عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 25 - (بابُ الصُّفْرَةِ والْكُدْرَةِ فِي
غَيْرِ أيَّامِ الْحَيْضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصُّفْرَة والكدرة
اللَّتَيْنِ تراهما الْمَرْأَة فِي غير أَيَّام حَيْضهَا،
يَعْنِي: لَا يكون حيضا، وألوان الدَّم سِتَّة: السوَاد
والحمرة والصفرة والكدرة والخضرة والتربية. أما الْحمرَة
فَهُوَ اللَّوْن الْأَصْلِيّ للدم إلاَّ عِنْد غَلَبَة
السوَاد يضْرب إِلَى السوَاد، وَعند غَلَبَة الصَّفْرَاء
يضْرب إِلَى الصُّفْرَة، ويتبين ذَلِك لمن اقتصده، وَأما
الصُّفْرَة فَهِيَ من ألوان الدَّم إِذا راق، وَقيل: هِيَ
كصفرة الْبيض أَو كصفرة القز. وَفِي (فتاوي قاضيحان) :
الصُّفْرَة تكون كلون القز أَو لون الْبُسْر أَو لون
التِّبْن، فالسواد والحمرة والصفرة حيض، وَالْمَنْقُول عَن
الشَّافِعِي فِي (مُخْتَصر الْمُزنِيّ) : أَن الصُّفْرَة
والكدرة فِي أَيَّام الْحيض حيض. وَاخْتلف أَصْحَابه فِي
ذَلِك على وُجُوه مَذْكُورَة فِي كتبهمْ. وَأما الكدرة
فَهِيَ حيض عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، سَوَاء رَأَتْ فِي
أول أَيَّامهَا أَو فِي آخرهَا، وَهِي لون كلون الصديد
يعلوه أصفرار. وَأما الخضرة فقد اخْتلف مَشَايِخنَا
فِيهَا، فَقَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور: إِن رأتها فِي
أول الْحيض يكون حيضا. وَإِن رأتها فِي آخر الْحيض واتصل
بهَا أَيَّام الْحيض لَا يكون حيضا، وَجُمْهُور
الْأَصْحَاب على كَونهَا حيضا كَيفَ مَا كَانَ. وَأما
التربية فَهِيَ الَّتِي تكون على لون التُّرَاب، وَهُوَ
نوع من الكدرة، فَحكمهَا حكم الكدرة، وَهِي بِضَم التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَيُقَال:
الترابية. وَفِي (قاضيخان) : التربية على لون التربة.
وَقيل فِيهَا: تربية على وزن تفعلة، من الرؤبة، وَقيل
تريبة على وزن فعيلة، وَقيل: تربية بِالتَّشْدِيدِ
وَالتَّخْفِيف بِغَيْر همزَة.
326 - ح دَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أمِّ عَطِيَّةَ
قالَتْ كُنَّا لاَ نَعُدُّ الْكُدْرَةَ والصُّفْرَةَ شَيئا
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَن الصُّفْرَة
والكدرة فِي غير أَيَّام الْحيض لَيْسَ بِشَيْء.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: قُتَيْبَة وَقد تكَرر
ذكره. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن أبي علية تقدم فِي بَاب
حب رَسُول الله من الْإِيمَان. الثَّالِث: أَيُّوب
السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين. وَقد
تكَرر ذكره. الْخَامِس: أم عَطِيَّة، قد مر ذكرهَا عَن
قريب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
رِوَايَة من رأى أنس بن مَالك عَن الصحابية. وَفِيه: أَنه
مَوْقُوف، كَذَا قَالَه ابْن عَسَاكِر، وَلَكِن قَوْلهَا:
كُنَّا، يَعْنِي فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَي: مَعَ علمه بذلك وَتَقْرِيره إياهن، وَهَذَا
فِي حكم الْمَرْفُوع.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة
عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن
زُرَارَة. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى
عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب بِهِ. وَقَالَ
الْمدنِي: رَوَاهُ وهيب عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة عَن أم
عَطِيَّة، قَالَ مُحَمَّد بن يحيى: خبر وهيب أولاهما
عندنَا. فَإِن قلت: مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ من
تَصْحِيح رِوَايَة إِسْمَاعِيل أرجح لمتابعة معمر لَهُ عَن
أَيُّوب، لِأَن إِسْمَاعِيل أحفظ لحَدِيث أَيُّوب من
غَيره، وَيجوز أَن يكون أَيُّوب قد سَمعه من مُحَمَّد وَمن
حَفْصَة كليهمَا.
ذكر استنباط الْأَحْكَام: يستنبط مِنْهُ أَن الكدرة
والصفرة لَا تكون حيضا إِذا كَانَت فِي غير أَيَّام
الْحيض، وَهُوَ معنى قَوْلهَا: (لَا نعد الكدرة والصفرة
شَيْئا) أَي: شَيْئا معتدا بِهِ. وَإِنَّمَا قيدنَا
بقولنَا: إِذا كَانَت فِي غير أَيَّام الْحيض، لِأَن
المُرَاد من الحَدِيث هَكَذَا. ويوضحه رِوَايَة أبي دَاوُد
عَن أم عَطِيَّة، وَكَانَت بَايَعت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: (كُنَّا لَا نعد الكدرة والصفرة
بعد
(3/309)
الطُّهْر شَيْئا) . وعَلى هَذَا ترْجم
البُخَارِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم. وَعند
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (كُنَّا لَا نعد الصُّفْرَة والكدرة
شَيْئا فِي الْحيض) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (كُنَّا لَا
نرى التربية بعد الطُّهْر شَيْئا، وَهِي الصُّفْرَة
والكدرة) . وروى ابْن بطال من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة
عَن قَتَادَة عَن حَفْصَة: (كُنَّا لَا نرى التربية بعد
الْغسْل شَيْئا) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قد
رُوِيَ عَن عَائِشَة: (كُنَّا نعد الكدرة والصفرة حيضا) .
فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ . قلت: هَذَا فِي وَقت الْحيض
وَذَاكَ فِي غير وقته. قلت: حَدِيث عَائِشَة أخرجه ابْن
حزم بِسَنَد واهٍ لأجل أبي بكر النَّهْشَلِي الْكذَّاب،
وَوَقع فِي (وسيط الْغَزالِيّ) ذكره لَهُ من حَدِيث
زَيْنَب، وَلَا يعرف. وروى الْبَيْهَقِيّ حَدِيث عَائِشَة
أَنَّهَا قَالَت: (مَا كُنَّا نعد الكدرة والصفرة شَيْئا،
وَنحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَالَ:
وَسَنَده ضَعِيف لَا يسوى ذكره، قَالَ: وَقد رُوِيَ
مَعْنَاهُ عَن عَائِشَة بِسَنَد أمثل من هَذَا، وَهُوَ
أَنَّهَا قَالَت: (إِذا رَأَتْ الْمَرْأَة الدَّم فلتمسك
عَن الصَّلَاة حَتَّى ترَاهُ أَبيض كالقصة، فَإِذا رَأَتْ
ذَلِك فلتغتسل ولتصلِّ، فَإِذا رَأَتْ بعد ذَلِك صفرَة أَو
كدرة فلتتوضأ ولتصلِّ، فَإِذا رَأَتْ مَاء أَحْمَر فلتغتسل
ولتصلِّ) . وَقَالَ ابْن بطال: ذهب جُمْهُور الْعلمَاء فِي
معنى هَذَا الحَدِيث إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ
فِي تَرْجَمته، فَقَالَ أَكْثَرهم: الصُّفْرَة والكدرة حيض
فِي أَيَّام الْحيض خَاصَّة، وَبعد أَيَّام الْحيض لَيْسَ
بِشَيْء، رُوِيَ هَذَا عَن عَليّ، وَبِه قَالَ سعيد بن
الْمسيب وَعَطَاء وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَرَبِيعَة
وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة
وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ
أَبُو يُوسُف: لَيْسَ قبل الْحيض حيض، وَفِي آخر الْحيض
حيض، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر. وَقَالَ مَالك: حيض فِي
أَيَّام الْحيض وَغَيرهَا، وأظن أَن حَدِيث أم عَطِيَّة لم
يبلغهُ.
26 - (بابُ عِرْق الإسْتِحَاضَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عرق الِاسْتِحَاضَة، وَهُوَ
بِكَسْر الْعين وَسُكُون الرَّاء، وَقد ذكرنَا أَنه يُسمى
هَذَا الْعرق العاذل، وَأَرَادَ بِهَذَا أَن دم
الِاسْتِحَاضَة من عرق، كَمَا صرح بِهِ فِي حَدِيث
الْبَاب، وَفِي رِوَايَة أخرجهَا أَبُو دَاوُد: (إِنَّمَا
ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة) .
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ
مِنْهُمَا مُشْتَمل على ذكر حكم الِاسْتِحَاضَة.
327 - ح دَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قالَ
حَدَّثَنا مَعْنٌ قالَ حدَّثني ابنُ أَبي ذِئْبٍ عنِ ابْن
شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ وَعَنْ عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ زَوْجِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ أمَّ حَبِيبَةَ
اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَسَأَلَتْ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أنْ
تَغْتَسِلَ فقالَ هَذَا عرْقٌ فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ
لِكُلِّ صَلاةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن
الْمُنْذر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الذَّال
الْمُعْجَمَة: الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة
وبالزاي المخففة، سبق فِي أول كتاب الْعلم، ونسبته إِلَى
حزَام أحد الأجداد المنتسب إِلَيْهِ الثَّانِي: معن بن
عِيسَى الْقَزاز، بتَشْديد الزَّاي الأولى، مر فِي بَاب:
مَا يَقع من النَّجَاسَات فِي السّمن. الثَّالِث: مُحَمَّد
بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَمر فِي
بَاب حفظ الْعلم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير. السَّادِس:
عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن بن سعد الْأَنْصَارِيَّة
الثِّقَة الْحجَّة العالمة، مَاتَت سنة ثَمَان وَتِسْعين.
السَّابِع: عَائِشَة الصديقة، رَضِي الله عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون،
وَفِي رِوَايَة ابْن شهَاب: عَن عُرْوَة وَعَن عمْرَة،
بواو الْعَطف كِلَاهُمَا عَن عَائِشَة، كَذَا هُوَ فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت
وَابْن عَسَاكِر: عَن عُرْوَة عَن عمْرَة عَن عَائِشَة،
بِحَذْف الْوَاو، وَالْمَحْفُوظ إِثْبَات الْوَاو، وَأَن
ابْن شهَاب رَوَاهُ عَن شيخين: عُرْوَة وَعمرَة كِلَاهُمَا
عَن عَائِشَة. وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره من
طرق عَن ابْن أبي ذِئْب. وَكَذَا أخرجه من طَرِيق عَمْرو
بن الْحَارِث وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ
كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ وَعَن عُرْوَة وَعمرَة.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق
(3/310)
اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة
وَحده، وَكَذَا من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد، وَأَبُو
دَاوُد من طَرِيق يُونُس، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ عَن
عمْرَة وَحدهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ صَحِيح من
رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عمْرَة جَمِيعًا.
ذكر من أخرجه غَيره: قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا
حَدِيث أخرجه السِّتَّة فِي كتبهمْ. قلت: أخرجه مُسلم فِي
الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن يزِيد بن خَالِد بن موهب، ثَلَاثَتهمْ
عَن لَيْث بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ
جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيّ: عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة وَعمرَة عَن
عَائِشَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن عَطاء عَن
مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمسَيبِي عَن أَبِيه عَن ابْن أبي
ذِئْب بِهِ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة اللؤْلُؤِي عَن أبي
دَاوُد. وَقَالَ أَبُو الْحسن بن العَبْد وَأَبُو بكر بن
داسة وَغير وَاحِد عَن أبي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَن
عُرْوَة وَعَن عمْرَة عَن عَائِشَة.
ذكر مَا فِيهِ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ من الْفَوَائِد:
قَوْلهَا: (أَن أم حَبِيبَة) هِيَ: بنت جحش أُخْت زَيْنَب
أم الْمُؤمنِينَ، وَهِي مَشْهُورَة بكنيتها. وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ وَالْحَرْبِيّ: اسْمهَا حَبِيبَة، وكنيتها أم
حبيب بِغَيْر هَاء، وَرجحه الدَّارَقُطْنِيّ،
وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة: أم حَبِيبَة،
بِإِثْبَات الْهَاء، وَكَانَت زوج عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَمَا ثَبت عِنْد مُسلم
من رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث، وَوَقع فِي
(الْمُوَطَّأ) : عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن
زَيْنَب بنت أبي سَلمَة (أَن زَيْنَب بنت جحش الَّتِي
كَانَت تَحت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَانَت تستحاض) ،
الحَدِيث، فَقيل: هُوَ وهم، وَقيل: بل صَوَاب، وَإِن
اسْمهَا زَيْنَب وكنيتها أم حَبِيبَة. وَأما كَون اسْم
أُخْتهَا أم الْمُؤمنِينَ زَيْنَب فَإِنَّهُ لم يكن
اسْمهَا الْأَصْلِيّ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْمهَا برة
فَغَيره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَعَلَّهُ
سَمَّاهَا باسم اختها لكَون أُخْتهَا غلبت عَلَيْهَا
الكنية، فأمن اللّبْس، وَلها أُخْت أُخْرَى اسْمهَا:
حمْنَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم
وَفِي آخِره نون، وَهِي إِحْدَى المستحاضات، وَفِي كتاب
ابْن الْأَثِير: روى ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن
عمْرَة عَن عَائِشَة أَن أم حَبِيبَة أَو حبيب، وَعند ابْن
عبد الْبر: أَكْثَرهم يسقطون الْهَاء، يَقُولُونَ: أم
حبيب، وَأهل السّير يَقُولُونَ: الْمُسْتَحَاضَة حمْنَة،
وَالصَّحِيح عِنْد أهل الحَدِيث أَنَّهُمَا كَانَتَا
مستحاضتان جَمِيعًا. وَقيل: إِن زَيْنَب أَيْضا استحيضت،
وَلَا يَصح. قَوْله: (سبع سِنِين) هُوَ جمع للسّنة على
سَبِيل الشذوذ من وَجْهَيْن: الأول: أَن شَرط جمع
السَّلامَة أَن يكون مفرده مذكرا عَاقِلا، وَلَيْسَت
كَذَلِك. وَالْآخر: كسر أَوله وَالْقِيَاس فَتحه. قَوْله:
(فَأمرهَا أَن تَغْتَسِل) أَي: بِأَن تَغْتَسِل، وَأَن،
مَصْدَرِيَّة. وَالتَّقْدِير: فَأمرهَا بالاغتسال. وَفِي
رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي: [حم (فَأمرهَا أَن تَغْتَسِل
وَتصلي) [/ حم، ثمَّ إِن هَذَا الْأَمر بالاغتسال مُطلق
يحْتَمل الْأَمر بالاغتسال لكل صَلَاة، وَيحْتَمل
الِاغْتِسَال فِي الْجُمْلَة. وَعَن أبي دَاوُد رِوَايَة
تدل على الِاغْتِسَال لكل صَلَاة، وَهِي: حَدثنَا هناد بن
السّري عَن عَبدة عَن ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن
عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن أم حَبِيبَة بنت جحش استحيضت فِي
عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأمرهَا
بِالْغسْلِ لكل صَلَاة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رِوَايَة
ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ غلط لمخالفتها سَائِر
الرِّوَايَات عَن الزُّهْرِيّ، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال:
إِن كَانَ هَذَا مُخَالفَة التّرْك فَلَا تنَاقض، وَإِن
كَانَ هَذَا مُخَالفَة التَّعَارُض فَلَيْسَ كَذَلِك، إِذْ
الْأَكْثَر فِيهِ السُّكُوت عَن أَمر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهَا بِالْغسْلِ عِنْد كل صَلَاة، وَفِي
بَعْضهَا أَنَّهَا فعلته هِيَ. قلت: قد تَابع ابْن
إِسْحَاق سُلَيْمَان بن كثير، قَالَ أَبُو دَاوُد:
وَرَوَاهُ أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ وَلم أسمعهُ
مِنْهُ، عَن سُلَيْمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ عَن
عُرْوَة عَن عَائِشَة: (استحيضت زَيْنَب بنت جحش، فَقَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اغْتَسِلِي لكل صَلَاة)
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ عبد الصَّمد عَن سُلَيْمَان
بن كثير، قَالَ: (توضئي لكل صَلَاة) ، ثمَّ قَالَ أَبُو
دَاوُد: وَهَذَا وهم من عبد الصَّمد، وَالْقَوْل فِيهِ
قَول أبي الْوَلِيد، يَعْنِي قَوْله: توضئي لكل صَلَاة،
وهم من عبد الصَّمد. قلت: ذكر هَذَا فِي حَدِيث حَمَّاد
أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة. وَقَالَ مُسلم فِي
(صَحِيحه) : وَفِي حَدِيث حَمَّاد بن زيد حرف تَرَكْنَاهُ،
وَهِي: (توضئي لكل صَلَاة) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: وأسقطها
مُسلم لِأَنَّهَا مِمَّا انْفَرد بِهِ حَمَّاد. قُلْنَا:
لم ينْفَرد بِهِ حَمَّاد عَن هِشَام، بل رَوَاهُ عَنهُ
أَبُو عوَانَة، أخرجه الطَّحَاوِيّ فِي كتاب (الرَّد على
الْكَرَابِيسِي) من طَرِيقه بِسَنَد جيد، وَرَوَاهُ عَنهُ
أَيْضا حَمَّاد بن سَلمَة، أخرجه الدَّارمِيّ من طَرِيقه،
وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا أَبُو حنيفَة. وَأخرجه
الطَّحَاوِيّ من طَرِيق أبي نعيم وَعبد الله بن يزِيد
الْمقري عَن أبي حنيفَة عَن هِشَام. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
وَصَححهُ من طَرِيق وَكِيع وَعَبدَة وَأبي مُعَاوِيَة عَن
هِشَام، وَقَالَ فِي آخِره: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَة فِي
حَدِيثه: (توضئي لكل صَلَاة) ، وَقد جَاءَ الْأَمر أَيْضا
بِالْوضُوءِ فِيمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب
الْمُسْتَحَاضَة إِذا كَانَت مُمَيزَة من حَدِيث مُحَمَّد
بن عمر عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت أبي
حُبَيْش إِلَى آخِره،
(3/311)
على أَن حَمَّاد بن زيد لَو انْفَرد بذلك
لَكَانَ كَافِيا لِثِقَتِهِ وَحفظه، لَا سِيمَا فِي
هِشَام، وَلَيْسَ هَذَا بمخالفة، بل زِيَادَة ثِقَة وَهِي
مَقْبُولَة لَا سِيمَا من مثله. وَفِي (التَّلْوِيح) :
وَقَوله (فَكَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة) قيل: هُوَ من
قَول الرَّاوِي وَمَعْنَاهُ: تَغْتَسِل من الدَّم الَّذِي
كَانَ يُصِيب الْفرج، إِذْ الْمَشْهُور من مَذْهَب
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَت
لَا ترى الْغسْل لكل صَلَاة، يدل على صِحَة هَذَا قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَذَا عرق) ، لِأَن دم الْعرق
لَا يُوجب غسلا.
وَقيل: إِن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ بِحَدِيث فَاطِمَة،
لِأَن عَائِشَة أفتت بِحَدِيث فَاطِمَة بعد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وخالفت حَدِيث أم حَبِيبَة، وَلِهَذَا
إِن أَبَا مُحَمَّد الأشبيلي قَالَ: حَدِيث فَاطِمَة أصح
حَدِيث يرْوى فِي الِاسْتِحَاضَة. وَقَالَ الشَّافِعِي:
إِنَّمَا أمرهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تَغْتَسِل
وَتصلي، وَإِنَّمَا كَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة تَطَوّعا.
وَكَذَا قَالَ اللَّيْث بن سعد فِي رِوَايَته عِنْد مُسلم:
لم يذكر ابْن شهَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهاأن
تَغْتَسِل لكل صَلَاة، وَلكنه شَيْء فعلته هِيَ، وَإِلَى
هَذَا ذهب الْجُمْهُور، قَالُوا: لَا يجب على
الْمُسْتَحَاضَة الْغسْل لكل صَلَاة، لَكِن يجب عَلَيْهَا
الْوضُوء إلاّ الْمُتَحَيِّرَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا
الْخَبَر مُخْتَصر لَيْسَ فِيهِ ذكر حَال هَذِه الْمَرْأَة
وَلَا بَيَان أمرهَا، وَكَيْفِيَّة شَأْنهَا، وَلَيْسَ كل
مُسْتَحَاضَة يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال لكل صَلَاة،
وَإِنَّمَا هِيَ فِيمَن تبتلى وَهِي لَا تميز دَمهَا، أَو
كَانَت لَهَا أَيَّام فنسيتها وموضعها ووقتها وعددها،
فَإِذا كَانَت كَذَلِك فَإِنَّهَا لَا تدع شَيْئا من
الصَّلَاة، وَكَانَ عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل عِنْد كل
صَلَاة، لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون ذَلِك الْوَقْت قد صَادف
زمَان انْقِطَاع دَمهَا، فالغسل عَلَيْهَا عِنْد ذَلِك
وَاجِب.
27 - (بابُ الْمَرأةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإفَاضَة)
أَي: هَذَا فِي بَيَان حكم الْمَرْأَة الَّتِي تحيض بعد
طواف الافاضة، وَهِي الَّتِي تسمى أَيْضا: طواف
الزِّيَارَة، وَهُوَ من أَرْكَان الْحَج، يَعْنِي هَل تنفر
وتترك طواف الْوَدَاع؟ فَالْجَوَاب: نعم تتْرك وتنفر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي
الْبَاب السَّابِق حكم الْمُسْتَحَاضَة، وَفِي هَذَا
الْبَاب حكم الْحَائِض، فالحيض والاستحاضة من وادٍ وَاحِد.
328 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبَرَنَا
مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ بنِ مُحَمَّدٍ بنِ
عَمْرٍ وبن حَزْمٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عنْ عائشةَ زَوْجِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم انهَا قالتْ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَا رَسُول الله إنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ
حَاضَتْ قالَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَعَلَّهَا تَحْبسِنَاألَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ
فقالُوا بَلَى قالَ فَاخْرُجِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَن صَفِيَّة
إِنَّمَا حَاضَت بعد طواف الْإِفَاضَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن يُوسُف
التنيسِي. الثَّانِي: الإِمَام مَالك بن أنس. الثَّالِث:
عبد الله بن أبي بكر الْمدنِي الْأنْصَارِيّ، قَالَ
الإِمَام أَحْمد: حَدِيثه شِفَاء مر فِي بَاب الْوضُوء
مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو بكر بن
مُحَمَّد بن عَمْرو ابْن حزم، بِفَتْح الْهَاء الْمُهْملَة
وَسُكُون الزَّاي، ولي الْقَضَاء والإمرة والموسم زمن عمر
بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مر فِي بَاب
كَيفَ يقبض الْعلم. الْخَامِس: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن،
وَهِي الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب السَّابِق، وَعمرَة
خَالَته الَّتِي تربت فِي حجر عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا. السَّادِس: عَائِشَة زوج النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف اسناده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، وَصِيغَة الْإِخْبَار كَذَلِك. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه:
أَن رُوَاته كلهم مدنيون غير عبد الله فَإِنَّهُ مصري ثمَّ
تنيسي: وَفِيه: رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين بعنعنة،
وهم مَا بَين مَالك وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن
يحيى عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحَارِث
بن مِسْكين، وَفِيه فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن
سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام: قَوْله: (إِن صَفِيَّة) ، بِفَتْح
الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف: بنت حييّ بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وباليائين
الأولى مَفْتُوحَة مُخَفّفَة، وَالثَّانيَِة مُشَدّدَة،
ابْن أَخطب، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة بعْدهَا بَاء
مُوَحدَة، النَّضْرِية، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد
الْمُعْجَمَة، من بَنَات هَارُون
(3/312)
أخي مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة
وَالسَّلَام، سباها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَام فتح خَيْبَر ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا وَجعل عتقهَا
صَدَاقهَا، رُوِيَ لَهَا عشرَة أَحَادِيث، للْبُخَارِيّ
وَاحِد مِنْهَا، مَاتَت سنة سِتِّينَ فِي خلَافَة
مُعَاوِيَة. قَالَه الواقديُّ: وَقَالَ غَيره مَاتَت فِي
خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة سِتّ
وَثَلَاثِينَ. قَوْله: (لَعَلَّهَا تحسبنا) أَي: عَن
الْخُرُوج من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة حَتَّى تطهر
وَتَطوف بِالْبَيْتِ، وَلَعَلَّ، هَهُنَا لَيست للترجي، بل
للاستفهام أَو للتردد أَو للظن وَمَا شاكله. قَوْله:
(طافت) أَي طواف الرُّكْن، وَفِي بعض النّسخ: (أفاضت) ،
أَي: طافت طواف الْإِفَاضَة، وَهُوَ طواف الرُّكْن،
لِأَنَّهُ يُسمى طواف الْإِفَاضَة وَطواف الرُّكْن وَطواف
الزِّيَارَة. قَوْله: (وَقَالُوا) ، أَي: النِّسَاء وَمن
مَعَهُنَّ من الْمَحَارِم، وَكَذَا قَالَه بَعضهم،
وَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن فِيهِ تَغْلِيب الْإِنَاث على
الذُّكُور. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي قَالَ: النَّاس،
وإلاَّ فَحق السِّيَاق أَن يُقَال: فَقُلْنَ أَو فَقُلْنَا
قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال: قَالُوا، أَي الْحَاضِرُونَ
هُنَاكَ، وَفِيهِمْ الرِّجَال وَالنِّسَاء. قَوْله: (قَالَ
فاخرجي) أَي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
أَخْرِجِي، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
بِالْإِفْرَادِ فِي الْخطاب، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (فاخرجن) ، بِصِيغَة الْجمع
للإناث. أما الْوَجْه الأول فَفِيهِ الِالْتِفَات من
الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب، يَعْنِي قَالَ لصفية مُخَاطبا
لَهَا: اخْرُجِي أَو يكون الْخطاب لعَائِشَة لِأَنَّهَا
هِيَ القائلة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن
صَفِيَّة قد حَاضَت، فَقَالَ لَهَا: اخْرُجِي فَإِنَّهَا
توافقك فِي الْخُرُوج، إِذْ لَا يجوز لَهَا تَأَخّر بعْدك،
لِأَنَّهَا قد طافت طواف الرُّكْن وَلم يبْق عَلَيْهَا
فرض. وَفِيه وَجه آخر وَهُوَ: أَن يقدر فِي الْكَلَام
شَيْء تَقْدِيره: قَالَ لعَائِشَة: قولي لَهَا اخْرُجِي.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي فعلى السِّيَاق. فَإِن قلت مَا
الْفَاء فِي قَوْله: فاخرجي؟ قلت: فِيهِ أوجه: الأول: أَن
يكون جَوَابا: لأما، مقدرَة، وَالتَّقْدِير: أما أَنْت
فاخرجي كَمَا يخرج غَيْرك. وَالثَّانِي: يجوز أَن تكون
زَائِدَة. وَالثَّالِث: يجوز أَن تكون عطفا على مُقَدّر
تَقْدِيره: إعلمي أَن مَا عَلَيْك التَّأَخُّر، فاخرجي.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح صَحِيح مُسلم) فَفِي
الحَدِيث دَلِيل لسُقُوط طواف الْوَدَاع عَن الْحَائِض،
وَأَن طواف الْإِفَاضَة ركن لَا بُد مِنْهُ، وَأَنه لَا
يسْقط عَن الْحَائِض وَلَا عَن غَيرهَا، وَأَن الْحَائِض
تقيم لَهُ حَتَّى تطهر، فَإِن ذهبت إِلَى وطنها قبل طواف
الْإِفَاضَة بقيت مُحرمَة. انْتهى. قلت: تبقى مُحرمَة أبدا
حَتَّى تَطوف فِي حق الْجِمَاع مَعَ زَوجهَا، وَأما فِي حق
غَيره فَتخرج عَن الْإِحْرَام. وَفِيه دَلِيل أَن
الْحَائِض لَا تَطوف بِالْبَيْتِ، فَإِن هجمت وطافت وَهِي
حَائِض فَفِيهِ تَفْصِيل: فَإِن كَانَت محدثة، وَكَانَ
الطّواف طواف الْقدوم، فعلَيْهَا الصَّدَقَة عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي، لَا يعْتد بِهِ، وَإِن كَانَ طواف
الرُّكْن فعلَيْهَا شَاة، وَإِن كَانَت حَائِضًا وَكَانَ
الطّواف طواف الْقدوم فعلَيْهَا شَاة، وَإِن كَانَ طواف
الرُّكْن فعلَيْهَا بَدَنَة، وَكَذَا حكم الْجنب من
الرِّجَال وَالنِّسَاء.
34 - (حَدثنَا مُعلى بن أَسد قَالَ حَدثنَا وهيب عَن عبد
الله بن طَاوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ رخص
للحائض أَن تنفر إِذا حَاضَت وَكَانَ ابْن عمر يَقُول فِي
أول أمره إِنَّهَا لَا تنفر ثمَّ سمعته يَقُول تنفر إِن
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص
لَهُنَّ) ذكر هذَيْن الأثرين عَن ابْن عَبَّاس وَعبد الله
بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم إيضاحا لِمَعْنى
الحَدِيث السَّابِق وَمعلى بِضَم الْمِيم وَتَشْديد
اللَّام ابْن أَسد مرادف اللَّيْث أَبُو الْهَيْثَم
الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ. ووهيب
تَصْغِير وهب بن خَالِد أثبت شُيُوخ الْبَصرِيين وَعبد
الله بن طَاوس مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَة قَالَ معمر مَا رَأَيْت ابْن فَقِيه مثل ابْن
طَاوس وَأَبوهُ طَاوس بن كيسَان الْيَمَانِيّ الْحِمْيَرِي
من أَبنَاء الْفرس كَانَ يعد الحَدِيث حرفا حرفا قَالَ
عَمْرو بن دِينَار لَا تحسبن أحدا أصدق لهجة مِنْهُ مَاتَ
سنة بضع عشرَة وَمِائَة قَوْله " رخص " بِلَفْظ
الْمَجْهُول والرخصة حكم يثبت على خلاف الدَّلِيل لعذر
(قلت) الرُّخْصَة حكم شرع تيسيرا لنا وَقيل هُوَ
الْمَشْرُوع لعذر مَعَ قيام الْمحرم لَوْلَا الْعذر والعذر
هُوَ وصف يطْرَأ على الْمُكَلف يُنَاسب التسهيل عَلَيْهِ
قَوْله " أَن تنفر " بِكَسْر الْفَاء وَضمّهَا وَالْكَسْر
أفْصح وَكلمَة أَن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل رفع لِأَنَّهُ
فَاعل نَاب عَن الْمَفْعُول وَالتَّقْدِير رخص لَهَا
النفور أَي الرُّجُوع إِلَى وطنها قَوْله " وَكَانَ ابْن
عمر يَقُول " هُوَ كَلَام طَاوس وَهُوَ دَاخل تَحت
الْإِسْنَاد الْمَذْكُور قَوْله " فِي أول أمره " يَعْنِي
قبل وُقُوفه على الحَدِيث الْمَذْكُور قَوْله " لَا تنفر "
بِمَعْنى لَا ترجع حَتَّى تَطوف طواف الْوَدَاع قَوْله "
ثمَّ سمعته " أَي قَالَ طَاوس ثمَّ سَمِعت ابْن عمر يَقُول
تنفر يَعْنِي ترجع بعد أَن
(3/313)
طَاف طواف الرُّكْن أَرَادَ أَنه رَجَعَ
عَن تِلْكَ الْفَتْوَى الَّتِي كَانَ يفتيها أَولا إِلَى
خلَافهَا قَوْله " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من كَلَام ابْن عمر فِي مقَام
التَّعْلِيل لرجوعه عَن فتواه الأولى وَذَلِكَ أَنه لما لم
يبلغهُ الحَدِيث أفتى بِاجْتِهَادِهِ ثمَّ لما بلغه رَجَعَ
عَنهُ أَو كَانَ وقف عَلَيْهِ أَولا ثمَّ نَسيَه ثمَّ لما
تذكره رَجَعَ إِلَيْهِ وَإِمَّا أَنه سمع ذَلِك من
صَحَابِيّ آخر رَوَاهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرجع إِلَيْهِ قَوْله " رخص
لَهُنَّ " أَي للحائض وَإِنَّمَا جمع نظرا إِلَى الْجِنْس
28 - (بابٌ إذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْمُسْتَحَاضَة إِذا
رَأَتْ الطُّهْر بِأَن انْقَطع دَمهَا تغسل وَتصلي وَلَو
كَانَ ذَلِك الطُّهْر سَاعَة، هَذَا هُوَ الْمَعْنى
الَّذِي قَصده البُخَارِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ذكره
الْأَثر الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس على مَا يذكر الْآن،
وَقَالَ بَعضهم: أَي تميز لَهَا دم الْعرق من دم الْحيض،
فَسمى الِاسْتِحَاضَة طهرا لِأَنَّهُ كَذَلِك
بِالنِّسْبَةِ إِلَى زمن الْحيض، وَيحْتَمل أَن يُرَاد
بِهِ انْقِطَاع الدَّم، وَالْأول أوفق للسياق انْتهى. قلت:
فِيهِ خدش من وُجُوه: الأول: أَن كَلَامه يدل على أَن
دَمهَا مُسْتَمر، وَلَكِن لَهَا أَن تميز بَين دم الْعرق
وَدم الْحيض، والترجمة لَيست كَذَلِك، فَإِنَّهُ نَص
فِيهَا على الطُّهْر وَحَقِيقَته الِانْقِطَاع عَن الْحيض.
وَالثَّانِي: أَنه يَقُول: فَسمى دم الِاسْتِحَاضَة طهرا،
وَهَذَا مجَاز، وَلَا دَاعِي لَهُ وَلَا فَائِدَة.
وَالثَّالِث: أَنه يَقُول: إِن الاول أوفق للسياق، وَهَذَا
عكس مَا قَصده البُخَارِيّ، بل الأوفق للسياق مَا
ذَكرْنَاهُ.
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَوْ سَاعَةً
وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا إذَا صَلَّتْ. الصَّلاَةُ أعظَمُ
هَذَا الْأَثر طبق التَّرْجَمَة، وَمُرَاد البُخَارِيّ من
التَّرْجَمَة مَضْمُون هَذَا، وَعَن هَذَا قَالَ
الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ إِذا رَأَتْ الطُّهْر سَاعَة ثمَّ
عاودها دم فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتصلي، وَهَذَا
التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَن ابْن علية
عَن خَالِد عَن أنس بن سِيرِين عَن ابْن عَبَّاس بِهِ،
وَالْقَائِل الْمَذْكُور آنِفا كَأَنَّهُ اشْتبهَ حَيْثُ
قَالَ عقيب هَذَا الْكَلَام: وَهَذَا مُوَافق للاحتمال
الْمَذْكُور أَولا. قَوْله: (تَغْتَسِل) مَعْنَاهُ
الْمُسْتَحَاضَة إِذا رَأَتْ طهرا تَغْتَسِل وَتصلي وَلَو
كَانَ ذَاك الطُّهْر سَاعَة. وَفِي بعض النّسخ: (وَلَو
سَاعَة من نَهَار) ، وَمن هَذَا يعلم أَن أقل الطُّهْر
سَاعَة عِنْد ابْن عَبَّاس، وَعند جُمْهُور الْفُقَهَاء
أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ قَول
أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ذكر أَبُو ثَوْر أَن ذَلِك لَا
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِيمَا نعلم، وَفِي (الْمُهَذّب) :
لَا أعرف فِيهِ خلافًا. وَقَالَ الْمحَامِلِي: أقل
الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا بِالْإِجْمَاع، وَنَحْوه فِي
(التَّهْذِيب) . وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: أجمع
النَّاس على أَن أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: دَعْوَى الْإِجْمَاع غير صَحِيح،
لِأَن الْخلاف فِيهِ مَشْهُور، فَإِن أَحْمد وَإِسْحَاق
أنكرا التَّحْدِيد فِي الطُّهْر، فَقَالَ أَحْمد: الطُّهْر
بَين الحيضتين على مَا يكون، وَقَالَ إِسْحَاق توقيفهم
الطُّهْر بِخَمْسَة عشر غير صَحِيح، وَقَالَ ابْن عبد
الْبر: أما أقل الطُّهْر فقد اضْطربَ فِيهِ قَول مَالك
وَأَصْحَابه، فروى ابْن الْقَاسِم عَنهُ عشرَة أَيَّام،
وروى سَحْنُون عَنهُ ثَمَانِيَة أَيَّام، وَقَالَ عبد
الْملك بن الْمَاجشون: أقل الطُّهْر خَمْسَة أَيَّام،
وَرَوَاهُ عَن مَالك رَحمَه الله. قَوْله: (ويأتيها
زَوجهَا) أَي: يَأْتِي الْمُسْتَحَاضَة زَوجهَا يَعْنِي:
يَطَؤُهَا، وَبِه قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء وَعَامة
الْعلمَاء وَمنع من ذَلِك قوم، وَرُوِيَ ذَلِك عَن
عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت:
(الْمُسْتَحَاضَة لَا يَأْتِيهَا زَوجهَا) . وَهُوَ قَول
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحكم وَابْن سِيرِين
وَالزهْرِيّ. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: (إِنَّمَا سمعنَا
بِالرُّخْصَةِ فِي الصَّلَاة، وَحجَّة الْجَمَاعَة أَن دم
الِاسْتِحَاضَة لَيْسَ بأذى يمْنَع الصَّلَاة وَالصَّوْم،
فَوَجَبَ أَن لَا يمْنَع الْوَطْء، وروى أَبُو دَاوُد فِي
(سنَنه) من حَدِيث عِكْرِمَة، قَالَ: (كَانَت أم حَبِيبَة
تستحاض وَكَانَ زَوجهَا يَغْشَاهَا) . أَي: يُجَامِعهَا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا
عَن عِكْرِمَة عَن حمْنَة بنت جحش: (أَنَّهَا كَانَت
مُسْتَحَاضَة، وَكَانَ زَوجهَا يُجَامِعهَا) . وَقَالَ
الْحَافِظ ركن الدّين: فِي سَماع عِكْرِمَة عَن أم
حَبِيبَة وَحمْنَة نظر، وَلَيْسَ فيهمَا مَا يدل على
سَمَاعه مِنْهُمَا. قَوْله: (إِذا صلت) ، لَيْسَ لَهُ تعلق
بقوله: (ويأتيها زَوجهَا) ، بل هِيَ جملَة مُسْتَقلَّة
ابتدائية جزائية، وَفِي جوابها وَجْهَان: الأول: على قَول
الْكُوفِيّين: جوابها مَا تقدمها، وَهُوَ قَوْله:
(تَغْتَسِل وَتصلي) ، وَالتَّقْدِير على قَوْلهم:
الْمُسْتَحَاضَة إِذا صلت يَعْنِي إِذا أَرَادَت الصَّلَاة
تَغْتَسِل وَتصلي. الْوَجْه الثَّانِي: على قَول
الْبَصرِيين: إِن الْجَواب مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا صلت
تَغْتَسِل وَتصلي. قَوْله: (الصَّلَاة أعظم) جملَة من
الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، كَأَنَّهَا جَوَاب على سُؤال
مُقَدّر بِأَن يُقَال: كَيفَ يَأْتِي الْمُسْتَحَاضَة
زَوجهَا؟ فَقَالَ: الصَّلَاة أعظم، أَي: أعظم من الْوَطْء.
فَإِذا جَازَ لَهَا الصَّلَاة الَّتِي هِيَ أعظم، فالوطء
بطرِيق الأولى. وَقَالَ بَعضهم قَوْله: (الصَّلَاة
(3/314)
أعظم) الظَّاهِر أَن هَذَا بحث من
البُخَارِيّ، وَأَرَادَ بِهِ بَيَان الْمُلَازمَة أَي:
إِذا جَازَت الصَّلَاة فجواز الْوَطْء أولى. قلت: قَوْله:
وَأَرَادَ بِهِ بَيَان الْمُلَازمَة أَخذه من
الْكرْمَانِي.
331 - ح دَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ قالَ
حدَّثنا هِشَامٌ عنْ عُرْوةَ عنْ عائِشَةَ قالَتْ قالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أقْبَلتِ
الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وإذَا أدْبَرَتْ فاغْسِلِي
عَنْكِ الدَّمَ وصَلِّي.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى قَوْله:
بَاب إِذا رَأَتْ الْمُسْتَحَاضَة الطُّهْر، بَاب فِي
بَيَان حكم الِاسْتِحَاضَة إِذا رَأَتْ الطُّهْر، كَمَا
ذَكرْنَاهُ. والْحَدِيث دلّ على حكمهَا من وجوب الصَّلَاة
عَلَيْهَا عِنْد إدبار الْحيض ورؤية الطُّهْر، والْحَدِيث
مُخْتَصر من حَدِيث فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش الْمُصَرّح
فِيهِ بِأَمْر الْمُسْتَحَاضَة بِالصَّلَاةِ، وَقد تقدم
فِي بَاب الْمُسْتَحَاضَة. وَزُهَيْر فِي هَذَا
الْإِسْنَاد هُوَ: زُهَيْر بن مُعَاوِيَة. قَوْله: (فدعي)
أَي: أتركي.
29 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على النُّفَسَاء
وَبَيَان سنتها. أَي: بَيَان سنة الصَّلَاة عَلَيْهَا.
قَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ قصد
بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَن النُّفَسَاء، وَإِن كَانَت لَا
تصلي، إِن لَهَا حكم غَيرهَا من النِّسَاء، أَي: فِي
طَهَارَة الْعين لصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَلَيْهَا، قَالَ: وَفِيه رد على من زعم أَن ابْن آدم ينجس
بِالْمَوْتِ، لِأَن النُّفَسَاء جمعت الْمَوْت وَحمل
النَّجَاسَة بِالدَّمِ الملازم لَهَا، فَلَمَّا لم يَضرهَا
ذَلِك كَانَ الْمَيِّت الَّذِي لَا يسيل مِنْهُ نَجَاسَة
أولى. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: ظن الشَّارِح أَرَادَ بِهِ
ابْن بطال أَن مَقْصُود التَّرْجَمَة التَّنْبِيه على أَن
النُّفَسَاء طَاهِرَة الْعين لَا نَجِسَة، لِأَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى عَلَيْهَا، وَأوجب لَهَا
بِصَلَاتِهِ حكم الطَّهَارَة، فيقاس الْمُؤمن الطَّاهِر
مُطلقًا عَلَيْهَا فِي أَنه لَا ينجس، وَذَلِكَ كُله
أَجْنَبِي عَن مَقْصُوده. وَالله أعلم. وَإِنَّمَا قصد
أَنَّهَا، وَإِن ورد أَنَّهَا من الشُّهَدَاء، فَهِيَ
مِمَّن يصلى عَلَيْهَا كَغَيْر الشُّهَدَاء، وَقَالَ ابْن
رشيد: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن يسْتَدلّ بِلَازِم من
لَوَازِم الصَّلَاة، لِأَن الصَّلَاة اقْتَضَت أَن
الْمُسْتَقْبل فِيهَا يَنْبَغِي أَن يكون مَحْكُومًا
بِطَهَارَتِهِ، فَلَمَّا صلى عَلَيْهَا، أَي إِلَيْهَا،
لزم من ذَلِك القَوْل بِطَهَارَة عينهَا. قلت: كل هَذَا
لَا يجدي، وَالْحق أَحَق أَن يتبع، وَالصَّوَاب من القَوْل
فِي هَذَا: أَن هَذَا الْبَاب لَا دخل لَهُ فِي كتاب
الْحيض، ومورده فِي كتاب الْجَنَائِز، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ
لَهُ مُنَاسبَة أصلا بِالْبَابِ الَّذِي قبله، ورعاية
الْمُنَاسبَة بَين الْأَبْوَاب مَطْلُوبَة، وَقَول ابْن
بطال: إِن حكم النُّفَسَاء مثل حكم غَيرهَا من النِّسَاء
فِي طَهَارَة الْعين لصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَلَيْهَا مسَلَّم، وَلكنه لَا يلائم حَدِيث
الْبَاب، فَإِن حَدِيث الْبَاب فِي أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلى على النُّفَسَاء، وَقَامَ فِي وَسطهَا،
وَلَيْسَ لهَذَا دخل فِي كتاب الْحيض. وَقَول ابْن
الْمُنِير، أبعد من هَذَا، لِأَن مَظَنَّة مَا ذكره فِي
بَاب الشَّهِيد، وَلَيْسَ لَهُ دخل فِي كتاب الْحيض.
وَقَول ابْن رشيد أبعد من الْكل، لِأَنَّهُ ارْتكب أمورا
غير موجهة. الأول: أَنه شَرط أَن يكون الْمُسْتَقْبل فِي
الصَّلَاة طَاهِرا، فَهَذَا فرض أَو وَاجِب أَو سنة أَو
مُسْتَحبّ؟ . وَالثَّانِي: ارْتكب مجَازًا من غير دَاع
إِلَى ذَلِك. وَالثَّالِث: ادّعى الْمُلَازمَة، وَهِي غير
صَحِيحَة على مَا لَا يخفى على المتأمل.
36 - (حَدثنَا أَحْمد بن أبي سُرَيج قَالَ أخبرنَا شَبابَة
قَالَ أخبرنَا شُعْبَة عَن حُسَيْن الْمعلم عَن ابْن
بُرَيْدَة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب أَن امْرَأَة مَاتَت فِي
بطن فصلى عَلَيْهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقَامَ وَسطهَا) مُطَابقَة الحَدِيث
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة مَعَ وضع التَّرْجَمَة فِي غير
موضعهَا كَمَا ذكرنَا. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول
أَحْمد ابْن أبي سُرَيج أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ انْفَرد
البُخَارِيّ بالرواية عَنهُ وَأَبُو سُرَيج اسْمه الصَّباح
وَهُوَ بِضَم السِّين الْمُهْملَة وبالجيم الثَّانِي
شَبابَة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الباءين
الموحدتين ابْن سوار بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة
وَتَشْديد الْوَاو بالراء الْفَزارِيّ بِفَتْح الْفَاء
وَتَخْفِيف الزَّاي المدايني وَأَصله من خُرَاسَان مَاتَ
سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الرَّابِع حُسَيْن الْمعلم بِكَسْر اللَّام الْمكتب مر فِي
بَاب من الْإِيمَان أَن يحب لِأَخِيهِ. الْخَامِس عبد الله
بن بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة
(3/315)
وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة ابْن الْحصيب بِضَم الْحَاء
وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة الْأَسْلَمِيّ
الْمروزِي التَّابِعِيّ الْمَشْهُور وَقَالَ الغساني قد
صحف بَعضهم فَقَالَ هُوَ خصيب بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
الْمَفْتُوحَة. السَّادِس سَمُرَة بن جُنْدُب بِضَم
الْجِيم وَفتح الدَّال وَضمّهَا ابْن هِلَال الْفَزارِيّ
روى لَهُ مائَة حَدِيث وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا
للْبُخَارِيّ مِنْهَا أَرْبَعَة وَكَانَ زِيَاد
اسْتَخْلَفَهُ على الْكُوفَة سِتَّة أشهر وعَلى الْبَصْرَة
سِتَّة أشهر مَاتَ سنة تسع وَخمسين قَالَ الغساني
وَمِنْهُم من يَقُول سَمُرَة بِسُكُون الْمِيم تَخْفِيفًا
نَحْو عضد فِي عضد وَهِي لُغَة أهل الْحجاز وَبَنُو تَمِيم
يَقُولُونَ بضَمهَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه الْأَخْبَار
بِصِيغَة الْجمع فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِيه العنعنة فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين رازي
ومدائني وبصري ومروزي (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه
غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن
مُسَدّد وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن يحيى
وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن ابْن
الْمثنى وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ وَعَن
حميد بن مسْعدَة وَعَن سُوَيْد بن نصر وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي أُسَامَة عَن
الْحُسَيْن بن ذكْوَان بِهِ (ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ)
قَوْله " إِن امْرَأَة " هِيَ أم كَعْب سَمَّاهَا مُسلم
فِي رِوَايَة من طَرِيق عبد الْوَارِث عَن حُسَيْن الْمعلم
وَذكر أَبُو نعيم فِي الصَّحَابَة أَنَّهَا أنصارية قَوْله
" مَاتَت فِي بطن " كلمة فِيهَا هُنَا للتَّعْلِيل كَمَا
فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن
امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها " وكما فِي قَوْله
تَعَالَى {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} وَالْمعْنَى مَاتَت
لأجل مرض بطن كالاستسقاء وَنَحْوه وَلَكِن قَالَ ابْن
الْأَثِير الْأَظْهر هَهُنَا أَنَّهَا مَاتَت فِي نِفَاس
لِأَن البُخَارِيّ ترْجم عَلَيْهِ بقوله بَاب الصَّلَاة
على النُّفَسَاء وَقَالَ الْكرْمَانِي قَالَ التَّيْمِيّ
قيل وهم البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة حَيْثُ ظن أَن
المُرَاد بقوله " مَاتَت فِي بطن " مَاتَت فِي الْولادَة
فَوضع الْبَاب على بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء وَمعنى
مَاتَت فِي بطن مَاتَت مبطونة روى ذَلِك مُبينًا من غير
هَذَا الْوَجْه ثمَّ قَالَ أَقُول لَيْسَ وهما لِأَنَّهُ
قد جَاءَ صَرِيحًا فِي بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء
إِذا مَاتَت فِي نفَاسهَا فِي كتاب الْجَنَائِز وَفِي بَاب
أَيْن يقوم الإِمَام من الْمَرْأَة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب
قَالَ " صليت وَرَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - على امْرَأَة مَاتَت فِي نفَاسهَا فَقَامَ
عَلَيْهَا وَسطهَا " فالترجمة صَحِيحَة والموهم واهم
انْتهى وَقَالَ بَعضهم قَوْله " مَاتَت فِي بطن " أَي
بِسَبَب بطن يَعْنِي الْحمل ثمَّ قَالَ مَا قَالَه
التَّيْمِيّ ثمَّ أجَاب عَنهُ بِمَا أجَاب بِهِ
الْكرْمَانِي وَنسب الْجَواب إِلَى نَفسه بقوله قلت بل
الموهم لَهُ واهم إِلَى آخر مَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت
لقَائِل أَن يَقُول لم لَا يجوز أَن يكون من سَمُرَة
حديثان أَحدهمَا فِي الَّتِي مَاتَت فِي بطن وَالْآخر فِي
الَّتِي مَاتَت فِي نفَاسهَا وَيكون الْوَهم فِي
اسْتِعْمَال معنى الحَدِيث الثَّانِي الَّذِي فِيهِ
التَّصْرِيح بالنفاس فِي معنى الحَدِيث الأول الَّذِي
فِيهِ التَّصْرِيح بالبطن قَوْله " فَقَامَ وَسطهَا "
يَعْنِي قَامَ محاذيا لوسطها قد ذكرنَا الْفرق بَين الْوسط
بِالسُّكُونِ وَبَين الْوسط بِالتَّحْرِيكِ وَجَاء هَهُنَا
كِلَاهُمَا وَضَبطه ابْن التِّين بِفَتْح السِّين وَضَبطه
غَيره بِالسُّكُونِ وَفِيه رِوَايَة الْكشميهني " فَقَامَ
عِنْد وَسطهَا " فَمن اخْتَار الْفَتْح يَقُول أَنه اسْم
وَمن اخْتَار السّكُون يَقُول أَنه ظرف وَلَا يُقَال
بِالسُّكُونِ إِلَّا فِي متفرق الْأَجْزَاء كالناس
وَالدَّوَاب وبالفتح فِيمَا كَانَ مُتَّصِل الْأَجْزَاء
كَالدَّارِ (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ أَن الإِمَام
يقوم من الْمَرْأَة بحذاء وَسطهَا قَالَ الْخطابِيّ
اخْتلفُوا فِي موقف الإِمَام من الْجِنَازَة فَقَالَ
أَحْمد يقوم من الْمَرْأَة بحذاء وَسطهَا وَمن الرجل بحذاء
صَدره وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي يقوم مِنْهُمَا بحذاء
الصَّدْر وَفِي الْمُغنِي لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي أَن
السّنة أَن يقوم الإِمَام فِي صَلَاة الْجِنَازَة عِنْد
صدر الرجل وَعند مَنْكِبَيْه وحذاء وسط الْمَرْأَة وروى
حَرْب عَن ابْن حَنْبَل كَقَوْل أبي حنيفَة فَقَالَ
رَأَيْت أَحْمد صلى على جَنَازَة فَقَامَ عِنْد صدر
الْمَرْأَة وَفِي الْمَبْسُوط وَأحسن مَوَاقِف الإِمَام من
الْمَيِّت بحذاء الصَّدْر قَالَ فِي جَوَامِع الْفِقْه
هُوَ الْمُخْتَار وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ وروى الْحسن
عَن أبي حنيفَة أَنه يقوم بحذاء وسط الْمَرْأَة وَبِه
قَالَ ابْن أبي ليلى وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَفِي
الْبَدَائِع وروى الْحسن عَنهُ فِي كتاب الصَّلَاة أَنه
يقوم بحذاء وسط الرجل وَعند رَأس الْمَرْأَة قَالَ وَهُوَ
قَول ابْن أبي ليلى وَفِي الْمَبْسُوط الصَّدْر هُوَ
الْوسط فَإِن فَوْقه يَدَيْهِ وَرَأسه وَتَحْته بَطْنه
وَرجلَيْهِ وَفِي التُّحْفَة والمفيد الْمَشْهُور من
الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل وَغَيره أَنه
يقوم من الرجل وَالْمَرْأَة
(3/316)
حذاء الصَّدْر وَعَن الْحسن بحذاء الْوسط
مِنْهُمَا إِلَّا أَنه يكون فِي الْمَرْأَة إِلَى رَأسهَا
أقرب وَعَن أبي يُوسُف أَنه يقف بحذاء الْوسط من
الْمَرْأَة وحذاء الرَّأْس من الرجل ذكره فِي الْمُفِيد
وَهُوَ رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة وَفِي ظَاهر
الرِّوَايَة قَالَا يقوم مِنْهُمَا بحذاء صدرهما وَقَالَ
مَالك يقوم من الرجل عِنْد وَسطه وَمن الْمَرْأَة عِنْد
منكبيها إِذْ الْوُقُوف عِنْد أعالي الْمَرْأَة أمثل
وَأسلم وَقَالَ أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ من الشَّافِعِيَّة
يقوم الإِمَام عِنْد صَدره وَاخْتَارَهُ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَقطع بِهِ السَّرخسِيّ قَالَ
الصيدلاني وَهُوَ اخْتِيَار أَئِمَّتنَا وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ أَصْحَابنَا البصريون يقوم عِنْد
صَدره وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَقَالَ البغداديون عِنْد
رَأسه وَقَالُوا لَيْسَ فِي ذَلِك نَص وَمِمَّنْ قَالَه
الْمحَامِلِي فِي الْمَجْمُوع والتجريد وَصَاحب الْحَاوِي
وَالْقَاضِي حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ
30 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب إِن قرىء بِالتَّنْوِينِ، وإلاَّ
فبالسكون، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد
والتركيب، وَلما كَانَ حكم الحَدِيث الَّذِي فِي هَذَا
الْبَاب خلاف حكم حَدِيث الْبَاب الَّذِي قبله، فصل
بَينهمَا بقوله: بَاب، وَلكنه مَا ترْجم لَهُ، وَهَذَا فِي
رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره لم
يذكر لفظ بَاب، بل أَدخل حَدِيث مَيْمُونَة الْآتِي فِي
الْبَاب الَّذِي قبله.
وَوجه مُنَاسبَة ذكر حَدِيث مَيْمُونَة فِيهِ هُوَ
التَّنْبِيه وَالْإِشَارَة إِلَى أَن عين الْحَائِض
وَالنُّفَسَاء طَاهِرَة، لِأَن ثوب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصِيب مَيْمُونَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، إِذا سجد وَهِي حَائِض، وَلَا يضرّهُ
ذَلِك، فَلذَلِك لم يكن يمْتَنع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
333 - حدَّثنا الْحَسَنُ بنُ مُدْرِكٍ قالَ حدَّثنَا
يَحْيَى بنُ حَمَّادٍ قالَ أخبرنَا أبُو عَوَانةَ اسْمُهُ
الوَضَّاحُ مِنْ كِتَابِهِ قالَ أخبَرنا سُلَيمانُ
الشَّيْبَانِيُّ عنْ عَبْدِ الله بنِ شَدَّادٍ قالَ
سَمِعْتُ خالَتِي مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنَّهَا كانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لاَ
تُصَلِّي وَهْيَ مُفْترِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رسولِ
اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ يُصَلِّي عَلَى
خُمْرَتِهِ إذَا سَجَدَ أصَابَنِي بَعْضُ ثَوْبِهِ..
لم يذكر تَرْجَمَة لهَذَا الحَدِيث، لِأَنَّهُ ذكر قَوْله:
بَاب، كَذَا مُجَردا، لِأَنَّهُ بِمَعْنى فصل، فَلَا
يحْتَاج إِلَى ذكر شَيْء. وَأما على الرِّوَايَة الَّتِي
لم يذكر فِيهَا لفظ بَاب فوجهه مَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
ذكر رِجَاله وهم سنة: الأول: الْحسن بن مدرك، بِضَم
الْمِيم من الْإِدْرَاك أَبُو عَليّ السدُوسِي الْحَافِظ
الطَّحَّان الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: يحيى بن حَمَّاد
الشَّيْبَانِيّ، ختن أبي عوَانَة، مَاتَ سنة خمس عشرَة
وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: أَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين
واسْمه الوضاح، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: سُلَيْمَان بن
أبي سِنَان فَيْرُوز أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ.
الْخَامِس: عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد، تقدم ذكره.
السَّادِس: مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي خَالَة عبد الله بن شَدَّاد،
لِأَن أمه سلمى بنت عُمَيْس أُخْت لميمونة لأمها، أَي:
أُخْت أَخِيهَا وَفِيه.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع
فِي مَوضِع وَاحِد، وَهُوَ قَوْله: أَبُو عوَانَة. وَفِيه:
العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه السماع. وَفِيه: أَن
رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة
البُخَارِيّ من صغَار شُيُوخه، وَهُوَ الْحسن الْمَذْكُور،
وَالْبُخَارِيّ أقدم مِنْهُ سَمَاعا. وروى البُخَارِيّ عَن
يحيى بن حَمَّاد أَيْضا شيخ الْحسن الْمَذْكُور، والنكتة
فِيهِ أَن هَذَا الحَدِيث قد فَاتَ البُخَارِيّ عَن شَيْخه
يحيى، فَرَوَاهُ عَن الْحسن لِأَنَّهُ عَارِف بِحَدِيث
يحيى بن حَمَّاد، وَفِيه: الْإِشَارَة إِلَى أَن أَبَا
عوَانَة حدث بِهَذَا الحَدِيث، من كِتَابه، تَقْوِيَة لما
رُوِيَ عَنهُ، قَالَ أَحْمد: إِذا حدث أَبُو عوَانَة من
كِتَابه فَهُوَ أثبت، وَإِذا حدث من غير كِتَابه رُبمَا
وهم، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: أَبُو عوَانَة ثِقَة، إِذا حدث
من الْكتاب، وَقَالَ ابْن مهْدي: كتاب أبي عوَانَة أثبت من
هشيم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد، وَعَن عَمْرو بن
زُرَارَة، وَعَن أبي النُّعْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد
بِهِ. وَأخرجه ابْن ماجة عَن ابْن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (أَنَّهَا) ، أَي: أَن
مَيْمُونَة. قَوْله: (كَانَت تكون) فِيهِ ثَلَاث أوجه:
أَحدهَا: أَن يكون أحد لَفْظِي الْكَوْن زَائِدا كَمَا فِي
قَول الشَّاعِر:
وجيران لنا كَانُوا كرام
فَلفظ: كَانُوا، زَائِد، و: كرام، بِالْجَرِّ صفة: لجيران.
(3/317)
الثَّانِي: أَن يكون فِي: كَانَت، ضمير
الْقِصَّة وَهُوَ اسْمهَا، وخبرها. قَوْله: (تكون
حَائِضًا) فِي مَحل النصب. الثَّالِث: أَن يكون لفظ: تكون،
بِمَعْنى: تصير، فِي مَحل النصب على أَنَّهَا إسم: كَانَت،
وَيكون الضَّمِير فِي كَانَت رَاجعا إِلَى مَيْمُونَة،
وَهُوَ اسْمهَا. وَقَوله: (حَائِضًا) يكون خبر تكون
الَّتِي بِمَعْنى: تصير. قَوْله: (لَا تصلي) جملَة
مُؤَكدَة. (لقَوْله حَائِضًا) وأعرب الْكرْمَانِي: لَا
تصلي صفة لحائضا فِي وَجه، وَفِي وَجه أعربه حَالا. وأعرب:
لَا تصلي خَبرا لكَانَتْ، وَالتَّحْقِيق مَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (وَهِي مفترشة) جملَة إسمية وَقعت حَالا، يُقَال:
افترش الشَّيْء، انبسط، وافترش ذِرَاعَيْهِ، بسطهما على
الأَرْض. قَوْله: (بحذاء) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة
وبالمد بِمَعْنى: إزاء. قَوْله: (مَسْجِد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَوضِع سُجُوده فِي بَيته،
وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْمَسْجِد الْمَعْرُوف
الْمَعْهُود. قَوْله: (على خمرته) ، بِضَم الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم: وَهِي سجادة صَغِيرَة
تعْمل من سعف النّخل، تنسج بالخيوط، وَسميت بذلك لسترها
الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ من حر الأَرْض وبردها، وَإِذا
كَانَت كَبِيرَة سميت حَصِيرا. قَوْله: (أصابني بعض
ثَوْبه) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول.
فَإِن قلت: مَا محلهَا من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب على
الْحَال، وَقد علمت أَن الْجُمْلَة الفعلية الْمَاضِيَة
المثبتة إِذا وَقعت حَالا تكون بِلَا: وَاو، فَافْهَم.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على
أَن الْحَائِض لَيست بنجسة لِأَنَّهَا لَو كَانَت نَجِسَة
لما وَقع ثَوْبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَيْمُونَة
وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَذَلِكَ النُّفَسَاء. وَمِنْهَا: أَن
الْحَائِض إِذا قربت من الْمُصَلِّي لَا يضر ذَلِك صلَاته.
وَمِنْهَا: ترك الْحَائِض الصَّلَاة. وَمِنْهَا: جَوَاز
الافتراش بحذاء الْمُصَلِّي. وَمِنْهَا: جَوَاز الصَّلَاة
على الشَّيْء الْمُتَّخذ من سعف النّخل، سَوَاء كَانَ
كَبِيرا أَو صَغِيرا، بل هَذَا أقرب إِلَى التَّوَاضُع
والمسكنة، بِخِلَاف صَلَاة المتكبرين على سجاجيد مثمنة
مُخْتَلفَة الألوان والقماش. وَمِنْهُم من ينسج لَهُ سجادة
من حَرِير، فَالصَّلَاة عَلَيْهَا مَكْرُوهَة، وَإِن كَانَ
دوس الْحَرِير جَائِزا، لِأَن فِيهِ زِيَادَة كبر وطغيان.
كمل بعون الله تَعَالَى واعانته الْجُزْء الثَّالِث من
(عُمْدَة الْقَارِي شرح صَحِيح البُخَارِيّ للامام
الْعَيْنِيّ، ويتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء
الرَّابِع ومطلعه كتاب التَّيَمُّم وفقنا الله عز وَجل
لإكماله فَإِنَّهُ ولي التَّوْفِيق
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(3/318)
|