَن وهيب بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله (فَأَوْمأ) أَي: أَشَارَ، وثلاثيه: ومأت إِلَيْهِ أميء ومأً، وأَومأت إِلَيْهِ وأومأته أَيْضا، وومأت تومئة: اشرت. قَوْله: (سُئِلَ) ، بِضَم السِّين. قَوْله: (فَقَالَ) أَي السَّائِل: ذبحت قبل أَن أرمي، أَي: فَمَا حكمك فِيهِ هَل يَصح؟ وَهل عَليّ فِيهِ حرج؟ قَوْله: (فَأَوْمأ) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِيَدِهِ. قَوْله: (قَالَ: وَلَا حرج) : أَي: قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: وَلَا حرج عَلَيْك. فَإِن قلت: مَا مَحل: قَالَ، من الْإِعْرَاب؟ قلت: مَحَله النصب على الْحَال. أَي: فَأَوْمأ بِيَدِهِ حَال كَونه قد قَالَ: وَلَا حرج عَلَيْك، وَالْأَحْسَن أَن يكون بَيَانا لقَوْله: (فَأَوْمأ) ، وَلِهَذَا ذكر بِدُونِ الْوَاو العاطفة حَيْثُ لم يقل: فَأَوْمأ بِيَدِهِ، وَقَالَ: وَأما الْوَاو فِي: (وَلَا حرج) . فَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره، وَلَيْسَت بموجودة فِي رِوَايَة ابْن ذَر. وَأما فِي (وَلَا حرج) الثَّانِي فَهِيَ مَوْجُودَة عِنْد الْكل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم ترك الْوَاو أَولا فِي: (وَلَا حرج) : وَذكر ثَانِيًا فِيهِ؟ قلت: لِأَن الأول كَانَ فِي ابْتِدَاء الحكم، وَالثَّانِي عطف على الْمَذْكُور أَولا. قلت: هَذَا إِنَّمَا يتمشى على رِوَايَة أبي ذَر على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَقَالَ: حلقت) أَي: قَالَ سَائل آخر، أَو ذَلِك السَّائِل بِعَيْنِه. قَوْله: (قبل أَن اذْبَحْ) أَن، فِيهِ مَصْدَرِيَّة أَي: قبل الذّبْح. قَوْله: (فَأَوْمأ) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِيَدِهِ وَلَا حرج. وَلم يذكر هَهُنَا: قَالَ: وَلَا حرج. وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَوْمأ بِيَدِهِ وَلَا حرج. وَلم يحْتَج إِلَى ذكر: قَالَ، هَهُنَا لِأَنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ بِحَيْثُ فهم من تِلْكَ الْإِشَارَة أَنه لَا حرج، سِيمَا وَقد سُئِلَ عَن الْحَرج، أَو يقدر لَفْظَة قَالَ. وَالتَّقْدِير: فَأَوْمأ بِيَدِهِ، قَالَ: وَلَا حرج، أَو قَائِلا: وَلَا حرج. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: (فَأَوْمأ بِيَدِهِ أَن لَا حرج) ، ثمَّ قَالَ: ان، إِمَّا صلَة لقَوْله: (أَوْمَأ) . وَإِمَّا تفسيرية، إِذْ فِي الْإِيمَاء معنى القَوْل.

85 - حدّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ: أخبرنَا خَنْظَلةُ بنُ أبي سُفْيانَ عنْ سالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يُقْبَضُ العِلْمُ وَيَظْهَرُ الجَهْلُ والفِتَنُ وَيَكْثُرُ الهَرْجُ) قِيلَ: يَا رَسُول الله! ومَا الهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَها كأنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ..
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِشَارَة بِالْيَدِ كَمَا فِي الحَدِيث السَّابِق.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم بن بشر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وبالراء، ابْن فرقد أَبُو السكن الْبَلْخِي أَخُو إِسْمَاعِيل وَيَعْقُوب، سمع حَنْظَلَة وَغَيره من التَّابِعين، وَهُوَ أكبر شُيُوخ البُخَارِيّ من الخراسانيين لِأَنَّهُ روى عَن التَّابِعين، وروى عَنهُ أَحْمد وَيحيى بن معِين، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة والبيوع وَغير مَوضِع، وَأخرج فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَنهُ عَن عبد اللَّه بن سعيد، وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وَقَالَ أَحْمد: ثِقَة. وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة ثَبت، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. ولد سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة، وَتُوفِّي سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ

(2/91)


ببلخ، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة مكي بن إِبْرَاهِيم غَيره، و: مكي، بتَشْديد الْيَاء على وزن النِّسْبَة. وَلَيْسَ بِنِسْبَة، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمه. الثَّانِي: حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان بن عبد الْملك، وَقد مر فِي: بَاب الْحيَاء من الْإِيمَان. الثَّالِث: سَالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُم. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة وَالسَّمَاع، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن سُلَيْمَان الرَّازِيّ عَن حَنْظَلَة قَالَ: سَمِعت سالما، وَزَاد فِيهِ: لَا أَدْرِي كم رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَة وَاقِفًا فِي السُّوق يَقُول: يقبض الْعلم ... فَذكره مَوْقُوفا، لَكِن ظهر فِي آخِره أَنه مَرْفُوع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي ومكي ومدني. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده من الرباعيات العوالي.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (الْهَرج) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم: قَالَ فِي (الْعباب) : الْهَرج الْفِتْنَة والاختلاط، وَقد هرج النَّاس يهرجون، بِالْكَسْرِ، هرجاً. وَمِنْه حَدِيث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يتقارب الزَّمَان وَينْقص الْعلم ويلقى الشُّح وَتظهر الْفِتَن وَيكثر الْهَرج. قيل: وَمَا الْهَرج يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الْقَتْل الْقَتْل) . ثمَّ قَالَ الصغاني: وأصل الْهَرج الْكَثْرَة فِي الشَّيْء، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْجِمَاع: بَات يهرجها ليلته جَمْعَاء. وَيُقَال للْفرس: مر يهرج، وَإنَّهُ لمهرج ومهراج إِذا كَانَ كثير الجري، وهرج الْقَوْم فِي الحَدِيث إِذا أفاضوا فِيهِ فَأَكْثرُوا، والهراجة: الْجَمَاعَة يهرجون فِي الحَدِيث. وَقَالَ فِي آخر الْفَصْل: والتركيب يدل على اخْتِلَاط وتخليط. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الْهَرج الْفِتْنَة فِي آخر الزَّمَان. وَقَالَ القَاضِي: الْفِتَن بعض الْهَرج، وأصل الْهَرج والتهارج الِاخْتِلَاط والقتال، وَمِنْه قَوْله: فَلَنْ يزَال الْهَرج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَمِنْه: يتهارجون تهارج الْحمر، قيل: مَعْنَاهُ: يتخالطون رجَالًا وَنسَاء ويتناكحون مزاناة. وَيُقَال: هرجها يهرجها إِذا نَكَحَهَا، و: يهرجها، بِفَتْح الرَّاء وَضمّهَا وَكسرهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِرَادَة الْقَتْل من لفظ الْهَرج إِنَّمَا هُوَ على طَرِيق التَّجَوُّز، إِذْ هُوَ لَازم معنى الْهَرج، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يثبت وُرُود الْهَرج بِمَعْنى الْقَتْل لُغَة. وَقَالَ بَعضهم: وَهِي غَفلَة عَمَّا فِي البُخَارِيّ فِي كتاب الْفِتَن. والهرج الْقَتْل بِلِسَان الْحَبَشَة. قلت: هَذَا غَفلَة، لِأَن كَون الْهَرج بِمَعْنى الْقَتْل بِلِسَان الْحَبَشَة لَا يسْتَلْزم أَن يكون بِمَعْنى الْقَتْل فِي لُغَة الْعَرَب، غير أَنه لما اسْتعْمل بِمَعْنى الْقَتْل وَافق اللُّغَة الحبشية، وَأما فِي أصل الْوَضع فالعرب مَا استعملته إلاَّ لِمَعْنى الْفِتْنَة والاختلاط، واستعملوه بِمَعْنى الْقَتْل تجوزاً. فَإِن قلت: قَالَ صَاحب (الْمطَالع) : فسر الْهَرج فِي الحَدِيث بِالْقَتْلِ بلغَة الْحَبَشَة، ثمَّ قَالَ: وَقَوله: بلغَة الْحَبَشَة وهم من بعض الروَاة، وَإِلَّا فَهِيَ عَرَبِيَّة صَحِيحَة. قلت: لَا يلْزم من تَفْسِيره فِي الحَدِيث بِالْقَتْلِ أَن يكون مَعْنَاهُ الْقَتْل فِي أصل الْوَضع. قَوْله: (يقبض الْعلم) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقد مر أَن قَبضه بِقَبض الْعلمَاء، كَمَا جَاءَ مُبينًا فِي الحَدِيث. وَجَاء فِي مُسلم: (وَينْقص الْعلم وَيظْهر الْجَهْل) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَظُهُور الْجَهْل من لَوَازِم قبض الْعلم، وَذكره لزِيَادَة الْإِيضَاح والتأكيد. قَوْله: (الْفِتَن) بِالرَّفْع عطفا على: الْجَهْل، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (وَتظهر الْفِتَن) . قَوْله: (وَيكثر الْهَرج) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ) ، مَعْنَاهُ: أَشَارَ بِيَدِهِ محرفا، وَفِيه إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، وَهُوَ كثير. وَمِنْه قَول الْعَرَب: قَالُوا بزيد وَقُلْنَا بِهِ، أَي: قَتَلْنَاهُ، قَالَه ابْن الْأَعرَابِي، وَقَالَ الرجل بالشَّيْء، أَي: غلب. وَقَالَ الصغاني: وَفِي دُعَاء النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: سُبْحَانَ من تعطف بالعز وَقَالَ بِهِ، وَهَذَا من الْمجَاز الْحكمِي كَقَوْلِهِم: نَهَاره صَائِم. وَالْمرَاد وصف الرجل بِالصَّوْمِ، وَوصف الله تَعَالَى بالعز. قَوْله: (وَقَالَ بِهِ) أَي: وَغلب بِهِ كل عَزِيز، وَملك عَلَيْهِ أمره. وَفِي (الْمطَالع) : وَفِي حَدِيث الْخضر: (فَقَالَ بِيَدِهِ فأقامه) . أَي: أَشَارَ أَو تنَاول. وَقَوله: (فِي الْوضُوء فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا) أَي: نفضه. قَوْله: (فَقَالَ باصبعه السبابَة وَالْوُسْطَى) أَي: أَشَارَ. وَفِي حَدِيث دُعَاء الْوَالِد: (وَقَالَ بِيَدِهِ نَحْو السَّمَاء) أَي: رَفعهَا. قَوْله: (فحرفها) من التحريف. تَفْسِير لقَوْله: (فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ) كَأَن الرَّاوِي بَين أَن الْإِيمَاء كَانَ محرفاً، وَمثل هَذِه الْفَاء تسمى الْفَاء التفسيرية. نَحْو: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 54) إِذْ الْقَتْل هُوَ نفس التَّوْبَة على أحد التفاسير. قَوْله: (كَأَنَّهُ يُرِيد الْقَتْل) الظَّاهِر أَن هَذَا زِيَادَة من الرَّاوِي عَن حَنْظَلَة، فَإِن أَبَا عوَانَة رَوَاهُ عَن عَبَّاس الدوري عَن أبي عَاصِم عَن حَنْظَلَة، وَقَالَ فِي آخِره: وأرانا أَبُو عَاصِم كَأَنَّهُ يضْرب عنق الْإِنْسَان، وَكَأن الرَّاوِي فهم من تَحْرِيك الْيَد وتحريفها أَنه يُرِيد الْقَتْل. قلت: وَقع فِي بعض النّسخ: فحركها بِالْكَاف، مَوضِع: فحرفها. فَالظَّاهِر أَنه غير ثَابت، وَفِيه دَلِيل على أَن الرجل إِذْ أَشَارَ بِيَدِهِ أَو بِرَأْسِهِ أَو بِشَيْء يفهم مِنْهُ ارادته أَنه جَائِز عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي كتاب الطَّلَاق حكم الْإِشَارَة بِالطَّلَاق وَاخْتِلَاف الْفُقَهَاء فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(2/92)


86 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ: حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ: حدّثنا هِشامٌ عنْ فاطِمَةَ عنْ أسْماءَ قالَتْ: أَتيْتُ عائِشَةَ وَهْيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا شأْنُ النَّاسِ؟ فَأشارَتْ إلَى السَّماءِ فَإذَا النَّاسُ قِيامٌ، فقالَتْ: سُبْحانَ الله! قُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأشارَتْ بِرَأْسِها أيْ: نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الغَشْيُ فَجَعَلْتُ أصُبُّ عَلَى رَأسِي الماءَ، فَحَمِدَ الله عزَّ وَجَلَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأثْنَى عَلِيْهِ ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَيْءِ لَمْ أكُنْ أرِيتُه إلاَّ رَأيْتُهُ فِي مَقامِي حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ فأُوحِيَ إلَيَّ أنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أوْ قَرِيبَ، لَا أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالَتْ أسْماءُ. مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقالُ: مَا عِلْمُكَ بِهذَا الرَّجُلِ؟ فَأمَّا المُؤْمنُ) أَو المُوقِنُ، لَا أدْرِي بِأيّهِما قالتْ أسْماءُ فَيَقولُ: (هُوَ مُحمَّدٌ رسولُ الله جاءَنا بالبَيِّناتِ والهُدَى فَأجَبْنَا واتَّبَعْنا، هُوَ مُحمَّدٌ ثَلاثاً، فَيُقالُ: نَمْ صالِحاً قَد عَلِمْنا إنْ كُنْتَ لُموقِناً بِهِ، وأمَّا المُنَافِقُ) أَو المُرْتابُ، لَا أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالتْ أسْماءُ (فَيَقولُ: لَا أدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ) ..
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِشَارَة بِالرَّأْسِ، لكنه من فعل عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَقَالَ بَعضهم: فَيكون مَوْقُوفا، لَكِن لَهُ حكم الْمَرْفُوع لِأَنَّهَا كَانَت تصلي خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ فِي الصَّلَاة يرى من خَلفه. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف، بل وجود شَيْء فِي حَدِيث الْبَاب مِمَّا هُوَ مُطَابق للتَّرْجَمَة كافٍ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا يدل إلاَّ على بعض التَّرْجَمَة، وَهُوَ الْإِشَارَة بِالرَّأْسِ، كَمَا أَن الْأَوَّلين لَا يدلان أَيْضا إلاَّ على الْبَعْض الآخر، وَهُوَ الْإِشَارَة بِالْيَدِ. قلت: لَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي الْبَاب على تَمام التَّرْجَمَة، بل إِذا دلّ الْبَعْض على الْبَعْض بِحَيْثُ دلّ الْمَجْمُوع على الْمَجْمُوع صحت التَّرْجَمَة، وَمثله مر فِي كتاب بَدْء الْوَحْي.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. الثَّانِي: وهيب بن خَالِد، وَقد ذكرا الْآن. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله عَنْهُم، وَقد تقدم. الرَّابِع: فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير بن الْعَوام، وَهِي زَوْجَة هِشَام بن عُرْوَة، وَبنت عَمه. رَوَت عَن جدَّتهَا أَسمَاء، روى عَنْهَا زَوجهَا هِشَام وَمُحَمّد بن إِسْحَاق. وَقَالَ أَحْمد بن عبد اللَّه: تابعية ثِقَة، روى لَهَا الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، زَوْجَة الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، وَكَانَ عبد اللَّه بن أبي بكر شقيقها، وَعَائِشَة وَعبد الرَّحْمَن أَخَوَاهَا لأَبِيهَا، وَهِي ذَات النطاقين، ولدت قبل الْهِجْرَة بِسبع وَعشْرين سنة، وَأسْلمت بعد سَبْعَة عشر إنْسَانا، رُوِيَ لَهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَخَمْسُونَ حَدِيثا، انْفَرد البُخَارِيّ بأَرْبعَة، وَمُسلم بِمِثْلِهَا، واتفقا على أَرْبَعَة عشر، توفيت بِمَكَّة فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَسبعين بعد قتل ابْنهَا عبد اللَّه بن الزبير، وَقد بلغت الْمِائَة وَلم يسْقط لَهَا سنّ وَلم يتَغَيَّر عقلهَا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تابعية عَن صحابية مَعَ ذكر صحابية أُخْرَى. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْكُسُوف عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، وَفِي الِاعْتِصَام عَن القعْنبِي، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك، وَفِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة: أما بعد، وَقَالَ فِيهِ مَحْمُود: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، وَفِي كتاب الخسوف: وَقَالَ أَبُو أُسَامَة، وَفِي كتاب السَّهْو فِي: بَاب الْإِشَارَة فِي الصَّلَاة، عَن يحيى بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن الثَّوْريّ مُخْتَصرا، وَفِي الخسوف مُخْتَصرا عَن الرّبيع بن يحيى عَن زَائِدَة وَعَن مُوسَى بن مَسْعُود عَن زَائِدَة مُخْتَصرا، وَتَابعه عَليّ عَن الدَّرَاورْدِي وَعَن مُحَمَّد الْمقدمِي عَن تَمام فِي الْعتَاقَة. وَأخرجه مُسلم فِي الخسوف عَن أبي كريب عَن ابْن غير، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب عَن أبي أُسَامَة كلهم عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن امْرَأَته فَاطِمَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (حَتَّى علاني) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة، من: عَلَوْت الرجل غلبته، تَقول: علاهُ يعلوه علوا، وَعلا فِي الْمَكَان يَعْلُو علوا

(2/93)


أَيْضا، وَعلا بِالْكَسْرِ فِي الشِرف يعلي عَلَاء، وَيُقَال أَيْضا: بِالْفَتْح يعلى، قَالَ رؤبة:
(دفعك داواني وَقد جويت ... لما علا كعبك لي عليت)

فَجمع بَين اللغتين، هَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، أَعنِي: علاني. وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: تجلاني، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَالْجِيم وَتَشْديد اللَّام، وَأَصله: تجللني، أَي: علاني. قَالَ فِي (الْعباب) : تجلله أَي: علاهُ. قلت: هَذَا مثل: تقضى الْبَازِي، أَصله: تقضض، فاستثقلوا ثَلَاث ضادات، فابدلوا من إِحْدَاهُنَّ يَاء، فَصَارَ يَاء. وَكَذَلِكَ استثقلوا ثَلَاث لامات فأبدلوا من إِحْدَاهُنَّ يَاء فَصَارَ: تجلى. وَرُبمَا يَظُنّهُ من لَا خبْرَة لَهُ من مواد الْكَلَام أَن هَذَا من النواقص، وَهُوَ من المضاعف. وَقَالَ بَعضهم: تجلاني، بمثناة وجيم وَلَام مُشَدّدَة: وجلال الشَّيْء مَا غطي بِهِ. قلت: الْجلَال جمع: جلّ الْفرس، وَلَا مُنَاسبَة لذكره مَعَ: تجلاني، وَإِن كَانَا مشتركين فِي أصل الْمَادَّة، لِأَن ذَلِك فعل من بَاب التفعيل، وَهَذَا اسْم، وَهُوَ جمع. وَلَو قَالَ: وَمِنْه جلال الشَّيْء، كَانَ لَا بَأْس بِهِ، تَنْبِيها على أَنَّهُمَا مشتركان فِي أصل الْمَادَّة. وَأَيْضًا لَا يُقَال: جلال الشَّيْء مَا غطى بِهِ، بل الَّذِي يُقَال: جلّ الشَّيْء. قلت: (الغشي) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره يَاء آخر الْحُرُوف، مُخَفّفَة من غشى عَلَيْهِ غشية وغشياً وغشياناً فَهُوَ مغشي عَلَيْهِ، واستغشى بِثَوْبِهِ وتغشى أَي: تغطى بِهِ. وَقَالَ القَاضِي: روينَاهُ فِي مُسلم وَغَيره بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْيَاء، وباسكان الشين وَالْيَاء، وهما بِمَعْنى: الغشاوة، وَذَلِكَ لطول الْقيام وَكَثْرَة الْحر، وَلذَلِك قَالَت: فَجعلت أصب على رَأْسِي، أَو على وَجْهي من المَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: الغشي، بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْيَاء: مرض مَعْرُوف يحصل بطول الْقيام فِي الْحر وَغير ذَلِك، وعرفه أهل الطِّبّ بِأَنَّهُ تعطل القوى المحركة والحساسة لضعف الْقلب واجتماع الرّوح كُله إِلَيْهِ. فَإِن قلت: إِذا تعطلت القوى فَكيف صبَّتْ المَاء؟ قلت: أَرَادَت بالغشي الْحَالة الْقَرِيبَة مِنْهُ، فأطلقت الغشي عَلَيْهَا مجَازًا، أَو كَانَ الصب بعد الْإِفَاقَة مِنْهُ. قَالَ بعض الشَّارِحين: ويروى بِعَين مُهْملَة. قَالَ القَاضِي: لَيْسَ بِشَيْء. وَفِي (الْمطَالع) : الغشي، بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْيَاء: كَذَا قَيده الْأصيلِيّ، وَرَوَاهُ بَعضهم: الغشي، وهما بِمَعْنى وَاحِد يُرِيد: الغشاوة وَهُوَ الغطاء. ورويناه عَن الْفَقِيه ابْن مُحَمَّد عَن الطَّبَرِيّ: الْعشي، بِعَين مُهْملَة، وَلَيْسَ بِشَيْء. قَوْله: (تفتنون) أَي: تمتحنون. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْفِتْنَة الامتحان والاختبار. تَقول: فتنت الذَّهَب إِذا أدخلته النَّار لتنظر مَا جودته، ودينار مفتون، وَيُسمى الصَّائِغ: الفتان. وأفتن الرجل وَفتن فَهُوَ مفتون إِذا أَصَابَته فتْنَة فَذهب مَاله وعقله، وَذَلِكَ إِذا اختبر. قَالَ الله تَعَالَى: {وَفَتَنَّاك فُتُونًا} (طه: 40) . قَوْله: (الْمَسِيح الدَّجَّال) ، إِنَّمَا سمي مسيحاً لِأَنَّهُ يمسح الأَرْض، أَو لِأَنَّهُ مَمْسُوح الْعين. قَالَ فِي (الْعباب) : الْمَسِيح الْمَمْسُوح بالشوم. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سمت الْيَهُود الدَّجَّال مسيحاً لِأَنَّهُ مَمْسُوح إِحْدَى الْعَينَيْنِ. وَبَعض الْمُحدثين يَقُولُونَ فِيهِ الْمَسِيح، مِثَال: سكيت، لِأَنَّهُ مسح خلقه، أَي: شوه. وَأما الْمَسِيح، بِالْفَتْح، فَهُوَ عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ ابْن مَاكُولَا عَن شَيْخه: الصَّوَاب هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة: المسيخ، يُقَال مَسحه الله، بِالْمُهْمَلَةِ: إِذا خلقه خلقا حسنا. ومسخه، بِالْمُعْجَمَةِ: إِذا خلقه خلقا ملعوناً. والدجال على وزن فعال من الدجل، وَهُوَ الْكَذِب والتمويه وخلط الْحق بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ كَذَّاب مموه خلاط. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: سمي دجالًا لضربه فِي الأَرْض وقطعه أَكثر نَوَاحِيهَا. يُقَال: دجل الرجل إِذا فعل ذَلِك. وَيُقَال: دجل إِذا لبس، وَيُقَال: الدجل طلي الْبَعِير بالقطران وَبِغَيْرِهِ، وَمِنْه سمي الدَّجَّال. وَيُقَال لماء الذَّهَب: دجال، بِالضَّمِّ، وَشبه الدَّجَّال بِهِ لِأَنَّهُ يظْهر خلاف مَا يضمر، وَيُقَال: الدجل السحر وَالْكذب، وكل كَذَّاب دجال، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سمي بِهِ لِأَنَّهُ يُغطي الأَرْض بِالْجمعِ الْكثير، مثل دجلة تغطي الأَرْض بِمَائِهَا، والدجل: التغطية. يُقَال: دجل فلَان الْحق بباطله أَي: غطاه. يُقَال: دجل الرجل، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد مَعَ فتح الْجِيم، ودجل أَيْضا بِالضَّمِّ مخففاً.
بَيَان الْأَعْرَاب: قَوْله: (عَائِشَة) مَنْصُوب بقوله: (أتيت) ، وَمنع التَّنْوِين لِأَنَّهُ غير منصرف للعلمية والتأنيث، قَوْله: (وَهِي تصلي) جملَة إسمية وَقعت حَالا من: عَائِشَة. قَوْله: (فَقلت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَقَوله: (مَا شَأْن النَّاس) ؟ جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فَأَشَارَتْ) عطف على قَوْله: (فَقلت) . قَوْله: (فَإِذا) للمفاجأة و: النَّاس، مُبْتَدأ و: قيام خَبره. قَوْله: (فَقَالَت) أَي: عَائِشَة. (سُبْحَانَ الله) . فَإِن قلت: يَنْبَغِي أَن يكون مقول القَوْل جملَة، و: سُبْحَانَ الله، لَيْسَ بجملة. قلت: قَالَت: مَعْنَاهُ هَهُنَا ذكرت، وَقَالَ بَعضهم: فَقَالَت: سُبْحَانَ الله. أَي أشارت قائلة: سُبْحَانَ الله. قلت: هَذَا التَّقْدِير فَاسد، لِأَن: قَالَت، هَهُنَا عطف بِحرف الْفَاء، فَكيف يقدر حَالا مُفْردَة، و: سُبْحَانَ، علم للتسبيح: كعثمان، علم للرجل، وَهُوَ

(2/94)


مفعول مُطلق الْتزم إِضْمَار فعله، وَالتَّقْدِير: يسبح الله سُبْحَانَ أَي تسبيحاً، مَعْنَاهُ: أنزهه من النقائص وسمات المخلوقين. فَإِن قلت: إِذا كَانَ علما كَيفَ أضيف؟ قلت: يُنكر عِنْد إِرَادَة الْإِضَافَة. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: كَونه علما إِنَّمَا هُوَ فِي غير حَالَة الْإِضَافَة. قَوْله: (آيَة) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وحذفها، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ آيَة. أَي: عَلامَة لعذاب النَّاس. قَوْله: (فَأَشَارَتْ) عطف على: قلت. قَوْله: (أَي نعم) تَفْسِير لقَوْله: أشارت. قَوْله: (حَتَّى علاني) حَتَّى، هَهُنَا للغاية بِمَعْنى: إِلَى أَن علاني. وعلاني، فعل ومفعول، و: الغشي، بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (فَجعلت) من الْأَفْعَال النَّاقِصَة، وَالتَّاء اسْمه، وَقَوله: (أصب على رَأْسِي المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ أَنا الْمُسْتَتر فِي أصب، وَالْمَفْعُول وَهُوَ قَوْله: المَاء، وَمحله النصب، لِأَنَّهَا خبر: جعلت. قَوْله: (فَحَمدَ) فعل وَلَفْظَة: (الله) ، مَفْعُوله، (وَالنَّبِيّ) فَاعله. قَوْله: (وَأثْنى عَلَيْهِ) عطف على: حمد. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) عطف على: حمد. قَوْله: (مَا من شَيْء) كلمة: مَا، للنَّفْي، وَكلمَة: من، زَائِدَة لتأكيد النَّفْي و: شَيْء، اسْم مَا. وَقَوله: (لم أكن أريته) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لشَيْء، وَهُوَ مَرْفُوع فِي الأَصْل وَإِن كَانَ جر بِمن الزَّائِدَة، وَاسم: أكن، مستتر فِيهِ، و: أريته، بِضَم الْهمزَة جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: لم أكن. وَقَوله: (إلاَّ رَأَيْته) اسْتثِْنَاء مفرغ، وَقَالَت النُّحَاة: كل اسْتثِْنَاء مفرغ مُتَّصِل وَمَعْنَاهُ أَن مَا قبلهَا مفرغ لما بعْدهَا إِذْ الِاسْتِثْنَاء من كَلَام غير تَامّ فيلغى فِيهِ إلاَّ من حَيْثُ الْعَمَل لَا من حَيْثُ الْمَعْنى نَحْو: مَا جَاءَنِي إلاَّ زيد، وَمَا رَأَيْت إلاَّ زيدا، أَو مَا مَرَرْت إلاَّ بزيد. فالفعل الْوَاقِع هَهُنَا قبل: إلاَّ، مفرغ لما بعْدهَا، و: إلاَّ، هَهُنَا بِمَنْزِلَة سَائِر الْحُرُوف الَّتِي تغير الْمَعْنى دون الْأَلْفَاظ، نَحْو: هَل وَغَيره، وَلَا يجوز هَذَا إلاَّ فِي الْمَنْفِيّ. فَافْهَم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: و: رَأَيْته، فِي مَوضِع الْحَال وَتَقْدِيره: مَا من شَيْء لم يكن أريته كَائِنا فِي حَال من الْأَحْوَال إلاَّ فِي حَال رؤيتي إِيَّاه. قلت: لَا يَصح هَذَا الْكَلَام، لِأَن ذَا الْحَال إِن كَانَ لَفظه: شَيْء، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُبْتَدأ يبْقى بِلَا خبر، وَإِن كَانَ هُوَ الضَّمِير الَّذِي فِي: لم أكن، فَلَا يَصح لذَلِك، بل مَحل رَأَيْته فِي نفس الْأَمر رفع على الخبرية، لِأَن التَّقْدِير: إِذا أزيل: مَا وإلاَّ، يكون هَكَذَا: وَشَيْء لم أكن أريته رَأَيْته فِي مقَامي هَذَا، و: شَيْء، وَإِن كَانَ نكرَة وَلكنه تخصص بِالصّفةِ. قَوْله: (فِي مقَامي) حَال تَقْدِيره: حَال كوني فِي مقَامي هَذَا. فَإِن قلت: هَذَا، مَا موقعه من الْإِعْرَاب؟ قلت: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فِي مقَامي هُوَ هَذَا. ويؤول بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ الْمقَام يحْتَمل الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان. قلت: نعم يحْتَمل فِي غير هَذَا الْموضع، وَلكنه هَهُنَا بِمَعْنى الْمَكَان. قَوْله: (حَتَّى الْجنَّة وَالنَّار) يجوز فيهمَا الرّفْع وَالنّصب والجر: أما الرّفْع فعلى أَن تكون: حَتَّى، ابتدائية و: الْجنَّة، تكون مَرْفُوعا على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر تَقْدِيره: حَتَّى الْجنَّة مرئية، و: النَّار، عطف عَلَيْهِ. كَمَا فِي قَوْله: أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا، بِرَفْع الرَّأْس أَي: رأسُها ماكولٌ، وَهُوَ أحد الْأَوْجه الثَّلَاثَة فِيهِ. وَأما النصب فعلى أَن تكون: حَتَّى، عاطفة عطف الْجنَّة فِي الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي رَأَيْته، وَأما الْجَرّ فعلى أَن تكون: حَتَّى، جَارة. قَوْله: (فَأُوحي إِلَيّ) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَنكُمْ) بِفَتْح الْهمزَة، لِأَنَّهُ مفعول أُوحِي، قد نَاب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (تفتنون) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن. قَوْله: (مثل أَو قَرِيبا) كَذَا رُوِيَ فِي رِوَايَة بترك التَّنْوِين فِي: مثل، وبالتنوين فِي: قَرِيبا. وَرُوِيَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: (مثل أَو قريب) بِغَيْر تَنْوِين فيهمَا، وَرُوِيَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: (مثلا أَو قَرِيبا) ، بِالتَّنْوِينِ فيهمَا. قَالَ القَاضِي: روينَاهُ عَن بَعضهم، وَكَذَا رُوِيَ: من فتْنَة الْمَسِيح بِلَفْظَة: من، قبل: فتْنَة الْمَسِيح. رُوِيَ أَيْضا بِدُونِ: من. أما وَجه الرِّوَايَة الأولى: فَهُوَ مَا قَالَه ابْن مَالك إِن أَصله: مثل فتْنَة الدَّجَّال أَو قَرِيبا من فتْنَة الدَّجَّال، فَحذف مَا كَانَ: مثل، مُضَافا إِلَيْهِ، وَترك على هَيئته قبل الْحَذف، وَجَاز الْحَذف لدلَالَة مَا بعده. قَالَ: والمعتاد فِي صِحَة هَذَا الْحَذف أَن يكون مَعَ إضافتين، كَقَوْل الشَّاعِر:
(أَمَام وَخلف الْمَرْء من لطف ربه ... كوال تروى عَنهُ مَا هُوَ يحذر)

وَجَاء أَيْضا فِي إِضَافَة وَاحِدَة، كَمَا هُوَ فِي الحَدِيث:
(مَه عاذلي فهائما لن أبرحا ... كَمثل أَو أحسن من شمس الضُّحَى)

وَأما وَجه الرِّوَايَة الثَّانِيَة: فَهُوَ أَن يكون: مثل أَو قريب، كِلَاهُمَا مضافان إِلَى: فتْنَة الْمَسِيح، وَيكون قَوْله: (لَا أَدْرِي أَي ذَلِك قَالَت أَسمَاء) مُعْتَرضَة بَين المضافين والمضاف إِلَيْهِ، مُؤَكدَة لِمَعْنى الشَّك الْمُسْتَفَاد من كلمة: أَو، وَمثل هَذِه لَا تسمى أَجْنَبِيَّة حَتَّى يُقَال: كَيفَ يجوز الْفَصْل بَين المضافين وَبَين مَا أضيفا إِلَيْهِ؟ لِأَن الْمُؤَكّدَة للشَّيْء لَا تكون أَجْنَبِيَّة مِنْهُ، فَجَاز كَمَا فِي قَوْله:
(يَا تيم تيم عدي)

وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل يَصح أَن يكون لشَيْء وَاحِد مضافان؟ قلت: لَيْسَ هَهُنَا مضافان، بل مُضَاف وَاحِد، وَهُوَ أَحدهمَا، لَا على التَّعْيِين، وَلَئِن سلمنَا فتقديره: مثل الْمَسِيح أَو قريب فتْنَة الْمَسِيح، فَحذف أحد اللَّفْظَيْنِ مِنْهُمَا

(2/95)


لدلَالَة الآخر عَلَيْهِ، نَحْو قَول الشَّاعِر.
(بَين ذراعي وجبهة الْأسد)

قلت: قَوْله: لَيْسَ هُنَا مضافان غير صَحِيح، بل هَهُنَا مضافان صَرِيحًا، وَقد جَاءَ ذَلِك فِي كَلَام الْعَرَب كَمَا مر فِي الْبَيْت الْمَذْكُور. وَأما وَجه الرِّوَايَة الثَّالِثَة: فَهُوَ أَن يكون: مثلا، مَنْصُوبًا على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف و: أَو قَرِيبا، عطف عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: تفتنون فِي قبوركم فتْنَة مثلا أَي مماثلاً فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، أَو فتْنَة قَرِيبا من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال. أما وَجه: من، فِي رِوَايَة من أثبتها قبل قَوْله: فتْنَة الْمَسِيح، على تَقْدِير إِضَافَة الْمثل أَو الْقَرِيب إِلَى فتْنَة الْمَسِيح، فعلى نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا أَن إِظْهَار حرف الْجَرّ بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ لَا يمْتَنع عِنْد قوم من النُّحَاة، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: أَلا أَبَا لَك وَالْآخر، مَا قيل: إنَّهُمَا ليسَا بمضافين إِلَى فتْنَة الْمَسِيح على هَذَا التَّقْدِير، بل هما مضافان إِلَى فتْنَة مقدرَة، والمذكورة بَيَان لتِلْك الْمقدرَة. فَافْهَم. قَوْله: (لَا أَدْرِي) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. قَوْله: (أَي ذَلِك) كَلَام إضافي و: أَي، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره قَوْله: (قَالَت اسماء) وَضمير الْمَفْعُول مَحْذُوف، أَي: قالته. ثمَّ قَوْله: (أَي) يجوز أَن تكون استفهامية وموصولة، فَإِن كَانَت استفهامية يكون فعل الدِّرَايَة مُعَلّقا بالاستفهام لِأَنَّهُ من أَفعَال الْقُلُوب، وَيجوز أَن تكون: أَي، مَبْنِيا على الضَّم مُبْتَدأ على تَقْدِير حذف صدر صلته، وَالتَّقْدِير: لَا أَدْرِي أَي ذَلِك هُوَ قالته أَسمَاء، وَإِن كَانَت مَوْصُولَة تكون: أَي، مَنْصُوبَة بِأَنَّهَا مفعول: لَا أَدْرِي، وَيجوز أَن يكون انتصابها: بقالت، سَوَاء كَانَت: أَي، مَوْصُولَة أَو استفهامية. وَيجوز أَن تكون من شريطة التَّفْسِير بِأَن يشْتَغل: قَالَت، بضميره الْمَحْذُوف. قَوْله: (يُقَال) بَيَان لقَوْله: (تفتنون) وَلِهَذَا ترك العاطف بَين الْكَلَامَيْنِ. قَوْله: (مَا علمك) ؟ جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فَأَما الْمُؤمن) كلمة: أما، للتفصيل تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت فِي جوابها الْفَاء، وَهُوَ قَوْله: (فَيَقُول: هُوَ مُحَمَّد) . قَوْله: (أَو الموقن) شكّ من الرواي، وَهِي: فَاطِمَة. قَوْله: (لَا أَدْرِي أَيهمَا قَالَت أَسمَاء) جملَة مُعْتَرضَة، أَيْضا. قَوْله: (هُوَ مُحَمَّد) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (هُوَ رَسُول الله) . قَوْله: (جَاءَنَا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ جَاءَنَا. قَوْله: (فأجبنا) ، عطف على: جَاءَنَا. وَقَوله: (وَاتَّبَعنَا) عطف على: (اجبنا) . قَوْله: (هُوَ مُحَمَّد) مُبْتَدأ وَخبر. قَوْله: (ثَلَاثًا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: يَقُول الْمُؤمن: هُوَ مُحَمَّد. قَوْله: (قولا ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات، مرَّتَيْنِ بِلَفْظ مُحَمَّد، وَمرَّة بِصفتِهِ وَهُوَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. لَا يُقَال: إِذا قَالَ هَذَا الْمَذْكُور أَي مَجْمُوعه ثَلَاثًا يلْزم أَن يكون هُوَ مُحَمَّد مقولاً تسع مَرَّات، وَلَيْسَ كَذَلِك، لأَنا نقُول لفظ ثَلَاثًا ذكر للتَّأْكِيد الْمَذْكُور، فَلَا يكون الْمَقُول إلاَّ ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (فَيُقَال) عطف على قَوْله: فَيَقُول. قَوْله: (نم صَالحا) جملَة وَقعت مقول القَوْل، و: صَالحا، نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: نم، وَهُوَ أَمر من نَام ينَام. قَوْله: (إِن كنت) كلمة: إِن، هَذِه هِيَ المخففة من الثَّقِيلَة، أَي: إِن الشَّأْن كنت، وَهِي مَكْسُورَة، وَدخلت اللَّام فِي قَوْله: (لموقنا) لتفرق بَين: أَن، هَذِه وَبَين: إِن النافية، هَذَا قَول الْبَصرِيين. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِن، بِمَعْنى: مَا. و: اللَّام، بِمَعْنى: إلاَّ، مثل قَوْله تَعَالَى: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} (الطارق: 4) أَي: مَا كل نفس إلاَّ عَلَيْهَا حَافظ. وَيكون التَّقْدِير هَهُنَا: مَا كنت إلاَّ موقنا. وَحكى السفاقسي فتح: إِن، على جعلهَا مَصْدَرِيَّة، أَي علمنَا كونك موقناً بِهِ. وَيرد مَا قَالَه دُخُول اللَّام. قَوْله: (وَأما الْمُنَافِق) عطف على قَوْله: (فَأَما الْمُؤمن) وَقَوله: (فَيَقُول: لَا أَدْرِي) جَوَاب: أما، ومفعوله مَحْذُوف. أَي: لَا أَدْرِي مَا أَقُول. قَوْله: (يَقُولُونَ) ، حَال من: النَّاس، و: شَيْئا، مَفْعُوله. قَوْله: (فقلته) ، عطف على: يَقُولُونَ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (مَا شَأْن النَّاس؟) أَي: قَائِمين مضطربين فزعين. قَوْله: (فَأَشَارَتْ) أَي: عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، إِلَى السَّمَاء، تَعْنِي: انكسفت الشَّمْس فَإِذا النَّاس قيام أَي لصَلَاة الْكُسُوف، وَالْقِيَام جمع قَائِم كالصيام جمع صَائِم. قَوْله: (آيَة) : عَلامَة لعذاب النَّاس كَأَنَّهَا مُقَدّمَة لَهُ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفاً} (الْإِسْرَاء: 59) أَو عَلامَة لقرب زمَان الْقِيَامَة وأمارة من أماراتها، أَو عَلامَة لكَون الشَّمْس مخلوقة دَاخِلَة تَحت النَّقْص، مسخرة لقدرة الله تَعَالَى لَيْسَ لَهَا سلطنة على غَيرهَا، بل لَا قدرَة لَهَا على الدّفع عَن نَفسهَا. فَإِن قلت: ماتقول فِيمَا قَالَ أهل الْهَيْئَة: إِن الْكُسُوف سَببه حيلولة الْقَمَر بَينهَا وَبَين الأَرْض؟ فَلَا يرى حينئذٍ إلاَّ لون الْقَمَر وَهُوَ كمد لَا نور لَهُ، وَذَاكَ لَا يكون إلاَّ فِي آخر الشَّهْر عِنْد كَون النيرين فِي إِحْدَى عقدتي الرَّأْس والذنب، وَله آثَار فِي الأَرْض، هَل جَازَ القَوْل بِهِ أم لَا؟ قلت: الْمُقدمَات كلهَا مَمْنُوعَة، وَلَئِن سلمنَا، فَإِن كَانَ غرضهم أَن الله تَعَالَى أجْرى سنته بذلك، كَمَا أجْرى باحتراق الْحَطب الْيَابِس عِنْد مساس النَّار لَهُ فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانَ غرضهم أَنه وَاجِب عقلا، وَله تَأْثِير بِحَسب ذَاته فَهُوَ بَاطِل،

(2/96)


لما تقرر أَن جَمِيع الْحَوَادِث مستندة إِلَى إِرَادَة الله تَعَالَى ابْتِدَاء، وَلَا مُؤثر فِي الْوُجُود إِلَّا الله تَعَالَى. قَوْله: (وَأثْنى عَلَيْهِ) ، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، لِأَن الثَّنَاء أَعم من الْحَمد، وَالشُّكْر والمدح أَيْضا ثَنَاء. قَوْله: (مَا من شَيْء لم أكن أريته إِلَّا رَأَيْته) قَالَ الْعلمَاء: يحْتَمل أَن يكون قد رأى رُؤْيَة عين، بِأَن كشف الله تَعَالَى لَهُ مثلا عَن الْجنَّة وَالنَّار، وأزال الْحجب بَينه وَبَينهمَا، كَمَا فرج لَهُ عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى حِين وَصفه بِمَكَّة للنَّاس. وَقد تقرر فِي علم الْكَلَام أَن الرُّؤْيَة أَمر يخلقه الله تَعَالَى فِي الرَّائِي، وَلَيْسَت مَشْرُوطَة بِمُقَابلَة وَلَا مُوَاجهَة وَلَا خُرُوج شُعَاع وَغَيره، بل هَذِه شُرُوط عَادِية جَازَ الانفكاك عَنْهَا عقلا وَأَن يكون رُؤْيَة علم ووحي باطلاعه وتعريفه من أمورهما تَفْصِيلًا مَا لم يعرفهُ قبل ذَلِك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَيجوز على هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى مثل لَهُ الْجنَّة وَالنَّار وصورهما لَهُ فِي الْحَائِط، كَمَا تمثل المرئيات فِي الْمرْآة. ويعضده مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أنس فِي الْكُسُوف، فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْجنَّة وَالنَّار ممثلتين فِي قبْلَة هَذَا الْجِدَار) . وَفِي مُسلم: (إِنِّي صورت لي الْجنَّة وَالنَّار فرأيتهما بدور هَذَا الْحَائِط) . وَلَا يستبعد هَذَا من حَيْثُ إِن الانطباع كَمَا فِي الْمرْآة إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَجْسَام الصقيلة، لأَنا نقُول: إِن ذَلِك الشَّرْط عادي لَا عَقْلِي، وَيجوز أَن تنخرق الْعَادة خُصُوصا للنبوة، وَلَو سلم أَن تِلْكَ الْأُمُور عقلية لجَاز أَن تُوجد تِلْكَ الصُّور فِي جسم الْحَائِط، وَلَا يدْرك ذَلِك إلاَّ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ: وَالْأول أولى وأشبه بِأَلْفَاظ الْأَحَادِيث، لقَوْله فِي بعض الْأَحَادِيث: (فتناولت مِنْهَا عنقوداً) وتأخره مَخَافَة أَن يُصِيبهُ النَّار. قَوْله: (مَا علمك) ، الْخطاب فِيهِ للمقبور بِدَلِيل قَوْله: (إِنَّكُم تفتنون فِي قبوركم) ، وَلكنه عدل عَن خطاب الْجمع إِلَى خطاب الْمُفْرد، لِأَن السُّؤَال عَن الْعلم يكون لكل وَاحِد بِانْفِرَادِهِ واستقلاله. قيل: قد يتَوَهَّم أَن فِيهِ التفاتاً، لِأَنَّهُ انْتِقَال من جمع الْخطاب إِلَى مُفْرد الْخطاب، كَمَا قَالَ المرزوقي فِي شرح (الحماسة) فِي قَوْله:
(أحمى أباكن يَا ليلى الأماديح)

إِنَّه الْتِفَات، وكما فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} (الطَّلَاق: 1) قلت: الْجُمْهُور من أهل الْمعَانِي على خلاف ذَلِك، وَلَا يُسمى هَذَا التفاتاً إلاَّ على قَول من يَقُول: إِن الِالْتِفَات هُوَ انْتِقَال من صِيغَة إِلَى صِيغَة أُخْرَى، سَوَاء كَانَ من الضمائر بَعْضهَا إِلَى بعض، أَو من غَيرهَا، وَالتَّفْسِير الْمَشْهُور أَن الِالْتِفَات هُوَ التَّعْبِير عَن معنى بطرِيق من الطّرق الثَّلَاثَة بعد التَّعْبِير عَنهُ بطرِيق آخر من الطّرق الثَّلَاثَة، وَهِي التَّكَلُّم وَالْخطاب والغيبة. أما الشّعْر فَإِن فِيهِ تَخْصِيص الْخطاب بعد التَّعْمِيم لكَون الْمَقْصُود الْأَعْظَم هُوَ خطاب ليلى، وَأما الْآيَة فقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: خص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالنداء، وَعم بِالْخِطَابِ لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِمَام أمته وقدوتهم، كَمَا يُقَال لرئيس الْقَوْم وَكَبِيرهمْ: يَا فلَان افعلوا كَيْت وَكَيْت، إِظْهَارًا لتقدمه واعتباراً لترؤسه، وَأَنه مَدَرَة قومه ولسانهم، وَالَّذِي يصدر عَنْهُم رَأْيه وَلَا يستبدون بِأَمْر دونه، فَكَانَ هُوَ وَحده فِي حكم كلهم وساداً مسد جَمِيعهم. قَوْله: (بِهَذَا الرجل) أَي: بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَإِنَّمَا لم يقل: بِي، لِأَنَّهُ حِكَايَة عَن قَول الْمَلَائِكَة للمقبور. وَالْقَائِل هما الْملكَانِ السائلان المسميان بمنكر وَنَكِير. فَإِن قلت: لِمَ لَا يَقُولَانِ رَسُول الله؟ قلت: لِئَلَّا يَتَلَقَّن المقبور مِنْهُمَا إكرام الرَّسُول وَرفع مرتبته فيعظمه تقليداً لَهما لَا اعتقاداً. قَوْله: (أَو الموقن) أَي: الْمُصدق بنبوة مُحَمَّد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو الموقن بنبوته. قَوْله: (جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أَي: بالمعجزات الدَّالَّة على نبوته، و: الْهدى، أَي: الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية أَو الْإِرْشَاد إِلَى الطَّرِيق الْحق الْوَاضِح. قَوْله: (فأجبنا) أَي: قبلنَا نبوته معتقدين حقيتها معترفين بهَا، واتبعناه فِيمَا جَاءَ بِهِ إِلَيْنَا. وَيُقَال: الْإِجَابَة تتَعَلَّق بِالْعلمِ والاتباع بِالْعَمَلِ. قَوْله: (صَالحا) أَي: مُنْتَفعا بأعمالك وأحوالك، إِذْ الصّلاح كَون الشَّيْء فِي حد الِانْتِفَاع. وَيُقَال: لَا روع عَلَيْك مِمَّا يروع بِهِ الْكفَّار من عرضهمْ على النَّار أَو غَيره من عَذَاب الْقَبْر، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ صَالحا لِأَن تكرم بنعيم الْجنَّة. قَوْله: (إِن كنت لموقنا) قَالَ الدَّرَاورْدِي: مَعْنَاهُ أَنَّك مُؤمن، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} (آل عمرَان: 110) أَي: أَنْتُم. قَالَ القَاضِي: وَالْأَظْهَر أَنه على بَابهَا، وَالْمعْنَى: أَنَّك كنت مُؤمنا. يكون مَعْنَاهُ: إِن كنت مُؤمنا فِي علم الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قيل فِي قَوْله: {كُنْتُم خير أمه} (آل عمرَان: 110) أَي: فِي علم الله. قَوْله: (وَأما الْمُنَافِق) أَي: غير الْمُصدق بِقَلْبِه لنبوته، وَهُوَ فِي مُقَابلَة الْمُؤمن. قَوْله: (والمرتاب) أَي: الشاك، وَهُوَ فِي مُقَابلَة الموقن. وَهَذَا اللَّفْظ يشْتَرك فِيهِ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْفرق بِالْقَرِينَةِ، وَأَصله: مرتيب، بِفَتْح الْيَاء فِي الْمَفْعُول، وَكسرهَا فِي الْفَاعِل من الريب، وَهُوَ الشَّك. قَوْله: (فقلته) أَي: قلت مَا كَانَ النَّاس يَقُولُونَهُ، وَفِي بعض النّسخ بعده: وَذكر الحَدِيث إِلَى آخِره، وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات الْأُخَر أَنه يُقَال: (لَا دَريت وَلَا تليت، وَيضْرب بمطارق من حَدِيد ضَرْبَة فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا من يَلِيهِ غير الثقلَيْن) . نسْأَل الله الْعَافِيَة.

(2/97)


بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ كَون الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتين الْيَوْم، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة، وَيدل عَلَيْهِ الْآيَات وَالْأَخْبَار المتواترة، مثل قَوْله تَعَالَى: {وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة} (الْأَعْرَاف: 22، طه: 121) وَقَوله: {عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى} (النَّجْم: 15) : {وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض} (آل عمرَان: 133) إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات، وتواتر الْأَخْبَار فِي قصَّة آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الْجنَّة ودخوله إِيَّاهَا وَخُرُوجه مِنْهَا، ووعده الرَّد إِلَيْهَا، كل ذَلِك ثَابت بِالْقطعِ. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أنكر طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة خلقهما قبل يَوْم الْحساب وَالْعِقَاب، وَقَالُوا: لَا فَائِدَة فِي خلقهما قبل ذَلِك، وحملوا قصَّة آدم على بُسْتَان من بساتين الدُّنْيَا. قَالَ: وَهَذَا بَاطِل وتلاعب بِالدّينِ وانسلال عَن إِجْمَاع الْمُسلمين. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: الْجنَّة مخلوقة مهيأة بِمَا فِيهَا، سقفها عرش الرَّحْمَن وَهِي خَارِجَة من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض، وكل مَخْلُوق يفنى ويجدد أَو لَا يجدد إلاَّ الْجنَّة وَالنَّار، وَلَيْسَ للجنة سَمَاء إلاَّ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح. يَعْنِي قَوْله: (وسقفها عرش الرَّحْمَن) ، وَلها ثَمَانِيَة أَبْوَاب. وَرُوِيَ: أَنَّهَا كلهَا مغلقة إلاَّ بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا. وَأما من قَالَ بِأَن قَوْله: {وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض} (آل عمرَان: 133) يدل على أَنَّهَا مخلوقة فَغير مُسْتَقِيم لما تقدم من أَنَّهَا فِي عَالم آخر، وَالْمعْنَى: عرضهَا كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض، كَمَا جَاءَ فِي مَوضِع آخر فَحذف هَهُنَا. وَسَأَلت الْيَهُود عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن هَذِه الْآيَة، وَقَالُوا: أَيْن تكون النَّار؟ فَقَالَ لَهُم عمر، رَضِي الله عَنهُ: أَرَأَيْتُم إِذا جَاءَ اللَّيْل، فَأَيْنَ يكون النَّهَار؟ وَإِذا جَاءَ النَّهَار فَأَيْنَ يكون اللَّيْل؟ فَقَالُوا لَهُ: لقد نزعت مِمَّا فِي التَّوْرَاة. وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ: تقرن السَّمَوَات السَّبع والأرضون السَّبع كَمَا تقرن الثِّيَاب بَعْضهَا بِبَعْض، فَذَلِك عرض الْجنَّة، وَلَا يصف أحد طولهَا لاتساعه. وَقيل: عرضهَا سعتها، وَلم يرد الْعرض الَّذِي هُوَ ضد الطول، وَالْعرب تَقول: ضربت فِي أَرض عريضة، أَي: وَاسِعَة. الثَّانِي: فِيهِ إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر مَعَ غَيره من الْأَدِلَّة، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وإحياء الْمَيِّت. قَالَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بذلك، وباستعاذة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَذَاب الْقَبْر. الثَّالِث: فِيهِ سُؤال مُنكر وَنَكِير، وهما ملكان يرسلهما الله تَعَالَى يسألان الْمَيِّت عَن الله تَعَالَى وَعَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الرَّابِع: فِيهِ خُرُوج الدَّجَّال. الْخَامِس: فِيهِ أَن الرُّؤْيَة لَيست مَشْرُوطَة بِشَيْء عقلا من المواجهة وَنَحْوهَا، وَوُقُوع رُؤْيَة الله تَعَالَى لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن من ارتاب فِي صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصِحَّة رسَالَته فَهُوَ كَافِر. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز التَّخْصِيص بالمخصصات الْعَقْلِيَّة والعرفية. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز وُقُوع الْفِعْل مُسْتَثْنى صُورَة. الثَّامِن: فِيهِ تعدد المضافين لفظا إِلَى مُضَاف وَاحِد. التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز إِظْهَار حرف الْجَرّ بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ. الْعَاشِر: فِيهِ سنية صَلَاة الْكُسُوف وَتَطْوِيل الْقيام فِيهَا. الْحَادِي عشر: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة هَذِه الصَّلَاة للنِّسَاء أَيْضا. الثَّانِي عشر: فِيهِ جَوَاز حضورهن وَرَاء الرِّجَال فِي الْجَمَاعَات. الثَّالِث عشر: فِيهِ جَوَاز السُّؤَال من الْمُصَلِّي. الرَّابِع عشر: فِيهِ امْتنَاع الْكَلَام فِي الصَّلَاة. الْخَامِس عشر: فِيهِ جَوَاز الْإِشَارَة، وَلَا كَرَاهَة فِيهَا إِذا كَانَ لحَاجَة. السَّادِس عشر: فِيهِ جَوَاز الْعَمَل الْيَسِير فِي الصَّلَاة، وَإنَّهُ لَا يُبْطِلهَا. السَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز التَّسْبِيح للنِّسَاء فِي الصَّلَاة. فَإِن قلت: لَهُنَّ التصفيح لَا التَّسْبِيح إِذا نابهن شَيْء. قلت: الْمَقْصُود من تَخْصِيص التصفيح بِهن أَن لَا يسمع الرِّجَال صوتهن، وَفِيمَا نَحن فِيهِ الْقِصَّة جرت بَين الْأُخْتَيْنِ، أَو التصفيح هُوَ الأولى لَا الْوَاجِب. الثَّامِن عشر: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْخطْبَة بعد صَلَاة الْكُسُوف. التَّاسِع عشر: فِيهِ أَن الْخطْبَة يكون أَولهَا التَّحْمِيد وَالثنَاء على الله، عز وَجل. الْعشْرُونَ: قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ أَن الغشي لَا ينْقض الْوضُوء مَا دَامَ الْعقل بَاقِيا.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا ماقيل: إِن لَفْظَة الشَّيْء فِي قَوْله: (مَا من شَيْء) أَعم الْعَام، وَقد وَقع نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي أَيْضا، وَلَكِن بعض الْأَشْيَاء مِمَّا لَا يَصح رُؤْيَته. أُجِيب: بِأَن الْأُصُولِيِّينَ قَالُوا: مَا من عَام إلاَّ وَقد خص، إلاَّ: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} (الْبَقَرَة: 231 و 282، النِّسَاء: 176، الْمَائِدَة: 97، الْأَنْفَال: 75، التَّوْبَة: 115، النُّور: 35 و 64، الحجرات: 16، المجادلة: 7، التغابن: 11) والمخصص قد يكون عقلياً أَو عرفياً، فخصصه الْعقل بِمَا صَحَّ رُؤْيَته، وَالْعرْف بِمَا يَلِيق أَيْضا بِأَنَّهُ مِمَّا يتَعَلَّق بِأَمْر الدّين وَالْجَزَاء وَنَحْوهمَا. وَمِنْهَا مَا قيل: هَل فِيهِ دلَالَة على أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رأى فِي هَذَا الْمقَام ذَات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ أُجِيب: نعم، إِذْ: الشَّيْء يتَنَاوَلهُ وَالْعقل لَا يمنعهُ وَالْعرْف لَا يَقْتَضِي إِخْرَاجه. وَمِنْهَا مَا قيل: من أَيْن علم الغشي وصب المَاء كَانَا فِي الصَّلَاة. أُجِيب: بِأَنَّهُ من حَيْثُ جعل ذَلِك مقدما على الْخطْبَة، وَالْخطْبَة متعقبة للصَّلَاة لَا وَاسِطَة بَينهمَا بِدَلِيل الْفَاء فِي: فَحَمدَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا مَا قيل: هَذَانِ فعلان يفسدان الصَّلَاة. أُجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على أَنه لم تكن أفعالها مُتَوَالِيَة، وإلاَّ بطلت الصَّلَاة.

(2/98)