عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 9 - (بَاب الصَّلاَةِ فِي القَمِيصِ
والسَّرَاوِيلِ والتُّبَّانِ والقَبَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْقَمِيص
إِلَى آخِره. الْقَمِيص مَعْرُوف، وَجمعه: قمصان وأقمصة،
وقمصه تقميصاً وتقمصة أَي؛ لبسه: والسراويل أعجمي عرّب،
نقل سِيبَوَيْهٍ عَن يُونُس، وَزعم ابْن سَيّده أَنه
فَارسي مُعرب يذكر وَيُؤَنث، وَلم يعرف الْأَصْمَعِي
فِيهَا إِلَّا التَّأْنِيث، وَالْجمع سراويلات، وَقَالَ
سِيبَوَيْهٍ: لَا تكسر لِأَنَّهُ لَو كسر لم يرجع إلاَّ
إِلَى لفظ الْوَاحِد فَترك. وَيُقَال. هُوَ جمع سروالة.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: السَّرَاوِيل، مؤنث لَا
يذكرهَا أحد علمناه، وَبَعض الْعَرَب يظنّ السَّرَاوِيل
جمَاعَة، وَسمعت من الْأَعْرَاب من يَقُول: الشروال بالشين
الْمُعْجَمَة. قلت: وَلما استعملته الْعَرَب بدلُوا الشين
سيناً ثمَّ جَمَعُوهُ على سَرَاوِيل، وَقد يُقَال فِيهِ:
سراوين، بالنُّون مَوضِع اللَّام، وَفِي (الْجَامِع)
للقزاز: سَرَاوِيل وسروال وسرويل، ثَلَاث لُغَات. والتبان،
بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة. قَالَ فِي (الْمُحكم) : التبَّان يشبه
السَّرَاوِيل يذكر. وَفِي (الصِّحَاح) : التبَّان
سَرَاوِيل صَغِير مِقْدَار شبر يستر الْعَوْرَة
الْمُغَلَّظَة، فقد يكون للملاحين. قلت: وَهُوَ عِنْد
الْعَجم من جلد بِلَا رجلَيْنِ يلْبسهُ المصارعون. والقبا،
بِفَتْح الْقَاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة المخففة. قَالَ
الْكرْمَانِي: مَمْدُود، وَتَبعهُ على ذَلِك بَعضهم. قلت:
لم يذكر غَيره، بل الظَّاهِر أَنه مَقْصُور. وَفِي كتاب
الجواليقي: قَالَ بَعضهم: هُوَ فَارسي مُعرب، وَقيل:
عَرَبِيّ واشتقاقه من: القبو، وَهُوَ الضَّم وَالْجمع
(4/72)
وَقَالَ أَبُو عَليّ: سمي قبَاء لتقبضه،
وقبوت الشَّيْء: جمعته، وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ اليلمق،
فَارسي مُعرب، والقردماني. وَقَالَ السيرافي: قبَاء محشو،
وَقَالَ فِي (الْجَامِع) : سمي قبَاء لِأَنَّهُ يضم لابسه.
وَفِي (الصِّحَاح) : تقبيت إِذا لبست قبَاء، وَفِي
(الْمُحكم) : قبا الشَّيْء قبواً جمعه بأصابعه، والقبوة
انضمام مَا بَين الشفتين، والقباء من الثِّيَاب مُشْتَقّ
من ذَلِك لانضمام أَطْرَافه، وَالْجمع: أقبية، وَفِي (مجمع
الغرائب) للفارسي، عَن كَعْب: أول من لبس القباء
سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فَكَانَ إِذا أَدخل رَأسه فِي الثِّيَاب لنصت
الشَّيَاطِين، يَعْنِي: فصلت أنوفها. وَزعم أَبُو مُوسَى
فِي (المغيث) بِالسِّين: لنست.
563 - ح دّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قالَ حدّثنا
حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ قالَ قامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ فَسَأَلَهُ
عنِ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ فَقَالَ أَوَ
كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ سأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ
فَقالَ إذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا جَمَعَ رَجُلٌ
عَلَيْهِ ثيابَهُ صَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ فِي
إزَارٍ وَقَمِيصٍ فِي إزَارٍ وَقَباءٍ فِي سَراوِيلَ
وَرِدَاءٍ فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ فِي سَرَاوِيلَ
وَقَباءٍ فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ قالَ وَأحْسِبُهُ قالَ
فِي تُبَّانٍ وَرِداءٍ. (انْظُر الحَدِيث 853) .
مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي ذكر
الصَّلَاة فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة،
وصدرُ هَذَا الحَدِيث، أَعنِي الْمَرْفُوع مِنْهُ، قد تقدم
الْكَلَام فِيهِ فِي آخر بَاب الصَّلَاة فِي الثَّوْب
الْوَاحِد ملتحفاً بِهِ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن
عبد ابْن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن
الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن سَائِلًا سَأَلَ رَسُول
الله عَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد، فَقَالَ رَسُول ا: أَو
لكلكم ثَوْبَان؟) . وَهَهُنَا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب
الخ.
وَأَيوب: هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن
سِيرِين، وَقد تقدمُوا غير مرّة.
قَوْله: (أَو لكلكم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وواو
الْعَطف، أَي: لَا يجد كل وَاحِد ثَوْبَيْنِ، فَلهَذَا تصح
الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد. قَوْله: (ثمَّ سَأَلَ
رجل عمر) أَي: سَأَلَ عَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد، وَلم
يسم الرجل فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل
أَن يكون ابْن مَسْعُود، لِأَنَّهُ اخْتلف هُوَ وَأبي بن
كَعْب رَضِي اتعالى عَنْهُمَا؛ فِي ذَلِك. فَقَالَ أبي:
الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد، يَعْنِي لَا تكره.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك وَفِي
الثِّيَاب قلَّة، فَقَالَ عمر: القَوْل مَا قَالَ أبي،
وَلم يأل ابْن مَسْعُود أَي: لم يقصر. قلت: اخْتِلَاف أبي
وَابْن مَسْعُود فِي ذَلِك لَا يدل على أَن السَّائِل من
عمر هُوَ ابْن مَسْعُود بِعَيْنِه، وَيحْتَمل أَن يكون
أبي، وَالِاحْتِمَال مَوْجُود فيهمَا، مَعَ أَنه حدس
وتخمين. وَأما اخْتِلَافهمَا فِي ذَلِك فقد أخرجه عبد
الرَّزَّاق عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عمر وَعَن الْحسن
قَالَ: اخْتلف أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود فِي الصَّلَاة
فِي ثوب وَاحِد، فَقَالَ أبي: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ
ابْن مَسْعُود: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك إِذْ كَانَ النَّاس
لَا يَجدونَ ثيابًا. فَأَما إِذا وجدوها فَالصَّلَاة فِي
ثَوْبَيْنِ. فَقَامَ عمر على الْمِنْبَر فَقَالَ:
الصَّوَاب مَا قَالَ أبي لَا مَا قَالَ ابْن مَسْعُود.
قَوْله: (فَقَالَ: إِذا وسع ا) أَي: فَقَالَ عمر فِي
جَوَاب الرجل الَّذِي سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب
الْوَاحِد.
قَوْله: (جمع رجل عَلَيْهِ) الخ من بَقِيَّة قَول عمر.
وتتمة كَلَامه، وَالضَّمِير فِي: عَلَيْهِ، يرجع إِلَى
الرجل: أَي جمع رجل على نَفسه ثِيَابه، وَلَفظه: جمع،
وَإِن كَانَت صِيغَة الْمَاضِي وَلَكِن المُرَاد مِنْهَا
الْأَمر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (صلى) . فَلذَلِك قَالَ ابْن
بطال: يُرِيد ليجمع عَلَيْهِ ثِيَابه وَليصل فِيهَا، ذكره
بِلَفْظ الْمَاضِي وَمرَاده الْمُسْتَقْبل، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ ايا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت
قلت للنَّاس} (الْمَائِدَة: 611) وَالْمعْنَى: يَقُول ا،
يدل عَلَيْهِ قَول عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
{مَا قلت لَهُم إلاَّ مَا أَمرتنِي بِهِ} (الْمَائِدَة:
711) . قَوْله: (صلى رجل) . أَي: ليصل رجل فِي إِزَار
ورداء، وَهَذِه تسع صور. الأولى: هَذِه، وَالْفرق بَين
الْإِزَار والرداء بِحَسب الْعرف، لِأَن الْإِزَار
لِلنِّصْفِ الْأَسْفَل، وَالرَّدّ لِلنِّصْفِ الْأَعْلَى.
الثَّانِيَة: من الصُّور: هِيَ قَوْله: (فِي إِزَار وقميص)
أَي: ليصل فِي إِزَار وقميص. الثَّالِثَة: قَوْله: (فِي
إِزَار وقباء) ، أَي: ليصل فيهمَا، وَإِنَّمَا قدم هَذِه
الثَّلَاثَة لِأَنَّهَا أستر وَأكْثر اسْتِعْمَالا.
الرَّابِعَة: قَوْله: (فِي سَرَاوِيل ورداء) أَي: ليصل
فيهمَا. الْخَامِسَة: قَوْله: (فِي سَرَاوِيل وقميص) .
السَّادِسَة: قَوْله: (فِي سَرَاوِيل وقباء) .
السَّابِعَة: قَوْله: (فِي تبان وقباء) . الثَّامِنَة:
قَوْله: (فِي تبان وقميص) . التَّاسِعَة: قَوْله: (فِي
تبان ورداء) . وَلم يقْصد بذلك الْعدَد الْحصْر، بل ألحق
بذلك مَا يقوم مقَامه.
فَإِن قلت: كَانَ الْمُنَاسب أَن يَقُول: أَو كَذَا أَو
كَذَا. بِحرف الْعَطف. فَلم ترك حرف الْعَطف؟ قلت: أخرج
هَذَا على سَبِيل التعداد فَلَا حَاجَة إِلَى ذكر حرف
(4/73)
الْعَطف، كَمَا فِي قَوْله عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (تصدق امْرُؤ من ديناره من درهمه
من صَاع تمره) . وَيجوز أَن يُقَال: حذف حرف الْعَطف على
قَول من يجوز ذَلِك من النُّحَاة، وَالتَّقْدِير حينئذٍ:
صلى رجل فِي إِزَار ورداء، أَو فِي إِزَار وقميص، أَو فِي
إِزَار وقباء. إِلَى آخِره كَذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
هُوَ من بَاب الْإِبْدَال. قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك
إِلَى مَا قَالَه ابْن الْمُنِير: إِنَّه كَلَام فِي معنى
الشَّرْط، كَأَنَّهُ قَالَ: إِن جمع رجل عَلَيْهِ ثِيَابه
فَحسن، ثمَّ فصل الْجمع بصور على الْبَدَلِيَّة. قَوْله:
(قَالَ وَأَحْسبهُ) أَي: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وأحسب عمر
قَالَ: فِي ثِيَاب ورداء. فَإِن قلت: كَيفَ يدْخل حرف
الْعَطف بَين قَوْله ومقوله؟ قلت: هُوَ عطف على مُقَدّر
تَقْدِيره: بَقِي شَيْء من الصُّور الْمَذْكُورَة،
وَأَحْسبهُ قَالَ: فِي تبان ورداء.
فَإِن قلت: كَيفَ لم يجْزم بِهِ أَبُو هُرَيْرَة، بل ذكره
بالحسبان؟ قلت: لِإِمْكَان أَن عمر أهمل ذَلِك، لِأَن
التبَّان لَا يستر الْعَوْرَة كلهَا بِنَاء على أَن
الْفَخْذ من الْعَوْرَة، فالستر بِهِ حَاصِل مَعَ القباء
وَمَعَ الْقَمِيص، وَأما الرِّدَاء فقد لَا يحصل. وَرَأى
أَبُو هُرَيْرَة أَن انحصار الْقِسْمَة يَقْتَضِي ذكر
هَذِه الصُّور، وَأَن السّتْر قد يحصل بهَا إِذا كَانَ
الرِّدَاء سابغاً. وَقَالَ ابْن بطال: اللَّازِم من
الثِّيَاب فِي الصَّلَاة ثوب وَاحِد سَاتِر للعورة، وَقَول
عمر رَضِي اتعالى عَنهُ؛ إِذا وسع ا، يدل عَلَيْهِ، وَجمع
الثِّيَاب فِيهَا اخْتِيَار واستحسان. وَيُقَال: ذكر صوراً
تسعا: ثَلَاثَة مِنْهَا سابغة: الرِّدَاء ثمَّ الْقَمِيص
ثمَّ القباء، وَثَلَاثَة نَاقِصَة: الْإِزَار ثمَّ
السَّرَاوِيل ثمَّ التبَّان، وأفضلها: الْإِزَار ثمَّ
السَّرَاوِيل، وَمِنْهُم من عكس. وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك
فِيمَن صلى فِي سَرَاوِيل وَهُوَ قَادر على الثِّيَاب،
فَفِي (الْمُدَوَّنَة) : لَا يُعِيد فِي الْوَقْت وَلَا
فِي غَيره. وَعَن ابْن الْقَاسِم مثله، وَعَن أَشهب
عَلَيْهِ الْإِعَادَة فِي الْوَقْت، وَعنهُ أَن صلَاته
تَامَّة إِن كَانَ ضيقا. وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث
عبد ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: (نهى رَسُول ا، أَن
يُصَلِّي فِي لِحَاف وَلَا يوشح بِهِ) . وَالْآخر: أَن
تصلي فِي سَرَاوِيل لَيْسَ عَلَيْك رِدَاء، وبظاهره أَخذ
بعض أَصْحَابنَا. وَقَالَ: تكره الصَّلَاة فِي
السَّرَاوِيل وَحدهَا، وَالصَّحِيح أَنه إِذا ستر عَوْرَته
لَا تكره الصَّلَاة فِيهِ.
66323 - ح دّثنا عاصِمُ بنُ عَلِيَ قالَ حدّثنا ابنُ أبِي
ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قالَ
سَألَ رَجُلٌ رسولَ الله فقالَ مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ
فقالَ لاَ يَلْبَسُ القَمِيصَ ولاَ السَّرَاويلَ وَلَا
البُرنسَ وَلاَ ثَوْباً مَسَّهُ الزَّعْفَرانُ وَلَا
وَرْسٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فلْيلْبَسِ
الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أسْفَلَ
مِنَ الْكَعْبَينِ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ جَوَاز
الصَّلَاة بِدُونِ الْقَمِيص والسراويل.
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي آخر الْعلم عَن
عَاصِم بن عَليّ أَيْضا. وَأخرجه فِي الْعلم، وَفِي
اللبَاس أَيْضا عَن آدم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَيْضا فِي
الْحَج عَن أَحْمد بن عبد ابْن يُونُس عَنهُ بِهِ،
وَسَيَجِيءُ الْبَحْث فِيهِ فِي كتاب الْحَج مُسْتَوفى،
إِن شَاءَ اتعالى.
وَعَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم أَبُو الْحُسَيْن
الوَاسِطِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
بواسط. وَابْن أبي ذِئْب هُوَ: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن
بن أبي ذِئْب. وَالزهْرِيّ هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم.
قَوْله: (فَقَالَ) الْفَاء فِيهِ تفسيرية إِذْ هُوَ نفس:
سَأَلَ. قَوْله: (وَلَا ثوبا) رُوِيَ بِالنّصب وَالرَّفْع،
وَتقدم بَيَان جَوَازه فِي آخر كتاب الْعلم. قَوْله:
(حَتَّى يَكُونَا) بِصُورَة التَّثْنِيَة، وَفِي رِوَايَة
الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (حَتَّى يكون) ،
بِالْإِفْرَادِ على تَقْدِير كل وَاحِد مِنْهُمَا.
وَعَنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ مِثْلَهُ.
50
- 50 - 0 أَي: رُوِيَ عَن نَافِع مولى ابْن عمر عَنهُ عَن
النَّبِي مثل حَدِيث سَالم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا
تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون عطفا على
سَالم، فَيكون مُتَّصِلا. وشنع بَعضهم عَلَيْهِ. وَقَالَ:
التجويزات الْعَقْلِيَّة لَا يجوز اسْتِعْمَالهَا فِي
الْأُمُور النقلية. قلت: هَذَا تشنيع غير موجه، لِأَن
الْكرْمَانِي إِنَّمَا قَالَ: هَذَا تَعْلِيق بِالنّظرِ
إِلَى ظَاهر الصُّورَة، وَلم يجْزم بذلك، وَلِهَذَا قَالَ:
وَيحْتَمل إِلَى آخِره، ثمَّ إِنَّه قَالَ: عطفا على
سَالم، وَقَالَ بَعضهم: وَعَن نَافِع، عطف على قَوْله: عَن
الزُّهْرِيّ، قلت: قَصده بذلك إِظْهَار الْمُخَالفَة
بِأَيّ وَجه يكون، وإلاَّ فَلَا فَسَاد فِي الْمَعْنى، بل
كِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد.
وَرِوَايَة نَافِع هَذِه أخرجهَا البُخَارِيّ فِي آخر كتاب
الْعلم عَن آدم عَن
(4/74)
ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر
عَن النَّبِي، وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم (عَن ابْن عمر
عَن النَّبِي أَن رجلا سَأَلَهُ: مَا يلبس الْمحرم؟)
الحَدِيث، فَتقدم طَرِيق نَافِع وَعطف عَلَيْهِ طَرِيق
الزُّهْرِيّ، وَهَهُنَا عكس ذَاك حَيْثُ قدم طَرِيق
الزُّهْرِيّ وَعطف عَلَيْهِ طَرِيق نَافِع.
01 - (بابُ مَا يَسْتُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ستر الْعَوْرَة، وَكلمَة: مَا،
مَصْدَرِيَّة، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَالتَّقْدِير:
بَاب فِي بَيَان الشَّيْء الَّذِي يستر، أَي: الَّذِي يجب
ستره، وَكلمَة؛ من، بَيَانِيَّة فِي الْوَجْهَيْنِ، ثمَّ
هَذَا أَعم من أَن يكون فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا،
وَقيد بَعضهم قَوْله: أَي خَارج الصَّلَاة فَكَأَنَّهُ
أَخذ ذَلِك من لفظ الأحتباء الَّذِي فِي حَدِيث الْبَاب،
فَإِنَّهُ قيد النَّهْي فِيهِ بقوله: لَيْسَ على فرجه
مِنْهُ شَيْء، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص بِخَارِج
الصَّلَاة، بل النَّهْي أَعم من أَن يكون فِي الصَّلَاة
أَو خَارج الصَّلَاة، ثمَّ قَول هَذَا الْقَائِل:
وَالظَّاهِر من تصرف المُصَنّف أَنه يرى أَن الْوَاجِب ستر
السوءتين لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الَّذِي، يدل على ذَلِك،
أَي: تصرف مِنْهُ هَهُنَا. وَإِن كَانَ مذْهبه ذَلِك،
والعورة: سوءة الْإِنْسَان وكل مَا يستحى مِنْهُ.
76333 - ح دّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قالَ حدّثنا لَ
يْثٌ عنِ ابْن شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ
اللَّهِ بنِ عُتْبةَ عنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أنَّهُ
قَالَ نَهَى رسولُ الله عنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَأنْ
يَحْتَبِيَ الرجلُ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ لَيْسَ عَلَى
فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. (الحَدِيث 763 أَطْرَافه فِي:
1991، 4412، 7412، 0285، 2285، 4826) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَيْسَ على فرجه مِنْهُ
شَيْء) فَإِن النَّهْي فِيهِ أَن يكون الْفرج مكشوفاً،
فَهُوَ يدل على أَن ستر الْعَوْرَة وَاجِب، وَالْبَاب فِي
ستر الْعَوْرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن
شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَأَبُو سعيد
اسْمه سعيد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
قَول الصَّحَابِيّ عَن نهي النَّبِي. وَفِيه: أَن رُوَاته
مَا بَين بلخي وبصري ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُحَمَّد عَن مخلد عَن ابْن جريج
عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ، وَأخرجه فِي الْبيُوع عَن سعد بن
عفير عَن اللَّيْث، وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن يحيى بن بكير
عَن اللَّيْث، وَأخرجه أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عَبَّاس
عَن عبد الْأَعْلَى عَن معمر، وَفِي الاسْتِئْذَان عَن
عَليّ بن عبد اعن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع
عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث، وَفِي اللبَاس عَن يحيى بن
بكير عَن اللَّيْث، وَعَن عَمْرو النَّاقِد عَن يَعْقُوب
بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن
أَحْمد بن صَالح وَعَن قُتَيْبَة وَأبي الطَّاهِر بن
السَّرْح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى،
وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي، وَعَن إِبْرَاهِيم بن
يَعْقُوب، وَأخرجه فِي الزِّينَة أَيْضا عَن قُتَيْبَة
بِهِ، وَأخرجه فِي الْبيُوع أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع
عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَعَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث عَن
سُفْيَان بِالنَّهْي عَن البيعتين فِيهِ، وبالنهي عَن
اللبستين فِي الزِّينَة. وَأخرجه ابْن ماجة فِي
التِّجَارَات عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَسَهل بن أبي سهل
الرَّازِيّ كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (عَن اشْتِمَال الصماء) بالصَّاد
الْمُهْملَة وَالْمدّ، وَاخْتلف فِي تَفْسِيره، فَفِي
(الصِّحَاح) : هُوَ أَن يُجَلل جسده كُله بالإزار أَو
بالكساء، فَيردهُ من قبل يَمِينه على يَده الْيُسْرَى.
وعاتقه الْأَيْسَر، ثمَّ يردهُ ثَانِيًا من خَلفه على يَده
الْيُمْنَى وعاتقه الْأَيْمن فيغطيهما جَمِيعًا. وَفِي
(النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير: هُوَ التجلل بِالثَّوْبِ
وإرساله من غير أَن يرفع جَانِبه، وَفِي كتاب (اللبَاس) :
هُوَ أَن يَجْعَل ثَوْبه على أحد عَاتِقيهِ فيبدو أحد شقيه
لَيْسَ عَلَيْهِ ثوب، وَعَن الْأَصْمَعِي: هُوَ أَن
يشْتَمل بِالثَّوْبِ حَتَّى يُجَلل بِهِ جسده لَا يرفع
مِنْهُ جانباً فَلَا يبْقى مَا يخرج مِنْهُ يَده، وَعَن
أبي عبيد: إِن الْفُقَهَاء يَقُولُونَ: هُوَ أَن يشْتَمل
بِثَوْب وَاحِد لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره ثمَّ يرفعهُ من أحد
جانبيه فيضعه على أحد مَنْكِبَيْه فيبدو مِنْهُ فرجه.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِذا قلت اشْتَمَل فلَان الصماء
كَأَنَّك قلت: اشْتَمَل الشملة الَّتِي تعرف بِهَذَا
الِاسْم، لِأَن الصماء ضرب من الاشتمال. انْتهى.
قلت: تَحْقِيق هَذِه الكملة أَن الاشتمال مُضَاف إِلَى
الصماء، والصماء فِي الأَصْل صفة، يُقَال: صَخْرَة صماء
إِذا لم يكن فِيهَا خرق وَلَا منفذ، وَمعنى النَّهْي عَن
اشْتِمَال الصماء نهي عَن اشْتِمَال الثَّوْب كاشتمال
الصَّخْرَة الصماء، واشتمالها كَون عدم الْخرق والمنافذ
فِيهَا، وتشبيه الاشتمال الْمنْهِي بهَا كَونه يسد المنافذ
كلهَا، وَالَّذِي ذكره الْكرْمَانِي لَيْسَ تَفْسِير مَا
فِي لفظ الحَدِيث على مَا لَا يخفى. قَوْله:
(4/75)
(وَأَن يحتبي الرجل) أَي: وَنهي أَيْضا عَن
أَن يحتبي الرجل، وَكلمَة: إِن مَصْدَرِيَّة
وَالتَّقْدِير: وَعَن احتباء الرجل فِي ثوب وَاحِد،
والاحتباء أَن يقْعد الْإِنْسَان على إليتيه وَينصب سَاقيه
ويحتبي عَلَيْهِمَا بِثَوْب أَو نَحوه أَو بِيَدِهِ، وَاسم
هَذِه الْقعدَة تسمى: الحبوة، بِضَم الْحَاء وَكسرهَا،
وَكَانَ هَذَا الاحتباء عَادَة الْعَرَب فِي أَنْدِيَتهمْ
ومجالسهم، وَإِن انْكَشَفَ مَعَه شَيْء من عَوْرَته فَهُوَ
حرَام. وَقَالَ الْخطابِيّ: الاحتباء هُوَ أَن يحتبي الرجل
بِالثَّوْبِ وَرجلَاهُ متجافيتان عَن بَطْنه، فَيبقى
هُنَاكَ، إِذا لم يكن الثَّوْب وَاسِعًا قد أسبل شَيْئا
مِنْهُ على فرجه، فُرْجَة تبدو مِنْهَا عَوْرَته. قَالَ:
وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ إِذا كَانَ كاشفاً عَن فرجه.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الاحتباء أَن يجمع ظَهره
وَرجلَيْهِ بِثَوْب.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ وَهُوَ حكمان: الأول: اشْتِمَال
الصماء، وَقد نهى عَنهُ رَسُول ا، قَالُوا: على تَفْسِير
أهل اللُّغَة: اشْتِمَال الصماء إِنَّمَا يكره لِئَلَّا
تعرض لَهُ حَاجَة من دفع بعض الْهَوَام وَنَحْوهَا أَو غير
ذَلِك، فيعسر أَو يتَعَذَّر عَلَيْهِ إِخْرَاج يَده،
فيلحقه الضَّرَر. وعَلى تَفْسِير الْفُقَهَاء: يحرم
الاشتمال الْمَذْكُور إِن انْكَشَفَ بِهِ بعض الْعَوْرَة،
وَإِلَّا فَيكْرَه. وَالثَّانِي: النَّهْي عَن الاحتباء
الَّذِي فِيهِ كشف الْعَوْرَة، وَهُوَ حرَام مُطلقًا،
سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا.
86343 - ح دّثنا قَبِيصَةُ بن عُقْبَةَ قالَ حدّثنا
سُفْيَانُ عنْ أبي الزّنَادِ عنِ الأَعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ قالَ نَهَى النبيُّ عنْ بَيْعَتَيْنِ عَن
اللّمَاسِ والنّبَاذِ وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ وأنْ
يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحدٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: قبيصَة، بِفَتْح الْقَاف:
بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف. الثَّانِي:
سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: أَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر
الزَّاي وبالنون: عبد ابْن ذكْوَان. الرَّابِع: عبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج. الْخَامِس: أَبُو
هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل بالحكاية. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن
التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَأَبُو الزِّنَاد راوية
الْأَعْرَج، وَعَن البُخَارِيّ أصح الْأَسَانِيد كلهَا:
مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَأَصَح أَسَانِيد أبي
هُرَيْرَة: أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي
هُرَيْرَة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي
مَوَاضِع: هُنَا عَن قبيصَة، وَفِي الصَّلَاة عَن عبيد بن
إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة وَعَن مُحَمَّد عَن عَبدة بن
سُلَيْمَان، وَفِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد
الرَّحْمَن الثَّقَفِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن عبيد ابْن عمر
عَن حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن
الْخطاب عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه مُسلم بِهَذَا
الطَّرِيق عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد ابْن نمير
وَأبي أُسَامَة، وَعَن مُحَمَّد بن عبد ابْن نمير عَن
أَبِيه، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب
الثَّقَفِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن عبيد ابْن عمر، وَأخرجه
أَيْضا فِي الْبيُوع عَن أبي كريب وَابْن أبي عمر،
كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي كريب ومحمود بن غيلَان.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِيهِ من طَرِيق حَفْص بن
عَاصِم. وَأخرجه ابْن ماجة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ
مُنْقَطِعًا فِي الصَّلَاة وَفِي التِّجَارَات وَفِي
اللبَاس.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (عَن بيعَتَيْنِ) تَثْنِيَة: بيعَة،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، وَالْفرق بَينهمَا
أَن؛ الفعلة، بِالْفَتْح، للمرة وبالكسر للحالة والهيئة.
قَوْله: (عَن اللماس) بِكَسْر اللَّام، وَهُوَ مصدر من:
لامس، من بَاب: فَاعل. وَقد علم أَن مصدره يَأْتِي على:
مفاعلة، مثل: ملامسة. وعَلى: فعال، مثل: لماس. وَكَذَلِكَ
الْكَلَام فِي (النباذ) ، بِكَسْر النُّون وبالذال
الْمُعْجَمَة، يَأْتِي من بَابه: فعال، مثل: نباذ، و:
مفاعلة، مثل: منابذة. وَفسّر: اللماس، فِي كتاب البيع
بِأَنَّهُ لمس الثَّوْب بِلَا نظر إِلَيْهِ، والنباذ:
بِأَن الرجل يطْرَح ثَوْبه بِالْبيعِ قبل أَن يقلبه أَو
ينظر إِلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن لِأَصْحَابِنَا
فِي الْمُلَامسَة تأويلات. أَحدهَا: أَن يَأْتِي بِثَوْب
مطوي أَو فِي ظلمَة، فيلمسه المستام، فَيَقُول صَاحبه:
بعتكه بِكَذَا بِشَرْط أَن يقوم لمسك مقَام نظرك، وَلَا
خِيَار لَك إِذا رَأَيْته. الثَّانِي: أَن يجعلا نفس
اللَّمْس بيعا، فَيَقُول إِذا لمسته فَهُوَ مَبِيع لَك.
الثَّالِث: أَن يَبِيعهُ شَيْئا على أَنه مَتى لمسه
انْقَطع خِيَار الْمجْلس.
(4/76)
وَفِي الْمُنَابذَة أَيْضا ثَلَاثَة أوجه،
أَن يَجْعَل نفس. النبذ بيعا، وَأَن يَقُول: إِذا نَبَذته
إِلَيْك انْقَطع الْخِيَار. وَإِن يُرَاد بِهِ نبذ
الْحَصَا، وَله أَيْضا تأويلات أَن يَقُول: بِعْتُك من
هَذِه الأثواب مَا وَقعت عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي
أرميها، وَأَن يَقُول: لَك الْخِيَار إِلَى أَن أرمي
بِهَذِهِ الْحَصَاة، وَأَن يجعلا نفس الرَّمْي بالحصاة
بيعا، فَيَقُول: إِذْ رميت هَذَا الثَّوْب بالحصاة فَهُوَ
مَبِيع بِكَذَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمُلَامسَة
والمنابذة وإلقاء الْحجر كَانَت بيوعاً فِي
الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ الرّجلَانِ يتساومان الْمَبِيع،
وَإِذا ألْقى المُشْتَرِي عَلَيْهِ حَصَاة، أَو نبذه
البَائِع إِلَى المُشْتَرِي، أَو لمسه المُشْتَرِي: لزم
البيع، وَقد نهى الشَّارِع عَن ذَلِك. قَوْله: (وَأَن
يشْتَمل) عطف على قَوْله: (عَن بيعَتَيْنِ) أَي: وَنهى
أَيْضا أَن يشْتَمل. و: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي؛ وَعَن
اشْتِمَال الصماء، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: (أَن يحتبي)
وتفسيرهما قد مر، وَالْمُطلق فِي الاحتباء هُنَا مَحْمُول
على الْمُقَيد فِي الحَدِيث الَّذِي قبله.
96353 - ح دّثنا إسْحَاقُ قالَ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ
إبْرَاهِيمَ قالَ حدّثنا ابنُ أخِي ابنِ شِهابٍ عنْ
عَمِّهِ قَالَ أخبرَني حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بنِ عَوْفٍ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ بَعَثَني أبُو
بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ
النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمنىً أَلاَّ يُحُجَّ بَعْدَ العامِ
مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيانٌ قالَ حُمَيْدُ
بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أرْدَفَ رسولُ اللَّهِ
عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَن يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ. قالَ أبُو
هُرَيْرَةَ فأذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أهْلِ مِنىً
يَوْمَ النَّحْرِ لاَ يَحُج بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ
يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ. (الحَدِيث 963 أَطْرَافه
فِي: 2261، 7713، 3634، 5564، 6564، 7564) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ
عُرْيَان) . فَإِن منع الطّواف عَارِيا يدل على وجوب ستر
الْعَوْرَة، وَقد تقدم الْكَلَام فِي هَذَا الْجُزْء من
هَذَا الحَدِيث فِي بَاب وجوب الصَّلَاة فِي الثِّيَاب.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم،
وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين إِسْحَاق مُجَردا غير
مَنْسُوب، فَلذَلِك تردد فِيهِ الْحفاظ، فَمنهمْ من قَالَ:
إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَمِنْهُم من قَالَ إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم الْمَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه، لِأَن كلاَ
مِنْهُمَا يروي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَالنُّسْخَة
الَّتِي فِيهَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هِيَ الْأَصَح.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: إِسْحَاق، أَي ابْن
إِبْرَاهِيم الْمَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه فِي آخر بَاب
فضل من علم. وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي نُسْخَتي من
طَرِيق أبي ذَر: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فَتعين أَنه
ابْن رَاهَوَيْه، إِذْ لم يرو البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن
أبي إِسْرَائِيل واسْمه إِبْرَاهِيم شَيْئا قلت: وُقُوع
إِسْحَاق مَنْسُوبا فِي نسخته إِنَّمَا علم أَنه ابْن
رَاهَوَيْه من جِهَة أبي ذَر لَا من جِهَة نسخته،
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: أَولا وردده الْحفاظ بَين ابْن
مَنْصُور وَبَين ابْن رَاهَوَيْه، فَكيف يُعلل بعد هَذَا
بقوله: إِذْ لم يرو البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن أبي
إِسْرَائِيل؟ الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد،
سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث: ابْن أخي بن
شهَاب، هُوَ: مُحَمَّد بن عبد اابن أخي الزُّهْرِيّ،
وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. الرَّابِع: عَمه،
وَهُوَ الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: حميد، بِضَم الْحَاء؛ ابْن
عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي اتعالى عَنهُ. السَّادِس:
أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَرْبَعَة
زهريون، وهم: يَعْقُوب إِلَى أبي هُرَيْرَة. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن أبي الْيَمَان، وَفِي
الْمَغَازِي عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَفِي الْحَج
عَن يحيى بن بكير، وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد بن عفير
وَعَن عبد ابْن يُوسُف، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَعَن
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن صَالح بن كيسَان.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن هَارُون بن سعيد، وَعَن
حَرْمَلَة بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن أبي
دَاوُد الْحَرَّانِي.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (فِي تِلْكَ الْحجَّة) ، أَي
الَّتِي أمَّر رَسُول الله الصّديق على الْحَاج، وَهِي قبل
حجَّة الْوَدَاع بِسنة، وَهِي السّنة التَّاسِعَة كَمَا
ذكر فِي (الْمَغَازِي) . قَوْله: (فِي مؤذنين) أَي: فِي
رَهْط يُؤذنُونَ فِي النَّاس يَوْم النَّحْر، كَأَنَّهُ
مقتبس مِمَّا قَالَ اتعالى: {وأذان من اورسوله إِلَى
النَّاس يَوْم الْحَج الْأَكْبَر} (التَّوْبَة: 3) وَفِي
رِوَايَة أبي دَاوُد، يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم
النَّحْر، وَالْحج الْأَكْبَر: قلت: الْحَج الْأَصْغَر
الْعمرَة. قَوْله: (أَلاَّ يحجّ) ، أَصله: أَن لَا يحجّ،
فادغمت النُّون فِي: لَا، فَصَارَ: ألاَّ، بِفَتْح
الْهمزَة
(4/77)
وَتَشْديد اللَّام وَهَذِه رِوَايَة
الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَلا لَا يحجّ)
، بأداة الاستفتاح قبل حرف النَّفْي. وَقَالَ بَعضهم:
بِحرف النَّهْي، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ حرف النَّفْي.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَل يكون ذَلِك الْعَام دَاخِلا فِي
ذَلِك الحكم أم لَا؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد بعد
خُرُوج هَذَا الْعَام لَا بعد دُخُوله. يَنْبَغِي أَن
يدْخل هَذَا الْعَام أَيْضا بِالنّظرِ إِلَى التَّعْلِيل.
قَوْله: (قَالَ حميد بن عبد الرَّحْمَن ثمَّ أرْدف رَسُول
ا) هَذَا مُرْسل من قبيل مَرَاسِيل التَّابِعين، لِأَن
حميدا لَيْسَ بصحابي حَتَّى يُقَال: إِنَّه شَاهده
بِنَفسِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ: قَالَ حميد،
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة، يحْتَمل أَن يكون كل مِنْهُمَا
تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَأَن يَكُونَا داخلين تَحت
الْإِسْنَاد لَكِن ظَاهر أَن مَسْأَلَة الإرداف لم يسندها
حميد، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَول حميد: ثمَّ أرْدف
رَسُول ا ... إِلَى آخِره، يحْتَمل أَن يكون تَلقاهُ من
أبي هُرَيْرَة وَأَن يكون الزُّهْرِيّ رَوَاهُ عَنهُ
مَوْصُولا عِنْد البُخَارِيّ، قلت: الْوَجْه هُوَ الَّذِي
ذكرته، كَمَا نَص عَلَيْهِ الْمزي وَغَيره. قَوْله: (ثمَّ
أرْدف رَسُول الله عليا) أَي: ثمَّ أرسل رَسُول الله عَليّ
بن طَالب وَرَاء أبي بكر، فَأمره أَن يُؤذن بِبَرَاءَة.
قَالَ ابْن عبد الْبر: أَمر رَسُول ا، أَبَا بكر
بِالْخرُوجِ إِلَى الْحَج وإقامته للنَّاس، فَخرج أَبُو
بكر وَنزل صدر بَرَاءَة بعده، فَقيل: يَا رَسُول الو بعثت
بهَا إِلَى أبي بكر يقْرؤهَا على النَّاس فِي الْمَوْسِم؟
فَقَالَ: إِنَّه لَا يُؤَدِّيهَا عني إلاَّ رجل من أهل
بَيْتِي، ثمَّ دَعَا عليا فَقَالَ: أخرج بِهَذِهِ
الْقِصَّة من صدر بَرَاءَة، وَأذن بهَا فِي النَّاس يَوْم
النَّحْر إِذا اجْتَمعُوا فِي منى، فَخرج على نَاقَة
رَسُول ا، العضباء، حَتَّى أدْرك أَبَا بكر الصّديق فَقيل:
بِذِي الْخَلِيفَة، وَقيل: بالعرج فوصل بِالسحرِ، فَسمع
أَبَا بكر رُغَاء نَاقَة رَسُول الله فَإِذا عَليّ،
فَقَالَ أَبُو بكر: استعملك رَسُول الله على الْحَج؟
قَالَ: لَا، وَلَكِن بَعَثَنِي أَن أَقرَأ بَرَاءَة على
النَّاس. فَقَالَ أَبُو بكر: أَمِير أَو مَأْمُور؟
فَقَالَ: بل مَأْمُور. وَقَالَ: لَا يذهب بهَا إلاَّ رجل
من أهل بَيْتِي) . وَفِي لفظ: (فَرجع أَبُو بكر، فَقَالَ:
يَا رَسُول انْزِلْ فِي شَيْء؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن
جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جَاءَنِي
فَقَالَ: لن يُؤَدِّي عَنْك إلاَّ أَنْت أَو رجل مِنْك) .
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي إِعْطَاء عَليّ بَرَاءَة؟
قلت: لِأَن بَرَاءَة تضمن نقض الْعَهْد، وَكَانَت سيرة
الْعَرَب أَن لَا يحل العقد إلاَّ الَّذِي عقده أَو رجل من
أهل بَيته، فَأَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن
يقطع أَلْسِنَة الْعَرَب بالجحد، وَأرْسل ابْن عَمه
الْهَاشِمِي، حَتَّى لَا يبْقى لَهُم مُتَكَلم. وَقيل: إِن
فِي سُورَة بَرَاءَة ذكر الصّديق يَعْنِي قَوْله تَعَالَى:
{ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار} (التَّوْبَة: 04)
فَأَرَادَ أَن غَيره يقْرؤهَا فَإِن قلت: عَليّ كَانَ
مَأْمُورا بِالتَّأْذِينِ بِبَرَاءَة، فيكف قَالَ؛ فَأذن
مَعْنَاهُ بِأَنَّهُ لَا يحجّ؟ قلت: إِمَّا لِأَن ذَلِك
دَاخل فِي سُورَة بَرَاءَة، وَإِمَّا أَن مَعْنَاهُ أَنه
أذن فِيهِ أَيْضا مَعْنَاهُ بعد تأذينه بِبَرَاءَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ هُوَ أَنه أبطل مَا كَانَت
الْجَاهِلِيَّة عَلَيْهِ من الطّواف عُرَاة، وَاسْتدلَّ
بِهِ على أَن ستر الْعَوْرَة وَاجِب، وَهُوَ الْمُوَافق
لترجمة الْبَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاسْتدلَّ بِهِ
على أَن الطّواف يشْتَرط لَهُ ستر الْعَوْرَة. قلت: إِذا
طَاف الْحَج عُريَانا فَلَا يعْتد بِهِ عِنْدهم،
وَعِنْدنَا يعْتد، وَلَكِن يكره.
11 - (بابُ الصَّلاَةِ بغَيْرِ رِدَاءٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة بِغَيْر رِدَاء.
07363 - ح دّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ
حدّثني ابنُ أبِي المَوالِي عَنْ مُحَمَّدِ بنِ
المنْكَدِرِ قالَ دخَلْتُ عَلَى جابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ وَهْوَ يُصَلّى فِي ثَوبٍ مُلْتحِفاً بِهِ
وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْنَا يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُصَلّى ورِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ قالَ
نَعَمْ أحْبَبْتُ أنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ
رَأيْتُ النبيَّ يُصَلّي هَكَذَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَتقدم فِي حَدِيث جَابر
هَذَا فِي بَاب عقد الْإِزَار على الْقَفَا، وَهُنَاكَ
أخرجه عَن أَحْمد بن يُونُس عَن عَاصِم بن مُحَمَّد عَن
وَاقد بن مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر. قَالَ:
(صلى جَابر فِي إِزَار) الخ، وَأخرجه أَيْضا هُنَاكَ عَن
مطرف عَن
(4/78)
عبد الرَّحْمَن بن أبي الموَالِي عَن
مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: (رَأَيْت جَابِرا
يُصَلِّي فِي ثوب) الحَدِيث، وَهَهُنَا أخرجه عَن عبد
الْعَزِيز بن عبد االأويسي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي
الموَالِي، بِفَتْح الْمِيم.
وَقد تكلمنا هُنَاكَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة. ولنتكلم
هَهُنَا بِمَا لم نتكلم هُنَاكَ.
فَقَوله: (وَهُوَ يُصَلِّي) جملَة حَالية. قَوْله:
(ملتحفاً) بِالنّصب، حَال، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (ملتحف)
بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ
ملتحف. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي نُسْخَتي عَنْهُمَا
بِالْجَرِّ على الْمُجَاورَة. قلت: نسخته لَيست بعمدة
حَتَّى يسلم الْجَرّ، ثمَّ يُقَال: للمجاورة. قَوْله:
(وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوع) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، أَي:
مَوْضُوع على شَيْء، وَهُنَاكَ: مَوْضُوعَة على المشجب.
قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: من الصَّلَاة. قَوْله:
(قُلْنَا: يَا أَبَا عبد ا) أَصله: يَا أَبَا عبد ا،
بِالْهَمْزَةِ فحذفت تَخْفِيفًا، وَهُوَ كنية جَابر رَضِي
اتعالى عَنهُ. قَوْله: (أَحْبَبْت أَن يراني الْجُهَّال) ،
وَهُنَاكَ: (ليراني أَحمَق مثلك) سَبَب تغليظه القَوْل
فِيهِ كَونه فهم من كَلَام السَّائِل إِنْكَاره عَلَيْهِ،
وَالْغَرَض فِي محبته لرؤية الْجُهَّال أَن يَقع السُّؤَال
وَالْجَوَاب فيستفاد مِنْهُ بَيَان الْجَوَاز. قَوْله:
(مثلكُمْ) بِالرَّفْع، صفة: للجهال، وَهُوَ بِضَم الْجِيم
وَتَشْديد الْهَاء، جمع: جَاهِل، وَهُنَاكَ ذكرنَا أَن
لفظ: مثل، متوغل فِي النكرَة فَلَا يتعرف، وَإِن أضيف
إِلَى الْمعرفَة، فَلذَلِك وَقع صفة للنكرة. وَهُوَ
قَوْله: (أَحمَق) ، وَأما هَهُنَا فَإِنَّهُ وَقع صفة
للمعرفة، فوجهه أَنه إِذا أضيف إِلَى مَا هُوَ مَشْهُور
بالمماثلة يتعرف، وَهَهُنَا كَذَلِك، على أَن التَّعْرِيف
فِي: الْجُهَّال، للْجِنْس فَهُوَ فِي حكم النكرَة. و:
الْمثل، بعنى: المثيل، على وزن: فعيل، فيستوي فِيهِ
الْمُذكر والمؤنث والمفرد وَالْجمع، فَلذَلِك مَا طابق
الْجُهَّال مَعَ أَن التطابق بَين الصّفة والموصوف فِي
الْإِفْرَاد وَالْجمع شَرط، أَو تَقول: هُوَ اكْتسب
الجمعية من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو هُوَ جنس يُطلق على
الْمُفْرد والمثنى وَالْجمع. قَوْله: (يُصَلِّي كَذَا)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (هَكَذَا) .
21 - (بابُ مَا يُذْكَرُ فِي الفَخِذِ)
أَي: هَذَا بَاب مَا يذكر فِي حكم الْفَخْذ، يجوز فِي:
خاء، الْفَخْذ الْكسر والسكون مَعًا.
وَقد ذكرنَا وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب بَين الْأَبْوَاب
الَّتِي فِي حكم الثِّيَاب، وَوجه مناسبته بِمَا قبله.
قالَ أبُو عَبْدُ ا.
هُوَ البُخَارِيّ، وَذكر نَفسه بكنيته وَلَيْسَ هَذَا
بموجود فِي غَالب النّسخ.
وَيُرْوَى عنِ ابنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ ومُحَمَّدِ بنِ
جَحْشٍ عنِ النبيِّ الفَخِذُ عَوْرَةٌ.
هَذَا تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض ذكره عَن ثَلَاثَة أنفس.
الأول: عَن عبد ابْن عَبَّاس، وَهُوَ عِنْد التِّرْمِذِيّ
مَوْصُول، أخرجه عَن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى عَن يحيى بن
آدم عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس عَن أبي يحيى القَتَّات عَن
مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: (الْفَخْذ
عَورَة) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَأَبُو يحيى
القَتَّات ضَعِيف وَهُوَ مَشْهُور بكنيته، وَاخْتلف فِي
اسْمه على سَبْعَة أَقْوَال: قيل: مُسلم، وَقيل: زَاذَان،
وَقيل: عبد الرَّحْمَن بن دِينَار، وَقيل: يزِيد، وَقيل:
زيان، وَقيل: عمرَان، وَقيل: دِينَار وَهُوَ الْمَشْهُور،
والقتات، بتفح الْقَاف وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق.
وَأما حَدِيث جرهد فَأخْرجهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن
ابْن النَّضر عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن بن جرهد عَن
أَبِيه عَن جده، قَالَ: وَكَانَ جدي من أهل الصّفة، قَالَ:
(جلس رَسُول الله عِنْدِي وفخذي مكشوفة، فَقَالَ: خمِّر
عَلَيْك أما علمت أَن الْفَخْذ عَورَة) . قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: روى هَذَا الحَدِيث أَصْحَاب
(الْمُوَطَّأ) : ابْن بكير وَابْن وهب ومعن وَعبد ابْن
يُوسُف، وَهُوَ عِنْد القعْنبِي خَارج (الْمُوَطَّأ) فِي
الزِّيَادَات عَن مَالك، وَلم يذكرهُ ابْن الْقَاسِم فِي
(الْمُوَطَّأ) وَلَا ابْن عفير وَلَا أَبُو مُصعب،
وَرَوَاهُ عَن مَالك ابْن مهْدي وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان
وَعَمْرو بن مَرْزُوق وَأَبُو قُرَّة وَإِسْحَاق بن عدي
ومطرف وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَفِي رِوَايَة ابْن
بكير وَابْن طهْمَان ومطرف وَغَيرهم، زرْعَة بن عبد
الرَّحْمَن عَن أَبِيه، من غير ذكره جده، وَعَن ابْن
عَسَاكِر: رَوَاهُ عبد ابْن نَافِع عَن مَالك عَن أبي
النَّضر عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن ابْن جرهد عَن
أَبِيه عَن جده، وَرَوَاهُ قبيصَة عَن الثَّوْريّ عَن أبي
النَّضر عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده
جرهد، لم يذكر أَبَاهُ، وَرَوَاهُ ابْن أبي عمر عَن ابْن
عُيَيْنَة عَن أبي النَّضر عَن زرْعَة بن مُسلم بن جرهد
عَن أَبِيه عَن جده. وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من
حَدِيث أبي عَاصِم: عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن
زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
(4/79)
عَن ابْن أبي عمر قَالَ: حدّثنا سُفْيَان
عَن أبي النَّضر مولى عمر بن عبيد اعن زرْعَة بن مُسلم بن
جرهد الْأَسْلَمِيّ عَن جده جرهد قَالَ: (مر النَّبِي،
بجرهد فِي الْمَسْجِد وَقد انْكَشَفَ فَخذه، وَقَالَ: إِن
الْفَخْذ عَورَة) ، هَذَا حَدِيث حسن مَا أرى إِسْنَاده
بِمُتَّصِل. وَقَالَ: حدّثنا الْحسن بن عَليّ، قَالَ:
حَدثنِي عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا معمر عَن أبي
الزِّنَاد، قَالَ: أَخْبرنِي ابْن جرهد عَن أَبِيه: (أَن
النَّبِي، مر بِهِ وَهُوَ كاشف عَن فَخذه، فَقَالَ
النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: غط فخذك
فَإِنَّهَا من الْعَوْرَة) . هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَأخرجه عَن وَاصل من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَقد
ذَكرْنَاهُ وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن أبي
الزِّنَاد عَن آل جرهد، وَلما ذكره ابْن الْقطَّان أعله
بِالِاضْطِرَابِ وبجهالة حَال الرَّاوِي عَن جرهد، وَلما
ذكره البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) من حَدِيث ابْن أبي
الزِّنَاد عَن زرْعَة عَن عبد الرَّحْمَن عَن جده قَالَ:
وَرَوَاهُ صَدَقَة عَن ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد
عَن آل جرهد، وَعَن سَالم أبي النَّضر عَن زرْعَة بن مُسلم
بن جرهد عَن جرهد، قَالَ البُخَارِيّ؛ وَلَا يَصح. وَقَالَ
ابْن الْحذاء: إِنَّمَا لم يُخرجهُ البُخَارِيّ فِي
مُصَنفه لهَذَا الِاخْتِلَاف، و: جرهد، بِفَتْح الْجِيم
وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْهَاء، وَفِي آخِره دَال
مُهْملَة. وَفِي (التَّهْذِيب) : جرهد الْأَسْلَمِيّ هُوَ
ابْن رزاح بن عدي، وَقيل: غير ذَلِك، لَهُ صُحْبَة، عداده
فِي أهل الْمَدِينَة، لَهُ عَن النَّبِي، حَدِيث وَاحِد:
(الْفَخْذ عَورَة) وَفِي إِسْنَاد حَدِيثه اخْتِلَاف كثير،
يُقَال: إِنَّه مَاتَ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَقَالَ
أَبُو عمر: جعل ابْن أبي حَاتِم: جرهد بن خويلد غير جرهد
بن رزاح، ثمَّ قَالَ: هَذَا وهم، وَهُوَ رجل وَاحِد من
أسلم لَا يكَاد يسلم، لَهُ صُحْبَة.
وَأما حَدِيث مُحَمَّد بن جحش فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
عَن يحيى بن أَيُّوب عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن مُحَمَّد
بن جَعْفَر عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي كثير،
مولى مُحَمَّد بن جحش، عَنهُ قَالَ: (كنت أُصَلِّي مَعَ
النَّبِي، فَمر على معمر وَهُوَ جَالس عِنْد دَاره
بِالسوقِ وفخذاه مكشوفتان فَقَالَ: يَا معمر غط فخذيك
فَإِن الفخذين عَورَة) . وَقَالَ ابْن حزم: رِوَايَة أبي
كثير مَجْهُولَة، وَذكره البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه)
وَأَشَارَ إِلَى الِاخْتِلَاف فِيهِ، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي
(مُسْنده) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من طَرِيق
إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن
عَن أبي كثير مولى مُحَمَّد بن جحش عَنهُ، وَمُحَمّد بن
جحش هُوَ مُحَمَّد بن عبد ابْن جحش، نسب إِلَى جده، لَهُ
ولأبيه عبد اصحبة، وَزَيْنَب بنت جحش أم الْمُؤمنِينَ هِيَ
عمته، وَكَانَ مُحَمَّد صَغِيرا فِي عهد النَّبِي عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد حفظ عَنهُ. وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: كَانَ مولده قبل الْهِجْرَة لخمس سِنِين،
هَاجر مَعَ أَبِيه إِلَى الْمَدِينَة، لَهُ صُحْبَة. وَا
أعلم.
وَأما معمر الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فَهُوَ
ابْن عبد ابْن فضلَة الْعَدوي، وَقد أخرج ابْن نَافِع
هَذَا الحَدِيث من طَرِيقه أَيْضا.
وقالَ أنَسٌ حَسَرَ النَّبيُّ عنْ فَخِذِهِ.
13
- هَذَا أَيْضا تَعْلِيق، وَلكنه قد وَصله فِي هَذَا
الْبَاب كَمَا يَأْتِي قَرِيبا، وحسر، بِفَتْح حروفها
المهملات، وَمَعْنَاهُ: كشف، وسنتكلم فِيهِ مستقصًى عَن
قريب.
وَحَدِيثُ أنَسٍ أسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أحْوَطُ،
حَتَّى نَخْرُجَ مِن اخْتِلاَفِهِمْ.
لما وَقع الْخلاف فِي الْفَخْذ: هَل، هُوَ عَورَة أم لَا؟
فَذهب قوم إِلَى أَنه لَيْسَ بِعَوْرَة، وَاحْتَجُّوا
بِحَدِيث أنس، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه عَورَة،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جرهد، وَبِمَا رُوِيَ مثله فِي
هَذَا الْبَاب، كَأَن قَائِلا قَالَ؛ إِن الأَصْل أَنه
إِذا رُوِيَ حديثان فِي حكم أَحدهمَا أصح من الآخر
فَالْعَمَل يكون بالأصح، فههنا حَدِيث أنس أصح من حَدِيث
جرهد وَنَحْوه، فَكيف وَقع الِاخْتِلَاف؟ فَأجَاب
البُخَارِيّ عَن هَذَا بقوله: (وَحَدِيث أنس أسْند) إِلَى
آخِره تَقْدِيره: أَن يُقَال: نعم، حَدِيث أنس أسْند،
يَعْنِي أقوى وَأحسن سنداً من حَدِيث جرهد، إلاَّ أَن
الْعَمَل بِحَدِيث جرهد لِأَنَّهُ الْأَحْوَط، يَعْنِي
أَكثر احْتِيَاطًا فِي أَمر الدّين، وَأقرب إِلَى
التَّقْوَى، لِلْخُرُوجِ عَن الِاخْتِلَاف، وَهُوَ معنى
قَوْله: (حَتَّى نخرج من اخْتلَافهمْ) أَي: من اخْتِلَاف
الْعلمَاء، وَهُوَ على صِيغَة جمَاعَة الْمُتَكَلّم من
الْمُضَارع، بِفَتْح النُّون وَضم الرَّاء.
وَلأَجل هَذِه النُّكْتَة لم يقل البُخَارِيّ: بَاب
الْفَخْذ عَورَة، وَلَا قَالَ أَيْضا: بَاب الْفَخْذ
لَيْسَ بِعَوْرَة، بل قَالَ: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ،
أما الْقَوْم الَّذين ذَهَبُوا إِلَى أَن الْفَخْذ لَيْسَ
بِعَوْرَة فهم: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب
وَإِسْمَاعِيل بن علية وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ
وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ وَأحمد، فِي رِوَايَة، ويروى ذَلِك
أَيْضا عَن الْإِصْطَخْرِي من
(4/80)
أَصْحَاب الشَّافِعِي حَكَاهُ الرَّافِعِيّ
عَنهُ، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : والعورة
الْمَفْرُوض سترهَا عَن النَّاظر وَفِي الصَّلَاة من
الرِّجَال الذّكر وحلقة الدبر فَقَط، وَلَيْسَ الْفَخْذ
مِنْهُ عَورَة، وَهِي من الْمَرْأَة جَمِيع جَسدهَا حاشا
الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَقَط، الْحر وَالْعَبْد والحرة
وَالْأمة سَوَاء فِي ذَلِك، وَلَا فرق. ثمَّ قَالَ، بعد
أَن روى حَدِيث أنس الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ: (إِن
رَسُول اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام، غزا خَيْبَر) وَفِيه:
( ... ثمَّ حسر الْإِزَار عَن فَخذه حَتَّى إِنِّي أنظر
إِلَى بَيَاض فَخذ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام) . فصح أَن الْفَخْذ من الرجل لَيْسَ
بِعَوْرَة، وَلَو كَانَ عَورَة لما كشفها اتعالى من
رَسُوله المطهر الْمَعْصُوم من النَّاس فِي حَال
النُّبُوَّة والرسالة، وَلَا أَرَاهَا أنس بن مَالك وَلَا
غَيره، وَهُوَ تَعَالَى عصمه من كشف الْعَوْرَة فِي حَال
الصِّبَا، وَقبل النُّبُوَّة.
وَأما الْآخرُونَ الَّذين هم خالفوهم وَقَالُوا: الْفَخْذ
عَورَة، فهم جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَمن
بعدهمْ، مِنْهُم: أَبُو حنيفَة وَمَالك فِي أصح أَقْوَاله
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي أصح روايتيه وَأَبُو يُوسُف
وَمُحَمّد وَزفر بن الْهُذيْل، حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا:
إِن الصَّلَاة مَكْشُوف الْعَوْرَة فَاسِدَة. وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيّ: الْفَخْذ عَورَة إلاَّ فِي الْحمام،
وَقَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن من صلى مَكْشُوف
الْعَوْرَة لَا إِعَادَة عَلَيْهِ. قلت: دَعْوَى
الْإِجْمَاع غير صَحِيحَة، فَيكون مُرَاده إِجْمَاع أهل
مذْهبه.
وَفِي (التَّوْضِيح) : حَاصِل مَا فِي عَورَة الرجل عندنَا
خَمْسَة أوجه. أَصَحهَا وَهُوَ الْمَنْصُوص أَنَّهَا: مَا
بَين السُّرَّة وَالركبَة، وهما ليستا بِعَوْرَة، وَهُوَ
صَحِيح مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ بِهِ زفر
وَمَالك. وَثَانِيها: أَنَّهُمَا عَورَة، كَمَا هُوَ
رِوَايَة عَن أبي حنيفَة. وَثَالِثهَا: السُّرَّة من
الْعَوْرَة. وَرَابِعهَا: عَكسه. وخامسها: للإصطخري:
الْقبل والدبر، وَهُوَ شَاذ. انْتهى. وَفِي (الوبري) :
السُّرَّة من الْعَوْرَة عِنْد أبي حنيفَة. وَفِي
(الْمُفِيد) : الرّكْبَة مركبة من عظم الْفَخْذ والساق،
فَاجْتمع الْحَظْر وَالْإِبَاحَة فغلب الْحَظْر
احْتِيَاطًا.
وَأما الْجَواب عَن حَدِيث أنس فَهُوَ أَنه مَحْمُول على
غير اخْتِيَار الرَّسُول فِيهِ بِسَبَب ازدحام النَّاس،
يدل عَلَيْهِ مس ركبة أنس فَخذه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
ويرجح حَدِيث جرهد وَهُوَ أَن تِلْكَ الْأَحَادِيث
الْمُعَارضَة لَهُ قضايا مُعينَة فِي أَوْقَات وأحوال
مَخْصُوصَة، يتَطَرَّق إِلَيْهَا الِاحْتِمَال مَا لَا
يتَطَرَّق لحَدِيث جرهد، فَإِنَّهُ أعْطى حكما كلياً،
فَكَانَ أولى. وَبَيَان ذَلِك أَن تِلْكَ الوقائع تحْتَمل
خُصُوصِيَّة النَّبِي بذلك، أَو الْبَقَاء على الْبَرَاءَة
الْأَصْلِيَّة، أَو كَأَن لم يحكم عَلَيْهِ فِي ذَلِك
الْوَقْت بِشَيْء، ثمَّ بعد ذَلِك حكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ
عَورَة. فَإِن قلت: روى الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ؛ حدّثنا
ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حدّثنا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج،
قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو خَالِد عَن عبد ابْن سعيد
الْمَدِينِيّ، قَالَ: حَدَّثتنِي حَفْصَة بنت عمر قَالَت:
(كَانَ رَسُول الله ذَات يَوْم قد وضع ثَوْبه بَين
فَخذيهِ، فجَاء أَبُو بكر فَاسْتَأْذن فَأذن لَهُ النَّبِي
على هَيئته، ثمَّ جَاءَ عمر بِمثل هَذِه الصّفة، ثمَّ
جَاءَ أنَاس من أَصْحَابه وَالنَّبِيّ على هَيئته، ثمَّ
جَاءَ عُثْمَان فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ ثمَّ أَخذ
رَسُول الله ثَوْبه فجلله، فتحدثوا ثمَّ خَرجُوا. فَقلت:
يَا رَسُول اجاء أَبُو بكر وَعمر وَعلي وأناس من أَصْحَابك
وَأَنت على هيئتك، فَلَمَّا جَاءَ عُثْمَان جللت بثوبك؟
فَقَالَ: (أَو لَا أستحي مِمَّن تَسْتَحي مِنْهُ
الْمَلَائِكَة؟) قَالَت: وَسمعت أبي وَغَيره يحدثُونَ
نَحوا من هَذَا. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا.
قلت: أجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ: بِأَن هَذَا الحَدِيث عَن
قَاسم بن زَكَرِيَّا على هَذَا الْوَجْه غَرِيب، لِأَن
جمَاعَة من أهل الْبَيْت رَوَوْهُ على غير هَذَا الْوَجْه
الْمَذْكُور، وَلَيْسَ فِيهِ. ذكر: كشف الفخذين، فحينئذٍ
لَا تثبت بِهِ الْحجَّة. وَقَالَ أَبُو عمر: الحَدِيث
الَّذِي رَوَوْهُ عَن حَفْصَة فِيهِ اضْطِرَاب. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: وَالَّذِي رُوِيَ فِي
قصَّة عُثْمَان من كشف الفخذين مَشْكُوك فِيهِ. وَقَالَ
الطَّبَرِيّ فِي كتاب (تَهْذِيب الْآثَار وَالْأَخْبَار) :
الَّتِي رويت عَن النَّبِي أَنه دخل عَلَيْهِ أَبُو بكر
وَعمر وَهُوَ كاشف فَخذه واهية الْأَسَانِيد لَا يثبت
بِمِثْلِهَا حجَّة فِي الدّين، وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة
بِالْأَمر بتغطية الْفَخْذ وَالنَّهْي عَن كشفها أَخْبَار
صِحَاح. وَقَول الطَّحَاوِيّ: لِأَن جمَاعَة من أهل
الْبَيْت رَوَوْهُ على غير هَذَا الْوَجْه، حَدِيث
عَائِشَة وَعُثْمَان أخرجه مُسلم: حدّثنا عبد الْملك بن
شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد، قَالَ: حدّثنا بِي عَن جدي،
قَالَ: حدّثنا عقيل بن خَالِد عَن ابْن شهَاب: (عَن يحيى
بن سعيد بن الْعَاصِ أَن سعيد بن الْعَاصِ أخبرهُ إِن
عَائِشَة، زوج النَّبِي، وَعُثْمَان رَضِي اتعالى عَنهُ،
حَدَّثَاهُ: أَن أَبَا بكر اسْتَأْذن على رَسُول الله
وَهُوَ مُضْطَجع على فرَاشه، لابس مرط عَائِشَة، فَأذن
لأبي بكر وَهُوَ كَذَلِك، فَقضى إِلَيْهِ حَاجته ثمَّ
انْصَرف، ثمَّ اسْتَأْذن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، فَأذن
لَهُ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَالة، فَقضى إِلَيْهِ حَاجته
ثمَّ انْصَرف. قَالَ عُثْمَان: ثمَّ اسْتَأْذَنت عَلَيْهِ
فَجَلَسَ وَقَالَ لعَائِشَة: إجمعي عَلَيْك ثِيَابك،
فَقضيت إِلَيْهِ حَاجَتي ثمَّ انصرفت، فَقَالَت عَائِشَة
يَا رَسُول اما لي لم أرك، فزعت لأبي بكر وَعمر كَمَا فزعت
لعُثْمَان؟ قَالَ رَسُول ا: (إِن عُثْمَان رجل حييّ،
وَإِنِّي خشيت: إِن أَذِنت لَهُ على تِلْكَ الْحَالة أَن
لَا
(4/81)
يبلغ إِلَيّ فِي حَاجته) .
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَقَالَ: فَهَذَا أصل هَذَا
الحَدِيث، لَيْسَ فِيهِ ذكر كشف الفخذين أصلا فَإِن قلت:
قد روى مُسلم أَيْضا فِي (صَحِيحه) وَأَبُو يعلى فِي
(مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) هَذَا الحَدِيث،
وَفِيه ذكر كشف الفخذين. فَقَالَ مُسلم: حدّثنا يحيى بن
يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَابْن حجر، قَالَ يحيى بن يحيى:
أخبرنَا، وَقَالَ الْآخرُونَ: حدّثنا إِسْمَاعِيل يعنون
ابْن جَعْفَر (1) عَن مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة عَن عَطاء
وَسليمَان ابْني يسَار وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن
عَائِشَة قَالَت: (كَانَ رَسُول الله مُضْطَجعا فِي بَيته
كاشفاً عَن فَخذيهِ أَو سَاقيه، فَاسْتَأْذن أَبُو بكر
فَأذن لَهُ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال، فَتحدث ثمَّ
اسْتَأْذن عمر فَأذن لَهُ وَهُوَ كَذَلِك، فَتحدث ثمَّ
اسْتَأْذن عُثْمَان فَجَلَسَ رَسُول اوسوى ثِيَابه. قَالَ
مُحَمَّد: وَلَا أَقُول ذَلِك فِي يَوْم وَاحِد فَدخل
فَتحدث، فَلَمَّا خرج قَالَت عَائِشَة: دخل أَبُو بكر فَلم
تهتش لَهُ، ثمَّ دخل عمر فَلم تهتش لَهُ وَلم تباله،
فَلَمَّا دخل عُثْمَان فَجَلَست وسويت ثِيَابك؟ فَقَالَ)
ألاَ أستحي من رجل تَسْتَحي مِنْهُ الْمَلَائِكَة؟ ، قلت:
لما أخرجه الْبَيْهَقِيّ قَالَ. لَا حجَّة فِيهِ. وَقَالَ
الشَّافِعِي: إِن هَذَا مَشْكُوك فِيهِ لِأَن الرَّاوِي
قَالَ: (فَخذيهِ أَو سَاقيه) ، فَدلَّ ذَلِك على مَا
قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِن أصل الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ ذكر
كشف الفخذين، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث مُضْطَرب.
وقالَ أَبُو مُوسَى غَطَّى النَّبيُّ رُكْبَتَيْهِ حِينَ
دَخَلَ عُثْمَانُ.
وَجه مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن
الرّكْبَة إِذا كَانَت عَورَة فالفخذ بِالطَّرِيقِ الأولى،
لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْفرج الَّذِي هُوَ عَورَة
إِجْمَاعًا. وَأَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه:
عبد ابْن قيس، وَهَذَا طرف حَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي
مَنَاقِب عُثْمَان من رِوَايَة عَاصِم الْأَحول: عَن أبي
عُثْمَان النَّهْدِيّ عَنهُ، وَفِيه: (أَن النَّبِي كَانَ
قَاعِدا فِي مَكَان فِيهِ مَاء قد انْكَشَفَ عَن ركبته،
أَو رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا دخل عُثْمَان غطاها) . وَزعم
الدَّاودِيّ الشَّارِح: أَن هَذِه الرِّوَايَة الْمُعَلقَة
عَن أبي مُوسَى وهم، وَأَنَّهَا لَيست من هَذَا الحَدِيث،
وَقد أَدخل بعض الروَاة حَدِيثا فِي حَدِيث: (إِنَّمَا
أَتَى أَبُو بكر إِلَى رَسُول الله وَهُوَ فِي بَيته منكشف
فَخذه، فَلَمَّا اسْتَأْذن عُثْمَان غطى فَخذه، فَقيل لَهُ
فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِن عُثْمَان رجل حييّ، فَإِن وجدني
على تِلْكَ الْحَالة لم يبلغ حَاجته) . قلت: الَّذِي
ذَكرْنَاهُ من رِوَايَة عَاصِم يرد عَلَيْهِ بَيَان ذَلِك
أَنا قد ذكرنَا إِن فِي حَدِيث عَائِشَة: (كاشفاً عَن
فَخذيهِ أَو سَاقيه) ، وَعند أَحْمد بِلَفْظ: (كاشفاً عَن
فَخذه) ، من غير شكّ، وَعِنْده من حَدِيث حَفْصَة مثله،
وَقد ظهر من ذَلِك أَن البُخَارِيّ لم يدْخل حَدِيثا فِي
حَدِيث، بل هما قضيتان متغايرتان، فِي إِحْدَاهمَا كشف
الرّكْبَة، وَفِي الْأُخْرَى كشف الْفَخْذ، وَفِي رِوَايَة
أبي مُوسَى الَّتِي علقها البُخَارِيّ: (كشف الرّكْبَة) ،
وَرِوَايَة عَائِشَة، (فِي كشف الْفَخْذ) ، ووافقها
حَفْصَة وَلم يذكر البُخَارِيّ روايتهما، وَإِنَّمَا ذكر
مُسلم رِوَايَة عَائِشَة كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الرّكْبَة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون
عَورَة أَو لَا؟ فَإِن كَانَت عَورَة فَلم كشفها قبل
دُخُول عُثْمَان؟ وَإِن لم تكن فلِمَ غطاها عَنهُ؟ قلت:
الشق الثَّانِي هُوَ الْمُخْتَار، وَأما التغطية فَكَانَت
للأدب والاستحياء مِنْهُ. وَقَالَ ابْن بطال. فَإِن قلت:
فلِمَ غطى حِين دُخُوله؟ قلت: قد بَين مَعْنَاهُ بقوله:
(أَلاَ أستحي مِمَّن تَسْتَحي مِنْهُ مَلَائِكَة
السَّمَاء؟) وَإِنَّمَا كَانَ يصف كل وحد من الصَّحَابَة
بِمَا هُوَ الْغَالِب عَلَيْهِ من أخلاقه، وَهُوَ مَشْهُور
فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْحيَاء الْغَالِب على عُثْمَان
اسْتَحى مِنْهُ، وَذكر أَن الْملك يستحي مِنْهُ فَكَانَت
المجازاة لَهُ من جنس فعله.
وقالَ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ أنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسولِهِ
وَفَخِذُهُ عَلى فَخذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ
أنْ تُرضَّ فَخذِي.
هَذَا أَيْضا تَعْلِيق وطرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ
فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء فِي نزُول قَوْله تَعَالَى:
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ}
(النِّسَاء: 59) الْآيَة حدّثنا إِسْمَاعِيل بن عبد احدثني
إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن ابْن شهَاب
حَدثنِي سهل بن سعد السَّاعِدِيّ ... الحَدِيث. وَفِيه:
(فَأنْزل اعلى رَسُوله وَفَخذه على فَخذي) إِلَى آخِره،
وَأخرجه أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عبد الْعَزِيز بن عبد ا.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد،
وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
(4/82)
الْجِهَاد عَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن
مُحَمَّد بن عبد ا. قَوْله: (مَا أنزل اعلى رَسُوله) أَي
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من
الْمُؤمنِينَ} (النِّسَاء: 59) . قَوْله: (وَفَخذه على
فَخذي) جملَة إسمية حَالية. قَوْله: (أَن ترض) ، بِضَم
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الرَّاء: على صِيغَة
الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على صِيغَة الْمَعْلُوم
أَيْضا من الرض، وَهُوَ: الدق. وكل شَيْء كَسرته فقد
رضضته، وإيراد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هَهُنَا لَيْسَ
لَهُ وَجه، لِأَنَّهُ لَا يدل على أَن الْفَخْذ عَورَة،
وَلَا يدل أَيْضا على أَنه لَيْسَ بِعَوْرَة، فَأَي شقّ
مَال إِلَيْهِ لَا يدل عَلَيْهِ على أَنه مَال إِلَى أَن
الْفَخْذ عَورَة، حَيْثُ قَالَ: وَحَدِيث جرهد أحوط. نعم،
لَو كَانَ فِيهِ التَّصْرِيح بِعَدَمِ الْحَائِل لدل على
أَنه لَيْسَ بِعَوْرَة، إِذْ لَو كَانَ عَورَة فِي هَذِه
الْحَالة لما مكن النَّبِي فَخذه على فَخذ زيد، وَقَالَ
بَعضهم: وَالظَّاهِر أَن المُصَنّف تمسك بِالْأَصْلِ. قلت:
لم يبين مَا مُرَاده من الأَصْل، فعلى كل حَال لَا يدل
الحَدِيث على مُرَاده صَرِيحًا.
173 - ح دّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قالَ حدّثنا
إِسْمَاعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ قالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ
بنُ صُهَيْبٍ عنْ أنَسٍ أنَّ رسولَ الله غزَا خَيْبَرَ
فَصَلَّيْنَا عِنْدَها صَلاَةَ الغَدَاة بِغَلَسٍ فَرَكِبَ
نَبيُّ اللَّهِ وَرَكِبَ أبُو طَلحَةَ وَأنَا رَدِيفُ أبي
طَلْحَةَ فأجْرَي نَبِيُّ الله فِي زقاقِ خَيْبَرَ وإنَّ
رُكْبَتي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبيِّ اللَّهِ ثُمَّ حَسَرَ
الإِزَارَ عنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أنْظُرُ إلَى
بَيَاضٍ فَخِذِ نَبِيِّ الله فَلَمَّا دَخَلَ القَرْيَةَ
قالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خيْبَرُ إِنَّا إذَا
نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ
قالَهَا ثَلاَثاً قَالَ وَخَرَجَ القَوْمُ إلَى
أعْمَالِهِمْ فَقَالُوا مُحَمَّدٌ قالَ عَبْدُ العَزِيزِ
وَقَالَ بَعْضُ أصْحَابِنا وَالْخَمِيسُ يَعْنِي الْجَيْشَ
قَالَ فأصَبْنَاها عَنْوَةً فَجُمِعَ السَّبْيُ فَجَاءَ
دِحْيَةُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أعْطِني جارِيَةً
مِنَ السَّبْي قالَ اذْهَبْ فَخُذْ جَاريَةً فأخَذَ
صَفِيَّة بِنْتَ حُيَيَ فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ
فقالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ
بِنْتَ حُيَيَ سَيَّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لاَ
تَصْلُحُ إلاَّ لَكَ قالَ ادْعُوهُ بِهَا فَجَاءَ بِهَا
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النبيُّ قالَ خذْ جارِيَةً مِنَ
السَّبْي غَيْرَهَا قالَ فَأَعْتَقَهَا النبيُّ
وَتَزوَّجَهَا فَقال لَهُ ثابِتٌ يَا أبَا حَمْزَةَ مَا
أصْدَقَها قَالَ نَفْسَها أعْتَقَها وَتَزَوَّجَها حَتَّى
إذَا كانَ بالطَّرِيقِ جَهَّزَتْها لهُ أُمُّ سُلَيْمٍ
فَأَهْدَتْها لَهُ مِنَ اللَّيْلِ فأصْبحَ النبيُّ
عَرُوساً فقالَ منْ كانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِيء بِهِ
وَبَسَطَ نِطَعاً فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ
وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ قالَ وَأحْسِبُهُ
قد ذَكَرَ السَّوِيقَ قَالَ فَحَاسُوا حَيْساً فكانَتْ
وَليمَةَ رَسولِ اللَّهِ. (الحَدِيث 173 أَطْرَافه فِي:
016، 749، 8222، 5322، 9882، 3982، 3492، 4492، 5492،
1992، 5803، 6803، 7633، 7463، 3804، 4804، 7914، 8914،
9914، 0024، 1024، 1124، 2124، 3124، 5805، 9515، 9615،
7835، 5245، 8255، 8695، 5816، 3636، 9636، 3337) .
هَذَا وصل الحَدِيث الَّذِي علقَة فِيمَا قبل قَرِيبا،
وَهُوَ قَوْله: (وَقَالَ أنس: حسر النَّبِي عَن فَخذه)
فَإِن قلت: مَا كَانَت فَائِدَة هَذَا التَّعْلِيق بِذكر
قِطْعَة من هَذَا الحَدِيث الْمُتَّصِل قبل أَن يذكر
الحَدِيث بِكَمَالِهِ؟ قلت: يحْتَمل أَنه أَرَادَ بِهِ
الْإِشَارَة إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ أنس من أَن الْفَخْذ
لَيْسَ بِعَوْرَة، فَلهَذَا ذكره بعد ذكر مَا ذهب إِلَيْهِ
ابْن عَبَّاس وجرهد وَمُحَمّد بن جحش: أَنه عَورَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن
علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن
صُهَيْب الْبنانِيّ الْبَصْرِيّ الأعمي. الرَّابِع: أنس بن
مَالك رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده:. هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه تقدم
فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان. وَفِيه: التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: من هُوَ مَشْهُور باسم أمه
وَهُوَ إِسْمَاعِيل ابْن إِبْرَاهِيم بن سهم بن مقسم
الْبَصْرِيّ أَبُو بشر الْأَسدي، أَسد خُزَيْمَة
مَوْلَاهُم، الْمَعْرُوف بِابْن علية، وَهِي أمه، مَاتَ
سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة. وَفِيه: أَن
(4/83)
رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري وأصل
الدَّوْرَقِي من الْكُوفَة وَلَيْسَ هُوَ من بلد دورق،
وَإِنَّمَا كَانَ يلبس قلنسوة دورقية فنسب إِلَيْهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ
حَدِيث: (أعتق صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا) فِي
النِّكَاح عَن قُتَيْبَة من حَدِيث ثَابت وَشُعَيْب بن
الْحجاب، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ وَعَن مُسَدّد عَن ثَابت
وَعبد الْعَزِيز، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ فِي حَدِيث
خَيْبَر، وَحَدِيث الْبَاب أخرجه مُسلم أَيْضا فِي
النِّكَاح، وَفِي الْمَغَازِي عَن زُهَيْر بن حَرْب
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح، وَفِي
الْوَلِيمَة عَن زِيَاد بن أَيُّوب، وَفِي التَّفْسِير عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه: قَوْله: (غزا خَيْبَر) ،
يَعْنِي غزا بَلْدَة تسمى خَيْبَر، وخبير بلغَة الْيَهُود:
حصن، وَقيل: أول مَا سكن فِيهَا رجل من بني إِسْرَائِيل
يُسمى خَيْبَر فسميت بِهِ، وَهِي بلد عترة فِي جِهَة
الشمَال والشرق من الْمَدِينَة النَّبَوِيّ على سِتَّة
مراحل، وَكَانَ لَهَا نخيل كثير، وَكَانَت فِي صدر
الْإِسْلَام دَارا لبني قُرَيْظَة وَالنضير، وَكَانَت
غَزْوَة خَيْبَر فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع من
الْهِجْرَة، قَالَه ابْن سعد. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق:
أَقَامَ رَسُول ا، بعد رُجُوعه من الْحُدَيْبِيَة ذَا
الْحجَّة وَبَعض الْمحرم، وَخرج فِي بَقِيَّته غازياً
إِلَى خَيْبَر، وَلم يبْق من السّنة السَّادِسَة إِلاَّ
شهر وَأَيَّام، وَهُوَ غير منصرف العلمية والتأنيث.
قَوْله: (بِغَلَس) ، بِفَتْح الْغَيْن وَاللَّام: وَهُوَ
ظلمَة آخر اللَّيْل. قَوْله: (فَركب نَبِي ا) أَي: ركب
مركوبه، وَعَن أنس بن مَالك، قَالَ: (كَانَ رَسُول ا،
يَوْم قُرَيْظَة وَالنضير على حمر، وَيَوْم خَيْبَر عل
حمَار مَخْطُوم برسن لِيف وَتَحْته إكاف من لِيف) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: وَهُوَ
ضَعِيف، وَقَالَ ابْن كثير: وَالَّذِي ثَبت فِي
(الصَّحِيح) عِنْد البُخَارِيّ عَن أنس: (أَن رَسُول ا،
أجري فِي زقاق خَيْبَر حَتَّى انحسر الْإِزَار عَن فَخذه)
. فَالظَّاهِر أَنه كَانَ يومئذٍ على فرس لَا على حمَار،
وَلَعَلَّ هَذَا الحَدِيث، إِن كَانَ صَحِيحا، فَهُوَ
مَحْمُول على أَنه رَكبه فِي بعض الْأَيَّام وَهُوَ
محاصرها. قَوْله: (وَركب أَبُو طَلْحَة) هُوَ: زيد بن سهل
الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة والمشاهد كلهَا وَهُوَ أحد
النُّقَبَاء، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَتسْعُونَ حَدِيثا، روى
لَهُ البُخَارِيّ مِنْهَا ثَلَاثَة، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ
أَو أَربع وَثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ أَو بِالشَّام أَو
فِي الْبَحْر، وَكَانَ أنس ربيبه. قَوْله: (وَأَنا رَدِيف
أبي طَلْحَة) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَأجرى)
، على وزن أفعل، من الإجراء، وفاعله النَّبِي،
وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَي: أجْرى مركوبه. قَوْله: (فِي
زقاق خَيْبَر) ، بِضَم الزَّاي وبالقافين: وَهُوَ
السِّكَّة، يذكر وَيُؤَنث، وَالْجمع: أَزِقَّة. وزقان،
بِضَم الزَّاي وَتَشْديد الْقَاف وبالنون. وَفِي
(الصِّحَاح) : قَالَ الْأَخْفَش: أهل الْحجاز يؤنثون
الطَّرِيق والصراط والسبيل والسوق والزقاق، وَبَنُو تَمِيم
يذكرُونَ هَذَا كُله، وَالْجمع: الزقان. والأزقة، مثل:
حوار وحوران وأحورة. قَوْله: (عَن فَخذه) يتَعَلَّق بقوله:
(حسر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالدَّلِيل على صِحَة
هَذَا مَا وَقع فِي رِوَايَة أَحْمد فِي (مُسْنده) من
رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية: (فانحسر) ، وَكَذَا وَقع
فِي رِوَايَة مُسلم، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ فِي هَذَا
الْموضع، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث عَن
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَلَفظه: (فَأجرى نَبِي ا، فِي
زقاق خَيْبَر إِذْ خر الْإِزَار) ، وَلَا شكّ أَن الخرور
هُنَا بِمَعْنى الْوُقُوع، فَيكون لَازِما، وَكَذَلِكَ
الانحسار فِي رِوَايَة مُسلم، وَهَذَا هُوَ الأصوب،
لِأَنَّهُ لم يكْشف إزَاره، عَن فَخذه قصدا، وَإِنَّمَا
انْكَشَفَ عَن فَخذه لأجل الزحام، أَو كَانَ ذَلِك من
قُوَّة إجرائه، وَقَالَ بَعضهم: الصَّوَاب أَنه عِنْد
البُخَارِيّ بِفتْحَتَيْنِ يَعْنِي؛ أَن حَسَر، على صِيغَة
الْفَاعِل، ثمَّ اسْتدلَّ عَلَيْهِ بقول أنس فِي أَوَائِل
الْبَاب: (حسر النَّبِي عَن فَخذه) قلت: اللَّائِق
بِحَالهِ الْكَرِيمَة أَن لَا ينْسب إِلَيْهِ كشف فَخذه
قصدا مَعَ ثُبُوت قَوْله: (الْفَخْذ عَورَة) ، على مَا
تقدم، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: لَا يلْزم من
وُقُوعه كَذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم أَن لَا يَقع عِنْد
البُخَارِيّ على خِلَافه.
قلت: منع الْمُلَازمَة مَمْنُوع، وَلَئِن سلمنَا فَيحْتَمل
أَن أنسا لما رأى فَخذ رَسُول الله مكشوفاً ظن أَنه كشفه،
فأسند الْفِعْل إِلَيْهِ، وَفِي نفس الْأَمر لم يكن ذَلِك
إلاَّ من أجل الزحام أَو من قُوَّة الجري على مَا
ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا، أَي:
وَفِي بعض النّسخ أَو فِي بعض الرِّوَايَة: على فَخذه،
أَي: الْإِزَار الْكَائِن على فَخذه، فَلَا يتَعَلَّق
بحسر، إلاَّ أَن يُقَال: حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا
مقَام بعض. قلت: إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة يكون مُتَعَلق:
على، محذوفاً كَمَا قَالَه، لِأَنَّهُ
(4/84)
حينئذٍ لَا يجوز أَن يتَعَلَّق: على،
بقوله: (حسر) لفساد الْمَعْنى، وَيجوز أَن تكون: على،
بِمَعْنى: من، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا اكتالوا
على النَّاس} (المطففين: 2) أَي: من النَّاس، لِأَن: على،
تَأتي لتسعة معَان، مِنْهَا أَن تكون بِمَعْنى: من.
قَوْله: (حَتَّى أَنِّي أنظر) ، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (حَتَّى أَنِّي لأنظر) ، بِزِيَادَة لَام
التَّأْكِيد. قَوْله: (فَلَمَّا دخل الْقرْيَة) أَي:
خَيْبَر، وَهَذَا مشْعر بِأَن ذَلِك الزقاق كَانَ خراج
الْقرْيَة. قَوْله: (خربَتْ خَيْبَر) أَي: صَارَت خراباً،
وَهل ذَلِك على سَبِيل الخبرية؟ فَيكون ذَلِك من بَاب
الْإِخْبَار بِالْغَيْبِ؟ أَو يكون ذَلِك على جِهَة
الدُّعَاء عَلَيْهِم؟ أَو على جِهَة التفاؤل لما رَآهُمْ
خَرجُوا بِمساحِيهِمْ وَمَكَاتِلهمْ؟ وَذَلِكَ من آلَات
الحراث. وَيجوز أَن يكون أَخذ من اسْمهَا، وَقيل: إِن
اأعلمه بذلك. قَوْله: (بِسَاحَة قوم) قَالَ الْجَوْهَرِي:
ساحة الدَّار ناحيتها، وَالْجمع: ساحات وسوح وساح، أَيْضا
مثل: بَدَنَة وبدن، وخشبة وخشب. قلت: على هَذَا أصل: ساحة
سوحة، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها، وانفتاح مَا قبلهَا،
وأصل الساحة الفضاء بَين الْمنَازل، وَيُطلق على:
النَّاحِيَة والجهة وَالْبناء. قَوْله: (وَخرج الْقَوْم
إِلَى أَعْمَالهم) . قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: مَوَاضِع
أَعْمَالهم. قلت: بل مَعْنَاهُ خرج الْقَوْم لأعمالهم
الَّتِي كَانُوا يعملونها، وَكلمَة: إِلَى، تَأتي
بِمَعْنى: اللَّام. قَوْله: (فَقَالُوا: مُحَمَّد) أَي:
جَاءَ مُحَمَّد، وارتفاعه على أَنه فَاعل لفعل مَحْذُوف،
وَيجوز أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا
مُحَمَّد. قَوْله: (قَالَ عبد الْعَزِيز) وَهُوَ: عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب، وَهُوَ أحد رُوَاة الحَدِيث عَن
أنس. قَوْله: (وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا) أَشَارَ بِهَذَا
إِلَى أَنه لم يسمع هَذِه اللَّفْظَة من أنس، وَإِنَّمَا
سَمعه من بعض أَصْحَابه عَنهُ، وَهَذِه رِوَايَة عَن
الْمَجْهُول، إِذْ لم يعين هَذَا الْبَعْض من هُوَ،
وَقَالَ بَعضهم، يحْتَمل أَن يكون بعض أَصْحَاب عبد
الْعَزِيز مُحَمَّد بن سِيرِين لِأَن البُخَارِيّ أخرج من
طَرِيقه أَيْضا، أَو يكون ثَابتا الْبنانِيّ، لِأَن مُسلما
أخرجه من طَرِيقه أَيْضا. قلت: يحْتَمل أَن يكون غَيرهمَا،
فعلى كل حَال لَا يخرج عَن الْجَهَالَة، وَالْحَاصِل أَن
عبد الْعَزِيز قَالَ: سَمِعت من أنس، قَالُوا: جَاءَ
مُحَمَّد. فَقَط، وَقَالَ بعض أَصْحَابه: قَالُوا مُحَمَّد
وَالْخَمِيس، ثمَّ فسر عبد الْعَزِيز: الْخَمِيس، بقوله:
يَعْنِي الْجَيْش، وَيجوز أَن يكون التَّفْسِير مِمَّن
دونه، وعَلى كل حَال هُوَ مدرج.
قَوْله: (وَالْخَمِيس) ، بِفَتْح الْخَاء، وَسمي الْجَيْش
خميساً لِأَنَّهُ خَمْسَة أَقسَام: مُقَدّمَة وساقة وقلب
وجناحان، وَيُقَال: ميمنة وميسرة وقلب وجناحان، وَقَالَ
ابْن سَيّده: لِأَنَّهُ يُخَمّس مَا وجده، وَقَالَ
الْأَزْهَرِي (1) : الْخمس إِنَّمَا ثَبت بِالشَّرْعِ،
وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة يسمونه بذلك، وَلم يَكُونُوا
يعْرفُونَ الْخمس. ثمَّ ارْتِفَاع: الْخَمِيس، بِكَوْنِهِ
عطفا على؛ مُحَمَّد، وَيجوز أَن تكون: الْوَاو، فِيهِ
بِمَعْنى: مَعَ، على معنى: جَاءَ مُحَمَّد مَعَ الْجَيْش.
قَوْله: (عنْوَة) بِفَتْح الْعين وَهُوَ الْقَهْر، يُقَال:
أَخَذته عنْوَة أَي: قهرا. وَقيل: أَخَذته عنْوَة، أَي:
عَن غير طَاعَة. وَقَالَ ثَعْلَب: أخذت الشَّيْء عنْوَة
أَي: قهرا فِي عنف، وأخذته عنْوَة أَي: صلحا فِي رفق.
وَقَالَ ابْن التِّين: وَيجوز أَن يكون عَن تَسْلِيم من
أَهلهَا وَطَاعَة بِلَا قتال، وَنَقله عَن الْقَزاز فِي
(جَامعه) : قلت: فحيئذٍ يكون هَذَا اللَّفْظ من الأضداد.
وَقَالَ أَبُو عمر: الصَّحِيح فِي أَرض خَيْبَر كلهَا
عنْوَة، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: اخْتلفُوا فِي فتح خَيْبَر
كَانَت عنْوَة أَو صلحا؟ أَو جلاء أَهلهَا عَنْهَا بِغَيْر
قتال؟ أَو بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة وَبَعضهَا جلاء
أَهلهَا عَنْهَا؟ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح،
وَبِهَذَا أَيْضا ينْدَفع التضاد بَين الْآثَار. قَوْله:
(فجَاء دحْيَة) ، بِفَتْح الدَّال وَكسرهَا: ابْن خَليفَة
بن فَرْوَة الْكَلْبِيّ، وَكَانَ أجمل النَّاس وَجها،
وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَأْتِي
رَسُول الله فِي صورته وَتقدم ذكره مُسْتَوفى، فِي قصَّة
هِرقل.
قَوْله: (فَقَالَ: اذْهَبْ) ، ويروى: قَالَ، بِدُونِ:
الْفَاء. قَوْله: (فَخذ جَارِيَة) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ للرسول إعطاؤها لدحية قبل
الْقِسْمَة؟ قلت: صفي الْمغنم لرَسُول ا، فَلهُ أَن
يُعْطِيهِ لمن شَاءَ. قلت: هَذَا غير مقنع، لِأَنَّهُ
قَالَ لَهُ ذَلِك قبل أَن يعين الصفي، وَهَهُنَا أجوبة
جَيِّدَة. الأول: يجوز أَن يكون أذن لَهُ فِي أَخذ
الْجَارِيَة على سَبِيل التَّنْفِيل لَهُ، إِمَّا من أصل
الْغَنِيمَة أَو من خمس الْخمس، سَوَاء كَانَ قبل
التَّمْيِيز أَو بعده. الثَّانِي: يجوز أَن يكون أذن لَهُ
على أَنه يحْسب من الْخمس إِذا ميز. الثَّالِث: يجوز أَن
يكون أذن لَهُ ليقوّم عَلَيْهِ بعد ذَلِك ويحسب من سَهْمه.
قَوْله: (فَأخذ صَفِيَّة بنت حييّ) ، بِفَتْح الصَّاد
الْمُهْملَة، وحيي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا
وَفتح الْيَاء الأولى المخففة وَتَشْديد الثَّانِيَة: ابْن
أَخطب بن سعية، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن
سفلَة بن ثَعْلَبَة، وَهِي من بَنَات هَارُون عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأمّهَا برة بنت سمؤل. قَالَ
الْوَاقِدِيّ: مَاتَت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة خمسين.
وَقَالَ غَيره: مَاتَت فِي خلَافَة عَليّ رَضِي اتعالى
عَنهُ. سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، ودفنت بِالبَقِيعِ،
وَكَانَت تَحت كنَانَة بن أبي
(4/85)
الْحقيق؛ بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح
الْقَاف الأولى: قتل يَوْم خَيْبَر. قَوْله: (فجَاء رجل) ،
مَجْهُول لم يعرف. قَوْله: (قُرَيْظَة) ، بِضَم الْقَاف
وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالظاء
الْمُعْجَمَة. (وَالنضير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد
الْمُعْجَمَة، وهما قبيلتان عظيمتان من يهود خَيْبَر، وَقد
دخلُوا فِي الْعَرَب على نسبهم إِلَى هَارُون عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (خُذ جَارِيَة من السَّبي
غَيرهَا) أَي: غير صَفِيَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن
قلت: لما وَهبهَا من دحْيَة فَكيف رَجَعَ عَنْهَا؟ قلت:
إِمَّا لِأَنَّهُ لم يتم عقد الْهِبَة بعد وَإِمَّا
لِأَنَّهُ أَبُو الْمُؤمنِينَ، وللوالد أَن يرجع عَن هبة
الْوَلَد، وَإِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ. قلت:
أجَاب بِثَلَاثَة أجوبة: الأول: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ لم
يجر عقد هِبته حَتَّى يُقَال: إِنَّه رَجَعَ عَنْهَا،
وَإِنَّمَا كَانَ إعطاؤها إِيَّاه بِوَجْه من الْوُجُوه
الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن قريب. الثَّانِي: فِيهِ نظر
أَيْضا، لِأَنَّهُ لَا يمشي مَا ذكره فِي مَذْهَب غَيره.
الثَّالِث: ذكر أَنه اشْتَرَاهَا مِنْهُ، أَي: من دحْيَة،
وَلم يجر بَينهمَا عقد بيع أَولا، فَكيف اشْتَرَاهَا
مِنْهُ بعد ذَلِك؟
فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أَن النَّبِي، اشْترى
صَفِيَّة مِنْهُ بسبعة أرؤس. قلت: إِطْلَاق الشِّرَاء على
ذَلِك على سَبِيل الْمجَاز، لِأَنَّهُ لما أَخذهَا مِنْهُ
على الْوَجْه الَّذِي نذكرهُ الْآن، وعوضه عَنْهَا بسبعة
أرؤس على سَبِيل التكرم وَالْفضل، أطلق الرَّاوِي
الشِّرَاء عَلَيْهِ لوُجُود معنى الْمُبَادلَة فِيهِ،
وَأما وَجه الْأَخْذ فَهُوَ أَنه لما قيل لَهُ: إِنَّهَا
لَا تصلح لَهُ من حَيْثُ إِنَّهَا من بَيت النُّبُوَّة،
فَإِنَّهَا من ولد هَارُون أخي مُوسَى عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمن بَيت الرياسة، فَإِنَّهَا من
بَيت سيد قُرَيْظَة وَالنضير، مَعَ مَا كَانَت عَلَيْهِ من
الْجمال الْبَاعِث على كَثْرَة النِّكَاح المؤدية إِلَى
كَثْرَة النَّسْل، وَإِلَى جمال الْوَلَد لَا للشهوة
النفسانية، فَإِنَّهُ مَعْصُوم مِنْهَا.
وَعَن الْمَازرِيّ: يحمل مَا جرى مَعَ دحْيَة على
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون رد الْجَارِيَة بِرِضَاهُ،
وَأذن لَهُ فِي غَيرهَا. الثَّانِي: أَنه إِنَّمَا أذن
لَهُ فِي جَارِيَة من حَشْو السَّبي لَا فِي أَخذ أفضلهن،
وَلما رأى أَنه أَخذ أَنْفسهنَّ وأجودهن نسبا وشرفاً
وجمالاً استرجعها لِئَلَّا يتَمَيَّز دحْيَة بهَا على
بَاقِي الْجَيْش، مَعَ أَن فيهم من هُوَ أفضل مِنْهُ،
فَقطع هَذِه الْمَفَاسِد وعوضه عَنْهَا. وَفِي (سير)
الْوَاقِدِيّ: أَنه أعطَاهُ أُخْت كنَانَة بن الرّبيع بن
أَي الْحقيق، وَكَانَ كنَانَة زوج صَفِيَّة، فَكَأَنَّهُ
طيب خاطره لما اسْترْجع مِنْهُ صَفِيَّة بِأَن أعطَاهُ
أُخْت زَوجهَا. وَقَالَ القَاضِي: الأولى عِنْدِي أَن
صَفِيَّة كَانَت فَيْئا لِأَنَّهَا كَانَت زَوْجَة كنَانَة
بن الرّبيع، وَهُوَ وَأَهله من بني الْحقيق كَانُوا
صَالحُوا رَسُول ا، وَشرط عَلَيْهِم أَن لَا يكتموا كنزاً،
فَإِن كتموه فَلَا ذمَّة لَهُم، وسألهم عَن كنز حَيّ بن
أَخطب فَكَتَمُوهُ، فَقَالُوا: أذهبته النَّفَقَات، ثمَّ
عثر عَلَيْهِ عِنْدهم، فَانْتقضَ عَهدهم فسباهم، وَصفِيَّة
من سَبْيهمْ، فَهِيَ فَيْء لَا يُخَمّس بل يفعل فِيهِ
الإِمَام مَا رأى. قلت: هَذَا تَفْرِيع على مذْهبه: أَن
الْفَيْء لَا يُخَمّس، وَمذهب غَيره أَنه يُخَمّس. قَوْله:
(فاعتقها) أَي: فاعتق النَّبِي صَفِيَّة، وَسَنذكر
تَحْقِيقه فِي الْأَحْكَام. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ ثَابت)
أَي: قَالَ لأنس رَضِي اتعالى عَنهُ، ثَابت الْبنانِيّ:
(يَا با حَمْزَة) . أَصله، يَا أَبَا حَمْزَة، حذفت الْألف
تَخْفِيفًا. قَوْله: (وَأَبُو حَمْزَة) كنية أنس. قَوْله:
(أم سليم) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة، وَهِي: أم أنس.
قَوْله: (حَتَّى إِذا كَانَ بِالطَّرِيقِ) جَاءَ فِي
(الصَّحِيح) : (فَخرج بهَا حَتَّى إِذا بلغنَا سد الروحاء)
، و: السد، بِفَتْح السِّين وَضمّهَا، وَهُوَ جبل الروحاء،
وَهِي قَرْيَة جَامِعَة من عمل الْفَرْع لمزينة على نَحْو
أَرْبَعِينَ ميلًا من الْمَدِينَة أَو نَحْوهَا، و:
الروحاء، بِفَتْح الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة
مَمْدُود. وَفِي رِوَايَة: (أَقَامَ عَلَيْهَا بطرِيق
خَيْبَر ثَلَاثَة أَيَّام حِين أعرس بهَا، وَكَانَت فِيمَن
ضرب عَلَيْهَا الْحجاب) . وَفِي رِوَايَة: (أَقَامَ بَين
خَيْبَر وَالْمَدينَة ثَلَاثَة أَيَّام، فَبنى بصفية) .
قَوْله: (فاهدتها) أَي: أَهْدَت أم سليم صَفِيَّة لرَسُول
ا، وَمَعْنَاهُ: زفتها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي
بَعْضهَا: فهدتها، لَهُ، وَقيل: هَذَا هُوَ الصَّوَاب.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الهداء مصدر قَوْلك أهديت أَنا
الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا هداء. قَوْله: (عروساً) على وزن،
فعول، يَسْتَوِي فِيهِ الرجل وَالْمَرْأَة مَا داما فِي
إعراسهما. يُقَال: رجل عروس وَامْرَأَة عروس، وَجمع الرجل:
عروس، وَجمع الْمَرْأَة: عرائس. وَفِي الْمثل: كَاد
الْعَرُوس أَن يكون ملكا. والعروس. اسْم حصن بِالْيمن،
وَقَول الْعَامَّة: الْعَرُوس للْمَرْأَة، والعريس للرجل
لَيْسَ لَهُ أصل. قَوْله: (من كَانَ عِنْده شَيْء فليجىء
بِهِ) : كَذَا هُوَ فِي البُخَارِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ:
وَهُوَ رِوَايَة، وَفِي بَعْضهَا: (فليجئني بِهِ) ، بنُون
الْوِقَايَة. قَوْله: (نطعاً) بِكَسْر النُّون وَفتح
الطَّاء، وَعَن أبي عبيد: هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ثَعْلَب
فِي (الفصيح) وَفِي (الْمُخَصّص) : فِيهِ أَربع لُغَات:
نطع، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الطَّاء، ونطع؛
بِفتْحَتَيْنِ، ونطع، بِكَسْر النُّون وَفتح الطَّاء، و:
نطع، بِكَسْر النُّون وَسُكُون الطَّاء. وَجمعه: أنطاع
ونطوع، وَزَاد فِي (الْمُحكم) : أنطع. وَقَالَ أَبُو
عَمْرو الشَّيْبَانِيّ فِي (نوادره) : النطع: هُوَ المبناة
والستارة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: المبناة والمبناة:
النطع.
قَوْله: (قَالَ: وَأَحْسبهُ قد ذكر السويق) أَي: قَالَ عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب:
(4/86)
أَحسب أنسا ذكر السويق أَيْضا، وَجزم عبد
الْوَارِث فِي رِوَايَته بِذكر السويق. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَي قَالَ: وَجعل الرجل يَجِيء بالسويق،
وَيحْتَمل أَن يكون فَاعل: قَالَ، هُوَ البُخَارِيّ.
وَيكون مقولاً للفربري، ومفعول: أَحسب، يَعْقُوب، وَالْأول
هُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (فحاسوا حَيْسًا) الحيس، بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي
آخِره سين مُهْملَة: هُوَ تمر يخلط بِسمن وأقط، يُقَال:
حاس الحيس يحيسه أَي: يخلطه. وَقَالَ ابْن سَيّده: الحيس
هُوَ الأقط يخلط بالسمن وَالتَّمْر، وحاسه حَيْسًا وحيسة:
خلطه. قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِذا تكون كريهة يدعى لَهَا ... وَإِذا يحاس الحيس يدعى
جُنْدُب)
قَالَ الْجَوْهَرِي: الحيس: الْخَلْط، وَمِنْه سمي الحيس،
وَفِي (الْمُخَصّص) قَالَ الشَّاعِر:
(التَّمْر وَالسمن جَمِيعًا والأقط ... الحيس إلاَّ أَنه
لم يخْتَلط)
وَفِي (الغريبين) : هُوَ ثريد من أخلاط. قَالَ الْفَارِسِي
فِي (مجمع الغرائب) : اأعلم بِصِحَّتِهِ. قَوْله:
(فَكَانَت وَلِيمَة رَسُول ا) اسْم: كَانَت، الضَّمِير
الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة الَّتِي
اتخذ مِنْهَا الحيس. قَوْله: (وَلِيمَة النَّبِي)
بِالنّصب: خَبره.
ذكر الْأَحْكَام الَّتِي تستنبط مِنْهُ مِنْهَا: جَوَاز
إِطْلَاق صَلَاة الْغَدَاة على صَلَاة الصُّبْح، خلافًا
لمن كرهه من بعض الشَّافِعِيَّة. وَمِنْهَا: جَوَاز
الإرداف إِذا كَانَت الدَّابَّة مطيقة، وَفِيه غير مَا
حَدِيث. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب التَّكْبِير وَالذكر عِنْد
الْحَرْب، وَهُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة فأثبتوا واذْكُرُوا
اكثيراً} (الْأَنْفَال: 54) وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب
التَّثْلِيث فِي التَّكْبِير لقَوْله: (قَالَهَا ثَلَاثًا)
أَي ثَلَاث مَرَّات. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على أَن
الْفَخْذ لَيْسَ بِعَوْرَة، وَقد ذكرنَا الْجَواب عَنهُ.
وَمِنْهَا: أَن إِجْرَاء الْفرس يجوز وَلَا يضر بمراتب
الْكِبَار، لَا سِيمَا عِنْد الْحَاجة أَو لرياضة
الدَّابَّة أَو لتدريب النَّفس على الْقِتَال. وَمِنْهَا:
اسْتِحْبَاب عتق السَّيِّد أمته وَتَزَوجهَا، وَقد صَحَّ
أَن لَهُ أَجْرَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى،
وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ اتعالى. وَقَالَ ابْن حزم: اتّفق
ثَابت وَقَتَادَة وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس
أَنه: عتق صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، وَبِه قَالَ
قَتَادَة فِي رِوَايَة، وَأخذ بِظَاهِرِهِ أَحْمد وَالْحسن
وَابْن الْمسيب، وَلَا يحل لَهَا مهر غَيره، وتبعهم ابْن
حزم فَقَالَ: هُوَ سنة فاضلة وَنِكَاح صَحِيح وصداق
صَحِيح، فَإِن طَلقهَا قبل الدُّخُول فَهِيَ حرَّة فَلَا
يرجع عَلَيْهَا بِشَيْء، وَلَو أَبَت أَن تتزوجه بَطل
عتقهَا. وَفِي هَذَا خلاف مُتَأَخّر ومتقدم.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ:
حدّثنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حدّثنا أبان
وَحَمَّاد بن زيد، قَالَ: حدّثنا شُعَيْب بن الحبحاب عَن
أنس بن مَالك: (أَن رَسُول الله أعتق صَفِيَّة وَجعل
عتقهَا صَدَاقهَا) . وَأخرجه مُسلم، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ. ثمَّ
قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَذهب قوم إِلَى أَن الرجل إِذا أعتق
أمته على أَن عتقهَا صَدَاقهَا جَازَ ذَلِك، فَإِن تزوجت
فَلَا مهر لَهَا غير الْعتاق. قلت: أَرَادَ بهؤلاء
الْقَوْم: سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعامر الشّعبِيّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعَطَاء
بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وطاوساً وَالْحسن بن حييّ وَأحمد
وَإِسْحَاق فَإِنَّهُم قَالُوا: إِذا أعتق الرجل أمته على
أَن يكون عتقهَا صَدَاقهَا جَازَ ذَلِك، فَإِذا عقد
عَلَيْهَا لَا تسْتَحقّ عَلَيْهِ مهْرا غير ذَلِك الْعتاق،
وَمِمَّنْ قَالَ بذلك: سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو يُوسُف
وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَذكر التِّرْمِذِيّ أَنه
مَذْهَب الشَّافِعِي أَيْضا. وَقَالَ عِيَاض: وَقَالَ
الشَّافِعِي: هِيَ بِالْخِيَارِ إِذا أعْتقهَا، فَإِن
امْتنعت من تزَوجه فَلهُ عَلَيْهَا قيمتهَا إِن لم يُمكن
الرُّجُوع فِيهَا، وَهَذِه لَا يُمكن الرُّجُوع فِيهَا،
وَإِن تزوجت بِالْقيمَةِ الْوَاجِبَة لَهُ عَلَيْهَا صَحَّ
بذلك عِنْده.
وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة، فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة: اخْتلف سلف الصَّحَابَة، وَكَانَ ابْن عمر
لَا يرَاهُ، وَقد روينَا جَوَازه عَن عَليّ وَأنس وَابْن
مَسْعُود، وروينا عَن ابْن سِيرِين أَنه اسْتحبَّ أَن
يَجْعَل مَعَ عتقهَا شَيْئا مَا كَانَ، وَصَحَّ كَرَاهَة
ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَجَابِر بن زيد
وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَ النَّخعِيّ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن
يعْتق الرجل جَارِيَته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا، وجعلوه كالراكب
بدنته. وَقَالَ اللَّيْث بن سعد وَابْن شبْرمَة وَجَابِر
بن زيد وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر وَمَالك: لَيْسَ
لأحد غير رَسُول الله أَن يفعل هَذَا فَيتم لَهُ النِّكَاح
بِغَيْر صدَاق، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله
خَاصَّة، لِأَن اتعالى لما جعل لَهُ أَن يتَزَوَّج بِغَيْر
صدَاق كَانَ لَهُ أَن يتَزَوَّج على الْعتاق الَّذِي
لَيْسَ بِصَدَاق. ثمَّ إِن فعل هَذَا وَقع الْعتاق، وَلها
عَلَيْهِ مهر الْمثل، فَإِن أَبَت أَن تتزوجه تسْعَى لَهُ
فِي قيمتهَا عِنْد
(4/87)
أبي حنيفَة وَمُحَمّد، وَقَالَ مَالك
وَزفر: لَا شَيْء لَهُ عَلَيْهَا. وَفِي (الْأَحْكَام)
لِابْنِ بزيزة: وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة
وَمُحَمّد بن الْحسن: إِن كرهت نِكَاحه غرمت لَهُ قيمتهَا
وَمضى النِّكَاح، فَإِن كَانَت معسرة استسعيت فِي ذَلِك.
وَقَالَ مَالك وَزفر: إِن كرهت فَهِيَ حرَّة وَلَا شَيْء
لَهُ عَلَيْهَا إلاَّ أَن يَقُول: لَا أعتق إلاَّ على
هَذَا الشَّرْط، فَإِن كرهت لم تعْتق لِأَنَّهُ من بَاب
الشَّرْط والمشروط، ثمَّ إِن الطَّحَاوِيّ اسْتدلَّ على
الخصوصية بقوله تَعَالَى: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت}
(الْأَحْزَاب: 05) الْآيَة وَجه الِاسْتِدْلَال أَن اتعالى
لما أَبَاحَ لنَبيه أَن يتَزَوَّج بِغَيْر صدَاق كَانَ
لَهُ أَن يتَزَوَّج على الْعتاق الَّذِي لَيْسَ بِصَدَاق،
وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك أَن النَّبِي أَخذ جوَيْرِية بنت
الْحَارِث فِي غَزْوَة بني المصطلق فَأعْتقهَا
وَتَزَوجهَا. وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ من حَدِيث ابْن عمر، ثمَّ رُوِيَ عَن
عَائِشَة كَيفَ كَانَ عتاقه جوَيْرِية الَّتِي تزَوجهَا
عَلَيْهِ وَجعله صَدَاقهَا. قَالَت: لما أصَاب رَسُول الله
سَبَايَا بني المصطلق وَقعت جوَيْرِية بنت الْحَارِث فِي
سهم ثَابت بن قيس بن شماس، أَو لِابْنِ عَم لَهُ، فكاتبت
على نَفسهَا. قَالَت: وَكَانَت امْرَأَة حلوة ملاحة لَا
يكَاد يَرَاهَا أحد إلاَّ أخذت بِنَفسِهِ، فَأَتَت رَسُول
الله لتستعينه فِي كتَابَتهَا، فوا مَا هِيَ إلاَّ إِن
رَأَيْتهَا على بَاب الْحُجْرَة، وَعرفت أَنه سيرى مِنْهَا
مثل مَا رَأَيْت، فَقَالَت: يَا رَسُول اأنا جوَيْرِية.
بنت الْحَارِث بن أبي ضرار سيد قومه، وَقد أصابني من
الْأَمر مَا لم يخف عَلَيْك، فَوَقَعت فِي سهم ثَابت بن
قيس بن شماس، أَو ابْن عَم لَهُ، فكاتبته، فَجئْت رَسُول
الله أَسْتَعِينهُ على كتابتي. فَقَالَ: فَهَل لَك فِي خير
من ذَلِك؟ قَالَت: وَمَا هُوَ يَا رَسُول ا؟ قَالَ
أَقْْضِي عَنْك كتابتك وأتزوجك؟ قَالَت: نعم. قَالَ: فقد
فعلت.
وَخرج الْخَبَر إِلَى النَّاس أَن رَسُول الله تزوج
جوَيْرِية بنت الْحَارِث، فَقَالُوا: صهر رَسُول ا،
فأرسلوا مَا فِي أَيْديهم. قَالَت: فَلَقَد أعتق بتزويجه
إِيَّاهَا مائَة من أهل بَيت من بني المصطلق، فَلَا نعلم
امْرَأَة كَانَت أعظم بركَة على قَومهَا مِنْهَا.
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد، وَفِيه أَيْضا حكم يخْتَص
بِالنَّبِيِّ دون غَيره، وَهُوَ أَن يُؤَدِّي كِتَابَة
مُكَاتبَة غَيره لتعتق بذلك، وَيكون عتقه مهرهَا لتَكون
زَوجته، فَهَذَا لَا يجوز: لأحد غير النَّبِي، وَهَذَا
إِذا كَانَ جَائِزا للنَّبِي فَجعله عتق الَّذِي تولى عتقه
هُوَ مهْرا لمن أعْتقهُ أولى وَأَحْرَى أَن يجوز. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: قَالَ القَاضِي البرني: قَالَ لي يحيى بن
أكتم: هَذَا كَانَ للنَّبِي خَاصَّة، وَكَذَا رُوِيَ عَن
الشَّافِعِي أَنه حمله على التَّخْصِيص، وَمَوْضِع
التَّخْصِيص أَنه أعْتقهَا مُطلقًا ثمَّ تزَوجهَا على غير
مهر.
قَوْله: (حلوة) ، بِالضَّمِّ من: الْحَلَاوَة. قَوْله:
(ملاحة) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد اللَّام، مَعْنَاهُ:
شَدِيدَة الملاحة، وَهُوَ من أبنية الْمُبَالغَة. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: وَكَانَت امْرَأَة ملاحة، بتَخْفِيف
اللَّام، أَي: ذَات ملاحة، وفعال مُبَالغَة فِي فعيل،
نَحْو كريم وكرام، وكبير وكبار، وفعال بِالتَّشْدِيدِ أبلغ
مِنْهُ، وَقد ناقش ابْن حزم فِي هَذَا الْموضع مناقشة
عَظِيمَة، وخلاصة مَا ذكره أَنه قَالَ: دَعْوَى الخصوصية
بِالنَّبِيِّ فِي هَذَا الْموضع كذب، وَالْأَحَادِيث
الَّتِي ذكرت هَهُنَا غير صَحِيحَة، وَقد ردينا عَلَيْهِ
فِي جَمِيع ذَلِك فِي شرحنا (لمعاني الْآثَار) للطحاوي،
فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَعَلَيهِ بالمراجعة
إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَن الزفاف فِي اللَّيْل، وَقد جَاءَ
أَنه دخل عَلَيْهَا نَهَارا فَفِيهِ جَوَاز الْأَمريْنِ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على مطلوبية الْوَلِيمَة
للعرس، وَأَنَّهَا بعد الدُّخُول، وَقَالَ الثَّوْريّ:
وَيجوز قبله وَبعده، وَالْمَشْهُور عندنَا أَنَّهَا سنة،
وَقيل: وَاجِبَة، وَعِنْدنَا إِجَابَة الدعْوَة سنة سَوَاء
كَانَت وَلِيمَة أَو غَيرهَا، وَبِه قَالَ أَحْمد وَمَالك
فِي رِوَايَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِجَابَة وَلِيمَة
الْعرس وَاجِبَة، وَغَيرهَا مُسْتَحبَّة، وَبِه قَالَ
مَالك فِي رِوَايَة، والوليمة: عبارَة عَن الطَّعَام
الْمُتَّخذ للعرس، مُشْتَقَّة من: الولم، وَهُوَ الْجمع،
لِأَن الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فَتكون الْوَلِيمَة
خَاصَّة بِطَعَام الْعرس، لِأَنَّهُ طَعَام الزفاف،
والوكيرة: طَعَام الْبناء، والخرس طَعَام الْولادَة، وَمَا
تطعمه النُّفَسَاء نَفسهَا خرسة، والإعذار طَعَام
الْخِتَان، والنقيعة طَعَام القادم من سَفَره، وكل طَعَام
صنع لدَعْوَة مأدبة ومأدبة جَمِيعًا، والدعوة الْخَاصَّة:
التقري، والعامة: الجفلى والأجفلى.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ إدلال الْكَبِير لأَصْحَابه وَطلب
طعامهم. فِي نَحْو هَذَا، ويستجب لأَصْحَاب الزَّوْج
وجيرانه مساعدته فِي الْوَلِيمَة بِطَعَام من عِنْدهم.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الْوَلِيمَة تحصل بِأَيّ طَعَام
كَانَ، وَلَا تتَوَقَّف على شَاة، وَالسّنة تقوم بِغَيْر
لحم، وَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
31 - (بابٌ فِي كَمْ تصَلِّي المَرْأةُ مِنَ الثِّيابِ)
بَاب منون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا بَاب، وَلَفظ:
كم، لَهَا الصدارة سَوَاء كَانَت استفهامية أَو خبرية،
وَلم تبطل صدارتها هَهُنَا لِأَن الْجَار وَالْمَجْرُور
فِي حكم كلمة وَاحِدَة، ومميز: كم، مَحْذُوف تَقْدِيره: كم
ثوبا.
(4/88)
وقالَ عِكْرَمَةُ لَوْ وَارَتْ جَسَدَها
فِي ثَوْبٍ لأَجَزْتُهُ.
عِكْرِمَة: هَذَا هُوَ مولى ابْن عَبَّاس، أحد فُقَهَاء
مَكَّة، هَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق وَلَفظه:
(لَو أخذت الْمَرْأَة ثوبا فَتَقَنَّعت بِهِ حَتَّى لَا
يرى من جَسدهَا شَيْء أَجْزَأَ عَنْهَا) ، وروى ابْن أبي
شيبَة حدّثنا أَبُو أُسَامَة عَن الْجريرِي عَن عِكْرِمَة،
قَالَ: (تصلي الْمَرْأَة فِي درع وخمار خصيف) ، وحدّثنا
أبان بن صمعة عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (لَا
بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الْقَمِيص الْوَاحِد إِذا كَانَ
صفيقاً) وَذكر عَن مَيْمُونَة أَنَّهَا صلت فِي درع وخمار،
وَمن طَرِيق أُخْرَى صَحِيحَة أَنَّهَا صلت فِي درع وَاحِد
فضلا، وَقد وضعت بعض كمها على رَأسهَا، وَمن طَرِيق
مَكْحُول عَن عَائِشَة، وَعلي: تصلي فِي درع سابغ وخمار،
وَكَذَا رُوِيَ عَن أم سَلمَة من طَرِيق أم مُحَمَّد بن
زيد بن مهَاجر بن قنفذ، وَمن حَدِيث لَيْث عَن مُجَاهِد:
لَا تصلي الْمَرْأَة فِي أقل من أَرْبَعَة أَثوَاب، وَعَن
الحكم: فِي درع وخمار وَعَن حَمَّاد درع وَمِلْحَفَة تغطي
رَأسهَا. قَوْله: (لَو وارت) أَي: سترت وغطت جَازَ، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (لأجزأته) ، بِفَتْح لَام
التَّأْكِيد وَسُكُون الْجِيم من الْإِجْزَاء.
27383 - ح دّثنا أبُو الْيَمَان قالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن
الزُّهْرِيِّ قالَ أخْبرنِي عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ
لَقَدْ كانَ رسولُ اللَّهِ يُصَلِّي الفجْرَ فَيشْهَدُ
مَعَهُ نِساءٌ مِنَ المُؤْمِناتِ مُتَلَفِّعاتٍ فِي
مُرُوطِهِنَّ ثمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا
يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ..
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
(متلفعات فِي مُرُوطهنَّ) لِأَن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ
صلاتهن فِي مروط، والمرط ثوب وَاحِد كَمَا سنفسره عَن
قريب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو الْيَمَان الحكم بن
نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ بن
مُحَمَّد بن مُسلم، وَعُرْوَة بن الزبير وَعَائِشَة رَضِي
اعنها، وَالْكل تقدمُوا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار
بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: ان رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد ابْن يُوسُف والقعنبي،
وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن نصر بن عَليّ وَإِسْحَاق بن
مُوسَى، كِلَاهُمَا عَن معن بن عِيسَى، ثَلَاثَتهمْ عَن
مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن
مُوسَى بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة
بِهِ. وَأخرجه ابْن ماجة من حَدِيث عُرْوَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لقد كَانَ) اللَّام فِيهِ جَوَاب
قسم مَحْذُوف. قَوْله: (تشهد) أَي: تحضر، وَالنِّسَاء من
الْجمع الَّذِي لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَهُوَ جمع
امْرَأَة. قَوْله: (ملتفعات) نصب على الْحَال من النِّسَاء
من التلفع، بِالْفَاءِ وَالْعين الْمُهْملَة، أَي:
ملتحفات، وَرُوِيَ بِالْفَاءِ المكررة بدل الْعين،
وَالْأَكْثَر على خِلَافه. قَالَ الْأَصْمَعِي: التلفع
بِالثَّوْبِ أَن يشْتَمل بِهِ حَتَّى يُجَلل بِهِ جسده،
وَهُوَ اشْتِمَال الصماء عِنْد الْعَرَب، لِأَنَّهُ لم
يرفع جانباً مِنْهُ فَيكون فِيهِ فُرْجَة، وَهُوَ عِنْد
الْفُقَهَاء مثل الاضطباع، إلاَّ أَنه فِي ثوب وَاحِد
وَعَن يَعْقُوب: اللفاع: الثَّوْب تلتفع بِهِ الْمَرْأَة
أَي: تلتحف بِهِ فيغيبها، وَعَن كرَاع وَهُوَ الملفع
أَيْضا، وَعَن ابْن دُرَيْد: اللفاع الملحفة أَو الكساء،
وَقَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ الكساء، وَعَن صَاحب (الْعين) :
تلفع بِثَوْبِهِ إِذا اضطبع بِهِ، وتلفع الرجل بالشيب
كَأَنَّهُ غطى سَواد رَأسه ولحيته. وَفِي (شرح
الْمُوَطَّأ) : التلفع أَن يلقِي الثَّوْب على رَأسه ثمَّ
يلتف بِهِ، لَا يكون الالتفاع إلاَّ بتغطية الرَّأْس، وَقد
أَخطَأ من قَالَ الالتفاع مثل الاشتمال. وَأما التلفف
فَيكون مَعَ تَغْطِيَة الرَّأْس وكشفه، وَفِي (الْمُحكم)
الملفعة مَا يلفع بِهِ من رِدَاء أَو لِحَاف أَو قناع.
وَفِي (المغيث) : وَقيل: اللفاع النطع، وَقيل: الكساء
الغليظ، وَفِي (الصِّحَاح) لفع رَأسه تلفيعاً أَي: غطاه.
قَوْله: (فِي مُرُوطهنَّ) المروط جمع مرط بِكَسْر الْمِيم،
قَالَ الْقَزاز: المرط ملحفة يتزر بهَا. وَالْجمع أمراط
ومروط، وَقيل: يكون المرط كسَاء من خَز أَو صوف أَو كتَّان
وَفِي (الصِّحَاح) : المرط بِالْكَسْرِ. وَفِي (الْمُحكم)
وَقيل: هُوَ الثَّوْب الْأَخْضَر. وَفِي (مجمع الغرائب)
أكسية من شعر أسود وَعَن الْخَلِيل، هِيَ أكسية معلمة.
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ الْإِزَار، وَقَالَ
النَّضر بن شُمَيْل: لَا يكون المرط إلاَّ درعاً، وَهُوَ
من خَز أَخْضَر، وَلَا يُسمى المرط إِلَّا أَخْضَر، وَلَا
يلْبسهُ النِّسَاء. وَقَالَ عبد الْملك فِي (شرح
الْمُوَطَّأ) : هُوَ
(4/89)
كسَاء صوف رَقِيق خَفِيف مربع، كن
النِّسَاء فِي ذَلِك الزَّمَان يتزرن بِهِ ويلتفعن.
قَوْله: (مَا يعرفهن أحد) وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) :
يَعْنِي من الْغَلَس، وَعند مُسلم: (مَا يعرفن من
الْغَلَس. ثمَّ عدم معرفتهن يحْتَمل أَن يكون لبَقَاء
ظلمَة من اللَّيْل، أَو لتغطيهن بالمروط غَايَة التغطي،
وَقيل: معنى مَا يعرفهن أحد، يَعْنِي مَا يعرف أعيانهن،
وَهَذَا بعيد، وَالْأَوْجه فِيهِ أَن يُقَال: مَا يعرفهن
أحد، أَي: أنساء هن أم رجال؟ وَإِنَّمَا يظْهر للرائي
الأشباح خَاصَّة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: هُوَ
الَّذِي ترْجم لَهُ، وَهُوَ أَن الْمَرْأَة إِذا صلت فِي
ثوب وَاحِد بالالتفاع جَازَت صلَاتهَا، لِأَنَّهُ اسْتدلَّ
بِهِ على ذَلِك. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون التفاعهن
فِي مُرُوطهنَّ فَوق ثِيَاب أُخْرَى، فَلَا يتم لَهُ
الِاسْتِدْلَال بِهِ. قلت: الحَدِيث سَاكِت عَن هَذَا
بِحَسب الظَّاهِر، وَلَكِن الأَصْل عدم الزِّيَادَة،
واختياره يُؤْخَذ فِي عَادَته من الْآثَار الَّتِي يترجم
بهَا، وَهَذَا الْبَاب مُخْتَلف فِيهِ. قَالَ ابْن بطال:
اخْتلفُوا فِي عدد مَا تصلي فِيهِ الْمَرْأَة من
الثِّيَاب، فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ:
تصلي فِي درع وخمار، وَقَالَ عَطاء: فِي ثَلَاثَة درع
وَإِزَار وخمار. وَقَالَ ابْن سِيرِين. فِي أَرْبَعَة،
الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، وَمِلْحَفَة. وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: عَلَيْهَا أَن تستر جَمِيع بدنهَا إلاَّ
وَجههَا وكفيها، سَوَاء سترته بِثَوْب وَاحِد أَو أَكثر،
وَلَا أَحسب مَا رُوِيَ من الْمُتَقَدِّمين من الْأَمر:
بِثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة، إلاَّ من طَرِيق
الِاسْتِحْبَاب. وَزعم أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن كل
شَيْء من الْمَرْأَة عَورَة حَتَّى ظفرها، وَهِي رِوَايَة
عَن أَحْمد. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: قدم الْمَرْأَة
عَورَة، فَإِن صلت وقدمها مكشوفة أعادت فِي الْوَقْت عِنْد
مَالك، وَكَذَلِكَ إِذا صلت وشعرها مَكْشُوف. وَعند
الشَّافِعِي تعيد أبدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري:
قدم الْمَرْأَة لَيست بِعَوْرَة فَإِن صلت وقدمها مكشوفة
صحت صلَاتهَا. وَلَكِن فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة.
وَمِنْهَا: أَنه احْتج بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق أَن الْأَفْضَل فِي صَلَاة الصُّبْح التغليس،
وَلنَا أَحَادِيث كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب رويت عَن
جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: رَافع بن خديج، روى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث مَحْمُود بن لبيد عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول ا: (أَصْبحُوا بالصبح فَإِنَّهُ أعظم لأجركم أَو
أعظم لِلْأجرِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا. وَقَالَ:
حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة
أَيْضا. قَوْله: (أَصْبحُوا بالصبح) أَي: نوروا بِهِ،
ويروى: (أَصْبحُوا بِالْفَجْرِ) ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان
فِي صَحِيحه، وَلَفظه: (أسفروا بِصَلَاة الصُّبْح
فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) . وَفِي لفظ لَهُ: (فَكلما
أَصْبَحْتُم بالصبح فَإِنَّهُ أعظم لأجركم) . وَفِي لفظ
للطبراني: (فَكلما أسفرتم بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أعظم
لِلْأجرِ) . وَمِنْهُم: مَحْمُود بن لبيد، روى حَدِيثه
أَحْمد فِي مُسْنده. نَحْو رِوَايَة أبي دَاوُد، وَلم يذكر
فِيهِ رَافع بن خديج، ومحمود بن لبيد صَحَابِيّ مَشْهُور.
كَذَا قيل: قلت: قَالَ الْمزي: مَحْمُود بن لبيد بن عصمَة
بن رَافع بن امرىء الْقَيْس الأوسي، ثمَّ الأشْهَلِي. ولد
على عهد رَسُول ا، وَفِي صحبته خلاف. انْتهى. قلت: ذكره
مُسلم فِي التَّابِعين فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة، وَذكر
ابْن أبي حَاتِم أَن البُخَارِيّ قَالَ: لَهُ صُحْبَة.
قَالَ: وَقَالَ أبي: لَا يعرف لَهُ صُحْبَة. وَقَالَ أَبُو
عمر: قَول البُخَارِيّ أولى، فعلى هَذَا يحْتَمل أَنه سمع
هَذَا الحَدِيث من رَافع أَولا، فَرَوَاهُ عَنهُ ثمَّ
سَمعه من النَّبِي فَرَوَاهُ عَنهُ، إلاَّ أَن فِي طَرِيق
أَحْمد عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، وَفِيه ضعف.
وَمِنْهُم: بِلَال، روى حَدِيثه الْبَزَّار فِي مُسْنده
نَحْو حَدِيث رَافع، وَفِيه: أَيُّوب بن يسَار، وَقَالَ
الْبَزَّار: فِيهِ ضعف. وَمِنْهُم: أنس، روى حَدِيثه
الْبَزَّار أَيْضا عَنهُ مَرْفُوعا. وَلَفظه: (أسفروا
بِصَلَاة الصُّبْح فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) . وَمِنْهُم:
قَتَادَة ابْن النُّعْمَان، روى حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ
فِي مُعْجَمه من حَدِيث عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة بن
النُّعْمَان عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا نَحوه،
وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا. وَمِنْهُم: ابْن مَسْعُود،
روى حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَنهُ مَرْفُوعا نَحوه.
وَمِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة، روى حَدِيثه ابْن حبَان عَنهُ
مَرْفُوعا. وَمِنْهُم: رجال من الْأَنْصَار، أخرج
حَدِيثهمْ النَّسَائِيّ من حَدِيث مَحْمُود بن لبيد عَن
رجال من قومه من الْأَنْصَار، أَن النَّبِي قَالَ: (أسفروا
بالصبح فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) . وَمِنْهُم: أَبُو
هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس رَضِي اعنهما، أخرج حَدِيثهمَا
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث حَفْص بن سُلَيْمَان عَن ابْن
عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة: (لَا تزَال أمتِي على الْفطْرَة
مَا أسفروا بِالْفَجْرِ) . وَمِنْهُم: أَبُو الدَّرْدَاء
أخرجه أَبُو إِسْحَاق وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبيد
من حَدِيث أبي الزَّاهِرِيَّة عَن أبي الدَّرْدَاء عَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: (أسفروا بِالْفَجْرِ
تفقهوا) . وَمِنْهُم: حَوَّاء الْأَنْصَارِيَّة، أخرج
حَدِيثهَا الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن بجيد
الْحَارِثِيّ عَن جدته الْأَنْصَارِيَّة، وَكَانَت من
المبايعات، قَالَت: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: (أسفروا
بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) ، وَابْن بجيد،
بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْجِيم بعْدهَا يَاء آخر
الْحُرُوف سَاكِنة: ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وجدته
(4/90)
حَوَّاء بنت زيد بن السكن أُخْت أَسمَاء
بنت زيد بن السكن.
فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون الْإِسْفَار وَاجِبا
لمقْتَضى الْأَوَامِر فِيهِ قلت: الْأَمر إِنَّمَا يدل على
الْوُجُوب إِذا كَانَ مُطلقًا مُجَردا عَن الْقَرَائِن
الصارفة إِلَى غَيره، وَهَذِه الْأَوَامِر لَيست كَذَلِك
فَلَا تدل إلاَّ على الِاسْتِحْبَاب. فَإِن قلت: قد يؤول
الِاسْتِحْبَاب فِي هَذِه الْأَحَادِيث بِظُهُور الْفجْر،
وَقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد
وَإِسْحَاق: معنى الْإِسْفَار أَن يصبح الْفجْر، وَلَا يشك
فِيهِ، وَلم يرَوا أَن الْإِسْفَار تَأْخِير الصَّلَاة.
قلت: هَذَا التَّأْوِيل غير صَحِيح، فَإِن الْغَلَس
الَّذِي يَقُولُونَ بِهِ هُوَ اخْتِلَاط ظلام اللَّيْل
بِنور النَّهَار، كَمَا ذكره أهل اللُّغَة، وَقبل ظُهُور
الْفجْر لَا تصح صَلَاة الصُّبْح، فَثَبت أَن المُرَاد
بالإسفار إِنَّمَا هُوَ التَّنْوِير، وَهُوَ التَّأْخِير
عَن الْغَلَس وَزَوَال الظلمَة، وَأَيْضًا فَقَوله: (أعظم
لِلْأجرِ) يقْضِي حُصُول الْأجر فِي الصَّلَاة بالغلس،
فَلَو كَانَ الْإِسْفَار هُوَ وضوح الْفجْر وظهوره لم يكن
فِي وَقت الْغَلَس أجر، لِخُرُوجِهِ عَن الْوَقْت،
وَأَيْضًا يبطل تأويلهم ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة
وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ
فِي مسانيدهم، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) من حَدِيث
رَافع بن خديج، قَالَ: قَالَ رَسُول الله لِبلَال: (يَا
بِلَال نوّر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى يبصر الْقَوْم مواقع
نبلهم من الْإِسْفَار) . وَحَدِيث آخر يبطل تأويلهم
رَوَاهُ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن ثَابت
السَّرقسْطِي فِي كِتَابه (غَرِيب الحَدِيث) : حدّثنا
مُوسَى بن هَارُون، حدّثنا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى
حدّثنا الْمُعْتَمِر سَمِعت بَيَانا أخبرنَا سعيد، قَالَ:
سَمِعت أنسا يَقُول: (كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي الصُّبْح
حِين يفسح الْبَصَر) . انْتهى. يُقَال: فسح الْبَصَر
وَانْفَسَحَ إِذا رأى الشَّيْء عَن بعد، يَعْنِي بِهِ
إسفار الصُّبْح. فَإِن قلت: قد قيل: إِن الْأَمر بالإسفار
إِنَّمَا جَاءَ فِي اللَّيَالِي المقمرة، لِأَن الصُّبْح
لَا يستبين فِيهَا جدا فَأَمرهمْ بِزِيَادَة التبين
استظهاراً بِالْيَقِينِ فِي الصَّلَاة. قلت: هَذَا
تَخْصِيص بِلَا مُخَصص، وَهُوَ بَاطِل، وَيَردهُ أَيْضا
مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: مَا
اجْتمع أَصْحَاب مُحَمَّد على شَيْء مَا اجْتَمعُوا على
التَّنْوِير بِالْفَجْرِ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (شرح
الْآثَار) بِسَنَد صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وَلَا يَصح أَن
يجتمعوا على خلاف مَا كَانَ رَسُول ا. فَإِن قلت: قد قَالَ
ابْن حزم: خبر الْأَمر بالإسفار صَحِيح، إلاَّ أَنه لَا
حجَّة لكم فِيهِ إِذا أضيف إِلَى الثَّابِت من فعله فِي
التغليس، حَتَّى إِنَّه لينصرف وَالنِّسَاء لَا يعرفن.
قلت: الثَّابِت من فعله فِي التغليس لَا يدل على
الْأَفْضَلِيَّة، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون غَيره أفضل
مِنْهُ، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك للتوسعة على أمته، بِخِلَاف
الْخَبَر الَّذِي فِيهِ الْأَمر، لِأَن قَوْله: (أعظم
لِلْأجرِ) أفعل التَّفْضِيل، فَيَقْتَضِي أَجْرَيْنِ:
أَحدهمَا أكمل من الآخر، لِأَن صِيغَة: أفعل، تَقْتَضِي
الْمُشَاركَة فِي الأَصْل مَعَ رُجْحَان أحد الطَّرفَيْنِ،
فحينئذٍ يَقْتَضِي هَذَا الْكَلَام حُصُول الْأجر فِي
الصَّلَاة بالغلس، وَلَكِن حُصُوله فِي الْإِسْفَار أعظم
وأكمل مِنْهُ، فَلَو كَانَ الْإِسْفَار لأجل تقصي طُلُوع
الْفجْر لم يكن فِي وَقت الْغَلَس أجر لِخُرُوجِهِ عَن
الْوَقْت.
فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود:
(أَنه صلى الصُّبْح بِغَلَس، ثمَّ صلى مرّة أُخْرَى فأسفر
بهَا ثمَّ كَانَت صلَاته بعد ذَلِك بالغلس حَتَّى مَاتَ،
لم يعد إِلَى أَن يسفر) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي
(صَحِيحه) ، كِلَاهُمَا من حَدِيث أُسَامَة بن زيد
اللَّيْثِيّ. قلت: يرد هَذَا مَا أخرجه البُخَارِيّ
وَمُسلم من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد عَن ابْن
مَسْعُود، قَالَ: (مَا رَأَيْت رَسُول ا، صلى صَلَاة لغير
وَقتهَا إِلَّا بِجمع، فَإِنَّهُ يجمع بَين الْمغرب
وَالْعشَاء بِجمع، وَصلى صَلَاة الصُّبْح من الْغَد قبل
وَقتهَا) . انْتهى. قَالَت الْعلمَاء: يَعْنِي: وَقتهَا
الْمُعْتَاد فِي كل يَوْم، لَا أَنه صلاهَا قبل الْفجْر،
وَإِنَّمَا غلس بهَا جدا، ويوضحه رِوَايَة البُخَارِيّ:
(وَالْفَجْر حِين بزغ) ، وَهَذَا دَلِيل على أَنه كَانَ
يسفر بِالْفَجْرِ دَائِما، وَقل مَا صلاهَا بِغَلَس، وَبِه
اسْتدلَّ الشَّيْخ فِي (الإِمَام) لِأَصْحَابِنَا. على أَن
أُسَامَة بن زيد قد تكلم فِيهِ، فَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ
بِشَيْء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا
يحْتَج بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ:
لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
فَإِن قلت: قد قَالَ الْبَيْهَقِيّ، رجح الشَّافِعِي
حَدِيث عَائِشَة بِأَنَّهُ أشبه بِكِتَاب اتعالى، لِأَن
اتعالى، يَقُول: {حَافظُوا على الصَّلَوَات} (الْبَقَرَة:
832) فَإِذا دخل الْوَقْت فَأولى الْمُصَلِّين بالمحافظة
الْمُقدم للصَّلَاة، وَإِن رَسُول الله لَا يَأْمر بِأَن
يُصَلِّي صَلَاة فِي وَقت يُصليهَا هُوَ فِي غَيره،
وَهَذَا أشبه بسنن رَسُول ا. قلت: المُرَاد من
الْمُحَافظَة هُوَ المداومة على إِقَامَة الصَّلَوَات فِي
أَوْقَاتهَا، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيل على أَن أول الْوَقْت
أفضل، بل الْآيَة دَلِيل لنا. لِأَن الَّذِي يسفر
بِالْفَجْرِ يترقب الْإِسْفَار فِي أول الْوَقْت، فَيكون
هُوَ المحافظ المداوم على الصَّلَاة، وَلِأَنَّهُ رُبمَا
تقع صلَاته فِي التغليس قبل الْفجْر، فَلَا يكون محافظاً
للصَّلَاة فِي وَقتهَا. فَإِن قلت: جَاءَ فِي الحَدِيث:
(4/91)
(أول الْوَقْت رضوَان اوآخره عَفْو ا) ،
وَهُوَ لَا يُؤثر على رضوَان اشيئاً، وَالْعَفو لَا يكون
عَن تَقْصِير. قلت: المُرَاد من الْعَفو الْفضل كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو}
(الْبَقَرَة: 912) أَي: الْفضل، فَكَانَ معنى الحَدِيث،
وَا أعلم، أَن من أدّى الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فقد
نَالَ رضوَان ا، وَأمن من سخطه وعذابه لامتثال أمره،
وأدائه مَا وَجب عَلَيْهِ، وَمن أدّى فِي آخر الْوَقْت فقد
نَالَ فضل ا، ونيل فضل الا يكون بِدُونِ الرضْوَان،
فَكَانَت هَذِه الدرجَة أفضل من تِلْكَ. فَإِن قلت: جَاءَ
فِي الحَدِيث: (وَسُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ فَقَالَ:
الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا) . وَهُوَ لَا يدع مَوضِع
الْفضل وَلَا يَأْمر النَّاس إلاَّ بِهِ.
قلت: ذكر الأول للحث والتحضيض والتأكيد على إِقَامَة
الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا، وإلاَّ فَالَّذِي يُؤَدِّي
فِي ثَانِي الْوَقْت أَو فِي ثَالِثَة أَو رَابِعَة
كَالَّذي يُؤَدِّيهَا فِي أَوله لَا أَن الْجُزْء الأول
لَهُ مزية على الْجُزْء الثَّانِي أَو الثَّالِث أَو
الرَّابِع، فحاصل الْمَعْنى: الصَّلَاة فِي وَقتهَا أفضل
الْأَعْمَال، ثمَّ يتَمَيَّز الْجُزْء الثَّانِي فِي
صَلَاة الصُّبْح عَن الْجُزْء الأول بِالْأَمر الَّذِي
فِيهِ الْإِسْفَار الَّذِي يَقْتَضِي التَّأْخِير عَن
الْجُزْء الأول. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ
الشَّافِعِي فِي حَدِيث رَافع: لَهُ وَجه لَا يُوَافق
حَدِيث عَائِشَة وَلَا يُخَالِفهُ، وَذَلِكَ أَن رَسُول
الله لما حض النَّاس على تَقْدِيم الصَّلَاة، وَأخْبر
بِالْفَضْلِ فِيهِ، احْتمل أَن يكون من الراغبين من
يقدمهَا قبل الْفجْر الآخر، فَقَالَ: أسفروا بِالْفَجْرِ
حَتَّى يتَبَيَّن الْفجْر الآخر، مُعْتَرضًا، فَأَرَادَ
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيمَا يرى الْخُرُوج من
الشَّك حَتَّى يُصَلِّي الْمُصَلِّي بعد تبين الْفجْر،
فَأَمرهمْ بالإسفار أَي: بالتبيين. قلت: يرد هَذَا
التَّأْوِيل ويبطله مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ عَن رَافع، قَالَ: قَالَ رَسُول الله
لِبلَال: (يَا بِلَال نوِّر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تبصر
الْقَوْم مَوَاضِع نبلهم من الْإِسْفَار) . وَقد مر هَذَا
عَن قريب. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حَازِم فِي كتاب
(النَّاسِخ والمنسوخ) : قد اخْتلف أهل الْعلم فِي
الْإِسْفَار بِصَلَاة الصُّبْح والتغليس بهَا، فَرَأى
بَعضهم الْإِسْفَار هُوَ الْأَفْضَل، وَذهب إِلَى قَوْله:
(أَصْبحُوا بالصبح) ، وَرَوَاهُ محكماً، وَزعم
الطَّحَاوِيّ أَن حَدِيث الْإِسْفَار نَاسخ لحَدِيث
التغليس، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يدْخلُونَ مغلسين وَيخرجُونَ
مسفرين، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ذهب إِلَيْهِ، لِأَن
حَدِيث التغليس ثَابت، وَأَن النَّبِي داوم عَلَيْهِ
حَتَّى فَارق الدُّنْيَا.
قلت: يرد هَذَا مَا روينَاهُ من حَدِيث ابْن مَسْعُود
الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن
قريب، وَذكرنَا أَن فِيهِ دَلِيلا على أَنه، كَانَ يسفر
بِالْفَجْرِ دَائِما، وَالْأَمر مثل مَا ذكره الطَّحَاوِيّ
وَلَيْسَ مثل مَا ذكره ابْن حَازِم، بَيَان ذَلِك أَن
اتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، بعد النَّبِي،
على الْإِسْفَار بالصبح، على مَا ذكره الطَّحَاوِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ:
(مَا اجْتمع أَصْحَاب مُحَمَّد على شَيْء مَا اجْتَمعُوا
على التَّنْوِير) دَلِيل وَاضح على نسخ حَدِيث التغليس،
لِأَن إِبْرَاهِيم أخبر أَنهم كَانُوا اجْتَمعُوا على
ذَلِك، فَلَا يجوز عندنَا، وَا أعلم، اجْتِمَاعهم على خلاف
مَا قد فعله النَّبِي، إلاَّ بعد نسخ ذَلِك وَثُبُوت
خِلَافه، وَالْعجب من بعض شرَّاح البُخَارِيّ أَنه يَقُول:
وَوهم الطَّحَاوِيّ حَيْثُ ادّعى أَن حَدِيث: (أسفروا. .)
نَاسخ لحَدِيث التغليس، وَلَيْسَ الواهم إلاَّ هُوَ، وَلَو
كَانَ عِنْده إِدْرَاك مدارك الْمعَانِي لما اجترأ على مثل
هَذَا الْكَلَام.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على خُرُوج النِّسَاء،
وَهُوَ جَائِز بِشَرْط أَمن الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ أَو
بِهن، وَكَرِهَهُ بَعضهم للشواب، وَعند أبي حنيفَة تخرج
الْعَجَائِز لغير الظّهْر وَالْعصر، وَعِنْدَهُمَا: يخْرجن
للْجَمِيع، وَالْيَوْم يكره للْجَمِيع، للعجائز والشواب،
لظُهُور الْفساد وَعُمُوم الْفِتْنَة. وَا أعلم.
41 - (بابٌ إذَا صَلَّى فِي ثَوْب لهُ أعْلاَمٌ وَنَظَر
إِلَى عَلَمِها)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا صلى شخص وَهُوَ لابس ثوبا
وَله أَعْلَام، وَنظر إِلَى أَعْلَامه، هَل يكره ذَلِك أم
لَا؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَنظر إِلَى علمه، وَفِي
بَعْضهَا: إِلَى علمهَا، والتأنيث فِيهِ بِاعْتِبَار
الخميصة، وَنَقله بَعضهم عَنهُ بِالْعَكْسِ حَيْثُ قَالَ:
قَالَ الْكرْمَانِي فِي رِوَايَة: وَنظر إِلَى علمه،
والأعلام جمع علم، بِفَتْح اللَّام.
37393 - ح دّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا
إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ قالَ حدّثنا ابنُ شِهَابٍ عنْ
عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ أنَّ النبيَّ صلَّى فِي خمِيصةٍ
لَها أعْلاَمٌ فَنَظَرَ إِلَى أعْلاَمِها نَظْرَةً
(4/92)
فَلَمَّا انْصَرَف قالَ اذْهَبُوا
بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أبي جَهْمٍ وأتُونِي
بأنْبِجانِيَّةِ أبي جَهْمٍ فإِنَّهَا ألْهَتْنِي آنِفاً
عنْ صَلاَتي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
(ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة. وَأحمد بن عبد
ابْن يُونُس وينسب إِلَى جده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَابْن شهَاب
هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير
بن الْعَوام.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن رُوَاته كوفيون ومدنيون. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو النَّاقِد،
وَزُهَيْر بن حَرْب، وَأبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان
بن عُيَيْنَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان. وَأخرجه
ابْن ماجة فِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن
سُفْيَان بِهِ.
ذكر لغاته ومعانيه: قَوْله: (فِي خميصة) ، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وبالصاد الْمُهْملَة: وَهِي
كسَاء أسود مربع لَهُ علمَان أَو أَعْلَام، وَيكون من خَز
أَو صوف، وَلَا يُسمى خميصة إلاَّ أَن تكون سَوْدَاء
معلمة، سميت بذلك للينها ورقتها وَصغر حجمها إِذا طويت،
مَأْخُوذ من الخمص وَهُوَ: ضمور الْبَطن. وَقَالَ ابْن
حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : الخميصة كسَاء صوف أَو
مَرْعَزِيٌّ معلم الصَّنْعَة. قَوْله: (لَهَا أَعْلَام)
جملَة وَقعت صفة لخميصة، والأعلام جمع: علم،
بِفتْحَتَيْنِ، وَقد فسرناه عَن قريب. قَوْله: (فَلَمَّا
انْصَرف) ، أَي: من صلَاته واستقبال الْقبْلَة. قَوْله:
(إِلَى أبي جهم) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهَاء:
واسْمه عَامر بن حُذَيْفَة الْعَدوي الْقرشِي الْمدنِي
الصَّحَابِيّ. وَقيل: اسْمه عبيد، أسلم يَوْم الْفَتْح
وَكَانَ مُعظما فِي قُرَيْش وعالماً بِالنّسَبِ، شهد
بُنيان الْكَعْبَة مرَّتَيْنِ، مَاتَ فِي آخر خلَافَة
مُعَاوِيَة، وَهُوَ غير أبي جهيم، المصغر الْمَذْكُور فِي
الْمُرُور.
قَوْله: (بأنبجانية أبي جهم) ، قد اخْتلفُوا فِي ضبط هَذَا
اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، فَقيل: بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون
النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْجِيم
وَبعد النُّون يَاء النِّسْبَة. وَقَالَ ثَعْلَب: يُقَال
كَبْش إنبجاني، بِكَسْر الْيَاء وَفتحهَا إِذا كَانَ
ملتفاً كثير الصُّوف، وَكسَاء أنبجاني، كَذَلِك وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى منبج فتحت الْبَاء فَقلت:
كسَاء منبجاني، أَخْرجُوهُ مخرج: مخبراني ومنظراني،
وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي (لحن الْعَامَّة) : لَا يُقَال:
كسَاء أنبجاني، وَهَذَا مِمَّا تخطىء فِيهِ الْعَامَّة،
وَإِنَّمَا يُقَال: منبجاني، بِفَتْح الْمِيم وَالْبَاء.
قَالَ: وَقلت للأصمعي: لِمَ فتحت الْبَاء وَإِنَّمَا نسب
إِلَى منبح بِالْكَسْرِ؟ قَالَ: خرج مخرج: منظراني
ومخبراني. قَالَ: وَالنّسب مِمَّا يُغير الْبناء، وَقَالَ
الْقَزاز فِي (الْجَامِع) : والنباج مَوضِع تنْسب إِلَيْهِ
الثِّيَاب المنبجانية. وَفِي (الجمهرة) : ومنبج مَوضِع
أعجمي، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب ونسبوا إِلَيْهِ
الثِّيَاب المنبجانية. وَفِي (الْمُحكم) أَن منبج مَوضِع،
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: الْمِيم، فِيهِ زَائِدَة بِمَنْزِلَة:
الْألف، لِأَنَّهَا إِنَّمَا كثرت مزيدة أَولا، فموضوع
زيادتها كموضع الْألف وَكَثْرَتهَا ككثرتها إِذا كَانَت
أَولا فِي الِاسْم وَالصّفة، وَكَذَلِكَ النباج، وهما
نباجان: نباج نَبْتَل ونباج بن عَامر، و: كسَاء منبجاني،
مَنْسُوب إِلَيْهِ على غير قِيَاس. وَفِي (المغيث) :
الْمَحْفُوظ كسر بَاء الأنبجانية، وَقَالَ ابْن الْحصار
فِي (تقريب المدارك) : من زعم أَنه مَنْسُوب إِلَى منبج
فقد وهم. قلت: منبج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره جِيم: بَلْدَة من
كور قنسرين بناها بعض الأكاسرة الَّذِي غلب على الشَّام،
وسماها: مُنَبّه، وَبنى بهَا بَيت نَار ووكل بهَا رجلا،
فعربت فَقيل: منبج، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: منبجي، على
الأَصْل: ومنبجاني على غير قِيَاس، وَالْبَاء تفتح فِي
النِّسْبَة كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى: صدف،
بِكَسْر الدَّال: صدفي بِفَتْحِهَا. وَمن هَذَا قَالَ ابْن
قرقول: نِسْبَة إِلَى منبج، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْبَاء
وَيُقَال: نِسْبَة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: أنبجان،
وَعَن هَذَا قَالَ ثَعْلَب: يُقَال كسَاء أنبجاني، وَهَذَا
هُوَ الْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب فِي لفظ الحَدِيث، وَأما
تَفْسِيرهَا، فَقَالَ عبد الْملك بن حبيب فِي (شرح
الْمُوَطَّأ) : هِيَ كسَاء غليظ تشبه الشملة يكون سداه
قطناً غليظاً أَو كتاناً غليظاً، وَلحمَته صوف لَيْسَ
بالمبرم، فِي فتله لين، غليظ يلتحف بِهِ فِي الْفراش، وَقد
يشْتَمل بهَا فِي شدَّة الْبرد. وَقيل: هِيَ من أدوان
الثِّيَاب الغليظة تتَّخذ من الصُّوف، وَيُقَال: هُوَ
كسَاء غليظ لَا علم لَهُ، فَإِذا كَانَ للكساء علم فَهُوَ
خميصة، وَإِن لم يكن فَهُوَ أنبجانية.
قَوْله: (ألهتني) أَي: أشغلتني، وَهُوَ من: الإلهاء،
وثلاثيه: لهي الرجل عَن الشَّيْء يلهى عَنهُ إِذا غفل،
وَهُوَ من بَاب: يعلم، وَأما: لَهَا يلهو إِذا لعب فَهُوَ
من بَاب:
(4/93)
نصر ينصر. وَفِي (الموعب) : وَقد لهى يلهو
والتهى وألهاني عَنهُ، كَذَا ... أَي أنساني وشغلني.
قَوْله: (آنِفا) أَي: قَرِيبا، واشتقاقه من الائتلاف
بالشَّيْء أَي: الِابْتِدَاء بِهِ، وَكَذَلِكَ
الِاسْتِئْنَاف، وَمِنْه أنف كل شَيْء وَهُوَ أَوله.
وَيُقَال: قلت آنِفا وسالفاً، وانتصابه على الظَّرْفِيَّة،
قَالَ ابْن الْأَثِير: قلت: الشَّيْء آنِفا فِي أول وَقت
يقرب مني. قَوْله: (عَن صَلَاتي) أَي: عَن كَمَال
الْحُضُور فِيهَا وتدبير أَرْكَانهَا وأذكارها،
وَالِاسْتِقْصَاء فِي التَّوَجُّه إِلَى جناب الجبروت.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام فِيهِ: جَوَاز لبس
الثَّوْب الْمعلم وَجَوَاز الصَّلَاة فِيهِ. وَفِيه: أَن
اشْتِغَال الْفِكر الْيَسِير فِي الصَّلَاة غير قَادِح
فِيهَا، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه
أَن الصَّلَاة تصح وَإِن حصل فِيهَا فكر مِمَّا لَيْسَ
مُتَعَلقا بِالصَّلَاةِ، وَالَّذِي حُكيَ عَن بعض السّلف
أَنه مِمَّا يضر غير مُعْتَد بِهِ. وَفِيه: طلب الْخُشُوع
فِي الصَّلَاة والإقبال عَلَيْهَا وَنفي كل مَا يشغل
الْقلب ويلهي عَنهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا:
الْمُسْتَحبّ أَن يكون نظره إِلَى مَوضِع سُجُوده،
لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّعْظِيم من إرْسَال الطّرف
يَمِينا وَشمَالًا. وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى ترك كل مَا
يلهي ويشغل الْقلب عَن الطَّاعَة والإعراض عَن زِينَة
الدُّنْيَا والفتنة بهَا. وَفِيه: منع النّظر وَجمعه
عَمَّا لَا حَاجَة بالشخص إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة
وَغَيرهَا، وَقد كَانَ السّلف لَا يخطىء أَحدهمَا مَوضِع
قَدَمَيْهِ، إِذا مَشى. وَفِيه: تكنية الْعَالم لمن دونه،
وَكَذَلِكَ الإِمَام. وَفِيه: كَرَاهَة تزويق الْمِحْرَاب
فِي الْمَسْجِد وحائطه ونقشه وَغير ذَلِك من الشاغلات.
وَفِيه: قبُول الْهَدِيَّة من الْأَصْحَاب والإرسال
إِلَيْهِم، وَاسْتدلَّ بِهِ الْبَاجِيّ على صِحَة المعاطاة
فِي الْعُقُود بِعَدَمِ ذكر الصِّيغَة، وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا أرسل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ
أهداها إِيَّاه، فَلَمَّا ألهاه علمهَا أَي: شغله إِيَّاه
عَن الصَّلَاة بِوُقُوع نظره على نقوش الْعلم، ردهَا، أَو
تفكر فِي أَن مثل ذَلِك الرعونة الَّتِي لَا تلِيق بِهِ،
ردهَا إِلَيْهِ واستبدل مِنْهُ أنبجانية كَيْلا يتَأَذَّى
قلبه بردهَا إِلَيْهِ. وَفِيه: كَرَاهِيَة الْأَعْلَام
الَّتِي يتعاطاه النَّاس على أردانهم. وَفِيه: أَن لصور
الْأَشْيَاء الظَّاهِرَة تَأْثِيرا فِي النُّفُوس الطاهرة
والقلوب الزكية.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: كَيفَ بعث بِشَيْء
يكرههُ لنَفسِهِ إِلَى غَيره؟ وَأجِيب: بِأَن بعثها إِلَى
أبي جهم لم يكن لما ذكر، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا
كَانَت سَبَب غفلته وشغله عَن الْخُشُوع وَعَن ذكر ا،
كَمَا قَالَ: أخرجُوا عَن هَذَا الْوَادي الَّذِي
أَصَابَكُم فِيهِ الْغَفْلَة، فَإِنَّهُ وَاد بِهِ
شَيْطَان، أَلا ترى إِلَى قَوْله لعَائِشَة فِي الضَّب:
(إِنَّا لَا نتصدق بِمَا لَا نَأْكُل) وَهُوَ عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، أقوى خلق الرّفْع الوسوسة، وَلَكِن
كرهها لدفع الوسوسة. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما بَعثه
بالخميصة إِلَى أبي جهم وَطلب أنبجانيته فَهُوَ من بَاب
الإدلال عَلَيْهِ لعلمه بِأَنَّهُ يفرح بِهِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه تعْيين أبي جهم فِي
الْإِرْسَال إِلَيْهِ؟ وَأجِيب بِأَن أَبَا جهم هُوَ
الَّذِي أهداها لَهُ، فَلذَلِك ردهَا عَلَيْهِ. وروى
الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي قَالَ:
حدّثنا مَالك عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه عَن
عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: (أهْدى أَبُو جهم
إِلَى النَّبِي خميصة شامية لَهَا علم، فَشهد فِيهَا
النَّبِي الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: ردي هَذِه
الخميصة إِلَى أبي جهم فَإِنَّهَا كَادَت تفتنني) .
وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِير خاطره
بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؟ وَأجِيب: بِمَا ذَكرْنَاهُ الْآن عَن
ابْن بطال، وَالْأولَى من هَذَا مَا دلّت عَلَيْهِ
رِوَايَة أبي مُوسَى الْمدنِي: ردوهَا عَلَيْهِ وخذوا
أنبجانيته، لِئَلَّا يُؤثر رد الْهَدِيَّة فِي قلبه. وَعند
أبي دَاوُد. (شغلني أَعْلَام هَذِه، وَأخذ كرديا كَانَ
لأبي جهم، فَقيل: يَا رَسُول االخميصة كَانَت خيرا من
الْكرْدِي) .
وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ إِشَارَة إِلَى
اسْتِعْمَال أبي جهم إِيَّاهَا فِي الصَّلَاة؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ ذَلِك، وَمثله قَوْله فِي
حلَّة عُطَارِد، حَيْثُ بعث بهَا إِلَى عمر: إِنِّي لم
أبْعث بهَا إِلَيْك لتلبسها، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ
الِانْتِفَاع بهَا من جِهَة بيع أَو إكساء لغيره من
النِّسَاء. فَإِن قلت: لَيست قَضِيَّة أبي جهم مثل
قَضِيَّة عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ:
لَم أبْعث بهَا إِلَيْك لكذا وَكَذَا، وَهِي إِذا ألهت سيد
الْخلق مَعَ عصمته فَكيف لَا تلهي أَبَا جهم، على أَنه
قيل: إِنَّه كَانَ أعمى فالإلهاء مَفْقُود عَنهُ. قلت:
لَعَلَّه علم أَنه لَا يُصَلِّي فِيهَا، وَيحْتَمل أَن
يكون خَاصّا بالشارع، كَمَا قَالَ: (كل فإنني أُنَاجِي من
لَا تناجي) .
وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ يخَاف الافتتان من لَا يلْتَفت
إِلَى الأكوان {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} (النَّجْم:
71) وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة
خَارِجا عَن طباعه فَأشبه ذَلِك نظره من وَرَائه، فَأَما
إِذا رد إِلَى طبعه البشري فَإِنَّهُ يُؤثر فِيهِ مَا
يُؤثر فِي الْبشر.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن المراقبة شغلت خلقا من أَتْبَاعه
حَتَّى إِنَّه وَقع السّقف إِلَى جَانب مُسلم بن يسَار
وَلم يعلم. وَأجِيب: بِأَن أُولَئِكَ يؤخذون عَن طباعهم
فيغيبون عَن وجودهم، وَكَانَ الشَّارِع يسْلك طَرِيق
الْخَواص وَغَيرهم، فَإِذا سلك طَرِيق
(4/94)
الْخَواص غير الْكل، فَقَالَ: (لست كأحدكم)
، وَإِذا سلك طَرِيق غَيرهم، قَالَ: (إِنَّمَا أَنا بشر) ،
فَرد إِلَى حَالَة الطَّبْع، فَنزع الخميصة لَيْسَ بِهِ من
ترك كل شاغل.
وقالَ هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَن عائِشَةَ قالَ
النَّبيُّ كنْتُ أنْظُرُ إِلَى عَلَمِها وَأَنا فِي
الصَّلاَةِ فأخَافُ أنْ تَفْتِنَنِي.
قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا عطف على قَوْله: قَالَ ابْن
شهَاب، وَهُوَ من جملَة شُيُوخ إِبْرَاهِيم، وَيحْتَمل أَن
يكون تَعْلِيقا. قلت: هَذَا رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) :
عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام،
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبيد اعن معَاذ عَن أَبِيه عَن
عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَنهُ، وَرَوَاهُ أَبُو
معمر فَقَالَ: عمْرَة عَن عَائِشَة قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلَعَلَّه غلط مِنْهُ، وَالصَّحِيح:
عُرْوَة، وَلم يذكر أَبُو مَسْعُود هَذَا التَّعْلِيق،
وَذكره خلف. قَوْله: (وَأَنا فِي الصَّلَاة) جملَة حَالية.
قَوْله: (أَن تفتنني) ، بِفَتْح التَّاء من: فتن يفتن من
بَاب: ضرب يضْرب، وَيجوز أَن تكون بِالْإِدْغَامِ، وَأَن
تكون بِضَم التَّاء من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ يُقَال:
فتنه وأفتنه، وَأنْكرهُ الْأَصْمَعِي.
وَاعْلَم أَن فِي هَذِه الرِّوَايَة لم يَقع لَهُ شَيْء من
الْخَوْف من الإلهاء لِأَنَّهُ قَالَ: (فَأَخَاف) وَهَذَا
مُسْتَقْبل، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا رِوَايَة مَالك: (فكاد
يفتنني) ، فَهَذَا يدل على أَنه لم يَقع، وَالرِّوَايَة
الأولى تدل على أَنه قد وَقع لِأَنَّهُ صرح بقوله:
(فَإِنَّهَا ألهتني) والتوفيق بَينهمَا يُمكن بِأَن
يُقَال: للنَّبِي حالتان: حَالَة بشرية وَحَالَة تخْتَص
بهَا خَارِجَة عَن ذَلِك، فبالنظر إِلَى الْحَالة البشرية
قَالَ: (ألهتني) ، وبالنظر إِلَى الْحَالة الثَّانِيَة لم
يجْزم بِهِ، بل قَالَ: (أَخَاف) ، وَلَا يلْزم من ذَلِك
الْوُقُوع. وَأَيْضًا فِيهِ تَنْبِيه لأمته ليحترزوا عَن
مثل ذَلِك فِي صلَاتهم، لِأَن الصَّلَاة الْمُعْتَبرَة أَن
يكون فِيهَا خشوع، وَمَا يلهي الْمُصَلِّي يُنَافِي
الْخُشُوع والخضوع.
51 - (بابٌ إنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أوْ تصَاوِيرَ
هَلْ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ وَمَا يُنْهَى منْ ذَلِكَ.)
بَاب: منون، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بَاب يذكر
فِيهِ إِن صلى شخص حَال كَونه فِي (ثوب مصلب) بِضَم
الْمِيم وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة. قَالَ بَعضهم: أَي
فِيهِ صلبان. قلت: لَيْسَ الْمَعْنى كَذَلِك، بل
مَعْنَاهُ: إِن صلى فِي ثوب منقوش بصور الصلبان. قَوْله:
(أَو تصاوير) قَالَ الْكرْمَانِي: أَو تصاوير عطف على ثوب
لَا على مصلب، والمصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول، أَو: على
مصلب، لَكِن بِتَقْدِير أَنه فِي معنى ثوب مُصَور بالصليب،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: مُصَور بالصليب، أَو بتصاوير غَيره.
وَقَالَ بَعضهم: أَو تصاوير، أَي فِي ثوب ذِي تصاوير،
كَأَنَّهُ حذف الْمُضَاف لدلَالَة الْمَعْنى عَلَيْهِ.
قلت: جعل الْكرْمَانِي: تصاوير، مصدرا بِمَعْنى
الْمَفْعُول غير صَحِيح، لِأَن التصاوير إسم للتماثيل،
كَذَا قَالَ أهل اللُّغَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: التصاوير:
التماثيل، وَقد جَاءَ التصاوير والتماثيل والتصاليب،
فَكَأَنَّهَا فِي الأَصْل جمع: تَصْوِير وتمثال وتصليب،
وَلَئِن سلمنَا كَون التصاوير مصدرا فِي الأَصْل جمع
تَصْوِير، فَلَا يَصح أَن يُقَال، عِنْد كَونه عطفا على
ثوب أَن يقدرا: أَو إِن صلى فِي ثوب مصورة، لعدم التطابق
حينئذٍ بَين الصّفة والموصوف، مَعَ أَنه شَرط، وَالظَّاهِر
أَنه عطف على: مصلب، مَعَ حذف حرف الصِّلَة، تَقْدِيره؛
إِن صلى فِي ثوب مُصَور بصلبان، أَو ثوب مُصَور بتصاوير،
الَّتِي هِيَ التماثيل.
وَقَول بَعضهم: لدلَالَة الْمَعْنى عَلَيْهِ، وَلم يبين
أَن الْمَعْنى الدَّال عَلَيْهِ مَا هُوَ، وَالْقَوْل
بِحَذْف حرف الصِّلَة أولى من القَوْل بِحَذْف الْمُضَاف،
لِأَن ذَاك شَائِع ذائع. وَفرق بعض الْعلمَاء بَين
الصُّورَة والتمثال، فَقَالَ: الصُّورَة تكون فِي
الْحَيَوَان، والتمثال تكون فِيهِ وَفِي غَيره. وَيُقَال:
التمثال مَا لَهُ جرم وشخص، وَالصُّورَة مَا كَانَ رقماً
أَو تزويقاً فِي ثوب أَو حَائِط. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ:
قيل: التماثيل الصُّور، وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى:
{وتماثيل} (سبأ: 31) إِنَّهَا صور العقبان والطواويس على
كرْسِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَكَانَ مُبَاحا. وَقيل: صور الْأَنْبِيَاء
وَالْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، من
رُخَام أَو شبه لينشطوا فِي الْعِبَادَة بِالنّظرِ
إِلَيْهِم. وَقيل: صور الْآدَمِيّين من نُحَاس، وَا
تَعَالَى أعلم.
قَوْله: (هَل تفْسد صلَاته؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل
الاستفسار، جرى البُخَارِيّ فِي ذَلِك على عَادَته فِي ترك
الْقطع فِي الشَّيْء الَّذِي فِيهِ اخْتِلَاف، لِأَن
الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي النَّهْي الْوَارِد فِي الشَّيْء،
فَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي نَفسه فَهُوَ يَقْتَضِي الْفساد
فِيهِ، وَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي غَيره فَهُوَ يَقْتَضِي
الْكَرَاهَة أَو الْفساد، فِيهِ خلاف. قَوْله: (وَمَا
ينْهَى من ذَلِك) : أَي: وَالَّذِي ينْهَى عَنهُ من
الْمَذْكُور، وَهُوَ؛ الصَّلَاة فِي ثوب مُصَور بصلبان أَو
بتصاوير، وَفِي بعض النّسخ لَفْظَة: عَنهُ، مَوْجُودَة،
وَفِي رِوَايَة: عَن ذَلِك، بِكَلِمَة: عَن، مَوضِع: من،
وَالْأول أصح.
(4/95)
47304 - ح دّثنا أبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ
اللَّهِ بنُ عَمْرٍ وقالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قالَ
حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ صُهَيْبٍ عنْ أنَسٍ كانَ
قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جانِبَ بَيْتِها فقالَ
النَّبيُّ: (أمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا فَإِنَّهُ لاَ
تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاَتِي) .
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ستر
الَّذِي فِيهِ التصاوير إِذا نهى عَنهُ الشَّارِع، فَمنع
لبسه بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة
شَيْئَانِ، والْحَدِيث لَا يدل إلاَّ على شَيْء وَاحِد،
وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي فِيهِ الصُّورَة. قلت: يلْحق بِهِ
الثَّوْب الَّذِي فِيهِ صور الصلبان لاشْتِرَاكهمَا فِي
أَن كلاًّ مِنْهُمَا عبد من دونه اعز وَجل.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة، الْكل قد ذكرُوا: وَمعمر
بِفَتْح الْمِيم، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع،
والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَرِجَاله كلهم بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي اللبَاس. وَأخرجه النَّسَائِيّ بِأَلْفَاظ،
فَفِي لفظ: (يَا عَائِشَة أَخْرِجِي هَذَا فَإِنِّي إِذا
رَأَيْته ذكرت الدُّنْيَا) . وَفِي لفظ: (فَإِن فِيهِ
تِمْثَال طير مُسْتَقْبل الْبَيْت إِذا دخل الدَّاخِل) .
وَفِي لفظ: (فِيهِ تصاوير، فَنَزَعَهُ رَسُول ا، فَقَطعه
وسادتين، فَكَانَ يرتفق عَلَيْهِمَا) . وَفِي لفظ: (كَانَ
فِي بَيْتِي ثوب فِيهِ تصاوير فَجَعَلته إِلَى سهوة فِي
الْبَيْت، فَكَانَ رَسُول الله يُصَلِّي إِلَيْهِ ثمَّ
قَالَ: يَا عَائِشَة أخرجيه عني، فنزعته فَجَعَلته وسائد)
. وَفِي لفظ: (دخل عَليّ رَسُول الله وَقد اشْتريت بقرام
فِيهِ تماثيل، فَلَمَّا رَآهُ تلون وَجهه ثمَّ هتكه
بِيَدِهِ، وَقَالَ؛ إِن أَشد النَّاس عذَابا يَوْم
الْقِيَامَة الَّذين يشبهون بِخلق ا) . وَفِي لفظ: (قدم
النَّبِي من سفر وَقد اشْتريت بقرام على سهوة لي فِيهِ
تماثيل فَنَزَعَهُ) . وَفِي لفظ: (خرج رَسُول ا، خرجَة
ثمَّ دخل وَقد علقت قراماً فِيهِ الْخَيل أولات الأجنحة،
فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: إنزعيه) .
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (قرام) ، بِكَسْر الْقَاف
وَتَخْفِيف الرَّاء: وَهُوَ ستر رَقِيق من صوف ذُو ألوان.
وَقَالَ أَبُو سعد: القرام: صوف غليظ جدا. يفرش فِي
الهودج. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ ثوب من صوف ملون،
وَالْجمع: قرم. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي، جمعه: قروم، هُوَ
ثوب من صوف فِيهِ ألوان من عهن، فَإِذا خيط صَار كَأَنَّهُ
بَيت، فَهُوَ كلة. وَقَالَ الْقَزاز وَابْن دُرَيْد: هُوَ
السّتْر الرَّقِيق وَرَاء السّتْر الغليظ على الهودج
وَغَيره. وَقَالَ الْخَلِيل: يتَّخذ سترا أَو يغشى بِهِ
هودج أَو كلة، وَزعم الْجَوْهَرِي أَنه: ستر فِيهِ رقم
ونقوش. وَقَالَ: وَكَذَلِكَ المقرم والمقرمة. قَوْله:
(أميطي) أَي: أزيلي، وَهُوَ أَمر من أماط يميط. قَالَ ابْن
سَيّده: يُقَال: مَاطَ عني ميطاً ومياطاً وأماط: تنحى
وَبعد، وماطه عني وأماطه: نحاه وَدفعه. قَالَ بَعضهم؛ مطت
بِهِ وأمطته، على حكم مَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ الْأَفْعَال
غير المتعدية بِالنَّقْلِ فِي الْغَالِب، وماط الْأَذَى
ميطاً وأماطه: نحاه وَدفعه. قَوْله: (لَا تزَال تصاوير) ،
بِدُونِ الضَّمِير، وَفِي بعض الرِّوَايَة: تصاويره،
بإضافته إِلَى الضَّمِير، وَالضَّمِير فِي: فَإِنَّهُ
للشأن. وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي بالضمير: يحْتَمل أَن
يرجع إِلَى الثَّوْب. قَوْله: (تعرض) بِفَتْح التَّاء
وَكسر الرَّاء أَي: تلوح، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ. (تعرض) . بِفَتْح الْعين وَتَشْديد
الرَّاء، وَأَصله: تتعرض، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ
كَمَا فِي {نَارا تلظى} (اللَّيْل: 41) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل
على أَن الصُّور كلهَا مَنْهِيّ عَنْهَا، سَوَاء كَانَت
أشخاصاً ماثلة أَو غير ماثلة، كَانَت فِي ستر أَو بِسَاط
أَو فِي وَجه جِدَار أَو غير ذَلِك. وَقَالَ ابْن بطال:
علم من الحَدِيث النَّهْي عَن اللبَاس الَّذِي فِيهِ
التصاوير بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهَذَا كُله على
الْكَرَاهَة، فَإِن من صلى فِيهِ فَصلَاته مجزئة،
لِأَنَّهُ لم يعد الصَّلَاة، وَلِأَنَّهُ ذكر أَنَّهَا
عرضت لَهُ، وَلم يقل: إِنَّهَا قطعتها. وَمن صلى بذلك أَو
نظر إِلَيْهِ فَصلَاته مجزئة عِنْد الْعلمَاء. وَقَالَ
الْمُهلب: وَإِنَّمَا أَمر باجتناب هَذَا لإحضار الْخُشُوع
فِي الصَّلَاة وَقطع دواعي الشّغل. وَقيل: إِنَّه مَنْسُوخ
بِحَدِيث سهل بن حنيف، رَوَاهُ مَالك بن أنس: (عَن أبي
النَّضر عَن عبيد ابْن عبد اأنه دخل على طَلْحَة
الْأنْصَارِيّ يعودهُ، فَوجدَ عِنْده سهل بن حنيف، فَأمر
أَبُو طَلْحَة إنْسَانا ينْزع نمطاً تَحْتَهُ، فَقَالَ
لَهُ سهل: لِمَ تنزعه؟ قَالَ: لِأَن فِيهِ تصاوير، وَقد
قَالَ رَسُول ا: مَا قد علمت قَالَ: ألم يقل: إلاَّ مَا
كَانَ رقماً فِي ثوب؟ قَالَ؛ بلَى، وَلكنه أطيب للنَّفس) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَليّ بن شُعَيْب عَن معن عَن
مَالك بِهِ، وَاحْتج أَصْحَابنَا
(4/96)
بِهَذَا أَن الصُّور الَّتِي تكون فِيمَا تبسط وتفترش
وتمتهن خَارِجَة عَن النَّهْي الْوَارِد فِي هَذَا
الْبَاب، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ وَمَالك
وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو عمر: ذكر أَبُو
الْقَاسِم، قَالَ: كَانَ مَالك يكره التماثيل فِي الأسرة
والقباب، وَأما الْبسط والوسائد وَالثيَاب فَلَا بَأْس
بِهِ. وَكره أَن يُصَلِّي إِلَى قبَّة فِيهَا تماثيل.
وَقَالَ الثَّوْريّ: لَا بَأْس بالصور فِي الوسائد
لِأَنَّهَا تُوطأ وَيجْلس عَلَيْهَا، وَكَانَ أَبُو حنيفَة
وَأَصْحَابه يكْرهُونَ التصاوير فِي الْبيُوت بتمثال،
وَلَا يكْرهُونَ ذَلِك فِيمَا يبسط، وَلم يَخْتَلِفُوا أَن
التصاوير فِي الستور الْمُعَلقَة مَكْرُوهَة، وَقَالَ
أَبُو عمر: وَكره اللَّيْث التماثيل فِي الْبيُوت والأسرة
والقباب والطساس والمنارات إلاَّ مَا كَانَ رقماً فِي ثوب،
وَأما الشَّافِعِيَّة فَإِنَّهُم كَرهُوا الصُّور مُطلقًا،
سَوَاء كَانَت على الثِّيَاب أَو على الْفرش والبسط
وَنَحْوهَا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُوم الْأَحَادِيث
الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَن ذَلِك، وَلم يفرقُوا فِي
ذَلِك، وَا تَعَالَى أعلم. |