البُخَارِيّ، فَيحْتَمل أَن يُقَال: فِي كل من
رِوَايَة الْبَاب وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى اخْتِصَار،
أَو يُقَال: ذكر الْفَرْض عَلَيْهِ يسْتَلْزم الْفَرْض
على الْأمة، وَبِالْعَكْسِ، إلاَّ مَا يسْتَثْنى من
خَصَائِصه. قَوْله: (فَارْجِع إِلَى رَبك) ، أَي:
الْموضع الَّذِي نَاجَيْت رَبك أَولا. قَوْله:
(فراجعت) ، هَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة
غَيره: (فراجعني) ، وَالْمعْنَى وَاحِد. قَوْله:
(فَوضع شطرها) ، وَفِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة؛
(فَوضع عني عشرا) ، وَمثله لِشَرِيك، وَفِي رِوَايَة
ثَابت: (فحط عني خمْسا) . وَقَالَ الْكرْمَانِي:
الشّطْر: النّصْف، فَفِي الْمُرَاجَعَة الأولى وُضع
خمس وَعِشْرُونَ، وَفِي الثَّانِيَة ثَلَاثَة عشر،
يَعْنِي بتكميل المتكرر، إِذْ لَا معنى لوضع بعض
صَلَاة، وَفِي الثَّالِثَة: سَبْعَة. قلت: هَذَا
كَلَام لَا يتَّجه، وَهُوَ يُخَالف ظَاهر عبارَة
حَدِيث الْبَاب، لِأَن الْمُرَاجَعَة الْمَذْكُورَة
فِيهِ ثَلَاثَة مَرَّات، وَلم يحصل الْوَضع إلاَّ فِي
الْمَرَّتَيْنِ الْأَوليين، وَفِي الْمرة الثَّالِثَة،
قَالَ: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ) ، فَلم يحصل الْوَضع
هَهُنَا، وَيلْزم من كَلَامه أَن تكون الْمُرَاجَعَة
أَربع مَرَّات. فِي الأولى الشّطْر، وَفِي الثَّانِيَة
ثَلَاثَة عشر، وَفِي الثَّالِثَة سَبْعَة، وَفِي
الرَّابِعَة قَالَ: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ) ،
وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك. قَالَ ابْن الْمُنِير: ذكر
الشّطْر أَعم من كَونه وضع دفْعَة وَاحِدَة، وَقَالَ
بَعضهم: قلت: وَكَذَا الْعشْر فِي دفعتين، والشطر فِي
خمس دفعات. انْتهى. قلت: على هَذَا يكون سبع دفعات،
فِي الْمُرَاجَعَة الأولى دفعتان وهما عشرُون كل
دفْعَة عشرَة، وَفِي الثَّانِيَة تكون خمسه دفعات كل
دفْعَة خمس فَتَصِير خَمْسَة وَعشْرين، وَلَكِن هَل كل
دفْعَة فِي مُرَاجعَة فَتَصِير سبع مراجعات؟ أَو
دفعتان فِي الْمُرَاجَعَة الأولى وَخمْس دفعات فِي
الثَّانِيَة؟ فَلِكُل مِنْهُمَا وَجه بِالِاحْتِمَالِ،
وَلَكِن ظواهر الرِّوَايَات لَا تساعد شَيْئا من ذَلِك
إلاَّ بالتأويل، وَهُوَ أَن يكون المُرَاد من الشّطْر
الْبَعْض، وَقد جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب ذَلِك، وَقد
جَاءَ بِمَعْنى الْجِهَة أَيْضا كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 441)
أَي: جِهَته، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيكون المُرَاد من
الشّطْر فِي الْمُرَاجَعَة الأولى الْعشْر مرَّتَيْنِ،
وَفِي الثَّانِيَة الْخمس خمس مَرَّات، فَتكون
الْجُمْلَة خمْسا وَأَرْبَعين. إِلَى أَن قَالَ: (هن
خمس) ، يَعْنِي خمس صلوَات فِي الْعَمَل، (وَهِي
خَمْسُونَ) فِي الثَّوَاب، لِأَن لكل حَسَنَة عشر
أَمْثَالهَا، كَمَا فِي النَّص. وَكَانَ الْفَرْض فِي
الأول خمسين ثمَّ إِن اتعالى رحم عباده وَجعله بِخمْس
تَخْفِيفًا لنا وَرَحْمَة علينا، ثمَّ هَل هَذَا نسخ
أم لَا؟ يَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب إِن شَاءَ
اتعالى. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْفَرْض أَولا هُوَ
الْخمسين، كَيفَ جَازَ وُقُوع التَّرَدُّد والمراجعة
بَين النَّبِي وَبَين مُوسَى كليم اعليه الصَّلَاة
وَالسَّلَام؟ قلت: كَانَا يعرفان أَن الأول غير وَاجِب
قطعا، وَلَو كَانَ وَاجِبا قطعا لما كَانَ يقبل
التَّخْفِيف، وَلَا كَانَ النبيان العظيمان يفْعَلَانِ
ذَلِك.
قَوْله: (هِيَ خمس وَهن خَمْسُونَ) ، وَفِي رِوَايَة:
(هن خمس وَهِي خَمْسُونَ) ، يَعْنِي خمس من جِهَة
الْعدَد فِي الْفِعْل، وَخَمْسُونَ بِاعْتِبَار
الثَّوَاب، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (لَا
يُبدل القَوْل لدي) أَي: قَالَ تَعَالَى: لَا يُبدل
القَوْل لدي. قَوْله: (ارْجع إِلَى رَبك) ، ويروى:
(رَاجع رَبك) . قَوْله: (قلت) ويروى (فَقلت) . قَوْله:
(استحييت من رَبِّي) وَجه استحيائه من ربه أَنه لَو
سَأَلَ الرّفْع بعد الْخمس لَكَانَ كَأَنَّهُ قد
سَأَلَ رفع الْخمس بِعَينهَا، فَلذَلِك استحيي من أَن
يُرَاجع بعد ذَلِك، وَلَا سِيمَا سمع من ربه: لَا
يُبدل القَوْل لدي بعد قَوْله: (هن خمس وَهن
خَمْسُونَ) وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون سَبَب
الاستحياء أَن الْعشْرَة آخر جمع الْقلَّة، وَأول جمع
الْكَثْرَة، فخشي أَن يدْخل فِي الإلحاح فِي
السُّؤَال. قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب فِي رِوَايَة
هَذَا الْبَاب، وَأما فِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة
وَشريك (فَوضع عني عشرا) فَفِيهِ إلحاح، لِأَن
السُّؤَال قد تكَرر، وَكَيف، والإلحاح فِي الطّلب من
اتعالى مَطْلُوب؟ .
قَوْله: (إِلَى السِّدْرَة الْمُنْتَهى) السدر: شجر
النبق، واحدته: سِدْرَة، وَجَمعهَا سدر وسدور،
الْأَخِيرَة نادرة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة عَن أبي
زِيَاد: السدر، من العضاه، وَهُوَ لونان، فَمِنْهُ
عبري وَمِنْه ضال، فَأَما العبري فَمَا لَا شوك فِيهِ
إلاَّ مَا لَا يضير، وَأما الضال فَهُوَ ذُو شوك،
وللسدر ورقة عريضة مُدَوَّرَة، وَرُبمَا كَانَت
السِّدْرَة مَحل الإقلال، وورق الضال صغَار. قَالَ
وأجود نبق يعلم بِأَرْض الْعَرَب نبق بهجر فِي بقْعَة
وَاحِدَة تحمى للسُّلْطَان، وَهُوَ أَشد نبق يعلم
حلاوة، وأطيبه رَائِحَة، يفوح فَم آكله وَثيَاب لابسه
كَمَا يفوح الْعطر. وَفِي (نَوَادِر) الهجري: السدر
يطْبخ ويصبغ بِهِ، وَفِي كتاب النَّوَوِيّ: تجمع السدر
على؛ سدرات، بِإِسْكَان الدَّال، وَيُقَال
بِفَتْحِهَا، وَيُقَال بِكَسْرِهَا مَعَ كسر السِّين
فِيهَا. قَوْله: (الْمُنْتَهى) يَعْنِي الْمُنْتَهى
فَوق السَّمَاء السَّابِعَة، وَقَالَ الْخَلِيل: فِي
السَّابِعَة قد أظلت السَّمَوَات وَالْجنَّة، وَفِي
رِوَايَة: (هُوَ فِي السَّمَاء السَّادِسَة) وَالْأول
أَكثر، وَيحمل على تَقْدِير الصِّحَّة أَن يكون
أَصْلهَا فِي السَّادِسَة ومعظمها فِي السَّابِعَة،
وَزعم عِيَاض أَن أَصْلهَا فِي الأَرْض لخُرُوج النّيل
والفرات من أَصْلهَا. انْتهى، وَلَيْسَ هَذَا
بِلَازِم، بل مَعْنَاهُ: أَن الْأَنْهَار تخرج من
أَصْلهَا ثمَّ تسير حَيْثُ أَرَادَ اتعالى
(4/45)
حَتَّى تخرج من الأَرْض وتسير فِيهَا وَرُوِيَ
أَن من أَصْلهَا تخرج أَرْبَعَة أَنهَار: نهران باطنان
وهما: السلسبيل والكوثر، ونهران ظاهران، وهما: النّيل
والفرات، وَعَن ابْن عَبَّاس: هِيَ عَن يَمِين
الْعَرْش. وَقَالَ ابْن قرقول: إِنَّهَا أَسْفَل
الْعَرْش لَا يجاوزها ملك وَلَا نَبِي، وَفِي الْأَثر
إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يعرج من الأَرْض وَمَا ينزل
من السَّمَاء، فيفيض مِنْهَا. وَقيل: يَنْتَهِي
إِلَيْهَا علم كل ملك مقرب وَنَبِي مُرْسل. وَقَالَ
كَعْب: وَمَا خلفهَا غيب لَا يُعلمهُ إلاَّ ا. وَقيل
يَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاح الشُّهَدَاء. وَقيل: إِن
روح الْمُؤمن يَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهَا فَتُصَلِّي
عَلَيْهِ هُنَاكَ الْمَلَائِكَة المقربون. قَالَه ابْن
سَلام فِي تَفْسِيره، قيل: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: (ثمَّ أدخلت الْجنَّة) يدل على أَن
السِّدْرَة لَيست فِي الْجنَّة، وَقَالَ ابْن دحْيَة:
ثمَّ فِي هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع لَيست للترتييب،
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ من الَّذين
آمنُوا} (الْبَلَد: 71) إِنَّمَا هِيَ مثل: الْوَاو،
للْجمع والإشتراك، فَهِيَ بذلك خَارِجَة عَن أَصْلهَا.
قَوْله: (حبائل اللُّؤْلُؤ) كَذَا وَقع لجَمِيع رُوَاة
البُخَارِيّ فِي هَذَا الْموضع، بِالْحَاء
الْمُهْملَة، ثمَّ الْمُوَحدَة وَبعد الْألف يَاء آخر
الْحُرُوف سَاكِنة، ثمَّ لَام. وَذكر جمَاعَة مِنْهُم
أَنه تَصْحِيف، وَإِنَّمَا هُوَ: جنابذ، بِالْجِيم
وَالنُّون وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة ثمَّ ذال
مُعْجمَة، كَمَا وَقع عِنْد المُصَنّف فِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَمن رِوَايَة
ابْن الْمُبَارك وَغَيره عَن يُونُس، وَكَذَا عِنْد
غَيره من الْأَئِمَّة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِن
صحت رِوَايَة: حبائل، فَيكون أَرَادَ بِهِ مَوَاضِع
مُرْتَفعَة كحبال الرمل، كَأَنَّهُ جمع: حبالة، وحبالة
جمع: حَبل، على غير قِيَاس، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ
عَن الزُّهْرِيّ: (دخلت الْجنَّة فَرَأَيْت فِيهَا
جنابذ من اللُّؤْلُؤ) . وَقَالَ ابْن قرقول: كَذَا
لجميعهم فِي البُخَارِيّ حبائل، وَمن ذهب إِلَى صِحَة
الرِّوَايَة، قَالَ: إِن الحبائل القلائد والعقود، أَو
يكون من حبال الرمل أَي: فِيهَا اللُّؤْلُؤ كحبال
الرمل، وَهُوَ جمع حَبل، وَهُوَ الرمل المستطيل، أَو
من الحبلة وَهُوَ ضرب من الْحلِيّ مَعْرُوف. وَقَالَ
صَاحب (التَّلْوِيح) : وَهَذَا كُله تخيل ضَعِيف، بل
هُوَ بِلَا شكّ تَصْحِيف من الْكَاتِب، والحبائل
إِنَّمَا تكون جمع: حبالة، أَو حبلة. و: الجنابذ، جمع:
جنبذ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وبالموحدة
المضمومة وبالذال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَا ارْتَفع من
الشَّيْء واستدار كالقبة، والعامة تَقول بِفَتْح
الْبَاء، وَالْأَظْهَر أَنه فَارسي معرف. قلت: هُوَ
فِي لِسَان الْعَجم: كنبذ، بِضَم الْكَاف الصماء
وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي
الْقبَّة.
ذكر إعرابه وَمَا يتَعَلَّق بِالْبَيَانِ: قَوْله:
(وَأَنا بِمَكَّة) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله:
(ممتلىء حِكْمَة وإيماناً) ممتلىء: بِالْجَرِّ، صفة:
طست، وتذكيره بِاعْتِبَار الْإِنَاء، لِأَن الطست
مُؤَنّثَة. وَكلمَة؛ من فِي: من ذهب، بَيَانِيَّة و:
(حِكْمَة وإيماناً) منصوبان على التَّمْيِيز، وَجعل
الْإِيمَان وَالْحكمَة فى الْإِنَاء وإفراغهما مَعَ
أَنَّهُمَا مَعْنيانِ، وَهَذِه صفة الْأَجْسَام من
أحسن المجازات، أَو أَنه من بَاب التَّمْثِيل، أَو؛
تمثل لَهُ الْمعَانِي كَمَا تمثل لَهُ أَرْوَاح
الْأَنْبِيَاء الدارجة بالصور الَّتِي كَانُوا
عَلَيْهَا، وَمعنى الْمجَاز فِيهِ كَأَنَّهُ جعل فِي
الطست شَيْء يحصل بِهِ كَمَال الْإِيمَان وَالْحكمَة
وزيادتهما، فَسمى ذَلِك الشَّيْء حِكْمَة وإيماناً
لكَونه سَببا لَهما. قَوْله: (فعرج بِي إِلَى
السَّمَاء) ويروى: (فعرج بِهِ) ، بضمير الْغَائِب،
وَهُوَ من بَاب التَّجْرِيد، فَكَأَن النَّبِي جرد من
نَفسه شخصا فَأَشَارَ إِلَيْهِ. وَفِيه وَجه آخر،
وَهُوَ أَن الرَّاوِي نقل كَلَامه بِالْمَعْنَى لَا
بِلَفْظِهِ بِعَيْنِه. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ
الْتِفَات. قلت: هُوَ تَجْرِيد كَمَا قُلْنَا. قَوْله:
(أأرسل إِلَيْهِ؟) بهمزتين: أولاهما: للاستفهام وَهِي
مَفْتُوحَة وَالثَّانيَِة: همزَة التَّعَدِّي، وَهِي
مَضْمُومَة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَوَ أرسل
إِلَيْهِ) ؟ بواو مَفْتُوحَة بَين الهمزتين، وَهَذَا
السُّؤَال من الْملك الَّذِي هُوَ خَازِن السَّمَاء
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا الاستعجاب بِمَا أنعم
اعليه من هَذَا التَّعْظِيم والإجلال حَتَّى أصعد
إِلَى السَّمَوَات، وَالثَّانِي: الاستبشار بعروجه
إِذا كَانَ من الْبَين عِنْدهم أَن أحدا من الْبشر لَا
يرقى إِلَى أَسبَاب السَّمَاء من غير أَن يَأْذَن اله،
وَيَأْمُر مَلَائكَته بإصعاده. وَقَالَ بَعضهم:
يحْتَمل أَن يكون خَفِي عَلَيْهِ أصل إرْسَاله
لاشتغاله بِعِبَادَتِهِ. قلت: كَيفَ يخفى عَلَيْهِ
ذَلِك لاشتغاله بِعِبَادَتِهِ، وَقد قَالَ أَولا: من
هَذَا؟ حِين قَالَ جِبْرِيل: إفتح. وَقَالَ أَيْضا:
هَل مَعَك أحد؟ قَالَ جِبْرِيل: نعم معي مُحَمَّد؟
وَأَيْنَ الخفاء بعد ذَلِك؟ وَأَيْنَ الِاشْتِغَال
بِالْعبَادَة فِي هَذَا الْوَقْت وَهُوَ وَقت المحاورة
وَالسُّؤَال؟ وَأمر نبوته كَانَ مَشْهُورا فِي الملكوت
لِأَنَّهَا لَا تخفى على خزان السَّمَوَات وحراسها،
فصح أَن لَا يكون السُّؤَال عَن أصل الرسَالَة،
وَإِنَّمَا كَانَ سؤالاً عَن أَنه أرسل إِلَيْهِ
للعروج. والإسراء، فحينئذٍ احْتمل سُؤَالهمْ
الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين.
فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة شريك: (أَو قد بعث؟)
وَهَذَا يُؤَيّد مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل. قلت:
معنى: أرسل وَبعث سَوَاء، على أَن الْمَعْنى هَهُنَا
أَيْضا: أَو قد بعث إِلَى هَذَا الْمَكَان؟ وَذَلِكَ
استعجاب مِنْهُ واستعظام لأَمره. قَوْله: (علونا
السَّمَاء الدُّنْيَا) ، ضمير الْجمع فِيهِ يدل على
أَنَّهُمَا كَانَ مَعَهُمَا مَلَائِكَة آخَرُونَ،
فكأنهما كلما عد يَا سَمَاء تشيعهما الْمَلَائِكَة
إِلَى أَن يصلا إِلَى سَمَاء أُخْرَى؛ وَالدُّنْيَا،
(4/46)
صفة السَّمَاء فِي مَحل النصب، بِمَعْنى أَنه:
لَا يظْهر النصب. قَوْله: (مرْحَبًا) مَنْصُوب
بِأَنَّهُ مفعول مُطلق، أَي: أصبت سَعَة لَا ضيقا،
وَالنّصب فِيهِ كَمَا فِي قَوْلهم: أَهلا وسهلاً.
قَوْله: (فَإِذا رجل قَاعد) . ويروى: إِذا، بِدُونِ؛
الْفَاء، كلمة: إِذا، هَهُنَا للمفاجأة، وتختص بالجمل
الإسمية، وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَهِي حرف
عِنْد الْأَخْفَش، وظرف مَكَان عِنْد الْمبرد، وظرف
زمَان عِنْد الزّجاج.
قَوْله: (قبل شِمَاله) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب بقوله؛
نظر، وَهُوَ بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء، بِمَعْنى
الْجِهَة. قَوْله: (بِإِدْرِيس) الْبَاء، فِيهِ، وَفِي
قَوْله: (بِالنَّبِيِّ) يتعلقان كِلَاهُمَا بقوله: مر
فَالْأولى للمصاحبة، وَالثَّانيَِة للإلصاق ويندفع
بِهَذَا سُؤال من يَقُول: لَا يجوز تعلق حرفين من جنس
وَاحِد بمتعلق وَاحِد لِأَنَّهُمَا ليسَا من جنس
وَاحِد. قَوْله: (ثمَّ مَرَرْت بمُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، هَذَا قَول النَّبِي، وَفِيه
حذف تَقْدِيره؛ قَالَ النَّبِي: ثمَّ مَرَرْت بمُوسَى،
لِأَنَّهُ قَالَ أَولا: فَلَمَّا مر جِبْرِيل، فَمَا
وَجه قَوْله بعد هَذَا: (ثمَّ مَرَرْت) ؟ فَالَّذِي
قدرناه هُوَ وَجهه، وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن يكون
الأول نقلا بِالْمَعْنَى، وَالثَّانِي يكون نقلا
بِاللَّفْظِ بِعَيْنِه. قَوْله: (حَتَّى ظَهرت
لمستوىً) اللَّام: فِيهِ للتَّعْلِيل، أَي: عَلَوْت
لأجل استعلاء مستوى، أَو لأجل رُؤْيَته، أَو يكون
بِمَعْنى: إِلَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أوحى
لَهَا} (الزلزلة: 5) أَي: إِلَيْهَا، وَيجوز أَن يكون
مُتَعَلقا بِالْمَصْدَرِ أَي: ظَهرت ظُهُور المتسوى.
قلت: إِذا كَانَ: اللَّام، بِمَعْنى: إِلَى، يكون
الْمَعْنى: إِنِّي أَقمت مقَاما بلغت فِيهِ من رفْعَة
الْمحل إِلَى حَيْثُ اطَّلَعت على الكوائن، وَظهر لي
مَا يُرَاد من أَمر اتعالى وتدبيره فِي خلقه، وَهَذَا
هُوَ الْمُنْتَهى الَّذِي لَا يقدر أحد عَلَيْهِ.
وَيُقَال: لَام، الْغَرَض و: إِلَى، الْغَايَة
يَلْتَقِيَانِ فِي الْمَعْنى. قلت: قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ، فِي قَوْله تَعَالَى: {كل يجْرِي
إِلَى أجل مُسَمّى} (:) فَإِن قلت: يجْرِي لأجل
مُسَمّى، وَيجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى، هُوَ من تعاقب
الحرفية. قلت: كلا، وَلنْ يسْلك هَذِه الطَّرِيقَة
إلاَّ بليد الطَّبْع ضيق العطن، وَلَكِن الْمَعْنيين،
أَعنِي: الِانْتِهَاء والاختصاص، كل وَاحِد مِنْهُمَا
ملائم لصِحَّة الْغَرَض، لِأَن قَوْلك: يجْرِي إِلَى
أجل مُسَمّى مَعْنَاهُ: يبلغهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ،
وقولك: يجْرِي لأجل مُسَمّى، يُرِيد: يجْرِي لإدراك
أجل مُسَمّى. قَوْله: (هن خمس) الضَّمِير فِيهِ
مُبْهَم يفسره الْخَبَر، كَقَوْلِه:
(هِيَ النَّفس مَا حملتها تتحمل)
قَوْله: (فَإِذا فِيهَا) . كلمة: إِذا هَهُنَا وَإِلَى
فِي قَوْله: (وَإِذا ترابها) للمفاجأة.
ذكر استنباط الْأَحْكَام والفوائد: مِنْهَا: أَن
الَّذِي يفهم من تَرْتِيب البُخَارِيّ هَهُنَا أَن
الْإِسْرَاء والمعراج وَاحِد، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا:
كَيفَ فرضت الصَّلَاة فِي الْإِسْرَاء، ثمَّ أورد
الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء) ،
وَظَاهر إِيرَاده فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقْتَضِي أَن
الْإِسْرَاء غير الْمِعْرَاج، فَإِنَّهُ ترْجم للإسراء
تَرْجَمَة، وَأخرج فِيهَا حَدِيثا، ثمَّ ترْجم للمعراج
تَرْجَمَة وَأخرج فِيهَا حَدِيثا. وَمِنْهَا: أَن
قَوْله: (فَنزل جِبْرِيل) ، وَقَوله: (فعرج بِي إِلَى
السَّمَاء) يدلان على رِسَالَة النَّبِي وعَلى خصوصيته
بِأُمُور لم يُعْطهَا غَيره. وَمِنْهَا: أَن جِبْرِيل
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هُوَ الَّذِي كَانَ
ينزل على النَّبِي من عِنْد اوبأمره. وَمِنْهَا: أَن
بَعضهم اسْتدلَّ بقوله: (ثمَّ أَخذ بيَدي) على أَن
الْمِعْرَاج وَقع غير مرّة، لكَون، الْإِسْرَاء إِلَى
بَيت الْمُقَدّس لم يذكر هَهُنَا. وَقَالَ بَعضهم:
يُمكن أَن يُقَال: هُوَ من بَاب اخْتِصَار الرَّاوِي.
قلت: هَذَا غير مقنع، لِأَن الرَّاوِي لَا يختصر مَا
سَمعه عمدا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ إِثْبَات
الاسْتِئْذَان وَبَيَان الْأَدَب فِيمَا إِذا
اسْتَأْذن أحد بدق الْبَاب وَنَحْوه، فَإِذا قيل لَهُ:
من أَنْت؟ يَقُول: زيد، مثلا. وَلَا يَقُول: أَنا،
إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ لبَقَاء الْإِبْهَام، كَذَا
قَالُوا: قلت: وَلَا يقْتَصر على قَوْله: زيد، مثلا،
لِأَن الْمُسَمّى: بزيد، قد يكون كثيرا فيشتبه
عَلَيْهِ، بل يذكر الشَّيْء الَّذِي هُوَ مَشْهُور
بَين النَّاس بِهِ. وَمِنْهَا: أَن رَسُول الرجل
يَقُول مقَام آذنه، لِأَن الخازن لم يتَوَقَّف على
الْفَتْح لَهُ على الْوَحْي إِلَيْهِ بذلك، بل عمل
بِلَازِم الْإِرْسَال إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنه علم
مِنْهُ أَن للسماء أبواباً حَقِيقَة وحفظة موكلين
بهَا. وَمِنْهَا: أَنه علم أَن رَسُول الله من نسل
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ
قَالَ: (وَالِابْن الصَّالح) ، بِخِلَاف غَيره من
الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين فِيهِ، فَإِنَّهُم
قَالُوا: الْأَخ الصَّالح. وَمِنْهَا: جَوَاز مدح
الْإِنْسَان فِي وَجهه إِذا أَمن عَلَيْهِ الْإِعْجَاب
وَغَيره من أَسبَاب الْفِتَن. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
شَفَقَة الْوَالِد على وَلَده وسروره بِحسن حَاله.
وَمِنْهَا: مَا قَالَت الشَّافِعِيَّة: إِن فِيهِ عدم
وجوب صَلَاة الْوتر حَيْثُ عين الْخمس. قُلْنَا؛ نَحن
أَيْضا نقُول: لم يجب الْوتر فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا
كَانَ وُجُوبه بعد ذَلِك بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: (إِن ازادكم صَلَاة) . الحَدِيث،
فَلذَلِك انحطت دَرَجَته عَن الْفَرْض، لِأَن ثُبُوت
الْفَرْض الْخمس بِدَلِيل قَطْعِيّ وَمِنْهَا أَن فِي
ظَاهره أَن أَرْوَاح بني آدمر من أهل الْجنَّة
وَالنَّار فِي دَرَجَته عَن الْفَرْض لِأَن ثُبُوت
الْفَرْض الْخمس بِدَلِيل قَطْعِيّ. وَمِنْهَا: أَن
الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان. قَالَ ابْن بطال:
وَفِيه: دَلِيل أَن الْجنَّة فِي السَّمَاء.
وَمِنْهَا: أَنه قد اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز
تحلية الْمُصحف. وَغَيره بِالذَّهَب، وَهَذَا
اسْتِدْلَال بعيد، لِأَن ذَلِك كَانَ فعل
الْمَلَائِكَة واستعمالهم،
(4/47)
وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يكون حكمهم كحكمنا،
وَيحْتَاج أَيْضا إِلَى ثُبُوت كَونهم مكلفين بِمَا
كلفنا بِهِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ هَذَا على أصل
الْإِبَاحَة وَتَحْرِيم اسْتِعْمَال النَّقْدَيْنِ
كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
وَمِنْهَا: أَن قوما استدلوا بِالنَّقْضِ على أَنه
يجوز نسخ الْعِبَادَة قبل الْعَمَل بهَا، وَأنكر أَبُو
جَعْفَر النّحاس هَذَا القَوْل من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: الْبناء على أَصله ومذهبه فِي أَن
الْعِبَادَة لَا يجوز نسخهَا قبل الْعَمَل بهَا، لِأَن
ذَلِك عِنْده من البداء، والبداء على اسبحانه
وَتَعَالَى محَال. الثَّانِي: أَن الْعِبَادَة، وَإِن
جَازَ نسخهَا قبل الْعَمَل بهَا عِنْد من يرَاهُ،
فَلَيْسَ يجوز عِنْد أحد نسخهَا قبل هبوطها إِلَى
الأَرْض ووصولها إِلَى المخاطبين. قَالَ: وَإِنَّمَا
ادّعى النّسخ فِيهَا القاشاني ليصحح بذلك مذْهبه فِي
أَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر. قَالَ أَبُو جَعْفَر:
وَهَذَا إِنَّمَا هِيَ شَفَاعَة شفعها رَسُول الله
لأمته، ومراجعة رَاجعهَا ربه ليخفف عَن أمته، وَلَا
يُسمى نسخا. وَقَالَ السُّهيْلي: قَول أبي جَعْفَر:
وَذَلِكَ بداء، لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن حَقِيقَة
البداء أَن يَبْدُو للْآمِر رَأْي يتَبَيَّن الصَّوَاب
فِيهِ بعد أَن لم يكن تبينه، وَهَذَا محَال فِي حق
اتعالى، وَالَّذِي يظْهر أَنه نسخ مَا وَجب على
النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من
أَدَائِهَا، وَرفع عَنهُ اسْتِمْرَار الْعَزْم واعتقاد
الْوُجُوب، وَهَذَا نسخ على الْحَقِيقَة، نسخ عَنهُ
مَا وَجب عَلَيْهِ من التَّبْلِيغ، فقد كَانَ فِي كل
مرّة عَازِمًا على تَبْلِيغ مَا أَمر بِهِ ومراجعته،
وشفاعته لَا تَنْفِي النّسخ، فَإِن النّسخ قد يكون عَن
سَبَب مَعْلُوم، فشفاعته كَانَ سَببا للنسخ لَا مبطلة
لحقيقته، وَلَكِن الْمَنْسُوخ مَا ذَكرْنَاهُ من حكم
التَّبْلِيغ الْوَاجِب عَلَيْهِ قبل النّسخ، وَحكم
الصَّلَوَات فِي خاصته، وَأما أمته فَلم ينْسَخ
عَنْهُم حكم إِذْ لَا يتَصَوَّر نسخ الحكم قبل وُصُوله
إِلَى الْمَأْمُور.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون هَذَا خَبرا لَا
تعبداً، فَإِذا كَانَ خَبرا لَا يدْخلهُ النّسخ،
وَمعنى الْخَبَر أَنه أخبرهُ ربه أَن على أمته خمسين
صَلَاة، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا فِي اللَّوْح
الْمَحْفُوظ خَمْسُونَ، فتأولها عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، على أَنَّهَا خَمْسُونَ بِالْفِعْلِ،
فبينها لَهُ ربه تَعَالَى عِنْد مُرَاجعَته أَنَّهَا
فِي الثَّوَاب لَا فِي الْعَمَل. وَمِنْهَا: وجوب
الصَّلَوَات الْخمس، وَالْبَاب مَعْقُود لهَذَا،
وَقَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن فرض الصَّلَاة
كَانَ لَيْلَة الْإِسْرَاء. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق:
ثمَّ إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، أَتَى فهمز
بعقبه فِي نَاحيَة الْوَادي فانفجرت عين مَاء مزن،
فَتَوَضَّأ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَمُحَمّد
عَلَيْهِ السَّلَام، ينظر، فَرجع رَسُول الله فَأخذ
بيد خَدِيجَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، ثمَّ أَتَى بهَا
الْعين فَتَوَضَّأ كَمَا تَوَضَّأ جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام، ثمَّ صلى هُوَ وَخَدِيجَة رَكْعَتَيْنِ
كَمَا صلى جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَالَ نَافِع بن جُبَير: أصبح النَّبِي، لَيْلَة
الْإِسْرَاء فَنزل جِبْرِيل حِين زاغت الشَّمْس فصلى
بِهِ وَقَالَ جمَاعَة: لم تكن صَلَاة مَفْرُوضَة
قبلهَا، إلاَّ مَا كَانَ أَمر بِهِ من قيام اللَّيْل
من غير تَحْدِيد رَكْعَات وَوقت حُضُور، وَكَانَ يقوم
أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه وَثلثه. وَمِنْهَا: أَن
أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ يصعد بهَا إِلَى السَّمَاء.
وَمِنْهَا: أَن أَعمال نَبِي آدم الصَّالِحَة تسر آدم
وأعمالهم السَّيئَة تسوءه. وَمِنْهَا: أَنه يجب أَن
يرحب بِكُل أحد من النَّاس فِي حِين لِقَائِه بإكرام
النَّازِل، وَأَن يلاقيه بِأَحْسَن صِفَاته، وأعمها
بجميل الثَّنَاء عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَن أوَامِر
اتعالى تكْتب بأقلام شَتَّى، وَأَن الْعلم يَنْبَغِي
أَن يكْتب بأقلام كَثِيرَة، تِلْكَ سنة افي سمواته،
فَكيف فِي أرضه؟ وَمِنْهَا: أَن مَا قَضَاهُ وأحكمه من
آثَار مَعْلُومَة وآجال مَكْتُوبَة وَشبه ذَلِك مِمَّا
لَا يُبدل لَدَيْهِ، وَأما مَا نسخه رفقا لِعِبَادِهِ
فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ {يمحو اما يَشَاء وَيثبت}
(الرَّعْد: 93) .
الأسئلة والأجوبة فَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه اعتناء
مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذِهِ
الْأمة من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام، الَّذين رَآهُمْ النَّبِي
لَيْلَة الْإِسْرَاء؟ وَأجِيب: لما ورد أَنه قَالَ:
يَا رب اجْعَلنِي من أمة مُحَمَّد، لما رأى من
كرامتهم، على رَبهم، فَكَانَ اعتناؤه بأمرهم وإشفاقه
عَلَيْهِم كَمَا يعتني بالقوم من هُوَ مِنْهُم.
وَقَالَ الدَّاودِيّ؛ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من مُوسَى
لِأَنَّهُ أول من سبق إِلَيْهِ حِين فرضت الصَّلَاة،
فَجعل افي قلب مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
ذَلِك ليتم مَا سبق من علم اتعالى.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى نقص الصَّلَاة عشرا بعد
عشر؟ وَأجِيب: لَيْسَ كل الْخلق يحضر قلبه فِي
الصَّلَاة من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَقد جَاءَ أَنه
يكْتب لَهُ مَا حضر قلبه مِنْهَا، وَأَنه يُصَلِّي
فَيكْتب لَهُ نصفهَا وربعها حَتَّى انْتهى إِلَى
عشرهَا، ووقف، فَهِيَ خمس فِي حق من يكْتب لَهُ
عشرهَا، وَعشر فِي حق من يكْتب لَهُ أَكثر من ذَلِك،
وَخَمْسُونَ فِي حق من كملت صلَاته بِمَا يلْزمه من
تَمام خشوعها وَكَمَال سجودها وركوعها.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن النَّبِي كَيفَ رأى
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي
السَّمَوَات ومقرهم فِي الأَرْض؟ وَأجِيب: بِأَن
اتعالى شكل أَرْوَاحهم على هَيْئَة صور أَجْسَادهم.
ذكره ابْن عقيل، وَكَذَا ذكره ابْن التِّين، وَقَالَ:
وَإِنَّمَا تعود الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد يَوْم
الْبَعْث إلاَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ حَيّ لم يمت، وَهُوَ ينزل
إِلَى الأَرْض. قلت: الْأَنْبِيَاء أَحيَاء، فقد
رَآهُمْ النَّبِي حَقِيقَة، وَقد مر على مُوسَى
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ قَائِم
يُصَلِّي فِي قَبره، وَرَآهُ فِي السَّمَاء
السَّادِسَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه عين من
الْأَنْبِيَاء آدم
(4/48)
وَإِدْرِيس وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى
فِي حَدِيث هَذَا الْبَاب، وَفِي غَيره ذكر أَيْضا:
يحيى ويوسف وَهَارُون، وهم ثَمَانِيَة؟ وَأجِيب. أما
آدم فَإِنَّهُ خرج من الْجنَّة بعداوة إِبْلِيس
عَلَيْهِ اللَّعْنَة، لَهُ وتحيله، فَكَذَلِك نَبينَا
خرج من مَكَّة بأذى قومه لَهُ وَلمن أسلم مَعَه،
وَأَيْضًا، فَإِن اتعالى أَرَادَ أَن يعرض على نبيه
نسم بنيه من أهل الْيَمين وَأهل الشمَال، ليعلم بذلك
أهل الْجنَّة وَأهل النَّار. وَأَيْضًا فَإِن آدم
أَبُو الْبشر وَأول الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين، وكنيته
أَبُو الْبشر أَيْضا. وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، وروى
ابْن عَسَاكِر من حَدِيث عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ
مَرْفُوعا: (أهل الْجنَّة لَيْسَ لَهُم كنى إلاَّ آدم
فَإِنَّهُ يكنى: أَبَا مُحَمَّد) . وَمن حَدِيث كَعْب
الْأَحْبَار: (لَيْسَ لأحد من أهل الْجنَّة لحية إلاَّ
آدم، فَإِن لَهُ لحية سَوْدَاء إِلَى سرته) . وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ لحية فِي الدُّنْيَا،
وَإِنَّمَا كَانَت اللحى بعد آدم، ثمَّ قيل: إِن اسْم
آدم سرياني، وَقيل: مُشْتَقّ، فَقيل: أفعل من الأدمة.
وَقيل: من لفظ الْأَدِيم، لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم
الأَرْض. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: سمي آدم لبياضه.
وَذكر مُحَمَّد بن عَليّ: أَن الآدم من الظباء
الطَّوِيل القوائم. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا: (إِن اخلق آدم على صورته، طوله سِتُّونَ
ذِرَاعا، فَكل من يدْخل الْجنَّة على صورته وَطوله،
وَولد لَهُ أَرْبَعُونَ ولدا فِي عشْرين بَطنا، وَعمر
ألف سنة، وَلما أهبطه من الْجنَّة هَبَط (بسر نديب) من
الْهِنْد على جبل يُقَال لَهُ؛ (نوذ) وَلما حَضرته
الْوَفَاة اشْتهى قطف عِنَب، فَانْطَلق بنوه ليطلبوه
فلقيتهم الْمَلَائِكَة فَقَالُوا: أَيْن تُرِيدُونَ؟
قَالُوا: إِن أَبَانَا اشْتهى قطفاً. قَالُوا:
ارْجعُوا فقد كفيتموه، فَرَجَعُوا فوجدوه قد قبض،
فغسلوه وحنطوه وكفنوه وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة
خَلفه وَبَنوهُ خَلفهم، ودفنوه. وَقَالُوا: هَذِه
سنتكم فِي مَوْتَاكُم) . وَدفن فِي غَار يُقَال لَهُ:
غَار الْكَنْز، فِي أبي قبيس، فاستخرجه نوح عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الطوفان وَأَخذه وَجعله
فِي تَابُوت مَعَه فِي السَّفِينَة، فَلَمَّا نضب
المَاء رده نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى
مَكَانَهُ.
وَأما إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فَإِنَّهُ كَانَ أول من كتب بالقلم وانتشر مِنْهُ بعده
فِي أهل الدُّنْيَا، فَكَذَلِك نَبينَا، كتب إِلَى
الْآفَاق، وَسمي بِذَاكَ لدرسه الصُّحُف الثَّلَاثِينَ
الَّتِي أنزلت عَلَيْهِ، فَقيل: إِنَّه خنوخ،
وَيُقَال: أَخْنُوخ، وَيُقَال: اخنخ، وَيُقَال: اهنخ
بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شِيث بن آدم.
وَقَالَ الْحَرَّانِي: اسْم أمه: برة، وخنوخ سرياني،
وَتَفْسِيره بالعربي: إِدْرِيس، قَالَ وهب: هُوَ جد
نوح، وَقد قيل: إِنَّه إلْيَاس، وَإنَّهُ لَيْسَ بجد
نوح وَلَا هُوَ فِي عَمُود هَذَا النّسَب، وَنَقله
السُّهيْلي عَن ابْن الْعَرَبِيّ، وَاسْتشْهدَ
بِحَدِيث الْإِسْرَاء حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (مرْحَبًا
بالأخ الصَّالح) ، وَلَو كَانَ فِي عَمُود هَذَا
النّسَب لقَالَ لَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم:
(وَالِابْن الصَّالح) ، وَذكر بَعضهم أَن إِدْرِيس
كَانَ نَبيا فِي بني إِسْرَائِيل، فَإِن كَانَ كَذَلِك
فَلَا اعْتِرَاض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَنه
قَالَ تلطفاً وتأدباً، وَهُوَ أَخ، وَإِن كَانَ ابْنا
وَالْأَبْنَاء أخوة، والمؤمنون أخوة. وَقَالَ ابْن
الْمُنِير: أَكثر الطّرق على أَنه خاطبه بالأخ. قَالَ:
وَقَالَ لي ابْن أبي الْفضل: صحت لي طَرِيق أَنه خاطبه
فِيهَا بالإبن الصَّالح. وَقَالَ الْمَازرِيّ: ذكر
المؤرخون أَن إِدْرِيس جد نوح، فَإِن قَامَ دَلِيل على
أَن إِدْرِيس أرسل، لم يَصح قَول النسابين: إِنَّه جد
نوح، لإخبار نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (ائْتُوا نوحًا فَإِنَّهُ أول
رَسُول بَعثه اإلى أهل الأَرْض) ، وَإِن لم يقم دَلِيل
جازم، قَالَ: وَصَحَّ أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا وَلم
يُرْسل، قَالَ السُّهيْلي: وَحَدِيث أبي ذَر الطَّوِيل
يدل على أَن آدم وَإِدْرِيس رسولان. قلت: حَدِيث أبي
ذَر أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : رفع إِلَى
السَّمَاء الرَّابِعَة، وَرَآهُ فِيهَا، وَرفع وَهُوَ
ابْن ثَلَاث مائَة وَخمْس وَسِتِّينَ سنة.
وَأما إِبْرَاهِيم، فَإِن نَبينَا، رَآهُ مُسْندًا
ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، فَكَذَلِك حَال
نَبينَا، كَانَ فِي حجه الْبَيْت واختتام عمره بذلك،
كَانَ نَظِير لِقَائِه إِبْرَاهِيم فِي آخر
السَّمَوَات، وَمعنى إِبْرَاهِيم: أَب رَحِيم، وكنيته
أَبُو الضيفان. قيل: إِنَّه ولد بغوطة دمشق ببرزة فِي
جبل قاسيون، وَالصَّحِيح أَنه ولد بكوثا من إقليم بابل
من الْعرَاق، وَكَانَ بَينه وَبَين نوح عدَّة قُرُون،
وَقيل: ولد على رَأس ألف سنة من خلق آدم عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذكر الطَّبَرِيّ: أَن
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا
نطق بالعبرانية حِين عبر النَّهر فَارًّا من نمْرُود،
عَلَيْهِ اللَّعْنَة. وَقَالَ نمْرُود للَّذين أرسلهم
وَرَاءه فِي طلبه: إِذا وجدْتُم فَتى يتَكَلَّم
بالسُّرْيَانيَّة فَردُّوهُ، فَلَمَّا أدركوه
استنطقوه، فحول السانه عبرانياً، وَذَلِكَ حِين عبر
النَّهر، فسميت العبرانية بذلك. قلت: المُرَاد من
هَذَا النَّهر هُوَ الْفُرَات، وَبلغ إِبْرَاهِيم
مِائَتي سنة. وَقيل: تنتقص خَمْسَة وَعشْرين. وَدفن
بالبلدة الْمَعْرُوفَة بالخليل.
وَأما مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن
أمره آل إِلَى قهر الْجَبَابِرَة وإخراجهم من أَرضهم،
(4/49)
فَكَذَلِك نَبينَا حَاله مثل ذَلِك، حَيْثُ
فتح مَكَّة وقهر المتجبرين الْمُسْتَهْزِئِينَ من
قُرَيْش. ومُوسَى: هُوَ عمرَان بن قاهث بن يصهر بن
لاوي بن يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَأما عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن
الْيَهُود راموا قَتله، فرفعه اإليه، فَكَذَلِك
نَبينَا، فَإِن الْيَهُود أَرَادوا قَتله حِين سموا
لَهُ الشَّاة، فَنَجَّاهُ اتعالى من ذَلِك. وَاسم
عِيسَى عبراني، وَقيل سرياني.
وَأما يحيى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن
نَبينَا رَآهُ مَعَ عِيسَى فِي السَّمَاء، وَإنَّهُ
رأى من الْيَهُود مَا لَا يُوصف حَتَّى ذبحوه،
فَكَذَلِك نَبينَا رأى من قُرَيْش مَا لَا يُوصف،
وَلَكِن اتعالى نجاه مِنْهُم.
وَأما يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فَإِنَّهُ عَفا عَن إخْوَته حَيْثُ قَالَ: {لَا
تَثْرِيب عَلَيْكُم} (يُوسُف: 29) الْآيَة، فَكَذَلِك
نَبينَا عَفا عَن قُرَيْش يَوْم فتح مَكَّة.
وَأما هَارُون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فَإِنَّهُ كَانَ محبباً إِلَى بني إِسْرَائِيل، حَتَّى
إِن قومه كَانُوا يؤثرونه على مُوسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكَذَلِك كَانَ نَبينَا ثمَّ
صَار محبباً عِنْد سَائِر الْخلق.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله فِي الحَدِيث: لم يثبت
كَيفَ مَنَازِلهمْ، يُخَالِفهُ كلمة؛ ثمَّ الَّتِي
للتَّرْتِيب؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِمَّا أَن أنسا لم
يرو هَذَا عَن أبي ذَر، وَإِمَّا أَن يُقَال: لَا
يلْزم مِنْهُ تعْيين مَنَازِلهمْ لبَقَاء الْإِبْهَام
فِيهِ، لِأَن بَين آدم وَإِبْرَاهِيم ثَلَاثَة من
الْأَنْبِيَاء وَأَرْبَعَة من السَّمَوَات أَو
خَمْسَة، إِذْ جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات:
وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاء السَّابِعَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: قَوْله تَعَالَى: {مَا يُبدل
القَوْل لدي} (ق: 92) لم لَا يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ:
لَا ينقص عَن الْخمس وَلَا يُبدل الْخمس إِلَى أقل من
ذَلِك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يُنَاسب لفظ: (استحييت
من رَبِّي) ، فَإِن قيل: ألم يُبدل القَوْل لَدَيْهِ
حَيْثُ جعل الْخمسين خمْسا؟ أُجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ
لَا يُبدل الإخبارات، مثل أَن ثَوَاب الْخمس خَمْسُونَ
لَا التكليفات، أَو لَا يُبدل الْقَضَاء المبرم لَا
الْقَضَاء الْمُعَلق الَّذِي يمحو اما يَشَاء مِنْهُ
وَيثبت مِنْهُ، أَو مَعْنَاهُ: لَا يُبدل القَوْل بعد
ذَلِك.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْإِسْرَاء كَانَ لَيْلًا
بِالنَّصِّ، فَمَا الْحِكْمَة فِي كَونه لَيْلًا؟
وَأجِيب: بأوجه: الأول: أَنه وَقت الْخلْوَة والاختصاص
ومجالسة الْمُلُوك، وَهُوَ أشرف من مجالستهم نَهَارا،
وَهُوَ وَقت مُنَاجَاة الْأَحِبَّة. الثَّانِي: أَن
اتعالى أكْرم جمَاعَة من أنبيائه بأنواع الكرامات
لَيْلًا، قَالَ تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {فَلَمَّا جن عَلَيْهِ
اللَّيْل رأى كوكباً} (الْأَنْعَام: 67) وَفِي قصَّة
لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، {فَأسر بأهلك
بِقطع من اللَّيْل} (هود: 18، وَالْحجر: 56) وَفِي
قصَّة يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
{سَوف اسْتغْفر لكم رَبِّي} (يُوسُف: 89) وَكَانَ آخر
دُعَائِهِ وَقت السحر من لَيْلَة الْجُمُعَة، وَقرب
مُوسَى نجياً لَيْلًا، وَذَلِكَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ
لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} (طه: 01، والقصص:
92) وَقَالَ: {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة}
(الْأَعْرَاف: 241) . وَقَالَ لَهُ لما أمره
بِخُرُوجِهِ من مصر ببني إِسْرَائِيل: {فَأسر بعبادي
لَيْلًا إِنَّكُم متبعون} (الدُّخان: 32) . وَأكْرم
نَبينَا أَيْضا لَيْلًا بِأُمُور مِنْهَا: انْشِقَاق
الْقَمَر، وإيمان الْجِنّ بِهِ، وَرَأى الصَّحَابَة
آثَار نيرانهم كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) وَخرج
إِلَى الْغَار لَيْلًا. الثَّالِث: أَن اتعالى قدم ذكر
اللَّيْل على النَّهَار فِي غير مَا آيَة فَقَالَ:
{وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ}
(الْإِسْرَاء: 21) وَقَالَ: {وَلَا اللَّيْل سَابق
النَّهَار} (يس: 04) وَلَيْلَة النَّحْر تغني عَن
الْوُقُوف نَهَارا. الرَّابِع: أَن اللَّيْل أصل،
وَلِهَذَا كَانَ أول الشُّهُور، وسواده يجمع ضوء
الْبَصَر وَيحد كليل النّظر ويستلذ فِيهِ بالسمر
ويجتلى فِيهِ وَجه الْقَمَر. الْخَامِس: أَنه لَا ليل
إلاَّ وَمَعَهُ نَهَار، وَقد يكون نَهَار بِلَا ليل،
وَهُوَ: يَوْم الْقِيَامَة الَّذِي مِقْدَاره خمسين
ألف سنة. السَّادِس: أَن اللَّيْل مَحل استجابة
الدُّعَاء والغفران وَالعطَاء. فَإِن قلت: ورد فِي
الحَدِيث: (خير يَوْم طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْم
عَرَفَة، أَو يَوْم الْجُمُعَة) قلت: قَالُوا ذَلِك
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَيَّام. قلت: لَيْلَة الْقدر
خير من ألف شهر، وَقد دخل فِي هَذِه اللَّيْلَة
أَرْبَعَة آلَاف جُمُعَة بِالْحِسَابِ الْجملِي،
فَتَأمل هَذَا الْفضل الْخَفي. السَّابِع: أَن أَكثر
أَسْفَاره كَانَ لَيْلًا، وَقَالَ: (عَلَيْكُم بالدلجة
فَإِن الأَرْض تطوى بِاللَّيْلِ) . وَالثَّامِن: لينفي
عَنهُ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْبُنُوَّة لما
رفع نَهَارا تَعَالَى اعن ذَلِك. التَّاسِع: لِأَن
اللَّيْل وَقت الِاجْتِهَاد لِلْعِبَادَةِ، وَكَانَ
قَامَ حَتَّى تورمت قدماه. وَكَانَ قيام اللَّيْل فِي
حَقه وَاجِبا وَقَالَ فِي حَقه: {يَا أَيهَا المزمل
قُم اللَّيْل إلاّ قَلِيلا} (المزمل: 1 2) فَلَمَّا
كَانَت عِبَادَته لَيْلًا أَكثر أكْرم بالإسراء فِيهِ،
وَأمره بقوله: {وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ}
(الْإِسْرَاء: 97) . الْعَاشِر: ليَكُون أجر الْمُصدق
بِهِ أَكثر، ليدْخل فِيمَن آمن بِالْغَيْبِ دون من
عاينه نَهَارا.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه ذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَن
صَدره غسل بِمَاء زَمْزَم، وَقَلبه بالثلج؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُ غسل بالثلج أَولا ليثلج الْيَقِين إِلَى
قلبه، وَهَذِه لدُخُول الحضرة القدسية، وَقيل: فعل
بِهِ ذَلِك فِي حَال صغره ليصير قلبه مثل قُلُوب
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي
الانشراح. وَالثَّانيَِة: ليصير حَاله مثل حَال
الْمَلَائِكَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي
الْإِسْرَاء؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ
للمناجاة، وَلِهَذَا كَانَ من غير مواعدة، وَهَذَا
أوقع وَأعظم، وَكَانَ التكليم
(4/50)
فِي مُوسَى عَن مواعدة وموافاة، فَأَيْنَ
ذَلِك من هَذَا؟ وشتان مَا بَين المقامين وَبَين من
كلم على الطّور، وَبَين من دعِي إِلَى أعالي الْبَيْت
الْمَعْمُور، وَبَين من سخرت لَهُ الرّيح مسيرَة شهر،
وَبَين من ارْتقى من الْفرش إِلَى الْعَرْش فِي سَاعَة
زمانية.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام عرج بِهِ على دَابَّة يُقَال لَهَا
الْبراق، وَثَبت ذَلِك بالتواتر، وَمَا الْحِكْمَة فِي
ذَلِك، وَكَانَ اقادراً على رَفعه فِي طرفَة عين بِلَا
براق؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك للتأنيس بالمعتاد،
وَالْقلب إِلَى ذَلِك أميل، وعرج بِهِ لكرامة
الرَّاكِب على غَيره، وَلذَلِك لم ينزل عَنهُ على مَا
جَاءَ فِي حَدِيث حُذَيْفَة؛ مَا زَالَ على ظهر
الْبراق حَتَّى رَجَعَ، وَإِنَّمَا لم يذكر فِي
الرُّجُوع للْعلم بِهِ لقَرِينَة الصعُود. وَسمي:
براقاً لسرعته تَشْبِيها ببرق السَّحَاب، وَكَانَت
بغلته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَيْضَاء،
أَي: شهباء، فَكَذَلِك كَانَ الْبراق، وَفِيه أسئلة.
الأول: كَون الْبراق على شكل الْبَغْل دون الْخَيل
مَعَ أَن الْخَيل أفضل وَأحسن. وَالْجَوَاب: كَانَ
الرّكُوب فِي السّلم والأمن لَا فِي الْخَوْف
وَالْحَرب، ولإسراعه عَادَة، ولتحقيق ثباته وَصَبره،
فَلذَلِك كَانَ، ركب بغلته فِي الْحَرْب فِي قصَّة
حنين لتحقيق ثباته فِي مَوَاطِن الْحَرْب، وَأما ركُوب
الْمَلَائِكَة الْخَيل فَلِأَنَّهُ الْمَعْهُود
بِالْخَيْلِ فِي الحروب، وَمَا لطف من البغال واستدار
أحسن من الْخَيل فِي الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا.
الثَّانِي: استصعاب الْبراق لماذا كَانَ؟ وَالْجَوَاب:
كَانَ تيهاً وزهواً لركوبه، وَقَول جِبْرِيل: أبمحمد
تستصعب تَحْقِيق الْحَال وَقد ارفضَّ عرقاً من تيه
الْجمال؟ وَقد قيل: إِنَّه رَكبه الْأَنْبِيَاء قبله
أَيْضا. وَقيل: إِن جِبْرِيل ركب مَعَه. الثَّالِث:
تشمس الْبراق حِين قدومه إِلَيْهِ للرُّكُوب، قَالَه
قَتَادَة. الْجَواب: إِن تشمسه ونفرته كَانَ لبعد
عَهده من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَطول الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد،
عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ: قَالَ
جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام لمُحَمد، حِين تشمس بِهِ
الْبراق: لَعَلَّك يَا مُحَمَّد مسست الصَّفْرَاء
الْيَوْم، يَعْنِي الذَّهَب؟ فَأخْبر النَّبِي أَنه
مامسها إلاَّ أَنه مر بهَا. فَقَالَ: تَبًّا لمن يعبدك
من دون اتعالى، وَمَا شمس إلاَّ لذَلِك ذكره
السُّهيْلي. وَسمعت من بعض أستاذي الْكِبَار، أَنه:
إِنَّمَا شمس ليعد لَهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بالركوب عَلَيْهِ أَولا يَوْم
الْقِيَامَة، فَلَمَّا وعد لَهُ قر.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى قَوْله: (وغشيها ألوان
لَا أَدْرِي مَا هِيَ) ؟ . أُجِيب: بِأَن هَذَا
كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى}
(النَّجْم: 61) فِي أَن الْإِبْهَام للتفخيم والتهويل،
وَإِن كَانَ مَعْلُوما. وَقيل: فرَاش من ذهب، وَقيل:
لَعَلَّه مثل مَا يغشى من الْأَنْوَار الَّتِي تنبعث
مِنْهَا وتتساقط على موقعها بالفراش، وَجعلهَا من
الذَّهَب لصفائها وإضاءتها فِي نَفسهَا.
وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ تصور الصعُود إِلَى
السَّمَوَات وَمَا فَوْقهَا، والجسم الإنساني كثيف قبل
هَذَا؟ أُجِيب: بِأَن الْأَرْوَاح أَرْبَعَة أَقسَام.
الأول: الْأَرْوَاح الكدرة بِالصِّفَاتِ البشرية،
وَهِي أَرْوَاح الْعَوام، غلبت عَلَيْهَا القوى
الحيوانية فَلَا تقبل العروج أصلا. وَالثَّانِي:
الْأَرْوَاح الَّتِي لَهَا كَمَال الْقُوَّة النظرية
للبدن باكتساب الْعُلُوم، وَهَذِه أَرْوَاح الْعلمَاء.
وَالثَّالِث: الْأَرْوَاح الَّتِي لَهَا كَمَال
الْقُوَّة الْمُدبرَة للبدن باكتساب الْأَخْلَاق
الحميدة، وَهَذِه أَرْوَاح المرتاضين، إِذْ كسروا قوى
أبدانهم بالارتياض والمجاهدة. وَالرَّابِع:
الْأَرْوَاح الَّتِي حصل لَهَا كَمَال القوتين،
فَهَذِهِ غَايَة الْأَرْوَاح البشرية، وَهِي أَرْوَاح
الْأَنْبِيَاء وَالصديقين، فَكلما ازدادت قُوَّة
أَرْوَاحهم ازْدَادَ ارْتِفَاع أبدانهم من الأَرْض،
وَلِهَذَا لما كَانَ الْأَنْبِيَاء، صلوَات اعليهم
وَسَلَامه، قويت فيهم هَذِه الْأَرْوَاح، عرج بهم
إِلَى السَّمَاء وأكملهم قُوَّة نَبينَا، فعرج بِهِ
إِلَى قاب قوسين أَو أدنى.
05361 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ
أخبْرنا مالِكٌ عَنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ عَنْ
عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ أمِّ
المُؤْمِنينَ قالَتْ فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ
فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الحَضَرِ
والسَّفَر فأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي
صَلاَةِ الحَضَرِ. (الحَدِيث 053 طرفاه فِي: 0901،
5393) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، وَعبد ابْن
يُوسُف التنيسِي، وَمَالك بن أنس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي مَوضِع وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار فِي مَوضِع
وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني، وَهَذَا من
مَرَاسِيل عَائِشَة لِأَنَّهَا لم تدْرك الْقِصَّة،
وَيحْتَمل أَن تكون أخذت ذَلِك من النَّبِي أَو من
صَحَابِيّ آخر، وعَلى كل حَال فَهُوَ حجَّة لِأَن
هَذَا مِمَّا لَا مجَال للرأي فِيهِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن
(4/51)
أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْهِجْرَة عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر
عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت:
(فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ هَاجر النَّبِي
فَفرضت أَرْبعا) . وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
يحيى بن يحيى، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي،
وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، أربعتهم عَن
مَالك عَن صَالح بن كيسَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ. قَوْله: (فرض ا)
أَي: قدر ا، وَالْفَرْض فِي اللُّغَة التَّقْدِير،
هَكَذَا فسره أَبُو عمر. قَوْلهَا: (الصَّلَاة) أَي:
الصَّلَاة الرّبَاعِيّة، وَذَلِكَ لِأَن الثَّلَاثَة
وتر صَلَاة النَّهَار، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي
رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث ابْن إِسْحَاق قَالَ:
حَدثنِي صَالح بن كيسَان عَن عُرْوَة: إِلَى آخِره،
وَفِيه: (إلاَّ الْمغرب فَإِنَّهَا كَانَت ثَلَاثًا) :
وَذكر الدَّاودِيّ أَن الصَّلَوَات زيدت فِيهَا
رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وزيدت فِي الْمغرب رَكْعَة.
وَفِي سنَن الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث دَاوُد بن أبي
هِنْد عَن عَامر عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة قَالَت:
(إِن أول مَا فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا
قدم النَّبِي الْمَدِينَة وَاطْمَأَنَّ زَاد
رَكْعَتَيْنِ، غير الْمغرب، لِأَنَّهَا وتر صَلَاة
الْغَدَاة. قَالَ: وَكَانَ إِذا سَافر صلى الصَّلَاة
الأولى) . قَوْلهَا: (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ)
بالتكرار ليُفِيد عُمُوم التَّثْنِيَة لكل صَلَاة،
لِأَن قَاعِدَة كَلَام الْعَرَب أَن تكْرَار الِاسْم
المُرَاد تَقْسِيم الشَّيْء عَلَيْهِ، ولولاه لَكَانَ
فِيهِ إِيهَام أَن الْفَرِيضَة فِي السّفر والحضر مَا
كَانَت إلاَّ فَرد رَكْعَتَيْنِ فَقَط. وانتصب:
(رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) على الحالية، والتكرار
فِي الْحَقِيقَة عبارَة عَن كلمة وَاحِدَة نَحْو:
مثنى، ونظيرها قَوْلك: هَذَا مزاي، قَائِم مقَام الحلو
والحامض. قَوْلهَا: (وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر) ،
يَعْنِي: زيدت فِيهَا حَتَّى تكملت خمْسا، فَتكون
الزِّيَادَة فِي عدد الصَّلَوَات، وَيكون قَوْلهَا:
فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، أَي: قبل الْإِسْرَاء،
لِأَن الصَّلَاة قبل الْإِسْرَاء كَانَت صَلَاة قبل
غرُوب الشَّمْس، وَصَلَاة قبل طُلُوعهَا. وَيشْهد لَهُ
قَوْله تَعَالَى: {وَسبح بالْعَشي والأبكار} (آل
عمرَان: 14) قَالَه أَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ وَيحيى
بن سَلام، وَقَالَ بَعضهم: يجوز أَن يكون معنى: (فرضت
الصَّلَاة) ، أَي لَيْلَة الْإِسْرَاء حِين فرضت
الصَّلَاة الْخمس فرضت رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ،
ثمَّ زيد فِي صَلَاة الْحَضَر بعد ذَلِك، فَتكون
الزِّيَادَة فِي عدد الرَّكْعَات، وَهَذَا هُوَ
الْمَرْوِيّ عَن بعض رُوَاة هَذَا الحَدِيث عَن
عَائِشَة، وَمِمَّنْ رَوَاهُ هَكَذَا الْحسن
وَالشعْبِيّ أَن الزِّيَادَة فِي الْحَضَر كَانَت بعد
الْهِجْرَة بعام، أَو نَحوه. وَقد ذكر البُخَارِيّ من
رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن
عَائِشَة، قَالَت: (فرضت الصَّلَاة) الحَدِيث، وَقد
ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقَالَ بَعضهم؛ فرضت الصَّلَاة
رَكْعَتَيْنِ، يَعْنِي: إِن اخْتَار الْمُسَافِر أَن
يكون فَرْضه رَكْعَتَيْنِ فَلهُ ذَلِك، وَإِن اخْتَار
أَن يكون أَرْبعا فَلهُ ذَلِك. وَقيل: يحْتَمل أَن
تُرِيدُ بقولِهَا: فرضت الصَّلَاة، أَي: قدرت، ثمَّ
تركت صَلَاة السّفر على هيئتها فِي الْمِقْدَار لَا
فِي الْإِيجَاب.
وَالْفَرْض فِي اللُّغَة: التَّقْدِير، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: يَعْنِي فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ لمن
أَرَادَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا، فزيد فِي صَلَاة
الْحَضَر رَكْعَتَانِ على سَبِيل التحتيم، وأقرت
صَلَاة السّفر على جَوَاز الِاقْتِصَار، وَاحْتج
أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث، أَعنِي: قَول عَائِشَة،
رَضِي اتعالى عَنْهَا، المكذور فِي هَذَا الْبَاب، على
أَن الْقصر فِي السّفر عَزِيمَة لَا رخصَة، وَبِمَا
رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: (فرض االصلاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر
أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي
الْخَوْف رَكْعَة) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(مُعْجَمه) بِلَفْظ: (افْترض رَسُول ا، رَكْعَتَيْنِ
فِي السّفر كَمَا افْترض فِي الْحَضَر أَرْبعا) .
وَبِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن عبد
الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ،
قَالَ: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة
الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ،
وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ، تَمام غير قصر على
لِسَان نَبِيكُم مُحَمَّد) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي
صَحِيحه وَلم يقدحه بِشَيْء. فَإِن قلت: قَالَ
النَّسَائِيّ: فِيهِ انْقِطَاع لِأَن ابْن أبي ليلى لم
يسمعهُ من عمر. قلت: حكم مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه
بِسَمَاع ابْن أبي ليلى من عمر، وَصرح فِي بعض طرقه
فَقَالَ: عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، قَالَ:
سَمِعت عمر بن الْخطاب. فَذكره وَيُؤَيّد ذَلِك مَا
أخرجه أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي مُسْنده: عَن
الْحُسَيْن بن وَاقد عَن الْأَعْمَش. عَن حبيب بن أبي
ثَابت أَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى حَدثهُ، قَالَ:
خرجت مَعَ عمر بن الْخطاب. فَذكره.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد: الْقصر رخصَة.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أخرجه أَبُو دادو بِإِسْنَادِهِ
عَن يعلى بن أُميَّة قَالَ: قلت: لعمر بن الْخطاب:
عجبت من اقْتِصَار النَّاس الصَّلَاة الْيَوْم،
وَإِنَّمَا قَالَ اتعالى: {إِن خِفْتُمْ أَن
يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} (النِّسَاء: 101) فقد ذهب
ذَلِك الْيَوْم. فَقَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ،
فَذكرت ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: (صَدَقَة تصدق ابها
عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا
وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن
حبَان. وَبِمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن عمر بن
سعيد عَن
(4/52)
عَطاء بن أبي رَبَاح عَن عَائِشَة رَضِي اعنها
أَن النَّبِي: (كَانَ يقصر فِي الصَّلَاة وَيتم
وَيفْطر ويصوم) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده
صَحِيح، وَقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن طَلْحَة بن
عَمْرو ودلهم بن صَالح والمغيرة بن زِيَاد، وثلاثتهم
ضعفاء عَن عَطاء عَن عَائِشَة. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن
عَائِشَة مَوْقُوف.
وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث الأول أَنه حجَّة لنا
لِأَنَّهُ أَمر بِالْقبُولِ، فَلَا يبْقى خِيَار
الرَّد شرعا، إِذْ الْأَمر للْوُجُوب. فَإِن قلت:
الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ يكون مُخْتَارًا فِي قبُول
الصَّدَقَة كَمَا فِي الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ من
الْعباد. قلت: معنى قَوْله: (تصدق ابها عَلَيْكُم) حكم
عَلَيْكُم، لِأَن التَّصَدُّق من افيما لَا يحْتَمل
التَّمْلِيك يكون عبارَة عَن الْإِسْقَاط كالعفو من ا.
وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث الثَّانِي: أَنه معَارض
بِحَدِيث آخر أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن حَفْص بن
عَاصِم عَن ابْن عمر قَالَ: (صَحِبت رَسُول الله فِي
السّفر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه ا،
وصحبت أَبَا بكر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى
قَبضه اتعالى، وصحبت عُثْمَان فَلم يزدْ على
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه اتعالى) ، وَقد قَالَ
اتعالى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول اأسوة حَسَنَة}
(الْأَحْزَاب: 12) وَإِلَيْهِ ذهب عُلَمَاء أَكثر
السّلف وفقهاء الْأَمْصَار، أَي: إِلَى أَن الْقصر
وَاجِب، وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَابْن عمر وَجَابِر
وَابْن عَبَّاس، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن عبد
الْعَزِيز وَالْحسن وَقَتَادَة وَقَالَ حَمَّاد بن أبي
سُلَيْمَان: يُعِيد من صلى فِي السّفر أَرْبعا. وَعَن
مَالك: يُعِيد مَا دَامَ فِي الْوَقْت. وَقَالَ
أَحْمد: السّنة رَكْعَتَانِ. وَقَالَ مرّة أُخْرَى:
أَنا أحب الْعَافِيَة من هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقَالَ
الْخطابِيّ: وَالْأولَى أَن يقصر الْمُسَافِر
الصَّلَاة لأَنهم أَجمعُوا على جَوَازهَا إِذا قصر،
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا أتم، وَالْإِجْمَاع مقدم على
الِاخْتِلَاف، وَسقط بِهَذَا كُله مَا قَالَه بَعضهم:
وَيدل على أَنه أَي الْقصر رخصَة أَيْضا قَوْله
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (صَدَقَة تصدق ابها
عَلَيْكُم) . وَقَالَ أَيْضا؛ احْتج مخالفهم أَي:
مُخَالف الْحَنَفِيَّة بقوله تَعَالَى: {فَلَيْسَ
عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة}
(النِّسَاء: 101) . لِأَن الْقصر إِنَّمَا يكون من
شَيْء أطول مِنْهُ.
قلت: الْجَواب عَنهُ أَن المُرَاد من الْقصر
الْمَذْكُور فِيهَا هُوَ الْقصر فِي الْأَوْصَاف من
ترك الْقيام إِلَى الْقعُود، أَو ترك الرُّكُوع
وَالسُّجُود إِلَى الْإِيمَاء لخوف الْعَدو بِدَلِيل
أَنه علق ذَلِك بالخوف، إِذْ قصر الأَصْل غير مُتَعَلق
بالخوف بِالْإِجْمَاع، بل مُتَعَلق بِالسَّفرِ،
وَعِنْدنَا قصر الْأَوْصَاف مُبَاح لَا وَاجِب، مَعَ
أَن رفع الْجنَاح فِي النَّص لدفع توهم النُّقْصَان
فِي صلَاتهم بِسَبَب دوامهم على الْإِتْمَام فِي
الْحَضَر، وَذَلِكَ مَظَنَّة توهم النُّقْصَان، فَرفع
ذَلِك عَنْهُم. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا،
والزموا الْحَنَفِيَّة على قاعدتهم فِيمَا إِذا عَارض
رَأْي الصَّحَابِيّ رِوَايَته، فَالْعِبْرَة بِمَا
رُوِيَ بِأَنَّهُ ثَبت عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت
تتمّ فِي السّفر. قلت: قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة على
أَصْلهَا، وَلَا يلْزم من إتْمَام عَائِشَة فِي السّفر
النَّقْض على الْقَاعِدَة، لِأَن عَائِشَة كَانَت ترى
الْقصر جَائِزا والإتمام جَائِزا، فَأخذت بِأحد
الجائزين، وَإِنَّمَا يرد على قاعدتنا مَا ذكره أَن
لَو كَانَت عَائِشَة تمنع الْإِتْمَام، وَكَذَلِكَ
الْجَواب فِي إتْمَام عُثْمَان رَضِي اتعالى عَنهُ،
وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الْمُحَقِّقُونَ فِي
تأويلهما. وَقيل: لِأَن عُثْمَان إِمَام الْمُؤمنِينَ
وَعَائِشَة أمّهم فكأنهما كَانَا فِي منازلهما، وأبطل
بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ أولى
بذلك مِنْهُمَا. وَقيل: لِأَن عُثْمَان تأهل بِمَكَّة
وأبطل بِأَنَّهُ سَافر بأزواجه وَقصر، وَقيل: فعل
ذَلِك من أجل الْأَعْرَاب الَّذين حَضَرُوا مَعَه
لِئَلَّا يظنون أَن فرض الصَّلَاة رَكْعَتَانِ أبدا
سفرا وحضراً، وأبطل بِأَن هَذَا الْمَعْنى إِنَّمَا
كَانَ مَوْجُودا فِي زمن النَّبِي، بل اشْتهر أَمر
الصَّلَاة فِي زمن عُثْمَان أَكثر مِمَّا كَانَ،
وَقيل: لِأَن عُثْمَان نوى الْإِقَامَة بِمَكَّة بعد
الْحَج، وأبطل بِأَن الْإِقَامَة بِمَكَّة حرَام على
المُهَاجر فَوق ثَلَاث، وَقيل: كَانَ لعُثْمَان أَرض
بمنى، وأبطل بِأَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي الْإِتْمَام
وَالْإِقَامَة.
2 - (بابُ وُجُوبِ الصَّلاَةِ فِي الثِّيَابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الصَّلَاة فِي
الثِّيَاب، وَالْمرَاد: ستر الْعَوْرَة. وَقَالَ أَبُو
الْوَلِيد بن رشد فِي (الْقَوَاعِد) : اتّفق الْعلمَاء
على أَن ستر الْعَوْرَة فرض بِإِطْلَاق، وَاخْتلفُوا:
هَل شَرط من شُرُوط صِحَة الصَّلَاة أم لَا؟ وَظَاهر
مَذْهَب مَالك أَنَّهَا من سنَن الصَّلَاة، مستدلاً
بِحَدِيث عَمْرو بن سَلمَة لما تقلصت بردته، فَقَالَت
امْرَأَة: غطوا عَنَّا أست قارئكم، وَعند بَعضهم: شَرط
عِنْد الذّكر دون النسْيَان، وَعند أبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وَعَامة الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث:
أَن ذَلِك شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة. فَرضهَا ونفلها،
وَإِنَّمَا قَالَ فِي الثِّيَاب، بِلَفْظ الْجمع نَحْو
قَوْلهم: فلَان يركب الْخُيُول ويلبس البرود.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ
إِنَّه ذكر فِي الْبَاب السَّابِق فَرضِيَّة
الصَّلَاة، وَذكر فِي هَذَا أَن ذَلِك الْفَرْض لَا
يقوم إلاَّ بستر الْعَوْرَة، لِأَنَّهُ فرض مثلهَا.
فَإِن قلت: للصَّلَاة شُرُوط غير هَذَا فَمَا وَجه
تَخْصِيصه بالتقديم على غَيره؟ قلت: لِأَنَّهُ ألزم من
غَيره، وَفِي تَركه بشاعة عَظِيمَة بِخِلَاف غَيره من
الشُّرُوط.
(4/53)
وقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ
عنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الْأَعْرَاف: 13) .
هَذَا عطف على قَول: وجوب الصَّلَاة، وَالتَّقْدِير:
وَفِي بَيَان معنى قَول اتعالى، أَرَادَ بالزينة: مَا
يوراي الْعَوْرَة، وبالمسجد: الصَّلَاة، فَفِي الأول
إِطْلَاق اسْم الْحَال على الْمحل. وَفِي الثَّانِي
إِطْلَاق اسْم الْمحل على الْحَال لوُجُود الِاتِّصَال
الذاتي بَين الْحَال وَالْمحل، وَهَذَا لِأَن أَخذ
الزِّينَة نَفسهَا وَهِي عرض محَال، فَأُرِيد محلهَا
وَهُوَ الثَّوْب مجَازًا، وَكَانُوا يطوفون عُرَاة
وَيَقُولُونَ: لَا نعْبد افي ثِيَاب أَذْنَبْنَا
فِيهَا، فَنزلت. لَا يُقَال: نزُول الْآيَة فِي
الطّواف، فَكيف يثبت الحكم فِي الصَّلَاة؟ لأَنا
نقُول: الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص
السَّبَب، وَهَذَا اللَّفْظ عَام لِأَنَّهُ قَالَ:
عِنْد كل مَسْجِد، وَلم يقل: عِنْد الْمَسْجِد
الْحَرَام. فَيعْمل بِعُمُومِهِ، وَيُقَال: {خُذُوا
زينتكم} (الْأَعْرَاف: 13) من قبيل إِطْلَاق
الْمُسَبّب على السَّبَب، لِأَن الثَّوْب سَبَب
الزِّينَة، وَمحل الزِّينَة الشَّخْص، وَقيل:
الزِّينَة مَا يتزين بِهِ من ثوب وَغَيره، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يبدين زينتهن} (النُّور: 13)
والستر لَا يجب لعين الْمَسْجِد بِدَلِيل جَوَاز
الطّواف عُريَانا، فَعلم من هَذَا أَن ستره للصَّلَاة
لَا لأجل النَّاس حَتَّى لَو صلى وَحده وَلم يستر
عَوْرَته لم تجز صلَاته، وَإِن لم يكن عِنْده أحد.
وَقَالَ بَعضهم، بعد قَوْله، وَقَول اعز وَجل: {خُذُوا
زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} (الْأَعْرَاف: 13) يُشِير
بذلك إِلَى تَفْسِير طَاوس فِي قَوْله تَعَالَى:
{خُذُوا زينتكم} (الْأَعْرَاف: 13) قَالَ: الثِّيَاب.
قلت: هَذَا تخمين وحسبان، وَلَيْسَ عَلَيْهِ برهَان،
وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن المُرَاد مِنْهُ ستر
الْعَوْرَة، وَعَن مُجَاهِد: وار عورتك وَلَو بعباءة،
وَفِي مُسلم من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا: (لَا ينظر
الرجل إِلَى عَورَة الرجل، وَلَا الْمَرْأَة إِلَى
عَورَة الْمَرْأَة) . وَعَن الْمسور، قَالَ لَهُ
النَّبِي: (ارْجع إِلَى ثَوْبك فَخذه وَلَا تَمْشُوا
عُرَاة) . وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) ، عَن
عَائِشَة يرفعهُ: (لَا يقبل اصلاة امْرَأَة قد حَاضَت
إِلَّا بخمار) . وَقَالَ ابْن بطال: أجمع أهل
التَّأْوِيل على أَن نُزُولهَا فِي الَّذين كَانُوا
يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَقَالَ ابْن رشد: من حمله
على النّدب قَالَ: المُرَاد بذلك الزِّينَة
الظَّاهِرَة من الرِّدَاء وَغَيره من الملابس الَّتِي
هِيَ زِينَة، مستدلاً بِمَا فِي الحَدِيث أَنه كَانَ
رجال يصلونَ مَعَ النَّبِي عاقدي أزرهم على أَعْنَاقهم
كيهئة الصّبيان، وَمن حمله على الْوُجُوب اسْتدلَّ
بِحَدِيث مُسلم عَن ابْن عَبَّاس: (كَانَت الْمَرْأَة
تَطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة فَتَقول: من يعيرني
تطوافاً؟ وَتقول:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله))
فَنزلت {خُذُوا زينتكم} (الْأَعْرَاف: 13) .
وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَة بنِ الأَكْوَعِ أنَّ النبيَّ
قَالَ: (يَزُرُّهُ ولَوْ بِشَوْكَةٍ) .
هَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد: حدّثنا القعْنبِي حدّثنا
عبد الْعَزِيز يَعْنِي ابْن مُحَمَّد عَن مُوسَى بن
إِبْرَاهِيم عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ: (قلت:
يَا رَسُول اإني رجل أصيد أفأصلي فِي الْقَمِيص
الْوَاحِد؟ قَالَ: نعم، وَإِزَاره وَلَو بشوكة)
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا قَوْله: (أفأصلي) ؟
الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، فَلذَلِك قَالَ فِي
جَوَابه: نعم، أَي: صل. قَوْله: (وَلَو بشوكة) الْبَاء
فِيهِ تتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: وَلَو أَن تزره
بشوكة، وَهَذِه اللَّفْظَة فِيمَا ذكره البُخَارِيّ
بِالْإِدْغَامِ على صِيغَة الْمُضَارع، وَفِي رِوَايَة
أبي دَاوُد بالفك على صِيغَة الْأَمر، من زريزر، من
بَاب نصر ينصر، وَيجوز فِي الْأَمر الحركات الثَّلَاث
فِي الرَّاء، وَيجوز الفك أَيْضا فَهِيَ أَرْبَعَة
أَحْوَال، كَمَا فِي مد الْأَمر، وَيجوز فِي مضارعه
الضَّم وَالْفَتْح والفك. وَقَالَ ابْن سَيّده: الزر
الَّذِي يوضع فِي الْقَمِيص، وَالْجمع أزرار وزرور،
وأزر الْقَمِيص جعل لَهُ زراً وأزره شدّ عَلَيْهِ
أزراره. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: زر الْقَمِيص إِذا
كَانَ محلولاً فشده، وزر الرجل شدّ زره، وَأورد
البُخَارِيّ هَذَا للدلالة على وجوب ستر الْعَوْرَة،
وللإشارة إِلَى أَن المُرَاد بِأخذ الزِّينَة فِي
الْآيَة السَّابِقَة لبس الثِّيَاب لَا تزيينها
وتحسينها، إِنَّمَا أَمر بالزر ليأمن من الْوُقُوع عَن
بدنه، وَمن وُقُوع نظره على عَوْرَته من زيقه حَالَة
الرُّكُوع، وَمن هَذَا أَخذ مُحَمَّد بن شُجَاع من
أَصْحَابنَا أَن من نظر إِلَى عَوْرَته من زيقه تفْسد
صلَاته، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ.
أَي: وَفِي إِسْنَاد الحَدِيث الْمَذْكُور نظر، وَجه
النّظر من مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، وَزعم ابْن
الْقطَّان أَنه مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن
الْحَارِث التَّيْمِيّ، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث،
فَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَرَادَهُ. فَلذَلِك قَالَ: فِي
إِسْنَاده نظر، وَذكره مُعَلّقا بِصِيغَة التمريض،
وَلَكِن أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَن نصر
بن عَليّ عَن عبد الْعَزِيز عَن مُوسَى بن
إِبْرَاهِيم، قَالَ: سَمِعت سَلمَة، وَفِي رِوَايَة:
(وَلَيْسَ على إلاَّ قَمِيص وَاحِد، أوجبه وَاحِدَة،
فأزره؟ قَالَ: نعم وَلَو بشوكة) . وَرَوَاهُ ابْن
حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) : عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم حدّثنا ابْن أبي عمر حدّثنا عبد الْعَزِيز
بن مُحَمَّد عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد
الرَّحْمَن بن ربيعَة عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع،
(4/54)
(قلت: يَا رَسُول اإني أكون فِي الصَّيْد،
وَلَيْسَ عليَّ إلاَّ قَمِيص وَاحِد قَالَ: فأزرره
وَلَو بشوكة) . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه)
قَالَ: وَهَذَا حَدِيث مدنِي صَحِيح، فَظهر بِهَذِهِ
الرِّوَايَة أَن مُوسَى هَهُنَا غير مُوسَى ذَاك
الَّذِي ظَنّه ابْن الْقطَّان، وَفِيه ضعف أَيْضا،
لكنه دون ذَاك وروى الطَّحَاوِيّ: حدّثنا ابْن أبي
دَاوُد، قَالَ: حدّثنا ابْن قُتَيْبَة، قَالَ: أخبرنَا
الداراوردي عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن
أَبِيه عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَهَذَا اخْتِلَاف
آخر. وَقَالَ بَعضهم: من صحّح هَذَا الحَدِيث فقد
اعْتمد على رِوَايَة الدَّرَاورْدِي. قلت: يجوز أَن
يكون وَجه ذَلِك اعْتِمَادًا على رِوَايَة مُوسَى بن
إِبْرَاهِيم المَخْزُومِي، لَا على رِوَايَة مُوسَى بن
إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، والمخزومي هُوَ مُوسَى بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد ابْن أبي ربيعَة
بن عبد ابْن عمر بن مَخْزُوم الْقرشِي المَخْزُومِي،
وَهَذَا هُوَ الْوَجْه فِي تَصْحِيح من صَححهُ،
وَيشْهد لما قُلْنَا رِوَايَة ابْن حبَان، وَلَا يبعد
أَن يكون كل وَاحِد من المَخْزُومِي والتيمي روى هَذَا
الحَدِيث عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَحمل عَنْهُمَا
الدَّرَاورْدِي وَرَوَاهُ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل:
ذكر مُحَمَّد فِيهِ شَاذ. قلت: حكمه بشذوذه إِن كَانَ
من جِهَة انْفِرَاد الطَّحَاوِيّ بِهِ فَلَيْسَ
بِشَيْء، لِأَن الشاذ من ثِقَة مَقْبُول.
ومَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ
مَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذىً.
قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ من تَتِمَّة التَّرْجَمَة،
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا مِنْهُ دَال
على الِاكْتِفَاء بِالظَّنِّ فِيمَا يُصَلِّي فِيهِ
لَا الْقطع، وَقَالَ بَعضهم، يُشِير، إِلَى مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَصَححهُ ابْن
خُزَيْمَة وَابْن حبَان من طَرِيق مُعَاوِيَة بن أبي
سُفْيَان: (أَنه سَأَلَ اخته أم حَبِيبَة: هَل كَانَ
رَسُول الله يُصَلِّي فِي الثَّوْب الَّذِي يُجَامع
فِيهِ؟ قَالَت: نعم إِذا لم ير فِيهِ أَذَى) . قلت:
لما قَالَه الْكرْمَانِي وَجه لِأَنَّهُ اقتبس هَذَا
من الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ إِدْخَاله
فِي تَرْجَمَة الْبَاب، وَهَذَا كَمَا رَأَيْته قد
أَخذ من ثَلَاثَة أَحَادِيث وأدخلها فِي تَرْجَمَة
الْبَاب. الأول: حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَقد
مر. وَالثَّانِي: حَدِيث أم حَبِيبَة، أخرجه أَبُو
دَاوُد، وَقَالَ: حدّثنا عِيسَى بن حَمَّاد
الْمصْرِيّ، قَالَ: حدّثنا اللَّيْث عَن يزِيد بن أبي
حبيب عَن سُوَيْد بن قيس عَن مُعَاوِيَة بن خديج عَن
مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: (أَنه سَأَلَ أُخْته أم
حَبِيبَة، زوج النَّبِي، هَل كَانَ رَسُول ا، يُصَلِّي
فِي الثَّوْب الَّذِي يُجَامِعهَا فِيهِ؟ فَقَالَت:
نعم إِذا لم ير فِيهِ أَذَى) . وَأخرجه النَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه. وَالثَّالِث: حَدِيث أبي هُرَيْرَة،
رَضِي اتعالى عَنهُ، على مَا نذكرهُ عَن قريب. قَوْله:
(مَا لم ير فِيهِ أَذَى) ، سقط لَفْظَة: فِيهِ، من
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي، وَفِي رِوَايَة:
(إِذا لم ير فِيهِ دَمًا) والأذى: النَّجَاسَة.
وَأَمَرَ النبيُّ أَنْ لاَ يَطُوفَ بالبَيْتِ عرْيانٌ.
وَفِي بعض النّسخ: وَأمر النَّبِي، هَذَا أَيْضا
اقتباس من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَقد وَصله
البُخَارِيّ فِي الْبَاب الثَّامِن بعد هَذَا الْبَاب،
قَالَ: (بَعَثَنِي أَبُو بكر فِي تِلْكَ الْحجَّة فِي
مؤذنين يَوْم النَّحْر نؤذن بمنى: أَن لَا يحجّ بعد
الْعَام مُشْرك، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان) .
وَاسْتدلَّ بِهِ على اشْتِرَاط ستر الْعَوْرَة فِي
الصَّلَاة لِأَنَّهُ إِذا كَانَ شرطا فِي الطّواف
الَّذِي هُوَ يشبه الصَّلَاة، فاشتراطه فِي الصَّلَاة
أولى وأجدر. وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بذلك إِلَى
حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ
التَّصْرِيح بِالْأَمر. قلت: قد ذكرت لَك أَن هَذَا
اقتباس، والاقتباس هَهُنَا اللّغَوِيّ لَا الاصطلاحي،
لِأَن الاصطلاحي هُوَ أَن يضمن الْكَلَام شَيْئا من
الْقُرْآن أَو الحَدِيث، لَا على أَنه مِنْهُ،
وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك، بل المُرَاد هَهُنَا أَخذ
شَيْء من الحَدِيث وَالِاسْتِدْلَال بِهِ على حكم،
كَمَا كَانَ يسْتَدلّ بِهِ من الحَدِيث الْمَأْخُوذ
مِنْهُ، فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور يدل على
اشْتِرَاط ستر الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة بِالْوَجْهِ
الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ يتَضَمَّن أَمر أبي بكر،
وَأمر أبي بكر بذلك من أَمر النَّبِي. وَأخذ
البُخَارِيّ من ذَلِك المتضمن صُورَة أَمر، فَقَالَ:
وَأمر رَسُول الله أَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان،
وَاقْتصر من الحَدِيث على هَذَا لِأَنَّهُ هُوَ
الَّذِي يُطَابق تَرْجَمَة الْبَاب. فَافْهَم.
فَإِنَّهُ دَقِيق لم يُنَبه عَلَيْهِ أحد من
الشُّرَّاح. قَوْله: (أَن لَا يطوف) بِالنّصب
لِأَنَّهُ فِي الحَدِيث الْمَأْخُوذ مِنْهُ عطف على
الْمَنْصُوب. وَهُوَ قَوْله: (أَن لَا يحجّ بعد
الْعَام مُشْرك) .
15371 - ح دّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا
يَزِيدُ بنُ إبْراهيمَ عنْ مُحَمدٍ عَن أُمِّ عَطِيَّة
(4/55)
قالَتْ أُمِرْنا أنْ نُخْرِجَ الحُيَّضَ
يَوْمَ العِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الخُدُورِ فَيَشْهْدْنَ
جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ وَيَعْتَزِلُ
الحُيَّضُ عَنْ مُصَلاَّهُنَّ قالَتِ امْرَأَةٌ يَا
رسولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ
قَالَ (لتُلْبِسْها صَاحِبَتُها مِنْ جِلْبَابِها) .
(انْظُر الحَدِيث 423) .
مطبابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لتلبسها صاحبتها
من جلبابها) لِأَنَّهُ أكد باللبس حَتَّى بالعارية
لِلْخُرُوجِ إِلَى صَلَاة الْعِيدَيْنِ، فَإِذا كَانَ
لِلْخُرُوجِ إِلَى الْعِيد هَكَذَا، فلأجل الْفَرْض
يكون بِالطَّرِيقِ الأولى، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي
كتاب الطَّهَارَة فِي بَاب شُهُود الْحَائِض
الْعِيدَيْنِ بأتم من هَذَا، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ
متسوفىً. وَيزِيد بن إِبْرَاهِيم هُوَ: التسترِي أَبُو
سعيد الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ
وَمِائَة، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَرِجَال
الْإِسْنَاد كلهم بصريون. قَوْله: (أمرنَا) بِضَم
الْهمزَة، وَلمُسلم من طَرِيق هِشَام عَن حَفْصَة:
(عَن أم عَطِيَّة قَالَت: أمرنَا رَسُول ا) . قَوْله:
(الْحيض) بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء، جمع
حَائِض. قَوْله: (يَوْم الْعِيدَيْنِ) ، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (يَوْم الْعِيد)
بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (عَن مصلاهن) ، أَي: عَن مصلى
النِّسَاء اللَّاتِي لسن بحيض، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي؛ (عَن مصلاهم) ، بالتذكير على التغليب،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني؛ (عَن الْمصلى)
بِالْإِفْرَادِ، وَهُوَ، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام:
مَوضِع الصَّلَاة. قَوْله: (قَالَت امْرَأَة) هَذِه
الْمَرْأَة هِيَ أم عَطِيَّة، وَكنت بِهِ عَن نَفسهَا،
وَفِي رِوَايَة: (قلت: يَا رَسُول اإحدانا) . قَوْله:
(إحدانا) مُبْتَدأ، أَي: بَعْضنَا، وَخَبره. قَوْله:
(لَيْسَ لَهَا جِلْبَاب) ، وَهُوَ بِكَسْر الْجِيم:
الملحفة. قَوْله: (لتلبسها) ، بِالْجَزْمِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَجاءٍ حدّثنا عِمْرانُ
حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ حَدَّثتنَا أُمُّ
عَطِيَّةَ سَمِعْتُ النبيَّ بهَذَا.
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرَانِيّ: حدّثنا عَليّ
بن عبد الْعَزِيز عَن عبد ابْن رَجَاء، فَذكره.
وَفَائِدَته: تَصْرِيح مُحَمَّد بن سِيرِين بتحديث أم
عَطِيَّة لَهُ، وَبَطل بِهَذَا زعم بَعضهم من أَن
مُحَمَّدًا إِنَّمَا سَمعه من أُخْته حَفْصَة عَن أم
عَطِيَّة، لِأَنَّهُ تقدم قبل رِوَايَته لَهُ عَن
حَفْصَة أُخْته عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الدَّاودِيّ
الصَّحِيح رِوَايَة ابْن سِيرِين عَن أم عَطِيَّة
وَعبد ابْن رَجَاء بِالْمدِّ هُوَ الغداني، بِضَم
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة
وَبعد الْألف نون: نِسْبَة إِلَى غُدَانَة، وَهُوَ
أَشْرَس بن يَرْبُوع بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد
مَنَاة بن تَمِيم، هَكَذَا وَقع فِي أَكثر
الرِّوَايَات: عبد ابْن رَجَاء، بِدُونِ النِّسْبَة،
وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ: الغداني، وَقد وهم من قَالَ:
إِنَّه عبد ابْن رَجَاء الْمَكِّيّ وَعمْرَان
الْمَذْكُور هُوَ الْقطَّان، وَا أعلم.
3 - (بابُ عَقْدِ الإِزَارِ عَلَى القَفَا فِي
الصَّلاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان، عقد الْمُصَلِّي إزَاره
على قَفاهُ، وَالْحَال أَنه دَاخل فِي الصَّلَاة،
والقفا: مَقْصُور، مُؤخر الْعُنُق يذكر وَيُؤَنث،
وَالْجمع قفي، مثل؛ عصي جمع عَصا. وَقد جَاءَ أقفية،
على غير قِيَاس.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب
الَّذِي قبله وَبَين الْأَبْوَاب الْخَمْسَة عشر
الَّتِي بعده ظَاهر، لِأَن الْكل فِي أَحْكَام
الثِّيَاب، غير أَنه تخَلّل فِيهَا خَمْسَة أَبْوَاب
ذكرهَا وَهِي غير مُتَعَلقَة بِأَحْكَام الثِّيَاب.
وَهِي: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ. وَبَاب الصَّلَاة
فِي الْمِنْبَر والسطوح والخشب. وَبَاب: الصَّلَاة على
الْحَصِير. وَبَاب: الصَّلَاة على الْخمْرَة. وَبَاب:
الصَّلَاة على الْفراش.
أما مُنَاسبَة بَاب الْفَخْذ بِالْبَابِ الَّذِي قبله،
هُوَ أَن الْمَذْكُور فِيهِ هُوَ الصَّلَاة فِي ثوب
ملتحفاً بِهِ لستر الْعَوْرَة، وَالْمَذْكُور فِي
الَّذِي بعده حكم الْفَخْذ، وَهُوَ أَنه عَورَة،
فَإِذا كَانَ عَورَة يجب ستره، والستر إِنَّمَا يكون
بالثياب فتحققت الْمُنَاسبَة بَينهمَا من هَذَا
الْوَجْه. وَأما مُنَاسبَة بَاب الصَّلَاة فِي
الْمِنْبَر بِالْبَابِ الَّذِي قبله هِيَ: أَن
الثَّوْب فِيهِ مستعل على الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ،
فالمناسبة من حَيْثُ الاستعلاء متحققة، وَإِن كَانَ
الاستعلاء فِي نَفسه مُخْتَلفا. وَأما: الْمُنَاسبَة
بَين الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة، وَهِي: بَاب الصَّلَاة
على الْحَصِير، وَبَاب الصَّلَاة على الْخمْرَة
والفراش، فظاهرة جدا.
وَبَقِي وَجه: تخَلّل بَاب إِذا أصَاب ثوب الْمُصَلِّي
امْرَأَته إِذا سجد، وَوجه ذَلِك أَن السَّجْدَة فِيهِ
كَانَت على الْخمْرَة، وَفِي الْبَاب الَّذِي قبله
كَانَ على الْمِنْبَر
(4/56)
أَو السطوح، وكل مِنْهُمَا مَسْجِد بِفَتْح
الْمِيم فالمناسبة من هَذِه الْجِهَة مَوْجُودَة. على
أَنا نقُول: إِن هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا
إقناعية ولسيت ببرهانية، والاستئناس فِي مثل هَذَا
بِأَدْنَى شَيْء كافٍ.
وَقَالَ أبُو حازِمٍ عَنْ سَهْلٍ صَلَّوْا مَعَ
النبيِّ عاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ.
هَذَا تَعْلِيق أخرجه المُصَنّف مُسْندًا فِي الْبَاب
الثَّالِث، وَهُوَ بَاب إِذا كَانَ الثَّوْب ضيقا: عَن
مُسَدّد حدّثنا يحيى عَن سُفْيَان، قَالَ: حدّثنا
أَبُو حَازِم عَن سهل. ومطابقته للتَّرْجَمَة
ظَاهِرَة، وَإِنَّمَا ذكر بعض هَذَا الحَدِيث هَهُنَا
مُعَلّقا، مَعَ أَنه ذكره بِتَمَامِهِ فِي الْبَاب
الثَّالِث، لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَذكر
هَذِه التَّرْجَمَة لتأكيد ستر الْعَوْرَة، لِأَنَّهُ
إِذا عقد إزَاره فِي قَفاهُ وَركع لم تبد عَوْرَته.
وَقَالَ ابْن بطال: عقد الْإِزَار على الْقَفَا إِذا
لم يكن مَعَ الْإِزَار سَرَاوِيل، وَأَبُو حَازِم،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسْمه سَلمَة بن
دِينَار الْأَعْرَج الزَّاهِد الْمدنِي، وَسَهل هُوَ
ابْن سعد السَّاعِدِيّ أَبُو الْعَبَّاس الْأنْصَارِيّ
الخزرجي، وَكَانَ اسْمه حزنا فَسَماهُ رَسُول الله
سهلاً، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَهُوَ آخر من
مَاتَ من الصَّحَابَة فِي الْمَدِينَة. قَوْله: (صلوا)
، فعل مَاض: (وعاقدي أزرهم) أَصله: عاقدين أزرهم،
فَلَمَّا أضيف سَقَطت مِنْهُ النُّون، وَهِي جملَة
حَالية، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عاقدوا أزرهم) ،
فعلى هَذَا هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: صلوا وهم
عاقدو أزرهم، والأزر، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون
الزَّاي: جمع إِزَار. وَفِي (الْمُحكم) الْإِزَار:
الملحفة، وَالْجمع أزرة وأزر حجازية، وأزر، تميمية،
وَهُوَ يذكر وَيُؤَنث. قَالَ الدَّاودِيّ: سمي إزاراً
لِأَنَّهُ يشد بِهِ الظّهْر. قَالَ تَعَالَى: {فآزره}
(:) وَهُوَ المئزر واللحاف والقرام والمقرم، والعواتق
جمع العاتق وَهُوَ مَوضِع الرِّدَاء من
الْمَنْكِبَيْنِ فيذكر وَيُؤَنث.
25381 - ح دّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدّثنا
عاصِمُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدّثني وَاقِدُ بنُ
مُحَمدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ قَالَ صَلَّى
جابِرٌ فِي إزَارٍ قَدَ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفاهُ
وثِيَابُهُ مَوُضُوعَةٌ عَلَى المِشْجَبِ قَالَ لَهُ
قَائِلٌ تصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ فَقَالَ إِنمَا
صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ
وَأَيُّنَا كانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْد النبيِّ.
(الحَدِيث 253.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس،
هُوَ: أَحْمد بن عبد ابْن يُونُس بن عبد ابْن قيس
التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي أَبُو عبد االكوفي، وينسب
إِلَى جده، مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي ربيع الأول سنة سبع
وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين،
وَقد تقدم ذكره فِي بَاب من قَالَ إِن الْإِيمَان هُوَ
الْعَمَل. الثَّانِي: هُوَ عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد
بن عبد ابْن عمر بن الْخطاب. الثَّالِث: وَاقد بن
مُحَمَّد أَخُو عَاصِم بن مُحَمَّد، وَهُوَ بِكَسْر
الْقَاف وبالدال الْمُهْملَة: القريشي الْعَدوي
الْعمريّ الْمدنِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن
الْمُنْكَدر التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، تقدم فِي بَاب
صب النَّبِي وضوءه. الْخَامِس: جَابر بن عبد
االأنصاري.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع
وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه:
رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ، وهما عَاصِم وواقد
فَإِنَّهُمَا أَخَوان ابْنا مُحَمَّد بن زيد بن عبد
ابْن عمر، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ من طبقَة وَاحِدَة
وهما: وَاقد وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر، وَهَذَا
الطَّرِيق انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ.
ذكر لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (من قبل قَفاهُ) ،
بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، بِمَعْنى:
الْجِهَة، كلمة: من، تتَعَلَّق بقوله: (عقده) وَهَذِه
الْجُمْلَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لإزار.
وَقَوله: (وثيابه مَوْضُوعَة) جملَة إسمية وَقعت
حَالا. قَوْله: (المشجب) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون
الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْجِيم وَفِي آخِره بَاء
مُوَحدَة: وَهُوَ ثَلَاث عيدَان يعْقد رؤوسها ويفرج
بَين قَوَائِمهَا تعلق عَلَيْهَا الثِّيَاب. وَفِي
(الْمُحكم) : الشجاب: خشبات موثقة مَنْصُوبَة تُوضَع
عَلَيْهَا الثِّيَاب، وَالْجمع: شجب، والمشجب كالشجاب،
وَهُوَ الخشبات الثَّلَاث الَّتِي يعلق عَلَيْهَا
الرَّاعِي دلوه وسقاه. وَفِي كتاب (الْمُنْتَهى فِي
اللُّغَة) يُقَال فلَان مثل المشجب من حَيْثُ أممته
وجدته. قلت: المشجب يُقَال لَهُ السيبة فِي لُغَة أهل
الْحَضَر، وَهِي بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَفِي آخِره هَاء. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ قَائِل) ،
ويروى: (قَالَ لَهُ) ، بِدُونِ: الْفَاء، وَوَقع فِي
مُسلم أَنه: عباد بن الْوَلِيد بن الصَّامِت. قَوْله:
(4/57)
(تصلي فِي إِزَار وَاحِد؟) التَّقْدِير:
أَتُصَلِّي؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل
الْإِنْكَار. قَوْله: (إِنَّمَا صنعت هَذَا) ، ويروى:
(إِنَّمَا صنعت ذَلِك) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا
فعله من صلَاته وَإِزَاره مَعْقُود على قَفاهُ، وثيابه
مَوْضُوعَة على المشجب. قَوْله: (ليراني) أَي: لِأَن
يراني. وَقَوله: (أَحمَق) ، بِالرَّفْع فَاعله،
وَمَعْنَاهُ: الْجَاهِل، وَهُوَ صفة مشبهة من الْحمق،
بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْمِيم، هُوَ قلَّة الْعقل،
وَقد حمق الرجل، بِالضَّمِّ، حَمَاقَة فَهُوَ أَحمَق.
وحمق أَيْضا بِالْكَسْرِ يحمق حمقاً، مثل: غنم غنما،
فَهُوَ حمق، وَامْرَأَة حمقاء، وَقوم ونسوة حمق وحمقى،
وأحمقت الرجل إِذا وجدته أَحمَق، وحمقته تحميقاً نسبته
إِلَى الْحمق، وحامقته إِذا ساعدته على حمقه واستحمقته
أَي: عددته أَحمَق، وتحامق فلَان إِذا تكلّف الحماقة.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَحَقِيقَة الْحمق وضع
الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه مَعَ الْعلم بقبحه. قَوْله:
(مثلك) بِالرَّفْع صفة أَحمَق، وَلَفْظَة: مثل، وَإِن
أضيفت إِلَى الْمعرفَة لَا يتعرف لتوغله فِي التنكير
إِلَّا إِذا أضيفت بِمَا اشْتهر بالمماثلة، وَهَهُنَا
لَيْسَ كَذَلِك، فَلذَلِك وَقعت صفة لنكرة، وَهُوَ
قَوْله: (أَحمَق) .
فَإِن قلت: اللَّام فِي قَوْله: (ليراني) للتَّعْلِيل
وَالْغَرَض، فَكيف وَجه جعل إراءته الأحمق غَرضا؟ قلت:
الْغَرَض بَيَان جَوَاز ذَلِك الْفِعْل فَكَأَنَّهُ
قَالَ: صَنعته ليراني الْجَاهِل فينكر عَليّ بجهله
فأُظهر لَهُ جَوَازه، وَإِنَّمَا أغْلظ عَلَيْهِ نسبته
إِلَى الحماقة لإنكاره على فعله؛ بقوله: (تصلي فِي
إِزَار وَاحِد؟) لِأَن همزَة الْإِنْكَار فِيهِ مقدرَة
على مَا ذكرنَا. قَوْله: (وأينا) اسْتِفْهَام يُفِيد
النَّفْي، ومقصوده بَيَان إِسْنَاد فعله إِلَى مَا
تقرر فِي عهد رَسُول ا.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فَمن ذَلِك جَوَاز الصَّلَاة
فِي الثَّوْب الْوَاحِد لمن يقدر على أَكثر مِنْهُ،
وَهُوَ قَول جمَاعَة الْفُقَهَاء، وَرُوِيَ عَن ابْن
عمر خلاف ذَلِك، وَكَذَا عَن ابْن مَسْعُود، فروى ابْن
أبي شيبَة عَنهُ: (لَا يصليّنَّ فِي ثوب وَإِن كَانَ
أوسع مِمَّا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) . وَقَالَ
ابْن بطال. إِن ابْن عمر لم يُتَابع على قَوْله. قلت:
فِيهِ نظر لِأَنَّهُ رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود مثل
قَول ابْن عمر كَمَا ذكرنَا، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد
أَيْضا أَنه للا يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد إلاَّ إِن
لَا يجد غَيره، نعم عَامَّة الْفُقَهَاء على خِلَافه،
وَفِيه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة جَابر وَأبي هُرَيْرَة وَعَمْرو بن أبي
سَلمَة. وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع رَضِي اتعالى
عَنْهُم. وَمن ذَلِك أَن الْعَالم يَأْخُذ بأيسر
الشَّيْء مَعَ قدرته على أَكثر مِنْهُ توسعة على
الْعَامَّة ليقتدى بِهِ. وَمن ذَلِك: لَا بَأْس
للْعَالم أَن يصف أحدا بالحمق إِذا عَابَ عَلَيْهِ مَا
غَابَ عَنهُ علمه من السّنة. وَفِيه: جَوَاز
التَّغْلِيظ فِي الْإِنْكَار على الْجَاهِل.
35391 - ح دّثنا مُطَرِّفٌ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ
حدّثنا عَبْدُ الرَّحمْنِ بنُ أبي المَوَالِي عَنْ
مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ قَالَ رَأَيْتُ جابِرَ بنَ
عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ
رَأَيْتُ النبيَّ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ. .
هَذِه طَريقَة أُخْرَى لحَدِيث جَابر رَضِي اتعالى
عَنهُ، وفيهَا الرّفْع إِلَى النَّبِي وَأَن الصَّلَاة
فِي ثوب وَاحِد وَقعت من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كَمَا ذكرهَا لِأَنَّهَا أوقع فِي
النَّفس وأصرح فِي الرّفْع من الطَّرِيقَة الأولى.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ دلَالَة هَذَا
الحَدِيث على التَّرْجَمَة؟ قلت: أما أَنه مخروم من
الحَدِيث السَّابِق، وَإِمَّا أَنه يدل عَلَيْهِ
بِحَسب الْغَالِب، إِذْ لَوْلَا عقده على الْقَفَا لما
ستر الْعَوْرَة غَالِبا، وَأنكر بَعضهم على
الْكرْمَانِي فِي هَذَا السُّؤَال وَجَوَابه، وَقَالَ:
وَلَو تَأمل لَفظه وسياقه بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب
لعرف اندفاع احتماليه، فَإِنَّهُ طرف من الحَدِيث
الْمَذْكُور هُنَاكَ لَا من السَّابِق، وَلَا ضَرُورَة
لما ادَّعَاهُ من الْغَلَبَة، فَإِن لَفظه: (وَهُوَ
يُصَلِّي فِي ثوب ملتحفاً بِهِ) ، وَهِي قصَّة أُخْرَى
كَانَ الثَّوْب فِيهَا وَاسِعًا، فالتحف بِهِ. وَكَانَ
فِي الأول ضيقا فعقده. قلت: لَا هُوَ مخروم من
الحَدِيث السَّابِق، وَلَا هُوَ طرف من الحَدِيث
الْمَذْكُور فِي الْبَاب الثَّامِن، بل كل وَاحِد
حَدِيث مُسْتَقل بِذَاتِهِ. ومطرف، بِضَم الْمِيم
وَفتح الطَّاء وَكسر الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي
آخِره فَاء: ابْن عبد ابْن سُلَيْمَان الْأَصَم أَبُو
مُصعب الْمدنِي مولى أم الْمُؤمنِينَ وَهُوَ صَاحب
مَالك، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ. وَعبد
الرَّحْمَن: هُوَ ابْن زيد بن أبي الموَالِي، بِفَتْح
الْمِيم على وزن: الْجَوَارِي، وَفِي بعض النّسخ:
الموال، بِدُونِ الْيَاء.
4 -
(4/58)
(بابُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ
مُلْتَحِفاً بهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة من يُصَلِّي فِي
الثَّوْب الْوَاحِد حَال كَونه ملتحفاً بِهِ.
الالتحاف، لُغَة: التغطي، وكل شَيْء تغطيت بِهِ فقد
التحفت بِهِ، وَقَالَ اللَّيْث: اللحف تغطيتك الشَّيْء
باللحاف، وَقَالَ غَيره: لحفت الرجل ألحفه لحفاً: إِذا
طرحت عَلَيْهِ اللحاف، أَو غطيته بِشَيْء، وتلحفت:
اتَّخذت لنَفْسي لحافاً.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ المُلتَحِفُ
المُتَوَشِّحُ وَهْوَ المُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ
عَلَى عاتِقَيْهِ وَهْوَ الإِشْتِمَالُ عَلَى
مَنْكِبَيْهِ.
13
- 50 أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ فِي حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ فِي الالتحاف
عَن سَالم بن عمر عَن عبد ابْن عمر، قَالَ: (رأى عمر
بن الْخطاب رجلا يُصَلِّي ملتحفاً، فَقَالَ لَهُ عمر،
رَضِي اتعالى عَنهُ، حِين سلم: لَا يصلينَّ أحدكُم
ملتحفاً، وَلَا تشبهوا باليهود) . رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ عَن ابْن أبي دَاوُد عَن عبد ابْن صَالح
عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بِهِ،
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حدّثنا عبد
الْأَعْلَى عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن
ابْن عمر: (أَن عمر بن الْخطاب رأى رجلا يُصَلِّي
ملتحفاً، فَقَالَ: لَا تشبهوا باليهود، من لم يجد
مِنْكُم إلاَّ ثوبا وَاحِدًا فليتزر بِهِ) . وَكَذَا
فِي حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ عَن سعيد عَن أبي
هُرَيْرَة، رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره.
قَوْله: (المتوشح) اسْم فَاعل من بَاب التفعل، من:
توشح يتوشح، والتوشح بِالثَّوْبِ: التغشي بِهِ،
وَالْأَصْل فِيهِ من الوشاح، وَهُوَ شَيْء ينسج عريضاً
من أَدِيم، وَرُبمَا رصع بالجواهر والخرز، وتشده
الْمَرْأَة بَين عاتقيها وكشحيها. وَيُقَال فِيهِ:
وشاح وإشاح، وَقَالَ ابْن سَيّده: التوشح أَن يتوشح
بِالثَّوْبِ ثمَّ يخرج الْأَيْسَر من تَحت يَده
الْيُمْنَى، ثمَّ يعْقد طرفيها على صَدره، وَقد وشحه
الثَّوْب. قَوْله: (وَهُوَ الْمُخَالف) أَي: المتوشح
هُوَ الَّذِي يُخَالف بَين طرفِي الثَّوْب، وأوضح
ذَلِك بقوله: (وَهُوَ الاشتمال على مَنْكِبَيْه) ،
وَالضَّمِير يرجع إِلَى التوشح الَّذِي يدل عَلَيْهِ
قَوْله: (المتوشح) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{أعدلوا هُوَ أقرب} (الْمَائِدَة: 8) والظاهرأن
الزُّهْرِيّ لما فسر الملتحف بالمتوشح عِنْد رِوَايَة
حَدِيثه فِيهِ، أوضحه البُخَارِيّ بقوله: وَهُوَ
الْمُخَالف. إِلَى آخِره.
قَالَ: قالَتْ أُمُّ هَانِىءٍ: التَحَفَ النبيُّ
بِثَوبٍ وخالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عاتِقَيْهِ.
13
- 50 هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ البُخَارِيّ مَوْصُولا
فِي هَذَا الْبَاب، وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ. (وَخَالف
بَين طَرفَيْهِ) ، وَفَائِدَة ذكر هَذَا هِيَ
الْإِشَارَة إِلَى أَن أم هانىء فسرت التحاف النَّبِي
بِثَوْب بقولِهَا: (وَخَالف بَين طَرفَيْهِ) وَقَالَ
ابْن بطال: وَفَائِدَة هَذِه الْمُخَالفَة فِي
الثَّوْب أَن لَا ينظر الْمُصَلِّي إِلَى عَورَة نَفسه
إِذا ركع. قلت: يجوز أَن تكون الْفَائِدَة أَيْضا أَن
لَا يسْقط إِذا ركع وَإِذا سجد.
وَأم هانىء، بالنُّون وبالهمزة: بنت أبي طَالب
القريشية الهاشمية، أُخْت عَليّ بن أبي طَالب، اسْمهَا
فَاخِتَة، وَقيل: هِنْد وَقد تقدم ذكرهَا.
45302 - حدّثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ موسَى قَالَ
حدّثنا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عُمَرَ
بنِ أبي سَلَمَةَ أنَّ النبيَّ صَلَّى فِي ثَوْبٍ
واحدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. (الحَدِيث 453
طرفاه فِي: 553، 653) .
مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله:
(قد خَالف بَين طَرفَيْهِ) هُوَ الالتحاف الَّذِي هُوَ
التوشح، والاشتمال على الْمَنْكِبَيْنِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: عبيد ا، بتصغير
العَبْد: بن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد
الْعَبْسِي، مَوْلَاهُم الْكُوفِي، قَالَ البُخَارِيّ:
مَاتَ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَقد مر
فِي بَاب دعاؤكم إيمَانكُمْ. الثَّانِي: هِشَام بن
عُرْوَة. الثَّالِث: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
الرَّابِع: عمر بن أبي سَلمَة، بِضَم الْعين، وَاسم
أبي سَلمَة: عبد االمخزومي أَبُو حَفْص، ربيب رَسُول
ا، ولد بِأَرْض الْحَبَشَة فِي السّنة الثَّانِيَة من
الْهِجْرَة، وَقبض زمَان عبد الْملك بن مَرْوَان
بِالْمَدِينَةِ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ لِأَن
هشاماً تَابِعِيّ روى عَن أَبِيه وَهُوَ تَابِعِيّ
وروى هُوَ عَن صَحَابِيّ، وَهَذَا سَنَد عَال جدا يشبه
سَنَد الثلاثيات، وَلَو كَانَ هِشَام يرويهِ عَن
صَحَابِيّ لَكَانَ ثلاثياً حَقِيقَة. لِأَنَّهُ يكون
حينئذٍ بَين البُخَارِيّ وَبَين
(4/59)
الصَّحَابِيّ اثْنَيْنِ، فَيكون: ثلاثياً،
وَهنا بَينه وَبَين الصَّحَابِيّ: ثَلَاثَة، فَيُشبه
الثلاثي من جِهَة الْعُلُوّ، وَلَيْسَ بثلاثي
حَقِيقَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه
البُخَارِيّ من ثَلَاثَة طرق عَن عبيد ابْن مُوسَى،
وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن عبيد ابْن
إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن
يحيى بن يحيى، وَعَن أبي كريب، وَعَن أبي بكر بن أبي
شيبَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث،
وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَابْن ماجة
عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع، الْكل عَن
هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه بِهِ. وَبَقِيَّة
الْكَلَام ظَاهِرَة.
53312 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ
حدّثنا يَحْيَى قَالَ حدّثنا هِشَامٌ قالَ حدّثني أبي
عَنْ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمَة أنَّهُ رَأَى النبيَّ
يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ
سَلَمَةَ قَدْ ألْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عاتِقَيْهِ.
هَذِه طَريقَة أُخْرَى فِي الحَدِيث الْمَذْكُور،
وَلكنهَا أنزل دَرَجَة من الطَّرِيقَة الأولى،
وَفَائِدَة هَذِه الطَّرِيقَة أَن فِيهَا التَّصْرِيح
عَن عمر بن أبي سَلمَة أَنه رأى النَّبِي يُصَلِّي فِي
ثوب وَاحِد، وفيهَا زِيَادَة وَهِي قَوْله: (فِي بَيت
أم سَلمَة) . وَفَائِدَة هَذِه الزِّيَادَة تعْيين
الْمَكَان الَّذِي يُؤَيّد التَّصْرِيح الْمَذْكُور.
وَرِجَاله المذكورون قد مروا غير مرّة، وَيحيى هُوَ
الْقطَّان، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ وَاسْمهَا
هِنْد بنت أبي أُميَّة. وَقد مرت غير مرّة، وَهِي أم
عمر بن أبي سَلمَة الْمَذْكُور. هَذِه طَريقَة أُخْرَى
فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بالنزول عَن عبيد بِضَم
الْعين مُصَغرًا ابْن إِسْمَاعِيل وَيُقَال اسْمه عبد
الله وَيعرف بعبيد أَبُو مُحَمَّد الْهَبَّاري بِفَتْح
الْهَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْكُوفِي
مَاتَ سنة خمس وَمِائَتَيْنِ يروي عَن أبي أُسَامَة
حَمَّاد بن أُسَامَة وَقد تقدم فِي بَاب فضل من علم
وَفِي هَذِه الطَّرِيقَة فَائِدَتَانِ ليستا فِي
الطريقتين الْأَوليين إِحْدَاهمَا أَن فِيهَا تَصْرِيح
هِشَام عَن أَبِيه بِأَن عمر أخبرهُ وَفِي الطريقتين
الْأَوليين العنعنة وَالْأُخْرَى فِيهَا ذكر لفظ
الاشتمال وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة تَفْسِير قَوْله " قد
خَالف بَين طَرفَيْهِ وَألقى طَرفَيْهِ على عَاتِقيهِ
" وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق
صِحَاح الأولى عَن أبي بكرَة قَالَ حَدثنَا روح بن
عبَادَة قَالَ حَدثنَا هِشَام بن حسان وَشعْبَة عَن
هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عمر بن أبي سَلمَة "
أَنه رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد فِي بَيت أم
سَلمَة ". الثَّانِيَة عَن يُونُس عَن ابْن وهب عَن
مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه " عَن عمر بن
أبي سَلمَة أَنه رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد فِي
بَيت أم سَلمَة وَاضِعا طَرفَيْهِ على عَاتِقيهِ "
الثَّالِثَة عَن ابْن أبي دَاوُد قَالَ حَدثنَا ابْن
أبي مَرْيَم وَعبد الله بن صَالح قَالَ حَدثنَا
اللَّيْث بن سعد عَن يحيى بن سعيد عَن أبي أُمَامَة بن
سهل عَن عمر بن أبي سَلمَة قَالَ " رَأَيْت النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي
ثوب وَاحِد ملتحفا بِهِ " وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن
قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن يحيى بن
سعيد إِلَى آخِره وَلَفظه فِي آخِره " مُخَالفا بَين
طَرفَيْهِ على مَنْكِبَيْه ". الرَّابِعَة مثل
رِوَايَة أبي دَاوُد عَن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن
حَدثنَا عبد الله بن صَالح حَدثنِي اللَّيْث قَالَ
حَدثنِي يحيى بن سعيد عَن أبي أُمَامَة بن سهل عَن عمر
بن أبي سَلمَة قَالَ " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب
وَاحِد ملتحفا بِهِ مُخَالفا بَين طَرفَيْهِ على
مَنْكِبَيْه " قَوْله " يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد "
جملَة فعلية فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان
لقَوْله " رَأَيْت " قَوْله " مُشْتَمِلًا " بِالنّصب
على الْحَال من الرَّسُول هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين
وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي بِالْجَرِّ أَو
الرّفْع فَوجه الْجَرّ للمجاورة وَوجه الرّفْع على
أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير وَهُوَ
مُشْتَمل بِهِ قَوْله " فِي بَيت أم سَلمَة " أما ظرف
لقَوْله يُصَلِّي أما للاشتمال وَأما لَهما وَقَالَ
ابْن بطال التوشح نوع من الاشتمال تجوز الصَّلَاة بِهِ
وَالْفُقَهَاء مجمعون على جَوَاز الصَّلَاة فِي ثوب
وَاحِد وَقد رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود
(4/60)
خلاف ذَلِك (قلت) ذهب طَاوس وَإِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَعبد الله بن وهب من
أَصْحَاب مَالك وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى
أَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد مَكْرُوهَة إِذا كَانَ
قَادِرًا على ثَوْبَيْنِ وَإِن لم يكن قَادِرًا إِلَّا
على ثوب وَاحِد يكره أَيْضا أَن يُصَلِّي بِهِ ملتحفا
مُشْتَمِلًا بِهِ بل السّنة أَن يأتزر بِهِ
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ
قَالَ حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد قَالَ حَدثنَا زُهَيْر
بن عباد قَالَ حَدثنَا حَفْص بن ميسرَة عَن مُوسَى بن
عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا
صلى أحدكُم فليلبس ثوبيه فَإِن الله أَحَق من تزين
لَهُ فَإِن لم يكن لَهُ ثَوْبَان فليتزر إِذا صلى
وَلَا يشْتَمل أحدكُم فِي صلَاته اشْتِمَال الْيَهُود
" وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَذهب جُمْهُور أهل
الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَن
الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد تجوز وَالَّذين ذَهَبُوا
إِلَى ذَلِك جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم ابْن عَبَّاس
وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعلي بن
أبي طَالب وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأنس بن
مَالك وخَالِد بن الْوَلِيد وَجَابِر بن عبد الله
وعمار بن يَاسر وَأبي بن كَعْب وَعَائِشَة وَأَسْمَاء
وَأم هَانِيء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَمن
التَّابِعين الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين
وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن
عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَعَطَاء
بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم وَمن الْفُقَهَاء أَبُو يُوسُف
وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة
وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بالأحاديث الْمَذْكُورَة فِي
هَذَا الْبَاب وَقَالَ الطَّحَاوِيّ تَوَاتَرَتْ
الْأَحَادِيث وَتَتَابَعَتْ بِجَوَاز الصَّلَاة فِي
الثَّوْب الْوَاحِد متوشحا بِهِ فِي حَال وجود غَيره
من الثِّيَاب وَأخرج فِي ذَلِك عَن أحد عشر صحابيا وهم
أَبُو هُرَيْرَة وطلق بن عَليّ وَجَابِر بن عبد الله
وَعبد الله بن عمر وَعمر بن أبي سَلمَة وَسَلَمَة بن
الْأَكْوَع وَعبد الله بن عَبَّاس وَأبي بن كَعْب
وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأنس بن مَالك وَأم هَانِيء
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ
حَدِيث عمر بن أبي سَلمَة فِي الصَّلَاة فِي ثوب
وَاحِد قَالَ وَفِي الْكتاب عَن أبي هُرَيْرَة
وَجَابِر وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَأنس وَعَمْرو ابْن
أبي أَسد وَأبي سعيد وكيسان وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة
وَأم هَانِيء وعمار بن يَاسر وطلق بن عَليّ وَعبادَة
بن الصَّامِت رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (قلت) وَفِي
الْبَاب أَيْضا عَن حُذَيْفَة وَعبد الله بن أبي
أُميَّة وَعبد الله بن أبي أنيس وَعبد الله بن سرجس
وَعبد الله بن عبد الله بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي
وَعلي بن أبي طَالب ومعاذ بن جبل وَمُعَاوِيَة بن أبي
سُفْيَان وَأبي أُمَامَة وَأبي عبد الرَّحْمَن حاضن
عَائِشَة وَأم حَبِيبَة وَأم الْفضل وَرجل لم يسم
فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد البُخَارِيّ وَأبي
دَاوُد وَحَدِيث طلق بن عَليّ عِنْد أبي دَاوُد
والطَّحَاوِي وَحَدِيث جَابر عِنْد الطَّحَاوِيّ
وَالْبَزَّار وَحَدِيث عبد الله بن عمر عِنْد
الطَّحَاوِيّ وَحَدِيث عمر بن أبي سَلمَة عِنْد
البُخَارِيّ وَغَيره وَحَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع
عِنْد أبي دَاوُد والطَّحَاوِي وَحَدِيث أم هَانِيء
عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره وَحَدِيث عبد الله بن
عَبَّاس عِنْد الطَّحَاوِيّ وَحَدِيث أبي بن كَعْب
عِنْد ابْن أبي شيبَة والطَّحَاوِي وَحَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ عِنْد ابْن ماجة والطَّحَاوِي وَحَدِيث
أنس بن مَالك عِنْد أَحْمد والطَّحَاوِي وَحَدِيث
عَمْرو بن أبي أَسد عِنْد الْبَغَوِيّ فِي مُعْجم
الصَّحَابَة وَالْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده
وَحَدِيث كيسَان عِنْد ابْن ماجة وَحَدِيث عَائِشَة
عِنْد أبي دَاوُد وَحَدِيث عمار بن يَاسر عِنْد (1)
وَحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت عِنْد الطَّبَرَانِيّ
فِي الْكَبِير وَحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد أَحْمد
وَحَدِيث عبد الله بن أبي أُميَّة عِنْد
الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَحَدِيث عبد الله بن
أبي أنيس عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَحَدِيث عبد
الله بن سرجس عِنْده أَيْضا وَحَدِيث عبد الله بن عبد
الله الْمُغيرَة عِنْد أَحْمد وَحَدِيث عَليّ بن أبي
طَالب عِنْد الطَّبَرَانِيّ. وَحَدِيث معَاذ عِنْده
أَيْضا وَحَدِيث مُعَاوِيَة عِنْده أَيْضا وَحَدِيث
أبي أُمَامَة عِنْده أَيْضا وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن
حاضن عَائِشَة عِنْده أَيْضا فِي الْأَوْسَط وَحَدِيث
أم حَبِيبَة عِنْد أَحْمد وَحَدِيث أم الْفضل عِنْده
أَيْضا وَحَدِيث الرجل الَّذِي لم يسم عِنْده أَيْضا
فَمن أَرَادَ أَن يقف على متون أَحَادِيثهم بأسانيدها
فَعَلَيهِ بشرحنا شرح مَعَاني الْآثَار. وَأما
الْجَواب عَمَّا احتجت بِهِ الطَّائِفَة الأولى من
حَدِيث عبد الله بن عمر فَهُوَ أَن ابْن عمر روى عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِبَاحَة الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد أخرجه الطَّحَاوِيّ
عَن أبي بكرَة عَن روح عَن زَمعَة بن صَالح قَالَ
سَمِعت ابْن شهَاب يحدث عَن سَالم عَن أَبِيه عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل
مَا روى البُخَارِيّ عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ فَظهر من هَذَا أَن حَدِيثه ذَاك فِي
اسْتِعْمَال الْأَفْضَل فَبِهَذَا يرْتَفع الْخلاف
بَين روايتيه وَكَذَلِكَ كل مَا رُوِيَ فِي هَذَا
الْبَاب من منع الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد فَهُوَ
مَحْمُول على الْأَفْضَل لَا على عدم الْجَوَاز وَقيل
هُوَ مَحْمُول على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم
(4/61)
75332 - ح دّثنا إسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ
قَالَ حدّثني مالِكُ بنُ أنسٍ عَنْ أبي النَّضْرِ
مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أنَّ أَبَا
مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هانِىءٍ بِنْتِ أبي طالِبٍ
أخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هانِىءٍ بِنْتَ أبي
طالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رسولِ الله عامَ
الفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وفاطِمَةُ ابْنَتُهُ
تَسْتُرُهُ قالَتْ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فقالَ مَنْ
هَذِهِ فَقُلْتُ أَنا أُمُّ هَانِيءٍ بِنْتُ أبي
طالِبٍ فقالَ مَرْحَباً بأُمِّ هَانِىءٍ فَلَمَّا
فَرَغَ مِنْ غُسُلِهِ قامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ
رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفاً فِي ثَوْبٍ واحِدٍ فَلَمَّا
انْصَرَفَ قُلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ زَعَمَ ابنُ
أُمِّي أنَّهُ قاتِلٌ رَجُلاٌ قَدْ أجَرْتُهُ فُلاَنَ
بنَ هُبَيْرَةَ فَقال رسولُ الله قَدْ أجَرْنَا مَنْ
أجَرْتِ يَا أُمِّ هَانِىءٍ قالَتْ أُمُّ هَانِيءٍ
وذَاَكَ ضُحًى. (انْظُر الحَدِيث 02 وطرفيه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو
النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد
الْمُعْجَمَة: واسْمه سَالم بن أبي أُميَّة مولى عمر
بن عبيد ابْن معمر القريشي التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة تسع
وَعشْرين وَمِائَة، وَأَبُو مرّة، بِضَم الْمِيم
وَتَشْديد الرَّاء: اسْمه يزِيد.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون. وَفِيه:
أَن أَبَا مرّة مولى أم هانىء، وَذكر فِي بَاب الْعلم
مولى عقيل، وَهُوَ فِي نفس الْأَمر مولى أم هَانِيء،
وَنسب إِلَى وَلَاء عقيل مجَازًا لإكثاره الْمُلَازمَة
لعقيل.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة وَفِي الْأَدَب
عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة، وَفِي
الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَفِي
الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رمح، عَن أبي
كريب، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن حجاج بن الشَّاعِر.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْحَاق
بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ، وَفِي السّير عَن
أبي الْوَلِيد الدِّمَشْقِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن
مهْدي عَن مَالك، وَفِي السّير عَن إِسْمَاعِيل بن
مَسْعُود. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الطَّهَارَة عَن
مُحَمَّد بن رمح.
ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه قَوْله: (عَام الْفَتْح)
أَي: فتح مَكَّة. قَوْله: (يغْتَسل) جملَة حَالية.
وَقَوله: (وَفَاطِمَة تستره) ، جملَة إسمية حَالية
أَيْضا. قَوْله: (فَقلت أَنا) . ويروى: (قلت) .
بِدُونِ: الْفَاء. قَوْله: (مرْحَبًا) ، مَنْصُوب
بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره: لقِيت رحبا وسعة. قَوْله:
(ثَمَانِي رَكْعَات) بِكَسْر النُّون وَفتح الْيَاء،
قَالَ الْكرْمَانِي: ثَمَان رَكْعَات، بِفَتْح
النُّون. قلت: حينئذٍ يكون مَنْصُوبًا بقوله: فصلى،
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ فِي الأَصْل مَنْسُوب
إِلَى الثّمن، لِأَنَّهُ الْجُزْء الَّذِي صير
السَّبْعَة ثَمَانِيَة فَهُوَ ثمنهَا، ثمَّ إِنَّهُم
فتحُوا أَوله لأَنهم يغيرون فِي النّسَب، وحذفوا
مِنْهُ إِحْدَى يائي النِّسْبَة وعوضوا مِنْهَا
الْألف، كَمَا فعلوا فِي الْمَنْسُوب إِلَى الْيمن،
فثبتت ياؤه عِنْد الْإِضَافَة كَمَا ثبتَتْ يَاء
القَاضِي تَقول: ثَمَانِي نسْوَة، وَتسقط مَعَ
التَّنْوِين عِنْد الرّفْع والجر، وتثتب عِنْد النصب
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجمع. قَوْله: (ملتحفاً) ، نصب على
الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: صلى. قَوْله:
(فَلَمَّا انْصَرف) أَي: من الصَّلَاة. قَوْله: (زعم)
، مَعْنَاهُ هُنَا: قَالَ أَو ادّعى.
قَوْله: (ابْن أُمِّي) وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ:
(ابْن أبي) ، وَلَا تفَاوت فِي الْمَقْصُود لِأَنَّهَا
أُخْت عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، من الْأَب وَالأُم،
وَلَكِن الْوَجْه فِي رِوَايَة: (ابْن أُمِّي)
تَأْكِيد الْحُرْمَة والقرابة والمشاركة فِي الْبَطن،
وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى، حِكَايَة عَن
هَارُون لمُوسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام:
{قَالَ يَا ابْن أُمِّي لَا تَأْخُذ بلحيتي} (طه: 49)
. قَوْله: (إِنَّه قَاتل) لفظ قَاتل اسْم فَاعل لَا
ماضٍ من بَاب المفاعلة، وَالْمعْنَى أَنه عازم لقَتله،
لِأَنَّهُ لم يكن قَاتلا حَقِيقَة فِي ذَلِك الْوَقْت،
وَلَكِن لما عزم على التَّلَبُّس بِالْفِعْلِ أطلقت
عَلَيْهِ الْقَاتِل. قَوْله: (رجلا) مَنْصُوب بقوله:
قَاتل. قَوْله: (قد أجرته) جملَة فِي مَحل النصب
لِأَنَّهَا صفة لرجل، وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة بِدُونِ
الْمَدّ، وَلَا يجوز فِيهِ الْمَدّ لِأَنَّهُ إِمَّا
من الْجور فَتكون الْهمزَة فِيهِ للسلب. والإزالة
يَعْنِي لسلب الْفَاعِل على الْمَفْعُول أصل الْفِعْل،
نَحْو: أشكيته، أَي: أزلت شكايته. وَإِمَّا من
الْجوَار بِمَعْنى: الْمُجَاورَة.
قَوْله: (فلَان بن هُبَيْرَة) يجوز فِيهِ الرّفْع
وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، وَأما النصب فعلى أَنه بدل من: رجلا، أَو من
الضَّمِير الْمَنْصُوب
(4/62)
فِي أجرته. وهبيرة، بِضَم الْهَاء وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وبالراء: ابْن أبي وهب بن عمر بن عَائِد بن عمرَان
المَخْزُومِي زوج أم هانىء بنت أبي طَالب، شَقِيقَة
عَليّ بن أبي طَالب، كرم اوجهه، وَهِي أسلمت عَام
الْفَتْح، وَكَانَ لهبيرة أَوْلَاد مِنْهَا وهم: عمر،
وَبِه كَانَ يكنى، وهانيء ويوسف وجعدة، وَقد ذكرنَا
أَن اسْم أم هانىء: فَاخِتَة، وكنيت بهانىء أحد
أَوْلَادهَا الْمَذْكُورين. ثمَّ قَوْلهَا؛ فلَان ابْن
هُبَيْرَة، فِيهِ اخْتِلَاف كثير من جِهَة الرِّوَايَة
وَمن جِهَة التَّفْسِير، فَفِي (التَّمْهِيد) من
حَدِيث مُحَمَّد بن عجلَان عَن سعيد بن أبي سعد عَن
أبي مرّة: (عَن أم هانىء قَالَت: أَتَانِي يَوْم
الْفَتْح حموان لي فاجرتهما، فجَاء عَليّ يُرِيد
قَتلهمَا فَأتيت النَّبِي وَهُوَ فِي قبَّة
بِالْأَبْطح بِأَعْلَى مَكَّة) . الحَدِيث، وَفِيه:
(أجرنا من أجرت وأمَّنَّا من أمنت) . وَفِي (مُعْجم
الطَّبَرَانِيّ) (إِنِّي أجرت حموي) .
وَفِي رِوَايَة: (حموي ابْن هُبَيْرَة) . وَفِي
رِوَايَة: (حموي ابْني هُبَيْرَة) . وَقَالَ أَبُو
عمر: فِي حَدِيث أبي النَّضر مَا يدل على أَن الَّذِي
أجرته كَانَ وَاحِدًا، وَفِي هَذَا اثْنَيْنِ: وَأما
من جِهَة التَّفْسِير فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس ابْن
سُرَيج: الرّجلَانِ هما: جعدة بن هُبَيْرَة، وَرجل
آخر، وَكَانَا من الشرذمة الَّذين قَاتلُوا خَالِدا،
رَضِي اتعالى عَنهُ، وَلم يقبلُوا الْأمان وَلَا ألقوا
السِّلَاح، فأجارتهما أم هَانِيء، وَكَانَا من
أحمائها، وروى الْأَزْرَقِيّ بِسَنَد فِيهِ
الْوَاقِدِيّ فِي حَدِيث أم هَانِيء هَذَا: أَنَّهُمَا
الْحَارِث بن هَاشم، وَابْن هُبَيْرَة بن أبي وهب،
وَجزم ابْن هِشَام فِي (تَهْذِيب السِّيرَة) بِأَن
اللَّذين أجرتهما أم هانىء هما: الْحَارِث بن هِشَام
وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة المخزوميان. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَرَادَت أم هانىء ابْنهَا من هُبَيْرَة
أَو ربيبها، كَمَا أَن الْإِبْهَام فِيهِ مُحْتَمل أَن
يكون من أم هَانِيء، وَأَن يكون الرَّاوِي نسي اسْمه
فَذكره بِلَفْظ: فلَان، قَالَ الزبير بن بكار: فلَان
بن هُبَيْرَة هُوَ: الْحَارِث بن هِشَام المَخْزُومِي،
وَقَالَ بَعضهم؛ الَّذِي يظْهر لي أَن فِي رِوَايَة
الْبَاب حذفا، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ فلَان بن عَم
هُبَيْرَة، فَسقط لفظ: عَم، أَو كَانَ فِيهِ: فلَان
قريب هُبَيْرَة، فَتغير لفظ: قريب، بِلَفْظ: ابْن، وكل
من الْحَارِث بن هِشَام، وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة،
وَعبد ابْن أبي ربيعَة يَصح وَصفه بِأَنَّهُ: ابْن عَم
هُبَيْرَة. وقريبه، لكَون الْجَمِيع من بني المخزوم.
قلت: الأصوب وَالْأَقْرَب أَن يَقُول فِي تَوْجِيه
رِوَايَة أبي النَّضر. فلَان بن هُبَيْرَة، أَن يكون
المُرَاد من فلَان هُوَ: ابْن هُبَيْرَة من غير أم
هَانِيء: فنسي الرَّاوِي اسْمه وَذكره بِلَفْظ: فلَان،
وَيدل على صِحَة هَذَا رِوَايَة ابْن عجلَان فِي
(التَّمْهِيد) وَرِوَايَات الطَّبَرَانِيّ، فَإِنَّهَا
تدل على أَن الَّذِي أجرته أم هَانِيء هُوَ حموها.
فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي رِوَايَة أبي النَّضر
وَاحِد، وَفِي هَذِه الرِّوَايَات اثْنَان. قلت: لَا
يضر ذَلِك لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الرَّاوِي
اقْتصر على ذكر وَاحِد مِنْهُمَا نِسْيَانا، كَمَا
أبهم اسْمه نِسْيَانا، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن
كَانَ ابْن هُبَيْرَة مِنْهَا فَهُوَ جعدة، وَجوز
أَبُو عمر أَن يكون من غَيرهَا وَهُوَ الأصوب لما
ذكرنَا. فَإِن قلت: قَالَ بَعضهم: نقل أَبُو عمر، من
أهل النّسَب أَنهم لم يذكرُوا لهبيرة ولدا من غَيرهَا.
قلت: لَا يلْزم من عدم ذكرهم ذَلِك أَن لَا يكون لَهُ
ابْن من غَيرهَا. فَإِن قلت: قَالَ هَذَا الْقَائِل:
جعدة مَعْدُود فِيمَن لَهُ رِوَايَة وَلم يَصح لَهُ
صُحْبَة، وَقد ذكره من حَيْثُ الرِّوَايَة فِي
التَّابِعين: البُخَارِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهمَا،
فَكيف يتهيأ لمن هَذِه سَبيله فِي صغر السن أَن يكون
عَام الْفَتْح مُقَاتِلًا حَتَّى يحْتَاج إِلَى
الْأمان؟ ثمَّ لَو كَانَ ولد أم هانىء لم يهم، عَليّ
رَضِي اعنه، بقتْله لِأَنَّهَا كَانَت قد أسلمت وهرب
زَوجهَا وَترك وَلَدهَا عِنْدهَا؟ قلت: كَونه تابعياً
أَو صحابياً على مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف لَا يُنَافِي
مَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا قبل ذَلِك، وَقَوله: فَكيف
يتهيأ إِلَى آخِره؟ مُجَرّد دَعْوَى فَيحْتَاج إِلَى
برهَان، فَظهر مِمَّا ذكرنَا أَن قَول الْكرْمَانِي:
أَرَادَت أم هانىء ابْنهَا من هُبَيْرَة أَو ربيبها
أقرب إِلَى الصَّوَاب وأوجه.
وَقَول بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي ... الخ بعيد من
ذَلِك، وَتصرف من عِنْده بِغَيْر وَجه لِأَن فِيهِ
ارْتِكَاب الْحَذف وَالْمجَاز وَالتَّقْدِير بِشَيْء
بعيد غير مُنَاسِب، ومخالف لما ذكره هَؤُلَاءِ
المذكورون آنِفا، وَهَذَا كُله خلاف الأَصْل، وَمِمَّا
يمجه من لَهُ يَد فِي التَّصَرُّف فِي الْكَلَام.
قَوْله: (وَذَلِكَ ضحى) ويروى: (وَذَاكَ ضحى) ، وَهُوَ
إِشَارَة لما ذكرته من قَوْلهَا: (فصلى ثَمَانِي
رَكْعَات) أَي: كَانَ ذَلِك وَقت ضحى، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة أَحْمد فِي هَذَا الحَدِيث،
وَذَلِكَ يو فتح مَكَّة ضحى، وَيجوز أَيْضا يُقَال:
وَذَلِكَ صَلَاة ضحى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي
رِوَايَة أبي حَفْص بن شاهين أَن أم هانىء قَالَت: يَا
رَسُول ا؟ مَا هَذِه الصَّلَاة؟ قَالَ: (الضُّحَى) ،
وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: (ثمَّ صلى الضُّحَى
ثَمَانِي رَكْعَات) ، وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الْأَصَح،
وَهَذَا أَيْضا يمْنَع التحرض فِي ذَلِك بِأَن قَالَ
بَعضهم هِيَ: صَلَاة الْفَتْح، وَبَعْضهمْ: صَلَاة
الْإِشْرَاق، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا فِي رِوَايَة
مُسلم: (ثمَّ صلى ثَمَانِي رَكْعَات سبْحَة الضُّحَى)
.
(4/63)
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: مِنْهَا:
جَوَاز تستر الرِّجَال بِالنسَاء. وَمِنْهَا: جَوَاز
السَّلَام من وَرَاء حجاب. وَمِنْهَا: عدم
الِاكْتِفَاء بِلَفْظ: أَنا، فِي الْجَواب، بل يُوضح
غَايَة التَّوْضِيح كَمَا فِي ذكر الكنية وَالنّسب
هَهُنَا. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب الترحيب بالزائر
وَذكر كنيته. وَمِنْهَا: أَنه يدل على صَلَاة الضُّحَى
وَأَنَّهَا ثَمَانِي رَكْعَات. وَمِنْهَا: جَوَاز
أَمَان رجل حر أَو امْرَأَة حرَّة لكَافِر وَاحِد أَو
جمَاعَة، وَلم يجز بعد ذَلِك قِتَالهمْ إلاَّ أَن يكون
فِي ذَلِك مفْسدَة، وَلَا يجوز أَمَان ذمِّي لِأَنَّهُ
مُتَّهم بهم، وَلَا أَسِير وَلَا تَاجر يدْخل
عَلَيْهِم، وَلَا أَمَان عبد عِنْد أبي حنيفَة إلاَّ
أَن يَأْذَن لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَال. وَقَالَ
مُحَمَّد: يجوز، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي يُوسُف
فِي رِوَايَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ. مثل قَول
أبي حنيفَة، وَلَو أَمن الصَّبِي وَهُوَ لَا يعقل لَا
يَصح، كَالْمَجْنُونِ. وَإِن كَانَ يعقل وَهُوَ
مَحْجُور عَن الْقِتَال فعلى الْخلاف، وَإِن كَانَ
مَأْذُونا لَهُ فِي الْقِتَال فَالْأَصَحّ أَنه يَصح
بالِاتِّفَاقِ.
24 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك
عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة
أَن سَائِلًا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد
فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أولكلكم ثَوْبَان) مُطَابقَة
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن السُّؤَال فِيهِ عَن
الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد وَالْجَوَاب فِي
الْحَقِيقَة أَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد
جَائِزَة على مَا تقرر عَن قريب (ذكر رِجَاله) وهم
خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة وَمَالك هُوَ ابْن أنس
وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ (ذكر
لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك وَفِيه العنعنة فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم
عَن يحيى بن يحيى قَالَ قَرَأت على مَالك عَن ابْن
شهَاب إِلَى آخِره نَحوه وَقَالَ حَدثنِي حَرْمَلَة بن
يحيى قَالَ أخبرنَا ابْن وهب قَالَ أَخْبرنِي يُونُس
وحَدثني عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث قَالَ
حَدثنِي أبي عَن جدي قَالَ حَدثنِي عقيل بن خَالِد
كِلَاهُمَا عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي
سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخرجه أَبُو دَاوُد
عَن القعْنبِي عَن مَالك وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة
بن سعيد عَن مَالك وَأخرجه ابْن ماجة عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان
بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن
أبي هُرَيْرَة وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من سِتَّة طرق
وَأحمد والدارمي وَالْبَيْهَقِيّ وروى ابْن حبَان
هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن ابْن
شهَاب لَكِن قَالَ فِي الْجَواب " ليتوشح بِهِ ثمَّ
ليصل فِيهِ " وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد
حَدثنَا ملازم بن عَمْرو الْحَنَفِيّ حَدثنَا عبد الله
بن بدر عَن قيس بن طلق عَن أَبِيه قَالَ " قدمنَا على
نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فجَاء رجل فَقَالَ يَا نَبِي الله مَا ترى فِي
الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد قَالَ فَأطلق رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إزَاره
وطارق لَهُ رِدَاء فَاشْتَمَلَ بهما ثمَّ قَامَ فصلى
بِنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - فَلَمَّا أَن قضى الصَّلَاة قَالَ أوكلكم يجد
ثَوْبَيْنِ " وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَفِي رِوَايَته
طابق قَوْله " طَارق " من قَوْلهم طَارق الرجل بَين
الثَّوْبَيْنِ إِذا ظَاهر بَينهمَا أَي لبس أَحدهمَا
على الآخر وَكَذَلِكَ معنى طابق وَأخرج الطَّحَاوِيّ
حَدِيث طلق بن عَليّ هَذَا من طَرِيقين أَحدهمَا نَحْو
حَدِيث أبي هُرَيْرَة سَوَاء. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله
" أَن سَائِلًا " وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ " قَامَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله
أونصلي فِي ثوب وَاحِد قَالَ نعم فَقَالَ أوكلكم يجد
ثَوْبَيْنِ " وَفِي رِوَايَة أبي شيبَة عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ " سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب
الْوَاحِد فَقَالَ أولكلكم ثَوْبَان " وعَلى كل
تَقْدِير السَّائِل مَجْهُول قَوْله " أولكلكم
ثَوْبَان " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام (وَقَالَ
الْكرْمَانِي) (فَإِن قلت) مَا الْمَعْطُوف عَلَيْهِ
بِالْوَاو (قلت) مُقَدّر أَي أَأَنْت سَائل عَن مثل
هَذَا الظَّاهِر وَمَعْنَاهُ لَا سُؤال عَن أَمْثَاله
وَلَا ثَوْبَيْنِ لكلكم إِذْ الِاسْتِفْهَام مُفِيد
لِمَعْنى النَّفْي بِقَرِينَة الْمقَام وَهَذَا
التَّقْدِير على سَبِيل التَّمْثِيل (قلت) اللَّفْظ
وَإِن كَانَ لفظ الِاسْتِفْهَام وَلَكِن الْمَعْنى
بالإخبار عَمَّا كَانَ يُعلمهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حَالهم فِي الْعَدَم وضيق
الثِّيَاب يَقُول فَإِذا كُنْتُم بِهَذِهِ الصّفة
وَلَيْسَ لكل وَاحِد مِنْكُم ثَوْبَان وَالصَّلَاة
وَاجِبَة عَلَيْكُم فاعلموا أَن الصَّلَاة فِي
الثَّوْب الْوَاحِد جَائِزَة وَقَالَ القَاضِي عِيَاض
وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أولكلكم ثَوْبَان أَو يجد ثَوْبَيْنِ صيغته صِيغَة
الِاسْتِفْهَام وَمَعْنَاهُ التَّقْرِير والإخبار عَن
مَعْهُود حَالهم وَفِي ضمنه دَلِيل على الرُّخْصَة
وتنبيه على أَن الثَّوْب أفضل وَأتم وَهُوَ
الْمَفْهُوم مِنْهُ عِنْد أَكثر الْعلمَاء (قلت) ذهب
الطَّحَاوِيّ والباجي أَيْضا إِلَى أَن مَفْهُومه
التَّسْوِيَة بَين
(4/64)
الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد مَعَ وجود
غَيره وَعَدَمه فِي الْإِجْزَاء وَقَالَ الْخطابِيّ
لَفظه استخبار وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَار عَن الْحَال
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا من ضيق الثِّيَاب والتقتير
لما عِنْدهم وَقد وَقعت فِي ضمنه الْفَتْوَى من طَرِيق
الفحوى كَأَنَّهُ استزادهم فِي هَذَا علما وفقها
يَقُول إِذا كَانَ ستر الْعَوْرَة وَاجِبا على كل
وَاحِد مِنْكُم وَكَانَت الصَّلَاة لَازِمَة لَهُ
وَلَيْسَ لكل وَاحِد مِنْكُم ثَوْبَان فَكيف لم
تعلمُوا أَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد
جَائِزَة وَقَالَ الطَّحَاوِيّ لَو كَانَت الصَّلَاة
مَكْرُوهَة فِي الثَّوْب الْوَاحِد لكرهت لمن لَا يكون
لَهُ إِلَّا ثوب وَاحِد لِأَن حكم الصَّلَاة فِي
الثَّوْب الْوَاحِد لمن يجد ثَوْبَيْنِ كَهُوَ فِي
الصَّلَاة لمن لَا يجد غَيره. وَقَالَ بَعضهم وَهَذِه
الْمُلَازمَة فِي مقَام الْمَنْع للْفرق بَين
الْقَادِر وَغَيره وَالسُّؤَال إِنَّمَا كَانَ عَن
الْجَوَاز وَعَدَمه لَا عَن الْكَرَاهَة (قلت) أَخذ
هَذَا الْقَائِل صدر الْكَلَام من كَلَام الطَّحَاوِيّ
ثمَّ غمز فِيهِ وَلَو أَخذ جَمِيع كَلَامه لما كَانَ
يجد إِلَى مَا قَالَه سَبِيلا
5 - (بابٌ إذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ
فَلْيَجْعَلْ عَلَى عاتِقَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ إِذا صلى الرجل إِلَى آخِره
أَي: فليجعل بعضه على عَاتِقيهِ، وَفِي بعض النّسخ على
عَاتِقه بِالْإِفْرَادِ، وَفِي بَعْضهَا فليجعل على
عَاتِقه شَيْئا. وَفِي (الْمُخَصّص) : وَمن
الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى أصل الْعُنُق عاتقان. وَقَالَ
أَبُو عبيد: هُوَ مُذَكّر وَقد أنث، وَقد قَالَ أَبُو
حَاتِم: وَلَيْسَ يثبت، وَزَعَمُوا أَن هَذَا الْبَيْت
مَصْنُوع، وَهُوَ:
(لَا صلح بيني فاعلموه وَلَا ... بَيْنكُم مَا حملت
عَاتِقي)
وَالْجمع: عتق وعواتق، وَزَاد فِي (الْمُحكم) : وَعتق،
وَعَن اللحياني: هُوَ مُذَكّر لَا غَيره، وَفِي
(الموعب) : صفح الْعُنُق من مَوضِع الرِّدَاء من
الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا يُقَال لَهُ: العاتق. وَقَالَ
أَبُو حَاتِم: روى من لَا أَثِق بِهِ التَّأْنِيث،
وَسَأَلت بعض الفصحاء فَأنْكر التَّأْنِيث، وَقد
أَنْشدني من لَا أَثِق بِهِ بَيْتا لَيْسَ بِمَعْرُوف
وَلَا عَن ثِقَة. (لَا صلح بيني)
إِلَى آخِره. وَقَالَ ابْن التياني: قَالَ أَبُو عبيد:
قَالَ الْأَحْمَر: العاتق يذكر وَيُؤَنث، وأنشدنا.
(لَا صلح بيني) . الخ. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي عَن
الْفراء مثله، وَفِي (الْجَامِع) : هُوَ مُذَكّر
وَبَعض الْعَرَب يؤنث، وَأنْكرهُ بَعضهم، وَقَالَ:
هَذَا لَا يعرف، وَأما يَعْقُوب بن السّكيت فَذكره
مذكراً ومؤنثاً من غير تردد، وَتَبعهُ على ذَلِك
جمَاعَة مِنْهُم: أَبُو نصر الْجَوْهَرِي، وَقد أنْشد
ابْن عُصْفُور فِي ذكر الْأَعْضَاء الَّتِي تذكر
وتؤنث:
(وهاك من الْأَعْضَاء مَا قد عددته ... يؤنث
أَحْيَانًا وحينا يذكر)
(لِسَان الْفَتى والعنق والإبط والقفا ... وعاتقه
والمتن والضرس يذكر)
(وَعِنْدِي ذِرَاع والكراع مَعَ المعا ... وَعجز
الْفَتى ثمَّ القريض المحبر)
(كَذَا كل نحوي حكى فِي كِتَابه ... سوى سِيبَوَيْهٍ
وَهُوَ فيهم مكبر)
(يرى أَن تَأْنِيث الذِّرَاع هُوَ الَّذِي ... أَتَى
وَهُوَ للتذكير فِي ذَاك مُنكر)
وَقَالَ صَاحب (دستور اللُّغَة) : بديع الزَّمَان:
بَاب الْأَسْمَاء الخالية من عَلَامَات التَّأْنِيث،
والأسماء الَّتِي اشْترك فِيهَا التَّذْكِير والتأنيث،
وَهِي حُدُود مِائَتي اسْم ونيف، وعلامة الْمُشْتَرك
يجمعها قَوْله نظماً:
(عين يَمِين عضد كف شكا ... ل أذن سنّ مَعًا رِجْل
يَد)
(قتب ذِرَاع أصْبع نَاب عجو ... زعجز سَاق كرَاع كبد)
(وَحش جَراد رجلهَا أروى سعي ... ر زندها ذكاء طاغوت
يَد)
(ذود طباع خنصر روح شبا ... خيل اتان وصف أُنْثَى
الْمُفْرد)
وَذكر بعد هَذَا أحد عشر بَيْتا على قافية الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَسَبْعَة أَبْيَات أُخْرَى على قافية
اللَّام.
95352 - ح دّثنا أبُو عاصِمٍ عَنْ مالِكٍ عَنْ أبي
الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحمْنِ الأَعْرَجِ عَنْ
أبي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ النبيُّ لاَ يُصَلِّي
أحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى
عاتِقَيْهِ شَيْءٌ. (الحَدِيث 953 طرفه فِي: 063) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله: قد تقدمُوا غير مرّة، وَأَبُو عَاصِم هُوَ:
الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: الْبَصْرِيّ
الْمَشْهُور بالنبيل، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر
الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: وَهُوَ عبد ابْن ذكْوَان.
قَوْله: (لَا يُصَلِّي) بِإِثْبَات الْيَاء لِأَنَّهُ
نفي، لِأَن لَا نَافِيَة، وَلَا النافية لَا تسْقط
(4/65)
شَيْئا، وَلَكِن مَعْنَاهُ النَّهْي، وَنَصّ
ابْن الْأَثِير على إِثْبَات الْيَاء فِي
(الصَّحِيحَيْنِ) وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي
(غرائب مَالك) بِلَفْظ: (لَا يصل) بِغَيْر: يَاء، على
أَن كلمة: لَا، ناهية. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ،
وَقَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور، قَالَ: حدّثنا
سُفْيَان، قَالَ: حدّثنا أَبُو الزِّنَاد عَن
الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول ا:
(لَا يصلين أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على
عَاتِقه مِنْهُ شَيْء) بِزِيَادَة: نون التوكيد فِي:
(لَا يُصَلِّي) ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من
طَرِيق الثَّوْريّ عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: (نهى
رَسُول ا) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ: حدّثنا
مُسَدّد حدّثنا سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن
الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول ا:
(لَا يُصَلِّي أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ
على مَنْكِبه مِنْهُ شَيْء) وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا
الحَدِيث من أَربع طرق، وَذَلِكَ بعد أَن قَالَ:
تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن النَّبِي بِالصَّلَاةِ فِي
الثَّوْب الْوَاحِد متوشحاً بِهِ فِي حَال وجود غَيره،
ثمَّ قَالَ: فقد يجوز أَن يكن ذَلِك على مَا اتَّسع من
الثِّيَاب خَاصَّة لَا على مَا ضَاقَ مِنْهَا، وَيجوز
أَن يكون على كل الثِّيَاب مَا ضَاقَ مِنْهُ وَمَا
اتَّسع، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَإِذا عبد الرَّحْمَن
بن عمر الدِّمَشْقِي قد حدّثنا، قَالَ: حدّثنا أَبُو
نعيم، قَالَ: حدّثنا فطر بن خَليفَة عَن شُرَحْبِيل بن
سعد، قَالَ: (حدّثنا جَابر أَن رَسُول الله كَانَ
يَقُول: إِذا اتَّسع الثَّوْب فتعطف بِهِ على عاتقك،
وَإِذا ضَاقَ فاتزر بِهِ ثمَّ صل) . فَثَبت بِهَذَا
الحَدِيث أَن الاشتمال هُوَ الْمَقْصُود، وَأَنه هُوَ
الَّذِي يَنْبَغِي أَن يفعل فِي الثِّيَاب الَّتِي
يُصَلِّي فِيهَا، فَإِذا لم يقدر عَلَيْهِ لضيق
الثَّوْب اتزر بِهِ.
واحتجنا أَن نَنْظُر فِي حكم الثَّوْب الْوَاسِع
الَّذِي يَسْتَطِيع أَن يتزر بِهِ ويشتمل، هَل يشْتَمل
بِهِ أَو يتزر؟ فَكيف يفعل؟ فَإِذا يُونُس قد حدّثنا
قَالَ: حدّثنا سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن
الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، قَالَ:
(لَا يُصَلِّي أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ
على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء) فَنهى عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فِي حَدِيث أبي الزِّنَاد عَن الصَّلَاة
فِي الثَّوْب الْوَاحِد متزراً بِهِ. وَقد جَاءَ عَنهُ
أَيْضا: (أَنه نهى أَن يُصَلِّي الرجل فِي
السَّرَاوِيل وَحده لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره) . حدّثنا
عِيسَى بن إِبْرَاهِيم الغافقي، قَالَ: حدّثنا عبد
ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي زيد بن الْحباب عَن أبي
الْمُنِيب عَن عبد ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن
رَسُول الله بذلك، فَهَذَا مثل ذَلِك، وَهَذَا عندنَا
على الْوُجُود مَعَه غَيره، وَإِن كَانَ لَا يجد غَيره
فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِيهِ، كَمَا لَا بَأْس
بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الصَّغِير متزراً بِهِ،
فَهَذَا تَصْحِيح مَعَاني هَذِه الْآثَار المروية عَن
رَسُول الله فِي هَذَا الْبَاب.
قَوْله: (لَيْسَ على عَاتِقه شَيْء) جملَة حَالية
بِدُونِ الْوَاو، وَيجوز فِي مثل هَذَا: الْوَاو،
تَركه. (قَالَ الْكرْمَانِي) هَذَا النَّهْي
للتَّحْرِيم أم لَا؟ قلت: ظَاهر النَّهْي يَقْتَضِي
التَّحْرِيم، لَكِن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على جوز
تَركه، إِذْ الْمَقْصُود ستر الْعَوْرَة، فَبِأَي وَجه
حصل جَازَ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْإِجْمَاع مَا
انْعَقَد على جَوَاز تَركه، وَهَذَا أَحْمد لَا يجوز
صَلَاة من قدر على ذَلِك وَتَركه، وَنقل ابْن
الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن عَليّ عدم الْجَوَاز، وَنقل
بَعضهم وجوب ذَلِك عَن نَص الشَّافِعِي، رَحمَه ا،
وَاخْتَارَهُ، مَعَ أَن الْمَعْرُوف فِي كتب
الشَّافِعِيَّة خِلَافه. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا
نهي اسْتِحْبَاب وَلَيْسَ على سَبِيل الْإِيجَاب، فقد
ثَبت أَنه صلى فِي ثوب كَانَ بعض طَرفَيْهِ على بعض
نِسَائِهِ، وَهِي نَائِمَة، وَمَعْلُوم أَن الطّرف
الَّذِي هُوَ لابسه من الثَّوْب غير متسع لِأَن يتزر
بِهِ، ويفضل مِنْهُ مَا يكون لعاتقه، إِذْ لَو كَانَ
لَا بُد أَن يبْقى من الطّرف الآخر مِنْهُ الْقدر
الَّذِي يَسْتُرهَا، وَفِي حَدِيث جَابر الَّذِي
يَتْلُو هَذَا الحَدِيث أَيْضا جَوَاز الصَّلَاة من
غير شَيْء على العاتق.
06362 - ح دّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدّثنا شَيْبَانُ
عَنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرَمَة قَالَ
سَمِعْتُهُ أوْ كُنْتُ سَأَلْتُهُ قَالَ سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ
رسولَ الله يَقُولُ مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ واحِدٍ
فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث
953) .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ
إِن الْمُخَالفَة بَين طرفِي الثَّوْب لَا يَتَيَسَّر
إِلَّا بِجعْل شَيْء من الثَّوْب على العاتق. وَقَالَ
بَعضهم: فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: فليخالف بَين
طَرفَيْهِ على عَاتِقيهِ، وَهُوَ عِنْد أَحْمد من
طَرِيق معمر عَن يحيى، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي
نعيم من طَرِيق حُسَيْن عَن شَيبَان، ثمَّ ادّعى أَن
هَذَا أولى فِي مُطَابقَة التَّرْجَمَة، لِأَن فِيهِ
التَّصْرِيح بالمراد، فالمصنف أَشَارَ إِلَيْهِ
كعادته. قلت: دَعْوَى الْأَوْلَوِيَّة غير صَحِيحَة،
لِأَن الدّلَالَة على المُرَاد من الطَّرِيق الَّذِي
للْمُصَنف من نفس الْكَلَام المسوق أولى من الْكَلَام
الْأَجْنَبِيّ عَنهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو نعيم، بِضَم
النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، بِضَم الدَّال.
الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن. الثَّالِث:
يحيى بن أبي كثير، ضد قَلِيل. الرَّابِع: عِكْرِمَة
مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس:
(4/66)
أَبُو هُرَيْرَة رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
الشَّك من يحيى بَين السماع وَالسُّؤَال حَيْثُ قَالَ
أَولا: سمعته، أَي سَمِعت عِكْرِمَة، ثمَّ قَالَ: أَو
كنت سَأَلته يَعْنِي: سَمِعت مِنْهُ إِمَّا بسؤالي أَو
بِغَيْر سُؤَالِي، لَا أحفظ كَيْفيَّة الْحَال.
وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن مكي بن عَبْدَانِ عَن
حمدَان السّلمِيّ عَن أبي نعيم بِلَفْظ: سمعته أَو كتب
بِهِ إِلَيّ، وَالشَّكّ هُنَا بَين السماع
وَالْكِتَابَة. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا أعلم
أحدا ذكر فِيهِ سَماع يحيى عَن عِكْرِمَة. وَرَوَاهُ
هِشَام وحسين الْمعلم وَمعمر وَزيد بن سِنَان، كل
قَالَ: عَن عِكْرِمَة لم يذكر خَبرا وَلَا سَمَاعا.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث يحيى عَن عِكْرِمَة
عَن أبي هُرَيْرَة بالعنعنة من غير شكّ، وَلَفظه:
(إِذا صلى أحدكُم فِي ثوب فليخالف بطرفيه على
عَاتِقيهِ) . وَفِيه: الشَّهَادَة وَالسَّمَاع من أبي
هُرَيْرَة حَيْثُ قَالَ: أشهد أَنِّي سمت رَسُول ا،
وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى حفظه وإتقانه واستحضاره.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (فِي ثوب وَاحِد) ، لفظ:
وَاحِد، فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة
غَيره: (فِي ثوب) ، بِدُونِ ذكر لفظ: وَاحِد. قَوْله:
(فليخالف بَين طَرفَيْهِ) ، أَي: بَين طرفِي الثَّوْب،
والمخالفة بطرفيه على عَاتِقيهِ هُوَ التوشح وَهُوَ
الاشتمال على مَنْكِبَيْه، وَإِنَّمَا أَمر بذلك لستر
أعالي الْبدن وَمَوْضِع الزِّينَة. وَقَالَ ابْن بطال:
وَفَائِدَة الْمُخَالفَة فِي الثَّوْب أَن لَا ينظر
الْمُصَلِّي إِلَى عَورَة نَفسه إِذا ركع قلت:
فَائِدَة أُخْرَى وَهِي أَن لَا يسْقط إِذا ركع،
وَهَذَا الْأَمر للنَّدْب عِنْد الْجُمْهُور، حَتَّى
لَو صلى وَلَيْسَ على عَاتِقه شَيْء صحت صلَاته.
وَيُقَال: إِذا لم يُخَالف بَين طَرفَيْهِ رُبمَا
يحْتَاج إِلَى إِمْسَاكه بِيَدِهِ فيشتغل بذلك وتفوته
سنة وضع الْيَد الْيُمْنَى على الْيُسْرَى، وَاحْتج
أَحْمد بِظَاهِر الحَدِيث، وَشرط الْوَضع على عَاتِقه
عِنْد الْقُدْرَة، وَعنهُ أَنه: تصح صلَاته وَلكنه
يَأْثَم بِتَرْكِهِ.
6 - (بابٌ إذَا كانَ الثَّوْبُ ضَيِّقاً)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ كَيفَ يفعل الْمُصَلِّي إِذا
كَانَ الثَّوْب ضيقا، والضيق، بِفَتْح الضَّاد
وَتَشْديد الْيَاء، وَجَاز فِيهِ تَخْفيف الْيَاء:
وَهُوَ صفة مشبهة، وَاسم الْفَاعِل من هَذِه
الْمَادَّة: ضائق، على وزن: فَاعل، وَالْفرق بَينهمَا:
أَن الصّفة المشبهة تدل على الثُّبُوت، وَاسم
الْفَاعِل يدل على الْحُدُوث.
27 - (حَدثنَا يحيى بن صَالح قَالَ حَدثنَا فليح بن
سُلَيْمَان عَن سعيد بن الْحَارِث قَالَ سَأَلنَا
جَابر بن عبد الله عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب
الْوَاحِد فَقَالَ خرجت مَعَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض أَسْفَاره
فَجئْت لَيْلَة لبَعض أَمْرِي فَوَجَدته يُصَلِّي
وَعلي ثوب وَاحِد فاشتملت بِهِ وَصليت إِلَى جَانِبه
فَلَمَّا انْصَرف قَالَ مَا السّري يَا جَابر
فَأَخْبَرته بحاجتي فَلَمَّا فرغت قَالَ مَا هَذَا
الاشتمال الَّذِي رَأَيْت قلت كَانَ ثوبا يَعْنِي
ضَاقَ قَالَ فَإِن كَانَ وَاسِعًا فالتحف بِهِ وَإِن
كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ
من قَوْله " فَإِن كَانَ وَاسِعًا " إِلَى آخِره. (ذكر
رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول يحيى بن صَالح أَبُو
زَكَرِيَّا الوحاظي بِضَم الْوَاو وَتَخْفِيف الْحَاء
الْمُهْملَة وبالظاء الْمُعْجَمَة الْحِمصِي الْحَافِظ
الْفَقِيه مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي فليح بِضَم الْفَاء وَفتح
اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبِالْحَاءِ
الْمُهْملَة تقدم فِي أول كتاب الْعلم. الثَّالِث سعيد
بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ قَاضِي الْمَدِينَة.
الرَّابِع جَابر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع
وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه السُّؤَال وَفِيه
أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني. (ذكر من أخرجه
غَيره) هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ من
طَرِيق سعيد بن الْحَارِث وَأخرجه مُسلم من حَدِيث
عبَادَة عَن جَابر مطولا وَفِيه " إِذا كَانَ وَاسِعًا
فَخَالف بَين طَرفَيْهِ وَإِن كَانَ ضيقا فاشدده على
حقوك " وَأخرجه أَبُو دَاوُد كَذَلِك قَوْله " على
حقوك " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا
الْإِزَار وَالْأَصْل فِيهِ معقد الْإِزَار ثمَّ سمى
بِهِ الْإِزَار للمجاورة وَجمعه أَحَق وأحقاء
(4/67)
(ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " فِي بعض
أَسْفَاره " عينه مُسلم فِي رِوَايَته " غَزْوَة بواط
" بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَبعد
الْألف طاء مُهْملَة قَالَ الصغاني بواط جبال
جُهَيْنَة من نَاحيَة ذِي خشب وَبَين بواط
وَالْمَدينَة ثَلَاثَة برد أَو أَكثر وَقَالَ ابْن
اسحق جَمِيع مَا غزا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَفسِهِ الْكَرِيمَة سبع
وَعِشْرُونَ غَزْوَة. ودان وَهِي غَزْوَة الْأَبْوَاء
وغزوة بواط من نَاحيَة رضوى ثمَّ عد الْجَمِيع قَوْله
" فَجئْت " أَي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " لبَعض أَمْرِي " أَي
لأجل بعض حوائجي وَالْأَمر هُوَ وَاحِد الْأُمُور لَا
وَاحِد الْأَوَامِر قَوْله " يُصَلِّي " فِي مَحل
النصب على أَنه مفعول ثَان لوجدت قَوْله " وعَلى ثوب
وَاحِد " جملَة إسمية فِي مَحل النصب على الْحَال
قَوْله " وَصليت إِلَى جَانِبه " كلمة إِلَى فِي
الأَصْل للانتهاء فَالْمَعْنى صليت منتهيا إِلَى
جَانِبه وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى فِي لِأَن حُرُوف
الْجَرّ يقوم بَعْضهَا مقَام بعض وَيجوز أَن يُقَال
فِيهِ تضمين معنى الانضمام أَي صليت مُنْضَمًّا إِلَى
جَانِبه قَوْله " فَلَمَّا انْصَرف " أَي من الصَّلَاة
واستقبال الْقبْلَة قَوْله " فَقَالَ مَا السرى "
بِضَم السِّين مَقْصُورا وَهُوَ السّير بِاللَّيْلِ
وَهُوَ اسْتِفْهَام عَن سَبَب سراه بِاللَّيْلِ
وَالسُّؤَال لَيْسَ عَن نفس السرى بل عَن سَببه قَوْله
" مَا هَذَا الاشتمال " كَأَنَّهُ اسْتِفْهَام
إِنْكَار وَسبب الْإِنْكَار أَن الثَّوْب كَانَ ضيقا
وَأَنه خَالف بَين طَرفَيْهِ وتواقص أَي انحنى
عَلَيْهِ حَتَّى لَا يسْقط فَكَأَنَّهُ عِنْد
الْمُخَالفَة بَين طرفِي الثَّوْب لم يصر ساترا إِذا
انحنى ليستتر فَأعلمهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
بِأَن مَحل ذَلِك فِيمَا إِذا كَانَ الثَّوْب وَاسِعًا
وَأما إِذا كَانَ ضيقا فَإِنَّهُ يجْزِيه أَن يتزر
بِهِ لِأَن الْمَقْصُود هُوَ ستر الْعَوْرَة وَهُوَ
يحصل بالاتزار وَلَا يحْتَاج إِلَى الانحناء المغاير
للاعتدال الْمَأْمُور بِهِ قَوْله " كَانَ ثوبا " أَي
كَانَ الْمُشْتَمل بِهِ ثوبا فَيكون انتصاب ثوبا على
أَنه خبر كَانَ وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة " كَانَ
ثوب " بِالرَّفْع وَوَجهه أَن تكون كَانَ تَامَّة
فَلَا تحْتَاج إِلَى الْخَبَر وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ " كَانَ ثوبا ضيقا " قَوْله " فاتزر
بِهِ " أَمر وَقَالَ الْكرْمَانِي بإدغام الْهمزَة
المقلوبة تَاء فِي التَّاء وَقَول التصريفيين اتزر خطأ
هُوَ الْخَطَأ (قلت) تَحْقِيق هَذِه الْمَادَّة أَن
أصل الْفِعْل أزر على ثَلَاثَة أحرف فَلَمَّا نقل
إِلَى بَاب الافتعال صَار امتزر على وزن افتعل بهمزتين
أولاهما مَكْسُورَة وَهِي همزَة الافتعال وَالْأُخْرَى
سَاكِنة وَهِي همزَة الْفِعْل ثمَّ يجوز فِيهِ
الْوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن تقلب الْهمزَة يَاء آخر
الْحُرُوف فَيُقَال أيتزر وَالْآخر أَن تقلب تَاء
مثناة من فَوق وتدغم التَّاء فِي التَّاء وَهُوَ معنى
قَول الْكرْمَانِي بإدغام الْهمزَة المقلوبة تَاء فِي
التَّاء وَلَفظ الحَدِيث على الْوَجْه الأول. (ذكر
استنباط الحكم مِنْهُ) قَالَ الْخطابِيّ الاشتمال
الَّذِي أنكرهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - هُوَ اشْتِمَال الصماء وَهُوَ أَن يُجَلل
نَفسه بِثَوْبِهِ وَلَا يرفع شَيْئا من جوانبه وَلَا
يُمكنهُ إِخْرَاج يَدَيْهِ إِلَّا من أَسْفَله فيخاف
أَن تبدو عَوْرَته عِنْد ذَلِك وَقَالَ ابْن بطال
حَدِيث جَابر هَذَا تَفْسِير حَدِيث أبي هُرَيْرَة
الَّذِي فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم وَهُوَ " لَا يصلين
أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه
مِنْهُ شَيْء " فِي أَنه أَرَادَ الثَّوْب الْوَاسِع
الَّذِي يُمكن أَن يشتمله وَأما إِذا كَانَ ضيقا فَلم
يُمكنهُ أَن يشْتَمل بِهِ فليتز بِهِ وَقَالَ
الْكرْمَانِي فَإِن قيل الحَدِيث السَّابِق فِيهِ نهي
عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد متزرا بِهِ
وَظَاهره يُعَارض " وَإِن كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ "
وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَن النَّهْي عَنهُ للواجد
لغيره وَأما من لم يجد غَيره فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ
فِيهِ كَمَا لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب
الضّيق متزرا. وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز طلب
الْحَوَائِج بِاللَّيْلِ من السُّلْطَان لخلأ مَوْضِعه
وَجَوَاز مَجِيء الرجل إِلَى غَيره بِاللَّيْلِ
لِحَاجَتِهِ. وَمن ذَلِك أَن الثَّوْب إِذا كَانَ
وَاسِعًا يُخَالف بَين طَرفَيْهِ وَإِن كَانَ ضيقا
يتزر بِهِ.
28 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن
سُفْيَان قَالَ حَدثنِي أَبُو حَازِم عَن سهل قَالَ
كَانَ رجال يصلونَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاقدي أزرهم على أَعْنَاقهم
كَهَيئَةِ الصّبيان) ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث
فِي أول بَاب عقد الْإِزَار على الْقَفَا مُعَلّقا
حَيْثُ قَالَ وَقَالَ أَبُو حَازِم عَن سهل " صلوا
مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
عاقدي أزرهم على عواتقهم " وَأخرجه هَهُنَا مُسْندًا
عَن مُسَدّد بن مسرهد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة
سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى آخِره وَأخرجه أَيْضا عَن
مُحَمَّد بن كثير وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي
بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان
الْأَنْبَارِي عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بِهِ وَلَفظ أبي
دَاوُد عَن سهل بن سعد قَالَ " رَأَيْت الرِّجَال
عاقدي
(4/68)
أزرهم فِي أَعْنَاقهم من ضيق الأزر خلف رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
الصَّلَاة كأمثال الصّبيان فَقَالَ قَائِل يَا معشر
النِّسَاء لَا ترفعن رؤسكن حَتَّى يرفع الرِّجَال ".
(ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " عَن سُفْيَان "
قد ذكرنَا أَنه الثَّوْريّ وَقَالَ الْكرْمَانِي
يحْتَمل أَن يكون سُفْيَان بن عُيَيْنَة لِأَنَّهُمَا
يرويان عَن أبي حَازِم (قلت) نَص الْمزي فِي
الْأَطْرَاف أَنه سُفْيَان الثَّوْريّ قَوْله " كَانَ
رجال " قَالَ الْكرْمَانِي التنكير فِيهِ للتنويع أَو
للتَّبْعِيض أَي بعض الرِّجَال وَلَو عرفه لأفاد
الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ خلاف الْمَقْصُود وَتَبعهُ
بَعضهم فِي شَرحه فَقَالَ التنكير فِيهِ للتنويع
وَهُوَ يَقْتَضِي أَن بَعضهم كَانَ بِخِلَاف ذَلِك
وَهُوَ كَذَلِك (قلت) مَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد
الْمَذْكُورَة يرد مَا ذكرَاهُ لِأَن فِي رِوَايَته
رَأَيْت الرِّجَال بالتعريف قَوْله " يصلونَ " خبر
كَانَ قَوْله " عاقدي أزرهم " أَصله عاقدين أزرهم
فَلَمَّا أضيف سَقَطت النُّون وَهِي حَال وَيجوز أَن
يكون انتصابه على أَنه خبر كَانَ وَيكون قَوْله "
يصلونَ " فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله "
كَهَيئَةِ الصّبيان " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد "
كأمثال الصّبيان " كَمَا ذكرنَا وَالْمعْنَى قريب.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ أَن الثَّوْب إِذا كَانَ يُمكن
الالتحاف بِهِ كَانَ أولى من الاتزار بِهِ لِأَنَّهُ
أبلغ فِي السّتْر
(وَيُقَال للنِّسَاء لَا ترفعن رؤسكن حَتَّى يَسْتَوِي
الرِّجَال جُلُوسًا) قَالَ الْكرْمَانِي أَي قَالَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " فَقَالَ قَائِل يَا معشر
النِّسَاء " كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن وَهَذَا الْقَائِل
أَعم من أَن يكون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَو غَيره وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة
الْكشميهني " وَيُقَال للنِّسَاء " وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ " فَقيل للنِّسَاء " وروى أَبُو دَاوُد
ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر "
سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يَقُول من كَانَ مِنْكُن تؤمن بِاللَّه
وَالْيَوْم الآخر فَلَا ترفع رَأسهَا حَتَّى يرفع
الرِّجَال رُؤْسهمْ كَرَاهِيَة أَن تَرين عورات
الرِّجَال " وَهَذَا فِيهِ التَّصْرِيح بِأَن
الْقَائِل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَوْله " لَا ترفعن " أَي من السُّجُود
قَوْله " جُلُوسًا " أما جمع جَالس كالركوع جمع رَاكِع
وَأما مصدر بِمَعْنى جالسين وعَلى كل حَال انتصابه على
الْحَال وَإِنَّمَا نهى عَن رفع رُؤْسهنَّ قبل جُلُوس
الرِّجَال خشيَة أَن يلمحن شَيْئا من عورات الرِّجَال
عِنْد الرّفْع مِنْهُ
7 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي
الْجُبَّة الشامية، والجبة، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة. هِيَ الَّتِي تلبس، وَجَمعهَا
جباب، والشامية. نِسْبَة إِلَى الشَّام، وَهُوَ
الإقليم الْمَعْرُوف دَار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم
السَّلَام. وَيجوز فِيهِ الْألف والهمزة الساكنة،
وَالْمرَاد بالجبة الشامية هِيَ: الَّتِي تنسجها
الْكفَّار، وَإِنَّمَا ذكره بِلَفْظ الشامية مُرَاعَاة
للفظ الحَدِيث. وَكَانَ هَذَا فِي غَزْوَة تَبُوك،
وَالشَّام إِذْ ذَاك كَانَت بِلَاد كفر، وَلم تفتح
بعد، وَإِنَّمَا أولنا بِهَذَا لِأَن الْبَاب مَعْقُود
لجَوَاز الصَّلَاة فِي الثِّيَاب الَّتِي تنسجها
الْكفَّار مَا لم تتَحَقَّق نجاستها. وقالَ الحَسَنُ
فِي الثِّيَابِ يَنْسُجُهَا المجُوسُ لَمْ يَرَ بِهَا
بَأَساً.
الْحسن: هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوَصله نعيم بن حَمَّاد،
وَعَن مُعْتَمر عَن هِشَام عَنهُ. وَلَفظه: (لَا بَأْس
بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الَّذِي ينسجه الْمَجُوس
قبل أَن يغسل) . وروى أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن
فِي كتاب (الصَّلَاة) تأليفه: عَن الرّبيع، (عَن
الْحسن: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي رِدَاء
الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ) . قَوْله: (الْمَجُوس)
جمع الْمَجُوسِيّ، وَهُوَ معرفَة سَوَاء كَانَ محلى
بِالْألف وَاللَّام أم لَا، وَالْأَكْثَر على أَنه
يجْرِي مجْرى الْقَبِيلَة لَا مجْرى الْحَيّ فِي بَاب
الصّرْف، وَفِي بعض النّسخ: ينسجها الْمَجُوسِيّ،
بِالْيَاءِ، وَالْجُمْلَة صفة للثياب، والمسافة بَين
النكرَة والمعرفة بلام الْجِنْس قَصِيرَة، فَلذَلِك
وصفت الْمعرفَة بالنكرة. كَمَا وصف اللَّئِيم بقوله:
يسبني فِي قَول الشَّاعِر:
(وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني)
وَفِي بعض النّسخ: (فِي ثِيَاب ينسجها الْمَجُوس)
بتنكير الثِّيَاب، وعَلى هَذِه النُّسْخَة لَا يحْتَاج
إِلَى مَا ذكرنَا، وينسج من بَاب: ضرب يضْرب، وَمن
بَاب: نصر ينصر، وَقَالَ ابْن التِّين: قرأناه بِكَسْر
السِّين. قَوْله: (لم ير) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم
أَي: لم ير الْحسن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (لم ير)
بِلَفْظ الْمَجْهُول، أَي: الْقَوْم، فعلى الأول يكون
من بَاب التَّجْرِيد، كَأَنَّهُ جرد عَن نَفسه شخصا
فأسند إِلَيْهِ.
(4/69)
وقالَ مَعْمَرٌ رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ
يَلْبَسُ مِن ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ
بِالبَوْلِ.
معمر، بِفَتْح الْمِيم: هُوَ ابْن الراشد، وَالزهْرِيّ
هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَوَصله عبد
الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَنهُ. قَوْله: (بالبول) إِن
كَانَ المُرَاد مِنْهُ جنس الْبَوْل فَهُوَ مَحْمُول
على أَنه كَانَ يغسلهُ قبل لبسه، وَإِن كَانَ المُرَاد
مِنْهُ الْبَوْل الْمَعْهُود، وَهُوَ بَوْل مَا
يُؤْكَل لَحْمه فَهُوَ طَاهِر عِنْد الزُّهْرِيّ.
وَصَلَّى عَلِيٌّ فِي ثَوْب غَيْرَ مَقْصُورٍ.
50
- 50 عَليّ: هُوَ ابْن أبي طَالب، وَأَرَادَ: بِغَيْر
مَقْصُور الخام. وَالْمرَاد أَنه كَانَ جَدِيدا لم
يغسل. وَقَالَ ابْن التِّين: غير مَقْصُور، أَي: غير
مدقوق. يُقَال: قصرت الثَّوْب إِذا دققته، وَمِنْه
الْقصار. قلت: الْقصر لَيْسَ مُجَرّد الدق، والدق لَا
يكون إلاَّ بعد الْغسْل الَّذِي يُبَالغ فِيهِ.
وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي لم يلبس بعد، وروى ابْن سعد
من طَرِيق عَطاء بن مُحَمَّد. قَالَ: (رَأَيْت عليا
رَضِي اتعالى عَنهُ، صلى وَعَلِيهِ قَمِيص كرابيس غير
مغسول) . وَعلم من هَذِه الْآثَار الثَّلَاثَة جَوَاز
لبس الثِّيَاب الَّتِي ينسجها الْكفَّار، وَجَوَاز لبس
الثِّيَاب الَّتِي تصبغ بالبول بعد الْغسْل، وَجَوَاز
لبس الثِّيَاب الخام قبل الْغسْل. وَقَالَ ابْن بطال:
اخْتلفُوا فِي الصَّلَاة فِي ثِيَاب الْكفَّار،
فَأجَاز الشَّافِعِي والكوفيون لباسها، وَإِن لم تغسل
حَتَّى تتبين فِيهَا النَّجَاسَة. وَقَالَ مَالك:
يسْتَحبّ أَن لَا يُصَلِّي على الثِّيَاب إِلَّا من حر
أَو برد أَو نَجَاسَة بالموضع، وَقَالَ مَالك أَيْضا:
تكره الصَّلَاة فِي الثِّيَاب الَّتِي ينسجها
الْمُشْركُونَ، وَفِيمَا لبسوه، فَإِن فعل يُعِيد فِي
الْوَقْت. وَقَالَ إِسْحَاق جَمِيع ثِيَابهمْ
طَاهِرَة.
فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة أثر الزُّهْرِيّ وَعلي
للتَّرْجَمَة؟ قلت: لما ذكر أثر الْحسن المطابق
للتَّرْجَمَة ذكر الأثرين الآخرين اسْتِطْرَادًا.
36392 - ح دّثنا يَحْيَى قالَ حدّثنا أبُو مُعَاوِيَةَ
عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عنْ
مُغِيَرَةَ ابنِ شُعْبَةَ قالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ
فِي سَفَرٍ فقالَ يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإِدَاوَةَ
فَأَخَذْتُها فَانْطَلَقَ رسولُ الله حَتى تَوَارَى
عَنِّي فَقَضَى حاجَتهُ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ
فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ منْ كُمِّهَا فَضَاقَتْ
فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أسْفلِهَا فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ
فَتَوَضَّأ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ وَمَسَحَ عَلَى
خُفَّيْهِ ثُمَّ صَلَّى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: يحيى بن مُوسَى أَبُو
زَكَرِيَّا الْبَلْخِي، يعرف بخت، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق.
وَقَالَ الغساني فِي (التَّقْيِيد) : قَالَ
البُخَارِيّ فِي بَاب الصَّلَاة فِي الْجُبَّة الشامية
وَفِي الْجَنَائِز وَفِي تَفْسِير سُورَة الدُّخان:
حدّثنا يحيى حدّثنا أَبُو مُعَاوِيَة، فنسب ابْن السكن
الَّذِي فِي الْجَنَائِز بِأَنَّهُ يحيى بن مُوسَى
الْبَلْخِي، وأهمل الْمَوْضِعَيْنِ الآخرين، وَلم
أجدهما منسوبين لأحد من شُيُوخنَا. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَأَنا وجدته فِي بعض النّسخ مَنْسُوبا
إِلَى جَعْفَر ابْن أبي زَكَرِيَّا البُخَارِيّ
البيكندي، وَيحْتَمل أَن يكن يحيى بن معِين: لِأَنَّهُ
روى عَن أبي مُعَاوِيَة، وَالْبُخَارِيّ يروي عَنهُ.
الثَّانِي: أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم،
بالمعجمتين. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن مهْرَان
الْأَعْمَش. الرَّابِع: مُسلم بن صبيح، بِضَم الصَّاد:
أَبُو الضُّحَى الْعَطَّار، وَتردد الْكرْمَانِي فِي
هَذَا، فَقَالَ: مُسلم بن عمرَان البطين، بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة، أَو مُسلم بن صبيح، وَكَذَا تردد
فِي أبي مُعَاوِيَة. وَقَالَ مُحَمَّد بن خازم:
وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ أَبُو مُعَاوِيَة شَيبَان
النَّحْوِيّ، ثمَّ قَالَ: وأمثال هَذِه الترددات لَا
تقدح فِي صِحَة الحَدِيث وَلَا فِي إِسْنَاده، لِأَن
أياً كَانَ مِنْهُم فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط
البُخَارِيّ، بِدَلِيل أَنه قد روى فِي (الْجَامِع)
عَن كل مِنْهُم. وَقَالَ بَعضهم: لم يرو يحيى عَن
شَيبَان. قلت: هَذَا نفي لَا يُعَارض الْإِثْبَات.
الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي، سمي بِهِ
لِأَنَّهُ سرق فِي صغره. السَّادِس: الْمُغيرَة بن
شُعْبَة رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وكوفي.
تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل،
وَفِي
(4/70)
اللبَاس عَن قيس بن حَفْص، كِلَاهُمَا عَن عبد
الْوَاحِد بن زِيَاد، وَعَن إِسْحَاق بن نصر عَن أبي
أُسَامَة مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة
عَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي
مُعَاوِيَة. وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن
خشرم، كِلَاهُمَا عَن عِيسَى بن يُونُس أربعتهم عَن
الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح عَنهُ
بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن خشرم
بِهِ، وَفِي الزِّينَة عَن أَحْمد بن حَرْب عَن أبي
مُعَاوِيَة نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الطَّهَارَة عَن هِشَام بن عمار عَن عِيسَى بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (الْإِدَاوَة) بِكَسْر
الْهمزَة: المطهرة. قَوْله: (حَتَّى توارى) أَي: غَابَ
وخفي. قَوْله: (فضاقت) ، أَي: الْجُبَّة.
وَفِيه جَوَاز أَمر الرئيس غَيره بِالْخدمَةِ، والتستر
عَن أعين النَّاس عِنْد قَضَاء الْحَاجة، والإعانة على
الْوضُوء، وَالْمسح على الْخُف. وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
8 - (بابُ كرَاهِيَةِ التعرِّي فِي الصَّلاَةِ
وَغَيْرِها)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي: بَاب كَرَاهِيَة
التعري فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا، أَي: هَذَا بَاب فِي
بَيَان كَرَاهَة التعري فِي نفس الصَّلَاة وَغَيرهَا
أَي: غير الصَّلَاة.
46303 - ح دّثنا مَطَرُ بنُ الْفَضْلِ قالَ حدّثنا
رَوْحٌ قالَ حدّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ إسْحَاقَ قَالَ
حدّثنا عَمْرُو بنُ دِينارٍ قالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ
عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أنَّ رسولَ اللَّهِ كانَ
يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ
وَعَلَيْهِ إزَارُهُ فقالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ
يَا ابنَ أخي لَوْ حَلَلْتَ إزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى
مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ قالَ فَحَلَّهُ عَلَى
مَنْكِبَيْهِ فَسَقَطَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ فَمَا
رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْياناً. (الحَدِيث 463 طرفاه
فِي: 2851، 9283) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ
عُمُوم قَوْله: (فَمَا رُؤِيَ بعد ذَلِك عُريَانا) ،
لِأَن ذَلِك يتَنَاوَل مَا بعد النُّبُوَّة كَمَا
يتَنَاوَل مَا قبلهَا، ثمَّ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل
حَالَة الصَّلَاة وَغَيرهَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مطر بن الْفضل
الْمروزِي. الثَّانِي: روح، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون
الْوَاو: ابْن عبَادَة التنيسِي، مر فِي بَاب اتِّبَاع
الْجَنَائِز من الْإِيمَان. الثَّالِث: زَكَرِيَّا بن
إِسْحَاق الْمَكِّيّ. الرَّابِع: عَمْرو بن دِينَار
الجُمَحِي، تقدم فِي بَاب كتاب الْعلم. الْخَامِس:
جَابر بن عبد ا.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه:
التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد والمضارع. وَفِيه: أَن
رُوَاته مَا بَين تنيسي ومروزي ومكي، وَهَذَا الحَدِيث
من مَرَاسِيل الصَّحَابَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم،
فَإِن جَابِرا لم يحضر الْقَضِيَّة. وَهِي حجَّة،
خلافًا لطائفة قد شذوا فِيهِ، فَفِي نفس الْأَمر لَا
يَخْلُو إِمَّا أَن يكون سمع ذَلِك من رَسُول الله بعد
ذَلِك، أَو من بعض من حضر ذَلِك من الصَّحَابَة،
وَالْأَقْرَب أَنه سَمعه من الْعَبَّاس، لِأَنَّهُ حدث
بِهِ عَنهُ أَيْضا، وسياقه أتم. أخرجه الطَّبَرَانِيّ،
وَفِيه؛ (فَقَامَ وَأخذ إزَاره، وَقَالَ: نهيت أَن
أَمْشِي عُريَانا) .
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي بُنيان الْكَعْبَة. وَأخرجه
مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن روح
بن عبَادَة عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ ينْقل مَعَهم) أَي:
مَعَ قُرَيْش. قَوْله: (للكعبة) أَي: لبِنَاء
الْكَعْبَة. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لما بنت قُرَيْش
الْكَعْبَة لم يبلغ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، الْحلم. وَقَالَ ابْن بطال وَابْن
التِّين: كَانَ عمره خمس عشرَة سنة. وَقَالَ هِشَام:
بَين بِنَاء الْكَعْبَة والمبعث خمس سِنِين. وَقيل:
إِن بِنَاء الْكَعْبَة كَانَ فِي سنة سِتّ
وَثَلَاثِينَ من مولده، وَذكر الْبَيْهَقِيّ بناءا
لكعبة قبل تزَوجه خَدِيجَة رَضِي اتعالى عَنْهَا،
وَالْمَشْهُور أَن بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة بعد تزوج
خَدِيجَة بِعشر سِنِين، فَيكون عمره إِذْ ذَاك خَمْسَة
وَثَلَاثِينَ سنة. وَهُوَ الَّذِي نَص عَلَيْهِ
مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: كَانَ
بِنَاء الْكَعْبَة قبل المبعث بِخمْس عشرَة سنة،
وَهَكَذَا قَالَه مُجَاهِد وَغَيره، وَفِي (سيرة ابْن
إِسْحَاق) أَنه كَانَ يحدث عَمَّا كَانَ ايحفظه فِي
صغره أَنه قَالَ: (لقد رَأَيْتنِي فِي غلْمَان قُرَيْش
بِنَقْل الْحِجَارَة لبَعض مَا تلعب بِهِ الغلمان،
كلنا قد تعرى وَأخذ إزَاره وَجعل على
(4/71)
رقبته يحمل عَلَيْهَا الْحِجَارَة، فَإِنِّي لأقبل
مَعَهم كَذَلِك وَأدبر إِذْ لكمني لَا كم، مَا أرَاهُ
إلاَّ لكمة وجيعة، ثمَّ قَالَ شدّ عَلَيْك إزارك.
فَأَخَذته فشددته عَليّ ثمَّ جعلت أحمل الْحِجَارَة
على رقبتي وإزاري عَليّ من بَين أَصْحَابِي) . وَقَالَ
السُّهيْلي: وَحَدِيث ابْن إِسْحَاق هَذَا إِن صَحَّ
فَهُوَ مَحْمُول على أَن هَذَا الْأَمر كَانَ
مرَّتَيْنِ، فِي حَال صغره. وَعند بُنيان الْكَعْبَة.
قَوْله: (وَعَلِيهِ إِزَار) ويروى: (عَلَيْهِ إزَاره)
، بالضمير، وَهَذِه الْجُمْلَة حَال بِالْوَاو، وَفِي
بعض النّسخ بِلَا وَاو. قَوْله: (عَمه) مَرْفُوع
لِأَنَّهُ عطف بَيَان. قَوْله: (لَو حللت) ، جَوَاب:
لَو، مَحْذُوف إِن كَانَت شَرْطِيَّة، وَتَقْدِير: لَو
حللت إزارك لَكَانَ أسهل عَلَيْك، وَيجوز أَن تكون:
لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب حينئذٍ.
قَوْله: (فَجعلت) أَي الْإِزَار، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (فَجَعَلته) ، بالضمير. وَجَاء فِي
رِوَايَة غير (الصَّحِيحَيْنِ) : (إِن الْملك نزل
عَلَيْهِ فَشد إزَاره) . قَوْله: (قَالَ: فَحله) ،
يحْتَمل أَن يكون مقول جَابر أَو مقول من حَدثهُ.
قَوْله: (فَسقط) أَي: رَسُول الله مغشياً عَلَيْهِ،
أَي مغمى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لانكشاف عَوْرَته.
قَوْله: (فَمَا رُؤِيَ) ، بِضَم الرَّاء بعْدهَا همزَة
مَكْسُورَة وَيجوز كسر الرَّاء بعْدهَا يَاء آخر
الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ همزَة مَفْتُوحَة. وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَلم يتعرَّ بعد ذَلِك)
، قَوْله: (عُريَانا) نصب على أَنه مفعول ثَان لرؤي.
ذكر مَا فِيهِ من الْفَوَائِد مِنْهَا: أَن النَّبِي
كَانَ فِي صغره محمياً عَن القبائح، وأخلاق
الْجَاهِلِيَّة، منزهاً عَن الرذائل والمعايب قبل
النُّبُوَّة وَبعدهَا. وَمِنْهَا: أَنه كَانَ جبله
اتعالى على أحسن الْأَخْلَاق وَالْحيَاء الْكَامِل
حَتَّى كَانَ أَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها،
فَلذَلِك غشي عَلَيْهِ، وَمَا رُؤِيَ بعد ذَلِك
عُريَانا. وَمِنْهَا: أَنه لَا يجوز التعري للمرء
بِحَيْثُ تبدو عَوْرَته لعين النَّاظر إِلَيْهَا،
وَالْمَشْي عُريَانا بِحَيْثُ لَا يَأْمَن أعين
الْآدَمِيّين إلاَّ مَا رخص فِيهِ من رُؤْيَة الحلائل
لِأَزْوَاجِهِنَّ عُرَاة. قَالُوا: وَقد دلّ حَدِيث
الْعَبَّاس الْمَذْكُور أَنه لَا يجوز التعري فِي
الْخلْوَة، وَلَا لأعين النَّاس. وَقيل: إِنَّمَا مخرج
القَوْل مِنْهُ للْحَال الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا،
فَحَيْثُ كَانَت قُرَيْش رجالها ونساؤها تنقل مَعَه
الْحِجَارَة، فَقَالَ: نهيت أَن أَمْشِي عُريَانا فِي
مثل هَذِه الْحَالة، لَو كَانَ ذَلِك نهيا عَن التعري
فِي كل مَكَان لَكَانَ قد نَهَاهُ عَنهُ فِي غسل
الْجَنَابَة فِي الْموضع الَّذِي قد أَمن أَن يرَاهُ
فِيهِ أحد، وَلكنه نَهَاهُ عَن التعري بِحَيْثُ يرَاهُ
فِيهِ أحد، وَالْقعُود بِحَيْثُ يرَاهُ من لَا يحل
لَهُ أَن يرى عَوْرَته فِي معنى الْمَشْي عُريَانا،
وَلذَلِك نهى الشَّارِع عَن دُخُول الْحمام بِغَيْر
إِزَار فَإِن قلت: روى الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة
مَرْفُوعا: (لَو أَسْتَطِيع أَن أواري عورتي من شعاري
لواريتها) . وَقَالَ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ: (إِذا
كشف الرجل عَوْرَته أعرض عَنهُ الْملك) . وَقَالَ
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: (إِنِّي لأغتسل فِي
الْبَيْت المظلم فَمَا أقيم صلبي حَيَاء من رَبِّي) .
قلت: كل ذَلِك مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب لاستعمال
السّتْر، لَا على الْحُرْمَة، وَفِي (التَّوْضِيح) :
إِذا أَوجَبْنَا السّتْر فِي الْخلْوَة فَهَل يجوز أَن
ينزل فِي مَاء النَّهر وَالْعين بِغَيْر مئزر؟
وَجْهَان: أَحدهمَا: لَا، للنَّهْي عَنهُ،
وَالثَّانِي: نعم، لِأَن المَاء يقوم مقَام المئزر فِي
ستر الْعَوْرَة، وَا أعلم.