عمدة القاري شرح صحيح البخاري

25 - (بَاب تحْرِيضِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ عَلَى أنْ يَحْفَظُوا الإِيمانَ والعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تحريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. والتحريض، بالضاد الْمُعْجَمَة، على الشَّيْء: الْحَث عَلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: والتحريص، بِالْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَاهُ أَيْضا. وَقَالَ بَعضهم: من قَالَهَا بِالْمُهْمَلَةِ فقد صحف. قلت: إِذا كَانَ كِلَاهُمَا يسْتَعْمل فِي معنى وَاحِد لَا يكون تصحيفاً، فَإِن أنكر هَذَا الْقَائِل اسْتِعْمَال الْمُهْملَة بِمَعْنى الْمُعْجَمَة فَعَلَيهِ الْبَيَان. والوفد: هم الَّذين يقدمُونَ أَمَام النَّاس، جمع: وَافد، وَعبد الْقَيْس قَبيلَة. وَقد مر تَفْسِير أَكثر مَا فِي هَذَا الْبَاب فِي: بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ السُّؤَال وَالْجَوَاب، وهما غَالِبا لَا يخلوان عَن التحريض لِأَنَّهُمَا تَعْلِيم وَتعلم، وَمن شَأْنهمَا التحريض.
وَقَالَ مالِكُ بنُ الحُوَيْرِثِ: قَالَ لنا النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ارْجِعُوا إِلَى أهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ) .
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث مَشْهُور أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة وَالْأَدب وَخبر الْوَاحِد كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأخرجه مُسلم أَيْضا. الثَّانِي: أَن مَالك بن الْحُوَيْرِث، مصغر الْحَارِث، بِالْمُثَلثَةِ: ابْن حشيش، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة المكررة، وَقيل: بِضَم الْحَاء، وَقيل: بِالْجِيم: ابْن عَوْف بن جندع اللَّيْثِيّ، يكنى أَبَا سُلَيْمَان، قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سِتَّة من قومه فَأسلم وَأقَام عِنْده أَيَّامًا، ثمَّ أذن لَهُ فِي الرُّجُوع إِلَى أَهله، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة عشر حَدِيثا، اتفقَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِحَدِيث. وَهَذَا أحد الْحَدِيثين الْمُتَّفق عَلَيْهِ، وَالْآخر فِي: الرّفْع وَالتَّكْبِير. نزل الْبَصْرَة وَتُوفِّي بهَا سنة أَربع وَتِسْعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: قَوْله: (إِلَى أهليكم) جمع الْأَهْل، وَهُوَ يجمع مكسراً نَحْو: الأهال والأهالي، ومصححا بِالْوَاو وَالنُّون. نَحْو: الأهلون، وبالألف وَالتَّاء نَحْو: الأهلات. الرَّابِع: فعلموهم، وَفِي بعض النّسخ: فعظوهم.

87 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ بشَّارٍ قَالَ: حدّثنا عُنْدَرٌ قَالَ: حدّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أتَرْجِمُ بَيْنَ ابنِ عَبَّاسٍ وبَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ أَتُوا النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (مَنِ الوَفْدُ؟ أوْ: مَنِ القَوْمُ قالُوا: رَبِيعَةُ. فَقَالَ: (مَرْحَباً بالْقوْمِ) أوْ: بِالوَفْدِ (غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى) . قالُوا: إِنَّا نَأتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ وبَيْننَا وَبيْنَك هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَلَا نَسْتَطِيعُ أنْ نَأْتِيَكَ إلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَمُرْنا بأمْرٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنا نَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ. فأمَرَهُمْ بأرْبَعٍ ونَهاهُمْ عَنْ أرْبَعٍ، أمَرَهُمْ باْلإِيمان بِاللَّه عَزَّ وجَلَّ وحْدَهُ. قَالَ: (هَلْ تَدرُونَ مَا الإِيمانُ بِاللَّه وحْدَهُ؟) قالُوا: الله ورسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: (شَهادَةُ أنْ لَا إِلاهَ إِلاَّ الله وأنّ مُحمَّداً رسولُ الله، وإِقامُ الصَّلاةِ، وإِيتاءُ الزَّكاةِ، وَصَوْمُ رَمَضانَ، وتُعْطُوا الخُمُسَ مِنَ المغْنَم) ونَهَاهُمْ عنِ الدُّبَّاءِ والحَنْتَمِ والمُزَفَّتِ قَالَ شُعْبَةُ: رُبَّما قَالَ: النَّقِيرِ، وَرُبَّما قالَ: المُقَيَّرِ. قَالَ: (احْفَظُوهُ وأخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا جَمِيعًا، وغندر اسْمه مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو جَمْرَة بِالْجِيم اسْمه نصر بن عمرَان، وَهَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي تِسْعَة مَوَاضِع قد ذَكرنَاهَا فِي بَاب: أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان، أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة، وَهَذَا ثَانِي الْمَوَاضِع عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة، فلنتكلم هَهُنَا على الْأَلْفَاظ الَّتِي لَيست هُنَاكَ.
فَقَوله: (كنت أترجم) أَي: اعبر للنَّاس مَا أسمع من ابْن عَبَّاس، وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (قَالُوا: ربيعَة) إِنَّمَا قَالُوا: نَحن ربيعَة، لِأَن عبد الْقَيْس من أَوْلَاده، وَمَا قَالَ التَّيْمِيّ من قَوْله، لِأَن ربيعَة بطن من عبد الْقَيْس، فَهُوَ سَهْو مِنْهُ. قَوْله: (من شقة بعيدَة) ، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ السّفر الْبعيد، وَرُبمَا قَالُوهُ بِكَسْرِهَا. وَفِي (الْعباب) : الشق، بِالضَّمِّ: الْبعد. قَالَ تَعَالَى: {بَعدت عَلَيْهِم الشقة} (التَّوْبَة: 42) وَقَالَ ابْن عَرَفَة: أَي النَّاحِيَة الَّتِي تَدْنُو إِلَيْهَا. قَالَ الْفراء: وَجَمعهَا شقق، وَحكي عَن بعض قيس: شقق. وَقَالَ البرندي: إِن فلَانا

(2/99)


لبعيد الشقة، أَي: بعيد السّفر، قَوْله: (ندخل بِهِ الْجنَّة) ، وَقع هُنَا بِغَيْر الْوَاو، وَهُنَاكَ بِالْوَاو، وَيجوز فِيهِ الرّفْع والجزم، أما الرّفْع فعلى أَنه حَال أَو اسْتِئْنَاف أَو بدل أَو صفة بعد صفة. وَأما الْجَزْم فعلى أَنه جَوَاب الْأَمر. فَإِن قلت: الدُّخُول لَيْسَ هَيْئَة لَهُم فَكيف يكون حَالا؟ قلت: حَال مقدرَة: وَالتَّقْدِير: نخبر مقدرين دُخُول الْجنَّة، وَفِي بعض النّسخ: نخبر، بِالْجَزْمِ أَيْضا، وعَلى هَذِه الرِّوَايَة: تدخل، بدل مِنْهُ، أَو هُوَ جَوَاب لِلْأَمْرِ بعد جَوَاب. قَوْله: (وتعطوا) كَذَا وَقع بِدُونِ النُّون، لِأَنَّهُ مَنْصُوب بِتَقْدِير: أَن، لِأَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ اسْم، وروى أَحْمد عَن غنْدر، فَقَالَ: (وَأَن تعطوا) ، فَكَأَن الْحَذف من شيخ البُخَارِيّ. قَوْله: (قَالَ شُعْبَة) وَرُبمَا قَالَ: أَي أَبُو جَمْرَة النقير، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف: وَهُوَ الْجذع المنقور. قَوْله: (وَرُبمَا قَالَ. المقير) أَي: وَرُبمَا قَالَ أَبُو جَمْرَة. المقير. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَإِذا قَالَ المقير يلْزم التّكْرَار، لِأَنَّهُ هُوَ المزفت. قلت: حَيْثُ قَالُوا: المزفت هُوَ المقير تجوزوا، إِذْ الزفت هُوَ شَيْء يشبه القار. انْتهى. قلت: تَحْرِير هَذَا الْموضع أَنه لَيْسَ المُرَاد أَنه كَانَ يتَرَدَّد فِي هَاتين اللفظتين ليثبت إِحْدَاهمَا دون الْأُخْرَى لِأَنَّهُ على هَذَا التَّقْدِير يلْزم التّكْرَار الْمَذْكُور، بل المُرَاد أَنه كَانَ جَازِمًا بِذكر الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة الأول، شاكاً فِي الرَّابِع، وَهُوَ: النقير، فَكَانَ تَارَة يذكرهُ وَتارَة لَا يذكرهُ، وَكَانَ أَيْضا شاكاً فِي التَّلَفُّظ بالثالث: أَعنِي: المزفت، فَكَانَ تَارَة يَقُول: المزفت، وَتارَة يَقُول: المقير، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه جزم بالنقير فِي الْبَاب السَّابِق، وَلم يتَرَدَّد إلاَّ فِي المزفت والمقير فَقَط. قَوْله: (واخبروا) بِفَتْح الْهمزَة بِدُونِ الضَّمِير فِي آخِره فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَعند غَيره: (وَأَخْبرُوهُ) بالضمير.
وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن من علم علما أَنه يلْزمه تبليغه لمن لَا يُعلمهُ، وَهُوَ الْيَوْم من فروض الْكِفَايَة لظُهُور الْإِسْلَام وانتشاره، وَأما فِي أول الْإِسْلَام فَإِنَّهُ كَانَ فرضا معينا أَن يبلغهُ حَتَّى يكمل الْإِسْلَام ويبلغ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، وَفِيه أَنه يلْزم تَعْلِيم أهل الْفَرَائِض لعُمُوم لفظ: (من وراءكم) ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.

26 - (بَاب الرِّحْلةِ فِي المَسْألَةِ النَّازِلِةِ وتَعْلِيمِ أهْلِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرحلة، وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء: الارتحال، من: رَحل يرحل إِذا مضى فِي سفر، ورحلت الْبَعِير أرحله رحلاً: إِذا شددت عَلَيْهِ الرحل، وَهُوَ للبعير أَصْغَر من القتب، وَهُوَ من مراكب الرِّجَال دون النِّسَاء. وَقَالَ بَعضهم: الرحلة، بِالْكَسْرِ، من الارتحال. قلت: الْمصدر لَا يشتق من الْمصدر وَقَالَ ابْن قرقول: الرحلة، بِكَسْر الرَّاء، ضبطناه عَن شُيُوخنَا، وَمَعْنَاهُ: الارتحال. وَحكى أَبُو عُبَيْدَة ضمهَا قلت: الرحلة بِالضَّمِّ، الْوَجْه الَّذِي تريده. قَالَ: أَبُو عَمْرو: يُقَال أَنْتُم رحلتي أَي: الَّذِي ارتحل إِلَيْهِم. وَقَالَ الْأمَوِي: الرحلة، بِالضَّمِّ: جودة الشَّيْء. وَفِي (الْعباب) : بعير مرحل، بِكَسْر الْمِيم، و: ذُو رحْلَة إِذا كَانَ قَوِيا على السّير، قَالَه الْفراء. قَوْله: (وَتَعْلِيم أَهله) ، بِالْجَرِّ عطف على الرحلة، وَهَذَا اللَّفْظ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة غَيرهَا، وَالصَّوَاب حذفه لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي بَاب آخر.
فَإِن قلت: قد تقدم: بَاب الْخُرُوج فِي طلب الْعلم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا بِهَذَا الْمَعْنى، فَيكون تَكْرَارا. قلت: لَيْسَ بتكرار بل بَينهمَا فرق، لِأَن هَذَا لطلب الْعلم فِي مَسْأَلَة خَاصَّة وَقعت للشَّخْص وَنزلت بِهِ، وَذَاكَ لَيْسَ كَذَلِك. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول التحريض على الْعلم، والمحرض من شدَّة تحرضه قد يرحل إِلَى الْمَوَاضِع لطلب الْعلم، وَلَا سِيمَا لنازلة تنزل بِهِ.

88 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ قَالَ: أخْبرنا عَبْدُ اللَّهِ قالَ: أخْبرنا عُمَرُ بنُ سَعِيدِ بن أبي حُسَيْنٍ قَالَ: حدّثني عَبْدُ اللَّهِ بنُ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ أنَّهُ تَزَوَّجَ ابنَةً لأبي إِهابِ بنِ عَزِيزِ، فَأتَتْهُ امْرَأةٌ فَقالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرضَعْتُ عُقْبَةَ والَّتِي تَزَوَّجَ، فقالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أعْلَمُ أنَّكِ أرْضَعْتِنِي وَلا أخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إِلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمَدِينَة فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَيْفَ وقَدْ قِيلَ) . فَفارَقَها عُقْبَةُ ونَكَحَتْ زَوْجاً غَيَرَهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (فَركب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُطَابق قَوْله: (وَتَعْلِيم أَهله)

(2/100)


فَلهَذَا قُلْنَا: وَالصَّوَاب حذفه، لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي بَاب آخر.
بَيَان رِجَاله: وهم خسمة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي، وَقد تقدم. الثَّانِي: عبد اللَّه بن الْمُبَارك الْمروزِي، وَقد تقدم: الثَّالِث: عمر بن سعيد بن أبي حُسَيْن النَّوْفَلِي الْمَكِّيّ، روى عَن طَاوس وَعَطَاء وعدة، وَعنهُ يحيى الْقطَّان وروح وَخلق، وَهُوَ ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَأَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل، وَهُوَ ابْن عَم عبد اللَّه بن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن. الرَّابِع: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: زُهَيْر بن عبد اللَّه التَّيْمِيّ الْقرشِي الْأَحول الْمَكِّيّ، وَقد تقدم. الْخَامِس: عقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن الْحَارِث بن عَامر بن عدي بن نَوْفَل بن عبد منَاف الْقرشِي الْمَكِّيّ، أَبُو سروعة بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَحكى فتحهَا، أسلم يَوْم الْفَتْح وَسكن مَكَّة، هَذَا قَول أهل الحَدِيث. وَأما جُمْهُور أهل النّسَب فَيَقُولُونَ: عقبَة هَذَا هُوَ أَخُو أبي سروعة، وأنهما أسلما جَمِيعًا يَوْم الْفَتْح. وَقَالَ الزبير بن بكار: وَأَبُو سروعة هُوَ قَاتل حبيب بن عدي، أخرج لعقبة البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا، روى لَهُ البُخَارِيّ ثَلَاثَة أَحَادِيث فِي الْعلم وَالْحُدُود وَالزَّكَاة عَن ابْن أبي مليكَة عَنهُ أَحدهَا هَذَا، وَأخرجه مَعَه هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِي رُوَاته مروزيان وَثَلَاثَة مكيون. وَمِنْهَا: أَن هَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَانْفَرَدَ عَنهُ أَيْضا بعقبة بن الْحَارِث. فَإِن قلت: قَالَ أَبُو عمر: ابْن أبي ملكية لم يسمع من عقبَة، بَينهمَا عبيد بن أبي مَرْيَم، فعلى هَذَا يكون الْإِسْنَاد مُنْقَطِعًا. قلت: هَذَا سَهْو مِنْهُ، وَسَيَجِيءُ فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب شَهَادَة الْمُرضعَة، أَن ابْن أبي ملكية قَالَ: حَدثنَا عبيد بن أبي مَرْيَم عَن عقبَة بن الْحَارِث. قَالَ: وسمعته من عقبَة، لكني لحَدِيث عبيد أحفظ، فَهَذَا صَرِيح فِي سَمَاعه من عقبَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك، وَعَن أبي عَاصِم كِلَاهُمَا عَن عمر بن سعيد بن أبي حُسَيْن، وَفِي الْبيُوع فِي: بَاب تَفْسِير الشَّهَادَات، عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الثَّوْريّ عَن عبد اللَّه بن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن، وَفِي الشَّهَادَات عَن عَليّ عَن يحيى بن أبي سعي عَن ابْن جريج، ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن أبي مليكَة عَن عقبَة بِهِ، وَفِي النِّكَاح عَن عَليّ عَن إِسْمَاعِيل بن عَليّ عَن أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة عَن عبيد بن أبي مَرْيَم عَن عقبَة، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي القضايا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ، وَعَن أَحْمد بن شُعَيْب الْحَرَّانِي عَن الْحَارِث بن عُمَيْر الْبَصْرِيّ عَن أَيُّوب بِهِ، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة عَن عقبَة بن الْحَارِث بِهِ. قَالَ ابْن أبي مليكَة: وحدثنيه صَاحب لي عَنهُ، وَأَنا لحَدِيث صَاحِبي أحفظ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الرَّضَاع عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح، عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَفِي الْقَضَاء عَن مُحَمَّد بن أبان وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد ابْن الْحَارِث عَن ابْن جريج بِهِ، وَفِيه وَفِي الْعلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن يُونُس عَن عمر بن سعيد بِهِ.
بَيَان مَا فِيهِ من اللُّغَة وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (ارضعت) مزِيد: رضع الصَّبِي أمه يرضعها رضَاعًا، مثل: سمع يسمع سَمَاعا، وَأهل نجد يَقُولُونَ: رضع يرضع رضعاً، مِثَال: ضرب يضْرب ضربا، وَكَذَلِكَ الرَّضَاع وَالرضَاعَة. قَالَ الله تَعَالَى: {أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة: 233) وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة وَأَبُو رَجَاء والجارود وَابْن أبي عبلة: (أَن يتم الرضَاعَة) ، بِكَسْر الرَّاء. قَالَ فِي (الْعباب) : قَالُوا: رضع الرجل، بِالضَّمِّ: رضاعة كَأَنَّهُ كالشيء يطبع عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن عباد: رضع الرجل من الرضَاعَة، بِالْفَتْح أَيْضا، مثله رضع فَهُوَ راضع ورضيع ورضاع، وَجمع الراضع: رضع، كراكع وَركع، ورضاع أَيْضا: ككافر وكفار. ثمَّ قَالَ: والتركيب يدل على شرب اللَّبن من الضَّرع أَو الثدي. قَوْله: (تزوج ابْنة) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن. قَوْله: (لأبي إهَاب) صفة ابْنة. قَوْله: (فَاتَتْهُ أمْرَأَة) عطف على تزوج. قَوْله: (عقبَة) بِالنّصب مفعول: أرضعت. قَوْله: (وَالَّتِي تزوج بهَا) عطف على: عقبَة. قَوْله: (مَا أعلم) جملَة منفية من الْفِعْل وَالْفَاعِل. وَقَوله: (إِنَّك أرضعتني) إِن مَعَ اسْمهَا وخبرها سدت مفعولي: أعلم. وَفِي بعض النّسخ: (ارضعتيني واخبرتيني) بِالْيَاءِ فيهمَا، الْحَاصِلَة من إشباع الكسرة. قَوْله: (وَلَا أَخْبَرتنِي) عطف على قَوْله: لَا أعلم. فَافْهَم. وَإِنَّمَا قَالَ: أعلم بِصِيغَة الْمُضَارع، و: أخْبرت، بِصِيغَة الْمَاضِي لِأَن نفي الْعلم حَاصِل فِي الْحَال بِخِلَاف نفي الْإِخْبَار فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَاضِي فَقَط. قَوْله: (بِالْمَدِينَةِ) ، يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، لَا بقوله: فَركب، ومحلها

(2/101)


النصب على الْحَال، وَالتَّقْدِير: فَركب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال كَونه بِالْمَدِينَةِ، أَي فِيهَا. وَكَانَ ركُوبه من مَكَّة لِأَنَّهَا دَار إِقَامَته. قَوْله: (فَسَأَلَهُ) أَي: فَسَأَلَ عقبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الحكم فِي الْمَسْأَلَة النَّازِلَة لذاته. قَوْله: (كَيفَ؟) هُوَ ظرف يسْأَل بِهِ عَن الْحَال. قَوْله: (وَقد قيل؟) أَيْضا حَال، وهما يستدعيان عَاملا يعْمل فيهمَا، وَالتَّقْدِير: كَيفَ تباشرها وتفضي إِلَيْهَا وَقد قيل إِنَّك أَخُوهَا؟ أَي إِن ذَلِك بعيد من ذِي الْمُرُوءَة والورع. قَوْله: (عقبَة) فَاعل: فَارقهَا، قَوْله: (ونكحت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. و: زوجا، مَفْعُوله، و: غَيره، بِالنّصب: صفته.
فِيهِ من المبهمات أَرْبَعَة: الأول: قَوْله: (ابْنة) ، قَالَ الْكرْمَانِي كنيتها أم يحيى، وَلم يعلم اسْمهَا. قلت: يعلم، وَاسْمهَا: غنية، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. الثَّانِي: قَوْله: أَبُو إهَاب، بِكَسْر الْهمزَة. وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن عَزِيز، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره زَاي أَيْضا، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ: عَزِيز بِضَم الْعين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: عَزِيز، بِضَم الْمُهْملَة وبالزاي الْمَفْتُوحَة الرَّاء، وَقَالَ بَعضهم: وَمن قَالَ بِضَم أَوله فقد حرف. قلت: إِن كَانَ مُرَاده بِضَم الأول وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة فَيمكن ذَلِك، وَإِن كَانَ مُرَاده الغمز على الْكرْمَانِي فِي قَوْله: وَفِي بعض الرِّوَايَات، فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى بَيَان وَلَيْسَ نَقله أرجح من نَقله، وَأَبُو إهَاب هَذَا لَا يعرف اسْمه، وَهُوَ ابْن عَزِيز بن قيس بن سُوَيْد بن ربيعَة بن زيد بن عبد اللَّه بن دارم التَّمِيمِي الدَّارمِيّ، قَالَه خَليفَة، وَأمه فَاخِتَة بنت عَامر بن نَوْفَل بن عبد منَاف ابْن قصي، وَهُوَ حَلِيف لبني نَوْفَل روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى أَن يَأْكُل أَحَدنَا وَهُوَ متكىء، أخرجه أَبُو مُوسَى فِي الصَّحَابَة، وَلم يذكرهُ أَبُو عمر، وَلَا ابْن مَنْدَه. الثَّالِث: قَوْله: (فَأَتَتْهُ امْرَأَة) مَا سَمَّاهَا أحد. الرَّابِع: قَوْله: (زوجا غَيره) ، اسْمه: ظريب، بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن الْحَارِث. قَالَ بعض الشَّارِحين: ضريب بن الْحَارِث تزَوجهَا بعد عقبَة فَولدت لَهُ أم قبال، زَوْجَة جُبَير بن مطعم ومحمداً ونافعاً، وَرَأَيْت فِي مَوضِع نقل عَن خطّ الْحَافِظ الدمياطي: نَافِع بن ضريب بن عَمْرو بن نَوْفَل، وَالله أعلم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ أَن الْوَاجِب على الْمَرْء أَن يجْتَنب مَوَاقِف التهم وَإِن كَانَ نقي الذيل بَرِيء الساحة. الثَّانِي: فِيهِ الْحِرْص على الْعلم وإيثار مَا يقربهُمْ إِلَى الله تَعَالَى. قَالَ الشّعبِيّ: لَو أَن رجلا سَافر من أقْصَى الشَّام إِلَى أقْصَى الْيمن لحفظ كلمة تَنْفَعهُ فِيمَا بَقِي من عمره لم أر سَفَره يضيع. الثَّالِث: احْتج بِظَاهِرِهِ من أجَاز شَهَادَة الْمُرضعَة وَحدهَا، وَمن منع حمله على الْوَرع دون التَّحْرِيم، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفتاه بالتحرز عَن الشُّبْهَة، وَأمره بمجانبة الرِّيبَة خوفًا من الْإِقْدَام على فرج قَامَ فِيهِ دَلِيل على أَن الْمَرْأَة ارضعتهما، لكنه لم يكن قَاطعا وَلَا قَوِيا، لاجماع الْعلمَاء على أَن شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة لَا تجوز فِي مثل ذَلِك، لَكِن أَشَارَ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالأحوط. وَقَالَ غَيره: لم يَأْمُرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى وَجه الْقَضَاء، وَإِنَّمَا كَانَ احْتِيَاطًا لما بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع بَاب: تَفْسِير الشُّبُهَات، وَمِنْهُم من حمل حَدِيث عقبَة على الْإِيجَاب، وَقَالَ: تقبل شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة على الرَّضَاع، وَهُوَ قَول أَحْمد. ويروى عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن شهادتها تقبل إِذا كَانَت مُرْضِعَة، وتستحلف مَعَ شهادتها. وَقَالَ مَالك: يقبل قَوْلهَا بِشَرْط أَن يفشو ذَلِك فِي الْأَهْل وَالْجِيرَان، فَإِن شهِدت امْرَأَتَانِ شَهَادَة فَاشِية فَلَا خلاف فِي الحكم بهَا عِنْده، وَإِن شهدتا من غير فشو، أَو شهِدت وَاحِدَة مَعَ الفشو، فَفِيهِ قَولَانِ. وَمن قَالَ بِالْوُجُوب قَالَ: لَو كَانَ أمره لعقبة على الْوَرع أَو التَّنَزُّه لأَمره بِطَلَاقِهَا لتحل لغيره، وَيكون قَوْله: (كَيفَ وَقد قيل؟) على هَذَا ليهون عَلَيْهِ الْأَمر، وَيُؤَيِّدهُ تبسمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمنع أَبُو حنيفَة عَن شَهَادَة النِّسَاء متمحضات فِي الرَّضَاع. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي ففصل أَصْحَابه، وَقَالُوا: إِذا شهِدت الْمُرضعَة وَادعت مَعَ شهادتها أُجْرَة الرَّضَاع فَلَا تسمع شهادتها، لِأَنَّهَا تشهد لنَفسهَا فتتهم، وَإِن أطلقت الشَّهَادَة وَلم تدع أُجْرَة بِأَن قَالَت: أشهد أَنِّي ارضعته، فَفِيهِ خلاف عِنْدهم. مِنْهُم من قَالَ: لَا تقبل لِأَنَّهَا تشهد على فعل نَفسهَا، فَأَشْبَهت الْحَاكِم إِذا شهد على حكمه بعد الْعَزْل. وَمِنْهُم من قبلهَا، وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم، لِأَنَّهَا لَا تجر بهَا نفعا وتدفع بهَا ضِرَارًا. قلت: وَقد ظهر لَك الْخلَل فِي نقل ابْن بطال الاجماع على أَن شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة لَا تجوز فِي الرَّضَاع وَشبهه من الَّذِي ذكرنَا، لِأَن مَذْهَب أَحْمد وَغَيره أَن شَهَادَة الْوَاحِدَة فِي كل مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال من الرَّضَاع وَغَيره تقبل، وَمِمَّا نقل عَن مَالك من شَهَادَة الْوَاحِدَة على الشياع. قلت: رُوِيَ عَن الْحسن وَإِسْحَاق أَيْضا نَحْو مَذْهَب أَحْمد، وَكَذَا قَالَ الاصطخري:

(2/102)


وَإِنَّمَا يثبت بِالنسَاء المتمحضات. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يثبت الرَّضَاع بِمَا يثبت بِهِ المَال، وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ، أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا تقبل شَهَادَة النِّسَاء المنفردات، لِأَن ثُبُوت الْحُرْمَة من لَوَازِم الْملك فِي بَاب النِّكَاح، ثمَّ الْملك لَا يَزُول بِشَهَادَة النِّسَاء المنفردات، فَلَا تثبت الْحُرْمَة. وَعند الشَّافِعِي: تثبت بِشَهَادَة أَربع نسْوَة. وَعند مَالك بامرأتين. وَعند أَحْمد بمرضعة. وَقَالَ التَّيْمِيّ: معنى الحَدِيث: الْأَخْذ بالوثيقة فِي بَاب الْفروج، وَلَيْسَ قَول الْمَرْأَة الْوَاحِدَة شَهَادَة تجوز بهَا الحكم فِي أصل من الْأُصُول، وَفِي: (كَيفَ وَقد قيل؟) الِاحْتِرَاز من الشُّبْهَة، وَمعنى: فَارقهَا: طَلقهَا. فَإِن قلت: النِّكَاح مَا انْعَقَد صَحِيحا على تَقْدِير ثُبُوت الرَّضَاع، والمفارقة كَانَت حَاصِلَة، فَمَا معنى فَارقهَا؟ قلت: إِمَّا أَن يُرَاد بهَا الْمُفَارقَة الصورية، أَو يُرَاد الطَّلَاق فِي مثل هَذِه الْحَالة هُوَ الْوَظِيفَة ليحل للْغَيْر نِكَاحهَا قطعا.

27 - (بَاب التَّناوُبِ فِي العِلْمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التناوب فِي الْعلم، والتناوب: تفَاعل من نَاب لي يَنُوب نوباً ومناباً، أَي: قَامَ مقَامي. وَمَعْنَاهُ: أَن تتناوب جمَاعَة لوقت مَعْرُوف يأْتونَ بالنوبة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول: الرحلة فِي طلب الْعلم. وَهِي لَا تكون إلاَّ من شدَّة الْحِرْص فِي طلب الْعلم، وَفِي التناوب أَيْضا هَذَا الْمَعْنى، لأَنهم لَا يتناوبون إلاَّ لطلب الْعلم والباعث عَلَيْهِ شدَّة حرصهم.

89 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيّ.
(ح) قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ ابنُ وهْبٍ: أخْبرنا يُونُسُ عَن ابنِ شِهابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي ثَوْرٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسِ عنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنا وجارٌ لِي مِنَ الأنْصارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيْدٍ، وهْيَ مِنْ عَوالِي المَدِينَةِ، وكُنَّا نَتَناوَبُ النُّزُولَ عَلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَنْزِلُ يَوْماً وأنْزِلُ يَوْماً، فَإذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْي وغَيِرهِ، وإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذلِكَ، فَنَزَلَ صاحِبِي الأَنْصاريُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَربَ بَابي ضَرْباً شدِيداً فقالَ: أثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقالَ: قَدْ حَدثَ أمْرٌ عَظِيمٌ! قالَ: فَدَخلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإذَا هيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَتْ: لَا أدْرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقُلْتْ وأنَا قائِمٌ: أطلَّقْتَ نِساءَكَ؟ قَالَ: (لَا) ، فَقُلْتُ: الله أكْبَرُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (كُنَّا نتناوب النُّزُول) .
بَيَان رِجَاله: وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ أخرجهم من طَرِيقين: الأولى: عَن أبي الْيَمَان: الحكم ابْن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي جَمْرَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي ثَوْر، بِالْمُثَلثَةِ، الْقرشِي النَّوْفَلِي التَّابِعِيّ الثِّقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَقد اشْترك مَعَه فِي اسْمه وَاسم أَبِيه فِي الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابْن عتبَة بن مَسْعُود الْهُذلِيّ الْمدنِي، لَكِن رِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس كَثِيرَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وَلَيْسَ لِابْنِ أبي ثَوْر عَن ابْن عَبَّاس غير هَذَا الحَدِيث. الطَّرِيق الثَّانِيَة: من التعليقات حَيْثُ قَالَ: قَالَ أَبُو عبد اللَّه، أَرَادَ بِهِ البُخَارِيّ نَفسه. قَالَ ابْن وهب، أَي: عبد اللَّه بن وهب الْمصْرِيّ، أخبرنَا يُونُس، وَهُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب، وَهُوَ الزُّهْرِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن ابْن قُتَيْبَة، عَن حَرْمَلَة عَن عبد اللَّه بن وهب بِسَنَدِهِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَته قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ: كنت أَنا وجار لي من الْأَنْصَار نتناوب النُّزُول، وَهُوَ الْمَقْصُود من هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا وَقع ذَلِك فِي رِوَايَة شُعَيْب وَحده عَن الزُّهْرِيّ، نَص على ذَلِك الذهلي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَآخَرُونَ. فَإِن قلت: لم ذكر هَهُنَا رِوَايَة يُونُس؟ قلت: لينبه أَن الحَدِيث كُله من أَفْرَاد شُعَيْب.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَمِنْهَا:

(2/103)


أَن فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَنه ذكر فِي الْمَوْصُول: الزُّهْرِيّ، وَفِي التَّعْلِيق: ابْن شهَاب، تَنْبِيها على قُوَّة مُحَافظَة مَا سَمعه من الشُّيُوخ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كلمة (ح) مُهْملَة، إِشَارَة إِلَى تَحْويل الْإِسْنَاد.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن أبي الْيَمَان، كَمَا أخرجه هَهُنَا عَن عَنهُ، وَفِي الْمَظَالِم عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن عمر كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق بِطُولِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن الحكم بن نَافِع بِهِ، وَعَن عبيد اللَّه بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُحَمَّد بن ثَوْر عَن معمر بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من الْأَنْصَار) جمع نَاصِر أَو نصير، وهم عبارَة عَن الصَّحَابَة الَّذين آووا ونصروا رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، من أهل الْمَدِينَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ اسْم إسلامي سمى الله تَعَالَى بِهِ الْأَوْس والخزرج. وَلم يَكُونُوا يدعونَ الْأَنْصَار قبل نصرتهم رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا قبل نزُول الْقُرْآن بذلك. قَوْله: (فِي بني أُميَّة بن زيد) أَي: فِي هَذِه الْقَبِيلَة، ومواضعهم يَعْنِي: فِي نَاحيَة بني أُميَّة. سميت الْبقْعَة باسم من نزلها. قَوْله: (من عوالي الْمَدِينَة) هُوَ جمع: عالية، وعوالي الْمَدِينَة عبارَة عَن قرى بِقرب مَدِينَة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من فَوْقهَا من جِهَة الشرق، وَأقرب العوالي إِلَى الْمَدِينَة على ميلين أَو ثَلَاثَة أَمْيَال وَأَرْبَعَة، وأبعدها ثَمَانِيَة. وَفِي (الصِّحَاح) : الْعَالِيَة مَا فَوق نجد إِلَى أَرض تهَامَة، وَإِلَى أَرض مَكَّة وَهِي الْحجاز وَمَا والاها، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: عالي، وَيُقَال أَيْضا: علوي، على غير قِيَاس، وَيُقَال: عالى الرجل، وَأَعْلَى: إِذا أَتَى عالية نجد. قَوْله: (فَفَزِعت) ، بِكَسْر الزَّاي: أَي خفت، لِأَن الضَّرْب الشَّديد كَانَ على خلاف الْعَادة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وجار) ، بِالرَّفْع: لِأَنَّهُ عطف على الضَّمِير الْمُنْفَصِل الْمَرْفُوع. أَعنِي قَوْله: أَنا، وَإِنَّمَا أظهر أَنا لصِحَّة الْعَطف حَتَّى لَا يلْزم عطف الِاسْم على الْفِعْل، هَذَا قَول البصرية. وَعند الكوفية: يجوز من غير إِعَادَة الضَّمِير، وَيجوز فِيهِ النصب على معنى الْمَعِيَّة. قَوْله: (لي) : جَار ومجرور فِي مَحل الرّفْع، أَو النصب على الوصفية لِجَار. قَوْله: (من الْأَنْصَار) كلمة: من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (فِي بني أُميَّة) فِي مَحل نصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ، أَي: مستقرين فِيهَا، أَو نازلين أَو كائنين، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَهُوَ) مُبْتَدأ، وَخَبره قَوْله: (من عوالي الْمَدِينَة) . قَوْله: (نتناوب) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ، و: النُّزُول، بِالنّصب على أَنه مفعول: نتناوب. قَوْله: (ينزل) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: جاري ينزل يَوْمًا، وَهُوَ نصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَأنزل) عطف على: ينزل. قَوْله: (فَإِذا) للظرفية، لكنه تضمن معنى الشَّرْط. وَقَوله: (جِئْته) جَوَابه. قَوْله: (من الْوَحْي) بَيَان للْخَبَر. قَوْله: (وَإِذا نزل) أَي: جاري. قَوْله: (الْأنْصَارِيّ) بِالرَّفْع صفة لقَوْله: (صَاحِبي) ، وَهُوَ مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: نزل. فَإِن قلت: الْجمع إِذا أُرِيد النِّسْبَة إِلَيْهِ يرد إِلَى الْمُفْرد، ثمَّ ينْسب إِلَيْهِ. قلت: الْأنْصَارِيّ هَهُنَا صَار علما لَهُم، فَهُوَ كالمفرد، فَلهَذَا نسب إِلَيْهِ بِدُونِ الرَّد. قَوْله: (فَضرب بَابي) عطف على مُقَدّر أَي: فَسمع اعتزال الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن زَوْجَاته، فَرجع إِلَى العوالي، فجَاء إِلَى بَابي فَضرب. . وَمثل هَذِه الْفَاء تسمى بِالْفَاءِ الفصيحة، وَقد ذَكرنَاهَا غير مرّة. قَوْله: (أَثم؟) هُوَ: بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم، وَهُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد، نَحْو قَوْله: {وازلفنا ثمَّ الآخرين} (الشُّعَرَاء: 64) وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف، فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا: لرأيت، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيما} (الْإِنْسَان: 20) وَلَا يتقدمه حرف التَّنْبِيه وَلَا يتَأَخَّر عَنهُ كَاف الْخطاب. قَوْله: (فَفَزِعت) : الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل، أَي لأجل الضَّرْب الشَّديد فزعت، وَالْفَاء فِي فَخرجت: للْعَطْف، وَيحْتَمل السَّبَبِيَّة، لِأَن فزعه كَانَ سَببا لِخُرُوجِهِ. وَالْفَاء فِي: فَقَالَ، للْعَطْف. قَوْله: (قد حدث أَمر عَظِيم) ، جملَة وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فَدخلت) أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: دخلت. وَيفهم من ظَاهر الْكَلَام أَن: دخلت، من كَلَام الْأنْصَارِيّ وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الدَّاخِل هُوَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَإِنَّمَا وَقع هَذَا من الِاخْتِصَار وإلاَّ فَفِي أصل الحَدِيث بعد قَوْله: (امْر عَظِيم طلق رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام نِسَاءَهُ) . قلت: قد كنت أَظن أَن هَذَا كَائِن حَتَّى إِذا صليت الصُّبْح شددت عَليّ ثِيَابِي، ثمَّ نزلت. فَدخلت على حَفْصَة، أَرَادَ أم الْمُؤمنِينَ بنته، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (قد حدث أَمر عَظِيم فَدخلت) بِالْفَاءِ. فَإِن قلت: مَا هَذِه الْفَاء؟ قلت: الْفَاء الفصيحة، تفصح عَن الْمُقدر. لِأَن التَّقْدِير نزلت من العوالي فَجئْت إِلَى الْمَدِينَة فَدخلت. قَوْله: (فَإِذا) للمفاجأة، وَهِي متبدأ: وتبكي، خَبره. قَوْله: (طَلَّقَكُن؟) وَفِي رِوَايَة: (أطلقكن؟) ، بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. قَوْله:

(2/104)


(قَالَت) أَي: حَفْصَة: (لَا أَدْرِي) أَي: لَا أعلم، ومفعوله مَحْذُوف. قَوْله: (وَأَنا قَائِم) : جملَة اسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (طلقت) أَي: أطلقت، والهمزة محذوفة مِنْهُ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وجار لي من الْأَنْصَار) : هَذَا الْجَار هُوَ عتْبَان بن مَالك بن عَمْرو ابْن العجلان الْأنْصَارِيّ الخزرجي، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (ينزل يَوْمًا) أَي: ينزل صَاحِبي يَوْمًا من العوالي إِلَى الْمَدِينَة وَإِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتعلم الْعلم من الشَّرَائِع وَنَحْوهَا. قَوْله: (يَوْم نوبَته) أَي: يَوْمًا من أَيَّام نوبَته. قَوْله: (فَفَزِعت) إِنَّمَا كَانَ فزع عمر، رَضِي الله عَنهُ، بِسَبَب مَا يَجِيء فِي كتاب التَّفْسِير مَبْسُوطا، قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: (كُنَّا نتخوف ملكا من مُلُوك غَسَّان ذكر لنا أَنه يُرِيد أَن يسير إِلَيْنَا وَقد امْتَلَأت صدورنا مِنْهُ، فتوهمت لَعَلَّه جَاءَ إِلَى الْمَدِينَة، فَخفت لذَلِك) . قَوْله: (أَمر عَظِيم) أَرَادَ بِهِ اعتزال الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، عَن أَزوَاجه الطاهرات، رَضِي الله عَنْهُن. فَإِن قلت: مَا العظمة فِيهِ؟ قلت: كَونه مَظَنَّة الطَّلَاق، وَهُوَ عَظِيم لاسيما بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن بنته إِحْدَى زَوْجَاته. قَوْله: (الله أكبر {) وَقع فِي موقع التَّعَجُّب. فَإِن قلت: مَا ذَاك التَّعَجُّب؟ قلت: كَأَن الْأنْصَارِيّ ظن اعتزاله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن نِسَائِهِ طَلَاقا أَو ناشئاً عَن الطَّلَاق، فَالْخَبَر لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالطَّلَاق بِحَسب ظَنّه، وَلِهَذَا سَأَلَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الطَّلَاق. فَلَمَّا رأى عمر أَن صَاحبه لم يصب فِي ظَنّه تعجب مِنْهُ لفظ: الله أكبر.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الْحِرْص على طلب الْعلم. الثَّانِي: فِيهِ أَن لطَالب الْعلم أَن ينظر فِي معيشته وَمَا يَسْتَعِين بِهِ على طلب الْعلم. الثَّالِث: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد وَالْعَمَل بمراسيل الصَّحَابَة. الرَّابِع: فِيهِ أَن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، كَانَ يخبر بَعضهم بَعْضًا بِمَا يسمع من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيَقُولُونَ: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. ويجعلون ذَلِك كالمسند، إِذْ لَيْسَ فِي الصَّحَابَة من يكذب وَلَا غير ثِقَة. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز ضرب الْبَاب ودقه. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز دُخُول الْآبَاء على الْبَنَات بِغَيْر إِذن أَزوَاجهنَّ، والتفتيش عَن الْأَحْوَال، سِيمَا عَمَّا يتَعَلَّق بالمزاوجة. السَّابِع: فِيهِ السُّؤَال قَائِما. الثَّامِن: فِيهِ التناوب فِي الْعلم والاشتغال بِهِ.

28 - (بَاب الغَضَبِ فِي المَوْعِظَةِ والتَّعْلِيمِ إِذَا رَأى مَا يَكْرَهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْغَضَب، وَهُوَ انفعال يحصل من غليان الدَّم لشَيْء دخل فِي الْقلب. قَوْله: (فِي الموعظة) أَي: الْوَعْظ، وَهُوَ مصدر ميمي. (والتعليم) أَي: وَفِي التَّعْلِيم، أَرَادَ فِي حَالَة الْوَعْظ وَحَالَة التَّعْلِيم. قَوْله: (إِذا رأى) الْوَاعِظ أَو الْمعلم: (مَا يكره) أَي: مَا يكرههُ، لِأَن: مَا، مَوْصُولَة، فَلَا بُد لَهَا من عَائِد، والعائد قد يحذف. وَيُقَال: أَرَادَ البُخَارِيّ الْفرق بَين قَضَاء القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان، وَبَين تَعْلِيم الْعلم وتذكير الْوَاعِظ، فَإِنَّهُ بِالْغَضَبِ أَجْدَر، وخصوصاً بِالْمَوْعِظَةِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول التناوب فِي الْعلم،، وَهُوَ من جملَة صِفَات المتعلمين، وَمن جملَة الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا بعض صفاتهم، هُوَ أَن الْمعلم إِذا رأى مِنْهُم مَا يكرههُ يغْضب عَلَيْهِم، وينكر عَلَيْهِم، فتناسق البابان من هَذِه الْحَيْثِيَّة.

90 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قالَ: أخْبرنا سُفْيانُ عنِ ابنِ أبي خالِدٍ عنْ قَيْسِ بنِ أبي حازمٍ عنْ أبي مَسْعُودٍ الأنْصارِيّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ الله} لَا أكادُ أُدْرِكُ الصَّلاةِ مَمَّا يُطَوّلُ بِنَا فُلانُ، فَمَا رَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوْعِظَةٍ أشَدَّ غَضَباً مِنْ يوْمِئذٍ، فَقَالَ: (أيُّها النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفّرُونَ، فَمنْ صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيُخَفّفْ فإنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ والضَّعيفَ وذَا الحاجَةِ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي موعظة أَشد غَضبا من يومئذٍ) .
بَيَان رِجَاله: الأول: مُحَمَّد بن كثير، بِفَتْح الْكَاف وبالمثلثة: الْعَبْدي، بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، الْبَصْرِيّ أَخُو سُلَيْمَان بن كثير، وَسليمَان أكبر مِنْهُ بِخمْس سِنِين، روى عَن أَخِيه سُلَيْمَان وَشعْبَة وَالثَّوْري، وروى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا، وروى مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن

(2/105)


رجل عَنهُ. قَالَ أَبُو حاتمٍ: صَدُوق. وَقَالَ يحيى بن معِين: لَا تكْتبُوا عَنهُ لم يكن بالثقة. مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، عَن تسعين سنة، أخرج لَهُ مُسلم حَدِيثا فِي الرُّؤْيَا أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يَقُول لأَصْحَابه: (من رأى مِنْكُم رُؤْيا) عَن الدَّارمِيّ عَنهُ عَن أَخِيه سُلَيْمَان، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) مُحَمَّد بن كثير غير هَذَا. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: مُحَمَّد بن كثير الصغاني روى عَن الدَّارمِيّ وَهُوَ ثِقَة اخْتَلَط بِآخِرهِ. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد البَجلِيّ الْكُوفِي الأحمسي التَّابِعِيّ، الطَّحَّان الْمُسَمّى بالميزان. الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم، بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي، أَبُو عبد اللَّه الأحمسي الْكُوفِي البَجلِيّ المخضرم، روى عَن الْعشْرَة، وَقد تقدم. الْخَامِس: أَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ الخزرجي البدري، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْمُفْرد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي، بل ثَلَاثَة مِنْهُم كوفيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رَاوِيا وَهُوَ ابْن كثير الْعَبْدي لَيْسَ فِي البُخَارِيّ غَيره.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الثَّوْريّ، وَفِيه عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر،، وَفِي الْأَدَب عَن مُسَدّد عَن يحيى، وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد اللَّه عَن ابْن أبي خَالِد وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن هَيْثَم، وَعَن أبي بكر عَن هَيْثَم ووكيع، وَعَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير عَن أَبِيه، وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن قيس بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن يحيى الْقطَّان بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (لَا أكاد أدْرك الصَّلَاة) : قد علم أَن: كَاد، مَعْنَاهُ: قرب، وَلِهَذَا عدوه من أَفعَال المقاربة، وَهُوَ لمقاربة الشَّيْء فعل أَو لم يفعل، فمجرده ينبىء عَن نفي الْفِعْل، ومقرونه ينبىء عَن وُقُوع الْفِعْل. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: إِذا دخل النَّفْي على: كَاد، فَهُوَ كالأفعال على الْأَصَح. وَقيل: يكون فِي الْمَاضِي للإثبات، وَفِي الْمُسْتَقْبل كالأفعال، وَهُوَ يرفع الِاسْم وَخَبره فعل مضارع بِغَيْر أَن، متأول باسم الْفَاعِل، نَحْو: كَاد زيد يخرج، أَي خَارِجا، إلاَّ أَنهم تركُوا اسْتِعْمَاله، لِأَن: كَاد، مَوْضُوع للتقريب من الْحَال. فالتزم بعده مَا يدل بصيغته على الْحَال، أَعنِي الْمُضَارع، ليَكُون أدل على مُقْتَضَاهُ. وَهَهُنَا اسْمه الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ، وَخَبره قَوْله: (أدْرك الصَّلَاة) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: ظَاهر هَذَا مُشكل، لِأَن التَّطْوِيل يَقْتَضِي الْإِدْرَاك لَا عَدمه. قَالَ: فَكَأَن الْألف زيدت بعد: لَا، وَكَأن: أدْرك، كَانَت أترك. وَأجِيب: عَنهُ بِمَا قَالَ أَبُو الزِّنَاد: مَعْنَاهُ أَنه كَانَ بِهِ ضعف، فَكَانَ إِذا طول بِهِ الإِمَام فِي الْقيام لَا يبلغ الرُّكُوع إلاَّ وَقد ازْدَادَ ضعفه، فَلَا يكَاد يتم مَعَه الصَّلَاة، ورد بِأَن البُخَارِيّ روى عَن الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظ: لاتأخر عَن الصَّلَاة: وَجَاء فِي غير البُخَارِيّ: إِنِّي لَا أدع الصَّلَاة، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، فَيكون الْمَعْنى: إِنِّي لَا أكاد أدْرك الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة، وأتأخر عَنْهَا أَحْيَانًا من أجل التَّطْوِيل. قلت: هَذَا لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال، وَالْمعْنَى صَحِيح. وَقد قُلْنَا: إِن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ تنبئان أَن معنى هَذَا أَنِّي أتأخر عَن الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة وَلَا أكاد أدْركهَا لأجل تَطْوِيل فلَان. قَوْله: لِأَن التَّطْوِيل يَقْتَضِي الْإِدْرَاك: إِنَّمَا يسلم إِذا طلب الْإِدْرَاك، وَأما إِذا تَأَخّر خوفًا من التَّطْوِيل، لَا يكَاد يدْرك مَعَ التَّطْوِيل فَافْهَم. قَوْله: (مِمَّا يطول) كلمة: من، للتَّعْلِيل، و: مَا، مَصْدَرِيَّة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: (مِمَّا يطول لنا) بِاللَّامِ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (مِمَّا يُطِيل) ، فَالْأولى من التَّطْوِيل، وَهَذِه من الإطالة. قَوْله: (فلَان) فَاعله، كِنَايَة عَن اسْم سمي بِهِ الْمُحدث عَنهُ، وَيُقَال فِي غير الْآدَمِيّ: الفلان، مُعَرفا بِاللَّامِ، قَوْله: (أَشد غَضبا من يومئذٍ) وَفِي بعض النّسخ: (أَشد غَضبا مِنْهُ من يومئذٍ) ، وَلَفظه: مِنْهُ، صلَة: أَشد. فَإِن قلت: الضَّمِير رَاجع إِلَى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَيلْزم أَن يكون الْمفضل والمفضل عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا. قلت: جَازَ ذَلِك باعتبارين: فَهُوَ مفضل بِاعْتِبَار يومئذٍ ومفضل عَلَيْهِ بِاعْتِبَار سَائِر الْأَيَّام. و: غَضبا، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَيهَا النَّاس) : أَي يَا أَيهَا النَّاس، فَحذف حرف النداء وَالْمَقْصُود بالنداء هُوَ النَّاس، وَإِنَّمَا جاؤوا بِأَيّ ليمكن وَصله إِلَى نِدَاء مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام لأَنهم كَرهُوا الْجمع بَين التَّخْصِيص بالنداء وَلَام التَّعْرِيف، فَكَانَ المنادى هُوَ الصّفة، وَالْهَاء مقحمة للتّنْبِيه. قَوْله: (منفرون) خبر: أَن، أَي: منفرون عَن الْجَمَاعَات وَفِي بعض الرِّوَايَات: (إِن مِنْكُم منفرين) . فَإِن قلت: كَانَ الْمُقْتَضى أَن يُخَاطب الْمَعْلُول. قلت: إِنَّمَا خَاطب الْكل وَلم يعين المطول كرماً ولطفاً عَلَيْهِ. وَكَانَت هَذِه عَادَته حَيْثُ مَا كَانَ يخصص العتاب والتأديب بِمن يسْتَحقّهُ حَتَّى لَا يحصل لَهُ الخجل، وَنَحْوه على رُؤُوس الأشهاد. قَوْله: (فَمن صلى بِالنَّاسِ) ، كلمة: من شَرْطِيَّة. قَوْله: (فيخفف) جوابها،

(2/106)


فَلذَلِك دَخلهَا الْفَاء. قَوْله: (فَإِن فيهم) الْفَاء فِيهِ تصلح للتَّعْلِيل. (وَالْمَرِيض) ، نصب لِأَنَّهُ اسْم: إِن، وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وخبرها هُوَ قَوْله: فيهم، مقدما. قَوْله: (بِالنَّاسِ) أَي: ملتبساً بهم إِمَامًا لَهُم. قَوْله: (وَذَا الْحَاجة) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: (وَذُو الْحَاجة) . وَجهه أَن يكون مَعْطُوفًا على مَحل اسْم: إِن، وَهُوَ رفع مَعَ الْخلاف فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم: أَو هُوَ اسْتِئْنَاف. قلت: لَا يَصح أَن يكون استئنافاً لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة جَوَاب سُؤال، وَلَيْسَ هَذَا مَحَله. وَيجوز أَن يكون الْمُبْتَدَأ مَحْذُوف الْخَبَر، وَتَكون الْجُمْلَة معطوفة على الْجُمْلَة الأولى، وَالتَّقْدِير: وَذُو الْحَاجة كَذَلِك، وَالْفرق بَين الضعْف وَالْمَرَض أَن الضعْف أَعم من الْمَرَض، فالمرض ضد الصِّحَّة. يُقَال: مرض يمرض مَرضا ومرضاً فَهُوَ مَرِيض ومارض. وَيُقَال: الْمَرَض، بالإسكان، مرض الْقلب خَاصَّة. قَالَ الصغاني: وأصل الْمَرَض الضعْف، وَكلما ضعف مرض. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أصل الْمَرَض النُّقْصَان. يُقَال: بدن مَرِيض أَي: نَاقص الْقُوَّة، وقلب مَرِيض أَي: نَاقص الدّين. وَقيل: الْمَرَض اختلال الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها، والضعف خلاف الْقُوَّة، وَقد ضعف وَضعف، وَالْفَتْح عَن يُونُس: فَهُوَ ضَعِيف، وَقوم ضِعَاف وضعفة. وَفرق بَعضهم بَين الضعْف والضعف. فَقَالَ: الضعْف بِالْفَتْح فِي الْعقل والرأي، والضعف بِالضَّمِّ فِي الْجَسَد. وَرجل ضعوف أَي ضَعِيف. فَإِن قيل: لم ذكر هَذَا الثَّلَاثَة؟ قلت: لِأَنَّهُ متناول لجَمِيع الْأَنْوَاع الْمُقْتَضِيَة. للتَّخْفِيف، فَإِن الْمُقْتَضى لَهُ إِمَّا فِي نَفسه أَو لَا، وَالْأول إِمَّا بِحَسب ذَاته، وَهُوَ الضعْف أَو بِحَسب الْعَارِض وَهُوَ الْمَرَض.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ جَوَاز التَّأَخُّر عَن صَلَاة الْجَمَاعَة إِذا علم من عَادَة الإِمَام التَّطْوِيل الْكثير. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز ذكر الْإِنْسَان بفلان وَنَحْوه فِي معرض الشكوى. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْغَضَب لما يُنكر من أُمُور الدّين. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الْإِنْكَار على من ارْتكب مَا ينْهَى عَنهُ، وَإِن كَانَ مَكْرُوها غير محرم. الْخَامِس: فِيهِ التَّعْزِير على إطالة الصَّلَاة إِذا لم يرض الْمَأْمُوم بِهِ وَجَوَاز التَّعْزِير بالْكلَام. السَّادِس: فِيهِ الْأَمر بتَخْفِيف الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن بطال: وَإِنَّمَا غضب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ كره التَّطْوِيل فِي الصَّلَاة من أجل أَن فيهم الْمَرِيض وَنَحْوه، فَأَرَادَ الرِّفْق والتيسير بأمته وَلم يكن نَهْيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من التَّطْوِيل لِحُرْمَتِهِ، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجده وَيقْرَأ بالسور الطوَال مثل سُورَة يُوسُف، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَه أجلة أَصْحَابه، ومَن أَكثر همه طلب الْعلم وَالصَّلَاة. أَقُول: وَلِهَذَا خفف فِي بعض الْأَوْقَات، كَمَا: فِيمَا سمع صَوت بكاء الصَّبِي وَنَحْوه.

91 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحمَّدٍ قَالَ: حدّثنا أبُو عامِرٍ قَالَ: حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ بِلاَلٍ المدِيِنيُّ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبي عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ عَن زَيْدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنِيِّ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سألَهُ رَجُلٌ عنِ اللُّقَطَةِ فقالَ: (اعْرِفْ وكَاءَها) أوْ قَالَ: وِعاءَها. وعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْها سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِها، فَإنْ جاءَ رَبُّها فَأدِّها إليهِ قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وجْنَتاهُ أوْ قَالَ: أحْمَرَّ وجْهُهُ فَقَالَ: (وَمَا لَكَ ولَهَا؟ مَعَها سِقاؤُها وحذَاؤُها، تَرِدُ الماءَ وتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْها حَتَّى يَلْقاها رَبُّها) قَالَ: فَضَالَّةُ الغنَمِ؟ قَالَ: (لكَ أوْ لأخِيكَ أوْ للْدِّئْبِ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَغَضب حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه) .
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد اللَّه بن مُحَمَّد أَبُو جَعْفَر المسندي، بِفَتْح النُّون، وَقد تقدم. الثَّانِي: أَبُو عَامر عبد الْملك، وَقد تقدم. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال الْمَدِينِيّ، وَقد تقدم. وَفِي بعض النّسخ: الْمدنِي. قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى مَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: مدنِي، وَإِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور: مديني، وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى: مدائني. قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يَصح الْمَدِينِيّ، لِأَنَّهُ من مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْمَقْدِسِي فِي كتاب (الْأَنْسَاب) : قَالَ البُخَارِيّ: الْمَدِينِيّ هُوَ الَّذِي أَقَامَ بِمَدِينَة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يفارقها. وَالْمَدَنِي هُوَ الَّذِي تحول عَنْهَا وَكَانَ مِنْهَا. الرَّابِع: ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف: بربيعة الرَّأْي، وَقد يُقَال: الرئي، بِالتَّشْدِيدِ مَنْسُوبا إِلَى الرَّأْي، وَهُوَ شيخ مَالك وَقد تقدم. الْخَامِس: يزِيد من الزِّيَادَة مولى المنبعث، اسْم فَاعل من الانبعاث، بالنُّون وَالْمُوَحَّدَة والمهملة والمثلثة، الْمدنِي. روى عَن أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد، وَعَن ربيعَة وَيحيى بن سعيد، ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.

(2/107)


السَّادِس: زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء وَالنُّون، مَنْسُوب إِلَى جُهَيْنَة بن زيد بن لوث بن سود بن أسلم، بِضَم اللَّام، بن الحاف بن قضاعة، يكنى أَبَا طَلْحَة، وَقيل: أَبَا عبد الرَّحْمَن. وَقيل: أَبَا زرْعَة. وَكَانَ مَعَه لِوَاء جُهَيْنَة يَوْم الْفَتْح، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أحد وَثَمَانُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا خَمْسَة، نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَسبعين وَهُوَ ابْن خمس وَثَمَانِينَ. قيل: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَقيل: بِمصْر، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة زيد بن خَالِد، سواهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن المسندي عَن الْعَقدي عَن الْمَدِينِيّ، وَفِي اللّقطَة عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، وَفِي الشّرْب عَن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه، كِلَاهُمَا عَن مَالك. وَفِي اللّقطَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَفِي اللّقطَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَعَن عَمْرو بن الْعَبَّاس عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمهْدي، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، أربعتهم عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، وَفِي اللّقطَة عَن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد، كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، وَفِي الطَّلَاق عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَنهُ بِهِ مُرْسلا: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سُئِلَ عَن ضَالَّة الْغنم، قَالَ يحيى: وَيَقُول ربيعَة عَن يزِيد، مولى المنبعث، عَن زيد بن خَالِد قَالَ سُفْيَان: فَلَقِيت ربيعَة وَلم أحفظ عَنهُ شَيْئا غير هَذَا. قلت: أَرَأَيْت حَدِيث يزِيد مولى المنبعث فِي أَمر الضَّالة هُوَ عَن يزِيد بن خَالِد؟ قَالَ: نعم. وَأخرجه مُسلم فِي الْقَضَاء عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك،، وَعَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَعَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم الْأَزْدِيّ عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن الثَّوْريّ وَمَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث وَغَيرهم، كلهم عَن ربيعَة بِهِ، وَعَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان ابْن بِلَال عَن يحيى بن سعيد بِهِ مُتَّصِلا، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن حبَان بن هِلَال عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن يحيى بن سعيد وَرَبِيعَة بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللّقطَة عَن قُتَيْبَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن مَالك بِهِ، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِهِ، وَعَن أَحْمد بن حَفْص عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عباد بن إِسْحَاق عَن عبد اللَّه بن يزِيد، مولى المنبعث، عَن أَبِيه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الضوال واللقطة عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَعلي بن حجر بِهِ مقطعاً، وَعَن أَحْمد بن حَفْص بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل بن الْعَلَاء الْأَيْلِي عَن سُفْيَان عَن يحيى عَن ربيعَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (عَن اللّقطَة) ، بِضَم اللَّام وَفتح الْقَاف: الشَّيْء الملقوط. وَقَالَ القَاضِي: لَا يجوز فِيهِ غير ضم اللَّام وَفتح الْقَاف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الْمَشْهُور. قَالَ الْأَزْهَرِي: قَالَ الْخَلِيل بالإسكان، قَالَ: وَالَّذِي سمع من الْعَرَب، وَأجْمع عَلَيْهِ أهل اللُّغَة ورواة الْأَخْبَار فتحهَا، وَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِي وَالْفراء وَابْن الْأَعرَابِي، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيُقَال لَهَا: لقطَة، بِالضَّمِّ، ولقط بِفَتْح اللَّام وَالْقَاف بِغَيْر هَاء، وَهُوَ من الِالْتِقَاط، وَهُوَ وجود الشَّيْء من غير طلب. فَإِن قلت: مَا هَذِه الصِّيغَة؟ قلت: قَالَ بعض الشَّارِحين: هُوَ اسْم الْفَاعِل للْمُبَالَغَة، وبسكون الْقَاف اسْم الْمَفْعُول: كالضحكة، وَهُوَ اسْم لِلْمَالِ الْمُلْتَقط، وَسمي باسم المَال مُبَالغَة لزِيَادَة معنى اخْتصَّ بِهِ، وَهُوَ أَن كل من رَآهَا يمِيل إِلَى رَفعهَا، فَكَأَنَّهُ يَأْمُرهُ بِالرَّفْع لِأَنَّهَا حاملة إِلَيْهِ، فأسند إِلَيْهَا مجَازًا فَجعلت كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رفعت نَفسهَا، وَنَظِيره قَوْلهم: نَاقَة حَلُوب، ودابة ركُوب. وَهُوَ اسْم فَاعل، سميت بذلك لِأَن من رآهما يرغب فِي الرّكُوب والحلب، فَنزلت كَأَنَّهَا أحلبت نَفسهَا، أَو أركبت نَفسهَا، وَفِيه تعسف، وَلَيْسَ كَذَلِك بل اللّقطَة سَوَاء كَانَ بِفَتْح الْقَاف أَو سكونها اسْم مَوْضُوع على هَذِه الصِّيغَة لِلْمَالِ الْمُلْتَقط، وَلَيْسَ هَذَا مثل ضحكة وَلَا مثل نَاقَة حَلُوب ودابة ركُوب، لِأَن هَذِه صِفَات تدل على الْحُدُوث والتجدد. غير أَن الأول فِي الْمُبَالغَة فِي وصف الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول، وَالثَّانِي وَالثَّالِث بِمَعْنى الْمَفْعُول للْمُبَالَغَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْخَلِيل، بِالْفَتْح: هُوَ اللاقط، وبالسكون الملقوط. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: هَذَا هُوَ الْقيَاس فِي كَلَام الْعَرَب، لِأَن فعلة: كالضحكة، جَاءَ فَاعِلا، وفعلة كالضحكة مَفْعُولا، إلاَّ أَن اللّقطَة على خلاف الْقيَاس إِذْ أَجمعُوا على الْهَاء بِالْفَتْح هُوَ الملقوط، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهَا أَربع لُغَات: اللّقطَة بِالْفَتْح وبالسكون واللقاطة بِضَم اللَّام واللقطة بِفَتْح اللَّام وَالْقَاف. قَوْله: (إعرف) بِكَسْر الْهمزَة من الْمعرفَة لَا من الإعراف، قَوْله: (وكاءها) بِكَسْر الْوَاو وبالمد: هُوَ الَّذِي تشد بِهِ رَأس الصرة والكيس وَنَحْوهمَا. وَيُقَال: هُوَ الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ الْوِعَاء: يُقَال:

(2/108)


أوكيته إيكاءً فَهُوَ موكىً، مَقْصُور، وَالْفِعْل مِنْهُ معتل اللَّام بِالْيَاءِ، يُقَال: أوكى على مَاء فِي سقائه أَي: شده بالوكاء، وَمِنْه أوكوا قربكم، وأوكى يوكي مثل: أعْطى يُعْطي إِعْطَاء. وَأما المهموز فَمَعْنَى آخر، يُقَال: أوكأت الرجل: أَعْطيته مَا يتَوَكَّأ عَلَيْهِ، واتكأ على الشَّيْء بِالْهَمْزَةِ فَهُوَ متكىء. قَوْله: (وعاءها) بِكَسْر الْوَاو، وَهُوَ الظّرْف. وَيجوز ضمهَا وَهُوَ قِرَاءَة الْحسن: {وعَاء أَخِيه} (يُوسُف: 76) وَهُوَ لُغَة، وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: (اعاء أَخِيه) . بقلب الْوَاو همزَة، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْوِعَاء وَاحِد الأوعية، يُقَال: أوعيت الزَّاد وَالْمَتَاع إِذا جعلته فِي الْوِعَاء. قَالَ عبيد بن الأبرص.
(الْخَيْر يبْقى وَإِن طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد)

قَوْله: (وعفاصها) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالفاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وبالقاف، وَالظَّاهِر أَنه غلط من النَّاسِخ أَو سَهْو مِنْهُ، أَو يكون ذهنه بَادر إِلَى مَا قيل: العقاص، بِالْقَافِ: الْخَيط يشد بِهِ أَطْرَاف الذوائب. قَالَ فِي (الْعباب) : العفاص الْوِعَاء الَّذِي يكون فِيهِ النَّفَقَة إِن كَانَ جلدا أَو خرقَة أَو غير ذَلِك، عَن أبي عبيد. وَكَذَلِكَ يُسمى الْجلد الَّذِي يكبس رَأس القارورة: العفاص، لِأَنَّهُ كالوعاء لَهَا، وَمِنْه الحَدِيث، ثمَّ ذكر هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ اللَّيْث: عفاص القارورة صمامها، وَيُقَال أَيْضا: عفاص القارورة غلافها، وَهُوَ فعال من العفص، وَهُوَ الثني والعطف لِأَن الْوِعَاء ينثني على مَا فِيهِ وينعطف، وَقد عفصت القارورة أعفصها بِالْكَسْرِ عفصاً إِذا شددت عَلَيْهَا العفاص. وَقَالَ الْفراء: عفصت القارورة إِذا جعلت لَهَا عفاصاً، والصمام بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة هُوَ الْجلد الَّذِي يدْخل فِي فَم القارورة، وَكَذَا أَيْضا يُقَال لكل مَا سددت بِهِ شَيْئا: السداد، بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْبلْغَة أَيْضا، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(أضاعوني وَأي فَتى أضاعوا ... ليَوْم كريهة وسداد ثغر)

وَأما السداد، بِالْفَتْح: فالقصد فِي الدّين والسبيل. قَوْله: (رَبهَا) أَي: مَالِكهَا، وَلَا يُطلق الرب على غير الله إلاَّ مُضَافا مُقَيّدا. قَوْله: (فضَالة الْإِبِل) قَالَ الْأَزْهَرِي: لَا يَقع اسْم الضَّالة إلاَّ على الْحَيَوَان. يُقَال: ضل الْإِنْسَان وَالْبَعِير وَغَيرهمَا من الْحَيَوَان وَهِي الضوال. وَأما الْأَمْتِعَة وَمَا سوى الْحَيَوَان فَيُقَال لَهُ: لقطَة، وَلَا يُقَال: ضال. وَيُقَال للضوالي أَيْضا: الهوامي والهوافي، واحدتها هامية وهافية، وهمت وهفت وهملت: إِذا ذهبت على وَجههَا بِلَا رَاع. قَوْله: (وجنتاه) ، الوجنة: مَا ارْتَفع من الخد. وَيُقَال مَا علا من لحم الْخَدين، يُقَال فِيهِ: وجنة، بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا وَضمّهَا، وأجنة بِضَم الْهمزَة، ذكره الْجَوْهَرِي وَغَيره. قَوْله: (سقاؤها) ، بِكَسْر السِّين: هُوَ اللَّبن وَالْمَاء، وَالْجمع الْقَلِيل: أسقية، وَالْكثير: أساقي، كَمَا أَن الرطب للبن خَاصَّة، والنحي للسمن والقربة للْمَاء. قَوْله: (وحذاؤها) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالمد: مَا وطىء عَلَيْهِ الْبَعِير من خفه، وَالْفرس من حَافره، والحذاء: النَّعْل أَيْضا. قَوْله: (ترد) من الْوُرُود. قَوْله: (فذرها) أَي: دعها، من: يذر، وأميت ماضيه، قَوْله: (الْغنم) وَهُوَ اسْم مؤنث مَوْضُوع للْجِنْس يَقع على الذُّكُور وعَلى الْإِنَاث، وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَإِذا صغرتها ألحقتها الْهَاء، فَقلت: غنيمَة، لِأَن أَسمَاء الجموع الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا إِذا كَانَت لغير الآدمين فالتأنيث لَهَا لَازم، يُقَال: خمس من الْغنم ذُكُور، فتؤنث الْعدَد وَإِن عنيت الكباش إِذا كَانَ يَلِيهِ من الْغنم، لِأَن الْعدَد يجْرِي تذكيره وتأنيثه على اللَّفْظ لَا على الْمَعْنى، وَالْإِبِل كالغنم فِي جَمِيع ذَلِك. قَوْله: (للذئب) ، بِالْهَمْزَةِ وَقد تخفف بقلبها يَاء، وَالْأُنْثَى ذئبة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (رجل) فَاعل: سَأَلَهُ. قَوْله: (وكاءها) بِالنّصب مفعول: اعرف. وَقَوله: (ثمَّ عرفهَا) عطف على: (أعرفهَا) . قَوْله: (سنة) ، نصب بِنَزْع الْخَافِض، أَي مُدَّة سنة. قَوْله: (ثمَّ استمتع) عطف على: (ثمَّ عرفهَا) . قَوْله: (فأدها) ، جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء. قَوْله: (فضَالة الْإِبِل) كَلَام إضافي: مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف أَي: مَا حكمهَا؟ أَكَذَلِك أم لَا؟ وَهُوَ من بَاب إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف. قَوْله: (فَغَضب) : الْفَاء، فِيهِ للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} (الْقَصَص: 15) ، قَوْله: (حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى أَن. وَقَوله: (وجنتاه) فَاعل: احْمَرَّتْ، وعلامة الرّفْع الْألف. قَوْله: (مَالك وَلها) وَفِي بعض النّسخ: وَمَالك بِالْوَاو، وَفِي بَعْضهَا: فمالك بِالْفَاءِ. وَكلمَة: مَا، استفهامية، وَمَعْنَاهُ: مَا نصْنَع بهَا؟ أَي: لم تأخذها وَلم تتناولها، وَإِنَّهَا مُسْتَقلَّة باسباب تعيشها. قَوْله: (سقاؤها) مُبْتَدأ و: مَعهَا، مقدما خَبره. و: حذاؤها، عطف على: سقاؤها. قَوْله: (ترد المَاء) جملَة يجوز أَن تكون بَيَانا لما قبلهَا فَلَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، وَيجوز أَن يكون محلهَا الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ ترد المَاء وترعى الشّجر. قَوْله: (فذرها) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْفَاء فِيهَا جَوَاب شَرط مَحْذُوف، التَّقْدِير: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فذرها، فكلمة

(2/109)


حَتَّى للغاية. قَوْله: (فضَالة الْغنم) كَلَام إضافي مُبْتَدأ خَبره: أَي: مَا حكمهَا؟ أَهِي مثل ضَالَّة الْإِبِل أم لَا؟ قَوْله: (لَك أَو لأخيك أَو للذئب) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: لَيست ضَالَّة الْغنم مثل ضَالَّة الْإِبِل هِيَ لَك إِن أَخَذتهَا، أَو هِيَ لأخيك إِن لم تأخذها، يَعْنِي يَأْخُذهَا غَيْرك من اللاقطين، أَو يكون الْمَار من الْأَخ صَاحبهَا. وَالْمعْنَى: أَو هِيَ لأخيك الَّذِي هُوَ صَاحبهَا إِن ظهر؟ أَو هِيَ للذئب إِن لم تأخذها وَلم يتَّفق أَن يَأْخُذهَا غَيْرك أَيْضا؟ لِأَنَّهُ يخَاف عَلَيْهَا من الذِّئْب وَنَحْوه فيأكلها غَالِبا، فَإِذا كَانَ الْمَعْنى على هَذَا يكون مَحل: لَك، من الْإِعْرَاب الرّفْع لِأَنَّهُ: خبر مُبْتَدأ، وَكَذَلِكَ: لأخيك وللذئب.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (سَأَلَهُ رجل) هُوَ عُمَيْر وَالِد مَالك. قَوْله: (أَو قَالَ) شكّ من الرَّاوِي. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ زيد بن خَالِد. قلت: وَيجوز أَن يكون مِمَّن دونه من الروَاة، وَفِي بعض طرقه عِنْد البُخَارِيّ: (أعرف عفاصها ووكائها) ، من غير شكّ. (ثمَّ عرفهَا سنة فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فشأنك بهَا) إِنَّمَا أَمر بِمَعْرِِفَة العفاص والوكاء ليعرف صدق واصفها من كذبه، وَلِئَلَّا يخْتَلط بِمَالِه، وَيسْتَحب التَّقْيِيد بِالْكِتَابَةِ خوف النسْيَان. وَعَن ابْن دَاوُد، من الشَّافِعِيَّة، أَن مَعْرفَتهَا قبل حُضُور الْمَالِك مُسْتَحبّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِي: يجب مَعْرفَتهَا عِنْد الِالْتِقَاط، وَيعرف أَيْضا الْجِنْس وَالْقدر وَطول الثَّوْب وَغير ذَلِك ودقته وصفاقته. قَوْله: (ثمَّ عرفهَا) أَي للنَّاس، بِذكر بعض صفاتها فِي المحافل: (سنة) ، أَي: مُتَّصِلَة، كل يَوْم مرَّتَيْنِ ثمَّ مرّة ثمَّ فِي كل أُسْبُوع ثمَّ فِي كل شهر فِي بلد اللقط. فَإِن قلت: جَاءَ فِي حَدِيث أبي: ثَلَاث سِنِين، وَفِي بعض طرقه الشَّك فِي سنة أَو ثَلَاث؟ قلت: جمع بَينهَا بطرح الشَّك وَالزِّيَادَة، وَترد الزِّيَادَة لمخالفتها بَاقِي الْأَحَادِيث. وَقيل: هِيَ قصتان: الأولى للأعرابي، وَالثَّانيَِة لأبي، أفتاه بالورع بالتربص ثَلَاثَة أَعْوَام إِذْ هُوَ من فضلاء الصَّحَابَة. قَوْله: (ثمَّ استمتع بهَا) قَالُوا: الْإِتْيَان هُنَا: بثم، دَال على الْمُبَالغَة فِي التثبت على العفاص والوكاء. إِذْ كَانَ وَضعهَا للتراخي والمهلة، فَكَأَنَّهُ عبارَة عَن قَوْله: لَا تعجل وَتثبت فِي عرفان ذَلِك. قَوْله: (فَغَضب) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا كَانَ غَضَبه استقصاراً لعلم السَّائِل وَسُوء فهمه، إِذْ لم يراع الْمَعْنى الْمشَار إِلَيْهِ وَلم يتَنَبَّه لَهُ، فقاس الشَّيْء على غير نَظِيره، فَإِن اللّقطَة إِنَّمَا هِيَ اسْم للشَّيْء الَّذِي يسْقط من صَاحبه وَلَا يدْرِي أَيْن مَوْضِعه، وَلَيْسَ كَذَلِك الْإِبِل، فَإِنَّهَا مُخَالفَة للقطة إسما وَصفَة، فَإِنَّهَا غير عادمة أَسبَاب الْقُدْرَة على الْعود إِلَى رَبهَا لقُوَّة سَيرهَا، وَكَون الْحذاء والسقاء مَعهَا، لِأَنَّهَا ترد المَاء ربعا وخمساً، وتمتنع من الذئاب وَغَيرهَا من صغَار السبَاع، وَمن التردي وَغير ذَلِك، بِخِلَاف الْغنم فَإِنَّهَا بِالْعَكْسِ، فَجعل سَبِيل الْغنم سَبِيل اللّقطَة. قلت: فِي بعض من ذكره نظر، وَهُوَ قَوْله: اللّقطَة اسْم للشَّيْء الَّذِي يسْقط من صَاحبه إِلَى قَوْله: وَصفَة. فَإِن الْغنم أَيْضا لَيْسَ كَذَلِك، فَيَنْبَغِي أَن يكون مثل الْإِبِل على هَذَا الْكَلَام، مَعَ أَنه لَيْسَ مثل الْإِبِل. وَقَوله أَيْضا: وتمتنع من الذئاب، فَإِن الجواميس تمْتَنع من كبار السبَاع فضلا عَن صغارها، وتغيب عَن صَاحبهَا أَيَّامًا عديدة ترعى وتشرب ثمَّ تعود، فَيَنْبَغِي أَن تكون مثل الْإِبِل مَعَ أَنه لَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (مَا لَك وَلها) فِيهِ نهي عَن أَخذهَا. وَقَوله: (لَك أَو لأخيك) فِيهِ إِذن لأخذها.
وَمن الْبَيَان فِيهِ: التَّشْبِيه، وَهُوَ فِي قَوْله: (مَعهَا سقاؤها وحذاؤها) ، فَإِنَّهُ شبه الْإِبِل بِمن كَانَ مَعَه حذاء وسقاء فِي السّفر.
وَمن البديع: فِيهِ الجناس النَّاقِص: وَهُوَ فِي قَوْله: إعرف وَعرف، والحرف المشدد فِي حكم المخفف فِي هَذَا الْبَاب. فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: حكى القَاضِي عَن بَعضهم الْإِجْمَاع على أَن معرفَة العفاص والوكاء من إِحْدَى عَلَامَات اللّقطَة. قلت: فَإِن وصفهَا وبيّنها، قَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: حل للملتقط أَن يَدْفَعهَا إِلَيْهِ من غير أَن يجْبر عَلَيْهِ فِي الْقَضَاء. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: يجْبر على دَفعهَا لما جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إِيَّاه، وإلاَّ فَهِيَ لَك) . وَهَذَا أَمر، وَهُوَ للْوُجُوب. قَالَت الْحَنَفِيَّة: هَذَا مُدع وَعَلِيهِ الْبَيِّنَة، لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْبَيِّنَة على من ادّعى) . والعلامة لَا تدل على الْملك وَلَا على الْيَد، لِأَن الْإِنْسَان قد يقف على مَال غَيره وَيخْفى عَلَيْهِ مَال نَفسه، فَلَا عِبْرَة بهَا. والْحَدِيث مَحْمُول على الْجَوَاز تَوْفِيقًا بَين الْأَخْبَار، لِأَن الْأَمر قد يُرَاد بِهِ الْإِبَاحَة، وَبِه نقُول، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: إِذا وصفهَا، فَهَل يجب إعطاؤها بِالْوَصْفِ أم لَا؟ ذهب مَالك إِلَى وُجُوبه، وَاخْتلف أَصْحَابه: هَل يحلف؟ قَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا يحلف. وَقَالَ أَشهب وَسَحْنُون: يحلف، وألحقوا بِهِ السَّارِق إِذا سرق مَالا وَنسي الْمَسْرُوق مِنْهُ، ثمَّ أَتَى من وَصفه فَإِنَّهُ يعْطى. وَأما الْوَدِيعَة إِذا نسي من أودعها إِيَّاه فَمن أَصْحَابه من أجراها مجْرى اللّقطَة وَالسَّرِقَة، وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا، بِأَن كل مَوضِع يتَعَذَّر فِيهِ على الْمَالِك إِقَامَة الْبَيِّنَة اكْتفى فِيهِ بِالصّفةِ. وَفِي

(2/110)


المثالين الْأَوَّلين يتَعَذَّر إِقَامَة الْبَيِّنَة بِخِلَاف الْوَدِيعَة، ثمَّ فِي الْإِعْطَاء بِالْوَصْفِ مِنْهُم من شَرط الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة، وَمِنْهُم من اقْتصر على الْبَعْض. وَعند مَالك خلاف. قيل عِنْده: لَا بُد من معرفَة الْجَمِيع. وَقيل: يَكْفِي وصفان. وَقيل: لَا بُد من العفاص والوكاء. وَفِي (شرح السّنة) : اخْتلفُوا فِي أَنه لَو ادّعى رجل اللّقطَة وَعرف عفاصها ووكاءها فَذهب مَالك وَأحمد إِلَى أَنه: يدْفع إِلَيْهِ من غير بَيِّنَة أَقَامَهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَقْصُود من معرفَة العفاص والوكاء. وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْحَنَفِيَّة: إِذا وَقع فِي النَّفس صدق الْمُدَّعِي فَلهُ أَن يُعْطِيهِ وإلاَّ فبينه.
الثَّانِي: هَل يجب على اللاقط الْتِقَاط اللّقطَة؟ فَروِيَ عَن مَالك الْكَرَاهَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَن أَخذهَا أفضل فِيمَا لَهُ بَال، وَللشَّافِعِيّ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحهَا: يسْتَحبّ الْأَخْذ وَلَا يجب. وَالثَّانِي: يجب. وَالثَّالِث: إِن خَافَ عَلَيْهَا وَجب، وَإِن أَمن عَلَيْهَا اسْتحبَّ. وَعَن أَحْمد: ينْدب تَركهَا. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : إِذا وجد لقطَة، فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يرفعها إِذا كَانَ يَأْمَن على نَفسه، وَإِذا كَانَ لم يَأْمَن لَا يرفعها، وَفِي (شرح الأقطع) : يسْتَحبّ أَخذ اللّقطَة وَلَا يجب، وَفِي (النَّوَازِل) قَالَ أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سَلام: ترك اللّقطَة أفضل فِي قَول أَصْحَابنَا من رَفعه وَرفع اللَّقِيط أفضل من تَركه، وَفِي (خُلَاصَة الْفَتَاوَى) : إِن خَافَ ضياعها يفترض الرّفْع، وَإِن لم يخف يُبَاح رَفعهَا، أجمع الْعلمَاء عَلَيْهِ، وَالْأَفْضَل الرّفْع فِي ظَاهر الْمَذْهَب، وَفِي (فتاوي الولواجي) : اخْتلف الْعلمَاء فِي رَفعهَا، قَالَ بَعضهم رَفعهَا أفضل من تَركهَا، وَقَالَ بَعضهم: يحل رَفعهَا، وَتركهَا أفضل. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : وَلَو رَفعهَا ووضعها فِي مَكَانَهُ ذَلِك فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة. وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا: هَذَا إِذا لم يبرح من ذَلِك الْمَكَان حَتَّى وضع هُنَاكَ، فَأَما إِذا ذهب عَن مَكَانَهُ ذَلِك ثمَّ أَعَادَهَا ووضعها فِيهِ فَإِنَّهُ يضمن. وَقَالَ بَعضهم: يضمن مُطلقًا، وَهَذَا خلاف ظَاهر الرِّوَايَة.
الثَّالِث: احْتج بِهِ من يمْنَع الْتِقَاط الْإِبِل إِذا استغنت بقوتها عَن حفظهَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، وَيُقَال عِنْد الشَّافِعِي: لَا يَصح فِي الْكِبَار وَيصِح فِي الصغار، وَعند مَالك: لَا يَصح فِي الْإِبِل وَالْخَيْل والبغل وَالْحمار فَقَط، وَعند أَحْمد: لَا يَصح فِي الْكل حَتَّى الْغنم، وَعنهُ: يَصح فِي الْغنم. وَفِي بعض شُرُوح البُخَارِيّ: وَعند الشَّافِعِيَّة يجوز للْحِفْظ فَقَط، إلاَّ أَن يُوجد بقرية أَو بلد فَيجوز على الْأَصَح. وَعند الْمَالِكِيَّة ثَلَاثَة أَقْوَال فِي الْتِقَاط الْإِبِل. ثَالِثهَا: يجوز فِي الْقرى دون الصَّحرَاء. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: فِي معنى الْإِبِل كل مَا امْتنع بقوته عَن صغَار السبَاع كالفرس والأرنب والظبي. وَعند الْمَالِكِيَّة خلاف فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يلْحق الْبَقر بِالْإِبِلِ دون غَيرهَا إِذا كَانَت بمَكَان لَا يخَاف عَلَيْهَا فِيهِ من السبَاع. وَقَالَ القَاضِي: اخْتلف عِنْد مَالك فِي الدَّوَابّ وَالْبَقر وَالْبِغَال وَالْحمير، هَل حكمهَا حكم الْإِبِل أَو سَائِر اللقطات؟ وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: يَصح الْتِقَاط الْبَهِيمَة مُطلقًا من أَي جنس كَانَ، لِأَنَّهَا مَال يتَوَهَّم ضيَاعه، والْحَدِيث مَحْمُول على مَا كَانَ فِي دِيَارهمْ، إِذْ كَانَ لَا يخَاف عَلَيْهَا من شَيْء، وَنحن نقُول فِي مثله بِتَرْكِهَا، وَهَذَا لِأَن فِي بعض الْبِلَاد الدَّوَابّ يسيبها أَهلهَا فِي البراري حَتَّى يحتاجوا إِلَيْهَا فيمسكوها وَقت حَاجتهم، وَلَا حَاجَة فِي التقاطها فِي مثل هَذِه الْحَالة، وَالَّذِي يدل على هَذَا مَا رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن ابْن شهَاب قَالَ: كَانَ ضوال الْإِبِل فِي زمن عمر، رَضِي الله عَنهُ، إبِلا مؤبلة، تتناتج لَا يمْسِكهَا أحد، حَتَّى إِذا كَانَ زمن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَمر بمعرفتها ثمَّ تبَاع، فَإِذا جَاءَ صَاحبهَا أعطي ثمنهَا. قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا كَانَت الْإِبِل للْقنية فَهِيَ إبل مؤبلة.
الرَّابِع: التَّعْرِيف باللقطة. قَالَ أَصْحَابنَا: يعرفهَا إِلَى أَن يغلب على ظَنّه أَن رَبهَا لَا يطْلبهَا، وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَن ذَلِك يخْتَلف بقلة المَال وكثرته، وروى مُحَمَّد بن أبي حنيفَة: إِن كَانَت أقل عَن عشرَة دَرَاهِم عرفهَا أَيَّامًا، وَإِن كَانَت عشرَة فَصَاعِدا عرفهَا حولا، وَقدره مُحَمَّد فِي الأَصْل بالحول من غير تَفْصِيل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك. وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا إِن كَانَت مِائَتي دِرْهَم فَصَاعِدا يعرفهَا حولا، وَفِيمَا فَوق الْعشْرَة إِلَى مِائَتَيْنِ شهرا، وَفِي الْعشْرَة جُمُعَة، وَفِي ثَلَاثَة دَرَاهِم ثَلَاثَة أَيَّام، وَفِي دِرْهَم يَوْمًا، وَإِن كَانَت تَمْرَة وَنَحْوهَا تصدق بهَا مَكَانهَا، وَإِن كَانَ مُحْتَاجا أكلهَا مَكَانهَا. وَفِي (الْهِدَايَة) : إِذا كَانَت اللّقطَة شَيْئا يعلم أَن صَاحبهَا لَا يطْلبهَا كالنواة وقشر الرُّمَّان يكون القاؤه مُبَاحا، وَيجوز الِانْتِفَاع بِهِ من غير تَعْرِيف، لكنه مبقي على ملك مَالِكه لِأَن التَّمْلِيك من الْمَجْهُول لَا يَصح. وَفِي (الْوَاقِعَات) : الْمُخْتَار فِي القشور والنواة تَملكهَا، وَفِي الصَّيْد لَا يملكهُ، وَإِن جمع سنبلاً بعد الْحَصاد فَهُوَ لَهُ لإِجْمَاع النَّاس على ذَلِك، وَإِن سلخ شَاة ميتَة فَهُوَ لَهُ، ولصاحبها أَن يَأْخُذهَا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الحكم فِي صوفها. وَقَالَ القَاضِي: وجوب التَّعْرِيف سنة إِجْمَاع، وَلم يشْتَرط أحد تَعْرِيف ثَلَاث سِنِين إلاَّ مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَلَعَلَّه لم يثبت عَنهُ. قلت: وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه يعرفهَا ثَلَاثَة أشهر. وَعَن أَحْمد: يعرفهَا شهرا، حَكَاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه

(2/111)


عَنهُ، وَحكى عَن آخَرين أَنه يعرفهَا ثَلَاثَة أَيَّام، حَكَاهُ عَن الشَّاشِي وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هَذَا إِذا أَرَادَ تَملكهَا، فَإِن أَرَادَ حفظهَا على صَاحبهَا فَقَط فالأكثرون من أَصْحَابنَا على أَنه لَا يجب التَّعْرِيف وَالْحَالة هَذِه، والأقوى الْوُجُوب، وَظَاهر الحَدِيث أَنه لَا فرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي وجوب التَّعْرِيف، وَفِي مدَّته، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنه لَا يجب التَّعْرِيف فِي الْقَلِيل مِنْهُ، بل يعرفهُ زَمنا يظنّ أَن فاقده يتْركهُ غَالِبا. وَقَالَ اللَّيْث: إِن وجدهَا فِي الْقرى عرفهَا، وَإِن وجدهَا فِي الصَّحرَاء لَا يعرفهَا. وَقَالَ الْمَازرِيّ: لم يجر مَالك الْيَسِير مجْرى الْكثير، وَاسْتحبَّ فِيهِ التَّعْرِيف وَلم يبلغ بِهِ سنة، وَقد جَاءَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام: (مر بتمرة، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها) . فنبه على أَن الْيَسِير الَّذِي لَا يرجع إِلَيْهِ أَهله يُؤْكَل. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) عَن جَابر، رَضِي الله عَنهُ: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل وأشباهه، يلتقطه الرجل وَينْتَفع بِهِ. وَقد حد بعض الْعلمَاء الْيَسِير بِنَحْوِ الدِّينَار تعلقاً بِحَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فِي الْتِقَاط الدِّينَار. وَكَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر لَهُ تعريفاً، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي (سنَنه) ، وَيُمكن أَن يكون اختصرها الرَّاوِي، هَكَذَا كَلَام الْمَازرِيّ. وَقَالَ القَاضِي: حَدِيث أبي، رَضِي الله عَنهُ، يدل على عدم الْفرق بَين الْيَسِير وَغَيره لاحتجاجه فِي السَّوْط بِعُمُوم الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَعرفهُ عَليّ وَلم يجد من يعرفهُ. قلت: أَرَادَ بِحَدِيث أبي، هُوَ قَوْله: (وجدت صرة، مائَة دِينَار، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ اتيته فَقَالَ: عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد، ثمَّ أَتَيْته ثَلَاثًا فَقَالَ: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فاستمتع) . قَالَ الرَّاوِي: فَلَقِيت، يَعْنِي أبي بن كَعْب، فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَة أَحْوَال أَو حولا وَاحِدًا. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: إِن السَّوْط والعصا وَالْحَبل وَنَحْوه لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيف، وَإنَّهُ مِمَّا يُعْفَى عَن طلبه، وتطيب النَّفس بِتَرْكِهِ كالتمرة وَقَلِيل الطَّعَام. وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: الْيَسِير التافه الَّذِي لَا يتمول كالحبة من الْحِنْطَة وَالزَّبِيب وَشبههَا لَا يعرف، وَإِن كَانَ قَلِيلا متمولاً يجب تَعْرِيفه، وَاخْتلفُوا فِي الْقَلِيل، فَقيل: مَا دون نِصَاب السّرقَة، وَقيل: الدِّينَار فَمَا فَوْقه، وَقيل: وزن الدِّرْهَم. وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي تَعْرِيفه. فَقيل: سنة كالكثير، وَقيل: مُدَّة يظنّ فِي مثلهَا طلب الفاقد لَهَا،، وَإِذا غلب على ظَنّه إعراضه عَنْهَا سقط الطّلب، فعلى هَذَا يخْتَلف بِكَثْرَة المَال وقلته، فدانق الْفضة يعرف فِي الْحَال، ودانق الذَّهَب يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ.
الْخَامِس: الِاسْتِمْتَاع بهَا إِن كَانَ فَقِيرا، وَلَا يتَصَدَّق بهَا على فَقير أَجْنَبِي أَو قريب مِنْهُ، وأباح الشَّافِعِي للغني الْوَاجِد لحَدِيث أبي بن كَعْب فِيمَا رَوَاهُ مُسلم وَأحمد: (عرفهَا، فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك بعدتها ووعائها ووكاءها فاعطها إِيَّاه وإلاَّ فاستمتع بهَا) . وبظاهر مَا فِي هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث الْبَاب: (ثمَّ استمتع بهَا) . قَالَ الْخطابِيّ: فِي لفظ: ثمَّ استمتع، بَيَان أَنَّهَا لَهُ بعد التَّعْرِيف، يفعل بهَا مَا شَاءَ بِشَرْط أَن يردهَا إِذا جَاءَ صَاحبهَا إِن كَانَت بَاقِيَة، أَو قيمتهَا إِن كَانَت تالفة، فَإِذا ضَاعَت اللّقطَة نظر، فَإِن كَانَ فِي مُدَّة السّنة لم يكن عَلَيْهِ شَيْء، لِأَن يَده يَد أَمَانَة، وَإِن ضَاعَت بعد السّنة فَعَلَيهِ الغرامة لِأَنَّهَا صَارَت دينا عَلَيْهِ. وَأغْرب الْكَرَابِيسِي من الشَّافِعِيَّة، فَقَالَ: لَا يلْزمه ردهَا بعد التَّعْرِيف، وَلَا رد بدلهَا، وَهُوَ قَول دَاوُد، وَقَول مَالك فِي الشَّاة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَالثَّوْري: يتَصَدَّق بهَا وَلَا يأكلها، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس. وَقَالَ مَالك: يسْتَحبّ لَهُ أَن يتَصَدَّق بهَا مَعَ الضَّمَان. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: المَال الْكثير يَجْعَل فِي بَيت المَال بعد السّنة. وَحجَّة الْحَنَفِيَّة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فليتصدق بِهِ) ، وَمحل الصَّدَقَة الْفُقَرَاء وَأَجَابُوا عَن حَدِيث أبي، رَضِي الله عَنهُ، وَأَمْثَاله بِأَنَّهُ حِكَايَة حَال، فَيجوز أَنه، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، عرف فقره، إِمَّا لديون عَلَيْهِ، أَو قلَّة مَاله أَو يكون إِذْنا مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَذَلِكَ جَائِز عندنَا من الإِمَام على سَبِيل الْقَرْض، وَيحْتَمل أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف أَنه فِي مَال كَافِر حَرْبِيّ.
السَّادِس: اسْتدلَّ الْمَازرِيّ لعدم الغرامة بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (هِيَ لَك) ، وَظَاهره التَّمْلِيك، وَالْمَالِك لَا يغرم. وَنبهَ بقوله: (للذئب) أَنَّهَا كالتالفة على كل حَال، وَأَنَّهَا مِمَّا لَا ينْتَفع صَاحبهَا ببقائها. واجيب: لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، رحمهمَا الله تَعَالَى، بِأَن اللَّام للاختصاص، أَي: إِنَّك تخْتَص بهَا، وَيجوز لَك أكلهَا وَأَخذهَا، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض للغرم وَلَا لعدمه، بل بِدَلِيل آخر، وَهُوَ قَوْله: (فَإِن جَاءَ رَبهَا يَوْمًا فأدها إِلَيْهِ) .
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الحكم والفتيا فِي حَال الْغَضَب، وَأَنه نَافِذ. لَكِن يكره فِي حَقنا بِخِلَاف النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ يُؤمن عَلَيْهِ فِي الْغَضَب مَا يخَاف علينا. وَقد حكم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للزبير، رَضِي الله عَنهُ، فِي شراج الْحرَّة فِي حَال غَضَبه.
الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز قَول الْإِنْسَان: رب المَال وَرب الْمَتَاع. وَمِنْهُم من كره إِضَافَته إِلَى مَا لَهُ روح.
التَّاسِع: فِي قَوْله: (إعرف عفاصها

(2/112)


ووكاءها) دَلِيل بَين على إبِْطَال قَول من ادّعى علم الْغَيْب فِي الْأَشْيَاء كلهَا من الكهنة والمنجمين وَغَيرهم، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَو علم أَنه يُوصل إِلَى علم ذَلِك من هَذِه الْوُجُوه لم يكن فِي قَوْله فِي معرفَة علاماتها وَجه.
الْعَاشِر: إِن صَاحب اللّقطَة إِذا جَاءَ فَهُوَ أَحَق بهَا من ملتقطها إِذا ثَبت أَنه صَاحبهَا، فَإِن وجدهَا قد أكلهَا الْمُلْتَقط بعد الْحول، وَأَرَادَ أَن يضمنهُ كَانَ لَهُ ذَلِك، وَإِن كَانَ قد تصدق بهَا فصاحبها مُخَيّر بَين التَّضْمِين وَبَين أَن يتْرك على أجرهَا، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ قَول طَاوس وَعِكْرِمَة وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ رَحِمهم الله.
الْحَادِي عشر: احتجت الشَّافِعِيَّة بقوله: (استمتع بهَا) ، وَبِمَا جَاءَ فِي بعض طرق الحَدِيث: (فَإِن جَاءَ من يعرفهَا وإلاَّ فاخلطها بِمَالك) . وَفِي بَعْضهَا: (عرفهَا سنة ثمَّ أعرف وكاءها وعفاصها، ثمَّ استنفق بهَا، فَإِن جَاءَ رَبهَا فأدها إِلَيْهِ) . وَبِمَا جَاءَ فِي مُسلم: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عفاصها وعددها وكاءها فاعطها إِيَّاه، وإلاَّ فَهِيَ لَك) . وَفِي بعض طرقه: (ثمَّ عرفهَا سنة، فَإِن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وَدِيعَة عنْدك. فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدها إِلَيْهِ) ، على أَن من عرفهَا سنة وَلم يظْهر صَاحبهَا كَانَ لَهُ تَملكهَا، سَوَاء كَانَ غَنِيا أَو فَقِيرا، ثمَّ اخْتلفُوا: هَل تدخل فِي ملكه بِاخْتِيَارِهِ أَو بِغَيْر اخْتِيَاره؟ فَعِنْدَ الْأَكْثَرين تدخل بِغَيْر الِاخْتِيَار، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب مُسْتَوفى.

92 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاءِ قَالَ: حدّثنا أبُو أُسامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أشياءَ كَرهَها، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ للِنَّاسِ: (سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ) قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أبي؟ قَالَ: (أبُوك حُذَافَةُ) فَقامُ آخرُ فَقَالَ: مَنْ أبي يَا رسولَ الله {فَقَالَ: (أبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ) . فَلمَّا رأَى عُمَرُ مَا فِي وجْهِهِ قَالَ: رسولَ الله} إنَّا نَتُوبُ إلَى الله عَزَّ وجَلَّ.
(الحَدِيث 92 طرْقَة فِي: 7291) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا أَكثر عَلَيْهِ غضب) .
بَيَان رِجَاله: هم خَمْسَة قد ذكرُوا أعيانهم بِهَذِهِ السلسلة فِي: بَاب فضل من علم وَعلم، وَكلهمْ كوفيون، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد اللَّه، وَأَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، عَامر بن أبي مُوسَى، وَأَبُو مُوسَى عبد اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن أبي كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء، وَفِي كتاب الِاعْتِصَام فِي: بَاب مَا يكره من كَثْرَة السُّؤَال، عَن يُوسُف بن مُوسَى، وَفِي الْفَضَائِل عَن أبي كريب وَعبد اللَّه بن براد، ثَلَاثَتهمْ عَن أُسَامَة عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (عَن أَشْيَاء) : هُوَ غير منصرف، قَالَ الْخَلِيل: إِنَّمَا ترك صرفه لِأَن أَصله: فعلاء كالشعراء جمع على غير الْوَاحِد، فنقلوا الْهمزَة الأولى إِلَى أول الْكَلِمَة، فَقَالُوا: اشياء، فوزنه: أفعاء. وَقَالَ الْأَخْفَش وَالْفراء: هُوَ أفعلاء كالأنبياء، فحذفت الْهمزَة الَّتِي بَين الْيَاء وَالْألف للتَّخْفِيف، فوزنه أفعاء. وَقَالَ الْكسَائي: هُوَ أَفعَال كأفراخ، وَإِنَّمَا تركُوا صرفهَا لِكَثْرَة استعمالهم لَهَا، وَلِأَنَّهَا شبهت بفعلاء. وَقَالَ فِي (الْعباب) : الشَّيْء تصغيره شَيْء، وشييء بِكَسْر الشين، وَلَا تقل: شوىء، وَالْجمع: اشياء، غير مصروفة. وَالدَّلِيل على قَول الْخَلِيل أَنَّهَا لَا تصرف أَنَّهَا تصغر على اشياء وَأَنَّهَا تجمع على أشاوي، وَأَصلهَا: أشائي، قلبت الْهمزَة يَاء فاجتمعت ثَلَاث ياآت فحذفت الْوُسْطَى، وقلبت الْأَخِيرَة ألفا فابدلت من الأول وَاو. وَحكى الْأَصْمَعِي أَنه سمع رجلا من فصحاء الْعَرَب يَقُول لخلف الْأَحْمَر: إِن عنْدك لأشاوي مِثَال الصحارى، وَيجمع أَيْضا على: أشايا وأشياوات، وَيدخل على قَول الْكسَائي أَن لَا تصرف: أَبنَاء وَأَسْمَاء، وعَلى قَول الْأَخْفَش أَن لَا تجمع على: أشاوى. قَوْله: (كرهها) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة الْأَشْيَاء، وَإِنَّمَا كره لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ سَببا لتَحْرِيم شَيْء على الْمُسلمين فتلحقهم بِهِ الْمَشَقَّة، أَو رُبمَا كَانَ فِي الْجَواب مَا يكره السَّائِل ويسوؤه، أَو رُبمَا أحفوه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والحقوه الْمَشَقَّة والأذى، فَيكون ذَلِك سَببا لهلاكهم، وَهَذَا فِي الْأَشْيَاء الَّتِي لَا ضَرُورَة وَلَا حَاجَة إِلَيْهَا أَو لَا يتَعَلَّق بهَا تَكْلِيف وَنَحْوه. وَفِي غير ذَلِك لَا تتَصَوَّر الْكَرَاهَة لِأَن السُّؤَال حينئذٍ إِمَّا وَاجِب أَو مَنْدُوب لقَوْله تَعَالَى: {فاسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} (النَّحْل: 43، والأنبياء: 7) . قَوْله: (فَلَمَّا أَكثر عَلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: فَلَمَّا أَكثر السُّؤَال على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غضب. وَهُوَ جَوَاب: لما. وَسبب غَضَبه تعنتهم فِي السُّؤَال وتكلفهم فِيمَا لَا حَاجَة لَهُم فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِن أعظم الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شي فَحرم من أجل مَسْأَلته) . أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث سعد. قَوْله: (سلوني) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. قَالَ بعض الْعلمَاء: هَذَا القَوْل

(2/113)


مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَحْمُول على أَنه أُوحِي إِلَيْهِ بِهِ، إِذْ لَا يعلم كل مَا يسْأَل عَنهُ من المغيبات إلاَّ بإعلام الله تَعَالَى. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: ظَاهر الحَدِيث أَن قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (سلوني) إِنَّمَا كَانَ غَضبا. قَوْله: (عَمَّا شِئْتُم) . وَفِي بعض النّسخ: (عَم شِئْتُم) . بِحَذْف الْألف. قلت: إِنَّه يجب حذف ألف: مَا، الاستفهامية إِذا جرَّت، وإبقاء الفتحة دَلِيلا عَلَيْهَا، نَحْو: فيمَ وإلام وعلام. وَعلة الْحَذف الْفرق بَين الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر، فَلهَذَا حذفت فِي نَحْو: {فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} (النازعات: 43) . {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} (النَّمْل: 35) . {لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصَّفّ: 2) وَثَبت فِي {لمسكم فِيمَا افضتم فِيهِ عَذَاب عَظِيم} (النُّور: 14) {يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك} (الْبَقَرَة: 4، النِّسَاء: 162) {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} (ص: 75) . وكما لَا تحذف الْألف فِي الْخَبَر لَا تثبت فِي الِاسْتِفْهَام، وَأما قِرَاءَة عِكْرِمَة وَعِيسَى: {عَمَّا يتساءلون} (النبأ: 1) ، فنادرة. وَأما قَول حسان، رَضِي الله عَنهُ:
(علاما قَامَ يَشْتمنِي لئيم ... كخنزير تمرغ فِي رماد)

فضرورة. ويروى: فِي دمان، وَهُوَ كالرماد وزنا وَمعنى. قَوْله: (قَالَ رجل) هُوَ عبد اللَّه بن حذافة. وَقد تقدم تَعْرِيفه فِي: بَاب مَا يذكر من المناولة. قَوْله: (من أبي) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مقول القَوْل، وَكَذَلِكَ قَوْله: (أَبوك حذافة) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة المخففة. فَإِن قلت: لم سَأَلَهُ عَن ذَلِك؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ ينْسب إِلَى غير أَبِيه إِذا لاحى أحدا، فنسبه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى أَبِيه. فَإِن قلت: من أَيْن عرف رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه ابْنه؟ قلت: إِمَّا بِالْوَحْي، وَهُوَ الظَّاهِر، أَو بِحكم الفراسة، أَو بِالْقِيَاسِ، أَو بالاستلحاق. قَوْله: (فَقَامَ إِلَيْهِ) أَي إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، (آخر) أَي: رجل آخر. قَوْله: (أَبوك سَالم) مُبْتَدأ وَخبر مقول القَوْل. قَوْله: (مَا فِي وَجهه) أَي: من أثر الْغَضَب. وَمَا، مَوْصُولَة، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول: رأى، وَهُوَ من الرُّؤْيَة بِمَعْنى الإبصار، وَلِهَذَا اقْتصر على مفعول وَاحِد. قَوْله: (قَالَ: يَا رَسُول الله) جَوَاب: لما. قَوْله: (إِنَّا نتوب إِلَى الله) جملَة وَقعت مقول القَوْل، أَي: نتوب من الأسئلة الْمَكْرُوهَة مِمَّا لَا يرضاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك عمر، رَضِي الله عَنهُ، لِأَنَّهُ لما رأى حرصهم، وَقدر مَا علمه الله، خشِي أَن يكون ذَلِك كالتعنت لَهُ وَالشَّكّ فِي أمره، فَقَالَ: إِنَّا نتوب إِلَى الله.
وَفِي الحَدِيث: فهمُ عمر وفضلُ علمه، فَإِن الْعَالم لَا يسْأَل إلاَّ فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَفِيه كَرَاهَة لسؤال للتعنت، وَفِيه معْجزَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

29 - (بابُ مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبتَيْهِ عِنْدَ الإِمامِ أَو المُحِدِّثِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من برك، بتَخْفِيف الرَّاء، يُقَال: برك الْبَعِير بروكاً، أَي استناخ، وكل شَيْء ثَبت وَأقَام فقد برك. قَالَ الصغاني: وبرك بروكاً اجْتهد، والتركيب يدل على ثبات الشَّيْء، ثمَّ يتَفَرَّع فروع يُقَارب بَعْضهَا بَعْضًا، وَإِسْنَاده إِلَى الْإِنْسَان على طَريقَة الْمجَاز الْمُسَمّى بِغَيْر الْمُقَيد، وَهُوَ أَن تكون الْكَلِمَة مَوْضُوعَة لحقيقة من الْحَقَائِق مَعَ قيد، فيستعملها لتِلْك الْحَقِيقَة لَا مَعَ ذَلِك الْقَيْد بمعونة الْقَرِينَة، مثل أَن يسْتَعْمل المشفر وَهُوَ لشفة الْبَعِير لمُطلق الشّفة. فَيَقُول: زيد غليظ المشفر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول غضب الْعَالم على السَّائِل لعدم جريه على مُوجب الْأَدَب، وَفِي هَذَا الْبَاب يذكر أدب المتعلم عِنْد الْعَالم، فتناسبا من هَذِه الْحَيْثِيَّة.

93 - حدّثنا أبُو اليَمان قالَ: أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخبْرني أنَسُ بنُ مالِكٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَ، فقامَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أبي؟ فَقَالَ: (أبوكَ حُذَافَةُ) ثُمَّ أكْثَرَ أنْ يَقُولَ: (سَلُونِي) فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رضِينَا بِاللَّه ربًّا وبالإِسْلامِ دِيناً وبمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبِيًّا، فَسَكَتَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله أَرْبَعَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْعلم، وَفِي الصَّلَاة، وَفِي الِاعْتِصَام عَن أبي الْيَمَان عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن عبد اللَّه بن عبد الرَّحْمَن الدَّارِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ.
قَوْله: (فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّه) مَعْنَاهُ: رَضِينَا بِمَا عندنَا من كتاب الله وَسنة نَبينَا، واكتفينا بِهِ عَن السُّؤَال أبلغ كِفَايَة. وَقَوله هَذِه الْمقَالة إِنَّمَا كَانَ أدباً وإكراماً لرَسُول الله

(2/114)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشفقة على الْمُسلمين لِئَلَّا يؤذوا النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فيدخلوا تَحت قَوْله: {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَاعد لَهُم عذَابا مهيناً} (الْأَحْزَاب: 57) . وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: كَانَ قوم يسْأَلُون رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، استهزاء فَيَقُول الرجل: من أبي؟ وَيَقُول الرجل تضل نَاقَته: أَيْن نَاقَتي؟ فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة. فَإِن قلت: بِمَاذَا نصب: رَبًّا وديناً وَنَبِيًّا؟ قلت: على التَّمْيِيز، وَهُوَ، وَإِن كَانَ الأَصْل أَن يكون فِي الْمَعْنى فَاعِلا، يجوز أَن يكون مَفْعُولا أَيْضا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وفجرنا الأَرْض عيُونا} (الْقَمَر: 12) وَيجوز أَن يكون نصبها على المفعولية، لِأَن: رَضِي إِذا عدي بِالْبَاء يتَعَدَّى إِلَى مفعول آخر، وَالْمرَاد من الدّين هَهُنَا التَّوْحِيد، وَبِه فسر الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا} (آل عمرَان: 85) يَعْنِي التَّوْحِيد، وَأما فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (بَيْنَمَا نَحن عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم إِذْ طلع علينا رجل) الحَدِيث، فقد أطلق رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الدّين على الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان. بقوله: (إِنَّه جِبْرِيل أَتَاكُم يعلمكم دينكُمْ) . وَإِنَّمَا علمهمْ هَذِه الثَّلَاثَة، وَالْحَاصِل أَن الدّين تَارَة يُطلق على الثَّلَاثَة الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. وَتارَة يُطلق على الْإِسْلَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ واتممت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} (الْمَائِدَة: 3) وَهَذَا يمْنَع قَول من يَقُول: بَين الْآيَة والْحَدِيث مُعَارضَة حَيْثُ أطلق الدّين فِي الحَدِيث على ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَفِي الْآيَة على شَيْء وَاحِد. وَاخْتِلَاف الْإِطْلَاق إِمَّا بالاشتراك أَو بِالْحَقِيقَةِ أَو الْمجَاز أَو بالتواطىء، فَفِي الحَدِيث أطلق على مَجْمُوع الثَّلَاثَة وَهُوَ أحد مدلوليه، وَفِي الْآيَة أطلق على الْإِسْلَام وَحده، وَهُوَ مُسَمَّاهُ الآخر. فَإِن قلت: لم قَالَ. بِالْإِسْلَامِ، وَلم يقل: بِالْإِيمَان؟ قلت: الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَاحِد، فَلَا يرد السُّؤَال. قَوْله: (فَسكت) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي بعض النّسخ وجد قبل لَفْظَة ثَلَاثًا أَي: قَالَه ثَلَاث مَرَّات. وَفِي بعض الرِّوَايَات: (فسكن غَضَبه) مَوضِع (فَسكت) . وَكَانَ ذَلِك من أثر مَا قَالَه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلم يزل موفقاً فِي رَأْيه ينْطق الْحق على لِسَانه، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.