عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 73 - (بابُ كَفَّارَةِ البُزَاقِ فِي
المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَفَّارَة البزاق فِي
الْمَسْجِد، وَالْكَفَّارَة على وزن: فعالة،
للْمُبَالَغَة، كقتالة وضرابة، وَهِي من الصِّفَات
الْغَالِبَة فِي بَاب الإسمية، وَهِي عبارَة عَن الفعلة
والخصلة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة أَي:
تسترها وتمحوها، وأصل الْمَادَّة من الْكفْر وَهُوَ
السّتْر، وَمِنْه سمى الزَّارِع: كَافِرًا لِأَنَّهُ يستر
الْحبّ فِي الأَرْض، وَسمي الْمُخَالف لدين الْإِسْلَام
كَافِرًا لِأَنَّهُ يستر الدّين الْحق، والتكفير هُوَ فعل
مَا يجب بِالْحِنْثِ، والإسم مِنْهُ: الْكَفَّارَة.
51477 - (حدّثنا آدَمُ قا حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدّثنا
قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ قَالَ
النبيُّ (البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ
وكَفَّارَتُها دَفْنُها) .)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: التَّصْرِيح
بِسَمَاع قَتَادَة عَن أنس. وَفِيه: القَوْل.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن حبيب عَن خَالِد
بن الْحَارِث. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن
إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (البزاق فِي الْمَسْجِد) وَفِي رِوَايَة مُسلم:
(التفل فِي الْمَسْجِد) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من
فَوق، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (وكفارته أَن تواريه)
أَي: أَن تغيبه يَعْنِي: تدفنه. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد)
ظرف للْفِعْل فَلَا يشْتَرط كَون الْفَاعِل فِيهِ حَتَّى
لَو بَصق من هُوَ خَارج الْمَسْجِد فِيهِ يتَنَاوَلهُ
النَّهْي. قَوْله: (خطية) أَي إِثْم، وَأَصلهَا
بِالْهَمْزَةِ، وَلَكِن يجوز تَشْدِيد الْيَاء. وَاخْتلف
الْعلمَاء فِي المُرَاد بدفن البزاق، فالجمهور على أَنه
الدّفن فِي تُرَاب الْمَسْجِد ورمله وحصائه إِن كَانَت
فِيهِ هَذِه الْأَشْيَاء وإلاَّ يُخرجهُ. وروى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول ا:
(من دخل هَذَا الْمَسْجِد فبزق فِيهِ أَو تنخم فليحفر
فليدفنه. فَإِن لم يفعل فليبزق فِي ثَوْبه ثمَّ ليخرج
بِهِ) . قَوْله: (فَإِن لم يفعل) ، أَي: فَإِن لم يحْفر
أَو: لم يُمكن الْحفر (فليبزق فِي ثَوْبه) . وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ:
(البزاق فِي الْمَسْجِد خطية وكفارته دَفنه) ، وَإِسْنَاده
ضَعِيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا فِي غير الْمَسْجِد،
وَأما الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَلَا يبزق إلاَّ فِي
ثَوْبه، ورد عَلَيْهِ بِأَحَادِيث كَثِيرَة إِن ذَلِك
كَانَ فِي الْمَسْجِد، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من
حَدِيث سعد بن أبي وَقاص مَرْفُوعا بِإِسْنَاد حسن: (من
تنخم فِي الْمَسْجِد فليغيب نخامته أَن تصيب جلد مُؤمن أَو
ثَوْبه فتؤذيه) . وروى أَحْمد أَيْضا، وَالطَّبَرَانِيّ
بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا، قَالَ:
(من تنخع فِي الْمَسْجِد فَلم يدفنه فسيئة، وَإِن دَفنه
فحسنة) . وَفِي حَدِيث مُسلم عَن ابي ذَر: (وَوجدت فِي
مساوىء أَعمال أمتِي النخامة تكون فِي الْمَسْجِد وَلَا
تدفن) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَلم يثبت لَهَا حكم
السَّيئَة بِمُجَرَّد إيقاعها فِي الْمَسْجِد، بل بِهِ
وبتركها غير مدفونة، وروى سعيد بن مَنْصُور: (عَن أبي
عُبَيْدَة أَنه تنخم فِي الْمَسْجِد لَيْلَة فنسي أَن
يدفنها حَتَّى رَجَعَ إِلَى منزله، فَأخذ شعلة من نَار
ثمَّ جَاءَ فطلبها حَتَّى دَفنهَا، ثمَّ قَالَ: الْحَمد
الَّذِي لم يكْتب عليَّ خَطِيئَة اللَّيْلَة) .
78 - (حَدثنَا إِسْحَاق بن نصر قَالَ حَدثنَا عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام سمع أَبَا هُرَيْرَة
(4/154)
عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا قَامَ أحدكُم إِلَى الصَّلَاة
فَلَا يبصق أَمَامه فَإِنَّمَا يُنَاجِي الله مادام فِي
مُصَلَّاهُ وَلَا عَن يَمِينه فَإِن عَن يَمِينه ملكا
وليبصق عَن يسَاره أَو تَحت قدمه فيدفنها) مطابقته
للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فيدفنها " (ذكر رِجَاله) وهم
خَمْسَة. الأول اسحق بن نصر هُوَ اسحق بن إِبْرَاهِيم بن
نصر وَقد تقدم. الثَّانِي عبد الرَّزَّاق صَاحب المُصَنّف.
الثَّالِث معمر بن رَاشد. الرَّابِع همام على وزن فعال
بِالتَّشْدِيدِ ابْن مُنَبّه. الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة.
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك وَفِيه العنعنة فِي
موضِعين وَفِيه التَّصْرِيح بِسَمَاع همام عَن أبي
هُرَيْرَة وَفِيه عنعنة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه أَن رُوَاته
مَا بَين بخاري بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْخَاء
الْمُعْجَمَة وصنعاني وبصري (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله "
فَلَا يبصق " نهى الْغَائِب قَوْله " فَإِنَّمَا يُنَاجِي
الله " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " فَإِنَّهُ يُنَاجِي "
قَوْله " مادام فِي مُصَلَّاهُ " أَي مُدَّة دَوَامه فِي
مُصَلَّاهُ (فَإِن قلت) هَذَا تَخْصِيص الْمَنْع بِمَا
إِذا كَانَ فِي الصَّلَاة وَرِوَايَة " أَذَى الْمُسلم "
تَقْتَضِي الْمَنْع مُطلقًا وَلَو لم يكن فِي الصَّلَاة
(قلت) هَذِه مَرَاتِب فكونه فِي الصَّلَاة أَشد إِثْمًا
مُطلقًا وَكَونه فِي جِدَار الْقبْلَة أَشد إِثْمًا من
كَونه فِي غَيرهَا من جدر الْمَسْجِد قَوْله " فيدفنها "
بِنصب النُّون لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر وَيجوز رَفعهَا
على أَن تكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي فَهُوَ يدفنها
وَيجوز الْجَزْم عطفا على الْأَمر وتأنيث الضَّمِير فِي "
فيدفنها " على تَأْوِيل البصقة الَّتِي يدل عَلَيْهَا
قَوْله وليبصق وَقيل إِنَّمَا لم يقل يغطيها لِأَن التغطية
يسْتَمر الضَّرَر بهَا إِذْ لَا يُؤمن أَن يجلس غَيره
عَلَيْهَا فتؤذيه بِخِلَاف الدّفن فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ
التعميق فِي بَاطِن الأَرْض (قلت) يُؤَيّد هَذَا مَا
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ " فليحفره وليدفنه " وَعند ابْن
أبي شيبَة مَرْفُوعا " إِذا بزق فِي الْمَسْجِد فليحفر
وليمعن " وَفِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة " فليبعد " لَا
يُقَال أَن الْبَاب مَعْقُود على دفن النخامة والْحَدِيث
يدل على دفن البزاق لأَنا نقُول قد قُلْنَا فِيمَا مضى
أَنه لَا تفَاوت بَينهمَا فِي الحكم (فَإِن قلت) قَوْله "
فَإِن عَن يَمِينه ملكا " يَقْتَضِي اخْتِصَاص منع البزق
عَن يَمِينه لأجل الْملك وَفِي يسَاره أَيْضا ملك (قلت)
أُجِيب بِأَنا لَو سلمنَا ذَلِك فلليمين شرف وَفِيه نظر
لَا يخفى وَقيل بِأَن الصَّلَاة أم الْحَسَنَات
الْبَدَنِيَّة فَلَا دخل لكاتب السَّيِّئَات فِيهَا وَفِيه
نظر أَيْضا لِأَنَّهُ وَلَو لم يكْتب لَا يغيب عَنهُ
فَأحْسن مَا يُجَاب بِهِ أَن يُقَال أَن لكل وَاحِد قرينا
وموقفه يسَاره كَمَا ورد فِي حَدِيث أبي أُمَامَة رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ " فَإِنَّهُ يقوم بَين يَدي الله وَملكه
عَن يَمِينه وقرينه عَن يسَاره " فَلَعَلَّ الْمُصَلِّي
إِذا تفل عَن يسَاره يَقع على قرينه وَهُوَ الشَّيْطَان
وَلَا يُصِيب الْملك مِنْهُ شَيْء
83 - (بابُ دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دفن النخامة فِي الْمَسْجِد،
يَعْنِي جَوَاز ذَلِك. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ
ظَاهِرَة.
93 - (بابٌ إِذَا بَدَرَهُ البُزَاقُ فَلْيَأْخُذْ
بِطَرَفِ ثَوْبِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا بدره البزاق: إِذا غلب
عَلَيْهِ وَلم يقدر على دَفعه، وَلَكِن لَا يُقَال: بدره،
بل يُقَال: بدر إِلَيْهِ، قَالَ الْجَوْهَرِي: بدرت إِلَى
الشَّيْء أبدر بدوراً: أسرعت، وَكَذَلِكَ: بادرت إِلَيْهِ،
وتبادر الْقَوْم تسارعوا، وَأجَاب بَعضهم عَن هَذَا نصْرَة
للْبُخَارِيّ بِأَنَّهُ يسْتَعْمل فِي المغالبة فَيُقَال:
بادرت كَذَا فبدرني أَي: سبقني قلت: هَذَا كَلَام من لم
يمس شَيْئا من علم التصريف. فَإِن فِي المغالبة يُقَال:
بادرني فبدرته، وَلَا يُقَال: بادرت كَذَا فبدرني،
وَالْفِعْل اللَّازِم فِي بَاب المغالبة يَجْعَل
مُتَعَدِّيا بِلَا حرف صلَة، يُقَال: كارمني فكرمته،
وَلَيْسَ هُنَا بَاب المغالبة حَتَّى يُقَال: بدره.
71497 - حدّثنا مالِك بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا
زُهَيْرٌ قَالَ حدّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أنَس أنَّ النبيَّ
رأى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ فَحَكَّها بِيَدِهِ ورُؤِيَ
مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ أوْ رُؤِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ
وشِدَّتُهُ عليهِ وَقَالَ (إنَّ أحَدَكُمْ إذَا قامَ فِي
صَلاَةِ فإنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ أوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ
وبَيْنَ قِبْلتِه فَلاَ يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ
ولَكِنْ عَنْ يَسَارِه أَو تَحْتَ قَدَمِهِ) ثُمَّ أخَذَ
طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى
بَعْض قَالَ أوْ يَفْعَلُ هَكذَا. .
(4/155)
التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ:
أَولهمَا مبادرة البزاق، وَالْآخر هُوَ أَخذ الْمُصَلِّي
بزاقه بِطرف ثَوْبه، وَفِي الحَدِيث مَا يُطَابق الثَّانِي
وَهُوَ قَوْله: (ثمَّ أَخذ طرف رِدَائه فبزق فِيهِ)
وَلَيْسَ للجزء الأول ذكر فِي الحَدِيث أصلا، وَلِهَذَا
اعْترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال،
وَإِن كَانَ فِيهِ تعسف: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا
فِي بعض طرق الحَدِيث، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث
جَابر بِلَفْظ: (وليبصق عَن يسَاره تَحت رجله الْيُسْرَى،
فَإِن عجلت بِهِ بادرة فَلْيقل بِثَوْبِهِ هَكَذَا، ثمَّ
طوى بعضه على بعض) . وروى أَبُو دَاوُد: (فَإِن عجلت بِهِ
بادرة فَلْيقل بِثَوْبِهِ هَكَذَا، وَضعه على فِيهِ ثمَّ
دلكه) . قَوْله: (بادرة) أَي: حِدة، وبادرة الْأَمر:
حِدته، وَالْمعْنَى: إِذا غلب غليه البصاق والنخامة
فَلْيقل بِثَوْبِهِ هَكَذَا. وَقَوله: (وَضعه على فِيهِ)
تَفْسِير لقَوْله: (فَلْيقل بِهِ) ، وَلأَجل ذَلِك ترك
العاطف أَي: وضع ثَوْبه على فَمه حَتَّى يتلاشى البزاق
فِيهِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مَالك بن إِسْمَاعِيل
أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ، وَقد مر فِي بَاب المَاء
الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان. الثَّانِي: زُهَيْر،
بِالتَّصْغِيرِ: ابْن مُعَاوِيَة الْكُوفِي. الثَّالِث:
حميد الطَّوِيل. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من
الْمَسْجِد، وَذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من
الأبحاث. ولنذكر هَهُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ. قَوْله:
(كَرَاهِيَة) ، مَرْفُوع بقوله: رُؤِيَ، على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو رُؤِيَ كراهيته) شكّ من
الرَّاوِي قَوْله: (لذَلِك) أَي: لأجل رُؤْيَة النخامة فِي
الْقبْلَة. قَوْله: (وشدته عَلَيْهِ) يجوز فِيهِ الرّفْع
والجر عطفا على الْكَرَاهِيَة أَو على لذَلِك قَوْله: (أَو
ربه) مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (بَينه وَبَين
الْقبْلَة) ، وَالْجُمْلَة معطوفة على: (يُنَاجِي ربه) ،
عطف الْجُمْلَة الإسمية على الفعلية. قَوْله: (وَقَالَ)
فِي بعض النّسخ: (فَقَالَ) ، بِالْفَاءِ.
وَفِيه من الْفَوَائِد: اسْتِحْبَاب إِزَالَة مَا يستقذر
أَو يتنزه عَنهُ من الْمَسْجِد. وَفِيه: تفقد الإِمَام
أَحْوَال الْمَسَاجِد وتعظيمها وصيانتها. وَفِيه: أَن
للْمُصَلِّي أَن يبصق فِي الصَّلَاة وَلَا تفْسد صلَاته.
وَفِيه: أَنه إِذا نفخ أَو تنحنح جَازَ، كَذَا قَالُوا،
وَلَكِن هَذَا بالتفصيل وَهُوَ أَن التنحنح لَا يَخْلُو
إِمَّا أَن يكون بِغَيْر اخْتِيَاره فَلَا شَيْء عَلَيْهِ،
وَإِن كَانَ بِاخْتِيَارِهِ فَإِن حصلت مِنْهُ حُرُوف
ثَلَاثَة تفْسد صلَاته، وَفِي الحرفين قَولَانِ، وَعَن أبي
حنيفَة: إِن النفخ إِذا كَانَ يسمع فَهُوَ بِمَنْزِلَة
الْكَلَام يقطع الصَّلَاة. وَفِيه: إِن البصاق طَاهِر،
وَكَذَا النخامة والمخاط، خلافًا لمن يَقُول: كل مَا
تستقذره النَّفس حرَام. وَمن فَوَائده: أَن التحسين
والتقبيح إِنَّمَا هُوَ بِالشَّرْعِ، لكَون الْيَمين مفضلة
على الْيَسَار، وَالْيَد مفضلة على الْقدَم.
04 - (بَاب عِظَةِ الإمامِ النَّاسَ فِي إتْمَامِ
الصَّلاةِ وذِكْرِ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وعظ الإِمَام النَّاس بِأَن
يتموا صلَاتهم وَلَا يتْركُوا مِنْهَا شَيْئا، والعظة على
وزن: عِلّة، مصدر من: وعظ يعظ وعظاً وعظة وموعظة، وأصل:
عظة: وعظ، فَلَمَّا حذفت مِنْهُ الْوَاو عوضت مِنْهَا
التَّاء فِي آخِره، أما الْحَذف فلوجوده فِي فعله، وَأما
كسر الْعين فَمن الْوَاو. فَافْهَم. والوعظ: النصح
والتذكير بالعواقب، وَيُقَال: وعظته فاتعظ أَي: قبل
الموعظة.
وَجه الْمُنَاسبَة فِي ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْأَبْوَاب
الْمَذْكُورَة من حَيْثُ إِنَّه كَانَ فِيهَا أَمر وَنهي
وَتَشْديد فيهمَا، وَهِي كلهَا وعظ ونصح، وَهَذَا الْبَاب
أَيْضا فِي الْوَعْظ والنصح. قَوْله: (وَذكر الْقبْلَة)
بِالْجَرِّ عطف على: (عظة) أَي: وَفِي بَيَان الْقبْلَة.
814 - حدّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ أَن رَسُول الله قَالَ (هلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي
ههُنا فَوَا مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشوُعُكُمْ وَلَا
رُكُوعُكُمْ إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ ورَاءِ ظِهْرِي) .
(الحَدِيث 814 طرفه فِي: 147) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي هَذَا الحديبث
وعظاً لَهُم وتذكيراً وتنبيهاً لَا يخفى عَلَيْهِ ركوعهم
وسجودهم، يظنون أَنه لَا يراهم لكَونه مستدبراً لَهُم،
وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَنَّهُ يرى من خَلفه مثل مَا
يرى من بَين يَدَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وَقد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد،
بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد اللَّه بن
ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا هَهُنَا عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
(4/156)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَل ترَوْنَ
قِبْلَتِي؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل إِنْكَار مَا يلْزمه
مِنْهُ، الْمَعْنى، أَنْتُم تحسبون قِبْلَتِي هَهُنَا،
وإنني لَا أرى إلاَّ مَا فِي هَذِه الْجِهَة، فوا إِن
رؤيتي لَا تخْتَص بِجِهَة قِبْلَتِي هَذِه، فَإِنِّي أرى
من خَلْفي كَمَا أرى من جِهَة قِبْلَتِي، ثمَّ الْعلمَاء
اخْتلفُوا هَهُنَا فِي موضِعين: الأول: فِي معنى هَذِه
الرُّؤْيَة، فَقَالَ قوم: المُرَاد بهَا الْعلم إِمَّا
بطرِيق أَنه كَانَ يُوحى إِلَيْهِ بَيَان كَيْفيَّة فعلهم،
وَإِمَّا بطرِيق الإلهام، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء،
لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك بطرِيق الْعلم مَا كَانَت
فَائِدَة فِي التَّقْيِيد بقوله: (من وَرَاء ظَهْري) ،
وَقَالَ قوم: المُرَاد بِهِ أَنه يرى من عَن يَمِينه وَمن
عَن يسَاره، مِمَّن تُدْرِكهُ عينه مَعَ الْتِفَات يسير
فِي بعض الْأَحْوَال وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ بِشَيْء،
وَهُوَ ظَاهر. وَقَالَ الْجُمْهُور، وَهُوَ الصَّوَاب:
إِنَّه من خَصَائِصه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَإِن إبصاره إِدْرَاك حَقِيقِيّ انخرقت لَهُ فِيهِ
الْعَادة، وَلِهَذَا أخرجه البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي
عَلَامَات النُّبُوَّة، وَفِيه دلَالَة للأشاعرة حَيْثُ
لَا يشترطون فِي الرُّؤْيَة مُوَاجهَة وَلَا مُقَابلَة،
وجوزوا إبصار أعمى الصين بقْعَة أندلس قلت: هُوَ الْحق
عِنْد أهل السّنة: إِن الرُّؤْيَة لَا يشْتَرط لَهَا عقلا
عُضْو مَخْصُوص، وَلَا مُقَابلَة وَلَا قرب، فَلذَلِك
حكمُوا بِجَوَاز رُؤْيَة اتعالى فِي الدَّار الْآخِرَة
خلافًا للمعتزلة فِي الرُّؤْيَة مُطلقًا، وللمشبهة
والكرامية فِي خلوها عَن المواجهة وَالْمَكَان، فَإِنَّهُم
إِنَّمَا جوزوا رُؤْيَة اتعالى لاعتقادهم كَونه تَعَالَى
فِي الْجِهَة وَالْمَكَان، وَأهل السّنة أثبتوا رُؤْيَة
اتعالى بِالنَّقْلِ وَالْعقل، كَمَا ذكر فِي مَوْضِعه،
وبينوا بالبرهان على أَن تِلْكَ الرُّؤْيَة مبرأة عَن
الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي. الْموضع
الثَّانِي: اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة رُؤْيَة النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من خلف ظَهره، فَقيل:
كَانَت لَهُ عين خلف ظَهره يرى بهَا من وَرَائه دَائِما،
وَقيل: كَانَت لَهُ بَين كَتفيهِ عينان مثل سم الْخياط،
يَعْنِي: مثل خرق الإبرة يبصر بهما لَا يحجبهما ثوب وَلَا
غَيره. وَقيل: بل كَانَت صورهم تنطبع فِي حَائِط قبلته
كَمَا تنطبع فِي الْمرْآة أمثلتهم فِيهَا، فيشاهد بذلك
أفعالهم. قَوْله: (لَا يخفى عَليّ ركوعكم وَلَا
خُشُوعكُمْ) يَعْنِي: إِذا كنت فِي الصَّلَاة مستدبراً
لكم؛ وَيجوز أَن يكون المُرَاد من الْخُشُوع السُّجُود
لِأَنَّهُ غَايَة الْخُشُوع، وَقد صرح فِي رِوَايَة مُسلم
بِالسُّجُود، وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ أَعم من ذَلِك.
فَيتَنَاوَل جَمِيع أفعالهم فِي صلَاتهم. فَإِن قلت: إِذا
كَانَ الْخُشُوع بِمَعْنى الْأَعَمّ يتَنَاوَل الرُّكُوع
أَيْضا، فَمَا فَائِدَة ذكره، قلت: لكَونه من أكبر عمد
الصَّلَاة، وَذَلِكَ لِأَن الرجل مَا دَامَ فِي الْقيام
لَا يتَحَقَّق أَنه فِي الصَّلَاة، فَإِذا ركع تحقق أَنه
فِي الصَّلَاة، وَيكون فِيهِ عطف الْعَام على الْخَاص.
قَوْله: (فوا) ، قسم مِنْهُ وَجَوَابه قَوْله: (لَا يخفى)
. وَقَوله: (إِنِّي لأَرَاكُمْ) إِمَّا بَيَان وَإِمَّا
بدل. قَوْله: (ركوعكم) بِالرَّفْع فَاعل (لَا يخفى)
وَقَوله: (وَلَا خُشُوعكُمْ) ، عطف عَلَيْهِ، أَي: لَا
يخفى عَليّ خُشُوعكُمْ، والهمزة فِي لأَرَاكُمْ
مَفْتُوحَة، وَاللَّام للتَّأْكِيد.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنه يَنْبَغِي للْإِمَام إِذا
رأى أحدا مقصراً فِي شَيْء من أُمُور دينه أَو نَاقِصا
للكمال مِنْهُ أَن ينهاه عَن فعله، ويحضه على مَا فِيهِ
جزيل الْحَظ. أَلا ترى أَنه كَيفَ وبخ من نقص كَمَال
الرُّكُوع وَالسُّجُود، ووعظهم فِي ذَلِك بِأَنَّهُ يراهم
من وَرَاء ظَهره كَمَا يراهم من بَين يَدَيْهِ؟ وَفِي
تَفْسِير سنيد: حدّثنا حجاج عَن ابْن أبي ذِئْب حدّثنا
يحيى بن صَالح حدّثنا فليح عَن هِلَال ابْن عَليّ عَن أنس
قَالَ: (صلى لنا رَسُول الله صَلَاة، ثمَّ رقى الْمِنْبَر
فَقَالَ، فِي الصَّلَاة وَفِي الرُّكُوع إِنِّي لأَرَاكُمْ
من ورائي كَمَا أَرَاكُم) . وَفِي لفظ: (أُقِيمَت
الصَّلَاة فَأقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أقِيمُوا
صفوفكم وتراصوا، فَإِنِّي أَرَاكُم من وَرَاء ظَهْري) .
وَفِي لفظ: (أقِيمُوا الرُّكُوع وَالسُّجُود فوا إِنِّي
لأَرَاكُمْ من بعدِي، وَرُبمَا قَالَ: من بعد ظَهْري، إِذا
رَكَعْتُمْ وَإِذا سجدتم) . وَعند مُسلم: (صلى بِنَا ذَات
يَوْم، فَلَمَّا قضى صلَاته أقبل علينا بِوَجْهِهِ،
فَقَالَ: أَيهَا النَّاس: إِنِّي إمامكم فَلَا تسبقوني
بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُود وَلَا بالانصراف، فَإِنِّي
أَرَاكُم أَمَامِي وَمن خَلْفي، ثمَّ قَالَ. وَالَّذِي نفس
مُحَمَّد بِيَدِهِ، لَو رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت لضحكتم
قَلِيلا ولبكيتم كثيرا. قَالُوا: وَمَا رَأَيْت يَا رَسُول
ا؟ قَالَ رَأَيْت: الْجنَّة وَالنَّار) .
81 - (حَدثنَا يحيى بن صَالح قَالَ حَدثنَا فليح بن
سُلَيْمَان عَن هِلَال بن عَليّ عَن أنس بن مَالك قَالَ
صلى بِنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- صَلَاة ثمَّ رقي الْمِنْبَر فَقَالَ فِي الصَّلَاة وَفِي
الرُّكُوع إِنِّي لأَرَاكُمْ من ورائي كَمَا أَرَاكُم)
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الَّذِي
قبله. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. يحيى بن صَالح الوحاظي
بِضَم
(4/157)
الْوَاو الثَّانِي فليح بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة
وَقد مر ذكره الثَّالِث اهلال بن عَليّ وَيُقَال هِلَال بن
أبي هِلَال بن عَليّ وَيُقَال ابْن أُسَامَة الفِهري
الْمَدِينِيّ مَاتَ فِي آخر خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك
الرَّابِع أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر
تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان عَن فليح وَأخرجه فِي الرقَاق
عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن
أَبِيه بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " صلى لنا " أَي صلى
لأجلنا قَوْله " صَلَاة " بالتنكير للإبهام قَوْله " ثمَّ
رقي الْمِنْبَر " بِكَسْر الْقَاف وَيجوز فتحهَا على لُغَة
طَيء قَوْله " فَقَالَ فِي الصَّلَاة " فِيهِ حذف
تَقْدِيره فَقَالَ فِي شَأْن الصَّلَاة وَفِي أمرهَا أَو
يكون متعلقها محذوفا تَقْدِيره أَرَاكُم فِي الصَّلَاة
وَقَالَ بَعضهم هُوَ مُتَعَلق بقوله بعد لأَرَاكُمْ (قلت)
هَذَا غلط لِأَن مَا فِي حيّز ان لَا يتَقَدَّم عَلَيْهَا
قَوْله " وَفِي الرُّكُوع " إِنَّمَا أفرده بِالذكر وَإِن
كَانَ دَاخِلا فِي الصَّلَاة للاهتمام بِشَأْنِهِ إِمَّا
لِأَنَّهُ أعظم أَرْكَانهَا بِدَلِيل أَن الْمَسْبُوق لَو
أدْرك الرُّكُوع أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة بِتَمَامِهَا
وَإِمَّا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- علم أَنهم قصروا فِي حَال الرُّكُوع فَذكره لزِيَادَة
التَّنْبِيه قَوْله " من ورائي " وَفِي بعض الرِّوَايَات "
من وَرَاء " حذفت الْيَاء مِنْهُ وَاكْتفى بالكسرة عَنْهَا
وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) الرُّؤْيَة من الوراء
كَانَت مَخْصُوصَة بِحَال الصَّلَاة أم هِيَ عَامَّة
لجَمِيع الْأَحْوَال (قلت) اللَّفْظ سِيمَا فِي الحَدِيث
السَّابِق يَقْتَضِي الْعُمُوم والسياق يَقْتَضِي
الْخُصُوص (قلت) نقل عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ فِي جَمِيع
أَحْوَاله قَوْله " كَمَا أَرَاكُم " أَي كَمَا أَرَاكُم
من أَمَامِي وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة أُخْرَى كَمَا
سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي رِوَايَة مُسلم "
إِنِّي لَأبْصر من ورائي كَمَا أبْصر من بَين يَدي " وَعَن
بَقِي بن مخلد أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- كَانَ يبصر فِي الظلمَة كَمَا يبصر فِي الضَّوْء
وَالْكَاف فِي كَمَا أَرَاكُم للتشبيه فالمشبه بِهِ
الرُّؤْيَة الْمقيدَة بالوراء وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت
فِي الحَدِيث السَّابِق |