عمدة القاري شرح صحيح البخاري

7 - (كتاب التَّيَمُّم)

الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: أَن قبله (بِسم االرحمن الرَّحِيم) فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بعده. وَتَقْدِيم الْبَسْمَلَة على الْكتاب ظَاهر للْحَدِيث الْوَارِد فِيهِ، وَأما تَأْخِيرهَا عَن الْكتاب فوجهه أَن الْكتب الَّتِي فِيهَا التراجم مثل السُّور، حَتَّى يُقَال سُورَة كَذَا وَسورَة كَذَا، والبسملة تذكر بعْدهَا على رَأس الْأَحَادِيث، كَمَا تذكر على رُؤُوس الْآيَات ويستفتتح بهَا.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْكتاب وَالْكتاب الَّذِي قبله أَن الْمَذْكُور قبله أَحْكَام الْوضُوء بِالْمَاءِ، وَالْمَذْكُور هَهُنَا التَّيَمُّم، وَهُوَ خلف عَن المَاء، فيذكر الأَصْل أَولا ثمَّ يذكر الْخلف عَقِيبه.
الثَّالِث: فِي إعرابه: وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا كتاب التَّيَمُّم، وَالْإِضَافَة فِيهِ بِمَعْنى: فِي، أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام التَّيَمُّم، وَيجوز نصب الْكتاب بعامل مُقَدّر تَقْدِيره. خُذ، أَو: هاك كتاب التَّيَمُّم.
الرَّابِع: فِي معنى التَّيَمُّم: وَهُوَ مصدر تيَمّم تيمماً من بَاب التفعل، وَأَصله من الْأُم وَهُوَ: الْقَصْد. يَقُول أمَّه يؤمه أما إِذا قَصده. وَذكر أَبُو مُحَمَّد فِي الْكتاب (الواعي) : يُقَال: أم وتأمم ويمم وَتيَمّم بِمَعْنى وَاحِد، وَالتَّيَمُّم أَصله من ذَلِك، لِأَنَّهُ يقْصد التُّرَاب فيتمسح بِهِ. وَفِي (الْجَامِع) عَن الْخَلِيل: التَّيَمُّم يجْرِي مجْرى التوخي تَقول: تيَمّم أطيب مَا عنْدك فأطعمنا مِنْهُ، أَي: توخاه. وَأَجَازَ أَن يكون التَّيَمُّم الْعمد وَالْقَصْد. وَهَذَا الِاسْم كثر حَتَّى صَار اسْما للتمسح بِالتُّرَابِ. قَالَ الْفراء: وَلم أسمع: يممت بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي (التَّهْذِيب) لأبي مَنْصُور: التَّيَمُّم التعمد، وَهُوَ مَا ذكره البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم وَابْن الْمُنْذر عَن سُفْيَان. قلت: التَّيَمُّم فِي اللُّغَة: مُطلق الْقَصْد، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني؟)

وَفِي الشَّرْع: قصد الصَّعِيد الطَّاهِر واستعماله بِصفة مَخْصُوصَة، وَهُوَ مسح الْيَدَيْنِ وَالْوَجْه لاستباحة الصَّلَاة وامتثال الْأَمر.
الْخَامِس: الأَصْل فِيهِ الْكتاب، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَالسّنة وَهِي أَحَادِيث الْبَاب وَغَيره، وَالْإِجْمَاع على جَوَازه للمحدث وَفِي الْجَنَابَة أَيْضا، وَخَالف فِيهِ عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَالْأسود كَمَا نَقله ابْن حزم، وَقد ذكرُوا رجوعهم عَن هَذَا.
السَّادِس: أَن التَّيَمُّم فَضِيلَة خصت بهَا هَذِه الْأمة دون غَيرهَا من الْأُمَم.
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمُّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكمْ مِنْهُ} (الْمَائِدَة: 6) .
وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: قَول ا، بِلَا: وَاو، فوجهه أَن يكون مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: {فَلم تَجدوا} (النِّسَاء: 36، الْمَائِدَة: 6) ، وَالْمعْنَى: قَول فِي شَأْن التَّيَمُّم هَذِه الْآيَة، وَفِي رِوَايَة غَيره؟ بواو الْعَطف على كتاب التَّيَمُّم، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان قَول الله تَعَالَى {فَلم تَجدوا} . وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو استئنافية، وَهُوَ غير صَحِيح لِأَن الِاسْتِئْنَاف جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر وَلَيْسَ لهَذَا مَحل هَهُنَا، فَإِن قَالَ: هَذَا الْقَائِل: مرادي الِاسْتِئْنَاف اللّغَوِيّ. قلت: هَذَا أَيْضا غير صَحِيح، لِأَن الِاسْتِئْنَاف فِي اللُّغَة الْإِعَادَة وَلَا مَحل لهَذَا الْمَعْنى هَهُنَا. فَافْهَم. قَوْله: (فَلم تَجدوا مَاء) الْقُرْآن هَكَذَا فِي سُورَة النِّسَاء والمائدة، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين على هَذَا وَهُوَ الصَّوَاب، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وعبدوس والحموي وَالْمُسْتَمْلِي: (فَإِن لم تَجدوا) ، وَوَقع التَّصْرِيح بِهِ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى

(4/2)


عَنْهَا، فِي قصَّتهَا الْمَذْكُورَة. قَالَ: فَأنْزل اآية التَّيَمُّم: فَإِن لم {تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَن هَذَا وهم من حَمَّاد أَو غَيره، أَو قِرَاءَة شَاذَّة لحماد. قَوْله: (صَعِيدا طيبا) أَي أَرضًا طَاهِرَة. قَالَ الْأَصْمَعِي: الصَّعِيد وَجه الأَرْض، فعيل بِمَعْنى مفعول، أَي: مصعود عَلَيْهِ. وَحَكَاهُ ابْن الْأَعرَابِي، وَكَذَلِكَ قَالَه الْخَلِيل وثعلب. وَفِي (الجمهرة) : وَهُوَ التُّرَاب الَّذِي لَا يخالطه رمل وَلَا سبخ، هَذَا قَول أبي عُبَيْدَة. وَقيل: وَهُوَ الظَّاهِر من وَجه الأَرْض. وَقَالَ الزّجاج فِي (الْمعَانِي) : الصَّعِيد وَجه الأَرْض وَلَا تبالي أَكَانَ فِي الْموضع تُرَاب أم لم يكن، لِأَن الصَّعِيد لَيْسَ اسْما للتراب، إِنَّمَا هُوَ وَجه الأَرْض تُرَابا كَانَ أَو صخراً لَا تُرَاب عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَتُصْبِح صَعِيدا زلقاً} (الْكَهْف: 04) فأعلمك أَن الصَّعِيد يكون زلقا. وَعَن قَتَادَة أَن الصَّعِيد: الأَرْض الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَلَا شجر، وَمعنى: طيبا طَاهِرا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: الطّيب النَّظِيف. وَقيل: الْحَلَال. وَقيل: الطّيب مَا تستطيبه النَّفس، وَأكْثر الْعلمَاء أَن مَعْنَاهُ: طَاهِرا قَوْله: (وَأَيْدِيكُمْ) إِلَى هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر بِدُونِ لَفْظَة: مِنْهُ. وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: مِنْهُ، وَهِي تعين آيَة الْمَائِدَة دون آيَة النِّسَاء، لِأَن آيَة النِّسَاء لَيْسَ فِيهَا: مِنْهُ، وَلَفْظَة: مِنْهُ، فِي آيَة الْمَائِدَة.

4331 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ قالَتْ خَرَجنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَعْضِ أسْفارِهِ حَتَّى إذَا كُنَّا بالْبَيْدَاءِ أوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقامَ رسولُ اللَّهِصلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى الْتماسِهِ وَأقامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ فَأَتَى النَّاسُ إِلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فقالُوا ألاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عائشَةُ أقامَتْ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلى ماءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ فَجَاءَ أبُو بَكْرٍ ورَسُولُ اللَّهِ وَاضِعٌ رَأسَهُ عَلَي فَخِذِي قَدْ نَامَ فقالَ حَبَسْتِ رسولَ الله والناسَ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ فقالَتْ عائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أبُو بَكْرٍ وقالَ مَا شاءَ اللَّهُ أنْ يقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خاصِرَتِي فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إلاَّ مَكانُ رَسولِ اللَّهِ علَى فَخِذِي فَقَامَ رَسولُ اللَّهِ حِينَ أصبْحَ عَلَى غَيْرِ ماءٍ فأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فتيَمَّمُوا فقالَ أسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكمْ يَا آلَ أبِي بَكْرٍ قالَتْ فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأصَبْنَا العِقْدَ تحْتَهُ. (الحَدِيث 433 أَطْرَافه فِي: 633، 2763، 3773، 3854، 7064، 8064، 4615، 0525، 2885، 4486، 5486) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ أَشَارَ أَولا إِلَى مَشْرُوعِيَّة التَّيَمُّم بِالْكتاب، وَهُوَ الْآيَة الْمَذْكُورَة، ثمَّ بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم هُوَ بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار وَكَذَلِكَ. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل، وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عبد ابْن يُوسُف، وَفِي فضل أبي بكر، رَضِي اعنه، عَن قُتَيْبَة، وَفِي التَّفْسِير، وَفِي الْمُحَاربين عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة، أربعتهم عَن مَالك بِهِ.
ذكر لغاته: قَوْله: (بِالْبَيْدَاءِ) قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: الْبَيْدَاء أدنى إِلَى مَكَّة من ذِي الحليفة، ثمَّ قَالَ: هُوَ السَّرف الَّذِي قدّام ذِي الحليفة من طَرِيق مَكَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْبَيْدَاء، بِفَتْح الْمُوَحدَة وبالمد، وَذَات الْجَيْش، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة وبإعجام السِّين: موضعان بَين الْمَدِينَة وَمَكَّة. وَكلمَة: أَو، للشَّكّ من عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. قَوْله: (عقد لي) ، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْقَاف: وَهُوَ القلادة، وَهُوَ كل مَا يعْقد ويعلق فِي الْعُنُق. وَذكر السفاقسي أَن ثمنه كَانَ يَسِيرا. وَقيل: كَانَ ثمنه اثْنَا عشر درهما. قَوْله: (يطعنني)

(4/3)


، بِضَم الْعين، وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا هُوَ حسي. وَأما الْمَعْنَوِيّ فَيُقَال: يطعن بِالْفَتْح هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فيهمَا. وَحكي الْفَتْح فيهمَا مَعًا، كَذَا فِي (الْمطَالع) وَحكى صَاحب (الْجَامِع) الضَّم فيهمَا. قَوْله: (فِي خاصرتي) ، وَهِي الشاكلة. قَوْله: (بركتكم) ، الْبركَة: كَثْرَة الْخَيْر. قَوْله: (يَا آل أبي بكر) لفظ: آل، مقحمة وَأَرَادَ بِهِ: أَبَا بكر نَفسه وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ أَبَا بكر وَأَهله وَأَتْبَاعه، والآل: يسْتَعْمل فِي الْأَشْرَاف بِخِلَاف الْأَهْل. وَلَا يرد {أَدخِلوا آل فِرْعَوْن} (غَافِر: 64) لِأَنَّهُ بِحَسب تصَوره ذكر ذَلِك أَو بطرق التهكم، وَيجوز فِيهِ: يال أبي بكر، بِحَذْف الْهمزَة للتَّخْفِيف.
ذكر مَعَانِيه: قَوْله: (فِي بعض أَسْفَاره) قَالَ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) يُقَال: إِنَّه كَانَ فِي غَزْوَة بني المصطلق، وَجزم بذلك فِي كتاب (الاستذكار) ، وَورد ذَلِك عَن ابْن سعد وَابْن حبَان قبله، وغزوة بني المصطلق هِيَ: غَزْوَة الْمُريْسِيع الَّتِي كَانَ فِيهَا قصَّة الْإِفْك. قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي حَدِيث الْإِفْك: (فَانْقَطع عقدٌ لَهَا من جزع ظفار، فحبس النَّاس ابتغاؤه) . وَقَالَ ابْن سعد: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمُريْسِيع يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلتين خلتا من شهر شعْبَان سنة خمس) ، وَرجحه أَبُو عبد افي (الإكليل) وَقَالَ البُخَارِيّ: عَن ابْن إِسْحَاق سنة سِتّ، وَقَالَ عَن مُوسَى بن عقبَة سنة أَربع، وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن ابْن حبيب قَالَ: سقط عقدهَا فِي السّنة الرَّابِعَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَفِي غَزْوَة بني المصطلق قصَّة الْإِفْك. قلت: يُعَارض هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَن الْإِفْك قبل التَّيَمُّم، فَقَالَ: حدّثنا الْقَاسِم عَن حَمَّاد. حدّثنا مُحَمَّد بن حميد الرَّازِيّ حدّثنا سَلمَة بن الْفضل وَإِبْرَاهِيم بن الْمُخْتَار عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يحيى بن عباد عَن عبد ابْن الزبير عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: (لما كَانَ من أَمر عقدي مَا كَانَ، وَقَالَ أهل الْإِفْك مَا قَالُوا، خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة أُخْرَى، فَسقط أَيْضا عقدي حَتَّى حبس النَّاس على التماسه، وطلع الْفجْر، فَلَقِيت من أبي بكر مَا شَاءَ ا، وَقَالَ: يَا بنية فِي كل سفر تكونين عناء وبلاء؟ لَيْسَ مَعَ النَّاس مَاء فَأنْزل االرخصة فِي التَّيَمُّم. فَقَالَ أَبُو بكر: إِنَّك مَا عملت لمباركة) .
قلت: إِسْنَاده جيد حسن، وَادّعى بَعضهم تعدد السّفر بِرِوَايَة الطَّبَرَانِيّ هَذِه، ثمَّ إِن بعض الْمُتَأَخِّرين استبعد سُقُوط العقد فِي الْمُريْسِيع. قَالَ: لِأَن الْمُريْسِيع من نَاحيَة مَكَّة بَين قديد والساحل، وَهَذِه الْقِصَّة كَانَت من نَاحيَة خَيْبَر، لقولها فِي الحَدِيث: (حَتَّى إِذا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَو بِذَات الْجَيْش) ، وهما بَين الْمَدِينَة وخيبر، كَمَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ، وَيرد هَذَا مَا ذَكرْنَاهُ عَن أبي عبيد فِي فصل اللّعان، وَجزم أَيْضا ابْن التِّين أَن الْبَيْدَاء هِيَ ذُو الحليفة، وَقَالَ أَبُو عبيد أَيْضا: إِن ذَات الْجَيْش من الْمَدِينَة على بريد، قَالَ: وَبَينهَا وَبَين العقيق سَبْعَة أَمْيَال، والعقيق من طَرِيق مَكَّة لَا من طَرِيق خَيْبَر. وَيُؤَيّد هَذَا أَيْضا مَا رَوَاهُ الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان: حدّثنا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: فِيهِ أَن القلادة سَقَطت لَيْلَة الْأَبْوَاء. انْتهى. والأبواء بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَفِي رِوَايَة عَليّ بن مسْهر فِي هَذَا الحَدِيث، عَن هِشَام قَالَ: وَكَانَ ذَلِك الْمَكَان يَقُول لَهُ: الصلصل: رَوَاهُ جَعْفَر الْفرْيَابِيّ فِي كتاب الطَّهَارَة لَهُ، وَابْن عبد الْبر من طَرِيقه، والصلصل. بصادين مهملتين ولامين أولاهما سَاكِنة. قَالَ الْبكْرِيّ: هُوَ جبل عِنْد ذِي الحليفة. وَذكره فِي حرف الصَّاد الْمُهْملَة، وَوهم فِيهِ صَاحب (التَّلْوِيح) مغلطاي، فَزعم أَنه بالضاد الْمُعْجَمَة، وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) ابْن الملقن، وَقَالَ صَاحب (الْعباب) : الصلصل مَوضِع على طَرِيق الْمَدِينَة، وصلصل مَاء قريب من الْيَمَامَة لبني العجلان، وصلصل مَاء فِي جَوف هضبة جراء، ودارة صلصل لبني عَمْرو بن كلاب، وَهِي بِأَعْلَى دارها، ذكر ذَلِك كُله فِي الصَّاد الْمُهْملَة. وَقَالَ فِي (الْمُعْجَمَة) : الضلضلة مَوضِع.
قَوْله: (على التماسه) أَي: لأجل طلبه. قَوْله: (وَلَيْسَ مَعَهم مَاء) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَسَقَطت الْجُمْلَة الثَّانِيَة فِي الْموضع الأول فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَوْله: (مَا صنعت عَائِشَة) أَي: من إِقَامَة رَسُول ا، وَالنَّاس اسندوا الْفِعْل إِلَيْهَا لِأَنَّهُ كَانَ بِسَبَبِهَا. قَوْلهَا: (فعاتبني أَبُو بكر وَقَالَ مَا شَاءَ اأن يَقُول) . وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (فَقَالَ: حبست النَّاس فِي قلادة) أَي: لأَجلهَا. فَإِن قلت: لم تقل عَائِشَة: أبي، بل سمته باسمه. قلت: مقَام الْأُبُوَّة لما كَانَ يَقْتَضِي الحنو والشفقة، وعاتبها أَبُو بكر صَار مغايراً لذَلِك، فَلذَلِك أنزلته بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ، فَلم تقل: أبي. قَوْله: (فَقَامَ رَسُول الله حِين أصبح) وَفِي رِوَايَة: (فَنَامَ حَتَّى أصبح) ، وَالْمعْنَى فيهمَا مُتَقَارب، لِأَن كلاَّ مِنْهُمَا يدل على أَن قِيَامه من نَومه كَانَ عِنْد الصُّبْح. وَيُقَال: لَيْسَ المُرَاد بقوله (حَتَّى أصبح) بَيَان غَايَة النّوم إِلَى الصَّباح، بل بَيَان غَايَة فقد المَاء إِلَى الصَّباح، لِأَنَّهُ قيد قَوْله: (حِين أصبح) بقوله (على غير مَاء) أَي: آل أمره إِلَى الصُّبْح على غير مَاء (قلت) قَوْله: على غير مَاء مُتَعَلق بقام وَأصْبح على طَريقَة بقوله تنَازع العاملين. وَأصْبح، بِمَعْنى: دخل فِي الصَّباح، وَهِي تَامَّة فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر. قَوْله: (فَأنْزل اآية التَّيَمُّم) قَالَ ابْن

(4/4)


الْعَرَبِيّ: هَذِه معضلة مَا وجدت لدائها من دَوَاء، لأَنا لَا نعلم أَي الْآيَتَيْنِ عنت عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. وَقَالَ ابْن بطال: هِيَ أَيَّة النِّسَاء وَآيَة الْمَائِدَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هِيَ آيَة النِّسَاء. لِأَن آيَة الْمَائِدَة تسمى: آيَة الْوضُوء، وَلَيْسَ فِي آيَة النِّسَاء ذكر الْوضُوء، وَأورد الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) هَذَا الحَدِيث عِنْد ذكر آيَة النِّسَاء أَيْضا. وَقَالَ السفاقسي، كلَاما طَويلا ملخصه: أَن الْوضُوء كَانَ لَازِما لَهُم، وَآيَة التَّيَمُّم، أما الْمَائِدَة أَو النِّسَاء، وهما مدنيتان، وَلم يكن صَلَاة قبلُ إلاَّ بِوضُوء، فَلَمَّا نزلت آيَة التَّيَمُّم لم يذكر الْوضُوء لكَونه مُتَقَدما متلواً، لِأَن حكم التَّيَمُّم هُوَ الطارىء على الْوضُوء.
وَقيل: يحْتَمل أَن يكون نزل أَولا أول الْآيَة، وَهُوَ فرض الْوضُوء، ثمَّ نزلت عِنْد هَذِه الْوَاقِعَة آيَة التَّيَمُّم وَهُوَ تَمام الْآيَة وَهُوَ: {وَإِن كُنْتُم مرضى} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَيحْتَمل أَن يكون الْوضُوء كَانَ بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ، ثمَّ أنزلا مَعًا، فعبرته عَائِشَة بِالتَّيَمُّمِ إِذْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُود. قلت: لَو وقف هَؤُلَاءِ على مَا ذكره أَبُو بكر الْحميدِي فِي جمعه فِي حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} (الْمَائِدَة: 6) الْآيَة إِلَى قَوْله: {لَعَلَّكُمْ تشكرون} (الْمَائِدَة: 6) لما احتاجوا إِلَى هَذَا التخرص، وَكَأن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى هَذَا إِذْ تَلا بَقِيَّة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة. قَوْله: (فَتَيَمَّمُوا) صِيغَة الْمَاضِي، أَي: فَتَيَمم النَّاس بعد نزُول الْآيَة وَهِي. قَوْله: (فَلم تَجدوا مَاء) وَالظَّاهِر أَنه صِيغَة الْأَمر على مَا هُوَ لفظ الْقُرْآن ذكره بَيَانا أَو بَدَلا عَن آيَة التَّيَمُّم، أَي: أنزل اتعالى: {فَتَيَمَّمُوا} (الْمَائِدَة: 6 النِّسَاء: 36) .
قَوْله: (فَقَالَ أسيد بن الْحضير) ، بِضَم الْهمزَة: مصغر أَسد، والحضير، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا بالنُّون، قَالَ: وَفِي بَعْضهَا: الْحضير، بِالْألف وَاللَّام. وَهُوَ نَحْو: الْحَارِث، من الْأَعْلَام الَّتِي تدْخلهَا لَام التَّعْرِيف جَوَازًا. قلت: إِنَّمَا يدْخلُونَهَا للمح الوصفية، وَأسيد بن حضير بن شمال الأوسي الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي، أَبُو يحيى، أحد النُّقَبَاء لَيْلَة الْعقبَة الثَّانِيَة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة عشْرين، وَحمل عمر، رَضِي اعنه، جنَازَته من حملهَا وَصلى عَلَيْهِ وَدفن بِالبَقِيعِ. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة عبد ابْن نمير عَن هِشَام: (فَبعث رجلا فَوَجَدَهَا) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: (فَبَعَثنَا الْبَعِير فأصبنا العقد) ، وَبَينهمَا تضَاد. قلت: قَالَ الْمُهلب: لَيْسَ بَينهمَا تنَاقض، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الْمَبْعُوث هُوَ أسيد بن حضير فَوَجَدَهَا بعد رُجُوعه من طلبَهَا، وَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي وجدهَا عِنْد إثارة الْبَعِير بعد انصراف المبعوثين إِلَيْهَا، فَلَا يكون بَينهمَا تعَارض. انْتهى. قلت: هما وَاقِعَتَانِ كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الرِّوَايَة الأولى: (عقد) ، وَفِي الْأُخْرَى: (قلادة) ، فَلَا تعَارض حينئذٍ، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: بعث رجلا، يَعْنِي أَمِيرا على جمَاعَة كعادته، فَعبر بعض الروَاة: بأناس، يَعْنِي أسيداً وَأَصْحَابه. وَبَعْضهمْ: برجلاً، يَعْنِي الْمشَار إِلَيْهِ، أَو يكون قَوْلهَا، فَوَجَدَهُ، تَعْنِي بذلك النَّبِي، لَا الرجل الْمَبْعُوث.
فَإِن قلت: مَا معنى قَول أسيد مَا قَالَه دون غَيره؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ رَأس المبعوثين فِي طلب العقد الَّذِي ضَاعَ. قَوْله: (مَا هِيَ بِأول بركتكم) أَي: لَيْسَ هَذِه الْبركَة أول بركتكم، بل هِيَ مسبوقة بغَيْرهَا من البركات، والقرينة الحالية والمقالية تدلان على أَن قَوْله: (هِيَ) ، يرجع إِلَى الْبركَة وَإِن لم يمض ذكرهَا، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (لقد بَارك اللناس فِيكُم) ، وَفِي تَفْسِير إِسْحَاق البستي من طَرِيق ابْن أبي مليكَة عَنْهَا: (أَن النَّبِي، قَالَ لَهَا: مَا كَانَ أعظم بركَة قلادتك) . وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: (فوا مَا نزل بك أَمر تكرهينه إلاَّ جعل اللمسلمين خيرا) . وَفِي النِّكَاح من هَذَا الْوَجْه: (إلاَّ جعل الك مِنْهُ مخرجا، وَجعل للْمُسلمين فِيهِ بركَة) ، وَهَذَا يشْعر بِأَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت بعد قصَّة الْإِفْك، فيقوي قَول من ذهب إِلَى تعدد ضيَاع العقد، وَمِمَّنْ جزم بذلك مُحَمَّد بن حبيب الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ: (سقط عقد عَائِشَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع وَفِي غَزْوَة بني المصطلق) ، وَقد اخْتلف أهل الْمَغَازِي فِي أَي هَاتين الغزوتين كَانَت أول، فَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَت قصَّة التَّيَمُّم فِي غَزْوَة الْفَتْح، ثمَّ تردد فِي ذَلِك، وَقد روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي اعنه، قَالَ: (لما نزلت آيَة التَّيَمُّم لم أدرِ كَيفَ أصنع) . الحَدِيث، فَهَذَا يدل على تأخرها عَن غَزْوَة بني المصطلق. لِأَن إِسْلَام أبي هُرَيْرَة كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة، وَهِي بعْدهَا بِلَا خلاف، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، إِن شَاءَ اتعالى، أَن البُخَارِيّ يرى أَن غَزْوَة ذَات الرّقاع كَانَت بعد قدوم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وقدومه كَانَ وَقت إِسْلَام أبي هُرَيْرَة. وَمِمَّا يدل على تَأَخّر الْقِصَّة أَيْضا عَن قصَّة الْإِفْك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عباد بن عبد ابْن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. وَتقدم ذكره عَن قريب.
قَوْله: (فَبَعَثنَا الْبَعِير) أَي: أثرنا الْبَعِير الَّذِي كنت عَلَيْهِ حَالَة

(4/5)


السّير. قَوْله: (فأصبنا) أَي: وجدنَا، وَهَذَا يدل على أَن الَّذين توجهوا فِي طلبه أَولا لم يجدوه. فَإِن قلت: وَفِي رِوَايَة عُرْوَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: (فَبعث رَسُول ا، رجلا فَوَجَدَهَا) . أَي: القلادة. وللبخاري فِي فضل عَائِشَة من هَذَا الْوَجْه، وَكَذَا لمُسلم: (فَبعث نَاسا من الصَّحَابَة فِي طلبَهَا) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد (فَبعث أسيد بن حضير وناساً مَعَه) . قلت: الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات أَن أسيداً كَانَ رَأس من بعث لذَلِك، كَمَا ذكرنَا، فَلذَلِك سمي فِي بعض الرِّوَايَات دون غَيره، وَكَذَا أسْند الْفِعْل إِلَى وَاحِد مِنْهُم. وَهُوَ المُرَاد بِهِ، وَكَأَنَّهُم لم يَجدوا العقد أَولا، فَلَمَّا رجعُوا وَنزلت آيَة التَّيَمُّم، وَأَرَادُوا الرحيل وآثاروا الْبَعِير وجده أسيد بن حضير، فعلى هَذَا فَقَوله فِي رِوَايَة عُرْوَة الْآتِيَة: فَوَجَدَهَا أَي: بعد جَمِيع مَا تقدم من التفتيش وَغَيره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يكون فَاعل: وجدهَا، هُوَ النَّبِي، وَقد بَالغ الدَّاودِيّ فِي توهيم رِوَايَة عُرْوَة، وَنقل عَن إِسْمَاعِيل القَاضِي أَنه حمل الْوَهم فِيهَا على عبد ابْن نمير، وَقد بَان بذلك أَن لَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا وهم. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (سَقَطت قلادة لي) ، وَفِي رِوَايَة عُرْوَة الْآتِيَة عَنْهَا: أَنَّهَا استعارت قلادة من أَسمَاء يَعْنِي أُخْتهَا فَهَلَكت، أَي: ضَاعَت، فَكيف التَّوْفِيق هَهُنَا؟ قلت: إِضَافَة القلادة إِلَى عَائِشَة لكَونهَا فِي يَدهَا وتصرفها، وَإِلَى أَسمَاء لكَونهَا ملكهَا لتصريح عَائِشَة بذلك فِي رِوَايَة عُرْوَة الْمَذْكُورَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام الأول: أَن بَعضهم اسْتدلَّ مِنْهُ على جَوَاز الْإِقَامَة فِي الْمَكَان الَّذِي لَا مَاء فِيهِ، وسلوك الطَّرِيق الَّذِي لَا مَاء فِيهَا، وَفِيه نظر، لِأَن الْمَدِينَة كَانَت قريبَة مِنْهُم وهم على قصد دُخُولهَا، وَيحْتَمل أَن النَّبِي لم يعلم بِعَدَمِ المَاء مَعَ الركب، وَإِن كَانَ قد علم بِأَن الْمَكَان لَا مَاء فِيهِ، وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: (لَيْسَ مَعَهم مَاء) أَي: للْوُضُوء، وَأما مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ للشُّرْب فَيحْتَمل أَن يكون كَانَ مَعَهم.
الثَّانِي: فِيهِ شكوى الْمَرْأَة إِلَى أَبِيهَا، وَإِن كَانَ لَهَا زوج، وَإِنَّمَا شكوا إِلَى أبي بكر، رَضِي اتعالى عَنهُ، لكَون النَّبِي كَانَ نَائِما، وَكَانُوا لَا يوقظونه، كَذَا قَالُوا. قلت: يجوز أَن تكون شكواهم إِلَى أبي بكر دون النَّبِي خوفًا على خاطر النَّبِي من تغيره عَلَيْهَا.
الثَّالِث: فِيهِ نِسْبَة الْفِعْل إِلَى من كَانَ سَببا فِيهِ لقَولهم: أَلا ترى إِلَى مَا صنعت؟ يَعْنِي: عَائِشَة.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز دُخُول الرجل على ابْنَته، وَإِن كَانَ زَوجهَا عِنْدهَا إِذا علم رِضَاهُ بذلك وَلم يكن حَالَة الْمُبَاشرَة.
الْخَامِس: فِيهِ تَأْدِيب الرجل ابْنَته وَلَو كَانَت متزوجة كَبِيرَة خَارِجَة عَن بَيته، ويلتحق بذلك تَأْدِيب من لَهُ تأديبه وَإِن لم يَأْذَن لَهُ الإِمَام.
السَّادِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب الصَّبْر لمن ناله مَا يُوجب الْحَرَكَة إِذْ يحصل بِهِ التشويش لنائم، وَكَذَا الْمُصَلِّي أَو قارىء أَو مشتغل بِعلم أَو ذكر.
السَّابِع: فِيهِ الِاسْتِدْلَال على الرُّخْصَة فِي ترك التَّهَجُّد فِي السّفر إِن ثَبت أَن التَّهَجُّد كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ.
الثَّامِن: فِيهِ أَن طلب المَاء لَا يجب إلاَّ بعد دُخُول الْوَقْت، لقَوْله فِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث، بعد قَوْله: (وَحَضَرت الصَّلَاة فالتمس المَاء) .
التَّاسِع: فِيهِ دَلِيل على أَن الْوضُوء كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ قبل نزُول آيَة الْوضُوء، وَلِهَذَا استعظموا نزولهم على غير مَاء، وَوَقع من أبي بكر فِي حق عَائِشَة مَا وَقع، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْلُوم عِنْد جَمِيع أهل الْمَغَازِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصلِّ مُنْذُ فرضت عَلَيْهِ الصَّلَاة إلاَّ بِوضُوء، وَلَا يدْفع ذَلِك إلاَّ جَاهِل أَو معاند. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، مَا الْحِكْمَة فِي نزُول آيَة الْوضُوء مَعَ تقدم الْعَمَل بِهِ. قلت: ليَكُون فَرْضه متلواً بالتنزيل، وَيحْتَمل أَن يكون أول آيَة الْوضُوء نزل قَدِيما فعملوا بِهِ، ثمَّ نزلت بقيتها وَهُوَ ذكر التَّيَمُّم فِي هَذِه الْقِصَّة، فإطلاق آيَة التَّيَمُّم على هَذَا من إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض، لَكِن رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم فِي هَذَا الحَدِيث، فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} إِلَى قَوْله: {تشكرون} (الْمَائِدَة: 6) تدل على أَن الْآيَة نزلت جَمِيعهَا فِي هَذِه الْقِصَّة، وَيُقَال: كَانَ الْوضُوء بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ أَولا. ثمَّ أنزلا مَعًا، فعبرت عَائِشَة بِالتَّيَمُّمِ إِذْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُود. فَإِن قلت: ذكر الْحَافِظ فِي كتاب (الْبُرْهَان) أَن الأسلع الأعرجي الَّذِي كَانَ يرحل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا: إِنِّي جنب وَلَيْسَ عِنْدِي مَاء، فَأنْزل اآية التَّيَمُّم. قلت: هَذَا ضَعِيف، وَلَئِن صَحَّ فَجَوَابه يحْتَمل أَن يكون قَضِيَّة الأسلع وَاقعَة فِي قَضِيَّة سُقُوط العقد، لِأَنَّهُ كَانَ يخْدم النَّبِي، وَكَانَ صَاحب رَاحِلَته، فاتفق لَهُ هَذَا الْأَمر عِنْد وُقُوع قَضِيَّة سُقُوط العقد.
الْعَاشِر: فِيهِ دَلِيل على وجوب النِّيَّة فِي التَّيَمُّم، لِأَن معنى: (تيمموا) اقصدوا، وَهُوَ قَول فُقَهَاء الْأَمْصَار إلاَّ الْأَوْزَاعِيّ وَزفر.
الْحَادِي عشر: فِيهِ دَلِيل على أَنه يَسْتَوِي فِيهِ الصَّحِيح وَالْمَرِيض والمحدث وَالْجنب، وَلم يخْتَلف فِيهِ عُلَمَاء الْأَمْصَار بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام والمشرق وَالْمغْرب، وَقد كَانَ عمر بن

(4/6)


الْخطاب وَابْن مَسْعُود رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، يَقُولَانِ: الْجنب لَا يطهره إلاَّ المَاء، لقَوْله عز وَجل: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (الْمَائِدَة: 6) وَقَوله: {وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} (النِّسَاء: 34) وذهبا إِلَى أَن الْجنب لم يدْخل فِي الْمَعْنى المُرَاد بقوله: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَلم يتَعَلَّق بقولهمَا أحد من الْفُقَهَاء للأحاديث الثَّابِتَة الْوَارِدَة فِي تيَمّم الْجنب.
الثَّانِي عشر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز التَّيَمُّم فِي السّفر، وَهَذَا أَمر مجمع عَلَيْهِ، وَاخْتلفُوا فِي الْحَضَر، فَذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى أَن التَّيَمُّم فِي الْحَضَر وَالسّفر سَوَاء إِذا عدم المَاء أَو تعذر اسْتِعْمَاله لمَرض أَو خوف شَدِيد أَو خوف خُرُوج الْوَقْت، قَالَ أَبُو عمر: هَذَا كُله قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد؛ وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز للحاضر الصَّحِيح أَن يتَيَمَّم إلاَّ أَن يخَاف التّلف، وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ؛ وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَزفر: لَا يجوز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر لَا لمَرض وَلَا لخوف خُرُوج الْوَقْت. وَقَالَ الشَّافِعِي أَيْضا. وَاللَّيْث والطبري: إِذا عدم المَاء فِي الْحَضَر مَعَ خوف فَوت الْوَقْت الصَّحِيح والسقيم يتَيَمَّم وَيُصلي وَيُعِيد. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: لَا يتَيَمَّم الْمَرِيض إِذا وجد المَاء وَلَا غير الْمَرِيض. قلت: قَوْله: وَهَذَا كُله قَول أبي حنيفَة، غير صَحِيح، فَإِن عِنْده: لَا يجوز التَّيَمُّم لأجل خوف فَوت الْوَقْت.
الثَّالِث عشر: فِيهِ جَوَاز السّفر بِالنسَاء فِي الْغَزَوَات وَغَيرهَا عِنْد الْأَمْن عَلَيْهِنَّ، فَإِذا كَانَ لوَاحِد نسَاء فَلهُ أَن يُسَافر مَعَ أيتهن شَاءَ، وَيسْتَحب أَن يقرع بَينهُنَّ، فَمن خرجت قرعتها أخرجهَا مَعَه؛ وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: الْقرعَة وَاجِبَة.
الرَّابِع عشر: فِيهِ دَلِيل على حُرْمَة الْأَمْوَال الْحَلَال وَلَا يضيعها، وَإِن قلت: أَلاَ ترى أَن العقد كَانَ ثمنه اثْنَي عشر دهماً؟ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
الْخَامِس عشر: فِيهِ جَوَاز حفظ الْأَمْوَال وَإِن أدّى إِلَى عدم المَاء فِي الْوَقْت.
السَّادِس عشر: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَارَة، وَجَوَاز السّفر بالعارية عِنْد إِذن صَاحبهَا.
السَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز اتِّخَاذ النِّسَاء الْحلِيّ، وَاسْتِعْمَال القلادة تجملاً لِأَزْوَاجِهِنَّ.
الثَّامِن عشر: فِيهِ جَوَاز وضع الرجل رَأسه على فَخذ امْرَأَته.
التَّاسِع عشر: فِيهِ جَوَاز احْتِمَال الْمَشَقَّة لأجل الْمصلحَة، لقَوْل عَائِشَة رَضِي اعنها: (فَلَا يَمْنعنِي من التحرك إلاَّ مَكَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فَخذي) .
الْعشْرُونَ: فِيهِ دَلِيل على فَضِيلَة عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، وتكرر الْبركَة مِنْهَا.

533 - ح دثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ قَالَ حدّثنا هُشَيمٌ ح قالَ وحدّثني سَعيدُ بنُ النَّضْرِ قالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أخبرَنا سَيَّارٌ قَالَ حدّثنا يَزِيدُ هُوَ ابنُ صُهَيْبٍ الفَقِيرُ قالَ أخبرنَا جابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((أُعطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْر وجُعلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجداً وَطَهُوراً فَأَيُّما رَجلٍ مِنْ أمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِإَحَدٍ قَبْلِي وَأْعطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عامَّةً) . (الحَدِيث 533 طرفاه فِي: 834، 213) .

مُنَاسبَة إِيرَاد هَذَا الحَدِيث ومطابقته للتَّرْجَمَة الْمُطلقَة فِي قَوْله: (وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون: العوقي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْوَاو وبالقاف: الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ، مر فِي أول كتاب الْعلم، تفرد بِهِ البُخَارِيّ. الثَّانِي: هشيم، بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة: أَبُو مُعَاوِيَة الوَاسِطِيّ. قَالَ ابْن عون: مكث هشيم يُصَلِّي الْفجْر بِوضُوء عشَاء الْآخِرَة قبل أَن يَمُوت بِعشر سِنِين، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة بِبَغْدَاد. الثَّالِث: سعيد بن النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ بساحل جيحون. الرَّابِع: سيار، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: ابْن أبي سيار، ورد ان أَبُو الحكم، بِفَتْح الْكَاف: الوَاسِطِيّ، مَاتَ بواسط سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: يزِيد، من الزِّيَادَة: بن صُهَيْب مُصَغرًا مخففاً، الْفَقِير ضد الْغَنِيّ، أَبُو عُثْمَان الْكُوفِي، أحد مَشَايِخ الإِمَام أبي حنيفَة، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَقيل لَهُ: الْفَقِير، لِأَنَّهُ كَانَ يشكو فقار ظَهره وَلم يكن فَقِيرا من المَال. وَفِي (الْمُحكم) : رجل فَقير: مكسور

(4/7)


فقار ظَهره، وَيُقَال لَهُ: فَقير، بِالتَّشْدِيدِ أَيْضا. السَّادِس: جَابر بن عبد االأنصاري، تقدم فِي كتاب الْوَحْي.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي وبغدادي وكوفي. وَفِيه: صُورَة (ح) إِشَارَة إِلَى التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد يَعْنِي: يروي البُخَارِيّ عَن هشيم بِوَاسِطَة شَيْخه، أَحدهمَا: مُحَمَّد بن سِنَان، وَالْآخر: سعيد بن النَّضر. وَفِيه: أَن سيار، الْمَذْكُور مُتَّفق على توثيقه، وَأخرج لَهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة وَغَيرهم، وَقد أدْرك بعض الصَّحَابَة لَكِن لم يلق أحدا مِنْهُم، فَهُوَ من كبار أَتبَاع التَّابِعين، وَلَهُم شيخ آخر يُقَال لَهُ: سيار، لكنه تَابِعِيّ شَامي، أخرج لَهُ التِّرْمِذِيّ، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وَرُوِيَ: يَعْنِي حَدِيث الْبَاب عَن أبي أُمَامَة، وَلم ينْسب فِي الروَاة كَمَا لم ينْسب سيار هَذَا فِي هَذَا الحَدِيث، وَرُبمَا لم يُمَيّز بَينهمَا من لَا وقُوف لَهُ على هَذَا، فيتوهم أَن فِي الْإِسْنَاد اخْتِلَافا، وَلَيْسَ كَذَلِك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة، وَفِي الْخمس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة بِتَمَامِهِ، وَفِي الصَّلَاة بِبَعْضِه عَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ: قَوْله: (أَعْطَيْت خمْسا) أَي: خمس خِصَال، وَعند مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (فضلت على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام بست: أَعْطَيْت جَامع الْكَلم، وَختم بِي النَّبِيُّونَ) . الحَدِيث، وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث حُذَيْفَة: (فضلنَا على النَّاس بِثَلَاث: جعلت صُفُوفنَا كَصُفُوف الْمَلَائِكَة، وَجعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا، وتربتها لنا طهُورا إِذا لم نجد المَاء) . وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: (وترابها طهُورا) . وَعند النَّسَائِيّ: (وَأُوتِيت هَؤُلَاءِ الْآيَات: آخر سُورَة الْبَقَرَة، من كنز تَحت الْعَرْش لم يُعْط أحد مِنْهُ قبلي، وَلَا يعْطى مِنْهُ أحد بعدِي) . وَعند أبي مُحَمَّد بن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقى) من حَدِيث أنس رَضِي اتعالى عَنهُ: (جعلت لي كل أَرض طيبَة مَسْجِدا وَطهُورًا) . وَعَن أبي أُمَامَة أَن نَبِي الله قَالَ: (إِن اتعالى قد فضلني على الْأَنْبِيَاء أَو قَالَ: أمتِي على الْأُمَم بِأَرْبَع: جعل الأَرْض كلهَا لي ولأمتي طهُورا ومسجداً، فأينما أدْركْت الرجل من أمتِي الصَّلَاة فَعنده مَسْجده وَعِنْده طهوره، ونصرت بِالرُّعْبِ يسير بَين يَدي مسيرَة شهر يقذف فِي قُلُوب أعدائي) . الحَدِيث. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أبي دَاوُد: (وَأُوتِيت الْكَوْثَر) . وَفِي حَدِيث عَليّ عِنْد أَحْمد: (وَأعْطيت مَفَاتِيح الأَرْض، وَسميت أَحْمد، وَجعل لي التُّرَاب طهُورا، وَجعلت أمتِي خير الْأُمَم) . وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، أَنه قَالَ، ذَلِك عَام غَزْوَة تَبُوك. وَفِي حَدِيث السَّائِب ابْن أُخْت النمر: (فضلت على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام: أرْسلت إِلَى النَّاس كَافَّة، وادخرت شَفَاعَتِي لأمتي، ونصرت بِالرُّعْبِ شهرا أَمَامِي وشهراً خَلْفي، وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا. وأحلِّت لي الْغَنَائِم) . قلت: السَّائِب الْمَذْكُور هُوَ ابْن يزِيد بن سعيد الْمَعْرُوف بِابْن أُخْت نمر، قيل: إِنَّه ليثي كناني، وَقيل: أزدي، وَقيل: كندي، حَلِيف بني أُميَّة، ولد فِي السّنة الثَّانِيَة، وَخرج فِي الصّبيان إِلَى ثنية الْوَدَاع، وتلقى النَّبِي، مقدمه من تَبُوك، وَشهد حجَّة الْوَدَاع، وَذَهَبت بِهِ خَالَته وَهُوَ وجع إِلَى النَّبِي فَدَعَا لَهُ وَمسح بِرَأْسِهِ، وَقَالَ: نظرت إِلَى خَاتم النُّبُوَّة. وَفِي (تَارِيخ نيسابور) للْحَاكِم: وَأحل لي الْأَخْمَاس.
وَإِذا تَأَمَّلت وجدت هَذِه الْخِصَال اثْنَتَيْ عشرَة خصْلَة، وَيُمكن أَن تُوجد أَكثر من ذَلِك عِنْد إمعان التتبع، وَقد ذكر أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي فِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى) أَن الَّذِي اخْتصَّ بِهِ نَبينَا من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام سِتُّونَ خصْلَة. فَإِن قلت: بَين هَذِه الرِّوَايَات تعَارض، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا الْخمس والست وَالثَّلَاث؛ قلت: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يظنّ أَن هَذَا تعَارض، وَإِنَّمَا هَذَا من توهم أَن ذكر الْأَعْدَاد يدل على الْحصْر وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن من قَالَ: عِنْدِي خَمْسَة دَنَانِير مثلا، لَا يدل هَذَا اللَّفْظ على أَنه لَيْسَ عِنْده غَيرهَا، وَيجوز لَهُ أَن يَقُول مرّة أُخْرَى: عِنْدِي عشرُون، وَمرَّة أُخْرَى ثَلَاثُونَ، فَإِن من عِنْده ثَلَاثُونَ صدق عَلَيْهِ أَن عِنْده عشْرين وَعشرَة. فَلَا تعَارض وَلَا تنَاقض، وَيجوز أَن يكون الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أعلمهُ بِثَلَاث ثمَّ بِخمْس ثمَّ بست. قلت: حَاصِل هَذَا أَن التَّنْصِيص على الشَّيْء بِعَدَد لَا يدل على نفي مَا عداهُ، وَقد علم فِي مَوْضِعه.
قَوْله: (لم يُعْطهنَّ أحد قبلي) قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي: لم يجمع لأحد قبله هَذِه الْخمس، لِأَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، بعث إِلَى كَافَّة النَّاس، وَأما الْأَرْبَع فَلم يُعْط وَاحِدَة مِنْهُنَّ قبله أحدا، وَأما كَونهَا مَسْجِدا فَلم يَأْتِ أَن غَيره منع مِنْهَا، وَقد كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يسيح فِي الأَرْض وَيُصلي حَيْثُ أَدْرَكته الصَّلَاة، وَزعم بَعضهم أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، بعد خُرُوجه من السَّفِينَة، كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كل من فِي الأَرْض، لِأَنَّهُ لم يبْق إلاَّ من كَانَ مُؤمنا، وَقد كَانَ

(4/8)


مُرْسلا إِلَيْهِم. وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن هَذَا الْعُمُوم الَّذِي فِي رسَالَته لم يكن فِي أصل الْبعْثَة، وَإِنَّمَا وَقع لأجل الْحَادِث الَّذِي حدث، وَهُوَ: انحصار الْخلق فِي الْمَوْجُودين مَعَه بِهَلَاك سَائِر النَّاس، وَعُمُوم رِسَالَة نَبينَا، فِي أصل الْبعْثَة. وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَنه: كَانَ فِي الزَّمَان الأول، إِذا بعث نَبِي إِلَى قوم بعث غَيره إِلَى آخَرين، وَكَانَ يجْتَمع فِي الزَّمن الْوَاحِد جمَاعَة من الرُّسُل، فَأَما نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ انْفَرد بالبعثة، فَصَارَ بذلك للْكُلّ من غير أَن يزاحمه أحد.
فَإِن قلت: يَقُول أهل الْموقف لنوح، كَمَا صَحَّ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة: أَنْت أول رَسُول إِلَى أهل الأَرْض، فَدلَّ على أَنه كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كل من فِي الأَرْض. قلت: لَيْسَ المُرَاد بِهِ عُمُوم بعثته، بل إِثْبَات أولية إرْسَاله، وَلَئِن سلمنَا أَنه يكون مرَادا فَهُوَ مَخْصُوص بتنصيصه، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فِي عدَّة آيَات على أَن إرْسَال نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى قومه، وَلم يذكر أَنه أرسل إِلَى غَيرهم. فَإِن قلت: لَو لم يكن مَبْعُوثًا إِلَى أهل الأَرْض كلهم لما أهلكت كلهم بِالْغَرَقِ إلاَّ أهل السَّفِينَة، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} (الْإِسْرَاء: 51) . قلت: قد يجوز أَن يكون غَيره أرسل إِلَيْهِم فِي ابْتِدَاء مُدَّة نوح، وَعلم نوح، بِأَنَّهُم لم يُؤمنُوا، فَدَعَا على من لم يُؤمن من قومه وَغَيرهم. قيل: هَذَا جَوَاب حسن، وَلَكِن لم ينْقل أَنه نبىء فِي زمن غَيره. قلت: يحْتَمل أَنه قد بلغ جَمِيع النَّاس دعاؤه قومه إِلَى التَّوْحِيد فتمادوا على الشّرك فاستحقوا الْعَذَاب، وَإِلَى هَذَا ذهب يحيى بن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره سُورَة هود، قَالَ: وَغير مُمكن أَن نبوته لم تبلغ الْقَرِيب والبعيد لطول مدَّته. وَقَالَ الْقشيرِي: تَوْحِيد اتعالى يجوز أَن يكون عَاما فِي حق بعض الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِن كَانَ الْتِزَام فروع شَرعه لَيْسَ عَاما، لِأَن مِنْهُم من قَاتل غير قومه على الشّرك، وَلَو لم يكن التَّوْحِيد لَازِما لَهُم لم يقاتلهم. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ لم يكن فِي الأَرْض عِنْد إرْسَال نوح إلاَّ قوم نوح، فبعثته خَاصَّة لكَونهَا إِلَى قومه فَقَط لعدم وجود غَيرهم، لَكِن لَو اتّفق وجود غَيرهم لم يكن مَبْعُوثًا إِلَيْهِم. قلت: وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَنَّهُ تكون بعثته عَامَّة لِقَوْمِهِ لكَوْنهم هم الْمَوْجُودين، وَعِنْدِي جَوَاب آخر، وَهُوَ جيد إِن شَاءَ اتعالى، وَهُوَ أَن الطوفان لم يُرْسل إلاَّ على قومه الَّذين هُوَ فيهم، وَلم يكن عَاما.
قَوْله: (نصرت بِالرُّعْبِ) زَاد أَبُو أُمَامَة: (يقذف فِي قُلُوب أعدائي) ، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْعين: الْخَوْف. وَقَرَأَ ابْن عَامر وَالْكسَائِيّ بِضَم الْعين وَالْبَاقُونَ بسكونها، يُقَال: رعبت الرجل أرعبته رعْبًا أَي: ملأته خوفًا، وَلَا يُقَال: أرعبته، كَذَا ذكره أَبُو الْمَعَالِي. وَحكي عَن ابْن طَلْحَة: أرعبته ورعبته، فَهُوَ مرعب. وَفِي (الْمُحكم) فو رعيب، ورعبته ترعيباً وترعاباً فرعب. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: رعبته فَأَنا راعب، وَيُقَال: رعب فَهُوَ مرعوب، وَالِاسْم: الرعب بِالضَّمِّ، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: رجل رعب ومرتعب وَقد رعب ورعب. قَوْله: (مسيرَة شهر) . والنكتة فِي جعل الْغَايَة شهرا لِأَنَّهُ لم يكن بَين الْمَدِينَة وَبَين أحد من أعدائه أَكثر من شهر. قَوْله: (وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا) أَي: مَوضِع سُجُود، وَهُوَ وضع الْجَبْهَة على الأَرْض. وَلم يكن اخْتصَّ السُّجُود مِنْهَا بِموضع دون مَوضِع، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من الْمَسْجِد هُوَ الْمَسْجِد الْمَعْرُوف الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْقَوْم، فَإِذا كَانَ جَوَازهَا فِي جَمِيعهَا كَانَ الْمَسْجِد الْمَعْهُود كَذَلِك، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: من كَانَ قبله من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا أُبِيح لَهُم الصَّلَاة فِي مَوَاضِع مَخْصُوصَة: كَالْبيع وَالْكَنَائِس، وَقيل: فِي مَوضِع يتيقنون طَهَارَته من الأَرْض، وخصت هَذِه الْأمة بِجَوَاز الصَّلَاة فِي جَمِيع الأَرْض إلاَّ فِي الْمَوَاضِع المستثناة بِالشَّرْعِ، أَو مَوضِع تيقنت نَجَاسَته. فَإِن قلت: كَانَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، يسيح فِي الأَرْض وَيُصلي حَيْثُ أَدْرَكته الصَّلَاة. قلت: ذكر مَسْجِدا وَطهُورًا، وَهَذَا مُخْتَصّ بِالنَّبِيِّ حَيْثُ كَانَ يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي أَي مَوضِع أَدْرَكته الصَّلَاة فِيهِ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّم مِنْهُ، وَلم يكن لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَّا الصَّلَاة دون التَّيَمُّم.
قَوْله: (فأيما رجل) . لفظ أَي، مُبْتَدأ مُتَضَمّن لِمَعْنى الشَّرْط، وَلَفْظَة: مَا زيدت لزِيَادَة التَّعْمِيم. وَقَوله: (فَليصل) خبر الْمُبْتَدَأ، وَدخُول: الْفَاء، فِيهِ لكَون الْمُبْتَدَأ متضمناً لِمَعْنى الشَّرْط. وَقيل: مَعْنَاهُ فليتيمم ليصل ليناسب الْأَمريْنِ الْمَسْجِد وَالطهُور. قَوْله: (من أمتِي) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: كَائِن من أمتِي. وَقَوله: (أَدْرَكته الصَّلَاة) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة رجل. قَوْله: (الْغَنَائِم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (الْمَغَانِم) ، والغنائم: جَمِيع غنيمَة، وَهِي مَال حصل من الْكفَّار بِإِيجَاف خيل وركاب، والمغانم: جمع مغنم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْغَنِيمَة والمغنم بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ من تقدم على ضَرْبَيْنِ: مِنْهُم من لم يُؤذن

(4/9)


لَهُ فِي الْجِهَاد فَلم يكن لَهُم مَغَانِم، وَمِنْهُم من أذن لَهُ فِيهِ، لَكِن كَانُوا إِذا غنموا شَيْئا لم يحل لَهُم أَن يأكلوه، وَجَاءَت نَار فَأَحْرَقتهُ، وَقيل: المُرَاد أَنه خص بِالتَّصَرُّفِ من الْغَنِيمَة يصرفهَا كَيفَ شَاءَ، وَالْأول أصوب، وَهُوَ أَن من مضى لم يحل لَهُم أصلا. قَوْله: (الشَّفَاعَة) هِيَ سُؤال فعل الْخَيْر وَترك الضَّرَر عَن الْغَيْر لأجل الْغَيْر على سَبِيل الضراعة، وَذكر الْأَزْهَرِي فِي تهذيبه عَن الْمبرد وثعلب أَن الشَّفَاعَة: الدُّعَاء، والشفاعة؛ كَلَام الشَّفِيع للْملك عِنْد حَاجَة يسْأَلهَا لغيره. وَعَن أبي الْهَيْثَم أَنه قَالَ: (من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة) . أَي: من يَزْدَدْ عملا إِلَى عمل، وَفِي (الْجَامِع) : الشَّفَاعَة الطّلب من فعل الشَّفِيع، وشفعت لفُلَان إِذا كَانَ متوسلاً بك فشفعت لَهُ، وَأَنت شَافِع لَهُ وشفيع. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الْأَقْرَب أَن اللَّام، فِيهَا للْعهد، وَالْمرَاد: الشَّفَاعَة الْعُظْمَى فِي إراحة النَّاس من هول الْموقف، وَلَا خلاف فِي وُقُوعهَا. وَقيل: الشَّفَاعَة الَّتِي اخْتصَّ بهَا أَنه لَا يرد فِيمَا يسْأَل، وَقيل: الشَّفَاعَة لخُرُوج من فِي قلبه ذرة من إِيمَان من النَّار. وَقيل: فِي رفع الدَّرَجَات فِي الْجنَّة. وَقيل: قوم استوجبوا النَّار فَيشفع فِي عدم دُخُولهمْ إِيَّاهَا. وَقيل: إِدْخَال قوم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب. وَهِي أَيْضا مُخْتَصَّة بِهِ. قَوْله: (وَبعثت إِلَى النَّاس عَامَّة) أَي: لِقَوْمِهِ ولغيرهم من الْعَرَب والعجم وَالْأسود والأحمر، قَالَ اتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلاَّ كَافَّة للنَّاس} (سبإ: 82) .
ذكر استنباط الْأَحْكَام: الأول: مَا قَالَه ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل أَن الْحجَّة تلْزم بالْخبر كَمَا تلْزم بِالْمُشَاهَدَةِ، وَذَلِكَ أَن المعجزة بَاقِيَة مساعدة للْخَبَر مبينَة لَهُ دافعة لما يخْشَى من آفَات الْأَخْبَار، وَهِي الْقُرْآن الْبَاقِي، وَخص اسبحانه وَتَعَالَى نبيه بِبَقَاء معجزته لبَقَاء دَعوته وَوُجُوب قبُولهَا عل من بلغته إِلَى آخر الزَّمَان.
الثَّانِي: فِيهِ مَا خصّه ابه من الشَّفَاعَة، وَهُوَ أَنه لَا يشفع فِي أحد يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ شفع فِيهِ، كَمَا ورد (قل يسمع، إشفع تشفع) . وَلم يُعْط ذَلِك مَن قبله من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
الثَّالِث: فِي قَوْله: (فأيما رجل أَدْرَكته الصَّلَاة فَليصل) ، يَعْنِي؛ يتَيَمَّم وَيُصلي، دَلِيل على تيَمّم الحضري إِذا عدم المَاء وَخَافَ فَوت الصَّلَاة، وعَلى أَنه لَا يشْتَرط التُّرَاب، إِذْ قد تُدْرِكهُ الصَّلَاة فِي مَوضِع من الأَرْض لَا تُرَاب عَلَيْهَا، بل رمل أَو جص أَو غَيرهمَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ احْتج بِهِ مَالك وَأَبُو حنيفَة فِي جَوَاز التَّيَمُّم بِجَمِيعِ أَجزَاء الأَرْض. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَن التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ ذِي الْغُبَار جَائِز، وَعند مَالك يجوز بِالتُّرَابِ والرمل والحشيش وَالشَّجر والثلج والمطبوخ كالجص والآجر. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ: يجوز بِكُل مَا كَانَ على الأَرْض حَتَّى الشّجر والثلج والجمد، وَنقل النقاش عَن ابْن علية وَابْن كيسَان جَوَازه بالمسك والزعفران، وَعَن إِسْحَاق مَنعه بالسباخ، وَيجوز عندنَا بِالتُّرَابِ والرمل وَالْحجر الأملس المغسول والجص والنورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا والطين الْأَحْمَر وَالْأسود والأبيض والحائط المطين والمجصص والياقوت والزبرجد والزمرد والبلخش والفيروزج والمرجان وَالْأَرْض الندية والطين الرطب. وَفِي (الْبَدَائِع) : وَيجوز بالملح الْجبلي، وَفِي قاضيخان: لَا يَصح على الْأَصَح، وَلَا يجوز بالزجاج، وَيجوز بالآجر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَشرط الْكَرْخِي أَن يكون مدقوقاً. وَفِي (الْمُحِيط) ، لَا يجوز بمسبوك الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَيجوز بالمختلط بِالتُّرَابِ إِذا كَانَ التُّرَاب غَالِبا، وبالخزف إِذا كَانَ من طين خَالص. وَفِي المرغيناني: يجوز بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والنحاس وَشبههَا مَا دَامَ على الأَرْض، وَذكر الشَّاشِي فِي (الْحِلْية) : لَا يجوز التَّيَمُّم بِتُرَاب خالطه دَقِيق أَو جص، وَحكى وَجه آخر: أَنه يجوز إِذا كَانَ التُّرَاب غَالِبا. وَلَا يَصح التَّيَمُّم بِتُرَاب يسْتَعْمل فِي التَّيَمُّم، وَعند أبي حنيفَة: يجوز، وَهُوَ وَجه لبَعض أَصْحَابنَا، وَمذهب الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يجوز إلاَّ بِالتُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَار، واحتجا بِحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد مُسلم: (وَجعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا وَجعلت تربَتهَا لنا طهُورا) . وَأجِيب: عَن هَذَا بقول الْأصيلِيّ: تفرد أَبُو مَالك بِهَذِهِ اللَّفْظَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ، وَلَا يظنّ أَن ذَلِك مُخَصص لَهُ، فَإِن التَّخْصِيص إِخْرَاج مَا تنَاوله الْعُمُوم عَن الحكم، وَلم يخرج هَذَا الْخَبَر شَيْئا، وَإِنَّمَا عين وَاحِدًا مِمَّا تنَاوله الِاسْم الأول مَعَ مُوَافَقَته فِي الحكم، وَصَارَ بِمَثَابَة قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 86) وَقَوله تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} (الْبَقَرَة: 89) فعين بعض مَا تنَاوله اللَّفْظ الأول مَعَ الْمُوَافقَة فِي الْمَعْنى على جِهَة التشريف، وَكَذَلِكَ ذكر التربة فِي حَدِيث حُذَيْفَة. وَيُقَال: الِاسْتِدْلَال بِلَفْظ التربة على خُصُوصِيَّة التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ مَمْنُوع، لِأَن تربة كل مَكَان مَا فِيهِ من تُرَاب وَغَيره، وَقَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَنَّهُ ورد فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بِلَفْظ: التُّرَاب، أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَغَيره، وَفِي حَدِيث عَليّ: (جعل التُّرَاب لي طهُورا) أخرجه أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن، وَالْجَوَاب عَنهُ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن، على أَن تعْيين لفظ التُّرَاب فِي الحَدِيث الْمَذْكُور لكَونه أمكن وأغلب

(4/10)


لَا لكَونه مَخْصُوصًا بِهِ، على أَنا نقُول: التَّمَسُّك باسم الصَّعِيد، وَهُوَ وَجه الأَرْض وَلَيْسَ باسم التُّرَاب فَقَط، بل هُوَ وَجه الأَرْض وَلَيْسَ التُّرَاب فَقَط، بل هُوَ وَجه الأَرْض تُرَابا كَانَ أَو صخراً لَا تُرَاب عَلَيْهِ أَو غَيره.
الرَّابِع: فِيهِ أَن اتعالى أَبَاحَ الْغَنَائِم للنَّبِي ولأمته كَمَا ذكرنَا.

2 - (بابُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاء ولاَ تُرَاباً)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يجد الرجل مَاء ليتوضأ بِهِ وَلَا تُرَابا اليتيمم بِهِ، وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يُصَلِّي بِلَا وضوء وَلَا تيَمّم أم لَا؟ وَفِيه: مَذَاهِب للْعُلَمَاء على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى.
وَجه الْمُنَاسبَة فِي تَقْدِيم هَذَا الْبَاب على بَقِيَّة الْأَبْوَاب، بعد ذكر كتاب التَّيَمُّم، هُوَ أَنه صدر أَولا بِذكر مَشْرُوعِيَّة التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء، ثمَّ ذكر بعده حكم من لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، هَذَا على تَقْدِير كَون هَذَا الْبَاب فِي هَذَا الْموضع، وَفِي بعض النّسخ ذكر بعد قَوْله: كتاب التَّيَمُّم بَاب التَّيَمُّم فِي الْحَضَر، ثمَّ ذكر بعده بَاب: إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، فعلى هَذَا الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِنَّه ذكر أَولا حكم التَّيَمُّم فِي السّفر، ثمَّ ذكر حكمه فِي الْحَضَر، ثمَّ ذكر حكم عادم المَاء وَالتُّرَاب مَعًا، وَهُوَ على التَّرْتِيب كَمَا يَنْبَغِي، وَلم يتَعَرَّض لمثل هَذِه النُّكْتَة أحد من الشُّرَّاح.

6333 - ح دّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى قالَ حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ نُمَيْرٍ قالَ حدّثنا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أنَّهَا اسْتَعَارَتْ منْ أسْماءَ قِلاَدةً فَهَلَكَتْ فَبَعَثَ رسولُ اللَّهِ رَجُلاً فَوَجَدَها فَأدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ فَصَلَّوْا فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رسولِ الله فأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فقالَ أسَيْدُ بنُ حُضَيرٍ لِعَائِشَةَ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْراً فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْراً.

وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهر فِي قَوْله: (فأدركتهم الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهم مَاء) . وَأما وَجه زِيَادَة قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَلَا تُرَابا، فَهُوَ أَنهم لما صلوا بِلَا وضوء وَلم يتيمموا أَيْضا لعدم علمهمْ بِهِ، فكأنهم لم يَجدوا مَاء وَلَا تُرَابا، إِذْ كَانَ حكمه حكم الْعَدَم عِنْدهم، فصاروا كَأَنَّهُمْ لم يَجدوا مَاء وَلَا تُرَابا. فَإِن قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: (أَقبلنَا مَعَ النَّبِي، من غَزْوَة كَذَا، حَتَّى إِذا كُنَّا بالمعرس، قَرِيبا من الْمَدِينَة، نَعَست من اللَّيْل، وَكَانَت على قلادة تدعى السمط، تبلغ السُّرَّة، فَجعلت أنعس فَخرجت من عنقِي، فَلَمَّا نزلت مَعَ النَّبِي، لصَلَاة الصُّبْح قلت: يَا رَسُول اخرت قلادتي، فَقَالَ للنَّاس: إِن أمكُم قد ضلت قلادتها فابتغوها، فابتغاها النَّاس وَلم يكن مَعَهم مَاء، فاشتغلوا بابتغائها إِلَى أَن حَضرتهمْ الصَّلَاة، ووجدوا القلادة وَلم يقدروا على مَاء، فَمنهمْ من تيَمّم إِلَى الْكَفّ، وَمِنْهُم من تيَمّم إِلَى الْمنْكب، وَبَعْضهمْ تيَمّم على جلدَة، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فأنزلت آيَة التَّيَمُّم) . انْتهى. وَقد قلت: إِنَّهُم لم يتيمموا، وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُم تيمموا. قلت: هَذَا التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ عِنْدهم كلا تيَمّم لعدم نزُول النَّص حينئذٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُمْ صلوا بِغَيْر طهُور، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه: (عَن عَائِشَة أَنَّهَا استعارت قلادة من أَسمَاء، فَسَقَطت من عُنُقهَا فابتغوها فوجدوها، فَحَضَرت الصَّلَاة فصلوا بِغَيْر طهُور) ، الحَدِيث.
وَقَوله: (بِغَيْر طهُور) ، يتَنَاوَل المَاء وَالتُّرَاب، فَدلَّ هَذَا أَن التَّيَمُّم الَّذِي تيمموا على اخْتِلَاف صفته كَانَ حكمه حكم الْعَدَم، أَلا يرى أَنه لَو كَانَ مُعْتَبرا بِهِ ومعتداً قبل نزُول الْآيَة لما سَأَلَ عمار رَضِي اتعالى عَنهُ، الَّذِي هُوَ أحد من تيَمّم ذَلِك التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ، رَسُول ا، عَن صفة التَّيَمُّم، فسؤاله هَذَا إِنَّمَا كَانَ بعد تيَمّمه بذلك التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ. فَإِن قلت: هَذَا التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ هَل هُوَ عملوه بِاجْتِهَاد ورأي من عِنْدهم أم بِالسنةِ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه كَانَ بِاجْتِهَاد مِنْهُم، فَيرجع هَذَا إِلَى الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلف فِيهَا، وَهِي أَن الِاجْتِهَاد فِي عصره هَل يجوز أم لَا؟ فَمنهمْ من جوزه مُطلقًا، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَرين، وَمِنْهُم من مَنعه مُطلقًا. وَقَالَت طَائِفَة: يجوز للغائبين عَن الرَّسُول دون الْحَاضِرين، وَمِنْهُم من جوزه إِذا لم يُوجد مَانع.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: زَكَرِيَّا بن يحيى، هَكَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات: زَكَرِيَّا بن يحيى، من غير ذكر جده

(4/11)


وَلَا نسبه وَلَا بِشَيْء هُوَ مشتهر بِهِ، وَالْحَال أَنه روى عَن اثْنَيْنِ كل مِنْهُمَا يُقَال لَهُ زَكَرِيَّا بن يحيى: أَحدهمَا: زَكَرِيَّا بن يحيى بن صَالح اللؤْلُؤِي الْبَلْخِي الْحَافِظ الْمُتَوفَّى بِبَغْدَاد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالْآخر: زَكَرِيَّا بن يحيى بن عمر الطَّائِي الْكُوفِي، أَبُو السكين، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَكِلَاهُمَا يرويان عَن عبد ابْن نمير، فزكريا هَذَا يحتملهما، فَأَيا كَانَ مِنْهُمَا فَهُوَ على شَرطه. قَالَ الْكرْمَانِي: فَلَا يُوجب الِاشْتِبَاه بَينهمَا قدحاً فِي الحَدِيث وَصِحَّته، وميل الغساني والكلاباذي إِلَى الأول. قَالَ الغساني: حدث البُخَارِيّ عَن زَكَرِيَّا الْبَلْخِي فِي التَّيَمُّم وَفِي غَيره، وَعَن زَكَرِيَّا بن سكين فِي الْعِيدَيْنِ. وَقَالَ الكلاباذي: الْبَلْخِي يروي عَن عبد ابْن نمير فِي التَّيَمُّم. انْتهى. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ زَكَرِيَّا بن يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، وَإِلَى هَذَا مَال الدَّارَقُطْنِيّ لِأَنَّهُ كُوفِي.
الثَّانِي: عبد ابْن نمير، بِضَم النُّون: الْكُوفِي.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة.
الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير.
الْخَامِس: عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.
ذكر بَقِيَّة مَا فِيهِ من الْمعَانِي وَغَيرهَا: قَوْله: (من أَسمَاء) هِيَ أُخْت عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، وَهِي الملقبة بِذَات النطاقين، تقدّمت فِي بَاب من أجَاز الْفتيا بِإِشَارَة. فَإِن قلت: قَالَت عَائِشَة فِي الْبَاب السَّابِق: انْقَطع عقد لي، وَيفهم من هَذَا أَنه كَانَ لعَائِشَة، وَهَهُنَا أَنَّهَا استعارته من أَسمَاء. قلت: إِنَّمَا أضافته إِلَى نَفسهَا هُنَاكَ بِاعْتِبَار أَنه كَانَ تَحت يَدهَا وتصرفها. قَوْله: (فَهَلَكت) ، أَي: ضَاعَت. قَوْله: (رجلا) هُوَ أسيد بن حضير. قَوْله: (فَوَجَدَهَا) أَي: أَصَابَهَا، وَلَا مُنَافَاة بَين قَوْلهَا فِيمَا مضى: فأصبنا العقد تَحت الْبَعِير، وَبَين قَوْله: (فَوَجَدَهَا) لِأَن لفظ: أصبْنَا، عَام يَشْمَل عَائِشَة وَالرجل، فَإِذا وجد الرجل بعد رُجُوعه صدق قَوْله: (أصبْنَا) . قَوْله: (فصلوا) أَي بِغَيْر وضوء. وَقد صرح فِي صَحِيح مُسلم بذلك.
قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ دَلِيل على أَن من عدم المَاء وَالتُّرَاب يُصَلِّي على حَاله، وَهَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف، وَهُوَ أَرْبَعَة أَقْوَال: وأصحها: عِنْد أَصْحَابنَا: أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي وَيُعِيد الصَّلَاة. وَالثَّانِي: أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الصَّلَاة، وَلَكِن يسْتَحبّ، وَيجب عَلَيْهِ الْقَضَاء سَوَاء صلى أَو لم يصل. وَالثَّالِث: تحرم عَلَيْهِ الصَّلَاة لكَونه مُحدثا، وَتجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَضِي اتعالى عَنهُ. وَالرَّابِع: تجب الصَّلَاة وَلَا تجب الْإِعَادَة، وَهُوَ مَذْهَب الْمُزنِيّ، وَهُوَ أقوى الْأَقْوَال دَلِيلا. ويعضده هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي إِيجَاب إِعَادَة مثل هَذِه الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن بطال: الصَّحِيح من مَذْهَب مَالك أَنه لَا يُصَلِّي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ، قِيَاسا على الْحَائِض. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ ابْن خواز منداد: الصَّحِيح من مَذْهَب مَالك أَن كل من لم يقدر على المَاء، وَلَا على الصَّعِيد حَتَّى خرج الْوَقْت أَنه لَا يُصَلِّي، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ المدنيون عَن مَالك وَهُوَ الصَّحِيح.
قَالَ أَبُو عمر: كَيفَ أقدم على أَن أجعَل هَذَا صَحِيحا وعَلى خِلَافه جُمْهُور السّلف وَعَامة الْفُقَهَاء وَجَمَاعَة المالكيين؟ فَكَأَنَّهُ قاسه على مَا رُوِيَ عَن مَالك فِيمَن كتفه الْوَالِي وحبسه فَمَنعه من الصَّلَاة حَتَّى خرج وَقتهَا. أَنه لَا إِعَادَة عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: والأسير المغلول، وَالْمَرِيض الَّذِي لَا يجد من يناوله المَاء وَلَا يَسْتَطِيع التَّيَمُّم لَا يُصَلِّي، وَإِن خرج الْوَقْت، حَتَّى يجد إِلَى الْوضُوء أَو التَّيَمُّم سَبِيلا. وَعَن الشَّافِعِي رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهمَا: هَكَذَا، وَالْأُخْرَى: يُصَلِّي وَأعَاد إِذا قدر، وَهُوَ الْمَشْهُور عَنهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، فِي الْمَحْبُوس فِي الْمصر إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا نظيفاً: لم يصل، وَإِذا وجده صلى. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري ومطرف: يُصَلِّي وَيُعِيد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: إِن وجد الْمَحْبُوس فِي الْمصر تُرَابا نظيفاً صلى وَأعَاد. وَقَالَ زفر: لَا يتَيَمَّم وَلَا يُصَلِّي، وَإِن وجد تُرَابا نظيفاً، بِنَاء على أَن عِنْده لَا تيَمّم فِي الْحَضَر. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو تيَمّم على التُّرَاب النَّظِيف أَو على وَجه الأَرْض لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة إِذا صلى ثمَّ وجد المَاء. وَقَالَ أَبُو عمر: أما الزَّمِن، قَالُوا: إِن لم يقدر على المَاء وَلَا على الصَّعِيد صلى كَمَا هُوَ وَأعَاد إِذا قدر على الطَّهَارَة.

3 - (بابُ التَّيمُّمِ فِي الحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الماءَ وَخافَ فَوْتَ الصَّلاة)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم التَّيَمُّم فِي الْحَضَر إِلَى آخِره، ذكر قيدين: أَحدهمَا: فقدان المَاء، وَالْآخر: خَوفه خُرُوج وَقت الصَّلَاة، وَيدخل فِي فقدان المَاء عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ وَإِن كَانَ واجداً نَحْو مَا إِذا وجده فِي بِئْر وَلَيْسَ عِنْده آلَة الاستقاء، أَو كَانَ بَينه وَبَينه سبع أَو عَدو.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول كَانَ فِي عادم المَاء فِي السّفر، وَهَذَا فِي عادم المَاء فِي الْحَضَر، وَجَوَاب:

(4/12)


إِذا، مَحْذُوف يدل على مَا تقدمه، تَقْدِيره: إِذا لم يجد المَاء وَخَافَ فَوت وَقت الصَّلَاة يتَيَمَّم.
وَبِهِ قالَ عَطاءٌ.
أَي: وَبِمَا ذكر من أَن فَاقِد المَاء فِي الْحَضَر الْخَائِف فَوت الْوَقْت يتَيَمَّم. قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: وَقَالَ بَعضهم: أَي بِهَذَا الْمَذْهَب. قلت: الْمَعْنى الَّذِي يُسْتَفَاد من التَّرْكِيب مَا ذكرته، وَلَا يرد عَلَيْهِ شَيْء، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) مَوْصُولا عَن عمر عَن ابْن جريج عَن عَطاء. قَالَ: (إِذا كنت فِي الْحَضَر وَحَضَرت الصَّلَاة وَلَيْسَ عنْدك مَاء فانتظر المَاء، فَإِن خشيت فَوت الصَّلَاة فَتَيَمم وصلِّ) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَبقول عَطاء قَالَ الشَّافِعِي. قلت: مَذْهَبنَا جَوَاز التَّيَمُّم لعادم المَاء فِي الْأَمْصَار، ذكره فِي (الْأَسْرَار) . وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : التَّيَمُّم فِي الْمصر لَا يجوز إلاَّ فِي ثَلَاث. إِحْدَاهَا: إِذا خَافَ فَوت صَلَاة الْجِنَازَة إِن تَوَضَّأ. وَالثَّانيَِة: عِنْد خوف فَوت صَلَاة الْعِيد. وَالثَّالِثَة: عِنْد خوف الْجنب من الْبرد بِسَبَب الِاغْتِسَال. وَقَالَ الإِمَام التُّمُرْتَاشِيّ: من عدم المَاء فِي الْمصر لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم لِأَنَّهُ نَادِر. قلت: الأَصْل جَوَاز التَّيَمُّم لعادم المَاء، سَوَاء كَانَ فِي الْمصر أَو خَارجه لعُمُوم النُّصُوص، وَفِي (كتاب الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة؛ الْحَاضِر الصَّحِيح يعْدم المَاء، هَل يتَيَمَّم أَو لَا؟ قَالَت طَائِفَة: يتَيَمَّم، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَعَطَاء وَالْحسن وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَقَالَ قوم من الْعلمَاء: لَا يتَيَمَّم؛ وَعَن أبي حنيفَة يسْتَحبّ لعادم المَاء وَهُوَ يرجوه أَن يُؤَخر الصَّلَاة إِلَى آخر الْوَقْت ليَقَع الآداء بأكمل الطهارتين. وَعَن مُحَمَّد: إِن خَافَ فَوت الْوَقْت يتَيَمَّم. وَفِي (شرح الأقطع) : التَّأْخِير عَن أبي حنيفَة وَيَعْقُوب حتم، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن عَليّ رَضِي اعنه: (إِذا أجنب الرجل فِي السّفر تلوم مَا بَينه وَبَين آخر الْوَقْت، فَإِن لم يجد المَاء تيَمّم ثمَّ صلى) . وَقَالَ ابْن حزم: وَبِه قَالَ سُفْيَان بن سعيد وَأحمد بن حَنْبَل وَعَطَاء. وَقَالَ مَالك: لَا يعجل وَلَا يُؤَخر، وَلَكِن فِي وسط الْوَقْت. وَقَالَ مرّة: إِن أَيقَن بِوُجُود المَاء قبل خُرُوج الْوَقْت أَخّرهُ إِلَى وسط الْوَقْت، وَإِن كَانَ موقناً أَنه لَا يجد المَاء حَتَّى يخرج الْوَقْت فيتيمم فِي أول الْوَقْت وَيُصلي. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ. كل ذَلِك سَوَاء. وَعند مَالك: إِذا وجد الْحَاضِر المَاء فِي الْوَقْت هَل يُعِيد أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ فِي (الْمُدَوَّنَة) وَقيل: إِنَّه يُعِيد أبدا.
وقالَ الحَسَنُ فِي الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْماءُ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُناوِلُهُ يَتيَمَّمُ.
أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي اعنه. قَوْله: (المَاء) فِي بعض النّسخ: مَاء، بِلَا لَام. قَوْله: (من يناوله) أَي: يُعْطِيهِ ويساعده على اسْتِعْمَاله. وَجَاز عِنْد الشَّافِعِي: وَإِن وجد من يناوله بِالْمرضِ الَّذِي يخَاف من الْغسْل مَعَه محذوراً، وَلَا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء. قَوْله: (يتَيَمَّم) ، وَفِي بَعْضهَا: (تيَمّم) ، على صِيغَة الْمَاضِي، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن الْحسن وَابْن سِيرِين قَالَا: (لَا يتَيَمَّم مَا رجى أَن يقدر على المَاء فِي الْوَقْت) ، وَهَذَا فِي الْمَعْنى مَا ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا.
وَأقْبَلَ ابنُ عُمَرَ منْ أرْضِهِ بِالْجرُفِ فَحَضَرَتِ العَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ فَصَلَّى ثُمَّ دَخَلَ المَدِينَةَ والشَّمسُ مرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن هَذَا التَّعْلِيق فِي موطأ مَالك: (عَن نَافِع أَنه أقبل هُوَ وَعبد امن الجرف حَتَّى إِذا كَانَا بِالْمَدِينَةِ نزل عبد افتيمم صَعِيدا طيبا، فَمسح وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين ثمَّ صلى) ، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن عجلَان عَن نَافِع عَن ابْن ابْن عمر بِلَفْظ: (ثمَّ صلى الْعَصْر ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد الصَّلَاة) . قَالَ الشَّافِعِي: والجرف قريب من الْمَدِينَة. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَمْرو بن مُحَمَّد بن أبي رزين: حدّثنا هِشَام بن حسان عَن عبيد اعن نَافِع عَن عبد ا: (أَن النَّبِي تيَمّم وَهُوَ ينظر إِلَى بيُوت الْمَدِينَة بمَكَان يُقَال لَهُ: مربد النعم) ، ثمَّ قَالَ: تفرد عمر بن مُحَمَّد بِإِسْنَادِهِ هَذَا، وَالْمَحْفُوظ عَن نَافِع عَن ابْن عمر من فعله، وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) قَالَ: حدّثنا ابْن صاعد حدّثنا ابْن زنبور حدّثنا فُضَيْل بن عِيَاض عَن ابْن عجلَان عَن نَافِع أَن ابْن عمر تيَمّم وَصلى وَهُوَ على ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ميلين من الْمَدِينَة. وَفِي حَدِيث يحيى بن سعيد عَن نَافِع: تيَمّم عبد اعلى ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ميلين من الْمَدِينَة. وَفِي خبر عمر بن زُرَارَة من طَرِيق مُوسَى بن ميسرَة. عَن ابْن عمر مثله.
النَّوْع الثَّانِي: أَن البُخَارِيّ ذكر هَذَا مُعَلّقا مُخْتَصرا وَلم يذكر فِيهِ التَّيَمُّم، مَعَ أَنه لَا يُطَابق تَرْجَمَة الْبَاب إلاَّ بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: لم يظْهر لي سَبَب حذفه قلت: الَّذِي يظْهر لي أَن ترك هَذَا مَا هُوَ من البُخَارِيّ، وَالظَّاهِر أَنه من النَّاسِخ، وَاسْتمرّ الْأَمر عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ وَجه غير هَذَا.

(4/13)


الثَّالِث: فِي لغاته. فَقَوله: (بالجرف) بِضَم الْجِيم وَالرَّاء، وَقد تسكن الرَّاء: وَهُوَ مَا تجْرِي فِيهِ السُّيُول وأكلته من الأَرْض، وَهُوَ جمع: جرفة، بِكَسْر الْجِيم وَفتح الرَّاء. وَزعم الزبير: أَن الجرفة على ميل من الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: على فَرسَخ، وَهُنَاكَ كَانَ الْمُسلمُونَ يعسكرون إِذا أَرَادوا الْغَزْو. وَزعم ابْن قر قَول أَنه على ثَلَاثَة أَمْيَال إِلَى جِهَة الشَّام، بِهِ مَال عمر وأموال أهل الْمَدِينَة، وَيعرف ببئر جشم وبئر جمل. قَوْله: (بمربد النعم) . قَالَ السفاقسي: روينَاهُ بِفَتْح الْمِيم، وَهُوَ فِي اللُّغَة بِكَسْرِهَا، وَفِي (الْمُحكم) : المربد محبس الْإِبِل، وَقيل: هِيَ من خَشَبَة أَو عصى تعترض صُدُور الْإِبِل فتمنعها من الْخُرُوج، ومربد الْبَصْرَة من ذَلِك لأَنهم كَانُوا يحبسون فِيهِ الْإِبِل، والمربد: فضاء وَرَاء الْبيُوت ترتفق بِهِ، والمربد: كالحجرة فِي الدَّار، ومربد التَّمْر: جرينه الَّذِي يوضع فِيهِ بعد الْجذاذ لييبس. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: هُوَ اسْم كالمسطح، وَإِنَّمَا مثله بِهِ لِأَن المسطح ييبس. وَقَالَ السُّهيْلي: المربد والجرين والمسطح والبيدر والاندر والجرجار: لُغَات بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (النعم) ، بِفَتْح النُّون وَالْعين: وَهُوَ المَال الراعية، وَأكْثر مَا يَقع هَذَا الِاسْم على الْإِبِل.
الرَّابِع فِي حكم الْأَثر الْمَذْكُور: وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَاز التَّيَمُّم للحضري، لِأَن من يُجِيز التَّيَمُّم فِي السّفر يقصره على السّفر الَّذِي تقصر فِيهِ الصَّلَاة. قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: إِنَّمَا تيَمّم ابْن عمر بالمربد لِأَنَّهُ خَافَ فَوت الْوَقْت. قيل: لَعَلَّه يُرِيد فَوَات الْوَقْت الْمُسْتَحبّ وَهُوَ أَن تصفر الشَّمْس. وَقَوله: (وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) يحْتَمل أَن تكون مُرْتَفعَة عَن الْأُفق والصفرة دَخَلتهَا، وَيحْتَمل أَن يكون ظن أَنه لَا يدْخل الْمَدِينَة حَتَّى يخرج الْوَقْت فَتَيَمم على ذَلِك الِاجْتِهَاد. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: من رجا إِدْرَاك المَاء فِي آخر الْوَقْت فَتَيَمم فِي أَوله وَصلى أَجزَأَهُ وَيُعِيد فِي الْوَقْت اسْتِحْبَابا، فَيحْتَمل أَن ابْن عمر كَانَ يرى هَذَا. وَقَالَ سَحْنُون فِي (شرح الْمُوَطَّأ) كَانَ ابْن عمر على وضوء لِأَنَّهُ كَانَ يتَوَضَّأ لكل صَلَاة، فَجعل التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء عوض الْوضُوء، وَقيل: كَانَ ابْن عمر يرى أَن الْوَقْت إِذا دخل حل التَّيَمُّم، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يُؤَخر لقَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) .

7334 - ح دّثنا يَحْيى بنُ بُكيْر قَالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَن جَعْفَرِ بنِ ربِيعةَ عنِ الأَعْرَجِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْراً مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ أقْبَلْتُ أَنا وعَبْدُ اللَّهِ بنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أبِي جُهَيْمِ بنِ الْحَارِثِ بنِ الصِّمَّةِ الأَنصَارِيِّ فقالَ أبُو الجُهيْمِ أقْبَلَ النَّبيُّ منْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عليهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النبيُّ حَتى أقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيه السَّلاَمَ.
13
- 50 وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة هُوَ أَن النَّبِي لما تيَمّم فِي الْحَضَر لرد السَّلَام، وَكَانَ لَهُ أَن يردهُ عَلَيْهِ قبل تيَمّمه، دلّ ذَلِك أَنه إِذا خشِي فَوَات الْوَقْت فِي الصَّلَاة فِي الْحَضَر أَن لَهُ التَّيَمُّم، بل ذَلِك آكِد، لِأَنَّهُ لَا تجوز الصَّلَاة بِغَيْر وضوء وَلَا تيَمّم، وَيجوز السَّلَام بِغَيْرِهِمَا.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد ابْن بكير القريشي المَخْزُومِي، أَبُو زَكَرِيَّا الْمصْرِيّ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد، الإِمَام الْمَشْهُور. الثَّالِث: جَعْفَر بن ربيعَة بن شُرَحْبِيل الْكِنْدِيّ الْمصْرِيّ، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: الْأَعْرَج وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز راوية أبي هُرَيْرَة، تقدم فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان. الْخَامِس: عُمَيْر مصغر عَمْرو بن عبد االهاشمي، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَمِائَة. السَّادِس: عبد ابْن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة: الْمدنِي الْهِلَالِي. السَّابِع: أَبُو جهيم، بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: هُوَ عبد ابْن الْحَارِث بن الصمَّة، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم: الصَّحَابِيّ الخزرجي. وللبخاري حديثان عَنهُ، ويروى: أَبُو الْجُهَيْم بِالْألف وَاللَّام، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: أَبُو جهيم. وَيُقَال: أَبُو الْجُهَيْم بن الْحَارِث بن الصمَّة، كَانَ أَبوهُ من كبار الصَّحَابَة، وَأَبُو جهم عبد ابْن جهيم. قَالَ أَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه: أَبُو جهيم وَابْن الصمَّة وَاحِد. وَكَذَا قَالَه مُسلم فِي بعض كتبه، وجعلهما ابْن عبد الْبر اثْنَيْنِ. وَعَن ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه قَالَ: وَيُقَال: أَبُو الْجُهَيْم هُوَ الْحَارِث بن الصمَّة، فعلى هَذَا تكون لَفْظَة: ابْن فِي متن الحَدِيث زَائِدَة، لَكِن صحّح أَبُو حَاتِم أَن الْحَارِث اسْم لِأَبِيهِ لَا اسْمه، وَفِي الصَّحَابَة شخص آخر يُقَال لَهُ: أَبُو الجهم، وَهُوَ صَاحب الأنبجانية، وَهُوَ غير هَذَا لِأَنَّهُ قريشي وَهَذَا أَنْصَارِي. قلت: أَبُو الجهم هَذَا هُوَ الَّذِي قَالَه الذَّهَبِيّ: أَبُو جهم عبد ابْن جهيم.

(4/14)


ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين، وَلَكِن فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي جَعْفَر. وَفِيه: أَن نصف الْإِسْنَاد الأول مصريون، وَالنّصف الثَّانِي مدنيون. وَفِيه: عُمَيْر مولى ابْن عَبَّاس، كَذَا هَهُنَا، وَهُوَ مولى أم الْفضل بنت الْحَارِث وَالِدَة ابْن عَبَّاس، وَإِذا كَانَ مولى أم الْفضل فَهُوَ مولى أَوْلَادهَا. وَقد روى ابْن إِسْحَاق هَذَا الحَدِيث وَقَالَ: مولى عبيد ابْن عَبَّاس، وَقد روى مُوسَى بن عقبَة وَابْن لَهِيعَة وَأَبُو الْحُوَيْرِث هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْرَج عَن أبي الْجُهَيْم وَلم يذكرُوا بَينهَا عُمَيْرًا، وَالصَّوَاب إثْبَاته، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح غير هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر عَن أم الْفضل. وَفِيه: رِوَايَة الْأَعْرَج عَنهُ رِوَايَة الأقران. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل. وَفِيه: عبد ابْن يسَار، وَهُوَ أَخُو عَطاء بن يسَار التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، وَوَقع عِنْد مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث: عبد ابْن يسَار وَهُوَ وهم، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث رِوَايَة، وَلِهَذَا لم يذكرهُ المصنفون فِي رجال الصَّحِيحَيْنِ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة، وَقَالَ: روى اللَّيْث فَذكره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن سعد عَن أَبِيه عَن جده. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن شُعَيْب بن اللَّيْث بِهِ، وَمُسلم ذكر هَذَا الحَدِيث منقعطاً وَهُوَ مَوْصُول على شَرطه، وَفِيه عبد الرَّحْمَن بن يسَار، وَهُوَ وهم، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِيه أَبُو الجهم مكبراً وَهُوَ أَبُو الْجُهَيْم مُصَغرًا، وروى الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن أبي الْحُوَيْرِث عَن الْأَعْرَج عَن أبي جهيم بن الصمَّة. قَالَ: (مَرَرْت على النَّبِي وَهُوَ يَبُول فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عليَّ حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَار فحته بعصاً كَانَت مَعَه، ثمَّ وضع يَده على الْجِدَار فَمسح وَجهه وذراعيه ثمَّ رد عَليّ) ، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا ورد فِيهِ من الرِّوَايَات: قَوْله: (من نَحْو بِئْر جمل) ، أَي: من جِهَة الْموضع الَّذِي يعرف ببئر جمل، بِالْجِيم وَالْمِيم المفتوحتين. ويروى: (ببئر الْجمل) ، بِالْألف وَاللَّام، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، وَهُوَ مَوضِع بِقرب الْمَدِينَة فِيهِ مَال من أموالها. قَوْله: (فَلَقِيَهُ رجل) ، هُوَ أَبُو الْجُهَيْم الرَّاوِي، وَقد صرح بِهِ الشَّافِعِي فِي حَدِيثه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَلم يرد) ، يجوز فِي داله الحركات الثَّلَاث: الْكسر، لِأَنَّهُ الأَصْل؛ وَالْفَتْح، لِأَنَّهُ أخف؛ وَالضَّم لإتباع الرَّاء. قَوْله: (حَتَّى أقبل على الْجِدَار) الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد الْخَارِجِي، أَي: جِدَار هُنَاكَ، والجدار كَانَ مُبَاحا فَلم يحْتَج إِلَى الْإِذْن فِي ذَلِك، أَو كَانَ مَمْلُوكا لغيره وَكَانَ رَاضِيا بِهِ. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (حَتَّى إِذا كَانَ الرجل أَن يتَوَارَى فِي السِّكَّة ضرب بيدَيْهِ على الْحَائِط فَمسح ذِرَاعَيْهِ ثمَّ رد على الرجل السَّلَام، وَقَالَ: إِنَّه لم يَمْنعنِي أَن أرد عَلَيْك إلاَّ أَنِّي كنت على غير طهر) . وَعند أبي دَاوُد، من حَدِيث حَيْوَة عَن ابْن الْهَاد: أَن نَافِعًا حَدثهُ عَن ابْن عمر قَالَ: (أقبل رَسُول الله من الْغَائِط، فَلَقِيَهُ رجل عِنْد بِئْر جمل فَسلم عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِ رَسُول الله حَتَّى أقبل على الْحَائِط فَوضع يَده عَلَيْهِ ثمَّ مسح وَجهه وَيَديه ثمَّ رد على الرجل السَّلَام) . وَعند الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح: (عَن نَافِع عَنهُ أَن رجلا مر على النَّبِي وَهُوَ يَبُول، فَسلم عَلَيْهِ الرجل فَرد عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا جاوزه ناداه عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: (إِنَّمَا حَملَنِي على الرَّد عَلَيْك خشيَة أَن تذْهب فَتَقول: إِنِّي سلمت على النَّبِي فَلم يرد عَليّ، فَذا رَأَيْتنِي على هَذِه الْحَالة فَلَا تسلم عَليّ فَإنَّك إِن تفعل لَا أرد عَلَيْك) . وَعند الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب (أنهُ سلم على النَّبِي وَهُوَ يَبُول فَلم يرد عَلَيْهِ حَتَّى فرغ) ، وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة بِسَنَد فِيهِ ضعف، قَالَ: (سلمت على النَّبِي وَهُوَ يَبُول فَلم يرد عَليّ، ثمَّ دخل إِلَى بَيته فَتَوَضَّأ ثمَّ خرج فَقَالَ: (وَعَلَيْك السَّلَام) . وَعند الْحَاكِم من حغيث الْمُهَاجِرين قنقذ، قَالَ: (أتيت النَّبِي، وَهُوَ يتَوَضَّأ فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَليّ، فَلَمَّا فرغ من وضوئِهِ قَالَ: (إِنَّه لم يَمْنعنِي أَن أرد عَلَيْك إلاَّ أَنِّي كنت على غير وضوء) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إلاَّ أَنِّي كرهت أَن أذكر اإلاَّ على طَهَارَة) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَلَفظه: (فَلم يرد حَتَّى تَوَضَّأ ثمَّ اعتذر إِلَيْهِ، قَالَ: (إِنِّي كرهت أَن أذكر اإلاَّ على طهر، أَو على طَهَارَة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَأحمد وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ، وَزَاد: (فَقُمْت مهموماً، فَدَعَا بِوضُوء فَتَوَضَّأ ورد عَليّ، وَقَالَ: (إِنِّي كرهت أَن أذكر اعلى غير وضوءه) وَعند ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (مر رجل على النَّبِي، وَهُوَ يَبُول، فَسلم فَلم يرد عَلَيْهِ، فَلَمَّا فرغ ضرب بكفيه الأَرْض فَتَيَمم ثمَّ رد عَلَيْهِ السَّلَام) .

(4/15)


ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: مِنْهَا: مَا قَالَ ابْن التِّين، قَالَ بَعضهم: يستنبط مِنْهُ جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر، وَعَلِيهِ بوب البُخَارِيّ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ التَّيَمُّم للحضر إلاَّ أَنه لَا دَلِيل فِيهِ أَنه رفع بذلك التَّيَمُّم الْحَدث رفعا استباح بِهِ الصَّلَاة، لِأَنَّهُ إِنَّمَا فعله كَرَاهَة أَن يذكر اعلى غير طَهَارَة، كَذَا رَوَاهُ حَمَّاد فِي (مُصَنفه) وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كره أَن يرد عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَنَّهُ اسْم من أَسمَاء اتعالى، أَو يكون هَذَا فِي أول الْأَمر ثمَّ اسْتَقر الْأَمر على غير ذَلِك. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) حَدِيث الْمَنْع من رد السَّلَام مَنْسُوخ بِآيَة الْوضُوء؛ وَقيل: بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا: كَانَ يذكر اعلى كل أحيانه، وَقد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا بِهِ فِي حَدِيث رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ عَن عبد ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر بن حزم عَن عبد ابْن عَلْقَمَة بن الغفراء عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ النَّبِي إِذا أَرَادَ المَاء نكلمه فَلَا يُكَلِّمنَا ونسلم عَلَيْهِ فَلَا يسلم علينا حَتَّى نزلت آيَة الرُّخْصَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث المُهَاجر بن قنفذ مَعْلُول ومعارض، أما كَونه معلولاً فَلِأَن سعيد بن أبي عرُوبَة كَانَ قد اخْتَلَط فِي آخر عمره، فيراعى فِيهِ سَماع من سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط، وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنه لم يَمْنعنِي إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن حميد وَغَيره عَن الْحسن عَن مهَاجر مُنْقَطِعًا، فَصَارَ فِيهِ ثَلَاث علل.
ب 05 2 وَأما كَونه مُعَارضا، فَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث كريب عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: (بت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة) . الحَدِيث، فَفِي هَذَا مَا يدل على جَوَاز ذكر اسْم اوقراءة الْقُرْآن مَعَ الْحَدث، وَزعم الْحسن أَن حَدِيث مهَاجر غير مَنْسُوخ، وَتمسك بِمُقْتَضَاهُ، فَأوجب الطَّهَارَة للذّكر، وَقيل: يتَأَوَّل الْخَبَر على الِاسْتِحْبَاب، لِأَن ابْن عمر: مِمَّن روى فِي هَذَا الْبَاب، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب روى ذَلِك، والصحابي الرَّاوِي أعلم بِالْمَقْصُودِ. وَمِنْهَا: أَنه اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على جَوَاز التَّيَمُّم على الْحجر، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن حيطان الْمَدِينَة مَبْنِيَّة بحجارة سود. وَقَالَ ابْن بطال، فِي تيَمّم النَّبِي بالجدار رد على الشَّافِعِي فِي اشْتِرَاط التُّرَاب، لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنه لم يعلق بِهِ تُرَاب، إِذْ لَا تُرَاب على الْجِدَار.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول لَيْسَ فِيهِ رد على الشَّافِعِي إِذْ لَيْسَ مَعْلُوما أَنه لم يعلق بِهِ تُرَاب، وَمَا ذَاك إلاَّ تحكم بَارِد إِذْ الْجِدَار قد يكون عَلَيْهِ التُّرَاب وَقد لَا يكون، بل الْغَالِب وجود الْغُبَار على الْجِدَار، مَعَ أَنه قد ثَبت أَنه حت الْجِدَار بالعصا ثمَّ تيَمّم، فَيجب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد. انْتهى. قلت: الْجِدَار إِذا كَانَ من حجر لَا يحْتَمل التُّرَاب لِأَنَّهُ لَا يثبت عَلَيْهِ، خُصُوصا جدران الْمَدِينَة، لِأَنَّهَا من صَخْرَة سَوْدَاء. وَقَوله؛ مَعَ أَنه ثَبت ... الخ، مَمْنُوع لِأَن حت الْجِدَار بالعصا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف. فَإِن قلت: حسنه الْبَغَوِيّ كَمَا ذكرنَا. قلت: كَيفَ حسنه وَشَيخ الشَّافِعِي وَشَيخ شَيْخه ضعيفان لَا يحْتَج بهما؟ قَالَه مَالك وَغَيره، وَأَيْضًا فَهُوَ مُنْقَطع، لِأَن مَا بَين الْأَعْرَج وَأبي جهيم عُمَيْر كَمَا سبق من عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره، وَنَصّ عَلَيْهِ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَفِيه عِلّة أُخْرَى وَهِي زِيَادَة حك الْجِدَار لم يَأْتِ بهَا أحد غير إِبْرَاهِيم، والْحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة كَمَا ذَكرْنَاهُ وَلَيْسَ فِي حَدِيث أحدهم هَذِه الزِّيَادَة، وَالزِّيَادَة إِنَّمَا تقبل من ثِقَة، وَلَو وقف الْكرْمَانِي على مَا ذكرنَا لما قَالَ: مَعَ أَنه قد ثَبت أَنه، حت الْجِدَار بالعصا. وَمِنْهَا: أَنه اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ على جَوَاز التَّيَمُّم للجنازة عِنْد خوف فَوَاتهَا، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، لِأَنَّهُ، تيَمّم لرد السَّلَام فِي الْحَضَر لأجل فَوت الرَّد، وَإِن كَانَ لَيْسَ شرطا، وَمنع مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد ذَلِك وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِم. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على جَوَاز التَّيَمُّم للنوافل كالفرائض؛ وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَأبْعد من خصّه من أَصْحَابنَا بالفرائض. وَمِنْهَا: أَن التَّيَمُّم مسح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ، لقَوْله: فَمسح بِوَجْهِهِ وَيَديه. فَإِن قلت: أطلق يَدَيْهِ فَيتَنَاوَل إِلَى الْكَفَّيْنِ وَإِلَى الْمرْفقين وَإِلَى مَا وَرَاء ذَلِك. قلت: المُرَاد مِنْهُ ذِرَاعَيْهِ، ويفسره رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره فِي هَذَا الحَدِيث: فَمسح بِوَجْهِهِ وذراعيه، وَفِيه خلاف بَين الْعلمَاء، وَسَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ اتعالى عَن قريب.

4 - (بَاب المُتَيَمِّمُ هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمُتَيَمم: هَل ينْفخ فيهمَا؟ أَي: فِي الْيَدَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: هَل ينفح فِي يَدَيْهِ بَعْدَمَا يضْرب بهما الصَّعِيد للتيمم؟ وَإِنَّمَا أوردهُ بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الاستفسار، لِأَن نفخه، فِي يَدَيْهِ فِي التَّيَمُّم على مَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب يحْتَمل وُجُوهًا ثَلَاثَة: الأول: أَن يكون لشَيْء علق بيدَيْهِ فخشي عَلَيْهِ السَّلَام، أَن يُصِيب

(4/16)


وَجهه الْكَرِيم فَنفخ لذَلِك. وَالثَّانِي: أَن يكون قد علق بِيَدِهِ من التُّرَاب مَا يكرههُ، فَلذَلِك نفخ فيهمَا. وَالثَّالِث: أَن يكون لبَيَان التشريع وَهُوَ الظَّاهِر، وَلِهَذَا احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة، وَلم يشْتَرط التصاق التُّرَاب بيد الْمُتَيَمم، فعلى هَذَا، الِاحْتِمَالَات الْمَذْكُورَة الَّتِي ذهب إِلَيْهَا بَعضهم غير سديدة، بل ظَاهر الحَدِيث لبَيَان التشريع، وَالْحكمَة فِيهِ إِزَالَة التلويث عَن الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ، وتبويب البُخَارِيّ أَيْضا بالاستفهام غير سديد.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، وَهُوَ أَن الْمَذْكُور فِيمَا قبل هَذَا الْبَاب أَحْكَام التَّيَمُّم، والنفخ فِيهِ أَيْضا من أَحْكَامه.
5 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ حَدثنَا الحكم عَن ذَر عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أَبْزَى عَن أَبِيه قَالَ جَاءَ رجل إِلَى عمر بن الْخطاب فَقَالَ إِنِّي أجنبت فَلم أصب المَاء فَقَالَ عمار بن يَاسر لعمر بن الْخطاب أما تذكر أَنا كُنَّا فِي سفر أَنا وَأَنت فَأَما أَنْت فَلم تصل وَأما أَنا فتمعكت فَصليت فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا فَضرب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكفيه الأَرْض وَنفخ فيهمَا ثمَّ مسح بهما وَجهه وكفيه) الحَدِيث يُطَابق التَّرْجَمَة من حَيْثُ ذكر النفخ وَلَكِن لَيْسَ فِي الحَدِيث اسْتِفْهَام فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا أَن تبويبه بالاستفهام لَيْسَ بسديد. (ذكر رِجَاله) وهم ثَمَانِيَة الأول آدم بن أبي إِيَاس وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك. الثَّالِث الحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتيبة بِضَم الْعين وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة مر فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. الرَّابِع ذَر بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء ابْن عبد الله الْهَمدَانِي بِسُكُون الْمِيم. الْخَامِس سعيد بن عبد الرَّحْمَن بِكَسْر الْعين. السَّادِس أَبوهُ عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالزاي الْمَفْتُوحَة وبالقصر وَهُوَ صَحَابِيّ خزاعي كُوفِي اسْتَعْملهُ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على خُرَاسَان. السَّابِع عمر بن الْخطاب. الثَّامِن عمار بن يَاسر. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل وَفِيه ثَلَاثَة من الصَّحَابَة وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين خراساني وكوفي. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن آدم وَأخرجه أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن كثير وفرقهم وَعَن بنْدَار عَن غنْدر ستتهم عَن شُعْبَة عَن الحكم وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر بن شُمَيْل وَعَن عبد الله بن هَاشم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن عَليّ بن سهل الرَّمْلِيّ وَعَن مُسَدّد وَعَن مُحَمَّد بن الْمنْهَال وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي حَفْص عَمْرو بن عَليّ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَعَن عَمْرو بن يزِيد وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن بنْدَار عَن غنْدر (ذكر مَا فِيهِ من الرِّوَايَات وَاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ " ثمَّ أدناهما من فِيهِ " وَفِي لفظ قَالَ " عمار كُنَّا فِي سَرِيَّة فأجنبنا وَقَالَ تفل فيهمَا " وَفِي لفظ " فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَكْفِيك الْوَجْه والكفان " وَفِي لفظ قَالَ " عمار فَضرب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ الأَرْض فَمسح وَجهه وكفيه " وَفِي لفظ " قَالَ أَبُو مُوسَى لِابْنِ مَسْعُود إِذا لم تَجِد المَاء لَا تصل " قَالَ عبد الله لَو رخصت لَهُم فِي هَذَا كَانَ إِذا وجد أحدهم الْبرد قَالَ هَكَذَا يَعْنِي تيَمّم وَصلى قَالَ أَبُو مُوسَى فَقلت فَأَيْنَ قَول عمار لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ إِنِّي لم أر قنع عمر بقول عمار وَفِي لفظ " كَيفَ تصنع بقول عمار حِين قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَكْفِيك قَالَ ألم تَرَ عمر لم يقنع بذلك مِنْهُ فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَدَعْنَا من قَول عمار كَيفَ تصنع بِهَذِهِ الْآيَة فَمَا درى عبد الله مَا يَقُول " وَفِي لفظ " بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَاجَة فأجنبت فَلم أجد المَاء فتمرغت فِي الصَّعِيد كَمَا تمرغ الدَّابَّة فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تصنع هَكَذَا وَضرب بكفه ضَرْبَة على الأَرْض ثمَّ نفضها ثمَّ مسح بهَا ظهر كفيه بِشمَالِهِ أَو ظهر شِمَاله بكفه ثمَّ مسح بهما وَجهه " وَفِي لفظ " مسح وَجهه وكفيه وَاحِدَة " انْتهى

(4/17)


وَهُوَ ظَاهر فِي تَقْدِيم الْكَفّ على الْوَجْه وَهُوَ شَاهد لما يرَاهُ أَبُو حنيفَة رأى ذَلِك مُحَمَّد بن إِدْرِيس وَبقول أبي حنيفَة قَالَ ابْن حزم وَحَكَاهُ عَن الْأَوْزَاعِيّ وَعند مُسلم " ثمَّ تمسح بهما وَجهك وكفيك " وَعند ابْن ماجة من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي ليلى القَاضِي عَن الحكم وَسَلَمَة بن كهيل أَنَّهُمَا سَأَلَا عبد الله بن أبي أوفى عَن التَّيَمُّم فَقَالَ أَمر الله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمارا أَن يفعل هَكَذَا وَضرب بيدَيْهِ إِلَى الأَرْض ثمَّ نفضهما وَمسح على وَجهه قَالَ الحكم وَيَديه وَقَالَ سَلمَة ومرفقيه " وَفِي حَدِيث عبيد الله بن عبد الله عَن أَبِيه عَن عمار " فتيممنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى المناكب " وَسَنَده صَحِيح وَمن حَدِيث عبيد الله عَن عمار عِنْده وَعند أبي دَاوُد " حِين تيمموا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمر الْمُسلمين فَضربُوا بأكفهم التُّرَاب وَلم يقبضوا من التُّرَاب شَيْئا فمسحوا وُجُوههم مسحة وَاحِدَة ثمَّ عَادوا فَضربُوا بأكفهم الصَّعِيد مرّة أُخْرَى فمسحوا بِأَيْدِيهِم " قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَذَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق قَالَ بِهِ عَن ابْن عَبَّاس وَذكر ضربتين كَمَا ذكره يُونُس عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ معمر ضربتين وَعِنْده أَيْضا بِسَنَد صَحِيح مُتَّصِل عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " فَقَامَ الْمُسلمُونَ مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضربُوا بِأَيْدِيهِم إِلَى الأَرْض فمسحوا بهَا وُجُوههم وأيديهم إِلَى المناكب وَمن بطُون أَيْديهم إِلَى الآباط " وَفِي لفظ بِسَنَد صَحِيح " ثمَّ مسح وَجهه وَيَديه إِلَى نصف الذِّرَاع " وَفِي لفظ " إِلَى نصف الساعد وَلم يبلغ الْمرْفقين ضَرْبَة وَاحِدَة " وَفِي رِوَايَة " شكّ سَلمَة بن كهيل قَالَ لَا أَدْرِي فِيهِ إِلَى الْمرْفقين " يَعْنِي أَو إِلَى الْكَفَّيْنِ وَرَوَاهُ شُعْبَة عَنهُ إِلَى الْمرْفقين أَو الذراعين قَالَ شُعْبَة " كَانَ سَلمَة يَقُول إِلَى الْكَفَّيْنِ وَالْوَجْه والذراعين فَقَالَ لَهُ مَنْصُور ذَات يَوْم أنظر مَا تَقول فَإِنَّهُ لَا يذكر الذراعين غَيْرك " وَفِي حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أبان عَن قَتَادَة عَمَّن حَدثهُ عَن الشّعبِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِلَى الْمرْفقين " وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط لم يروه عَن أبان بن يزِيد الْعَطَّار إِلَّا عَفَّان وَفِي كتاب الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ الْحَرْبِيّ فَذكر لِأَحْمَد بن حَنْبَل فَعجب مِنْهُ وَقَالَ مَا أحْسنه وَقَالَ ابْن حزم هُوَ حبر سَاقِط وَرَوَاهُ ابْن أبي الذِّئْب عَن الزُّهْرِيّ فَذكر فِيهِ ضربتين رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه وَعند الدَّارَقُطْنِيّ " لما تمرغ عمار رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَسَأَلَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضرب بكفه ضَرْبَة إِلَى الأَرْض ثمَّ نفضها وَقَالَ تمسح بهَا وَجهك وكفيك إِلَى الرسغين " وَقَالَ لم يروه عَن حُسَيْن مَرْفُوعا غير إِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَوَافَقَهُ شُعْبَة وزائدة وَغَيرهمَا وَعند الْأَثْرَم من رِوَايَة عَنهُ " ثمَّ تمسح بِوَجْهِك وكفيك إِلَى الرسغين " وَفِي الْأَوْسَط للطبراني عَن عمار " تمسح وَجهك وكفيك بِالتُّرَابِ ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للكفين " وَقَالَ لم يروه يَعْنِي عَن سَلمَة بن كهيل عَن سعيد بن أَبْزَى إِلَّا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأَسْلَمِيّ وَفِي المعجم الْكَبِير لَهُ " وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ ظهرا وبطنا " وَفِي لفظ " وَمن بطُون أَيْديهم إِلَى الآباط " وَفِي لفظ " إِلَى المناكب والآباط " وَفِي لفظ " أما كَانَ يَكْفِيك من ذَاك التَّيَمُّم فَإِذا قدرت على المَاء اغْتَسَلت " وَفِي لفظ " عزبت فِي الْإِبِل فأجنبت فَأمرنِي بِالتَّيَمُّمِ وَكنت تمعكت فِي التُّرَاب " وَفِي الكنى للنسائي أَنه قَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ " أما تذكر أَنا كُنَّا نتناوب رعية الْإِبِل فأجنبت " وَعند الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ إِلَى الْمرْفقين " (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " جَاءَ رجل " وَفِي رِوَايَة للطبراني " من أهل الْبَادِيَة " وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب الْآتِيَة أَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى شهد ذَلِك قَوْله " أَنِّي أجنبت " بِفَتْح الْهمزَة أَي صرت جنبا ويروى جنبت بِضَم الْجِيم وَكسر النُّون قَوْله " فَلم أصب المَاء " بِضَم الْهمزَة من الْإِصَابَة أَي لم أجد قَوْله " أما تذكر " الْهمزَة للاستفهام وَكلمَة مَا للنَّفْي قَوْله " فِي سفر " وَفِي رِوَايَة مُسلم " فِي سَرِيَّة " قَوْله " أَنا كُنَّا فِي سفر " فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول تذكر قَوْله " أَنا وَأَنت " تَفْسِير لضمير الْجمع فِي كُنَّا قَوْله " فَأَما أَنْت " تَفْصِيل لما وَقع من عمار وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَلم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة جَوَاب عمر وَكَذَلِكَ روى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ من رِوَايَة سِتَّة أنفس عَن شُعْبَة وَلم يذكر فِيهَا جَوَاب عمر وَذكره مُسلم من طَرِيق يحيى بن سعيد وَالنَّسَائِيّ عَن حجاج بن مُحَمَّد فَقَالَ " لَا تصل " وَزَاد السراج " حَتَّى تَجِد المَاء " وَهَذَا مَذْهَب مَشْهُور عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَجَرت فِيهِ مناظرة بَين أبي مُوسَى وَابْن مَسْعُود على مَا سَيَأْتِي فِي بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة وَقيل أَن ابْن مَسْعُود رَجَعَ عَن ذَلِك (فَإِن قلت) كَيفَ

(4/18)


جَازَ لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ترك الصَّلَاة (قلت) مَعْنَاهُ أَنه لم يصل بِالتَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ كَانَ يتَوَقَّع الْوُصُول إِلَى المَاء قبل خُرُوج الْوَقْت أَو أَنه جعل آيَة التَّيَمُّم مُخْتَصَّة بِالْحَدَثِ الْأَصْغَر وَأدّى اجْتِهَاده إِلَى أَن الْجنب لَا يتَيَمَّم قَوْله " فتمعكت " وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة بعد " فتمرغت " بالغين الْمُعْجَمَة أَي تقلبت (ذكر استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يكن يرى للْجنب التَّيَمُّم لقَوْل عمار لَهُ " فَأَما أَنْت فَلم تصل " وَقد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ لم يسق هَذَا الحَدِيث بِتَمَامِهِ وَالْأَئِمَّة السِّتَّة أَخْرجُوهُ مطولا ومختصرا وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى " قَالَ كنت عِنْد عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ إِنَّا نَكُون بِالْمَكَانِ الشَّهْر أَو الشَّهْرَيْنِ فَقَالَ عمر أما أَنا فَلم أكن أُصَلِّي حَتَّى أجد المَاء قَالَ فَقَالَ عمار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما تذكر إِذْ كنت أَنا وَأَنت فِي الْإِبِل فأصابتنا جَنَابَة فَأَما أَنا فتمعكت فأتينا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تَقول هَكَذَا وَضرب بيدَيْهِ إِلَى الأَرْض ثمَّ نفخهما ثمَّ مسح بهما وَجهه وَيَديه إِلَى نصف الذِّرَاع فَقَالَ عمر يَا عمار اتَّقِ الله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن شِئْت وَالله لم أذكرهُ أبدا فَقَالَ عمر كلا وَالله لنولينك مَا توليت ". الثَّانِي فِيهِ دَلِيل على صِحَة الْقيَاس لقَوْل عمار " أما أَنا فتمعكت " فَإِنَّهُ اجْتهد فِي صفة التَّيَمُّم ظنا مِنْهُ أَن حَالَة الْجَنَابَة تخَالف حَالَة الْحَدث الْأَصْغَر فقاسه على الْغسْل وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ عِنْده علم من أصل التَّيَمُّم ثمَّ أَنه لما أخبر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علمه صفة التَّيَمُّم فَإِنَّهُ للجنابة وَالْحَدَث سَوَاء الثَّالِث فِيهِ صفة التَّيَمُّم وَهِي ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَبِه قَالَ عَطاء وَالشعْبِيّ فِي رِوَايَة وَالْأَوْزَاعِيّ فِي أشهر قوليه وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد واسحق والطبري وَقَالَ أَبُو عمر وَهُوَ أثبت مَا روى فِي ذَلِك عَن عمار وَسَائِر أَحَادِيث عمار مُخْتَلف فِيهَا وَأَجَابُوا عَن هَذَا بِأَن المُرَاد هَهُنَا هُوَ صُورَة الضَّرْب للتعليم وَلَيْسَ المُرَاد جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم وَقد أوجب الله غسل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين فِي الْوضُوء ثمَّ قَالَ فِي التَّيَمُّم {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} وَالظَّاهِر أَن الْيَد الْمُطلقَة هَهُنَا هِيَ الْمقيدَة فِي الْوضُوء من أول الْآيَة فَلَا يتْرك هَذَا الصَّرِيح إِلَّا بِدلَالَة صَرِيح (فَإِن قلت) مَا تَقول فِي حَدِيثه " تيممنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى المناكب والآباط " (قلت) لَيْسَ هُوَ مُخَالفا لحَدِيث الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَفِي هَذَا دلَالَة أَنه انْتهى إِلَى مَا علمه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ ابْن أبي حَازِم لَا يَخْلُو أَن يكون حَدِيث عمار بِأَمْر أَولا فَإِن يكن عَن غير أَمر فقد صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافه وَإِن كَانَ عَن أَمر فَهُوَ مَنْسُوخ وناسخه حَدِيث عمار أَيْضا ثمَّ إِن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة التَّيَمُّم فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم وَاللَّيْث بن سعد إِلَى أَنه ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين غير أَن عِنْد مَالك إِلَى الكوعين فرض وَإِلَى الْمرْفقين اخْتِيَار وَقَالَ الْحسن بن حييّ وَابْن أبي ليلى التَّيَمُّم ضربتان يمسح بِكُل ضَرْبَة مِنْهُمَا وَجهه وذراعيه ومرفقيه وَقَالَ الْخطابِيّ لم يقل ذَلِك أحد من أهل الْعلم غَيرهمَا فِي علمي وَقَالَ الزُّهْرِيّ يبلغ بِالتَّيَمُّمِ الآباط وَفِي شرح الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة قَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء يضْرب أَربع ضربات ضربتان للْوَجْه وضربتان لِلْيَدَيْنِ وَقَالَ ابْن بزيزة وَلَيْسَ لَهُ أصل من السّنة وَقَالَ بعض الْعلمَاء يتَيَمَّم الْجنب إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَغَيره إِلَى الكوعين قَالَ وَهُوَ قَول ضَعِيف وَفِي الْقَوَاعِد لِابْنِ رشد روى عَن مَالك الِاسْتِحْبَاب إِلَى ثَلَاث وَالْفَرْض اثْنَتَانِ وَقَالَ ابْن سِيرِين ثَلَاث ضربات الثَّالِثَة لَهما جَمِيعًا وَفِي رِوَايَة عَنهُ ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للكف وضربة للذراعين انْتهى وَلما كَانَت لعمَّار فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث مُخْتَلفَة مضطربة وَذهب كل وَاحِد من الْمَذْكُورين إِلَى حَدِيث مِنْهَا كَانَ الرُّجُوع فِي ذَلِك إِلَى ظَاهر الْكتاب وَهُوَ يدل على ضربتين ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين قِيَاسا على الْوضُوء اتبَاعا بِمَا روى فِي ذَلِك من أَحَادِيث تدل على الضربتين إِحْدَاهمَا للْوَجْه وَالْأُخْرَى لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين. مِنْهَا حَدِيث الأسلع بن شريك التَّمِيمِي خَادِم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى عَن قريب وَفِيه ضربتان رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ. وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عمر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَا رَوَاهُ عَليّ بن طهْمَان مَرْفُوعا وَوَقفه يحيى الْقطَّان وهشيم وَغَيرهمَا وَهُوَ الصَّوَاب وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا من طرق مَوْقُوفا وَمِنْهَا حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي الزبير عَن

(4/19)


جَابر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين " وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا وَالْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث اسحق الْحَرْبِيّ وَقَالَ هَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَقَالَ الذَّهَبِيّ أَيْضا إِسْنَاده صَحِيح وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من يمْنَع صِحَّته وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا ووردت فِي ذَلِك آثَار صَحِيحَة. مِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث قَتَادَة عَن الْحسن أَنه قَالَ " ضَرْبَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين " وروى عَن إِبْرَاهِيم وطاووس وَسَالم وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب نَحوه وروى مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة قَالَ حَدثنَا حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم فِي التَّيَمُّم " قَالَ تضع راحتيك فِي الصَّعِيد فتمسح وَجهك ثمَّ تضعهما الثَّانِيَة فتمسح يَديك وذراعيك إِلَى الْمرْفقين " قَالَ مُحَمَّد وَبِه نَأْخُذ وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه أخبرنَا ابْن مهْدي عَن زَمعَة عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه قَالَ " التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين " حَدثنَا ابْن علية عَن دَاوُد عَن الشّعبِيّ قَالَ " التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " وروى فِي ذَلِك أَيْضا عَن أبي أُمَامَة وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا ولكنهما ضعيفان فَحَدِيث أبي أُمَامَة أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " وَفِي إِسْنَاده جَعْفَر بن الزبير قَالَ شُعْبَة وضع أَربع مائَة حَدِيث وَحَدِيث عَائِشَة أخرجه الْبَزَّار بِإِسْنَادِهِ عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " فِي التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " وَفِي إِسْنَاده الْحَرِيش بن حُرَيْث ضعفه أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة. الرَّابِع احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة على جَوَاز التَّيَمُّم من الصَّخْرَة الَّتِي لَا غُبَار عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُعْتَبرا لما نفخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي يَدَيْهِ. الْخَامِس فِيهِ أَن النفخ سنة أَو مُسْتَحبّ
5 - (بابٌ التَّيَمُّمُ لِلْوَجْهِ وَالكفَّيْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ بَيَان أَن التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، وَمعنى أَحَادِيث هَذَا الْبَاب هُوَ معنى الحَدِيث الَّذِي فِي الْبَاب السَّابِق، غير أَنه رُوِيَ هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة مَرْفُوعا، وَهَهُنَا أخرجه عَن سِتَّة مَشَايِخ كلهم عَن شبعة، ثَلَاثَة مِنْهَا مَوْقُوفَة، وَثَلَاثَة مَرْفُوعَة، كَمَا ستقف عَلَيْهَا، وَهَهُنَا: عَن حجاج عَن شُعْبَة، وحجاح هُوَ ابْن منهال، بِكَسْر الْمِيم. وَقَوله: بَاب، منون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: التَّيَمُّم، كَمَا ذكرنَا. وَقَوله؛ التَّيَمُّم للْوَجْه، مُبْتَدأ، وَالْكَفَّيْنِ، عطف على: الْوَجْه، أَي: وللكفين، وَخَبره مَحْذُوف أَي: التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ الْآن، ثمَّ يقدر بعد ذَلِك لَفْظَة: جَوَازًا، يَعْنِي من حَيْثُ الْجَوَاز، أَو يقدر وجوبا، يَعْنِي من حَيْثُ الْوُجُوب. وَالْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات أَن التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة سَوَاء كَانَ وجوبا أَو جَوَازًا. وَقَالَ بَعضهم؛ بَاب التَّيَمُّم للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، أَي: هُوَ الْوَاجِب المجزىء. قلت: تَقْيِيده بِالْوُجُوب لَا يفهم مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعم من ذَلِك، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وأتى بذلك بِصِيغَة الْجَزْم مَعَ شهرة الْخلاف فِيهِ لقُوَّة دَلِيله، فَإِن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي صفة التَّيَمُّم لم يَصح مِنْهَا سوى حَدِيث أبي جهيم وعمار، وَمَا عداهما فضعيف أَو مُخْتَلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَالرَّاجِح عدم رَفعه. وَأما حَدِيث أبي جهيم فورد بِذكر الْيَدَيْنِ مُجملا، وَأما حَدِيث عمار فورد بِذكر الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: وبذكر الْمرْفقين فِي (السّنَن) . انْتهى. قلت: قَوْله: لم يَصح مِنْهَا سوى حَدِيث أبي جهيم وعمار، غير مُسلم، وَكُنَّا قد ذكرنَا أَنه رُوِيَ فِيهِ عَن جَابر مَرْفُوعا: (إِن التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين) ، وَأَن الْحَاكِم قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح، وَأَن الذَّهَبِيّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من يمْنَع صِحَّته. فَإِن قلت: رَوَاهُ جمَاعَة مَوْقُوفا. قلت: الرّفْع أقوى وَأثبت لِأَنَّهُ أسْند من وَجْهَيْن، وَقَوله: أما حَدِيث أبي جهيم فورد بِذكر الْيَدَيْنِ مُجملا، غير صَحِيح، وَلَا يُطلق عَلَيْهِ حد الْإِجْمَال، بل هُوَ مُطلق يتَنَاوَل إِلَى الْكَفَّيْنِ وَإِلَى الْمرْفقين وَإِلَى مَا وَرَاء ذَلِك، وَلَكِن رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي هَذَا الحَدِيث خصصته وفسرته، بقوله: (فَمسح بِوَجْهِهِ وذراعيه) . فَإِن قلت: هَذَا الْقَائِل لم يرد الْإِجْمَال الاصطلاحي، بل أَرَادَ الْإِجْمَال اللّغَوِيّ. قلت: إِن كَانَ ذَلِك فَحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ أوضحه وكشفه، كَمَا ذكرنَا.

933 - ح دّثنا حَجَّاجٌ قالَ أخبرنَا شُعْبَةُ أَخْبرنِي الْحَكَمُ عنْ ذَرَ عنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبْزَى عنْ أبِيهِ قالَ عَمَّارٌ بِهَذَا وَضَرَبَ شُعْبَةُ بيَدَيْهِ الأَرْضَ ثُمَّ أدْناهُمَا مِنْ فيهِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

(4/20)


قد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب عَن سِتَّة من الْمَشَايِخ. الأول: مَوْقُوف يرويهِ عَن حجاج بن منهال إِلَى آخِره، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة قَالَ: حدّثنا حجاج، قَالَ: حدّثنا شُعْبَة، قَالَ: أَخْبرنِي الحكم عَن ذَر عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه عَن عمار رَضِي اتعالى عَنهُ: (أَن رَسُول الله قَالَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا وَضرب شُعْبَة بكفيه إِلَى الأَرْض وأدناهما من فِيهِ، فَنفخ فيهمَا، ثمَّ مسح وَجهه وكفيه) . ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَكَذَا قَالَ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ذَر عَن ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه. قَالَ بَعضهم: أَشَارَ الطَّحَاوِيّ إِلَى أَنه وهم فِيهِ، لِأَنَّهُ أسقط لَفْظَة (ابْن) ، وَلَا بُد مِنْهَا لِأَن: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن لَا رِوَايَة لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث. قلت: رِوَايَة مُحَمَّد بن خُزَيْمَة الْمَذْكُورَة تبتنى على صِحَة قَول من يَقُول: إِن أَبْزَى وَالِد عبد الرَّحْمَن صَحَابِيّ، وَهُوَ قَول ابْن مَنْدَه، فَإِنَّهُ جعله من الصَّحَابَة، وروى بِإِسْنَادِهِ عَن هِشَام عَن عبيد االرازي عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل بن حبَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، (عَن رَسُول الله أَنه: خطب للنَّاس قَائِما، ثمَّ قَالَ: مَا بَال أَقوام لَا يعلمُونَ جيرانهم وَلَا يفقهونهم وَلَا يعظونهم وَلَا يأمرونهم وَلَا ينهونهم) ؟ . الحَدِيث، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (الْمسند) عَن مُحَمَّد بن أبي سهل عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل عَن عَلْقَمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي بِهَذَا، وَقد رده أَبُو نعيم عَلَيْهِ، وَقَالَ: ذكر ابْن مَنْدَه أَن البُخَارِيّ ذكره فِي كتاب الوجدان، وَأخرج لَهُ حَدِيث أبي سَلمَة عَن ابْن أَبْزَى عَن النَّبِي، وَلم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى الْخُزَاعِيّ، ذكره البُخَارِيّ فِي الوجدان، وَلَا يَصح لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة، ولابنه عبد الرَّحْمَن صُحْبَة وَرِوَايَة. قلت: وَكَذَلِكَ لم يذكر أَبُو عمر: أَبْزَى فِي الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ذكر عبد الرَّحْمَن لِأَنَّهُ لم يَصح عِنْده صُحْبَة أَبْزَى، وَمَعَ هَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي صُحْبَة عبد الرَّحْمَن أَيْضا، فَإِن ابْن حبَان ذكره فِي التَّابِعين، وَقَالَ: أَبُو بكر بن أبي دَاوُد: لم يحدث ابْن أبي ليلى من التَّابِعين إلاَّ عَن ابْن أَبْزَى، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَهُ صُحْبَة، وَذكره غير وَاحِد فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: أدْرك النَّبِي وَصلى خَلفه، روى عَنهُ ابناه عبد اوسعيد.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: حجاج بن منهال. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الحكم بن عتيبة. الرَّابِع: ذَر بن عبد االهمداني. الْخَامِس: سعيد بن عبد الرَّحْمَن. السَّادِس: أَبوهُ عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى. السَّابِع: عمار بن يَاسر رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ قَوْله: (أَخْبرنِي الحكم) وَهُوَ رِوَايَة كَرِيمَة، والأصيلي وَابْن الْمُنْذر، وَفِي راية غَيرهم عَن الحكم. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: عَن ابْن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عمار بِهَذَا) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى سِيَاق الْمَتْن الَّذِي قبله، من رِوَايَة آدم عَن شُعْبَة: وَهُوَ كَذَلِك، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي رِوَايَة حجاج هَذِه قصَّة عمر رَضِي اتعالى عَنهُ. قَوْله: (وَضرب شُعْبَة) مقول الْحجَّاج. قَوْله: (ثمَّ أدناهما) أَي: قربهما من فِيهِ، وَهِي كِنَايَة عَن النفخ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ خَفِيفا، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب: نقل فيهمَا، قَالَ أهل اللُّغَة: التفل دون البزق، والنفث دونه، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت مستوفاة.
وقالَ النَّضْرُ أخبرنَا شُعْبَةُ عنِ الْحَكَمِ قالَ سَمِعْتُ ذَرَّاً يَقُولُ عنِ ابنِ عبد الرَّحْمَنِ ابنِ أبْزى اقالَ الْحَكَمُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ منِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ أبِيهِ قالَ قالَ عَمَّارٌ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضوءُ المسْلمِ يَكْفِيهِ مِنَ الماءِ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَنه تَعْلِيق، وَقد وَصله مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر. وَأخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من طَرِيق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ النَّضر من كَلَام البُخَارِيّ: وَالظَّاهِر أَنه علق عَن النَّضر لِأَنَّهُ مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ بالعراق، وَكَانَ البُخَارِيّ حينئذٍ ابْن سبع سِنِين ببخاري.
النَّوْع الثَّانِي فِي رِجَاله: وهم تِسْعَة. الأول: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، والبقية ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه: القَوْل أَولا والإخبار بِصِيغَة الْجمع ثَانِيًا، والعنعنة ثَالِثا، وَالْقَوْل رَابِعا وخامساً بَينهمَا السماع، والعنعنة سادساً، وَالْقَوْل سابعاً، وَالسَّمَاع ثامناً، والعنعنة تاسعاً، وَالْقَوْل عاشراً. قَوْله: (قَالَ الحكم) : الخ إِشَارَة إِلَى أَن الحكم كَمَا سمع هَذَا الْخَبَر من ذَر، سَمعه أَيْضا من شيخ ذَر وَهُوَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن، فَكَأَنَّهُ

(4/21)


سَمعه أَولا من ذَر ثمَّ لَقِي سعيداً فَأَخذه عَنهُ، وَلَكِن سَمَاعه من ذَر أثبت لوروده كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات. ثمَّ قَوْله: (وَقَالَ الحكم) : يحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام شُعْبَة فَيكون دَاخِلا فِي إِسْنَاده. كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: يحْتَمل أَن يكون من كَلَام النَّضر، وَهُوَ الظَّاهِر.
(النَّوْع الثَّالِث فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (الصَّعِيد الطّيب) أَي: الأَرْض الطاهرة، وَقد مر مرّة أَن الصَّعِيد وَجه الأَرْض، فعيل بِمَعْنى مفعول أَي مصعود عَلَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَة: الصَّعِيد: الأَرْض الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَلَا شجر، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: الطّيب النَّظِيف، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه الطَّاهِر. وَقيل: الْحَلَال، وَقيل: الطّيب، مَا تستطيبه النَّفس، وَذكر فِي (الْهِدَايَة) فِي اسْتِدْلَال الشَّافِعِي على أَن التَّيَمُّم لَا يجوز إلاَّ بِالتُّرَابِ، بقوله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) أَي: تُرَابا منبتاً، قَالَه ابْن عَبَّاس قلت: فِي شَرحه الَّذِي قَالَه عبد ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من جِهَة قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أطيب الصَّعِيد حرث الأَرْض، وَالِاسْتِدْلَال للشَّافِعِيّ بِهَذَا غير موجه لِأَنَّهُ غير قَائِل بِاشْتِرَاط الإنبات فِي التُّرَاب الَّذِي يجوز بِهِ التَّيَمُّم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الإنبات لَيْسَ بِشَرْط فِي الْأَصَح. قَوْله: (يَكْفِيهِ من المَاء) ، يَعْنِي: يَكْفِي الْمُسلم، أَي: يجْزِيه عِنْد عدم المَاء.

933 - ح دّثنا حَجَّاجٌ قالَ أخبرنَا شُعْبَةُ أَخْبرنِي الْحَكَمُ عنْ ذَرَ عنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبْزَى عنْ أبِيهِ قالَ عَمَّارٌ بِهَذَا وَضَرَبَ شُعْبَةُ بيَدَيْهِ الأَرْضَ ثُمَّ أدْناهُمَا مِنْ فيهِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.
قد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب عَن سِتَّة من الْمَشَايِخ. الأول: مَوْقُوف يرويهِ عَن حجاج بن منهال إِلَى آخِره، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة قَالَ: حدّثنا حجاج، قَالَ: حدّثنا شُعْبَة، قَالَ: أَخْبرنِي الحكم عَن ذَر عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه عَن عمار رَضِي اتعالى عَنهُ: (أَن رَسُول الله قَالَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا وَضرب شُعْبَة بكفيه إِلَى الأَرْض وأدناهما من فِيهِ، فَنفخ فيهمَا، ثمَّ مسح وَجهه وكفيه) . ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَكَذَا قَالَ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ذَر عَن ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه. قَالَ بَعضهم: أَشَارَ الطَّحَاوِيّ إِلَى أَنه وهم فِيهِ، لِأَنَّهُ أسقط لَفْظَة (ابْن) ، وَلَا بُد مِنْهَا لِأَن: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن لَا رِوَايَة لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث. قلت: رِوَايَة مُحَمَّد بن خُزَيْمَة الْمَذْكُورَة تبتنى على صِحَة قَول من يَقُول: إِن أَبْزَى وَالِد عبد الرَّحْمَن صَحَابِيّ، وَهُوَ قَول ابْن مَنْدَه، فَإِنَّهُ جعله من الصَّحَابَة، وروى بِإِسْنَادِهِ عَن هِشَام عَن عبيد االرازي عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل بن حبَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، (عَن رَسُول الله أَنه: خطب للنَّاس قَائِما، ثمَّ قَالَ: مَا بَال أَقوام لَا يعلمُونَ جيرانهم وَلَا يفقهونهم وَلَا يعظونهم وَلَا يأمرونهم وَلَا ينهونهم) ؟ . الحَدِيث، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (الْمسند) عَن مُحَمَّد بن أبي سهل عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل عَن عَلْقَمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي بِهَذَا، وَقد رده أَبُو نعيم عَلَيْهِ، وَقَالَ: ذكر ابْن مَنْدَه أَن البُخَارِيّ ذكره فِي كتاب الوجدان، وَأخرج لَهُ حَدِيث أبي سَلمَة عَن ابْن أَبْزَى عَن النَّبِي، وَلم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى الْخُزَاعِيّ، ذكره البُخَارِيّ فِي الوجدان، وَلَا يَصح لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة، ولابنه عبد الرَّحْمَن صُحْبَة وَرِوَايَة. قلت: وَكَذَلِكَ لم يذكر أَبُو عمر: أَبْزَى فِي الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ذكر عبد الرَّحْمَن لِأَنَّهُ لم يَصح عِنْده صُحْبَة أَبْزَى، وَمَعَ هَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي صُحْبَة عبد الرَّحْمَن أَيْضا، فَإِن ابْن حبَان ذكره فِي التَّابِعين، وَقَالَ: أَبُو بكر بن أبي دَاوُد: لم يحدث ابْن أبي ليلى من التَّابِعين إلاَّ عَن ابْن أَبْزَى، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَهُ صُحْبَة، وَذكره غير وَاحِد فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: أدْرك النَّبِي وَصلى خَلفه، روى عَنهُ ابناه عبد اوسعيد.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: حجاج بن منهال. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الحكم بن عتيبة. الرَّابِع: ذَر بن عبد االهمداني. الْخَامِس: سعيد بن عبد الرَّحْمَن. السَّادِس: أَبوهُ عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى. السَّابِع: عمار بن يَاسر رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ قَوْله: (أَخْبرنِي الحكم) وَهُوَ رِوَايَة كَرِيمَة، والأصيلي وَابْن الْمُنْذر، وَفِي راية غَيرهم عَن الحكم. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: عَن ابْن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عمار بِهَذَا) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى سِيَاق الْمَتْن الَّذِي قبله، من رِوَايَة آدم عَن شُعْبَة: وَهُوَ كَذَلِك، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي رِوَايَة حجاج هَذِه قصَّة عمر رَضِي اتعالى عَنهُ. قَوْله: (وَضرب شُعْبَة) مقول الْحجَّاج. قَوْله: (ثمَّ أدناهما) أَي: قربهما من فِيهِ، وَهِي كِنَايَة عَن النفخ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ خَفِيفا، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب: نقل فيهمَا، قَالَ أهل اللُّغَة: التفل دون البزق، والنفث دونه، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت مستوفاة.
وقالَ النَّضْرُ أخبرنَا شُعْبَةُ عنِ الْحَكَمِ قالَ سَمِعْتُ ذَرَّاً يَقُولُ عنِ ابنِ عبد الرَّحْمَنِ ابنِ أبْزى اقالَ الْحَكَمُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ منِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ أبِيهِ قالَ قالَ عَمَّارٌ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضوءُ المسْلمِ يَكْفِيهِ مِنَ الماءِ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَنه تَعْلِيق، وَقد وَصله مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر. وَأخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من طَرِيق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ النَّضر من كَلَام البُخَارِيّ: وَالظَّاهِر أَنه علق عَن النَّضر لِأَنَّهُ مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ بالعراق، وَكَانَ البُخَارِيّ حينئذٍ ابْن سبع سِنِين ببخاري.
النَّوْع الثَّانِي فِي رِجَاله: وهم تِسْعَة. الأول: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، والبقية ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه: القَوْل أَولا والإخبار بِصِيغَة الْجمع ثَانِيًا، والعنعنة ثَالِثا، وَالْقَوْل رَابِعا وخامساً بَينهمَا السماع، والعنعنة سادساً، وَالْقَوْل سابعاً، وَالسَّمَاع ثامناً، والعنعنة تاسعاً، وَالْقَوْل عاشراً. قَوْله: (قَالَ الحكم) : الخ إِشَارَة إِلَى أَن الحكم كَمَا سمع هَذَا الْخَبَر من ذَر، سَمعه أَيْضا من شيخ ذَر وَهُوَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن، فَكَأَنَّهُ سَمعه أَولا من ذَر ثمَّ لَقِي سعيداً فَأَخذه عَنهُ، وَلَكِن سَمَاعه من ذَر أثبت لوروده كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات. ثمَّ قَوْله: (وَقَالَ الحكم) : يحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام شُعْبَة فَيكون دَاخِلا فِي إِسْنَاده. كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: يحْتَمل أَن يكون من كَلَام النَّضر، وَهُوَ الظَّاهِر.
(النَّوْع الثَّالِث فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (الصَّعِيد الطّيب) أَي: الأَرْض الطاهرة، وَقد مر مرّة أَن الصَّعِيد وَجه الأَرْض، فعيل بِمَعْنى مفعول أَي مصعود عَلَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَة: الصَّعِيد: الأَرْض الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَلَا شجر، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: الطّيب النَّظِيف، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه الطَّاهِر. وَقيل: الْحَلَال، وَقيل: الطّيب، مَا تستطيبه النَّفس، وَذكر فِي (الْهِدَايَة) فِي اسْتِدْلَال الشَّافِعِي على أَن التَّيَمُّم لَا يجوز إلاَّ بِالتُّرَابِ، بقوله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) أَي: تُرَابا منبتاً، قَالَه ابْن عَبَّاس قلت: فِي شَرحه الَّذِي قَالَه عبد ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من جِهَة قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أطيب الصَّعِيد حرث الأَرْض، وَالِاسْتِدْلَال للشَّافِعِيّ بِهَذَا غير موجه لِأَنَّهُ غير قَائِل بِاشْتِرَاط الإنبات فِي التُّرَاب الَّذِي يجوز بِهِ التَّيَمُّم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الإنبات لَيْسَ بِشَرْط فِي الْأَصَح. قَوْله: (يَكْفِيهِ من المَاء) ، يَعْنِي: يَكْفِي الْمُسلم، أَي: يجْزِيه عِنْد عدم المَاء.

0437 - ح دّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عنْ ذَرَ عنِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبْزَى عنْ أبِيهِ أنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ وَقالَ لَهُ عَمَّارٌ كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ فأجْنَبْنَا وقالَ تَفَلَ فِيهِمَا.

هَذِه رِوَايَته الثَّالِثَة فِي الْخَبَر الْمَذْكُور، وَهِي عَن سُلَيْمَان بن حَرْب يروي عَن شُعْبَة إِلَى آخِره. وأفادت رِوَايَته هَذِه أَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، كَانَ قد أجنب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن اجْتِهَاده خَالف اجْتِهَاد عمار. قَوْله: (شهد) أَي: حضر. قَوْله: (وَقَالَ لَهُ عمار) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (فِي سَرِيَّة) بتَخْفِيف الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الْقطعَة من الْجَيْش يبلغ أقصاها أَربع مائَة تبْعَث إِلَى الْعَدو، وَجَمعهَا: السَّرَايَا، سموا بذلك لأَنهم يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم، من الشَّيْء السّري: النفيس. وَقيل: سموا بذلك لأَنهم يبعثون سرا وخفية، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ، لِأَن لَام السِّرّ: رَاء، وَهَذِه: يَاء، قَوْله: (فأجنبنا) أَي: صرنا جنبا، وَالْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والمثنى وَالْجمع، والمؤنث، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَقَالَ تفل فيهمَا) أَي: فِي الْيَدَيْنِ، وَهُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق. قَالَ الْجَوْهَرِي: التفل شَبيه بالبزاق، وَهُوَ أقل مِنْهُ، أَوله البزق ثمَّ التفل ثمَّ النفث ثمَّ النفخ، وَالْمَقْصُود أَنه قَالَ مَكَان نفخ فيهمَا: تفل فيهمَا.

1438 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عنْ ذَرَ عنِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبْزَى عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ قالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ تَمَعَّكْتُ فأتَيْتُ النبيَّ فَقال: (يَكْفِيكَ الوَجْهُ والكَفَّيْنِ) .

هَذِه رِوَايَته الرَّابِعَة عَن مُحَمَّد بن كثير عَن شُعْبَة الخ. قَوْله: (تمعكت) أَي: تمرغت، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة. قَوْله: (يَكْفِيك الْوَجْه) ، أَي: يَكْفِيك مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّم. قَوْله: (وَالْكَفَّيْنِ) ، بِالنّصب رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره: (والكفان) بِالرَّفْع، وَهُوَ الظَّاهِر لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الْوَجْه وَهُوَ مَرْفُوع على الفاعلية، وَالْأَحْسَن فِي وَجه النصب أَن تكون: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، أَي: يَكْفِيك الْوَجْه مَعَ الْكَفَّيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، إِذا الأَصْل مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، فَحذف الْمُضَاف وَبَقِي الْمَجْرُور بِهِ على مَا كَانَ عَلَيْهِ. انْتهى. قلت: على قَوْله هَذَا يَنْبَغِي أَن يكون الْوَجْه أَيْضا مجروراً كالكفين، وَهَذَا لَهُ وَجه إِن صحت الرِّوَايَة بِهِ، وَقَالَ بَعضهم فِي رِوَايَة أبي ذَر: (يَكْفِيك الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ) ، بِالنّصب فيهمَا على المفعولية إِمَّا بإضمار، أَعنِي: أَو التَّقْدِير يَكْفِيك أَن تمسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام من لَيْسَ لَهُ مس من الْعَرَبيَّة. لِأَن فِي التَّقْدِير:
الأول: يبْقى الْفِعْل بِلَا فَاعل وَهُوَ لَا يجوز، وَفِي الثَّانِي: أَخذ الْفِعْل فَاعله فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّقْدِير لعدم الدَّاعِي إِلَى ذَلِك، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ.
ويستنبط مِنْهُ: أَن التَّيَمُّم هُوَ مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لَا غير، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة مِنْهُم: أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ النَّوَوِيّ: رَوَاهُ أَبُو ثَوْر وَغَيره عَن الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَأنْكرهُ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره. قَالَ: هُوَ إِنْكَار مَرْدُود لِأَن أَبَا ثَوْر ثِقَة وَقَالَ هَذَا القَوْل وَإِن كَانَ مرجوحاً عِنْد الْأَصْحَاب وَلكنه قوي من حَيْثُ الدَّلِيل، وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد من هَذَا الحَدِيث

(4/22)


بَيَان صُورَة الضَّرْب للتعليم لَا لبَيَان جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم. وَقَالَ بَعضهم: ويعقب بِأَن سِيَاق الْكَلَام يدل على التَّصْرِيح أَن المُرَاد بَيَان جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم، لِأَن ذَلِك هُوَ الظَّاهِر من قَوْله: إِنَّمَا يَكْفِيك. انْتهى. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ وَغَيره. إِن حَدِيث عمار لَا يصلح حجَّة فِي كَون التَّيَمُّم إِلَى الْكَفَّيْنِ أَو الكوعين أَو الْمرْفقين أَو الْمَنْكِبَيْنِ أَو الإبطين، كَمَا ذهبت إِلَى كل وَاحِد طَائِفَة من أهل الْعلم، وَذَلِكَ لاضطرابه كَمَا قد رَأَيْت، فَلذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد ضعف بعض أهل الْعلم حَدِيث عمار فِي التَّيَمُّم للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لما روى عَنهُ حَدِيث المناكب والأباط.

6 - (بابٌ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ يَكْفِيهِ مِنَ الْماءِ)

أَي: هَذَا بَاب يبين فِيهِ الصَّعِيد الطّيب إِلَى آخِره، وَبَاب، بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (الصَّعِيد) مُبْتَدأ (وَالطّيب) صفته، وَقَوله: (وضوء الْمُسلم) خَبره. وَقد ذكرنَا عَن قريب معنى: الصَّعِيد الطّيب. قَوْله: (يَكْفِيهِ) أَي: يجْزِيه ويغنيه عَن المَاء عِنْد عَدمه حَقِيقَة أَو حكما، وَمثل هَذِه التَّرْجَمَة روى الْبَزَّار من طَرِيق هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَصَححهُ ابْن الْقطَّان. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّوَاب إرْسَاله، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي قلَابَة عَن عَمْرو بن بجدان عَن أبي ذَر: (اجْتمعت غنيمَة عِنْد رَسُول ا) الحَدِيث، وَفِيه، فَقَالَ: (الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم وَلَو إِلَى عشر سِنِين) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى تَضْعِيف ابْن الْقطَّان لهَذَا الحَدِيث بِعَمْرو بن بجدان لكَون حَاله لَا يعرف، وَيَكْفِي تَصْحِيح التِّرْمِذِيّ إِيَّاه فِي معرفَة حَال عَمْرو بن بجدان، وبجدان، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْجِيم بعْدهَا دَال مُهْملَة وَفِي آخِره نون. قَوْله: (وَلَو إِلَى عشر سِنِين) المُرَاد بهَا الْكَثْرَة لَا الْعشْرَة، وَتَخْصِيص الْعشْرَة لأجل الْكَثْرَة لِأَنَّهَا مُنْتَهى عدد الْآحَاد. وَالْمعْنَى: أَن لَهُ أَن يفعل التَّيَمُّم مرّة بعد أُخْرَى، وَإِن بلغت مُدَّة عدم المَاء إِلَى عشر سِنِين، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَن التَّيَمُّم دفْعَة وَاحِدَة يَكْفِيهِ عشر سِنِين.
وقالَ الحَسَنُ يُجْزِئُهُ التَّيَمُمُ مَا لمْ يُحْدِثْ.
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يَكْفِيهِ التَّيَمُّم الْوَاحِد مَا لم يحدث، أَي: مُدَّة عدم الْحَدث. قَوْله: (يُجزئهُ) ، بِضَم الْيَاء وبالهمزة فِي آخِره من: الْإِجْزَاء، وَهُوَ لُغَة: الْكِفَايَة، وَاصْطِلَاحا: الْأَدَاء الْكَافِي لسُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، ويروى: (يجْزِيه) ، بِفَتْح الْيَاء الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جزأت بالشَّيْء اكتفيت بِهِ، وجزى عني هَذَا، أَي: قضى فَهُوَ على التَّقْدِيرَيْنِ لَازم، فَلَعَلَّ التَّقْدِير:

(4/23)


يقْضِي عَن المَاء التَّيَمُّم، فَحذف الْجَار وأوصل الْفِعْل، وَالْقَصْد أَن التَّيَمُّم حكمه حكم الْوضُوء فِي جَوَاز أَدَاء الْفَرَائِض المتعددة بِهِ والنوافل مَا لم يحدث بِأحد الحدثين، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ إِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَابْن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث وَالْحسن بن حييّ وَدَاوُد بن عَليّ، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اتعالى عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يتَيَمَّم لكل صَلَاة فرض، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَشريك وَاللَّيْث وَأبي ثَوْر، وَذكره الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس من طرق ضَعِيفَة، وَمن حَدِيث قَتَادَة عَن عَمْرو بن الْعَاصِ والْحَارث عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَعند الْحَاكِم مصححاً من حَدِيث أبي ذَر، وَقد طول الْكرْمَانِي فِي الِاحْتِجَاج للشَّافِعِيّ وَمن تبعه فِي هَذَا من طَرِيق الْعقل وَالنَّقْل يُبطلهُ، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر عَن الْحسن مُعَلّقا، وَوَصله ابْن أبي شيبَة: حدّثنا هشيم عَن يُونُس عَن الْحسن. قَالَ: (لَا ينْقض التَّيَمُّم إلاَّ الْحَدث) ، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم وَعَطَاء، وَوَصله أَيْضا عبد الرَّزَّاق، وَلَفظه: (يجزىء تيَمّم وَاحِد مَا لم يحدث) . وَوَصله أَبُو مَنْصُور أَيْضا، وَلَفظه: (التَّيَمُّم بِمَنْزِلَة الْوضُوء، إِذا تَوَضَّأت فَأَنت على وضوء حَتَّى تحدث) . وَقَالَ ابْن حزم: وروينا عَن حَمَّاد بن سَلمَة، يَعْنِي من (مُصَنفه) عَن يُونُس بن عبيد عَن الْحسن، قَالَ: (يُصَلِّي الصَّلَوَات كلهَا بِتَيَمُّم وَاحِد، مثل الْوضُوء، مَا لم بِحَدَث) .
وَأَمَّ ابنَ عَبَّاسٍ وهْوَ مُتَيَمِّمٌ.
50
- 50 هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن بِي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح.
ثمَّ وَجه مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّيَمُّم وضوء الْمُسلم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تجوز إِمَامَة الْمُتَيَمم للمتوضىء كإمامة المتوضىء، فَدلَّ ذَلِك على أَن التَّيَمُّم طَهَارَة مُطلقَة غير ضَرُورِيَّة، إِذْ لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لَكَانَ ضَعِيفا، وَلَو كَانَ ضَعِيفا لما أم ابْن عَبَّاس وَهُوَ متيمم بِمن كَانَ متوضئاً، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. عَن مُحَمَّد بن الْحسن: لَا يجوز، وَبِه قَالَ الْحسن بن حييّ، وَكره مَالك وَعبد ابْن الْحسن ذَلِك، فَإِن فعل أَجزَأَهُ. وَقَالَ ربيعَة: لَا يؤم الْمُتَيَمم من جنابته إلاَّ من هُوَ مثله، وَبِه قَالَ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يؤمهم إلاَّ إِذا كَانَ أَمِيرا، كَذَا قَالَه ابْن حزم. وَقَالَ أَبُو طَالب: سَأَلت أَبَا عبد اعن الْجنب يؤم المتوضئين؟ قَالَ: نعم قد أمَّ ابْن عَبَّاس أَصْحَابه وَفِيهِمْ عمار بن يَاسر وَهُوَ جنب، فَتَيَمم، وَعَمْرو بن الْعَاصِ صلى بِأَصْحَابِهِ وَهُوَ جنب، فَأخْبر النَّبِي فَتَبَسَّمَ. قلت: حسان بن عَطِيَّة سمع من عَمْرو بن الْعَاصِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِن يقوى بِحَدِيث ابْن عَبَّاس. فَإِن قلت: قد رُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين) ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب مَوْقُوفا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين، وَلَا الْمُقَيد المطلقين) . قلت: هَذَانِ حديثان ضعيفان، ضعفهما الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حزم وَغَيرهمَا. فَإِن قلت: ذكر أَبُو حَفْص بن شاهين فِي كتاب النَّاسِخ والمنسوخ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب، عَن عمر بن الْخطاب، مَرْفُوعا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين) . قلت: لما ذكره ابْن شاهين ذكر بعده حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ، ثمَّ قَالَ: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الحَدِيث نَاسِخا للْأولِ، وَهَذَا الحَدِيث أَجود إِسْنَادًا من حَدِيث الزُّهْرِيّ، وَإِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي فِي ذَلِك لضَرُورَة وَقعت مَعَ وجود المَاء. فَإِن قلت: يكون هَذَا رخصه لعَمْرو إِذْ لم يَنْهَهُ وَلم يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ. قلت: لَو كَانَ رخصَة لَهُ دون غَيره لم يقل لَهُ؛ أَحْسَنت وَضحك فِي وَجهه، وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الْمَسْأَلَة وَافق فِيهَا الْكُوفِيُّونَ وَالْجُمْهُور على خلاف ذَلِك. قلت: هَذَا عكس الْقَضِيَّة، بل الْجُمْهُور على الْمُوَافقَة، يقف عَلَيْهِ من يمعن النّظر فِي الْكتب. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتج المُصَنّف لعدم الْوُجُوب بِعُمُوم قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب: (فَإِنَّهُ يَكْفِيك) أَي: مَا لم تحدث أَو تَجِد المَاء، وَحمله الْجُمْهُور على أَعم من ذَلِك، أَي: لفريضة وَاحِدَة وَمَا شِئْت من النَّوَافِل. انْتهى. قلت: معنى قَوْله: (فَإِنَّهُ يَكْفِيك) أَي: فِي كل الصَّلَوَات فَرضهَا ونفلها، وَهَذَا هُوَ معنى الأعمية، وَلَيْسَ فِي قَوْله: لفريضة وَاحِدَة وَمَا شِئْت من النَّوَافِل معنى الأعمية، لِأَن معنى الأعمية فِي شَيْء أَن يكون شَامِلًا لجَمِيع أَفْرَاد ذَلِك الشَّيْء، وَلَيْسَ لقَوْله: لفريضة وَاحِدَة، إِفْرَاد. وَأما النَّفْل فَإِنَّهُ تبع للْفَرض، وَالتَّابِع لَيْسَ لَهُ حكم مُسْتَقْبل بل، حكمه حكم الْمَتْبُوع. فَافْهَم.
وقالَ يَحْيَى بنُ سعِيدٍ لاَ بأسَ بالصَّلاَةِ عَلَى السَّبَخَةِ وَالتَّيمُّمِ بِهَا.
يحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ، ومطابقة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى الطّيب الطَّاهِر والسبخة طَاهِرَة، فَتدخل تَحت الطّيب. وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، فِي شَأْن الْهِجْرَة، أَنه قَالَ: (أَرَأَيْت دَار

(4/24)


هجرتكم سبخَة ذَات نخيل) يَعْنِي الْمَدِينَة، قَالَ: وَقد سمى النَّبِي الْمَدِينَة طيبَة فَدلَّ على أَن السبخة دَاخِلَة فِي الطّيب، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إلاَّ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَلم يجوز التَّيَمُّم بهَا، والسبخة بِفَتْح حروفها كلهَا، وَاحِدَة السباخ. فَإِذا قلت: أَرض سبخَة، كسرت الْبَاء. وَقَالَ ابْن سَيّده: هِيَ أَرض ذَات ملح ونزو، وَجَمعهَا: سباخ، وَقد سبخت سبخاً فَهِيَ سبخَة، وأسبخت. وَقَالَ غَيره: هِيَ أَرض تعلوها ملوحة لَا تكَاد تنْبت إِلَّا بعض الشّجر. وَفِي (الباهر) لِابْنِ عديس: سبخت، بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لعبد الْملك بن حبيب: السبخة: الأَرْض المالحة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا، وَلَيْسَت الردغة وَلَا الرداغ كَمَا يَقُول من لَا يعرف.
10 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنِي يحيى بن سعيد قَالَ حَدثنَا عَوْف قَالَ حَدثنَا أَبُو رَجَاء عَن عمرَان قَالَ كُنَّا فِي سفر مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّا أسرينا حَتَّى كُنَّا فِي آخر اللَّيْل وقعنا وقْعَة وَلَا وقْعَة أحلى عِنْد الْمُسَافِر مِنْهَا فَمَا أيقظنا إِلَّا حر الشَّمْس وَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ فلَان ثمَّ فلَان ثمَّ فلَان يسميهم أَبُو رَجَاء فنسي عَوْف ثمَّ عمر بن الْخطاب الرَّابِع وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا نَام لم نوقظه حَتَّى يكون هُوَ يَسْتَيْقِظ لأَنا لَا نَدْرِي مَا يحدث لَهُ فِي نَومه فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عمر وَرَأى مَا أصَاب النَّاس وَكَانَ رجلا جليدا فَكبر وَرفع صَوته بِالتَّكْبِيرِ فَمَا زَالَ يكبر وَيرْفَع صَوته بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ لصوته النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شكوا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُم قَالَ لَا ضير أَو لَا يضير ارتحلوا فارتحلوا فَسَار غير بعيد ثمَّ نزل فَدَعَا بِالْوضُوءِ فَتَوَضَّأ وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فصلى بِالنَّاسِ فَلَمَّا انْفَتَلَ من صلَاته إِذا هُوَ بِرَجُل معتزل لم يصل مَعَ الْقَوْم قَالَ مَا مَنعك يَا فلَان أَن تصلي مَعَ الْقَوْم قَالَ أصابتني جَنَابَة وَلَا مَاء قَالَ عَلَيْك بالصعيد فَإِنَّهُ يَكْفِيك ثمَّ سَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاشتكى إِلَيْهِ النَّاس من الْعَطش فَنزل فَدَعَا فلَانا كَانَ يُسَمِّيه أَبُو رَجَاء نَسيَه عَوْف ودعا عليا فَقَالَ اذْهَبَا فابتغيا المَاء فَانْطَلقَا فتلقيا امْرَأَة بَين مزادتين أَو سطيحتين من مَاء على بعير لَهَا فَقَالَا لَهَا أَيْن المَاء قَالَت عهدي بِالْمَاءِ أمس هَذِه السَّاعَة ونفرنا خلوفا قَالَا لَهَا انطلقي إِذا قَالَت إِلَى أَيْن قَالَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت الَّذِي يُقَال لَهُ الصابىء قَالَا هُوَ الَّذِي تعنين فانطلقي فجاآ بهَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحدثاه الحَدِيث قَالَ فاستنزلوها عَن بَعِيرهَا ودعا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِنَاء ففرغ فِيهِ من أَفْوَاه المزادتين أَو السطيحتين وأوكأ أفواههما وَأطلق العزالي وَنُودِيَ فِي النَّاس اسقوا واستقوا فسقى من شَاءَ واستقى من شَاءَ وَكَانَ آخر ذَاك أَن أعْطى الَّذِي أَصَابَته الْجَنَابَة إِنَاء من مَاء قَالَ اذْهَبْ فأفرغه عَلَيْك وَهِي قَائِمَة تنظر إِلَى مَا يفعل بِمَائِهَا وَايْم الله لقد أقلع عَنْهَا وَإنَّهُ ليُخَيل إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشد ملأة مِنْهَا حِين ابْتَدَأَ فِيهَا فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْمَعُوا لَهَا فَجمعُوا لَهَا من بَين عَجْوَة ودقيقة وسويقة حَتَّى جمعُوا لَهَا طَعَاما فجعلوها فِي ثوب وَحملُوهَا على بَعِيرهَا وَوَضَعُوا الثَّوْب بَين يَديهَا قَالَ لَهَا تعلمين مَا رزئنا من مائك شَيْئا وَلَكِن الله هُوَ الَّذِي أسقانا فَأَتَت أَهلهَا وَقد احْتبست عَنْهُم قَالُوا مَا حَبسك يَا فُلَانَة قَالَت الْعجب لَقِيَنِي رجلَانِ فذهبا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَال لَهُ الصابىء فَفعل كَذَا وَكَذَا فوَاللَّه إِنَّه لأسحر النَّاس من بَين هَذِه وَهَذِه

(4/25)


وَقَالَت باصبعيها الْوُسْطَى والسبابة فرفعتهما إِلَى السَّمَاء تَعْنِي السَّمَاء وَالْأَرْض أَو إِنَّه لرَسُول الله حَقًا فَكَانَ الْمُسلمُونَ بعد ذَلِك يغيرون على من حولهَا من الْمُشْركين وَلَا يصيبون الصرم الَّذِي هِيَ مِنْهُ فَقَالَت يَوْمًا لقومها مَا أرِي أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم يدعونكم عمدا فَهَل لكم فِي الْإِسْلَام فأطاعوها فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَام) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " عَلَيْك بالصعيد فَإِنَّهُ يَكْفِيك ". (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول مُسَدّد بن مسرهد تقدم الثَّانِي يحيى بن سعيد الْقطَّان قَالَ بنْدَار مَا أَظن أَنه عصى الله تَعَالَى قطّ قد تقدم الثَّالِث عَوْف الْأَعرَابِي يُقَال لَهُ عَوْف الصدوق تقدم فِي بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان الرَّابِع أَبُو رَجَاء بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْجِيم وبالمد العطاردي اسْمه عمرَان بن ملْحَان بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة قَالَ البُخَارِيّ الْأَصَح أَنه ابْن تيم أدْرك زمَان الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يره وَأسلم بعد الْفَتْح وأتى عَلَيْهِ مائَة وَعِشْرُونَ سنة مَاتَ فِي سنة بضع وَمِائَة. الْخَامِس عمرَان بن حُصَيْن بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمُهْملَة أَيْضا أسلم عَام خَيْبَر وَرُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة حَدِيث وَثَمَانُونَ حَدِيثا للْبُخَارِيّ مِنْهَا اثنى عشر بَعثه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى الْبَصْرَة ليفقههم وَكَانَت الْمَلَائِكَة تسلم عَلَيْهِ وَكَانَ قَاضِيا بِالْبَصْرَةِ وَمَات بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل وَفِيه حَدثنَا يحيى وَفِي بعض النّسخ حَدثنِي يحيى وَفِيه مُسَدّد بن مسرهد فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره مُسَدّد بِذكرِهِ وَحده وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن أبي الْوَلِيد عَن سلم بن زرير وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ وَعَن اسحق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان " نمنا عَن صَلَاة الْفجْر حَتَّى طلعت الشَّمْس فَأمر الْمُؤَذّن فَأذن ثمَّ صلى الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر ثمَّ أَقَامَ الْمُؤَذّن فصلى الْفجْر " وَقَالَ صَحِيح على مَا قدمنَا ذكره فِي صِحَة سَماع الْحسن عَن عمرَان وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحسن عَنهُ " فصلى رَكْعَتي الْفجْر حَتَّى إِذا أمكننا الصَّلَاة صلينَا " وَعند أَحْمد " فَلَمَّا كَانَ آخر اللَّيْل عرس فَلم نستيقظ حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس فَجعل الرجل يقوم دهشا إِلَى طهوره قَالَ فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يسكنوا ثمَّ ارتحلوا فسرنا حَتَّى إِذا ارْتَفَعت الشَّمْس تَوَضَّأ ثمَّ أَمر بِلَالًا فَأذن ثمَّ صلى الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر ثمَّ أَقَامَ فصلينا فَقَالُوا يَا رَسُول الله أَلا نعيدها فِي وَقتهَا من الْغَد قَالَ أينهاكم ربكُم تبَارك وَتَعَالَى عَن الرِّبَا ويقبله مِنْكُم " وَفِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة " وَعند ابْن حزم من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم حَدثنَا أَبُو رَجَاء " ثمَّ إِن الْجنب وجد المَاء بعد فَأمره أَن يغْتَسل وَلَا يُعِيد الصَّلَاة " وَعند مُسلم من حَدِيث ابْن شهَاب عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين قفل من غَزْوَة خَيْبَر سَار لَيْلَة حَتَّى إِذا أدْركهُ الْكرَى عرس قَالَ لِبلَال اكلأ لنا اللَّيْل فَلَمَّا تقَارب الْفجْر اسْتندَ بِلَال إِلَى رَاحِلَته فغلبته عَيناهُ فَلم يَسْتَيْقِظ وَلَا أحد من أَصْحَابه حَتَّى ضربتهم الشَّمْس فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوَّلهمْ استيقاظا فَقَالَ أَي بِلَال فَقَالَ بِلَال أَخذ بنفسي الَّذِي أَخذ بِنَفْسِك " وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث أبي قَتَادَة " كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْعَة رَهْط فَمَال عَن الطَّرِيق فَوضع رَأسه ثمَّ قَالَ احْفَظُوا علينا صَلَاتنَا فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالشَّمْس فِي ظَهره وقمنا فزعين " فَذكر حَدِيث الميضأة مطولا " وَإِن النَّاس فقدوا نَبِيّهم فَقَالَ أَبُو بكر وَعمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعدكُم لم يكن ليخلفكم وَقَالَ النَّاس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين أَيْدِيكُم " وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث خَالِد بن سمير عَن عبد الله بن رَبَاح حَدثنَا أَبُو قَتَادَة قَالَ " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيش الْأُمَرَاء " فَذكره قَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر وَقَول خَالِد جَيش الْأُمَرَاء وهم عِنْد الْجَمِيع لِأَن جَيش الْأُمَرَاء كَانَ فِي موتَة وَهِي سَرِيَّة لم يشهدها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ ابْن حزم وَقد خَالف خَالِدا من هُوَ أحفظ مِنْهُ وَعند أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث جَامع بن شَدَّاد سَمِعت عبد الرَّحْمَن ابْن أبي عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود قَالَ " أقبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْحُدَيْبِيَة لَيْلًا فنزلنا دهاشا من الأَرْض فَقَالَ من يكلأنا فَقَالَ بِلَال أَنا قَالَ إِذا تنام قَالَ لَا فَنَامَ بِلَال حَتَّى طلعت الشَّمْس فَاسْتَيْقَظَ فلَان وَفُلَان فيهم عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ اهضبوا " أَي

(4/26)


تكلمُوا " وأمضوا فَاسْتَيْقَظَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الحَدِيث وَذكر أَبُو مُسلم الْكَجِّي فِي كتاب السّنَن عَن عَمْرو بن مَرْزُوق أخبرنَا المَسْعُودِيّ عَن جَامع بِلَفْظ " قَالَ عبد الله لما رَجَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْحُدَيْبِيَة قَالَ من يحرسنا قَالَ عبد الله فَقلت أَنا قَالَ إِنَّك تنام مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَقَالَ أَنْت فحرست حَتَّى كَانَ فِي وَجه الصُّبْح أدركني مَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنمت " الحَدِيث وَعند الطَّبَرَانِيّ وَأبي دَاوُد بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي " كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَرِيَّة فَتقدم النَّاس فَقَالَ هَل لكم أَن نهجع هجعة فَمن يكلؤ لنا اللَّيْلَة قَالَ ذُو مخبر أَنا فَأعْطَاهُ خطام نَاقَته وَقَالَ لَا تكن لكع قَالَ ذُو مخبر فَانْطَلَقت غير بعيد فأرسلتها مَعَ نَاقَتي ترعيان فغلبني عَيْني فَمَا أيقظني إِلَّا حر الشَّمْس على وَجْهي فَجئْت أدني الْقَوْم فأيقظته وَأَيْقَظَ النَّاس بَعضهم بَعْضًا حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي الْمُوَطَّأ عَن زيد بن أسلم قَالَ " عرس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة بطرِيق مَكَّة شرفها الله ووكل بِلَالًا أَن يوقظهم للصَّلَاة " الحَدِيث وَفِي كتاب عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَخْبرنِي سعد بن إِبْرَاهِيم عَن عَطاء بن يسَار أَن التعرس فِي غَزْوَة تَبُوك وَكَذَا ذكره عقبَة بن عَامر قَالَ " خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة تَبُوك فاسترقد لما كَانَ مِنْهَا على لَيْلَة فَاسْتَيْقَظَ حِين كَانَت الشَّمْس قيد رمح فَقَالَ ألم أقل لَك يَا بِلَال " وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الدَّلَائِل من حَدِيث عبد الله بن مُصعب بن مَنْظُور عَن أَبِيه عَنهُ (ذكر مَعَانِيه ولغاته) قَوْله " كُنَّا فِي سفر مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اخْتلفُوا فِي تعْيين هَذَا السّفر فَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه وَقع عِنْد رجوعهم من خَيْبَر وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود رَوَاهُ أَبُو دَاوُد " أقبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْحُدَيْبِيَة لَيْلًا فَنزل فَقَالَ من يكلؤنا فَقَالَ بِلَال أَنا " وَفِي حَدِيث زيد بن أسلم مُرْسلا أخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ " عرس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلًا بطرِيق مَكَّة ووكل بِلَالًا " وَفِي حَدِيث عَطاء بن يسَار مُرْسلا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق أَن ذَلِك كَانَ بطرِيق تَبُوك وَكَذَا فِي حَدِيث عقبَة بن عَامر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد كَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة جَيش الْأُمَرَاء وَقد ذكرنَا هَذِه كلهَا عَن قريب قَوْله " إِنَّا أسرينا " وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بَعْضهَا سرينا يَعْنِي بِدُونِ الْهمزَة (قلت) يُقَال سرى وَأسرى لُغَتَانِ وَقَالَ الْجَوْهَرِي سريت وأسريت بِمَعْنى إِذا سرت لَيْلًا وَفِي الْمُحكم السرى سير عَامَّة اللَّيْل وَقيل سير اللَّيْل كُله والْحَدِيث يُخَالف هَذَا القَوْل والسرى يذكر وَيُؤَنث وَلم يعرف اللحياني إِلَّا التَّأْنِيث وَقد سرى سرى وسرية وسرية فَهُوَ سَار وَذكر ابْن سَيّده وَقد سرى بِهِ وَأسرى بِهِ وأسراه وَفِي الْجَامِع سرى يسري سريا إِذا سَار لَيْلًا وكل سَائِر لَيْلًا فَهُوَ سَار قَوْله " وقعنا وقْعَة " أَي نمنا نومَة كَأَنَّهُمْ سقطوا عَن الْحَرَكَة قَوْله " وَلَا وقْعَة " كلمة لَا لنفي الْجِنْس ووقعة اسْمه وَقَوله " أحلى " صفة للوقعة وَخبر لَا مَحْذُوف وَيجوز أَن يكون أحلى خَبرا قَوْله " مِنْهَا " أَي من الْوَقْعَة فِي آخر اللَّيْل وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(وَأحلى الْكرَى عِنْد الصَّباح يطيب ... )
قَوْله " وَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ فلَان " اعْلَم أَن كَانَ هَهُنَا يجوز أَن تكون تَامَّة وَأَن تكون نَاقِصَة فَإِن كَانَت نَاقِصَة فَقَوله أول بِالنّصب مقدما خَبَرهَا وَاسْمهَا هُوَ قَوْله فلَان وَإِن كَانَت تَامَّة بِمَعْنى وجد فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر فَقَوله أول يكون اسْمه وَيكون قَوْله فلَان بَدَلا مِنْهُ قَوْله " يسميهم أَبُو رَجَاء " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول أَي يُسمى المستيقظين وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لِأَن قَوْله " اسْتَيْقَظَ " يدل عَلَيْهِ (فَإِن قلت) مَا موقع هَذِه الْجُمْلَة من الْإِعْرَاب (قلت) الْأَقْرَب أَن تكون حَالا وَهَذِه الْجُمْلَة وَالَّتِي بعْدهَا وَهِي قَوْله " فنسي عَوْف " لَيْسَ من كَلَام عمرَان بن حُصَيْن وَإِنَّمَا هِيَ من كَلَام الرَّاوِي وعَوْف هُوَ عَوْف الْأَعرَابِي الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد وَقَوله " الرَّابِع " مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَعمر مَرْفُوع لِأَنَّهُ مَعْطُوف على مَرْفُوع وَهُوَ قَوْله ثمَّ فلَان وَقَالَ بَعضهم وَيجوز نَصبه على خبر كَانَ (قلت) لم يبين هَذَا الْقَائِل أَي كَانَ هَذَا وَالْأَقْرَب أَن يكون مُقَدرا تَقْدِيره ثمَّ كَانَ عمر بن الْخطاب الرَّابِع يَعْنِي من المستيقظين وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بَعْضهَا هُوَ الرَّابِع وَقد سمى البُخَارِيّ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة أول من اسْتَيْقَظَ وَلَفظه " فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " فعلى هَذَا فَأَبُو بكر هُوَ أحد المستيقظين من الْأَرْبَعَة أَولا وَالرَّابِع هُوَ عمر بن الْخطاب وَبَقِي اثْنَان من الَّذين عدهم أَبُو رَجَاء ونسيهم عَوْف الْأَعرَابِي وَبَعْضهمْ عين الثَّانِي وَالثَّالِث بِالِاحْتِمَالِ فَقَالَ يشبه أَن يكون الثَّانِي عمرَان رَاوِي الْقِصَّة وَالثَّالِث من شَارك عمرَان فِي رِوَايَة هَذِه الْقِصَّة وَهُوَ ذُو مخبر فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيث عمر بن أُميَّة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ " فَمَا أيقظني إِلَّا حر الشَّمْس " وَهَذَا تصرف بالحدس والتخمين

(4/27)


قَوْله " وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا نَام لم نوقظه " بنُون الْمُتَكَلّم وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي بعض النّسخ لم يوقظ على صِيغَة الْمَجْهُول الْمُفْرد (فَإِن قلت) هَذَا النّوم فِي هَذِه الْقِصَّة هَل كَانَ مثل نوم غَيره أم لَا (قلت) قد يكون نَومه كنوم الْبشر فِي بعض الْأَوْقَات وَلَكِن لَا يجوز عَلَيْهِ الإضغاث لِأَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء صلوَات الله على نَبينَا وَعَلَيْهِم وَحي (فَإِن قلت) مَا تَقول فِي نَومه يَوْم الْوَادي وَقد قَالَ " إِن عَيْني تنامان وَلَا ينَام قلبِي " قلت نعم هَذَا حكم قلبه عِنْد نَومه وَعَيْنَيْهِ فِي غَالب الْأَوْقَات وَقد ينْدر مِنْهُ غير ذَلِك كَمَا ينْدر من غَيره بِخِلَاف عَادَته وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا فِي الحَدِيث نَفسه " إِن الله قبض أَرْوَاحنَا " وَفِي الحَدِيث الآخر " لَو شَاءَ الله لأيقظنا " وَلَكِن أَرَادَ أَن يكون لمن بعدكم وَيكون هَذَا مِنْهُ لأمر يُريدهُ الله تَعَالَى من إِثْبَات حكم وَإِظْهَار شرع وَجَوَاب آخر أَن قلبه لَا يستغرقه النّوم حَتَّى يكون مِنْهُ الْحَدث فِيهِ لما رُوِيَ أَنه كَانَ محروسا وَأَنه كَانَ ينَام حَتَّى ينْفخ وَحَتَّى يسمع غَطِيطه ثمَّ يُصَلِّي وَلَا يتَوَضَّأ (فَإِن قلت) فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فِي وضوءه عِنْد قِيَامه من النّوم (قلت) النّوم فِيهِ نَومه مَعَ أَهله فَلَا يُمكن الِاحْتِجَاج بِهِ على وضوئِهِ بِمُجَرَّد النّوم إِذا صلى ذَلِك لملامسته الْأَهْل أَو حدث آخر أَلا ترى فِي آخر الحَدِيث " نَام حَتَّى سَمِعت غَطِيطه ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فصلى وَلم يتَوَضَّأ " وَقيل لَا ينَام قلبه من أجل الْوَحْي وَأَنه يُوحى إِلَيْهِ فِي النّوم وَلَيْسَ فِي قصَّة الْوَادي إِلَّا نوم عَيْنَيْهِ عَن رُؤْيَة الشَّمْس وَلَيْسَ هَذَا من فعل الْقلب وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن الله قبض أَرْوَاحنَا وَلَو شَاءَ لردها إِلَيْنَا " فِي حِين غير هَذَا (فَإِن قلت) فلولا عَادَته من استغراق النّوم لما قَالَ لِبلَال اكلأ لنا الصُّبْح (قلت) كَانَ من شَأْنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التغليس بالصبح ومراعاة أول الْفجْر وَلَا يَصح هَذَا مِمَّن نَامَتْ عينه إِذا هُوَ ظَاهر يدْرك بالجوارح الظَّاهِرَة فَوكل بِلَال بمراعاة أَوله ليعلمه بذلك كَمَا لَو شغل بشغل غير النّوم عَن مراعاته (فَإِن قلت) هَل كَانَ نومهم عَن صَلَاة الصُّبْح مرّة أَو أَكثر (قلت) قد جزم الْأصيلِيّ بِأَن الْقِصَّة وَاحِدَة ورد عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض بِأَن قصَّة أبي قَتَادَة مُغَايرَة لقصة عمرَان بن حُصَيْن لِأَن فِي قصى أبي قَتَادَة لم يكن أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نَام وَفِي قصَّة عمرَان أَن أول من اسْتَيْقَظَ أَبُو بكر وَلم يَسْتَيْقِظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى أيقظه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَمن الَّذِي يدل على تعدد الْقِصَّة اخْتِلَاف مواطنها كَمَا ذَكرنَاهَا وَلَقَد تكلّف أَبُو عمر فِي الْجمع بَينهمَا بقوله أَن زمَان رجوعهم كَانَ قَرِيبا من زمَان رجوعهم من الْحُدَيْبِيَة وَأَن طَرِيق مَكَّة يصدق عَلَيْهِمَا وَفِيه تعسف على أَن رِوَايَة عبد الرَّزَّاق بِتَعْيِين غَزْوَة تَبُوك يرد عَلَيْهِ ثمَّ أَن أَبَا عمر زعم أَن نوم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مرّة وَاحِدَة وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ ثَلَاث مَرَّات إِحْدَاهَا رِوَايَة أبي قَتَادَة وَلم يحضرها أَبُو بكر وَعمر الثَّانِيَة حَدِيث عمرَان وحضراها وَالثَّالِثَة حضرها أَبُو بكر وبلال وَقَالَ عِيَاض حَدِيث أبي قَتَادَة غير حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَكَذَلِكَ حَدِيث عمرَان وَمن الدَّلِيل على أَن ذَلِك وَقع مرَّتَيْنِ أَنه قد روى أَن ذَلِك كَانَ زمن الْحُدَيْبِيَة وَفِي رِوَايَة بطرِيق مَكَّة وَالْحُدَيْبِيَة كَانَت فِي السّنة السَّادِسَة وَإِسْلَام عمرَان وَأبي هُرَيْرَة الرَّاوِي حَدِيث قفوله من خَيْبَر كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة بعد الْحُدَيْبِيَة وهما كَانَا حاضرين الْوَاقِعَة (قلت) فِيهِ نظر لِأَن إِسْلَام عمرَان كَانَ بِمَكَّة ذكره أَبُو مَنْصُور الْمَاوَرْدِيّ فِي كتاب الصَّحَابَة وَقَالَ ابْن سعد وَأَبُو أَحْمد العسكري وَالطَّبَرَانِيّ فِي آخَرين كَانَ إِسْلَامه قَدِيما قَوْله " مَا يحدث لَهُ " بِضَم الدَّال من الْحُدُوث أَي مَا يحدث لَهُ من الْوَحْي وَكَانُوا يخَافُونَ انْقِطَاعه بالإيقاظ قَوْله " مَا أصَاب النَّاس " أَي من فَوَات صَلَاة الصُّبْح وكونهم على غير مَاء قَوْله " فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عمر " جَوَاب لما مَحْذُوف تَقْدِيره فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ كبر وَقَوله " فَكبر " يدل عَلَيْهِ قَوْله " جليدا " بِفَتْح الْجِيم من جلد الرجل بِالضَّمِّ فَهُوَ جلد وجليد أَي بَين الجلادة بِمَعْنى الْقُوَّة والصلابة وَزَاد مُسلم هُنَا " أجوف " أَي رفيع الصَّوْت يخرج صَوته من جَوْفه قَوْله " فَكبر " أَي عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَإِنَّمَا رفع صَوته بِالتَّكْبِيرِ لمعنيين أَحدهمَا أَن اسْتِعْمَال التَّكْبِير لسلوك طَرِيق الْأَدَب وَالْجمع بَين المصلحتين وَالْآخر اخْتِصَاص لفظ التَّكْبِير لِأَنَّهُ أصل الدُّعَاء إِلَى الصَّلَاة قَوْله " حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فالنبي مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل اسْتَيْقَظَ وَهُوَ لَازم بِمَعْنى تيقظ قَوْله " لصوته " أَي لأجل صَوته ويروى " بِصَوْتِهِ " أَي بِسَبَب صَوته قَوْله " قَالَ لَا ضير " ويروى " فَقَالَ لَا ضير " أَي لَا ضَرَر من ضارة يضوره ويضيره ضورا وضيرا أَي ضره قَالَ الْكسَائي سَمِعت بَعضهم يَقُول لَا ينعني ذَلِك وَلَا يضورني قَوْله " أَو لَا يضير " شكّ من عَوْف الْأَعرَابِي وَقد صرح بذلك الْبَيْهَقِيّ فِي رِوَايَته وَلأبي نعيم فِي مستخرجه لَا يسوء وَلَا يضير وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لتأنيس قُلُوبهم لما عرض لَهُم من الأسف على فَوَات الصَّلَاة من وَقتهَا لأَنهم لم يتعمدوا ذَلِك قَوْله " ارتحلوا " بِصِيغَة الْأَمر

(4/28)


للْجَمَاعَة المخاطبين من الصَّحَابَة قَوْله " فارتحلوا " بِصِيغَة الْجمع من الْمَاضِي أَي ارتحلوا عقيب أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك ويروى " فارتحل " أَي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) مَا كَانَ السَّبَب فِي أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالارتحال من ذَلِك الْمَكَان (قلت) بَين ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة " فَإِن هَذَا منزل حضر فِيهِ الشَّيْطَان " وَقيل كَانَ ذَلِك لأجل الْغَفْلَة وَقيل لكَون ذَلِك وَقت الْكَرَاهَة وَفِيه نظر لِأَن فِي حَدِيث الْبَاب " لم يستيقظوا حَتَّى وجدوا حر الشَّمْس " وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد أَن يذهب وَقت الْكَرَاهَة وَقيل الْأَمر بذلك مَنْسُوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا " وَفِيه نظر لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة والقصة بعد الْهِجْرَة قَوْله " فَسَار غير بعيد " يدل على أَن الارتحال الْمَذْكُور وَقع على خلاف سيرهم الْمُعْتَاد قَوْله " فَدَعَا بِالْوضُوءِ " بِفَتْح الْوَاو وَقَوله " وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ " المُرَاد من النداء هُوَ التأذين لِأَنَّهُ صرح فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي قَتَادَة التَّصْرِيح بِالتَّأْذِينِ قَوْله " إِذا هُوَ بِرَجُل " لم يعلم اسْمه وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح هُوَ خَلاد بن رَافع بن مَالك الْأنْصَارِيّ أَخُو رِفَاعَة وَفِيه نظر لِأَن ابْن الْكَلْبِيّ قَالَ هُوَ شهد بَدْرًا وَقتل يَوْم إِذْ فوقعة الْبَدْر مُقَدّمَة على هَذِه الْقِصَّة فاستحال أَن يكون هُوَ إِيَّاه وَقيل لَهُ رِوَايَة فَإِذا صَحَّ هَذَا يكون قد عَاشَ بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) لَا يلْزم من رِوَايَته عيشه بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لاحْتِمَال انقطاعها أَو نقلهَا صَحَابِيّ آخر قَوْله " معتزل " أَي مُنْفَرد عَن النَّاس قَوْله " وَلَا مَاء " قَالَ بَعضهم بِفَتْح الْهمزَة أَي معي (قلت) تَفْسِيره تَفْسِير من لم يمس شَيْئا من علم الْعَرَبيَّة لِأَن كلمة لَا على قَوْله لنفي جنس المَاء فَأَي شَيْء يقدر خَبَرهَا بقوله معي وَعدم المَاء عِنْده لَا يسْتَلْزم عَدمه عِنْد غَيره فَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَقِيم نفي جنس المَاء وَيجوز أَن تكون لَا هَهُنَا بِمَعْنى لَيْسَ فيرتفع المَاء حِينَئِذٍ وَيكون الْمَعْنى لَيْسَ مَاء عِنْدِي قَوْله " عَلَيْك بالصعيد " كلمة عَلَيْك من أَسمَاء الْأَفْعَال وَمَعْنَاهُ الزم وَالْألف وَاللَّام فِي الصَّعِيد للْعهد الْمَذْكُور فِي الْآيَة الْكَرِيمَة وَفِي رِوَايَة سلم بن زرير " فَأمره أَن يتَيَمَّم بالصعيد ": (قلت) سلم بِفَتْح السِّين وَسُكُون اللَّام وزرير بِفَتْح الزَّاي الْمُعْجَمَة وبراءين مهملتين بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف أَولهمَا مَقْصُورَة قَوْله " يَكْفِيك " أَي لإباحة الصَّلَاة وَالْمعْنَى يَكْفِيك للصَّلَاة مَا لم تحدث قَوْله " فاشتكى النَّاس إِلَيْهِ " أَي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويروى " فاشتكوا النَّاس " من قبيل أكلوني البراغيث قَوْله " فَدَعَا فلَان " هُوَ عمرَان بن الْحصين رَاوِي الحَدِيث وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي رِوَايَة ابْن زرير " ثمَّ عجلني النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ركب بَين يَدَيْهِ فَطلب المَاء " وَهَذِه الرِّوَايَة تدل على أَنه كَانَ هُوَ وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَط لِأَنَّهُمَا خوطبا بِلَفْظ التَّثْنِيَة وَهُوَ قَوْله " اذْهَبَا فابتغيا المَاء " (فَإِن قلت) فِي رِوَايَة ابْن زرير فِي ركب فَهَذَا يدل على الْجَمَاعَة (قلت) يحْتَمل أَن يكون مَعَهُمَا غَيرهمَا ولكنهما خصا بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمَا تعينا مقصودين بِالْإِرْسَال قَوْله " فابتغيا " من الابتغاء وَهُوَ الطّلب يُقَال بغيت الشَّيْء وابتغيته وتبغيته إِذا طلبته وابتغيتك الشَّيْء جعلتك طَالبا لَهُ وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ " فابغيا " وَلأَحْمَد " فابغيانا " قَوْله " فتلقيا " ويروى " فلقيا " قَوْله " بَين مزادتين " المزادة بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الزَّاي الراوية وَيجمع على مزاد ومزائد وَسميت مزادة لِأَنَّهَا يُزَاد فِيهَا جلد آخر من غَيرهَا وَلِهَذَا قيل أَنَّهَا أكبر من الْقرْبَة وَتسَمى أَيْضا السطيحة بِفَتْح السِّين وَكسر الطَّاء وَقَالَ ابْن سَيّده السطيحة المزادة الَّتِي بَين الأديمين قوبل أَحدهمَا بِالْآخرِ وَفِي الْجَامِع هِيَ إداوة تتَّخذ من جلدين وَهِي أكبر من الْقرْبَة قَوْله " أَو سطيحتين " شكّ من الرَّاوِي وَقَالَ بَعضهم شكّ من عَوْف (قلت) تَعْيِينه بِهِ من أَيْن وَفِي رِوَايَة مُسلم " فَإِذا نَحن بإمرأة سادلة " أَي مدلية رِجْلَيْهَا بَين مزادتين قَوْله " أمس " هُوَ عِنْد الْحِجَازِيِّينَ مَبْنِيّ على الْكسر ومعرب غير منصرف للعدل والعلمية عِنْد التميميين فعلى هَذَا هُوَ بِضَم السِّين (فَإِن قلت) مَا موقعه من الْإِعْرَاب (قلت) مَرْفُوع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ وَهُوَ قَوْله " عهدي " قَوْله " هَذِه السَّاعَة " مَنْصُوب بالظرفية وَقَالَ ابْن مَالك أَصله فِي مثل هَذِه السَّاعَة فَحذف الْمُضَاف وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه قَوْله " ونفرنا " وَفِي الْمُحكم النَّفر والنفر والنفير والنفور مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال وَالْجمع أَنْفَار وَفِي الواعي النَّفر مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَالْعرب تَقول هَؤُلَاءِ نفرك أَي رهطك ورجالك الَّذين أَنْت مَعَهم وَهَؤُلَاء عشرَة نفر أَي عشرَة رجال وَلَا يَقُولُونَ عشرُون نَفرا وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا تَقول الْعَرَب جَاءَنَا فِي نفره ونفيره ونفرته كلهَا بِمَعْنى سموا بذلك لأَنهم إِذا حزبهم أَمر اجْتَمعُوا ثمَّ نفروا إِلَى عدوهم وَقَالَ الْخطابِيّ لَا وَاحِد قَوْله " خلوف " بِضَم الْخَاء جمع الخالف أَي الْمُسَافِر نَحْو شَاهد وشهود وَيُقَال حَيّ خلوف أَي غيب وَقَالَ ابْن عَرَفَة الْحَيّ خلوف أَي خرج الرِّجَال وَبقيت

(4/29)


النِّسَاء وَقَالَ الْخطابِيّ هم الَّذين خَرجُوا للأسفار وخلفوا النِّسَاء والأثقال وارتفاع خلوف على أَنه خبر وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي " خلوفا " بِالنّصب وَقَالَ الْكرْمَانِي أَي كَانَ نفرنا خلوفا وَقَالَ بَعضهم مَنْصُوب على الْحَال السَّادة مسد الْخَبَر (قلت) مَا الْخَبَر هُنَا حَتَّى تسد الْحَال مسده وَالْأَوْجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَنه مَنْصُوب بكان الْمُقدر قَوْله " الصابىء " بِالْهَمْزَةِ وبغيرها فَالْأول من صَبأ إِذا خرج من دين إِلَى دين وَالثَّانِي من صبا يصبو إِذا مَال وسنوسع الْكَلَام فِيهِ عِنْد تَفْسِير البُخَارِيّ فِي آخر هَذَا الحَدِيث قَوْله " تعنين " أَي تريدين من عَنى يَعْنِي إِذا قصد قَوْله " قَالَا هُوَ الَّذِي تعنين " فِيهِ حسن الْأَدَب وَحسن التَّخَلُّص إِذْ لَو قَالَا لَا لفات الْمَقْصُود وَلَو قَالَا نعم لم يحسن ذَلِك لِأَن فِيهِ تَقْرِير ذَلِك قَوْله " فاستنزلوها " من الاستنزال وَهُوَ طلب النُّزُول وَإِنَّمَا ذكر فِيهِ بِلَفْظ الْجمع لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ عمرَان وَعلي من تبعهما مِمَّن يعينهما ويخدمهما قَوْله " ودعا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيهِ حذف تَقْدِيره فَأتوا بهَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأحضروها بَين يَدَيْهِ ودعا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " ففرغ " من التفريغ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " فأفرغ " من الإفراغ وَزَاد الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ " فَمَضْمض فِي المَاء وَأَعَادَهُ فِي أَفْوَاه المزادتين " وبهذه الزِّيَادَة تظهر الْحِكْمَة فِي ربط الأفواه بعد فتحهَا وَبِهَذَا حصلت الْبركَة لاختلاط رِيقه الْمُبَارك للْمَاء والأفواه جمع فَم لِأَن أَصله فوه فحذفوا الْوَاو لِأَنَّهَا لَا تحْتَمل التَّنْوِين عِنْد الْأَفْرَاد وعوضوا من الْهَاء ميما (فَإِن قلت) لكل مزادة فَم وَاحِد فَكيف جمع (قلت) هَذَا من قبيل قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} قَوْله " وأوكأ " أَي شدّ وَهُوَ فعل مَاض من الإيكاء وَهُوَ شدّ الوكاء وَهُوَ مَا يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة " وَأطلق العزالي " أَي فتحهَا وَهُوَ جمع العزلاء بِفَتْح الْعين وبالمد وَهُوَ فَم المزادة الْأَسْفَل قَالَ الْجَوْهَرِي العزالي بِكَسْر اللَّام وَإِن شِئْت فتحت مثل الصحارى والصحاري وَيُقَال العزلاء منصب المَاء من الراوية والقربة وَفِي الْجَامِع عزلاء الْقرْبَة مصب يَجْعَل فِي أحد يَديهَا ليستفرغ مِنْهُ مَا فِيهَا وَإِنَّمَا سميت عزالي السَّحَاب تَشْبِيها بهَا وَقَالَ السفاقسي روينَاهُ بِالْفَتْح وَهُوَ أَفْوَاه المزادة السُّفْلى وَقَالَ الدَّاودِيّ العزالي الجوانب الْخَارِجَة لرجلي الزق الَّذِي يُرْسل مِنْهَا المَاء وَقَالَ الدَّاودِيّ لَيْسَ فِي أَكثر الرِّوَايَات أَنهم فتحُوا أَفْوَاه المزادتين أَو السطيحتين وَلَا أَنهم أطْلقُوا العزالي وَإِنَّمَا شَقوا المزادتين وَهُوَ معنى صبوا مِنْهُمَا قَالَ ثمَّ أَعَادَهُ فيهمَا إِن كَانَ هُوَ الْمَحْفُوظ قَوْله " اسقوا واستقوا " كل مِنْهُمَا أَمر فَالْأول من السَّقْي وَالثَّانِي من الاستقاء وَالْفرق بَينهمَا أَن السَّقْي لغيره والاستقاء لنَفسِهِ وَيُقَال أَيْضا سقيته لنَفسِهِ وأسقيته لماشيته قَوْله " وَكَانَ آخر ذَلِك أَن أعْطى " يجوز فِي آخر النصب وَالرَّفْع أما النصب على أَنه خبر كَانَ مقدما على اسْمهَا وَهُوَ أَن أعطي لِأَن أَن مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره وَكَانَ إِعْطَاؤُهُ للرجل الَّذِي أَصَابَته الْجَنَابَة آخر ذَلِك ويروي ذَاك وَأما الرّفْع فَظَاهر وَهُوَ أَن يكون اسْم كَانَ وَإِن أعْطى خَبره والأمران جائزان وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء وَالْأولَى أولى (قلت) وَجه الْأَوْلَوِيَّة لكَون آخر مُضَافا إِلَى الْمعرفَة فَهُوَ أولى بالاسمية وَعِنْدِي كِلَاهُمَا سَوَاء لِأَن كلا معرفَة قَوْله " الَّذِي أَصَابَته الْجَنَابَة " وَهُوَ الرجل المعتزل الْمَذْكُور قَوْله " فأفرغه " بِقطع الْهمزَة قَوْله " وَهِي قَائِمَة " أَي الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة قَائِمَة تشاهد ذَلِك وَهِي جملَة اسمية وَقعت حَالا على الأَصْل قَوْله " وَايْم الله " بوصل الْهمزَة وَقَالَ الْجَوْهَرِي أَيمن الله اسْم وضع للقسم هَكَذَا بِضَم الْمِيم وَالنُّون وألفه ألف الْوَصْل عِنْد الْأَكْثَرين وَلم يَجِيء فِي الْأَسْمَاء ألف وصل مَفْتُوحَة غَيرهَا وَهُوَ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مَحْذُوف وَالتَّقْدِير أَيمن الله قسمي وَرُبمَا حذفوا مِنْهُ النُّون فَقَالُوا ايم الله وَقَالَ أَبُو عبيد كَانُوا يحلفُونَ وَيَقُولُونَ يَمِين الله لَا أفعل فَجمع الْيَمين على أَيمن ثمَّ كثر فِي كَلَامهم فحذفوا النُّون مِنْهُ وألفه ألف قطع وَهُوَ جمع وَإِنَّمَا طرحت الْهمزَة فِي الْوَصْل لِكَثْرَة استعمالهم إِيَّاهَا (قلت) فِيهَا لُغَات جمع مِنْهَا النَّوَوِيّ فِي تهذيبه سبع عشرَة وَبلغ بهَا غَيره عشْرين قَوْله " أقلع " بِضَم الْهمزَة من الإقلاع يُقَال أقلع عَن الْأَمر إِذا كف عَنهُ قَوْله " أَشد ملأة " بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا وَسُكُون اللَّام بعْدهَا همزَة مَفْتُوحَة وَفِي رِوَايَة للبيهقي " املأ مِنْهَا " مَعْنَاهُ أَنهم يظنون أَن مَا بَقِي فِيهَا من المَاء أَكثر مِمَّا كَانَ أَولا قَوْله " من بَين عَجْوَة " الْعَجْوَة تمر من أَجود التَّمْر بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ ابْن التِّين الْعَجْوَة نوع من تمر الْمَدِينَة أكبر من الصيحاني وَتسَمى اللينة وَهِي من أَجود تمر الْمَدِينَة قَوْله " ودقيقة وسويقة " بِفَتْح أَولهمَا وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة بِضَم الدَّال مُصَغرًا وَقَالَ الْكرْمَانِي دقيقة وسويقة رويا مكبرين ومصغرين قَوْله " حَتَّى جمعُوا لَهَا طَعَاما " وَزَاد أَحْمد فِي رِوَايَته " كثيرا " وَالطَّعَام فِي اللُّغَة مَا يُؤْكَل قَالَه الْجَوْهَرِي وَقَالَ وَرُبمَا خص الطَّعَام بِالْبرِّ وَفِي حَدِيث أبي سعيد كُنَّا نخرج صَدَقَة الْفطر على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من شعير " وَقَالَ بَعضهم فِيهِ إِطْلَاق

(4/30)


لفظ الطَّعَام على غير الْحِنْطَة والذرة خلافًا لمن أَبى ذَلِك (قلت) هَذَا القَوْل مِنْهُ يُخَالف قَول أهل اللُّغَة وَالْمرَاد هَهُنَا من الطَّعَام غير مَا ذكر من الْعَجْوَة وَهُوَ أَعم من أَن يكون حِنْطَة أَو شَعِيرًا أَو كعكا أَو نَحْو ذَلِك قَوْله " فجعلوه فِي ثوب " ويروى " فجعلوها " قَالَ الْكرْمَانِي الضَّمِير فِي جَعَلُوهُ يرجع إِلَى الطَّعَام وَفِي جعلوها إِلَى الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة (قلت) لم يَجْعَل الطَّعَام وَحده فِي الثَّوْب حَتَّى يرجع الضَّمِير إِلَيْهِ وَحده وَالصَّوَاب أَن الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى كل وَاحِد بِاعْتِبَار الْمَذْكُور قَوْله " قَالَ لَهَا " ويروى " قَالُوا لَهَا " وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " قَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَوجه رِوَايَة الْأصيلِيّ أَنهم قَالُوا لَهَا ذَلِك بأَمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " وَحملُوهَا " أَي المزادة قَوْله " بَين يَديهَا " أَي قدامها قَوْله " تعلمين " بِفَتْح التَّاء وَالْعين وَتَشْديد اللَّام كَذَا ضَبطه بَعضهم ثمَّ قَالَ أَي اعلمي (قلت) لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التعسف وَإِنَّمَا هُوَ مُفْرد مُخَاطب مؤنث من بَاب علم يعلم قَوْله " مَا رزئنا من مائك شَيْئا " بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي أَي مَا نقصنا قَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بَعْضهَا بِفَتْحِهَا يَعْنِي بِفَتْح الزَّاي (قلت) الْكسر هُوَ الْأَشْهر يُقَال مَا رزأته مَاله وَمَا رزئته بِالْكَسْرِ مَاله أَي مَا نقصته وارتزأ الشي انتقصه قَوْله " أسقانا " ويروى " سقانا " قَوْله " الْعجب " مَرْفُوع بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره حَبَسَنِي الْعجب وَهُوَ الْأَمر الَّذِي يتعجب مِنْهُ لغرابته وَكَذَلِكَ العجيب والعجاب بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف والعجاب بِالتَّشْدِيدِ أَكثر مِنْهُ وَكَذَلِكَ الأعجوبة وَلَا يجمع عجب وَلَا عَجِيب وَيُقَال جمع عَجِيب عجائب مثل تبيع وتبائع وأعاجيب جمع أعجوبة كأحاديث جمع أحدوثة وَعَجِبت من كَذَا وتعجبت مِنْهُ واستعجبت كلهَا بِمَعْنى وأعجبني هَذَا الشَّيْء لحسنه وَعَجِبت غَيْرِي تعجيبا وَالْعجب بِضَم الْعين وَسُكُون الْجِيم اسْم من أعجب فلَان بِنَفسِهِ فَهُوَ معجب بِرَأْيهِ وبنفسه قَوْله " من بَين هَذِه وَهَذِه " تَعْنِي من بَين السَّمَاء وَالْأَرْض قيل كَانَ الْمُنَاسب أَن يَقُول فِي بَين بِلَفْظَة فِي وَأجِيب بِأَن من بَيَانِيَّة مَعَ جَوَاز اسْتِعْمَال حُرُوف الْجَرّ بَعْضهَا مَكَان بعض قَوْله " وَقَالَت بأصبعها " أَي أشارت بأصبعها وَمن إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل وَقد مر نَظِير هَذَا غير مرّة قَوْله " السبابَة " يَعْنِي المسبحة قَوْله " يغيرون " بِضَم الْيَاء من الإغارة بِالْخَيْلِ فِي الْحَرْب قَوْله " الصرم " بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَهُوَ أَبْيَات من النَّاس مجتمعة وَالْجمع إصرام وَقَالَ ابْن سَيّده الصرم الأبيات المجتمعة المنقطعة من النَّاس والصرم أَيْضا الْجَمَاعَة بَين ذَلِك وَالْجمع إصرام وأصاريم وصرمان والأخيرة عَن سِيبَوَيْهٍ قَوْله " فَقَالَت يَوْمًا لقومها مَا أرى أَن هَؤُلَاءِ يدعونكم عمدا " هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر " مَا أرى أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم " وَقَالَ ابْن مَالك وَقع فِي بعض النّسخ " مَا أَدْرِي أَن هَؤُلَاءِ " كلمة أرى بِضَم الْهمزَة بِمَعْنى أَظن وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنى أعلم وَمَا مَوْصُولَة قَوْله " يدعونكم " بِفَتْح الدَّال أَي يتركونكم وَالْمعْنَى ظَنِّي أَنهم يتركونكم عمدا لاستئلافكم لَا سَهوا مِنْهُم وغفلة عَنْكُم وَقيل مَا نَافِيَة وَأَن بِمَعْنى لَعَلَّ وَقيل مَا نَافِيَة وَإِن بِالْكَسْرِ وَمَعْنَاهُ لَا أعلم حالكم فِي تخلفكم عَن الْإِسْلَام مَعَ أَنهم يدعونكم عمدا " فَهَل لكم " أَي رَغْبَة (ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ) الأول فِيهِ اسْتِحْبَاب سلوك الْأَدَب مَعَ الأكابر كَمَا فِي فعل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي إيقاظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الثَّانِي فِيهِ إِظْهَار التأسف لفَوَات أَمر من أُمُور الدّين. الثَّالِث فِيهِ لَا حرج على من تفوته صَلَاة لَا بتقصير مِنْهُ لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا ضير ". الرَّابِع فِيهِ أَن من أجنب وَلم يجد مَاء فَإِنَّهُ يَتِيم لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَلَيْكُم بالصعيد ". الْخَامِس فِيهِ أَن الْعَالم إِذا رأى أمرا مُجملا يسْأَل فَاعله عَنهُ ليوضحه فيوضح لَهُ هُوَ وَجه الصَّوَاب. السَّادِس فِيهِ اسْتِحْبَاب الملاطفة والرفق فِي الْإِنْكَار على أحد فِيمَا فعله. السَّابِع فِيهِ التحريض على الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة. الثَّامِن فِيهِ الْإِنْكَار على ترك الشَّخْص الصَّلَاة بِحَضْرَة الْمُصَلِّين بِغَيْر عذر. التَّاسِع فِيهِ أَن قَضَاء الْفَوَائِت وَاجِب وَلَا يسْقط بِالتَّأْخِيرِ وَيَأْثَم بِتَأْخِيرِهِ بِغَيْر عذر. الْعَاشِر فِيهِ أَن من حلت بِهِ فتْنَة فِي بلد فَليخْرجْ مِنْهُ وليهرب من الْفِتْنَة بِدِينِهِ كَمَا فعل الشَّارِع بارتحاله عَن بطن الْوَادي الَّذِي تشاءم بِهِ لأجل الشَّيْطَان. الْحَادِي عشر فِيهِ أَن من ذكر صَلَاة فَائِتَة لَهُ أَن يَأْخُذ من يصلح من وضوء وطهارة وابتغاء بقْعَة تطمئِن نَفسه للصَّلَاة عَلَيْهَا كَمَا فعل الشَّارِع بعد أَن ذكر الْفَائِتَة فارتحل بعد الذّكر ثمَّ تَوَضَّأ وَتَوَضَّأ النَّاس. الثَّانِي عشر فِيهِ اسْتِحْبَاب الْأَذَان للفائتة. الثَّالِث عشر فِيهِ جَوَاز أَدَاء الْفَائِتَة بِالْجَمَاعَة. الرَّابِع عشر فِيهِ طلب المَاء للشُّرْب وَالْوُضُوء. الْخَامِس عشر فِيهِ أَخذ المَاء الْمَمْلُوك لغيره لضَرُورَة الْعَطش بعوض وَفِيه أَن العطشان يقدم على الْجنب عِنْد صرف المَاء إِلَى النَّاس. السَّادِس عشر فِيهِ جَوَاز المعاطاة فِي الهبات والإباحات من غير لفظ من الْجَانِبَيْنِ. السَّابِع عشر فِيهِ تَقْدِيم

(4/31)


مصلحَة شرب الْآدَمِيّ وَالْحَيَوَان على غَيره كمصلحة الطَّهَارَة بِالْمَاءِ (فَإِن قلت) قد وَقع فِي رِوَايَة سلم بن زرير " غير أَنا لم نسق بَعِيرًا " (قلت) هَذَا مَحْمُول على أَن الْإِبِل لم تكن محتاجة إِذْ ذَاك إِلَى السَّقْي. الثَّامِن عشر فِيهِ جَوَاز الْخلْوَة بالأجنبية عِنْد أَمن الْفِتْنَة فِي حَالَة الضَّرُورَة الشَّرْعِيَّة. التَّاسِع عشر فِيهِ جَوَاز اسْتِعْمَال أواني الْمُشْركين مَا لم يتَيَقَّن فِيهَا نَجَاسَة. الْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز أَخذ مَال النَّاس عِنْد الضَّرُورَة بِثمن إِن كَانَ لَهُ ثمن كَذَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم وَفِيه نظر. الْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز اجْتِهَاد الصَّحَابَة بِحَضْرَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه خلاف مَشْهُور وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. الثَّانِي وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز تَأْخِير الْفَائِتَة عَن وَقت ذكرهَا إِذا لم يكن عَن تغافل أَو استهانة وَذَلِكَ من قَوْله " ارتحلوا " بِصِيغَة الْأَمر فَافْهَم. الثَّالِث وَالْعشْرُونَ فِيهِ مُرَاعَاة ذمام الْكَافِر والمحافظة بِهِ كَمَا حفظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِه الْمَرْأَة فِي قَومهَا وبلادها فراعى فِي قَومهَا ذمامها وَإِن كَانَت من صميمهم. الرَّابِع وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز الْحلف من غير الِاسْتِحْلَاف. الْخَامِس وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز الشكوى من الرعايا إِلَى الإِمَام عِنْد حُلُول أَمر شَدِيد. السَّادِس وَالْعشْرُونَ فِيهِ اسْتِحْبَاب التَّعْرِيس للْمُسَافِر إِذا غَلبه النّوم. السَّابِع وَالْعشْرُونَ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة قَضَاء الْفَائِت الْوَاجِب وَأَنه لَا يسْقط بِالتَّأْخِيرِ. الثَّامِن وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ للمحتاج بِرِضا الْمَطْلُوب مِنْهُ وَبِغير رِضَاهُ إِن تعين. التَّاسِع وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز النّوم على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كنوم وَاحِد منا فِي بعض الْأَوْقَات وَقد مر التَّحْقِيق فِيهِ. الثَّلَاثُونَ فِيهِ إِبَاحَة السّفر من غير أَن يعين يَوْمًا أَو شهر فَوَائِد. فِيهِ من دَلَائِل النُّبُوَّة حَيْثُ توضؤوا وَشَرِبُوا وَسقوا واغتسل الْجند مِمَّا سقط من العزالي وَبقيت المزادتان مملوءتان ببركته وعظيم برهانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانُوا أَرْبَعِينَ نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة سلم بن زرير وَإِنَّهُم ملأوا كل قربَة مَعَهم وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَظَاهر هَذِه الرِّوَايَة أَن جملَة من حضر هَذِه الْقِصَّة كَانُوا أَرْبَعِينَ وَلَا نعلم مخرجا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخرج فِي هَذَا الْعدَد فَلَعَلَّ الركب الَّذين عجلهم بَين يَدَيْهِ لطلب المَاء وَأَنَّهُمْ وجدوا الْمَرْأَة وَأَنَّهُمْ أسقوا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل النَّاس وَشَرِبُوا ثمَّ شرب النَّاس بعدهمْ. وَفِيه أَن جَمِيع مَا أَخَذُوهُ من المَاء مِمَّا زَاده الله وأوجده وَأَنه لم يخْتَلط فِيهِ شَيْء من مَاء تِلْكَ الْمَرْأَة فِي الْحَقِيقَة وَإِن كَانَ فِي الظَّاهِر مختلطا وَهَذَا أبدع وَأغْرب فِي المعجزة. وَفِيه دلَالَة أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أجلد الْمُسلمين وأصلبهم فِي أَمر الله تَعَالَى. (وَفِيه أسئلة) الأول أَن الِاسْتِيلَاء على الْكفَّار بِمُجَرَّدِهِ يُبِيح رق نِسَائِهِم وصبيانهم وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد دخلت الْمَرْأَة فِي الرّقّ باستيلائهم عَلَيْهَا وَكَيف وَقع إِطْلَاقهَا وتزويدها وَأجِيب بِأَنَّهَا أطلقت لمصْلحَة الاستئلاف الَّذِي جر دُخُول قَومهَا أَجْمَعِينَ فِي الْإِسْلَام وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَ لَهَا أَمَان قبل ذَلِك أَو كَانَت من قوم لَهُم عهد. الثَّانِي كَيفَ جوزوا التَّصَرُّف حِينَئِذٍ فِي مَالهَا وَأجِيب بِالنّظرِ إِلَى كفرها أَو لضَرُورَة الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ والضروريات تبيح الْمَحْظُورَات. الثَّالِث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن التشاؤم وَهَهُنَا ارتحل عَن الْوَادي الَّذِي تشاءم بِهِ وَأجِيب بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يعلم حَال ذَلِك الْوَادي وَلم يكن غَيره يعلم بِهِ فَيكون خَاصّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخذ بعض الْعلمَاء بِظَاهِر مَا وَقع مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رحيله من ذَلِك الْوَادي أَن من انتبه من نوم عَن صَلَاة فَائت فِي سفر فَإِنَّهُ يتَحَوَّل عَن مَوْضِعه وَإِن كَانَ بواد فَليخْرجْ عَنهُ وَقيل إِنَّمَا يلْزم بذلك الْوَادي بِعَيْنِه وَقيل هُوَ خَاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا ذكرنَا (قَالَ أَبُو عبد الله صَبأ خرج من دين إِلَى غَيره. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة الصابئين فرقة من أهل الْكتاب يقرؤن الزبُور) . هَذَا إِلَى آخِره رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَأَرَادَ بإيراد هَذِه الإشاوة إِلَى الْفرق بَين الصابىء المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث والصابىء الْمَنْسُوب إِلَى الطَّائِفَة الَّذين بَينهم أَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان الرباحي أما الصابىء الَّذِي هُوَ المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث فِي قَول الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة الَّذِي يُقَال لَهُ الصابىء فَهُوَ من صبا إِلَى الشَّيْء يصبو إِذا مَال وَهُوَ غير مَهْمُوز وَكَانَت الْعَرَب تسمي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصابىء لِأَنَّهُ خرج من دين قُرَيْش إِلَى دين الْإِسْلَام ويسمون من يدْخل فِي دين الْإِسْلَام مصبو لأَنهم كَانُوا لَا يهمزون ويسمون الْمُسلمين الصباة بِغَيْر همزَة جمع صاب غير مَهْمُوز كقاض وقضاة وغاز وغزاة وَقد يُقَال

(4/32)


صبا الرجل إِذا عشق وَهوى وَقد يُقَال صابىء بِالْهَمْز من صبا يصبو بِغَيْر همز وَأَن الصابئون الَّذين ذكرهم أَبُو الْعَالِيَة فأصله من صَبأ يصبأ صَبأ وصبوأ إِذا خرج عَن دين إِلَى آخر وَهَذِه الطَّائِفَة يسمون الصابئين وَاخْتلف فِي تَفْسِيره فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة هم فرقة من أهل الْكتاب يقرؤن الزبُور وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الرّبيع بن أنس عَنهُ وَعَن مُجَاهِد لَيْسُوا بيهود وَلَا نَصَارَى وَلَا دين لَهُم وَلَا تُؤْكَل ذَبَائِحهم وَلَا تنْكح نِسَاؤُهُم وَكَذَا روى عَن الْحسن وَابْن نجيح وَقَالَ ابْن زيد الصابئون أهل دين من الْأَدْيَان كَانُوا بالجزيرة جَزِيرَة الْموصل يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَلَيْسَ لَهُم عمل وَلَا كتاب وَلَا نَبِي وَلم يُؤمنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن الْحسن قَالَ أخبر زِيَاد أَن الصابئين يصلونَ إِلَى الْقبْلَة وَيصلونَ الْخمس قَالَ فَأَرَادَ أَن يضع عَلَيْهِم الْجِزْيَة فَأخْبر بعد أَنهم يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة وَعَن قَتَادَة وَأبي جَعْفَر الرَّازِيّ هم قوم يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة وَيصلونَ إِلَى الْقبْلَة ويقرؤن الزبُور وَفِي الْكتاب الزَّاهِر لِابْنِ الْأَنْبَارِي هم قوم من النَّصَارَى قَوْلهم أَلين من قَول النَّصَارَى قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} فَيُقَال الَّذين آمنُوا هم المُنَافِقُونَ أظهرُوا الْإِيمَان وأضمروا الْكفْر وَالَّذين هادوا الْيَهُود المغيرون المبدلون وَالنَّصَارَى المقيمون على الْكفْر بِمَا يصفونَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْمحَال والصابئون الْكفَّار أَيْضا المفارقون للحق وَيُقَال الَّذين آمنُوا الْمُؤْمِنُونَ حَقًا وَالَّذين هادوا الَّذين تَابُوا وَلم يُغيرُوا أَو النَّصَارَى نصار عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام والصابئون الخارجون من الْبَاطِل إِلَى الْحق من آمن بِاللَّه مَعْنَاهُ من دَامَ مِنْهُم على الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى فَلهُ أجره وَفِي كتاب الرشاطي الصابي نسبه إِلَى صابي بن متوشلخ بن خنوخ بن برد بن مهليل بن فتين بن ياش بن شِيث بن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي كِتَابه الْمُنْتَهى هم جنس من أهل الْكتاب يَزْعمُونَ أَنهم من ولد صاب بن إِدْرِيس النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقيل نسبتهم إِلَى الصابىء بن ماري وَكَانَ فِي عصر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي منظومته
(الصابئيات كالكتابيات ... فِي حكم حل العقد والذكاة)
وَشَرحه أَن أَبَا حنيفَة يَقُول إِنَّهُم يَعْتَقِدُونَ نَبيا وَلَهُم كتاب فَتحل مناكحة نِسَائِهِم وتؤكل ذَبَائِحهم وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد هم يَعْتَقِدُونَ الْكَوَاكِب فَلَا تحل مناكحة نِسَائِهِم وَلَا تُؤْكَل ذَبَائِحهم
7 - (بَاب إِذَا خافَ الجُنُبُ على نَفْسِهِ المَرَضَ أَوَ المَوْتَ أوْ خَافَ الْعَطَشَ تيمَّم)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا خَافَ الْجنب: الخ. وَقد ذكر فِيهِ حكم ثَلَاث مسَائِل.
الأولى: إِذا خَافَ الْجنب على نَفسه الْمَرَض يُبَاح لَهُ التَّيَمُّم مَعَ وجود المَاء، وَهل يلْحق بِهِ خوف الزِّيَادَة؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء وَالشَّافِعِيّ، وَالأَصَح عِنْده: نعم، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري، وَعَن مَالك رِوَايَة بِالْمَنْعِ، وَقَالَ عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ فِي رِوَايَة: لَا يستباح التَّيَمُّم بِالْمرضِ أصلا وَكَرِهَهُ طَاوس، وَإِنَّمَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء، وَأما مَعَ وجوده فَلَا، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، ذكره فِي (التَّوْضِيح) . وَفِي (شرح الْوَجِيز) : أما مرض يخَاف مِنْهُ زِيَادَة الْعلَّة وبطء الْبُرْء، فقد ذكرُوا فِيهِ ثَلَاث طرق، أظهرها أَن فِي جَوَاز التَّيَمُّم لَهُ قَولَانِ: أَحدهمَا الْمَنْع، وَهُوَ قَول أَحْمد، وأظهرهما الْجَوَاز وَهُوَ قَول الْإِصْطَخْرِي وَعَامة أَصْحَابه، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة. وَفِي (الْحِلْية) : وَهُوَ الْأَصَح. وَإِن كَانَ مرض لَا يلْحقهُ بِاسْتِعْمَال المَاء ضَرَر كالصداع والحمى لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم، وَقَالَ دَاوُد: يجوز، ويحكى ذَلِك عَن مَالك، وَعنهُ أَنه لَا يجوز. وَلَو خَافَ من اسْتِعْمَال المَاء شَيْئا فِي الْمحل، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس؛ لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم على مَذْهَب الشَّافِعِي، وَقَالَ غَيره إِن كَانَ الشين كأثر الجدري والجراحة لَيْسَ لَهُم التَّيَمُّم، وَإِن كَانَ يشوه من خلقه ويسود من وَجهه كثيرا فِيهِ قَولَانِ. وَالثَّانِي من الطّرق أَنه: لَا يجوز قطعا، وَالثَّالِث: أَنه يجوز قطعا.
الثَّانِيَة: إِذا خَافَ الْجنب على نَفسه الْمَوْت يجوز لَهُ التَّيَمُّم بِلَا خلاف، وَفِي قاضيخان: الْجنب الصَّحِيح فِي الْمصر إِذا خَافَ الْهَلَاك للبرد جَازَ لَهُ التَّيَمُّم، وَأما الْمُسَافِر، إِذا خَافَ الْهَلَاك من الِاغْتِسَال جَازَ لَهُ التَّيَمُّم بالِاتِّفَاقِ، وَأما الْمُحدث فِي الْمصر فَاخْتَلَفُوا فِيهِ على قَول أبي حنيفَة، فجوزه شيخ الْإِسْلَام، وَلم يجوزه الْحلْوانِي.
الثَّالِثَة: أَنه إِذا خَافَ على نَفسه الْعَطش يجوز لَهُ التَّيَمُّم، وَكَذَا عندنَا إِذا خَافَ على رَفِيقه أَو على حَيَوَان مَعَه نَحْو دَابَّته وكلبه وسنوره وطيره. وَفِي (شرح الْوَجِيز) : لَو خَافَ على نَفسه أَو مَاله من سبع أَو سَارِق فَلهُ التَّيَمُّم، وَلَو احْتَاجَ إِلَى المَاء لعطش فِي الْحَال أَو توقعه فِي الْمَآل، أَو لعطش رَفِيقه أَو لعطش حَيَوَان مُحْتَرم جَازَ لَهُ التَّيَمُّم. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة؛ أَو كَانَ المَاء عِنْد جمع فساق فخافت الْمَرْأَة على نَفسهَا الزِّنَا جَازَ لَهَا التَّيَمُّم.
قَوْله: (أَو خَافَ الْعَطش) ، غير مقتصر على الْجنب الَّذِي يخَاف الْعَطش، بل الْجنب والمحدث

(4/33)


فِيهِ سَوَاء.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله وَالَّذِي بعده ظَاهر، لِأَن هَذِه الْأَبْوَاب كلهَا فِي حكم التَّيَمُّم.
وَيُذْكَرُ أنَّ عَمرَو بنَ الْعاصِ أجْنَبَ فِي لَيْلةٍ بارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَتَلاَ {وَلاَ تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النِّسَاء: 92) فَذُكِرَ للنَّبيّ فَلَمْ يُعَنِّفْهُ.
عَمْرو بن الْعَاصِ القريشي السَّهْمِي أَبُو عبد ا، قدم على النَّبِي فِي سنة ثَمَان قبل الْفَتْح مُسلما، وَهُوَ من زهاد قُرَيْش، ولاه النَّبِي على عمان وَلم يزل عَلَيْهَا حَتَّى قبض النَّبِي، رُوِيَ لَهُ سَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة، مَاتَ بِمصْر عَاملا عَلَيْهَا سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين على الْمَشْهُور يَوْم الْفطر، صلى عَلَيْهِ ابْنه عبد ا، ثمَّ صلى الْعِيد بِالنَّاسِ. قَوْله: (وَيذكر) ، تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض، وَوَصله أَبُو دَاوُد وَقَالَ: حدّثنا ابْن الْمثنى، قَالَ: حدّثنا وهب بن جرير، قَالَ: حدّثنا أبي، قَالَ: سَمِعت يحيى بن أَيُّوب يحدث عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عمرَان بن أبي أنس عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير عَن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: (احْتَلَمت فِي لَيْلَة بَارِدَة فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل، فَأَشْفَقت إِن اغْتَسَلت أَن أهلك، فَتَيَمَّمت ثمَّ صليت بِأَصْحَابِي الصُّبْح، فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي، فَقَالَ: يَا عَمْرو صليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب؟ فَأَخْبَرته بِالَّذِي مَنَعَنِي من الِاغْتِسَال، وَقلت: إِنِّي سَمِعت اتعالى يَقُول: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن اكان بكم رحِيما} (النِّسَاء: 92) فَضَحِك نَبِي اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يقل شَيْئا) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا. قَوْله: (فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل) ، وَهِي وَرَاء وَادي الْقرى، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة عشرَة أَيَّام. وَقيل: سميت بهَا لِأَنَّهَا بِأَرْض جذام يُقَال لَهُ السلسل، وَكَانَت فِي جمادي الأولى سنة ثَمَان من الْهِجْرَة. قَوْله: (فَأَشْفَقت) أَي: خفت. قَوْله: (فَلم يعنفه) أَي: لم يعنفه النَّبِي، يَعْنِي لم يُنكر عَلَيْهِ، كَذَا لم يعنفه بالضمير فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَلم يعنف) ، بِدُونِ الضَّمِير حذف للْعلم بِهِ، وَعدم تعنيفه إِيَّاه دَلِيل الْجَوَاز والتقرير، وَبِه علم عدم إِعَادَة الصَّلَاة الَّتِي صلاهَا بِالتَّيَمُّمِ فِي هَذِه الْحَالة، وَهُوَ حجَّة على من يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ، وَدلّ أَيْضا على جَوَاز التَّيَمُّم لمن يتَوَقَّع من اسْتِعْمَال المَاء الْهَلَاك، سَوَاء كَانَ للبرد أَو لغيره، وَسَوَاء كَانَ فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر، وَسَوَاء كَانَ جنبا أَو مُحدثا. وَفِيه دلَالَة على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي عصره.

54311 - ح دّثنا بِشْرُ بنُ خالِدٍ قالَ حَدَّثَنَا محَمَّدٌ هُوَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَة عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أبي وَائِلٍ قَالَ قالَ أبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ إِذَا لَمْ يَجِدِ المَاءَ لاَ يُصَلِّي. قالَ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِي هَذَا كانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمُ البَرْدَ قالَ هَكَذَا يَعْنِي تَيَمَّمَ وَصَلَّى قالَ قُلْتُ فَأيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ قالَ إِنِّي لَمْ أرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَولِ عَمَّارٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَعْنِي تيَمّم وَصلى) .
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة. الأول: بشر بن خَالِد العسكري، أَبُو مُحَمَّد الْفَرَائِضِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ الملقب بغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال على الْأَشْهر. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: سُلَيْمَان الْمَشْهُور بالأعمش. الْخَامِس: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. السَّادِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ؛ عبد ابْن قيس. السَّابِع: عبد ابْن مَسْعُود، وَالْكل تقدمُوا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصفة الْجمع مرَّتَيْنِ. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَقَوله: هُوَ غنْدر، لَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ. قَوْله: (عَن شُعْبَة) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (حدّثنا شُعْبَة) . وَفِيه: أَن قَوْله؛ هُوَ غنْدر، من عِنْد البُخَارِيّ وَلَيْسَ هُوَ من لفظ شَيْخه، وَفِيه: إِن الْأَعْمَش ذكر باسمه وشهرته بلقبه، وَقلت: رِوَايَة يذكر فِيهَا كَذَا سُلَيْمَان مُجَردا. وَفِيه: محاورة صحابيين جليلين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا لم يجد المَاء) هَذَا على سَبِيل الِاسْتِفْهَام، وَالسُّؤَال من أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن عبد ابْن مَسْعُود يَعْنِي: إِذا لم يجد الْجنب المَاء لَا يُصَلِّي. وَقَوله: (لم يجد) ، بِصِيغَة الْغَائِب، وَكَذَلِكَ: (لَا يُصَلِّي) بِصِيغَة الْغَائِب، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة. وَفِي رِوَايَة غَيرهَا بِصِيغَة الْخطاب فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَأَبُو مُوسَى يُخَاطب عبد ا، وَكَذَا فِي رِوَايَة الاسماعيلي مَا يدل على هَذَا، وَلَفظه: (فَقَالَ عبد ا: نعم إِذا لم أجد المَاء شهرا لَا أُصَلِّي) . قَوْله: (لَو رخصت) ، أَي: قَالَ عبد الأبي مُوسَى: لَو رخصت لَهُم فِي هَذَا، أَي: فِي جَوَاز التَّيَمُّم للْجنب إِذا وجد أحدهم الْبرد، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (إِذا وجد أحدكُم الْبرد) . قَوْله: (قَالَ هَكَذَا) ، فِيهِ

(4/34)


إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، ثمَّ فسره بقوله: يَعْنِي تيَمّم وَصلى، وَهُوَ مقول قَول أبي مُوسَى. قَوْله: (قَالَ: قلت) أَي: قَالَ أَبُو مُوسَى: قلت لعبد ا: فَأَيْنَ قَول عمار بن يَاسر لعمر بن الْخطاب؟ وَهُوَ قَوْله: (كُنَّا فِي سفر فأجنبت فتمعكت فِي التُّرَاب فَذكرت لرَسُول الله فَقَالَ: يَكْفِيك الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ) ؟ قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ ابْن مَسْعُود: إِنِّي لم أرَ عمر بن الْخطاب قنع بقول عمار بن يَاسر، وَإِنَّمَا لم يقنع عمر بقوله لِأَنَّهُ كَانَ حَاضرا مَعَه فِي تِلْكَ السفرة، وَلم يتَذَكَّر الْقِصَّة، فارتاب فِي ذَلِك وَلم يقنع بقوله، وَهَذَا وَقع هَكَذَا مُخْتَصرا فِي رِوَايَة شُعْبَة وَيَأْتِي الْآن فِي رِوَايَة عمر بن حَفْص، ثمَّ فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة أتم وأكمل.

64321 - ح دّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قالَ حَدَّثَنَا أبي قالَ حدّثنا الأَعْمَشُ قالَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بنَ سَلَمَةَ قالَ كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ وَأبي مُوسَى فَقَالَ لَهُ أبُو مُوسَى أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إذَا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً كَيْفَ يَصْنَعُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ المَاءَ فَقَالَ أبُو مُوسَى فَكَيْفَ تصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِين قالَ لهُ النَّبيُّ كانَ يَكْفِيكَ قالَ ألَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ فَمَا درَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ فَقَالَ إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ المَاءُ انْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ فَإِنَّما كَرِهَ عَبْد اللَّهِ لِهَذَا قالَ نَعَمْ.
وَهَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت: حدّثنا الْأَعْمَش، وَفِيه فَائِدَة تَصْرِيح سَماع الْأَعْمَش من شَقِيق. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (يَا با عبد الرَّحْمَن) أَصله: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، فحذفت الْهمزَة فِيهِ تَخْفِيفًا، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن: كنية عبد ابْن مَسْعُود. قَوْله: (إِذا أجنب) أَي: الرجل: (فَلم يجد المَاء) ، ويروى: (إِذا أجنبت فَلم تَجِد) . بتاء الْخطاب فيهمَا. قَوْله: (كَيفَ يصنع؟) بياء الْغَيْبَة، أَي: كَيفَ يصنع الرجل؟ وعَلى رِوَايَة الْخطابِيّ: (كَيفَ تصنع؟) بتاء الْخطاب أَيْضا، وَالرِّوَايَة بالغيبة أشهر وأوجه بِدَلِيل قَوْله: (فَقَالَ عبد الا يُصَلِّي) أَي: لَا يُصَلِّي الرجل الَّذِي لَا يجد المَاء حَتَّى يجد، أَي: إِلَى أَن يجد المَاء. قَوْله: (كَانَ يَكْفِيك) أَي: مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ. قَوْله: (فَدَعْنَا من قَول عمار) أَي: أتركنا، وَكلمَة: دع، أَمر من: يدع، وأمات الْعَرَب ماضيه، وَالْمعْنَى: إقطع نظرك عَن قَول عمار، فَمَا تَقول فِيمَا ورد فِي الْقُرْآن؟ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَهُوَ معنى قَوْله: (كَيفَ تصنع بِهَذِهِ الْآيَة) وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) الْآيَة. قَوْله: (فَمَا درى عبد اما يَقُول) أَي: فَلم يعرف عبد اما يَقُول فِي تَوْجِيه الْآيَة على وفْق فتواه، وَلَعَلَّ الْمجْلس مَا كَانَ يَقْتَضِي تَطْوِيل المناظرة، وإلاَّ فَكَانَ لعبد اأن يَقُول: المُرَاد من الْمُلَامسَة فِي الْآيَة تلاقي البشرتين فِيمَا دون الْجِمَاع، وَجعل التَّيَمُّم بَدَلا من الْوضُوء فَقَط، فَلَا يدل على جَوَاز التَّيَمُّم للْجنب. قَوْله: (فِي هَذَا) ، أَي: فِي التَّيَمُّم للْجنب. قَوْله: (لَأَوْشَكَ) أَي: قرب وأسرع، وَهَذَا رد على من زعم أَنه لَا يَجِيء من بَاب: يُوشك أوشك مَاضِيا، وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ مضارعاً. قَوْله: (إِذا برد) بِفَتْح الْبَاء وَالرَّاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي. بِضَم الرَّاء، وَالْمَشْهُور الْفَتْح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُلَازمَة بَين الرُّخْصَة فِي تيَمّم الْجنب وَتيَمّم المتبرد، حَتَّى صَحَّ أَن يُقَال: لَو رخصنا لَهُم فِي ذَلِك لَكَانَ إِذا وجد أحدهم الْبرد تيَمّم؟ قلت: الْجِهَة الجامعة بَينهمَا اشتراكهما فِي عدم الْقُدْرَة على اسْتِعْمَال المَاء، لِأَن عدم الْقُدْرَة إِمَّا بفقد المَاء، وَإِمَّا بتعذر الِاسْتِعْمَال. قَوْله: (فَقلت) أَي: قَالَ الْأَعْمَش: قلت لشقيق. قَوْله: (لهَذَا) أَي: لأجل هَذَا الْمَعْنى، وَهُوَ احْتِمَال أَن يتَيَمَّم المتبرد، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْوَاو، لَا تدخل بَين القَوْل ومقوله، فَلم قَالَ: وَإِنَّمَا كره قلت: هُوَ عطف على سَائِر مقولاته الْمقدرَة أَي قلت؛ كَذَا وَكَذَا أَيْضا. انْتهى. قلت: كَأَنَّهُ اعْتمد على نُسْخَة فِيهَا، وَإِنَّمَا بواو الْعَطف، والنسخ الْمَشْهُورَة: فَإِنَّمَا بِالْفَاءِ.
ذكر مَا فِيهِ من الْفَوَائِد: الأولى: فِيهِ جَوَاز الماظرة، وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه مناظرة، وَالظَّاهِر مِنْهُمَا يَأْتِي على إهمال حكم الْآيَة، وَأي عذر لمن ترك الْعَمَل بِمَا فِي هَذِه الْآيَة من أجل أَن بعض النَّاس عساه أَن يستعملها على وَجههَا، وَفِي غير جِنْسهَا. وَمَا الْوَجْه فِيمَا ذهب إِلَيْهِ عبد امن إبِْطَال هَذِه الرُّخْصَة مَعَ مَا فِيهِ من إِسْقَاط الصَّلَاة عَمَّن هُوَ مُخَاطب بهَا ومأمور بإقامتها؟ وَأجِيب: عَن هَذَا بِأَن

(4/35)


عبد الم يذهب بِهَذَا الْمَذْهَب الَّذِي ظَنّه هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا كَانَ يتَأَوَّل الْمُلَامسَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة على غير معنى الْجِمَاع، إِذْ لَو أَرَادَ الْجِمَاع لَكَانَ فِيهِ مُخَالفَة الْآيَة صَرِيحًا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يجوز من مثله فِي علمه وفهمه وفقهه.
الثَّانِيَة: فِيهِ أَن رَأْي عمر وَعبد ارضي اعنهما، انْتِقَاض الطَّهَارَة بملامسة البشرتين، وَإِن الْجنب لَا يتَيَمَّم لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (الْمَائِدَة: 6) . الثَّالِثَة: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ جَوَاز التَّيَمُّم للخائف من الْبرد. قلت: يجوز التَّيَمُّم للْجنب الْمُقِيم إِذا خَافَ الْبرد عِنْد أبي حنيفَة، خلافًا لصاحبيه. الرَّابِعَة: فِيهِ جَوَاز الِانْتِقَال فِي المحاجة من دَلِيل إِلَى دَلِيل آخر بِمَا فِيهِ الْخلاف إِلَى مَا عَلَيْهِ الِاتِّفَاق، وَذَلِكَ جَائِز للمتناظرين عِنْد تَعْجِيل الْقطع. وإلإفحام للخصم كَمَا فِي مُحَاجَّة إِبْرَاهِيم ونمرود عَلَيْهِ اللَّعْنَة، أَلا ترى أَن إِبْرَاهِيم لما قَالَ: {رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت} (الْبَقَرَة: 852) وَقَالَ نمْرُود: {أَنا أحيي وأميت} (الْبَقَرَة: 852) لم يحْتَج إِلَى أَن يوقفه على كَيْفيَّة إحيائه وإماتته؟ بل انْتقل إِلَى قَوْله: {فَإِن ايأتي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب} (الْبَقَرَة: 852) فأفحم نمْرُود عِنْد ذَلِك.

8 - (بابُ التَيَمُّمِ ضَرْبَةً)

أَي: هَذَا بَاب يُقَال فِيهِ: التَّيَمُّم ضَرْبَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة بِالنّصب، وَفِي بَعْضهَا بِالرَّفْع قلت: لم يبين وَجه ذَلِك. قلت: رِوَايَة الْكشميهني: بَاب، بِلَا تَنْوِين بل بِالْإِضَافَة إِلَى التَّيَمُّم، وضربة مَنْصُوب على الْحَال، وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة التَّيَمُّم حَال كَونه ضَرْبَة وَاحِدَة، وَقد ذكرنَا أَن فِي صفة التَّيَمُّم أقوالاً، وَأَن رِوَايَة؛ ضَرْبَة وَاحِدَة، من رِوَايَة: ضربتين، عِنْد البُخَارِيّ، فَلذَلِك بوب عَلَيْهِ، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب، منون على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَقَوله؛ (التَّيَمُّم ضَرْبَة) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ خبر، وَالتَّيَمُّم، مُبْتَدأ.

74331 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بن سَلاَمٍ قالَ أخْبَرَنَا أبُو مُعاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قالَ كُنْتُ جالِساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَقَالَ لَهُ أبُو مُوسَى لوْ أنَّ رَجُلاً أجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ المَاءَ شَهْراً أمَا كانَ يَتَيمَّمُ وَيُصَلِّي فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي سُورَةِ المَائِدَةِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ المَاءُ أنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ قُلْتُ وَإنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا قالَ نَعَمَ فقالَ أبُو مُوسَى أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ بَعَثَنِي رسولُ الله فِي حاجَةٍ فأجْنَبْتُ فَلمْ أجِدِ المَاءَ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنبيِّ فقَالَ إِنَّما كانَ يَكفْيكَ أنْ تَصْنَعَ هَكَذَا فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأرْضِ ثُم نَفَضَها ثُم مَسَحَ بِهِما ظَهْرَ كفِّهِ بِشِمِالِهِ أوْ ظَهْرَ شِمِالِهِ بِكَفِّهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهِما وَجْههُ فقالَ عَبْدُ اللَّهِ أفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ رَضِي اعنهما.

هَذِه طَريقَة أُخْرَى، وَهِي أتم من الطريقتين المذكورتين، عَن مُحَمَّد بن سَلام، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام بتَخْفِيف اللَّام البيكندي عَن أبي مُعَاوِيَة الضَّرِير مُحَمَّد بن خازم بالمعجمتين عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن شَقِيق بن سَلمَة، وَهُوَ أَبُو وَائِل الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق فِي الطَّرِيقَة الأولى، وَهِي رِوَايَة بشر بن خَالِد. قَوْله: (أجنب) أَي: إِذا صَار جنبا. قَوْله: (أما كَانَ يتَيَمَّم؟) والهمزة فِيهِ فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كَيفَ تصنع بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ عبد ا: لَا يتَيَمَّم وَإِن لم يجد المَاء شهرا) وَنَحْوه لأبي دَاوُد. (قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكيف تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَة) ؟ ثمَّ الْهمزَة فِيهِ أما مقحمة وَإِمَّا للتقرير، و: مَا، نَافِيَة على أَصْلهَا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلين وَقع جَوَابا: للو، إِمَّا على تَقْدِير الإقحام، فَإِن وجوده كَعَدَمِهِ، وَأما على تَقْدِير التَّقْرِير، فَإِنَّهُ لم يبْق على معنى الِاسْتِفْهَام الَّذِي هُوَ الْمَانِع من وُقُوعه جَزَاء للشّرط، وَالْقَوْل مُقَدّر قبل لَو. وَحَاصِله يَقُولُونَ: لَو أجنب رجل مَا تيَمّم، كَيفَ تَصْنَعُونَ؟ وعَلى التَّقْدِير الثَّالِث: وَقع جَوَابا: بِتَقْدِير القَوْل أَي: لَو أجنب رجل يُقَال فِي حَقه: إِمَّا يتَيَمَّم، وَيحْتَمل أَن يكون جَوَاب: لَو، هُوَ: فَكيف تَصْنَعُونَ؟ .
قَوْله: (فِي سُورَة الْمَائِدَة) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَكيف تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَة فِي سُورَة الْمَائِدَة؟) وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ لفظ: الْآي، وَقَوله: (فَلم تَجدوا) ، هُوَ بَيَان للمراد من الْآيَة،

(4/36)


وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَصْلِيّ: (فَإِن لم تَجدوا) ، وَهُوَ مُغَاير للتلاوة. وَقيل: إِنَّه كَانَ كَذَلِك فِي رِوَايَة أبي ذَر ثمَّ أصلحها على وفْق الْآيَة، وَإِنَّمَا عين سُورَة الْمَائِدَة لكَونهَا أظهر فِي مَشْرُوعِيَّة تيَمّم الْجنب من آيَة النِّسَاء، لتقدم حكم الْوضُوء فِي الْمَائِدَة، وَقَالَ الْخطابِيّ وَغَيره: فِيهِ دَلِيل على عبد اكان يرى أَن المُرَاد بالملامسة الْجِمَاع، فَلهَذَا لم يدْفع دَلِيل أبي مُوسَى وإلاَّ لَكَانَ يَقُول لَهُ: المُرَاد من الْمُلَامسَة التقاء البشرتين فِيمَا دون الْجِمَاع، وَجعل التَّيَمُّم بَدَلا من الْوضُوء لَا يسْتَلْزم أَن يكون بَدَلا من الْغسْل. قلت: لَو أَرَادَ بالملامسة الْجِمَاع لَكَانَ مُخَالفَة لِلْآيَةِ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا تأولها على معنى غير الْجِمَاع، كَمَا ذكرنَا عَن قريب. قَوْله: (أَن يتيمموا الصَّعِيد) أَي: أَن يقصدوه، ويروى: (أَن يتيمموا بالصعيد) . قَوْله: (قلت) ، هُوَ مقول شَقِيق، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل الْقَائِل ذَلِك هُوَ الْأَعْمَش، وَالْمقول لَهُ هُوَ شَقِيق، كَمَا صرح بذلك فِي رِوَايَة عمر بن حَفْص الَّتِي مَضَت قبل هَذِه. قَوْله: (هَذَا) أَي: تيَمّم الْجنب. قَوْله: (لذا) أَي: لأجل تيَمّم صَاحب الْبرد. قَوْله: (كَمَا تمرغ الدَّابَّة) ، بِالتَّشْدِيدِ وَضم الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَأَصله: تتمرغ بالتائين فحذفت إِحْدَاهمَا للتَّخْفِيف، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نَارا تلظى} (اللَّيْل: 41) أَصله: تتلظى. قَوْله: (بكفه ضَرْبَة) ويروى: (بكفيه) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: اعْلَم أَن هَذِه الْكَيْفِيَّة مشكلة من جِهَات: أَولا: مِمَّا ثَبت من الطَّرِيق الآخر أَنه ضربتان، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَصَح الْمَنْصُوص ضربتان: وَثَانِيا: من جِهَة الِاكْتِفَاء بمسح ظهر كف وَاحِدَة، وبالاتفاق مسح كلا ظَهْري الْكَفَّيْنِ. وَاجِب، وَلم يجوز أحد الاجتزاء بِأَحَدِهِمَا. وثالثاً: من حَيْثُ إِن الْكَفّ إِذا اسْتعْمل ترابه فِي ظهر الشمَال كَيفَ مسح بِهِ الْوَجْه وَهُوَ صَار مُسْتَعْملا. ورابعاً: من جِهَة أَنه لم يمسح الذارعين. وخامساً: من عدم مُرَاعَاة التَّرْتِيب وَتَقْدِيم الْكَفّ على الْوَجْه انْتهى.
قلت: هَذِه خَمْسَة إشكالات أوردهَا. ثمَّ تكلّف فِي الْجَواب عَنْهَا، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: هَذَا غَايَة وسعنا فِي تَقْرِيره وَلَعَلَّ عِنْد غَيرنَا خيرا مِنْهُ. أَقُول: وبا التَّوْفِيق: ملخص جَوَابه عَن الأول بِالْمَنْعِ بِأَنا لَا نسلم أَن هَذَا التَّيَمُّم كَانَ بضربة وَاحِدَة. قلت: مَنعه مَمْنُوع لِأَنَّهُ كَانَ بضربة وَاحِدَة، لِأَنَّهُ صرح فِيهِ بِأَن: الضَّرْبَة الْوَاحِدَة كَافِيَة، فَيحمل هَذَا على الْجَوَاز، وَمَا ورد من الزِّيَادَة عَلَيْهَا على الْكَمَال. وَقَوله: وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَصَح الْمَنْصُوص ضربتان، اعْتِرَاض على الحَدِيث بِالْمذهبِ، وَهُوَ غير صَحِيح. وَأجَاب عَن الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَا بُد من تَقْدِير: ثمَّ ضرب ضَرْبَة أُخْرَى وَمسح بهَا يَدَيْهِ. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّقْدِير لِأَن أصل الْفَرْض يقوم بضربة وَاحِدَة، كَمَا فِي الْوضُوء، على أَن مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء الِاكْتِفَاء بضربة وَاحِدَة، كَذَا ذكره ابْن الْمُنْذر، وَاخْتَارَهُ هُوَ أَيْضا، وَالْبُخَارِيّ أَيْضا، فَلذَلِك بوب عَلَيْهِ. وَأجَاب عَن الثَّالِث: بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، وَالْجَوَاب السديد مُلَخصا: أَن التُّرَاب لَا يَأْخُذ حكم الِاسْتِعْمَال، وَهَذَا الحكم فِي المَاء دون التُّرَاب. وَأجَاب عَن الرَّابِع: بِمَنْع إِيجَاب مسح الذراعين، وأكد ذَلِك بقوله: وَلِهَذَا قَالُوا مسح الْكَفَّيْنِ أصح فِي الرِّوَايَة، وَمسح الذارعين أشبه بالأصول. قلت: فعلى هَذَا، الْإِشْكَال الرَّابِع غير وَارِد من الأول. وَأجَاب عَن الْخَامِس: بِمَنْع إِيجَاب التَّرْتِيب كَمَا هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة. قلت: هَذِه استعانة بِرَأْي من هُوَ يُخَالف رَأْيه.
قَوْله: (ثمَّ مسح بهَا ظهر كَفه) ، ويروى: (مسح بهما) . قَوْله: (أَو ظهر شِمَاله بكفه) ، كَذَا هُوَ بِالشَّكِّ فِي جَمِيع الرِّوَايَات إلاَّ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَيْضا من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة، كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَفظه، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تصنع هَكَذَا، وَضرب بيدَيْهِ على الأَرْض فنفضهما ثمَّ ضرب بِشمَالِهِ على يَمِينه وبيمينه على شِمَاله على الْكَفَّيْنِ ثمَّ مسح وَجهه) . انْتهى. وَهَذَا يحرر رِوَايَة غَيره، لِأَن الحَدِيث وَاحِد، وَاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ باخْتلَاف الرِّوَايَة، وَفِيه دَلِيل صَرِيح على أَن التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ جَمِيعًا، وَلَكِن الْعَامَّة أجابوا عَن هَذَا: إِن هَذَا الضَّرْب الْمَذْكُور كَانَ للتعليم وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ بَيَان جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم، لِأَن اتعالى أوجب غسل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين فِي الْوضُوء فِي أول الْآيَة، ثمَّ قَالَ فِي التَّيَمُّم {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَالظَّاهِر أَن الْيَد الْمُطلقَة هُنَا هِيَ المقي دة فِي الْوضُوء. فَافْهَم.
قَوْله: (فَقَالَ عبد ا) ، ويروى: قَالَ عبد ابدون: الْفَاء. قَوْله: (ألم تَرَ عمر؟) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: (أفلم تَرَ؟) بِزِيَادَة الْفَاء، فِيهِ. قَوْله: (لم يقنع بقول عمار) ، وَوجه عدم قناعته بقول عمار هُوَ أَنه كَانَ مَعَه فِي تِلْكَ الفضية، وَلم يتَذَكَّر عمر ذَلِك أصلا، وَلِهَذَا قَالَ لعمَّار، فِيمَا رَوَاهُ مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى: (اتَّقِ ايا عمار فِيمَا ترويه وَتثبت فِيهِ فلعلك نسيت أَو اشْتبهَ عَلَيْك، فَإِنِّي كنت مَعَك وَلَا أَتَذكر شَيْئا من هَذَا) ، وَمعنى قَول عمار؛ إِنِّي رَأَيْت الْمصلحَة فِي الْإِمْسَاك عَن التحديث بِهِ راجحة على التحديث وافقتك وَأَمْسَكت، فَإِنِّي قد بلّغته وَلم يبْق عَليّ حرج؛ فَقَالَ لَهُ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ: إِنَّا نوليك

(4/37)


مَا توليت. أَي: لَا يلْزم من كوني لَا أتذكره أَن لَا يكون حَقًا فِي نفس الْأَمر، فَلَيْسَ لي مَنعك من التحديث بِهِ.
وَزَادَ يَعْلَى عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شقيقٍ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأبِي مُوسَى فَقَالَ أبُو مُوسَى ألَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ إِنَّ رَسولَ اللَّهِ بَعَثَنِي أَنا وَأنت فَأَجْنَبْتُ فَتمَعَّكْتُ بالصَّعِيدِ فَأَتيْنا رسولَ اللَّهِ فأَخْبَرْنَاهُ فقَال إِنَّما كانَ يَكْفيكَ هَكَذَا وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ وَاحِدَةً؟ .
يعلى، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام: ابْن عبيد أَبُو يُوسُف الطنافسي الْحَنَفِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة تسع وَمِائَتَيْنِ. قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا إِمَّا دَاخل تَحت إِسْنَاد مُحَمَّد بن سَلام، وَإِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ مَعَ احْتِمَال سَماع البُخَارِيّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أدْرك عصره. قلت: هَذَا تَعْلِيق وَصله أَحْمد فِي (مُسْنده) وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن زَيْدَانَ: حدّثنا أَحْمد بن حَازِم حدّثنا يعلى حدّثنا الْأَعْمَش فَذكره. قَوْله: (إِن رَسُول ا) ، ويروى: (إِن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . قَوْله: (بَعَثَنِي أَنا وَأَنت) . قيل: كَانَ الْقيَاس بَعَثَنِي إيَّايَ وَإِيَّاك، لِأَن: أَنا، ضمير مَرْفُوع فَكيف وَقع تَأْكِيدًا للضمير الْمَنْصُوب؟ والمعطوف فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ؟ وَأجِيب: بِأَن الضمائر يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض، وتجري بَينهمَا المناوبة. قَوْله: (هَكَذَا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (هَذَا) . قَوْله: (وَاحِدَة) يَعْنِي ضَرْبَة وَاحِدَة، وَهَذَا التَّقْدِير هُوَ الْمُنَاسب لغَرَض البُخَارِيّ لِأَنَّهُ ترْجم الْبَاب بقوله: بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة، وَيحْتَمل أَن يقدر مسحة وَاحِدَة وَهُوَ الظَّاهِر من اللَّفْظ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَيكون التَّيَمُّم بالضربتين. قلت: لَا يدل شَيْء هَهُنَا على ذَلِك، ثمَّ سَأَلَ، فَإِذا حَملته على الضَّرْبَة وَاسْتعْمل فِي الْوَجْه فَكيف مسح بِهِ الْكَفَّيْنِ؟ وَأجَاب: بِأَن السُّؤَال سَاقِط على مَذْهَب من قَالَ: التُّرَاب لَا يصير مُسْتَعْملا، وَأما على مَذْهَبنَا فوجهه أَنه يمسح الْوَجْه بكف وَاحِدَة، ثمَّ ينفض بعض الْغُبَار فِي الْكَفّ الْغَيْر المستعملة إِلَى الْأُخْرَى، أَو يدلك إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى ثمَّ يمسح الْيَدَيْنِ بهما. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره وَجعله مذهبا لَا يفهم من هَذَا الحَدِيث.

9 - (بابٌ)

وَقع هَكَذَا بَاب مُجَردا عَن التَّرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَيْسَ بموجود أصلا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، فعلى رِوَايَته يكون الحَدِيث الَّذِي فِيهِ دَاخِلا فِي التَّرْجَمَة الْمَاضِيَة، فعلى قَول الْأَكْثَرين يكون: بَاب، بِمَنْزِلَة؛ فصل، وَلَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب يكون بِالْعقدِ والتركيب.

84341 - ححدّثنا عَبْدانُ قالَ أخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قالَ أخْبَرَنا عَوْفٌ عَنْ أبِي رَجاءٍ قالَ حدّثنا عِمْرَانُ بنُ حَصَيْنغ الخُزاعِيُّ أنَّ رسولَ اللَّهِ رَأى رَجُلاً مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَلِّ فِي القَوْمِ فَقَالَ يَا فُلاَنُ مَا مَنَعَكَ أَن تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ فَقَالَ يَا رَسولَ اللَّهِ أصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلا ماءَ قالَ عَلَيْكَ بالصعيدِ فَإِنَّهُ يَكْفيكَ.
عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة. وَعبد اهو ابْن الْمُبَارك، وعَوْف هُوَ ابْن الْأَعرَابِي، وَأَبُو رَجَاء العطاردي واسْمه عمرَان بن ملْحَان وَالْكل تقدمُوا.
وَمن لطائف هَذَا الْإِسْنَاد أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من الحَدِيث الطَّوِيل الَّذِي مضى فِي: بَاب الصَّعِيد الطّيب. فَإِن قلت: هَذَا لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِكَوْن الضَّرْب فِي التَّيَمُّم مرّة وَاحِدَة. قلت: إِن كَانَ لفظ: بَاب، مَوْجُودا على رَأس الحَدِيث فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب لِأَنَّهُ حينئذٍ لَا اخْتِصَاص لَهُ بذلك، بل للْإِشَارَة إِلَى أَن الصَّعِيد كافٍ للْجنب وَغَيره، وَإِن كَانَ غير مَوْجُود فَجَوَابه أَنه أطلق وَلم يُقيد بضربة وَلَا ضربتين، وَأقله يكون مرّة وَاحِدَة، فَيدْخل فِي التَّرْجَمَة. فَافْهَم، فَإِنَّهُ دَقِيق.

(4/38)