عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 14 - (بابٌ هَلْ يُقالُ مَسْجِدُ بَنِي
فلاَنٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِضَافَة مَسْجِد من
الْمَسَاجِد إِلَى قَبيلَة أَو إِلَى أحد مثل بانيه أَو
الملازم للصَّلَاة فِيهِ، هَل يجوز أَن يُقَال ذَلِك؟ نعم
يجوز، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر الْآتِي ذكره،
وَإِنَّمَا ترْجم الْبَاب بِلَفْظَة: هَل، الَّتِي
للاستفهام لِأَن فِي هَذَا خلاف إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ،
فَإِنَّهُ كَانَ يكره أَن يُقَال: مَسْجِد بني فلَان، أَو:
مصلى فلَان، لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن الْمَسَاجِد}
(الْجِنّ: 81) ذكره ابْن أبي شيبَة عَنهُ، وَحَدِيث
الْبَاب يرد عَلَيْهِ، وَالْجَوَاب عَن تمسكه بِالْآيَةِ
أَن الْإِضَافَة فِيهَا حَقِيقَة، وإضافتها إِلَى غَيره
إِضَافَة تَمْيِيز وتعريف.
فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا الْبَاب هَهُنَا؟ وَمَا
وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الْأَبْوَاب
الْمُتَقَدّمَة؟ قلت: الْمَذْكُور فِي الْأَبْوَاب
السَّابِقَة أَحْكَام تتَعَلَّق بالمساجد، وَالْمَذْكُور
فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا حكم من أَحْكَامهَا، وَهَذَا
الْمِقْدَار كَاف.
02428 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ أنَّ
رَسُول الله سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ
مِنَ الحَفْياءِ وأَمَدُها ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ وسابَقَ
بَيْنَ الخَيْل الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّة
إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأن عَبْدَ اللَّه بنَ
عُمَرَ كانَ فِيمَنْ سابَقَ بهَا. (الحَدِيث 024 أَطْرَافه
فِي: 8682، 9682، 0782، 6337) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى
مَسْجِد بني زُرَيْق) ، وَرِجَاله تكرروا غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن
يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْجِهَاد عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْخَيل عَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين،
كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَابق) ، من الْمُسَابقَة وَهِي
السَّبق الَّذِي يشْتَرك فِي الِاثْنَان، وَبَاب المفاعلة
يَقْتَضِي ذَلِك، وَالْخَيْل الَّتِي أضمرت هِيَ الَّتِي
كَانَت الْمُسَابقَة بَينهَا، وَكَانَ فرس النَّبِي، صلى
اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، بَينهَا يُسمى: السكب، وَكَانَ أغر
محجلاً طلق الْيَمين لَهُ مسحة، وَهُوَ أول فرس ملكه،
وَأول فرس غزا عَلَيْهِ، وَاشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من
بني فَزَارَة بِعشر أَوَاقٍ، وَكَانَ إسمه عِنْد
الْأَعرَابِي: الضرس، فَسَماهُ رَسُول اصلى اتعالى
عَلَيْهِ وَآله وَسلم: السكب، وسابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح
بِهِ، وَهُوَ أول فرس سَابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح
الْمُسلمُونَ بِهِ. قَوْله: (أضمرت) ، بِضَم الْهمزَة على
صِيغَة
(4/158)
الْمَجْهُول من الْإِضْمَار، يُقَال: ضمر
الْفرس، بِالْفَتْح وأضمرته أَنا والضمر، بِضَم الضَّاد
وَسُكُون الْمِيم: الهزال، وَكَذَلِكَ الضمور، وتضمير
الْفرس أَن يعلف حَتَّى يسمن ثمَّ يردهُ إِلَى الْقُوت،
وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَفِي (النِّهَايَة) :
وتضمير الْخَيل هُوَ أَن تظاهر عَلَيْهَا الْعلف حَتَّى
تسمن ثمَّ لَا تعلف إلاَّ قوتاً لتخف. وَقيل: تشد
عَلَيْهَا سروجاً وتجلل بالأجلة حَتَّى تعرق تحتهَا
فَيذْهب رهلها ويشتد لَحمهَا. قَوْله: رهلها، بِفَتْح
الرَّاء وَالْهَاء وباللام، من رهل لَحْمه، بِالْكَسْرِ:
اضْطربَ واسترخى، قَالَه الْجَوْهَرِي، والمضمر الَّذِي
يضمر خيله لغزو أَو سباق، والمضمار الْموضع الَّذِي يضمر
فِيهِ الْخَيل، وَتَكون وقتا للأيام الَّتِي يضمر فِيهَا.
قَوْله: (من الحفياء) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَسُكُون الْفَاء وبالياء آخر الْحُرُوف وَالْألف
الممدودة، وَقدم بَعضهم الْيَاء على الْفَاء، وَهُوَ اسْم
مَوضِع بَينه وَبَين ثنية الْوَدَاع خَمْسَة أَمْيَال أَو
سِتَّة أَو سَبْعَة، وثنية الوادع عِنْد الْمَدِينَة سميت
بذلك لِأَن الْخَارِج من الْمَدِينَة يمشي مَعَه المودعون
إِلَيْهَا، والثنية: لُغَة الطَّرِيقَة إِلَى الْعقبَة،
فَاللَّام فِيهِ للْعهد. قَوْله: (وأمدها) الأمد، بِفَتْح
الْهمزَة وَفتح الْمِيم: الْغَايَة. قَوْله: (بني زُرَيْق)
، بِضَم الزَّاي الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره قَاف، وَبَنُو زُرَيْق
ابْن عَامر حَارِثَة بن غضب بن جشم بن الْخَزْرَج. وَقَالَ
صَاحب (التَّوْضِيح) : وَبَنُو زُرَيْق بطن من الْخَوَارِج
قلت: تَفْسِيره بِهَذَا هُنَا غلط، وَالصَّحِيح هُوَ
الَّذِي ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَأَن عبد ا) ، يجوز أَن
يكون مقول عبد اللَّه بن عمر بطرِيق الْحِكَايَة عَن نَفسه
باسمه على لفظ الْغَيْبَة، كَمَا تَقول عَن نَفسك: العَبْد
فعل كَذَا، وَيجوز ان يكون مقول نَافِع قَوْله: (بهَا)
أَي: بِالْخَيْلِ أَو بِهَذِهِ الْمُسَابقَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْمُسَابقَة بَين
الْخُيُول وَجَوَاز تضميرها وتمرينها على الجري، وإعدادها
لذَلِك لينْتَفع بهَا عِنْد الْحَاجة فِي الْقِتَال كراً
وفراً، وَهَذَا إِجْمَاع، وَعَن الشَّافِعِيَّة أَنَّهَا
سنة، وَقيل: مُبَاح، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة يفعلونها
فأقرها الْإِسْلَام، وَلَا يخْتَص جَوَازهَا بِالْخَيْلِ،
خلافًا لقوم، والْحَدِيث مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ
بِغَيْر رهان، وَالْفُقَهَاء شرطُوا فِيهَا شُرُوطًا
مِنْهَا: جَوَاز الرِّهَان من جَانب وَاحِد، وَمن
الْجَانِبَيْنِ قمار إلاَّ بِمُحَلل، وَقد علم فِي
مَوْضِعه، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على جَوَاز ذَلِك
وَلَا على مَنعه. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه سَابق بَين
الْخَيل على حلل أَتَتْهُ من الْيمن، فَأعْطى السَّابِق
ثَلَاث حلل وَأعْطى الثَّانِي حلتين وَالثَّالِث حلَّة
وَالرَّابِع دِينَارا، وَالْخَامِس درهما، وَالسَّادِس
فضَّة. وَقَالَ: (بَارك افيك. وَفِي كلكُمْ وَفِي
السَّابِق والفسكل) . قلت: الفسكل، بِكَسْر الْفَاء
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بَينهمَا وَفِي آخِره
اللَّام: وَهُوَ الَّذِي يَجِيء فِي الجلبة آخر الْخَيل.
وَفِيه: تجويع الْبَهَائِم على وَجه الصّلاح وَلَيْسَ من
بَاب التعذيب. وَفِيه: بَيَان الْغَايَة وَمِقْدَار أمدها.
وَفِيه: جَوَاز إِضَافَة الْمَسْجِد إِلَى بانيه وَإِلَى
مصلَ فِيهِ، كَمَا ذكرنَا، وَكَذَلِكَ تجوز إِضَافَة
أَعمال الْبر إِلَى أَرْبَابهَا ونسبتها إِلَيْهِم
وَلَيْسَ فِي ذَلِك تَزْكِيَة لَهُم.
24 - (بابُ الْقِسْمَةِ وتعلْيقِ الْقِنْوِ فِي
الْمَسْجِد)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قسْمَة الشَّيْء فِي
الْمَسْجِد يَعْنِي: يجوز لِأَنَّهُ فعلهَا كَمَا فِي
حَدِيث الْبَاب. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) ، يتَعَلَّق
بِالْقِسْمَةِ. (وَتَعْلِيق القنو) عطف على الْقِسْمَة.
والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي
أَحْكَام تتَعَلَّق بِالْمَسْجِدِ.
قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّه القِنْوُ العِزْقُ والإِثْنَانِ
قِنْوَانِ وَالجمَاعَةُ أيْضاً قُنْوَانٌ مثْلُ صِنْوٍ
وصِنْوَانٍ.
أَبُو عبد اللَّه هُوَ: البُخَارِيّ نَفسه، وَفسّر القنو
بالعذق، والقنو، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون النُّون.
وَقَالَ ابْن سَيّده: القنو والقنا الكياسة، والقنا
بِالْفَتْح لُغَة فِيهِ عَن أبي حنيفَة، وَالْجمع فِي كل
ذَلِك أقناء وقنوان وقنيان. وَفِي (الْجَامِع) : فِي
القنوان لُغَتَانِ، بِكَسْر الْقَاف وَضمّهَا، وكل
الْعَرَب تَقول: قنو وقنو فِي الْوَاحِد. قَوْله: (العذق)
بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الذَّال
الْمُعْجَمَة: هُوَ كالعنقود للعنب، والعذق، بِفَتْح
الْعين: النَّخْلَة. قَوْله: (والاثنان قنوان) ، على وزن:
فعلان، بِكَسْر الْفَاء، وَكَذَلِكَ الْجمع هَذَا
الْوَزْن؟ فَإِن قلت: فَبِأَي شَيْء يفرق بَين
التَّثْنِيَة وَالْجمع؟ قلت: بِسُقُوط النُّون فِي
التَّثْنِيَة عِنْد الْإِضَافَة وثبوتها فِي الْجمع،
وبكسرها فِي التَّثْنِيَة وإعرابها فِي الْجمع. قَوْله:
(مثل صنو) يَعْنِي: فِي الحركات والسكنات، وَفِي
التَّثْنِيَة وَالْجمع، والصنو هُوَ: النخلتان أَو
ثَلَاثَة تخرج من أصل وَاحِدَة، وكل وَاحِد مِنْهُنَّ صنو،
والإثنان صنْوَان، بِكَسْر النُّون، الْجمع: صنْوَان
بإعرابها، وَالْبُخَارِيّ لم يذكر جمعه لظُهُوره من الأول.
(4/159)
(وَقَالَ إِبْرَاهِيم يَعْنِي ابْن طهْمَان
عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس رَضِي الله عَنهُ
قَالَ أُتِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - بِمَال من الْبَحْرين فَقَالَ انثروه فِي الْمَسْجِد
وَكَانَ أَكثر مَال أُتِي بِهِ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخرج رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الصَّلَاة وَلم
يلْتَفت إِلَيْهِ فَلَمَّا قضى الصَّلَاة جَاءَ فَجَلَسَ
إِلَيْهِ فَمَا كَانَ يرى أحدا إِلَّا أعطَاهُ إِذْ
جَاءَهُ الْعَبَّاس فَقَالَ يَا رَسُول الله أَعْطِنِي
فَإِنِّي فاديت نَفسِي وفاديت عقيلا فَقَالَ لَهُ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُذ فَحَثَا
فِي ثَوْبه ثمَّ ذهب يقلهُ فَلم يسْتَطع فَقَالَ يَا
رَسُول الله مر بَعضهم يرفعهُ إِلَيّ قَالَ لَا قَالَ
فارفعه أَنْت عَليّ قَالَ لَا فنثر مِنْهُ ثمَّ ذهب يقلهُ
فَقَالَ يَا رَسُول الله اؤمر بَعضهم يرفعهُ عَليّ قَالَ
لَا قَالَ فارفعه أَنْت عَليّ قَالَ لَا فنثر مِنْهُ ثمَّ
احتمله فَأَلْقَاهُ على كَاهِله ثمَّ انْطلق فَمَا زَالَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يتبعهُ بَصَره حَتَّى خَفِي علينا عجبا من حرصه فَمَا
قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وثمة مِنْهَا دِرْهَم) هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ ذكره البُخَارِيّ عَن إِبْرَاهِيم
وَهُوَ ابْن طهْمَان فِيمَا أَحسب بِغَيْر إِسْنَاد
يَعْنِي تَعْلِيقا وَفِي بعض الرِّوَايَة قَالَ
إِبْرَاهِيم بِغَيْر ذكر أَبِيه وَالْأول هُوَ الْأَصَح
وطهمان بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء ابْن
شُعْبَة الْخُرَاسَانِي أَبُو سعيد مَاتَ سنة ثَلَاث
وَسِتِّينَ وَمِائَة بِمَكَّة وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
مُعَلّقا فِي الْجِهَاد وَفِي الْجِزْيَة وَقَالَ
الْحَافِظ الْمزي هَكَذَا هُوَ فِي البُخَارِيّ
إِبْرَاهِيم غير مَنْسُوب وَذكره أَبُو مَسْعُود
الدِّمَشْقِي وَخلف الوَاسِطِيّ فِي تَرْجَمَة عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عمر بن
مُحَمَّد بن بجير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْجِيم
وَنسبَة عمر إِلَى جده البجيري فِي صَحِيحه من رِوَايَة
إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن
أنس وَقيل أَنه عبد الْعَزِيز بن رفيع وَقد روى أَبُو
عوَانَة فِي صَحِيحه حَدِيثا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن
طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن أنس " تسحرُوا
فَإِن فِي السّحُور بركَة " وروى أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ حَدِيثا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن
طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن عبيد بن عُمَيْر
عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حَدِيث " لَا
يحل دم امرىء مُسلم إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاث " الحَدِيث
فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا وَالله
أعلم أَيهمَا هُوَ وَقَالَ بَعضهم قَالَ الْمزي فِي
الْأَطْرَاف قيل أَنه عبد الْعَزِيز بن رفيع وَلَيْسَ
بِشَيْء (قلت) قَوْله لَيْسَ بِشَيْء رَاجع إِلَى قَوْله
صَاحب هَذَا القيل لِأَن الْمزي قَالَ بِالِاحْتِمَالِ
كَمَا ذكرنَا ثمَّ إِن هَذَا الْمُعَلق وَصله أَبُو نعيم
الْحَافِظ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ
حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن يزِيد حَدثنَا أَحْمد بن
حَفْص بن عبد الله بن رَاشد حَدثنِي أبي حَدثنِي
إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز يَعْنِي ابْن
صُهَيْب عَن أنس قَالَ " أَتَى رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَال من الْبَحْرين "
الحَدِيث (فَإِن قلت) التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على
شَيْئَيْنِ أَحدهمَا الْقِسْمَة فِي الْمَسْجِد وَالْآخر
تَعْلِيق القنو فِيهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب إِلَّا
مَا يُطَابق الْجُزْء الأول (قلت) ذكر أَبُو مُحَمَّد بن
قُتَيْبَة فِي غَرِيب الحَدِيث تأليفه فِي هَذَا أَنه لما
خرج رأى أقناء معلقَة فِي الْمَسْجِد وَكَانَ أَمر بَين كل
حَائِط بقنو يعلق فِي الْمَسْجِد ليَأْكُل مِنْهُ من لَا
شَيْء لَهُ وَقَالَ ثَابت فِي كتاب الدَّلَائِل وَكَانَ
عَلَيْهَا على عَهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- معَاذ بن جبل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ انْتهى وَمن
عَادَة البُخَارِيّ الإحالة على أصل الحَدِيث وَمَا أشبهه
والمناسبة بَينهمَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا وضع فِي
الْمَسْجِد للأخذ مِنْهُ لَا للادخار وَعدم الْتِفَات
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ
اسْتِقْلَالا للدنيا وَمَا فِيهِ فَسقط بِمَا ذكرنَا قَول
ابْن بطال فِي عدم ذكر البُخَارِيّ حَدِيثا فِي تَعْلِيق
القنو أَنه أغفله وَكَذَلِكَ سقط كَلَام ابْن التِّين
أنساه (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَتَى النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بِضَم الْهمزَة على
صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " بِمَال من الْبَحْرين " وَقد
تعين المَال فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق حميد
مُرْسلا أَنه كَانَ مائَة ألف وَأَنه أرسل بِهِ الْعَلَاء
بن الْحَضْرَمِيّ من خراج الْبَحْرين قَالَ
(4/160)
وَهُوَ أول خراج حمل إِلَى رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد روى
البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من حَدِيث عمر بن عَوْف " أَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالح
أهل الْبَحْرين وَأمر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن
الْحَضْرَمِيّ وَبعث أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح إِلَيْهِم
فَقدم أَبُو عُبَيْدَة بِمَال فَسمِعت الْأَنْصَار بقدومه
" الحَدِيث (فَإِن قلت) ذكر الْوَاقِدِيّ فِي الرِّدَّة
أَن رَسُول الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ بِالْمَالِ هُوَ
الْعَلَاء بن حَارِثَة الثَّقَفِيّ (قلت) يحْتَمل أَنه
كَانَ رَفِيق أبي عُبَيْدَة فاختصر فِي رِوَايَة
الْوَاقِدِيّ عَلَيْهِ (فَإِن قلت) فِي صَحِيح البُخَارِيّ
من حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَن النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ لَو
جَاءَ مَال الْبَحْرين أَعطيتك " وَفِيه " فَلم يقدم مَال
الْبَحْرين حَتَّى مَاتَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَهَذَا معَارض لحَدِيث الْبَاب
(قلت) لَا مُعَارضَة لِأَن المُرَاد أَنه لم يقدم فِي
السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ كَانَ مَال خراج أَو
جِزْيَة فَكَانَ يقدم من سنة إِلَى سنة وَأما الْبَحْرين
فَهُوَ تَثْنِيَة بَحر فِي الأَصْل وَهِي بَلْدَة
مَشْهُورَة بَين الْبَصْرَة وعمان وَهِي هجر وَأَهْلهَا
عبد الْقَيْس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة
بن نزار بن معد بن عدنان وَقَالَ القَاضِي عِيَاض قيل
بَينهَا وَبَين الْبَصْرَة أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ فرسخا.
وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ لما صَالح أَهله رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر
عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَزعم أَبُو الْفرج
فِي تَارِيخه أَنَّهَا رِيبَة وَأَن ساكنيها معظمهم
مطحولون وَأنْشد
(وَمن يسكن الْبَحْرين يعظم طحاله ... ويغبط بِمَا فِي
جَوْفه وَهُوَ ساغب)
وَزعم ابْن سعد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لما انْصَرف من الْجِعِرَّانَة يَعْنِي بعد
قسْمَة غَنَائِم حنين أرسل الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ
إِلَى الْمُنْذر بن سَاوَى الْعَبْدي وَهُوَ
بِالْبَحْرَيْنِ يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام فَكتب إِلَى
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِإِسْلَامِهِ وتصديقه قَوْله " انثروه " أَي صبوه قَوْله
" إِلَيْهِ " أَي إِلَى المَال الَّذِي قدم قَوْله " إِذْ
جَاءَهُ الْعَبَّاس " وَهُوَ عَم النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْن عبد الْمطلب وَكلمَة
إِذْ ظرف فِي الْغَالِب وَالْعَامِل فِيهِ يجوز أَن يكون
قَوْله فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَيجوز أَن يكون قَوْله يرى
قَوْله " فاديت نَفسِي " يَعْنِي يَوْم بدر حَيْثُ أَخذ
أَسِيرًا وفاديت من المفاداة يُقَال فاداه يفاديه إِذا
أعْطى فداءه وأنقذ نَفسه وَقَالَ فدى وأفدى وفادى ففدى
إِذا أعْطى المَال لخلاص غَيره وفادى إِذا افتك الْأَسير
بأسير مثله لخلاص نَفسه وأفدى إِذا أعْطى المَال قَوْله "
وفاديت عقيلا " بِفَتْح الْعين وَهُوَ ابْن أبي طَالب
وَكَانَ هُوَ أَيْضا أسر يَوْم بدر مَعَ عَمه الْعَبَّاس
قَوْله " فَحثى " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة والثاء
الْمُثَلَّثَة وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْعَبَّاس
يُقَال حثوت لَهُ إِذا أَعْطيته شَيْئا يَسِيرا قَوْله "
فِي ثَوْبه " أَي فِي ثوب الْعَبَّاس قَوْله " يقلهُ "
بِضَم الْيَاء من الإقلال وَهُوَ الرّفْع وَالْحمل قَوْله
" فَلم يسْتَطع " أَي حمله قَوْله " مر بَعضهم يرفعهُ
عَليّ " أَي مر بعض الْحَاضِرين يرفع المَال الَّذِي
أَخَذته وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يسْتَطع حمله
(فَإِن قلت) مَا وزن مر (قلت) عل لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ
فَاء الْفِعْل لِأَن أَصله اؤمر لِأَنَّهُ من أَمر يَأْمر
مَهْمُوز الْفَاء فحذفت همزَة الْكَلِمَة لِاجْتِمَاع
المثلين فِي أول الْكَلِمَة الْمُؤَدِّي إِلَى الاستثقال
فَبَقيَ أَمر فاستغنى عَن همزَة الْوَصْل لتحرك مَا
بعْدهَا فحذفت فَصَارَ مر على وزن عل وَفِي رِوَايَة اؤمر
على الأَصْل قَوْله " يرفعهُ " بياء الْمُضَارع
وَالضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ يرجع إِلَى الْبَعْض
والبارز إِلَى المَال الَّذِي جثاه الْعَبَّاس فِي ثَوْبه
وَيجوز فِيهِ الرّفْع والجزم أما الرّفْع فعلى
الِاسْتِئْنَاف وَالتَّقْدِير هُوَ يرفعهُ وَأما الْجَزْم
فعلى أَنه جَوَاب الْأَمر ويروى بِرَفْعِهِ بِالْبَاء
الْمُوَحدَة (فَإِن قلت) كَيفَ مَا أَمر النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإعانته فِي الرّفْع وَلَا
أَعَانَهُ بِنَفسِهِ (قلت) زجرا لَهُ عَن الاستكثار من
المَال وَأَن لَا يَأْخُذ إِلَّا قدر حَاجته أَو لينبهه
على أَن أحدا لَا يحمل عَن أحد شَيْئا قَوْله "
فَأَلْقَاهُ " أَي الْعَبَّاس على كَاهِله والكاهل مَا
بَين الْكَتِفَيْنِ قَوْله " يتبعهُ بَصَره " بِضَم
الْيَاء من الِاتِّبَاع أَي لم يزل - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتبع الْعَبَّاس بَصَره حَتَّى
خَفِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ تَعَجبا من حرصه وَهُوَ معنى
قَوْله عجبا من حرصه وانتصابه على أَنه مفعول مُطلق من
قبيل مَا يجب حذف عَامله وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على
أَنه مفعول لَهُ قَوْله " وثمة " بِفَتْح الثَّاء
الْمُثَلَّثَة أَي هُنَالك وَقَوله " دِرْهَم " مُبْتَدأ
وَخَبره قَوْله مِنْهَا مقدما وَالْجُمْلَة وَقعت حَالا
وَالْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات الْقيام عِنْد انْتِفَاء
الدِّرْهَم إِذْ الْحَال قيد للمنفي لَا للنَّفْي
وَالْمَجْمُوع مُنْتَفٍ بِانْتِفَاء الْقَيْد لانْتِفَاء
الْمُقَيد وَإِن كَانَ ظَاهره نفي الْقيام حَال ثُبُوت
الدِّرْهَم (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام)
مِنْهَا أَن الْقِسْمَة إِلَى الإِمَام على قدر
اجْتِهَاده. وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن بطال أَن الْعَطاء
لأحد الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الَّذين ذكرهم الله فِي
كِتَابه دون غَيرهم لِأَنَّهُ أعْطى الْعَبَّاس لما شكى
إِلَيْهِ من الْغرم وَلم يسوه فِي الْقِسْمَة مَعَ
الثَّمَانِية الْأَصْنَاف فَلَو قسم ذَلِك على التَّسَاوِي
لما أعْطى الْعَبَّاس بِغَيْر مكيال وَلَا ميزَان وَقَالَ
الْكرْمَانِي لَا يَصح هَذَا الْكَلَام لِأَن الثَّمَانِية
هِيَ
(4/161)
مصارف الزَّكَاة وَالزَّكَاة حرَام على
الْعَبَّاس بل كَانَ هَذَا المَال إِمَّا فَيْئا أَو
غنيمَة (قلت) لم يكن هَذَا المَال فَيْئا وَإِنَّمَا كَانَ
خراجا وَلَو وقف الْكرْمَانِي على مَا ذَكرْنَاهُ عَن ابْن
أبي شيبَة فِيمَا مضى عَن قريب لما قَالَ هَذَا الَّذِي
قَالَه وَكَذَلِكَ ابْن بطال وهم فِيمَا قَالَه حَيْثُ جعل
المَال من الزَّكَاة وَتَبعهُ صَاحب التَّلْوِيح حَيْثُ
قَالَ وَفِيه دلَالَة لأبي حنيفَة وَمن قَالَ بقوله أَنه
يجوز الِاقْتِصَار على بعض الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي
الْآيَة الكرمية لِأَنَّهُ أعْطى الْعَبَّاس لما شكى
الْغرم بِغَيْر وزن وَلم يسوه فِي الْقسم مَعَ الْأَصْنَاف
الثَّمَانِية وَلم ينْقل أَنه أعْطى أحدا مثله (قلت) هَذَا
أَيْضا كَلَام صادر من غير تَأمل لِأَنَّهُ لَيْسَ للأصناف
الثَّمَانِية دخل فِي هَذَا وَلَا المَال كَانَ من مَال
الزَّكَاة وَمِنْهَا أَن السُّلْطَان إِذا علم حَاجَة لأحد
إِلَى المَال لَا يحل لَهُ أَن يدّخر مِنْهُ شَيْئا.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ كرم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وزهده فِي الدُّنْيَا وَأَنه لم
يمْنَع شَيْئا سئله إِذا كَانَ عِنْده. وَمِنْهَا أَن
للسُّلْطَان أَن يرْتَفع عَمَّا يدعى إِلَيْهِ من المهنة
وَالْعَمَل بِيَدِهِ وَله أَن يمْتَنع من تَكْلِيف ذَلِك
غَيره إِذا لم يكن للسُّلْطَان فِي ذَلِك حَاجَة.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ وضع مَا النَّاس مشتركون فِيهِ من
صَدَقَة وَغَيرهَا فِي الْمَسْجِد لِأَن الْمَسْجِد لَا
يحجب من أحد من ذَوي الْحَاجة من دُخُوله وَالنَّاس فِيهِ
سَوَاء وَقَالَ ابْن الْقَاسِم وَسُئِلَ مَالك عَن الافتاء
فِي الْمَسْجِد وَمَا يشبه ذَلِك فَقَالَ لَا بَأْس بهَا
وَسُئِلَ عَن المَاء الَّذِي يسقى فِي الْمَسْجِد أَتَرَى
أَنه يشرب مِنْهُ قَالَ نعم إِنَّمَا جعل للعطش وَلم يرد
بِهِ أهل المسكنة فَلَا أرى أَنه يتْرك شربه وَلم يزل
هَذَا من أَمر النَّاس
34 - (بابُ مَنْ دَعا لِطَعَامٍ فى المَسْجِدِ وَمَنْ
أجابَ مِنه)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من دعى إِلَى آخِره،
وَقَوله: (فِي الْمَسْجِد) يتَعَلَّق بقوله: (دَعَا) ، لَا
بقوله: (لطعام) . فَإِن قلت: صلَة: دَعَا، بِكَلِمَة:
إِلَى، نَحْو: {وَا يدعوا إِلَى دَار السَّلَام} (يُونُس:
52) وبالباء فِي نَحْو: (دَعَا هِرقل بِكِتَاب رَسُول اصلى
اتعالى عَلَيْهِ وَسلم) ، و: اللَّام، للاختصاص، فَمَا
وَجه هَذَا؟ قلت: تخْتَلف صلات الْفِعْل بِحَسب اخْتِلَاف
الْمعَانِي، فَإِذا قصد بَيَان الِانْتِهَاء جِيءَ
بِكَلِمَة: إِلَى، وَإِذا قصد معنى الطّلب جِيءَ:
بِالْبَاء، وَإِذا قصد معنى الِاخْتِصَاص جِيءَ:
بِاللَّامِ، وَهَهُنَا قصد معنى الِاخْتِصَاص. قَوْله:
(وَمن أجَاب مِنْهُ) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (وَمن أجَاب إِلَيْهِ) . فَإِن قلت:
مَا الْفرق بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: كلمة: من، فِي
رِوَايَة: مِنْهُ للابتداء، وَالضَّمِير يعود على:
الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة: إِلَى، يعود الضَّمِير إِلَى
الطَّعَام. فَإِن قلت: مَا قصد البُخَارِيّ من هَذَا
التَّبْوِيب؟ قلت: الْإِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من
الْأُمُور الْمُبَاحَة، وَلَيْسَ من اللَّغْو وَالَّذِي
يمْنَع فِي الْمَسَاجِد.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسب بَين هَذَا الْبَاب
وَالَّذِي قبله؟ قلت: من قَوْله: بَاب حك البزاق بِالْيَدِ
من الْمَسْجِد، إِلَى قَوْله: بَاب ستْرَة الإِمَام،
خَمْسَة وَخَمْسُونَ بَابا كلهَا فِيمَا يتَعَلَّق
بِأَحْكَام الْمَسَاجِد، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر وَجه
الْمُنَاسبَة بَينهَا على الْخُصُوص.
224 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ
عنْ إسْحاقَ بن عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَ أنَساً قَالَ
وجَدْتُ النَّبيَّ فِي المَسْجِدِ مَعَهُ ناسٌ فَقُمْتُ
فقالِ لِي أرْسَلَكَ أبُو طَلْحَةَ قُلْتُ نَعَمْ فقالَ
لِطَعَامٍ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا
فانْطَلَقَ وانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ. (الحَدِيث 224
أَطْرَافه فِي: 8753، 1835، 0545، 8866) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة كلهَا ظَاهِرَة،
أما الشق الأول: فلأنَّا قد ذكرنَا أَن: فِي الْمَسْجِد،
يتَعَلَّق بقوله: دَعَا، لَا بقوله: لطعام، فَحصل
الدُّعَاء إِلَى الطَّعَام فِي الْمَسْجِد. وَأما الشق
الثَّانِي: فَهُوَ إِجَابَة النَّبِي بقوله لمن حوله:
قومُوا، فَبِهَذَا التَّقْرِير ينْدَفع اعْتِرَاض من
يَقُول: إِن الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة فِي الشق الثَّانِي
فَقَط فَافْهَم.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، إِسْحَاق بن عبد
اللَّه، ابْن أخي أنس من جِهَة الْأُم. وَأخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وفرقهما.
وَأخرجه أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة مطولا، وَفِي
الْأَطْعِمَة وَالْإِيمَان وَالنُّذُور. وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَفِي الْأَطْعِمَة. وَأَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى، وَفِي المناقب
وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة كلهم عَن مَالك بِهِ،
وَأخرجه فِي الْوَلِيمَة أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وجدت) أَي: أصبت، وَلِهَذَا
اكْتفى بمفعول وَاحِد. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) ، حَال من
النَّبِي
(4/162)
وَقَوله: (وَمَعَهُ نَاس) ، جملَة إسمية
وَقعت حَالا. قَوْله: (أرسلك) ، ويروي: (أأرسلك) بِهَمْزَة
الِاسْتِفْهَام. قَوْله: (أَبُو طَلْحَة) ، هُوَ: زيد بن
سهل الْأنْصَارِيّ أحد نقباء الْعقبَة، شهد الْمشَاهد
كلهَا، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَتسْعُونَ حَدِيثا، مِنْهَا
للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة، وَهُوَ زوج أم أنس، مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ على
الْأَصَح. قَوْله: (قَالَ لطعام) ، ويروى: (للطعام) .
قَوْله: (قَالَ لمن حوله) مَنْصُوب بالظرفية أَي: لمن
كَانَ حوله. قَوْله: (فَانْطَلق) أَي: إِلَى بَيت أبي
طَلْحَة، وَفِي بعض النّسخ: (فَانْطَلقُوا) أَي: انْطلق
النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَمن كَانَ
مَعَه.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الحجابة، وَهُوَ أَن
يتَقَدَّم بعض الخدام بَين يَدي الإِمَام وَنَحْوه.
وَفِيه: الدُّعَاء إِلَى الطَّعَام وَإِن لم يكن وَلِيمَة.
وَفِيه: أَن الدُّعَاء إِلَى ذَلِك من الْمَسْجِد وَغَيره
سَوَاء، لِأَن ذَلِك من أَعمال الْبر، وَلَيْسَ ثَوَاب
الْجُلُوس فِي الْمَسْجِد بِأَقَلّ من ثَوَاب الْإِطْعَام.
وَفِيه: دُعَاء السُّلْطَان إِلَى الطَّعَام الْقَلِيل.
وَفِيه: أَن الرجل الْكَبِير إِذا دعِي إِلَى طَعَام،
وَعلم أَن صَاحبه لَا يكره أَن يجلب مَعَه غَيره ان
الطَّعَام يكفيهم انه لَا بَأْس بِأَن يحمل مَعَه من
حَضَره وانما حملهمْ النَّبِي بأصلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله
وَسلم، إِلَى طَعَام، أبي طَلْحَة، وَهُوَ قَلِيل، لعلمه
أَنه يَكْتَفِي جَمِيعهم ببركته وَمَا خصّه اتعالى بِهِ من
الْكَرَامَة والفضيلة، وَهُوَ من عَلَامَات النُّبُوَّة.
44 - (بابُ القَضاء واللِّعَانِ فِي المَسْجِدِ بَيْنَ
الرِّجال والنِّساء)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقَضَاء، وَهُوَ: الحكم
وَحكم اللّعان فِي الْمَسْجِد، وَعطف اللّعان على
الْقَضَاء من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن الْقَضَاء
أَعم من أَن يكون فِي اللّعان أَو غَيره، وَاللّعان مصدر:
لَا عَن من: اللَّعْن، وَهُوَ الطَّرْد والإبعاد، وَسمي
بِهِ لما فِيهِ من لعن نَفسه فِي الْخَامِسَة، وَهِي من
تَسْمِيَة الْكل باسم الْبَعْض، كَالصَّلَاةِ تسمى
رُكُوعًا وسجوداً. وَاللّعان، عندنَا: شَهَادَات مؤكدات
بالأيمان مقرونة باللعن قَائِمَة مقَام الْقَذْف فِي حَقه،
ومقام حد الزِّنَا فِي حَقّهَا، وَعند الشَّافِعِي وَمَالك
وَأحمد: هُوَ أَيْمَان مؤكدات بِلَفْظ الشَّهَادَة بِشَرْط
أهليه الْيَمين، وَصفَة اللّعان مَا نطق بِهِ نَص
الْقُرْآن فِي سُورَة النُّور، وَهُوَ أَن يبتدىء القَاضِي
بِالزَّوْجِ فَيشْهد أَربع شَهَادَات يَقُول فِي كل مرّة
أشهد با أَنِّي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميتها بِهِ من
الزِّنَا، يُشِير إِلَيْهَا فِي كل مرّة، وَيَقُول فِي
الْخَامِسَة: لعنة اعليه إِن كَانَ من الْكَاذِبين، فِيمَا
رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا، ثمَّ تشهد الْمَرْأَة أَربع
شَهَادَات تَقول فِي كل مرّة أشهد با أَنه لمن الْكَاذِبين
فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا، وَتقول فِي الْخَامِسَة:
غضب اعليها إِن كَانَ من الصَّادِقين فِيمَا رماني بِهِ من
الزِّنَا. قَوْله: (بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء) ، حَشْو،
وَلِهَذَا لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
32448 - حدّثنا يَحْيَى قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ شِهابٍ
عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدِ أنَ رَجُلاً قَالَ يَا رسولَ
اأرَأيَتَ رَجُلاً وجَدَ مَعَ امْرأتِهِ رَجُلاً
أيقْتُلُهُ فَتَلاَعَنَا فِي المَسْجِدِ وَأَنا شاهِدٌ.
(الحَدِيث 324 أَطْرَافه فِي: 5474، 6474، 9525، 8035،
9035، 4586، 5617، 6617، 4037) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَيَقْتُلُهُ) ،
لِأَنَّهُ لَو لم ير مُبَاشرَة تَامَّة لما سَأَلَ رَسُول
اعن جَوَاز قتل الرجل، وَإِلَّا فمجرد وجدان الرجل مَعَ
امْرَأَته من غير مُبَاشرَة لَا يَقْتَضِي سُؤال الْقَتْل
فِيهِ، فَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ فِيهِ إِشْعَار
بِالزِّنَا، وَلَا يَقْتَضِيهِ إلاَّ مَا يفهم من قَوْله:
أَيَقْتُلُهُ؟ .
ذكر رِجَاله: خَمْسَة: الأول: يحيى بن مُوسَى أَبُو
زَكَرِيَّا، يعرف بالخت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. الثَّانِي: عبد
الرَّزَّاق بن همام الصَّنْعَانِيّ. الثَّالِث: عبد الْملك
بن جريج. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سهل بن سعد بن مَالك بن خَالِد
الخزرجي السَّاعِدِيّ، أَبُو الْعَبَّاس، وَقيل: أَبُو
يحيى.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة
الْإِفْرَاد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: ح دّثنا
يحيى مُجَردا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: يحيى بن مُوسَى. وَقَالَ ابْن السكن: هُوَ
يحيى بن مُوسَى، وَقيل: هُوَ يحيى بن جَعْفَر البيكندي.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ: يحيى بن
معِين، لِأَنَّهُ سمع من عبد الرَّزَّاق قلت: الْأَصَح مَا
قَالَه ابْن السكن. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي
وصنعاني ومكي ومدني.
(4/163)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد
اللَّه، وَفِي التَّفْسِير عَن عبد اللَّه بن يُوسُف،
كِلَاهُمَا عَن مَالك، وَفِي الِاعْتِصَام عَن آدم عَن
ابْن أبي ذِئْب، وَفِي الْأَحْكَام، وَفِي الْمُحَاربين
عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن سُفْيَان، وَفِي التَّفْسِير
عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن فليح، وَعَن إِسْحَاق عَن
الْفرْيَابِيّ عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَفِي الطَّلَاق أَيْضا
عَن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه مُسلم فِي اللّعان
عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وَعَن حَرْمَلَة عَن ابْن
وهب، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن مَالك
مطولا، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي بِبَعْضِه، وَعَن
مُسَدّد ووهب بن بَيَان وَأحمد بن عَمْرو بن السَّرْح
وَعَمْرو بن عُثْمَان، وَعَن مَحْمُود بن خَالِد، وَعَن
أَحْمد بن صَالح، وَعَن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْوَركَانِي،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن
ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ
عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ: قَوْله: (أَن رجلا)
اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: إِنَّه هِلَال بن أُميَّة وَقيل:
عَاصِم بن عدي، وَقيل: عُوَيْمِر الْعجْلَاني. قلت: روى
الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ: (عَن سهل بن سعد
السَّاعِدِيّ أَن عويمراً جَاءَ إِلَى عَاصِم ابْن عدي
فَقَالَ: أَرَأَيْت رجلا وجد مَعَ امْرَأَته رجلا فَقتله
أتقتلونه؟ سل يَا عَاصِم رَسُول ا)
الحَدِيث، وَفِي حَدِيث أنس، رَضِي اتعالى عَنهُ، هِلَال
بن أُميَّة، روى الطَّحَاوِيّ عَن حَدِيث ابْن سِيرِين:
(عَن أنس بن مَالك أَن هِلَال بن أُميَّة قذف شريك ابْن
سمحاء بامرأته، فَرفع ذَلِك إِلَى رَسُول الله فَقَالَ:
(ائْتِ بأَرْبعَة شُهَدَاء، وإلاَّ فحد فِي ظهرك)
الحَدِيث. وَفِيه: (فَنزلت آيَة اللّعان) ، وَأخرجه مُسلم
وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس:
عُوَيْمِر الْعجْلَاني: (أَن رَسُول الله لَا عَن بَين
الْعجْلَاني وَامْرَأَته)
الحَدِيث، وَرَاه الطَّحَاوِيّ وَأحمد فِي (مُسْنده)
وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) وَوَقع فِي حَدِيث عبد اللَّه
بن مَسْعُود: وَكَانَ رجلا من الْأَنْصَار جَاءَ إِلَى
رَسُول الله فلاعن امْرَأَته. وَقَالَ الْمُهلب: الصَّحِيح
أَن الْقَاذِف: عُوَيْمِر، وَالَّذِي ذكر فِي حَدِيث ابْن
عَبَّاس من قَوْله الْعجْلَاني هُوَ عُوَيْمِر، وَكَذَا
فِي قَول عبد اللَّه بن مَسْعُود، وَكَانَ رجلا، وهلال بن
أُميَّة خطأ، وَأَظنهُ غَلطا من هِشَام بن حسان، وَذَلِكَ
لِأَنَّهَا قصَّة وَاحِدَة، وَالدَّلِيل على ذَلِك توقفه
فِيهَا حَتَّى نزلت الْآيَة الْكَرِيمَة، وَلَو أَنَّهُمَا
قضيتان لم يتَوَقَّف على الحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا نزل
عَلَيْهِ فِي الأولى. قلت: كَأَنَّهُ تبع فِي هَذَا
الْكَلَام مُحَمَّد بن جرير، فَإِنَّهُ قَالَ فِي
(التَّهْذِيب) : يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث: هِلَال بن
أُميَّة، وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر بن الْحَارِث بن
زيد بن الْجد بن عجلَان. وَفِيمَا قَالَاه نظر لِأَن
قَضِيَّة هِلَال وقذفه زَوجته بِشريك ثَابِتَة فِي صَحِيح
البُخَارِيّ فِي موضِعين: الشَّهَادَات وَالتَّفْسِير
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس. وَقَالَ ابْن التِّين:
الصَّحِيح أَن هلالاً لَا عَن قبل عُوَيْمِر، وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي. الْأَكْثَرُونَ على أَن
قصَّة هِلَال أسبق من قصَّة عُوَيْمِر، وَفِي (الشَّامِل)
لِابْنِ الصّباغ قصَّة هِلَال، تبين أَن الْآيَة
الْكَرِيمَة نزلت فِيهِ أَولا.
قَوْله: (أَرَأَيْت رجلا؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، أَي:
أَخْبرنِي بِحكمِهِ فِي أَنه هَل يجوز قَتله أَو لَا؟
قَوْله: (فَتَلَاعَنا) ، فِيهِ حذف كثير وَقد بَين ذَلِك
فِي غَيره من الْأَحَادِيث الَّتِي أخرجهَا البُخَارِيّ
مكررة، كَمَا ذكرنَا، والمحذوف بعد قَوْله: (أَيَقْتُلُهُ)
أم كَيفَ يفعل؟ فَأنْزل افي شَأْنه مَا ذكر فِي الْقُرْآن
من أَمر المتلاعنين، فَقَالَ النَّبِي: قد قضى فِيك وَفِي
امْرَأَتك، قَالَ: فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد وَأَنا
شَاهد، فَلَمَّا فرغا قَالَ: كذبت عَلَيْهَا يَا رَسُول
اإن أَمْسَكتهَا، فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يإمره رَسُول
الله حِين فرغا من التلاعن، ففارقها عِنْد النَّبِي
فَقَالَ: (ذَاك تَفْرِيق بَين كلا متلاعنين)
الحَدِيث وَسَيَأْتِي أَحْكَام اللّعان مستقصاة فِي كتاب
اللّعان، وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث
مُخْتَصرا لأجل جَوَاز الْقُضَاة فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ
جَائِز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء، وَقَالَ مَالك: جُلُوس
القَاضِي فِي الْمَسْجِد للْقَضَاء من الْأَمر الْقَدِيم
الْمَعْمُول بِهِ، وَقَالَ ابْن حبيب: وَكَانَ من مضى من
الْقَضَاء لَا يَجْلِسُونَ إلاَّ فِي رحاب الْمَسَاجِد
خَارِجا. وَقَالَ أَشهب: لَا بَأْس أَن يقْضِي فِي بَيته
أَو حَيْثُ أحب، وَاسْتحبَّ بَعضهم الرحاب، وَفِي
(المعونة) : الأولى أَن يقْضِي فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ
شُرَيْح وَابْن أبي ليلى يقضيان فِيهِ، وَرُوِيَ عَن سعيد
بن الْمسيب كَرَاهِيَة ذَلِك، قَالَ: لَو كَانَ لي من
الْأَمر شَيْء مَا تركت اثْنَيْنِ يختصمان فِي الْمَسْجِد.
وَعَن الشَّافِعِي كراهيته فِي الْمَسْجِد إِذا أعده
لذَلِك دون مَا إِذا انفقت لَهُ حُكُومَة فِيهِ، إِذْ
فِيهِ حَدِيث: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ رفع أَصْوَاتكُم
وَخُصُومَاتكُمْ) ، وَلَا يعْتَرض على هَذَا بِاللّعانِ
لِأَنَّهَا أَيْمَان وَيُرَاد بهَا التَّرْهِيب ليرْجع
الْمُبْطل.
قلت: قَالَ أَصْحَابنَا جَمِيعًا: وَالْمُسْتَحب أَن يجلس
فِي مجْلِس الحكم فِي الْجَامِع، فَإِن كَانَ مَسْجِدا
(4/164)
بِجنب دَاره فَلهُ ذَلِك، وَإِن قضى فِي
دَاره جَازَ، وَالْجَامِع أرْفق الْمَوَاضِع بِالنَّاسِ
وأجدر أَن لَا يخفى على أحد جُلُوسه وَلَا يَوْم حكمه،
وَقد كَانَ الشّعبِيّ يقْضِي فِي الْجَامِع، وَشُرَيْح
يقْضِي فِي الْمَسْجِد ويخطب بِالسَّوَادِ، وَقد قضى
النَّبِي فِي مَسْجده بَين الْأَنْصَار فِي مَوَارِيث
تقادمت، وَكَانَت الْأَئِمَّة يقضون فِي الْمَسَاجِد،
وَعُثْمَان، رَضِي اتعالى عَنهُ فِي الْحر يُقيم فِي
الْمَسْجِد وَقضى بَين سقا وخصم لَهُ فِي الْمَسْجِد،
وَإِن حضر فِي الْمَسْجِد لغير الحكم فَحَضَرَ خصمان لم
يكره لَهُ أَن يحكم بَينهمَا، وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز:
لَا يقْعد القَاضِي فِي الْمَسْجِد يدْخل فِيهِ
الْمُشْركُونَ، فَإِنَّهُم نجس، وتلا الْآيَة. وَكَانَ
يحيى بن يعمر فِي الطَّرِيق، وقصده رجل إِلَى منزله
فَقَالَ: القَاضِي لَا يُؤْتى فِي منزله.
54 - (بابٌ إذَا دَخَلَ بَيْتاً يُصَلِّى حَيْثُ شاءَ أوْ
حَيْثُ أمِرَ ولاَ يَتَجَسَّسُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا دخل رجل بَيت أحد
يُصَلِّي فِيهِ حَيْثُ شَاءَ؟ وهمزة الِاسْتِفْهَام مقدرَة
فِيهِ تَقْدِيره أيصلي حَيْثُ شَاءَ؟ أَو حَيْثُ أَمر؟ أَو
يُصَلِّي حَيْثُ أمره صَاحب الْبَيْت. وَفِي بعض النّسخ
هَكَذَا بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، وَالْمعْنَى. على هَذَا
وإلاَّ لَا يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة جَمِيعًا، وَلَا
يُطَابق إلاَّ الشق الثَّانِي، وَهُوَ قَوْله، صلى اتعالى
عَلَيْهِ وَسلم: (أَيْن تحب أَن أُصَلِّي لَك من بَيْتك؟)
وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: لَا يَقْتَضِي لفظ الحَدِيث
أَن يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَن
يُصَلِّي حَيْثُ أَمر، لقَوْله: أَيْن تحب أَن أُصَلِّي
لَك؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَاب دخل بَيْتا هَل يُصَلِّي
حَيْثُ شَاءَ أَو حَيْثُ أَمر، لِأَنَّهُ استأذنه فِي
مَوضِع الصَّلَاة وَلم يصل حَيْثُ شَاءَ، فَيبْطل حكم:
حَيْثُ شَاءَ، وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله: وَلَا يتجسس، أَي:
وَلَا يتفحص موضعا يُصَلِّي فِيهِ، وَهُوَ بِالْجِيم،
وَقيل: بِالْحَاء، وَالْمعْنَى مُتَقَارب، وَالْأول أظهر
وَأكْثر.
85 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة قَالَ حَدثنَا
إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن مَحْمُود بن
الرّبيع عَن عتْبَان بن مَالك أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ فِي منزله فَقَالَ
أَيْن تحب أَن أُصَلِّي لَك من بَيْتك قَالَ فأشرت لَهُ
إِلَى مَكَان فَكبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فصففنا خَلفه فصلى رَكْعَتَيْنِ) وَجه
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة قد ذَكرْنَاهُ (ذكر
رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول عبد الله بن مسلمة القعْنبِي.
الثَّانِي إِبْرَاهِيم بن سعد سبط عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف. الثَّالِث مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع مَحْمُود بن الرّبيع بِفَتْح الرَّاء الخزرجي
الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ. الْخَامِس عتْبَان بِكَسْر
الْعين الْمُهْملَة وَضمّهَا وَسُكُون التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة
الْأنْصَارِيّ السالمي الْمدنِي الْأَعْمَى وَكَانَ إِمَام
قومه على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - رُوِيَ لَهُ عشرَة أَحَادِيث للْبُخَارِيّ
مِنْهَا وَاحِد قَالَه فِي الْكَمَال مَاتَ بِالْمَدِينَةِ
زمن مُعَاوِيَة. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع وَصرح أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده
بِسَمَاع إِبْرَاهِيم بن سعد من ابْن شهَاب وَفِيه أَن
رُوَاته كلهم مدنيون وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن
الصَّحَابِيّ. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) هَذَا
الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مطولا ومختصرا فِي أَكثر من
عشرَة مَوَاضِع فَفِي الصَّلَاة عَن هناد عَن عبد الله بن
مسلمة وَعَن حبَان بن مُوسَى وَعَن معَاذ بن أَسد وَعَن
إِسْمَاعِيل عَن مَالك وَعَن اسحق عَن يَعْقُوب وَعَن سعيد
بن عفير وَفِي الرقَاق عَن معَاذ بن أَسد وَفِي
اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن عَبْدَانِ وَفِي الْمَغَازِي
عَن القعْنبِي وَعَن سعيد بن عفير وَعَن يحيى بن كثير
وَعَن أَحْمد بن صَالح وَفِي الْأَطْعِمَة عَن يحيى بن
كثير وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي عدَّة مَوَاضِع فَفِي
الصَّلَاة عَن حَرْمَلَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن
حميد وَعَن اسحق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْإِيمَان عَن
شَيبَان بن فروخ عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت
عَن أنس وَعَن أبي بكر بن نَافِع وَأخرجه النَّسَائِيّ
أَيْضا فِي مَوَاضِع فَفِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن عبد
الله وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعَن نصر بن عَليّ وَفِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي بكر بن نَافِع وَعَن
مُحَمَّد بن سَلمَة وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد
بن عَليّ بن مَيْمُون. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة
عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان عَن إِبْرَاهِيم بن
سعد بِطُولِهِ
(4/165)
(ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ)
قَوْله " أَتَاهُ فِي منزله " وَعند الطَّبَرَانِيّ " أَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ
يَوْم السبت وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا " وَفِي لفظ " أَن عتْبَان لَقِي النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم جُمُعَة
فَقَالَ إِنِّي أحب أَن تَأتِينِي " وَفِي بَعْضهَا " أَن
عتْبَان بعث إِلَيْهِ " وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ
الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث النَّضر بن أنس عَن أَبِيه
قَالَ " لما أُصِيب عتْبَان " فَجعله من مُسْند أنس بن
مَالك وَعند ابْن حبَان فِي صَحِيحه عَن أبي هُرَيْرَة
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَن رجلا من الْأَنْصَار أرسل
إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَن تعال فَخط لي مَسْجِدا فِي دَاري أُصَلِّي فِيهِ
وَذَلِكَ بَعْدَمَا عمي فجَاء فَفعل " انْتهى هَذَا
كَأَنَّهُ عتْبَان وَالله تَعَالَى أعلم قَوْله " أَن
أُصَلِّي لَك " هَكَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين " أَن أُصَلِّي من بَيْتك " وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني " فِي بَيْتك " (فَإِن قلت) الصَّلَاة
لله فَكيف قَالَ لَك (قلت) نفس الصَّلَاة لله تَعَالَى
وَالْأَدَاء فِي الْموضع الْمَخْصُوص لَهُ قَوْله " فصففنا
" ويروى " وصففنا " بِالْوَاو ويروى " فصفنا "
بِالتَّشْدِيدِ أَي صفنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَي جعلنَا صفا خَلفه. وَمِمَّا
يستنبط مِنْهُ اسْتِحْبَاب تعْيين مصلى فِي الْبَيْت إِذا
عجز عَن حُضُور الْمَسَاجِد. وَفِيه جَوَاز الْجَمَاعَة
فِي الْبيُوت. وَفِيه جَوَاز النَّوَافِل بِالْجَمَاعَة.
وَفِيه إتْيَان الرئيس إِلَى بَيت المرؤس. وَفِيه
تَسْوِيَة الصَّفّ خلف الإِمَام. وَفِيه مَا يدل على حسن
خلقه وتواضعه مَعَ جلالة قدره وَعظم مَنْزِلَته
64 - (بابُ المَسَاجِدِ فِي البُيُوتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز اتِّخَاذ الْمَسَاجِد
فِي الْبيُوت، هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله فِي
الْحَقِيقَة بَاب وَاحِد لِأَن للْبُخَارِيّ حَدِيثا
وَاحِدًا عَن عتْبَان، وَإِنَّمَا أخرجه فِي عدَّة
مَوَاضِع كَمَا ذكرنَا مفرقاً مطولا ومختصراً لأجل
التراجم.
وَصَلَّى البَرَاءُ بنُ عازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ
فِي جَمَاعَةٍ
هَذَا تَعْلِيق روى مَعْنَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي قصَّة.
قَوْله: (فِي جمَاعَة) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة غَيره: (جمَاعَة) بِدُونِ كلمة: فِي، مَنْصُوبَة.
86 - (حَدثنَا سعيد بن عفير قَالَ حَدثنِي اللَّيْث قَالَ
حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي مَحْمُود بن
الرّبيع الْأنْصَارِيّ أَن عتْبَان بن مَالك وَهُوَ من
أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - مِمَّن شهد بَدْرًا من الْأَنْصَار أَنه أَتَى رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا
رَسُول الله قد أنْكرت بَصرِي وَأَنا أُصَلِّي لقومي
فَإِذا كَانَت الأمطار سَالَ الْوَادي الَّذِي بيني
وَبينهمْ لم أستطع أَن آتِي مَسْجِدهمْ فأصلي بهم ووددت
يَا رَسُول الله أَنَّك تَأتِينِي فَتُصَلِّي فِي بَيْتِي
فأتخذه مصلى قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سأفعل إِن شَاءَ الله قَالَ
عتْبَان فغدا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر حِين ارْتَفع النَّهَار
فَاسْتَأْذن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَأَذنت لَهُ فَلم يجلس حِين دخل الْبَيْت
ثمَّ قَالَ أَيْن تحب أَن أُصَلِّي من بَيْتك قَالَ فأشرت
لَهُ إِلَى نَاحيَة من الْبَيْت فَقَامَ رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكبر فقمنا فصفنا
فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم قَالَ وحبسناه على خزيرة
صنعناها لَهُ قَالَ فَثَابَ فِي الْبَيْت رجال من أهل
الدَّار ذَوُو عدد فَاجْتمعُوا فَقَالَ قَائِل مِنْهُم
أَيْن مَالك بن الدخيشن أَو ابْن الدخشن فَقَالَ بَعضهم
ذَلِك مُنَافِق لَا يحب الله وَرَسُوله فَقَالَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تقل
ذَلِك أَلا ترَاهُ قد قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله يُرِيد
بذلك وَجه الله قَالَ الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإنَّا
نرى وَجهه ونصيحته
(4/166)
إِلَى الْمُنَافِقين قَالَ رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن الله قد حرم
على النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله يَبْتَغِي
بذلك وَجه الله قَالَ ابْن شهَاب ثمَّ سَأَلت الْحصين بن
مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ وَهُوَ أحد بني سَالم وَهُوَ من
سراتهم عَن حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع فَصدقهُ بذلك)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة
سعيد بن عفير بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء
وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير الْمصْرِيّ وَاللَّيْث بن سعد
الْمصْرِيّ وَعقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأَيْلِي
وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. (ذكر لطائف
إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع
وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار
بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه العنعنة
فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مصري وأيلي
ومدني وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ
(فَإِن قلت) من قَوْله أَن عتْبَان بن مَالك إِلَى قَوْله
قَالَ عتْبَان من رِوَايَة مَحْمُود بن الرّبيع بِغَيْر
وَاسِطَة فَيكون هَذَا الْقدر مُرْسلا فَلَا يكون رِوَايَة
الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَمن هَذَا قَالَ
الْكرْمَانِي الظَّاهِر أَنه مُرْسل لِأَنَّهُ لَا جزم أَن
مَحْمُودًا سمع من عتْبَان وَلَا أَنه رأى بِعَيْنِه ذَلِك
لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا عِنْد وَفَاة رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) قد وَقع
تصريحه بِالسَّمَاعِ عِنْد البُخَارِيّ من طَرِيق معمر
وَمن طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد كَمَا مر فِي الْبَاب
الْمَاضِي وَوَقع التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ أَيْضا بَين
عتْبَان ومحمود من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن ابْن شهَاب
عِنْد أبي عوَانَة فَتكون رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن
الصَّحَابِيّ فَيحمل قَوْله قَالَ عتْبَان على أَن
مَحْمُودًا أعَاد اسْم شَيْخه اهتماما بذلك لطول الحَدِيث
وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " أَن عتْبَان بن مَالك " ظَاهره
الْإِرْسَال وَقد حققناه الْآن وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا
قَالَ حَدثنَا فلَان أَن فلَانا قَالَ كَذَا أَو فعل كَذَا
فَقَالَ الإِمَام أَحْمد وَجَمَاعَة يكون مُنْقَطِعًا
حَتَّى يتَبَيَّن السماع وَقَالَ الْجُمْهُور هُوَ كعن
مَحْمُول على السماع بِشَرْط أَن يكون الرَّاوِي غير
مُدَلّس وبشرط ثُبُوت اللِّقَاء على الْأَصَح قَوْله "
مِمَّن شهد بَدْرًا من الْأَنْصَار " وَفَائِدَة ذكر
قَوْله من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - تَقْوِيَة الرِّوَايَة وتعظيمه والافتخار
والتلذذ بِهِ وَإِلَّا كَانَ هُوَ مَشْهُورا بذلك أَو
غَرَضه تَعْرِيف الْجَاهِل بِهِ قَوْله " أَن عتْبَان بن
مَالك " فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله
أَخْبرنِي قَوْله " أَنه أَتَى " بدل من أَن عتْبَان وَفِي
رِوَايَة ثَابت عَن أنس عَن عتْبَان (فَإِن قلت) جَاءَ فِي
رِوَايَة مُسلم أَنه بعث إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يطْلب مِنْهُ ذَلِك فَمَا وَجه
الرِّوَايَتَيْنِ (قلت) يحْتَمل أَن يكون جَاءَ إِلَى
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِنَفسِهِ مرّة وَبعث إِلَيْهِ رَسُوله مرّة أُخْرَى لأجل
التَّذْكِير وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن يكون نسب إتْيَان
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى
نَفسه مجَازًا (قلت) الأَصْل الْحَقِيقَة وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي أويس
عَن ابْن شهَاب بِسَنَدِهِ أَنه قَالَ للنَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم جُمُعَة لَو أتيتني
يَا رَسُول الله وَفِيه أَنه أَتَاهُ يَوْم السبت قَوْله "
قد أنْكرت بَصرِي " يحْتَمل مَعْنيين الْعَمى أَو ضعف
الإبصار وَفِي رِوَايَة مُسلم " لما سَاءَ بَصرِي " وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " جعل بَصرِي يكل " وَفِي
رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم من طَرِيق سُلَيْمَان بن
الْمُغيرَة عَن ثَابت أصابني فِي بَصرِي بعض الشَّيْء وكل
ذَلِك يدل على أَنه لم يكن بلغ الْعَمى وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ فِي بَاب الرُّخْصَة فِي الْمَطَر من طَرِيق
مَالك عَن ابْن شهَاب فَقَالَ فِيهِ " أَن عتْبَان كَانَ
يؤم قومه وَهُوَ أعمى وَأَنه قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا تكون الظلمَة
والسيل وَأَنا رجل ضَرِير الْبَصَر " (فَإِن قلت) بَين
هَذِه الرِّوَايَة وَالرِّوَايَات الَّتِي تقدّمت تعَارض
ظَاهرا (قلت) لَا مُعَارضَة فِيهَا لِأَنَّهُ أطلق
عَلَيْهِ الْعَمى فِي هَذِه الرِّوَايَة لقُرْبه مِنْهُ
وَكَانَ قد قرب من الْعَمى بِالْكُلِّيَّةِ وَالشَّيْء
إِذا قرب من الشَّيْء يَأْخُذ حكمه قَوْله " وَأَنا
أُصَلِّي لقومي " أَي لأجلهم وَالْمعْنَى أَنه كَانَ يؤمهم
وَصرح بذلك أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن إِبْرَاهِيم
بن سعد قَوْله " فَإِذا كَانَت الأمطار " أَي فَإِذا وجدت
وَكَانَت تَامَّة فَلذَلِك لَيْسَ لَهَا خبر قَوْله "
سَالَ الْوَادي " من قبيل إِطْلَاق اسْم الْمحل على
الْحَال أَي سَالَ مَاء الْوَادي قَوْله " بيني وَبينهمْ "
وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " يسيل الْوَادي الَّذِي
بيني وَبَين مَسْجِد قومِي فيحول بيني وَبَين الصَّلَاة
مَعَهم " قَوْله " فأصلي بهم " بِالنّصب عطف على قَوْله "
أَن آتِي " ويروى لَهُم بدل بهم قَوْله " ووددت " بِكَسْر
الدَّال قَالَه ثَعْلَب وَمَعْنَاهُ تمنيت وَفِي الْجَامِع
للقزاز وَحكى الْفراء عَن الْكسَائي وددت بِالْفَتْح وَلم
يحكها غَيره والمصدر ود فيهمَا وَيُقَال فِي الْمصدر الود
والود والوداد والوداد وَالْكَسْر أَكثر
(4/167)
والودادة والودادة قَوْله " وَجَاء
مَوَدَّة " حَكَاهُ مكي فِي شَرحه وَقَالَ اليزيدي فِي
نوادره لَيْسَ فِي شَيْء من الْعَرَبيَّة وددت مَفْتُوحَة
قَوْله " فَتُصَلِّي " بِسُكُون الْيَاء وَيجوز النصب
لوُقُوع الْفَاء بعد التَّمَنِّي قَوْله " فاتخذه "
بِالرَّفْع وَبِالنَّصبِ أَيْضا لِأَن الْفَاء وَقعت بعد
التَّمَنِّي الْمُسْتَفَاد من الودادة قَوْله " إِن شَاءَ
الله " تَعْلِيق بِمَشِيئَة الله عملا بقوله تَعَالَى
{وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن
يَشَاء الله} قَالَ الْكرْمَانِي وَلَيْسَ لمُجَرّد
التَّبَرُّك إِذْ مَحل اسْتِعْمَاله إِنَّمَا هُوَ فِيمَا
كَانَ مَجْزُومًا بِهِ (قلت) يجوز أَن يكون للتبرك لِأَن
اطِّلَاعه بِالْوَحْي على الْجَزْم بِأَنَّهُ سيقع غير
مستبعد فِي حَقه قَوْله " فغدا على " زَاد
الْإِسْمَاعِيلِيّ " بالغد " وللطبراني من طَرِيق أبي أويس
أَن السُّؤَال وَقع يَوْم الْجُمُعَة والتوجه إِلَيْهِ
وَقع يَوْم السبت على مَا ذكرنَا قَوْله " وَأَبُو بكر "
لم يذكر جُمْهُور الروَاة عَن ابْن شهَاب غَيره حَتَّى أَن
فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ " فَاسْتَأْذَنا فَأَذنت
لَهما " لَكِن فِي رِوَايَة أبي أويس وَمَعَهُ أَبُو بكر
وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِي رِوَايَة مُسلم من
طَرِيق أنس عَن عتْبَان " فَأَتَانِي وَمن شَاءَ الله
تَعَالَى من أَصْحَابه " وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من
وَجه آخر عَن أنس " فِي نفر من أَصْحَابه " (فَإِن قلت)
مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات (قلت) هُوَ أَن
أَبَا بكر كَانَ مَعَه فِي ابْتِدَاء توجهه ثمَّ عِنْد
الدُّخُول أَو قبله بِقَلِيل اجْتمع عمر وَغَيره من
أَصْحَابه فَدَخَلُوا مَعَه قَوْله " فَلم يجلس حِين دخل "
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " حَتَّى دخل " قَالَ
النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم زعم بَعضهم أَن حَتَّى غلط
وَلَيْسَ بغلط إِذْ مَعْنَاهُ لم يجلس فِي الدَّار وَلَا
فِي غَيرهَا حَتَّى دخل الْبَيْت مبادرا إِلَى قَضَاء
حَاجته الَّتِي طلبَهَا مِنْهُ وَجَاء بِسَبَبِهَا وَهِي
الصَّلَاة فِي بَيته وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب عِنْد
البُخَارِيّ وَعند الطَّيَالِسِيّ أَيْضا " فَلَمَّا دخل
لم يجلس حَتَّى قَالَ أَيْن تحب " وَكَذَا
الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر (قلت) إِنَّمَا يتَعَيَّن
كَون رِوَايَة الْكشميهني غَلطا إِذا لم يكن لعتبان دَار
فِيهَا بيُوت وَأما إِذا كَانَت لَهُ دَار فَلَا يتَعَيَّن
قَوْله " فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَكبر " هَذَا يدل على أَنه حِين دخل
الْبَيْت جلس ثمَّ قَامَ فَكبر للصَّلَاة وَبَينه وَبَين
مَا قبله تعَارض وَدفعه يُمكن بِأَن يُقَال لما دخل قبل
أَن يجلس قَالَ أَيْن تحب وَيحْتَمل أَنه جلس بعده
جُلُوسًا مَا ثمَّ قَامَ فَكبر (فَإِن قلت) حَدِيث مليكَة
فِي بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير " بَدَأَ بِالْأَكْلِ
ثمَّ صلى " وَهَهُنَا " صلى ثمَّ أكل " فَمَا الْفرق
بَينهمَا (قلت) كَانَ دُعَاء عتْبَان النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للصَّلَاة وَدعَاهُ مليكَة
كَانَ للطعام فَفِي كل وَاحِد من الْمَوْضِعَيْنِ بَدَأَ
بالأهم وَهُوَ مَا دعِي إِلَيْهِ قَوْله " أَن أُصَلِّي من
بَيْتك " كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَعند جُمْهُور
الروَاة من الزُّهْرِيّ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده "
أَن أُصَلِّي فِي بَيْتك " (فَإِن قلت) مَا معنى " من
بَيْتك " وأصل من للابتداء (قلت) الْحُرُوف يَنُوب
بَعْضهَا عَن بعض فَمن هَهُنَا بِمَعْنى فِي كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} {إِذا
نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} قَوْله " وحبسناه "
أَي منعناه عَن الرُّجُوع قَوْله " على خزيرة " بِفَتْح
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفتح الرَّاء فِي آخِره هَاء قَالَ ابْن سَيّده
هِيَ اللَّحْم الغاث بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي المهزول
يُؤْخَذ فَيقطع صغَارًا ثمَّ يطْبخ بِالْمَاءِ فَإِذا أميت
طبخا ذَر عَلَيْهِ الدَّقِيق فعصد بِهِ ثمَّ أَدَم بِأَيّ
أدام بِشَيْء وَلَا تكون الخزيرة إِلَّا وفيهَا لحم وَقيل
هِيَ ثَلَاثَة النخالة تصفى ثمَّ تطبخ وَقيل الخزيرة
والخزير الحساء من الدسم والدقيق عَن أبي الْهَيْثَم إِذا
كَانَ من دَقِيق فَهِيَ خزيرة وَإِذا كَانَ من نخالة
فَهِيَ حَرِير بالمهملات وَفِي الجمهرة لِابْنِ دُرَيْد
الخزير دَقِيق يلبك بشحم كَانَت الْعَرَب تعير بِأَكْلِهِ
وَفِي مَوضِع يعير بِهِ بَنو مجاشع قَالَ والخزيرة السخينة
وَقَالَ الْفَارِسِي أَكثر هَذَا الْبَاب على فعيلة
لِأَنَّهُ فِي معنى مفعول وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ
عِنْد مُسلم " على جشيشة " بجيم ومعجمتين قَالَ أهل
اللُّغَة هِيَ أَن تطحن الْحِنْطَة قَلِيلا ثمَّ يلقى
فِيهَا شَحم أَو غَيره وَفِي الْمطَالع أَنَّهَا رويت فِي
الصَّحِيحَيْنِ بخاء ورائين مهملات وَحكى البُخَارِيّ فِي
الْأَطْعِمَة عَن النَّضر أَنه تصنع من اللَّبن قَوْله "
فَثَابَ فِي الْبَيْت رجال " بالثاء الْمُثَلَّثَة وَبعد
الْألف بَاء مُوَحدَة أَي اجْتَمعُوا وَجَاءُوا يُقَال ثاب
الرجل إِذا رَجَعَ بعد ذَهَابه وَقَالَ ابْن سَيّده ثاب
الشَّيْء ثوبا وثؤبا رَجَعَ وثاب جِسْمه ثوبانا أقبل
وَقَالَ الْخَلِيل المثابة مُجْتَمع النَّاس بعد افتراقهم
وَمِنْه قيل للبيت مثابة قَوْله " من أهل الدَّار " أَي من
أهل الْمحلة كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - " خير دور الْأَنْصَار دَار بني النجار " أَي محلتهم
وَالْمرَاد أَهلهَا وَيُقَال الدَّار الْقَبِيلَة أَيْضا
وَإِنَّمَا جَاءُوا لسماعهم بقدوم النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " فَقَالَ قَائِل
مِنْهُم " لم يسم هَذَا الْقَائِل قَوْله " مَالك بن
الدخيشين " بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الشين
الْمُعْجَمَة وَفِي
(4/168)
آخِره نون قَوْله " أَو ابْن الدخشن "
بِضَم الدَّال وَسُكُون الْخَاء وَضم الشين وَحكى كسر
أَوله وَالشَّكّ فِيهِ من الرَّاوِي هَل هُوَ مصغر أم مكبر
وَعند البُخَارِيّ فِي الْمُحَاربين من رِوَايَة معمر
الدخشن بالنُّون مكبرا من غير شكّ وَكَذَا فِي رِوَايَة
مُسلم من طَرِيق يُونُس وَعِنْده من طَرِيق معمر
بِالشَّكِّ وَنقل الطَّبَرَانِيّ عَن أَحْمد بن صَالح أَن
الصَّوَاب الدخشن بِالْمِيم وَهِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ
وَكَذَا فِي رِوَايَة لمُسلم عَن أنس عَن عتْبَان وَكَذَا
للطبراني من طَرِيق النَّضر بن أنس عَن أَبِيه قَوْله "
فَقَالَ بَعضهم " قيل هُوَ عتْبَان رَاوِي الحَدِيث
وَبَعْضهمْ نسب هَذَا القَوْل بِأَنَّهُ عتْبَان إِلَى
ابْن عبد الْبر وَهُوَ غير ظَاهر لِأَنَّهُ قَالَ لَا يَصح
عَن مَالك النِّفَاق وَقد ظهر من حسن إِسْلَامه مَا يمْنَع
من اتهامه وَقَالَ أَيْضا لم يخْتَلف فِي شُهُود مَالك
بَدْرًا وَهُوَ الَّذِي أسر سُهَيْل بن عَمْرو ثمَّ سَاق
بِإِسْنَاد حسن عَن أبي هُرَيْرَة " أَن رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لمن تكلم
فِيهِ أَلَيْسَ قد شهد بَدْرًا " وَذكر ابْن إِسْحَاق فِي
الْمَغَازِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بعث مَالِكًا هَذَا ومعن بن عدي فحرقا
مَسْجِد الضرار فَدلَّ ذَلِك كُله أَنه بَرِيء مِمَّا
اتهمَ بِهِ من النِّفَاق (فَإِن قلت) إِذا كَانَ كَذَلِك
فَكيف قَالَ هَذَا الْقَائِل أَنا نرى وَجهه ونصيحته
لِلْمُنَافِقين (قلت) لَعَلَّ كَانَ لَهُ عذر فِي ذَلِك
كَمَا كَانَ لحاطب بن أبي بلتعة وَهُوَ أَيْضا مِمَّن شهد
بَدْرًا وَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ بِالنّظرِ إِلَى
الظَّاهِر أَلا ترى أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ قَالَ عِنْد قَوْله هَذَا "
فَإِن الله حرم على النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا
الله يَبْتَغِي بذلك وَجه الله " وَهَذَا إِنْكَار لقَوْله
هَذَا وَيجوز أَن يكون اتهامه إِيَّاه بالنفاق غير نفاق
الْكفْر كَذَا قيل قَوْله " لَا تقل ذَاك " أَي القَوْل
بِأَنَّهُ مُنَافِق قَوْله " أَلا ترَاهُ قد قَالَ لَا
إِلَه إِلَّا الله " وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ " أما
يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله " وَفِي رِوَايَة مُسلم "
أَلَيْسَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " قَوْله "
يُرِيد بذلك وَجه الله " أَي ذَات الله وَهَذِه شَهَادَة
من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بإيمانه بَاطِنا وبراءته من النِّفَاق " فَإنَّا نرى وَجهه
" أَي توجهه قَوْله " ونصيحته لِلْمُنَافِقين " ويروى "
إِلَى الْمُنَافِقين " وعَلى هَذِه الرِّوَايَة قَالَ
الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) يُقَال نصحت لَهُ لَا إِلَيْهِ
ثمَّ أجَاب عَنهُ بقوله قد ضمن معنى الِانْتِهَاء وَقَالَ
بَعضهم الظَّاهِر أَن قَوْله " إِلَى الْمُنَافِقين "
مُتَعَلق بقوله " وَجهه " فَهُوَ الَّذِي يتَعَدَّى بإلى
وَأما مُتَعَلق ونصيحته فمحذوف للْعلم بِهِ (قلت) كل
مِنْهُمَا لم يمشي على قانون الْعَرَبيَّة لِأَن قَوْله "
ونصيحته " عطف على قَوْله " وَجهه " دَاخل فِي حكمه
لِأَنَّهُ تَابع وَكلمَة إِلَى تتَعَلَّق بقوله وَجهه
وَلَا يحْتَاج إِلَى دَعْوَى حذف مُتَعَلق الْمَعْطُوف
لِأَنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بمتعلق الْمَعْطُوف عَلَيْهِ
قَوْله " يَبْتَغِي " أَي يطْلب بذلك وَجه الله فِيهِ رد
على المرجئة الغلاة الْقَائِلين بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي
الْإِيمَان النُّطْق فَقَط من غير اعْتِقَاد (فَإِن قلت)
لَا بُد من مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) قَالَ الْكرْمَانِي هَذَا
إِشْعَار لكلمة الشَّهَادَة بِتَمَامِهَا (قلت) هَذَا فِي
حق الْمُشرك وَأما فِي حق غَيره فَلَا بُد من ذَلِك قَوْله
" فَإِن الله تَعَالَى قد حرم على النَّار " المُرَاد من
التَّحْرِيم هُنَا تَحْرِيم التخليد جمعا بَينه وَبَين مَا
ورد من دُخُول أهل الْمعْصِيَة فِيهَا وتوفيقا بَين
الْأَدِلَّة وَعَن الزُّهْرِيّ أَنه نزلت بعد هَذَا
الحَدِيث فَرَائض وَأُمُور نرى أَن الْأَمر انْتهى
إِلَيْهَا وَعند الطَّبَرَانِيّ أَنه من كَلَام عتْبَان
وَاعْترض ابْن الْجَوْزِيّ وَقَالَ أَن الصَّلَوَات الْخمس
فرضت بِمَكَّة قبل هَذِه الْقَضِيَّة بِمدَّة وَظَاهر
الحَدِيث يَقْتَضِي أَن مُجَرّد القَوْل يدْفع الْعَذَاب
وَلَو ترك الصَّلَاة وَإِنَّمَا الْجَواب أَن من قَالَهَا
مخلصا فَإِنَّهُ لَا يتْرك الْعَمَل بالفرائض إِذْ إخلاص
القَوْل حَامِل على أَدَاء اللَّازِم أَو أَنه يحرم
عَلَيْهِ خلوده فِيهَا وَقَالَ ابْن التِّين مَعْنَاهُ
إِذا غفر لَهُ وَتقبل مِنْهُ أَو يكون أَرَادَ نَار
الْكَافرين فَإِنَّهَا مُحرمَة على الْمُؤمنِينَ
فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ الدَّاودِيّ سَبْعَة أَدْرَاك
والمنافقون فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار مَعَ
إِبْلِيس وَابْن آدم الَّذِي قتل أَخَاهُ قَوْله " قَالَ
ابْن شهَاب " وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ أحد
رُوَاة الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم أَي قَالَ ابْن شهَاب
بِالْإِسْنَادِ وَوهم من قَالَ أَنه مُعَلّق (قلت) ظَاهره
التَّعْلِيق فَإِنَّهُ قَالَ قَالَ ابْن شهَاب بِدُونِ
الْعَطف على مَا قبله قَوْله " ثمَّ سَأَلت الْحصين بن
مُحَمَّد " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " ثمَّ سَأَلت بعد
ذَلِك الْحصين " بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالصاد
الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة وَهَكَذَا ضَبطه عِنْد جَمِيع
الروَاة إِلَّا الْقَابِسِيّ فَإِنَّهُ ضَبطه بالضاد
الْمُعْجَمَة وغلطوه فِي ذَلِك وَهُوَ الْحصين بن مُحَمَّد
الْأنْصَارِيّ الْمدنِي من ثِقَات التَّابِعين وَقَالَ
الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) مَحْمُود كَانَ عدلا فَلم سَأَلَ
الزُّهْرِيّ غَيره (قلت) إِمَّا للتقوية ولاطمئنان الْقلب
وَإِمَّا لِأَنَّهُ عرف أَنه نَقله مُرْسلا وَإِمَّا
لِأَنَّهُ تحمله حَال الصِّبَا وَاخْتلف فِي قبُول المتحمل
زمن الصِّبَا قَوْله " وَهُوَ من سراتهم " أَي الْحصين بن
مُحَمَّد من سراة بني سَالم والسراة بِفَتْح السِّين جمع
سرى وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَهُوَ الْمُرْتَفع الْقدر
وَفِي الْمُحكم السرو الْمُرُوءَة والشرف سرو سراوة وسروا
الْأَخِيرَة عَن سِيبَوَيْهٍ واللحياني وسرى سروا وسرى
يسري سراء وَلم يحك اللحياني مصدر سرى إِلَّا ممدودا وَرجل
(4/169)
سرى من قوم أسرياء وشرفاء كِلَاهُمَا عَن
اللحياني والسراة اسْم للْجمع وَلَيْسَ بِجمع عِنْد
سِيبَوَيْهٍ وَدَلِيل ذَلِك قَوْلهم سروات وَفِي الصِّحَاح
وَجمع السرى سراة وَهُوَ جمع عَزِيز أَن يجمع فعيل على
فعلة وَلَا يعرف غَيره وَفِي الْجَامِع وَقَوْلهمْ فلَان
سرى إِنَّمَا مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب الرفيع وَهُوَ
سرا الرجل يسرو صَار رفيعا وَأَصله من السراة وَهُوَ من
أرفع الْمَوَاضِع من ظهر الدَّابَّة وَقيل بل السراة
الرَّأْس وَهُوَ أرفع الْجِسْم قَوْله " عَن حَدِيث
مَحْمُود بن الرّبيع " يتَعَلَّق بقوله " سَأَلت " قَوْله
" فَصدقهُ بذلك " أَي بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَهَذَا
يحْتَمل أَن يكون الْحصين سَمعه أَيْضا من عتْبَان
وَيحْتَمل أَن يكون سَمعه من صَحَابِيّ آخر وَلَيْسَ
للحصين وَلَا لعتبان فِي الصَّحِيحَيْنِ سوى هَذِه
الحَدِيث (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام والفوائد)
مِنْهَا جَوَاز إِمَامَة الْأَعْمَى وَمِنْهَا جَوَاز
التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة للْعُذْر نَحْو الْمَطَر
والظلمة أَو الْخَوْف على نَفسه وَمِنْهَا أَن فِيهِ
إِخْبَار الْمَرْء عَن نَفسه بِمَا فِيهِ من عاهة وَلَيْسَ
يكون من الشكوى وَمِنْهَا جَوَاز اتِّخَاذ مَوضِع معِين
للصَّلَاة (فَإِن قلت) روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه
النَّهْي إيطان مَوضِع معِين من الْمَسْجِد (قلت) هُوَ
مَحْمُول على مَا إِذا استلزم رِيَاء وَنَحْوه وَمِنْهَا
أَن فِيهِ تَسْوِيَة الصُّفُوف وَقَالَ ابْن بطال فِيهِ رد
على من قَالَ إِذا زار قوما فَلَا يؤمهم مستدلا بِمَا روى
وَكِيع عَن أبان بن يزِيد عَن بديل بن ميسرَة عَن أبي
عَطِيَّة عَن رجل مِنْهُم " كَانَ مَالك بن الْحُوَيْرِث
يأتينا فِي مصلانا فَحَضَرت الصَّلَاة فَقُلْنَا لَهُ تقدم
فَقَالَ لَا يتَقَدَّم بَعْضكُم فَإِن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ من زار قوما فَلَا
يؤمهم وليؤمهم رجل مِنْهُم " قَالَ ابْن بطال هَذَا
إِسْنَاده لَيْسَ بقائم وَأَبُو عَطِيَّة مَجْهُول يروي
عَن مَجْهُول وَصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي بَيت عتْبَان مُخَالفَة لَهُ وَكَذَا
ذكره السفاقسي وَفِيه نظر فِي مَوَاضِع. الأول رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَابْن مَاجَه عَن
سُوَيْد عَن عبد الله وَأَبُو الْحُسَيْن الْمعلم عَن
مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الباغندي حَدثنَا مُحَمَّد بن أبان
الوَاسِطِيّ قَالَ حَدثنَا أبان. الثَّانِي قَوْله
إِسْنَاده لَيْسَ بقائم يردهُ قَول التِّرْمِذِيّ هَذَا
حَدِيث حسن. الثَّالِث الَّذِي فِي أبي دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالْمُصَنّف أَن أَبَا
عَطِيَّة قَالَ كَانَ مَالك بن الْحُوَيْرِث يأتينا فذكروه
من غير وَاسِطَة وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَالْعَمَل على
هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَيرهم قَالُوا
صَاحب الْمنزل أَحَق بِالْإِمَامَةِ من الزائر وَقَالَ بعض
أهل الْعلم إِذا أذن لَهُ فَلَا بَأْس أَن يُصَلِّي بِهِ
وَقَالَ اسحق لَا يُصَلِّي أحد بِصَاحِب الْمنزل وَإِن أذن
لَهُ صَاحب الْمنزل وَكَذَلِكَ صَاحب الْمنزل لَا يُصَلِّي
بهم فِي الْمَسْجِد إِذا زارهم يَقُول ليُصَلِّي بهم رجل
مِنْهُم وَقَالَ مَالك يسْتَحبّ لصَاحب الْمنزل إِذا حضر
فِيهِ من هُوَ أفضل مِنْهُ أَن يقدمهُ للصَّلَاة وَقد
رُوِيَ عَن أبي مُوسَى أَنه أَمر ابْن مَسْعُود وجذبه فِي
دَاره وَقَالَ أَبُو البركات ابْن تَيْمِية أَكثر أهل
الْعلم على أَنه لَا بَأْس بإمامة الزائر بِإِذن رب
الْمنزل. وَفِيه أَن الْمَسْجِد الْمُتَّخذ فِي الْبيُوت
لَا يخرج عَن ملك صَاحبه بِخِلَاف الْمَسْجِد الْمُتَّخذ
فِي الْمحلة وَفِيه التَّبَرُّك بمصلى الصَّالِحين ومساجد
الفاضلين. وَفِيه أَن من دَعَا من الصلحاء إِلَى شَيْء
يتبرك بِهِ مِنْهُ فَلهُ أَن يُجيب إِلَيْهِ إِذا أَمن
الْعجب. وَفِيه الْوَفَاء بالعهد. وَفِيه صَلَاة
النَّافِلَة فِي جمَاعَة بِالنَّهَارِ. وَفِيه إكرام
الْعلمَاء إِذا دعوا إِلَى شَيْء بِالطَّعَامِ وَشبهه.
وَفِيه التَّنْبِيه على أهل الْفسق والنفاق عِنْد
السُّلْطَان. وَفِيه أَن السُّلْطَان يجب عَلَيْهِ أَن
يستثبت فِي أَمر من يذكر عِنْد بفسق وَيُوجه لَهُ أجمل
الْوُجُوه. وَفِيه أَن الْجَمَاعَة إِذا اجْتَمعُوا
للصَّلَاة وَغَابَ أحد مِنْهُم أَن يسْأَلُوا عَنهُ فَإِن
كَانَ لَهُ عذر وَإِلَّا ظن بِهِ الشَّرّ وَهُوَ مُفَسّر
فِي قَوْله " لقد هَمَمْت أَن آمُر بحطب " وَفِيه جَوَاز
استدعاء الْمَفْضُول للفاضل لمصْلحَة الْفَرْض. وَفِيه
إِمَامَة الزائر المزور بِرِضَاهُ. وَفِيه أَن السّنة فِي
نوافل النَّهَار رَكْعَتَانِ وَفِيه خلاف على مَا
سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه جَوَاز استتباع
الإِمَام والعالم أَصْحَابه. وَفِيه الاسْتِئْذَان على
الرجل فِي منزله وَإِن كَانَ قد تقدم مِنْهُ استدعاء.
وَفِيه أَنه يسْتَحبّ لأهل الْمحلة إِذا ورد رجل صَالح
إِلَى منزل بَعضهم أَن يجتمعوا إِلَيْهِ ويحضروا مَجْلِسه
لزيارته وإكرامه والاستفادة مِنْهُ. وَفِيه الذب عَمَّن
ذكر بِسوء وَهُوَ بَرِيء مِنْهُ. وَفِيه أَنه لَا يخلد فِي
النَّار من مَاتَ على التَّوْحِيد (قلت) ظَاهر الحَدِيث
يدل على أَن من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصا تحرم
عَلَيْهِ النَّار وَفِيه جَوَاز إِسْنَاد الْمَسْجِد إِلَى
الْقَوْم
74 -
(4/170)
(بابُ التيَمُّن فِي دُخُولِ المَسْجِدِ وَغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبدَاءَة بِالْيَمِينِ فِي
دُخُول الْمَسْجِد وَغَيره. قَالَ الْكرْمَانِي: وَغَيره،
بِالْجَرِّ عطف على: الدُّخُول لَا على: الْمَسْجِد، وَلَا
على: التَّيَمُّن، وَتَبعهُ بَعضهم على ذَلِك قلت: لِمَ
لَا يجوز أَن يكون عطفا على الْمَسْجِد، أَي: وَغير
الْمَسْجِد، مثل: الْبَيْت والمنزل.
وكانَ ابنُ عُمَرَ يَبْدَأ بِرِجْلِهِ اليُمْنَى فإذَا
خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ اليُسْرَى
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيُؤَيّد
فعل ابْن عمر مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من
طَرِيق مُعَاوِيَة بن قُرَّة: (عَن أنس، رَضِي اتعالى
عَنهُ، أَنه كَانَ يَقُول: من السّنة إِذا دخلت السمجد أَن
تبدأ برجلك الْيُمْنَى، وَإِذا خرجت أَن تبدأ برجلك
الْيُسْرَى) . وَقَول الصَّحَابِيّ: من السّنة كَذَا،
مَحْمُول على أَنه مَرْفُوع إِلَى النَّبِي، وَهُوَ
الصَّحِيح. قَوْله: (يبْدَأ) أَي: فِي دُخُول الْمَسْجِد،
وَذكر خرج فِي مُقَابِله قرينَة لَهُ.
62478 - حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدّثنا
شُعْبَةُ عَنِ الأَشْعَثِ بنِ سُلَيْمٍ عنْ أبيهِ عَنْ
مَسْرُوق عنْ عائِشَةَ قالتْ كانَ النبيُّ يُحِبُّ
التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي
طُهُورِهِ وتَرجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ عُمُومه لِأَن عُمُومه يدل
على الْبدَاءَة بِالْيَمِينِ فِي دُخُول الْمَسْجِد، وَذكر
هَذَا الحَدِيث فِي بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء
وَالْغسْل عَن حَفْص بن عمر، قَالَ: حدّثنا شُعْبَة،
قَالَ: أَخْبرنِي أَشْعَث بن سليم، قَالَ: سَمِعت أبي عَن
مَسْرُوق عَن عائشه، رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ
النَّبِي يُعجبهُ التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره
فِي شَأْنه كُله) ، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الْجَمَاعَة
أخرجُوا هَذَا الحَدِيث، وَأَن البُخَارِيّ أخرجه أَيْضا
فِي اللبَاس وَفِي الأطمعة، وتكلمنا فِيهِ بِمَا فِيهِ
الْكِفَايَة مُسْتَوفى، ولنذكر مَا يتَعَلَّق بِهِ
هَهُنَا.
قَوْله: (مَا اسْتَطَاعَ) كلمة: مَا، يجوز أَن تكون
مَوْصُولَة وَتَكون بَدَلا من التَّيَمُّن، وَيجوز أَن
تكون بِمَعْنى: مَا دَامَ، وَبِه احْتَرز عَمَّا لَا
يَسْتَطِيع فِيهِ التَّيَمُّن شرعا كدخول الْخَلَاء
وَالْخُرُوج من الْمَسْجِد. قَوْله: (فِي شَأْنه)
يتَعَلَّق بالتيمن، وَيجوز أَن يتَعَلَّق بالمحبة أَو بهما
على سَبِيل التَّنَازُع. قَوْله: (فِي طهوره) ، بِضَم
الطَّاء بِمَعْنى طهره. قَوْله: (وَترَجله) أَي: تمشيطه
الشّعْر، قَوْله: (وتنعله) أَي: لبسه النَّعْل. فَإِن قلت:
مَا موقع: فِي طهوره، من الْإِعْرَاب؟ قلت: بدل من:
شَأْنه، بدل الْبَعْض من الْكل فَإِن قلت: إِذا كَانَ
كَذَلِك يُفِيد اسْتِحْبَاب التَّيَمُّن فِي بعض
الْأُمُور، وتأكيد شَأْنه بِالْكُلِّ يُفِيد اسْتِحْبَابه
فِي كلهَا قلت: هَذَا تَخْصِيص بعد تَعْمِيم، وَخص هَذِه
الثَّلَاثَة بِالذكر اهتماماً بهَا وبياناً لشرفها، وَلَا
مَانع أَن يكون بدل الْكل من الْكل، إِذْ الطّهُور
مِفْتَاح أَبْوَاب الْعِبَادَات، والترجل يتَعَلَّق
بِالرَّأْسِ، والتنعل بِالرجلِ، وأحوال الْإِنْسَان إِمَّا
أَن تتَعَلَّق بِجِهَة الفوق أَو بِجِهَة التحت أَو
بالأطراف، فجَاء لكل مِنْهَا بمثال. قلت: كَيفَ قَالَت
عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا (كَانَ النَّبِي يحب
التَّيَمُّن) ، والمحبة أَمر باطني، فَمن أَيْن علمت
ذَلِك؟ قلت: عملت حبه بِهَذِهِ الْأَشْيَاء إِمَّا
بالقرائن أَو بإخباره، صلى اتعالى وَسلم، لَهَا بذلك. |