عمدة القاري شرح صحيح البخاري

32 - (بابُ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاَةَ ألاَّ بَعْدَ العَصْرِ والفَجْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رِوَايَة من لم يكره الصَّلَاة إلاَّ بعد صَلَاة الْعَصْر وَبعد صَلَاة الصُّبْح، ثمَّ بَين هَؤُلَاءِ الَّذِي لم يكرهوا الصَّلَاة إِلَّا فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورين بقوله)
رَوَاهُ عُمَرُ وابنُ عُمَرَ وأبُو سَعِيدٍ وأبُو هُرَيْرَةَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَي: روى عدم كَرَاهَة الصَّلَاة إلاَّ فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورين: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله بن عمر وَأَبُو سعيد سعد بن مَالك وَأَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وأحاديثهم فِي ذَلِك تقدّمت فِي الْبَابَيْنِ اللَّذين قبل هَذَا الْبَاب، فَحَدِيث عمر عَن

(5/82)


حَفْص بن عمر عَن هِشَام، وَحَدِيث عبد الله بن عمر عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد، وَحَدِيث أبي سعيد عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل.

589 - حدَّثنا أبُو النُعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قالَ أُصَلِّي كَما رَأيْتُ أصْحَابي يُصَلُّونَ لاَ أَنْهَى أحَدا يُصَلِّي بِلَيْلٍ ولاَ نَهَارٍ مَا شاءَ غَيْرَ أنْ لاَ تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ ولاَ غُرُوبَهَا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (غير أَن لَا تحروا) إِلَى آخِره، وَفِي (التَّوْضِيح) : غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب رد قَول من منع الصَّلَاة عِنْد الاسْتوَاء، وَهُوَ ظَاهر قَوْله: (لَا أمنع أحدا يُصَلِّي بلَيْل أَو نَهَار) . قلت: عدم منع ابْن عمر عَن الصَّلَاة عَام فِي جَمِيع اللَّيْل وَالنَّهَار، غير أَنه منع التَّحَرِّي فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، وَفِي بعض النّسخ: حَمَّاد، غير مَنْسُوب. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته الثَّلَاثَة بصريون، وَنَافِع مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة الْمولى عَن سَيّده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أُصَلِّي) ، زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي أَوله من وَجْهَيْن عَن حَمَّاد بن زيد: (كَانَ لَا يُصَلِّي من أول النَّهَار حَتَّى تَزُول الشَّمْس، وَيَقُول: أُصَلِّي) إِلَى آخِره. . قَوْله: (أَصْحَابِي) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه الدّلَالَة فِيهِ؟ قلت: إِمَّا تَقْرِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه عَلَيْهِ إِن أَرَادَ الرُّؤْيَة فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِمَّا إِجْمَاعهم إِن أَرَادَ بعد وَفَاته، إِذْ الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر حجيته إلاَّ بعد وَفَاته، وإلاَّ فَقَوله وَحده حجَّة قَاطِعَة. قَوْله: (بلَيْل أَو نَهَار) ويروى: بلَيْل وَلَا نَهَار، ويروى: بلَيْل ونهار: بِالْوَاو فَقَط، غير أَن: لَا تحروا، أَصله: أَن لَا تتحروا، فحذفت إِحْدَى التائين، أَي: غير أَن لَا تقصدوا، وَزَاد عبد الرَّزَّاق فِي آخر هَذَا الحَدِيث عَن ابْن جريج عَن نَافِع: (فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن ذَلِك. وَقَالَ: أَنه يطلع قرن الشَّيْطَان مَعَ طُلُوع الشَّمْس) وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ دَلِيل لمَالِك حَيْثُ قَالَ: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ عِنْد اسْتِوَاء الشَّمْس. وَقَالَ الشَّافِعِي: الصَّلَاة عِنْد الاسْتوَاء مَكْرُوهَة إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة، لما ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره الصَّلَاة نصف النَّهَار إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة. قلت: لم يثبت ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة، فَإِن الحَدِيث فِيهِ غَرِيب، وَبقول مَالك قَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ مَالك: مَا أدْركْت أهل الْفضل وَالْعِبَادَة إلاَّ وهم يتحرون الصَّلَاة نصف النَّهَار، وَعَن الْحسن وطاووس مثله؛ وَالَّذين منعُوا الصَّلَاة عِنْد الاسْتوَاء: عمر وَابْن مَسْعُود وَالْحكم؛ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يصلى فِيهِ فرض وَلَا نفل، وَاسْتثنى الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف يَوْم الْجُمُعَة خَاصَّة لِأَن جَهَنَّم لَا تسجر فِيهِ، وَفِيه حَدِيث لأبي دَاوُد: إِن جَهَنَّم تسجر فِيهِ إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة، وَفِيه انْقِطَاع،، وَاسْتثنى مِنْهُ مَكْحُول الْمُسَافِر، وَكَانَت الصَّحَابَة يتنفلون يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد حَتَّى يخرج عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ لَا يخرج حَتَّى تَزُول الشَّمْس، وروى ابْن أبي شيبَة عَن مَسْرُوق أَنه كَانَ يُصَلِّي نصف النَّهَار، فَقيل لَهُ: إِن الصَّلَاة فِي هَذِه السَّاعَة تكره، فَقَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: قَالُوا: إِن أَبْوَاب جَهَنَّم تفتح نصف النَّهَار، فَقَالَ: الصَّلَاة أَحَق مَا أستعيذ بِهِ من جَهَنَّم حِين تفتح أَبْوَابهَا.

33 - (بابُ مَا يُصَلَّى بَعْدَ العَصْرِ منَ الفَوَائِتِ وغَيْرِهَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الَّذِي يُصَلِّي بعد الْعَصْر، ويصلَّى، على صِيغَة الْمَجْهُول، و: بعد الْعَصْر، أَي: بعد صَلَاة الْعَصْر، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (وَغَيرهَا) ، فِي بعض النّسخ: (وَنَحْوهَا) . وَقَالَ ابْن الْمُنِير: السِّرّ فِي قَوْله: وَنَحْوهَا، لتدخل فِيهِ رواتب النَّوَافِل وَغَيرهَا، وَقَالَ أَيْضا: ظَاهر التَّرْجَمَة إِخْرَاج النَّافِلَة الْمَحْضَة الَّتِي لَا سَبَب لَهَا. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن قَوْله: وَنَحْوهَا، لدُخُول رواتب النَّفْل، بل المُرَاد من ذَلِك دُخُول مثل صَلَاة الْجِنَازَة إِذا حضرت فِي ذَلِك الْوَقْت، وَسجْدَة التِّلَاوَة، وَالنَّهْي الْوَارِد فِي هَذَا الْبَاب عَام يتَنَاوَل النَّوَافِل الَّتِي لَهَا سَبَب، وَالَّتِي لَيْسَ لَهَا سيب، وَقد ذكرنَا أَن حَدِيث عقبَة بن عَامر يمْنَع الْكل.

(5/83)


وَقَالَ كُرَيْبٌ عَنْ أمِّ سَلَمَةَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ العَصْرِ رَكْعَتَيُنِ وَقَالَ شَغَلَنِي ناسٌ مِنْ عَبْد القَيْسِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بعْدَ الظُّهْرِ كريب، بِضَم الْكَاف: مولى ابْن عَبَّاس، مر فِي بَاب التَّخْفِيف فِي الْوضُوء، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْمهَا: هِنْد بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم القرشية المخزومية، مَاتَت فِي شَوَّال سنة تسع وَخمسين فِي آخر ولَايَة مُعَاوِيَة وَولَايَة الْوَلِيد بن عتبَة على الْمَدِينَة، وَصلى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه مُسْندًا فِي السَّهْو، وَفِي وَفد عبد الْقَيْس عَن يحيى عَن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن بكير عَن كريب: أَن ابْن عَبَّاس والمسور وَعبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر أَرْسلُوهُ ألى عَائِشَة ... الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: قَالَ: (يَا بنت أبي أُميَّة، سَأَلت عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، وَإنَّهُ أَتَانِي نَاس من عبد الْقَيْس فشغلوني عَن الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بعد الظّهْر، فهما هَاتَانِ) . وَعند مُسلم: (نَاس من عبد الْقَيْس بِالْإِسْلَامِ من قَومهمْ) ، وَعند الْبَيْهَقِيّ: (قدم عَليّ وَفد بني تَمِيم أَو صَدَقَة شغلوني عَنْهُمَا، فهما هَاتَانِ الركعتان) . قَوْله: (بعد الظّهْر) صفة رَكْعَتَيْنِ أَي: المندوبتين بعد الظّهْر. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا دَلِيل الشَّافِعِي فِي جَوَاز صَلَاة لَهَا سَبَب بعد الْعَصْر بِلَا كَرَاهَة. قلت: هَذَا لَا يصلح أَن يكون دَلِيلا، لِأَن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه كَانَت من خَصَائِصه، كَمَا ذكرنَا، فَلَا يكون حجَّة لذاك.

590 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حَدَّثَنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ قَالَ حدَّثني أبي أنَّهُ سَمِعَ عائِشَةَ قالَتْ والَّذِي ذَهَبَ بهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ الله وَمَا لَقِيَ الله تعالَى حَتَّى ثَقُلَ عنِ الصَّلاَةِ وكانَ يُصَلِّي كَثِيرا مِنْ صَلاَتِهِ قاعِدا تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّيهِمَا ولاَ يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ مَخَافَةَ أنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ وكانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن أَيمن، بِفَتْح الْهمزَة، تقدم. الثَّالِث: أَبوهُ أَيمن الحبشي، مولى ابْن أبي عَمْرو المَخْزُومِي الْقرشِي الْمَكِّيّ. الرَّابِع: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَيمن من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي.
ذكر اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ: وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (مَا ترك السَّجْدَتَيْنِ بعد الْعَصْر عِنْدِي قطّ) . وَفِي لفظ: (رَكْعَتَانِ لم يكن يدعهما سرا وَلَا عَلَانيَة: رَكْعَتَانِ قبل الصُّبْح، وركعتان بعد الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (مَا كَانَ يأتيني فِي يَوْم بعد الْعَصْر إلاَّ صلى رَكْعَتَيْنِ) ، وَعند مُسلم: (كَانَ يُصَلِّيهمَا قبل الْعَصْر ثمَّ إِنَّه شغل عَنْهُمَا أَو نسيهما فصلاهما بعد الْعَصْر، ثمَّ أثبتهما. وَكَانَ إِذا صلى صَلَاة أثبتها) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (كَانَ لَا يدع رَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (دخل عَلَيْهَا بعد الْعَصْر فصلى رَكْعَتَيْنِ، فَقلت: يَا رَسُول الله أحدث بِالنَّاسِ شَيْء؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَن بِلَالًا عجل الْإِقَامَة فَلم أصل الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْعَصْر فَأَنا أقضيهما الْآن. قلت: يَا رَسُول الله! أفنقضيهما إِذا فاتتا؟ قَالَ: لَا) . وَفِي لفظ: (كَانَ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر وَينْهى عَنْهُمَا) . وَفِي لفظ: (وَلم أره عَاد لَهما) ، وَلَفظ مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان: أَن مُعَاوِيَة أرسل إِلَيْهَا يسْأَلهَا عَن هَاتين الرَّكْعَتَيْنِ، فَقَالَت: لَيْسَ عِنْدِي صلاهما، وَلَكِن أم سَلمَة حَدَّثتنِي، فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَالَّذِي ذهب بِهِ) ، أَي: برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: (وَالَّذِي ذهب بِنَفسِهِ) ، حَلَفت عَائِشَة بِاللَّه على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ترك الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر حَتَّى مَاتَ. قَوْله: (ثقل) ، بِضَم الْقَاف. قَوْله: (قَاعِدا) نصب على الْحَال. قَوْله: (مَخَافَة) ، نصب على التَّعْلِيل أَي: لأجل المخافة. وَهُوَ مصدر ميمي بِمَعْنى: الْخَوْف. وَكلمَة: أَن، فِي: أَن يثقل، مَصْدَرِيَّة أَي: مَخَافَة التثقيل على أمته، ويثقل، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْقَاف الْمَكْسُورَة من: التثقيل، ويروى، بِفَتْح الْيَاء وَضم الْقَاف. قَوْله: (مَا يُخَفف عَنْهُم) ، أَي: عَن أمته، ويخفف، بِضَم الْيَاء وَكسر الْفَاء الْمُشَدّدَة: من التَّخْفِيف، هَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَغَيره روى: مَا خفف، بِصِيغَة الْمَاضِي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث من أجَاز التَّنَفُّل بعد الْعَصْر مُطلقًا مَا لم يقْصد الصَّلَاة عِنْد غرُوب الشَّمْس،

(5/84)


وَأوردهُ البُخَارِيّ فِي قَضَاء الْفَائِتَة بعد الْعَصْر، وَلِهَذَا ترْجم عَلَيْهِ بِهِ، وَنحن نقُول كَمَا قُلْنَا غير مرّة: إِن هَذَا كَانَ من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ذكْوَان، مولى عَائِشَة أَنَّهَا حدثته أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَانَ يُصَلِّي بعد الْعَصْر وَينْهى عَنْهَا، ويواصل وَيُنْهِي عَن الْوِصَال) . وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق جرير عَن عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (إِنَّمَا صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر لِأَنَّهُ أَتَاهُ مَال فَشَغلهُ عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الظّهْر فصلاهما بعد الْعَصْر، ثمَّ لم يعد) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. قَالَ: وَقد روى غير وَاحِد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،: (أَنه صلى بعد الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ) ، وَهَذَا خلاف مَا رُوِيَ أَنه: نهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أصح حَيْثُ قَالَ: لم يعد لَهما.

591 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ أَخْبرنِي أبي قَالَ قالَتْ عائِشَةُ ابنَ أُخْتِي مَا تَرَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ عِنْدِي قَط.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ: ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي قدامَة عبيد الله بن سعيد عَن يحيى الْقطَّان.
قَوْله: (ابْن اختي) ، حذف حرف النداء مِنْهُ، يَعْنِي: يَا ابْن أُخْتِي، وَهُوَ عُرْوَة، لِأَن أم عُرْوَة أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (السَّجْدَتَيْنِ) يَعْنِي: الرَّكْعَتَيْنِ، من بَاب إِطْلَاق اسْم الْجُزْء على الْكل.

592 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الشَّيْبَاني قَالَ حَدثنَا عبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ الأَسْوَدِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قالَتْ رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَعُهُمَا سِرَّا وَلَا عَلاَنِيَّةً ركْعَتَانِ قَبْلَ صَلاَة الصُّبْحِ ورَكْعَتَانِ بَعْدَ العَصْرِ.

هَذَا طَرِيق آخر عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ واسْمه: سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن ابي بكر بن شيبَة وَعلي بن حجر كِلَاهُمَا عَن عَليّ بن مسْهر كِلَاهُمَا عَن الشَّيْبَانِيّ
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ.
قَوْله: (رَكْعَتَانِ) أَي: صلاتان، لِأَنَّهُ فَسرهَا بِأَرْبَع رَكْعَات، وَهُوَ من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء وَإِرَادَة الْكل أَو: هُوَ من بَاب الْإِضْمَار، أَي: وَكَذَا رَكْعَتَانِ بعد الْعَصْر، والوجهان جائزان بِلَا تفَاوت، لِأَن الْمجَاز والإضمار متساويان. أَو المُرَاد بالركعتين جنس الرَّكْعَتَيْنِ الشَّامِل للقليل وَالْكثير. (لم يكن يدعهما) ، أَي: لم يكن يتركهما، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (لم يكن يدعهما فِي بَيْتِي) ، قَالَ الصرفيون: لم يسْتَعْمل: ليَدع، ماضٍ، وَكَذَا: ليذر، وَأورد عَلَيْهِم قِرَاءَة: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} (الضُّحَى: 30) . بِالتَّخْفِيفِ.
69 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن عرْعرة قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق قَالَ رَأَيْت الْأسود ومسروقا شَهدا على عَائِشَة قَالَت مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يأتيني فِي يَوْم بعد الْعَصْر إِلَّا صلى رَكْعَتَيْنِ) هَذَا طَرِيق آخر عَن مُحَمَّد بن عرْعرة بالمهملتين وبسكون الرَّاء الأولى عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن أبي اسحق السبيعِي واسْمه عَمْرو وَرُبمَا يلتبس على القارىء تَمْيِيز هَذَا عَن أبي اسحق الْمَذْكُور فِي السَّنَد السَّابِق فَإِن هَذَا أَبُو اسحق السبيعِي وَذَاكَ أَبُو اسحق الشَّيْبَانِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار كِلَاهُمَا عَن غنْدر وَأَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن حَفْص بن عَمْرو النَّسَائِيّ أَيْضا فِيهِ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث أربعتهم عَن شُعْبَة بِهِ قَوْله " الْأَصْلِيّ " أَي بعد الْإِتْيَان وَهُوَ اسْتثِْنَاء مفرغ أَي مَا كَانَ يأتيني بِوَجْه أَو حَالَة إِلَّا بِهَذَا الْوَجْه أَو هَذِه الْحَالة وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت)

(5/85)


مَا وَجه الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث وَمَا تقدم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الصَّلَاة بعد صَلَاة الْعَصْر (قلت) أُجِيب عَنهُ بِأَن النَّهْي كَانَ فِي صَلَاة لَا سَبَب لَهَا وَصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت بِسَبَب قَضَاء فَائِتَة الظّهْر. وَبِأَن النَّهْي هُوَ فِيمَا يتحَرَّى فِيهَا وَفعله كَانَ بِدُونِ التَّحَرِّي. وَبِأَنَّهُ كَانَ من خَصَائِصه. وَبِأَن النَّهْي كَانَ للكراهة فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان ذَلِك وَدفع وهم التَّحْرِيم وَبِأَن الْعلَّة فِي النَّهْي هُوَ التَّشَبُّه بعبدة الشَّمْس وَالرَّسُول منزه عَن التَّشَبُّه بهم. وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قضى فَائِتَة ذَلِك الْيَوْم وَكَانَ فِي فَوَاته نوع تَقْصِير واظب عَلَيْهَا مُدَّة عمره جبرا لما وَقع مِنْهُ وَالْكل بَاطِل. أما أَولا فَلِأَن الْفَوات كَانَ فِي يَوْم وَاحِد وَهُوَ يَوْم اشْتِغَاله بِعَبْد الْقَيْس وَصلَاته بعد الْعَصْر كَانَت مستمرة دَائِما. وَأما ثَانِيًا فَلِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يداوم عَلَيْهَا ويقصد أداءها كل يَوْم وَهُوَ معنى التَّحَرِّي. وَأما ثَالِثا فَلِأَن الأَصْل عدم الِاخْتِصَاص وَوُجُوب مُتَابَعَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقَوْله تَعَالَى {فَاتَّبعُوهُ} . وَأما رَابِعا فَلِأَن بَيَان الْجَوَاز يحصل بِمرَّة وَاحِدَة وَلَا يحْتَاج فِي دفع وهم الْحُرْمَة إِلَى المداومة عَلَيْهَا. وَأما خَامِسًا فَلِأَن الْعلَّة فِي كَرَاهَة صَلَاة بعد فرض الْعَصْر لَيْسَ التَّشَبُّه بهم بل هِيَ الْعلَّة لكَرَاهَة الصَّلَاة عِنْد الْغُرُوب فَقَط. وَأما سادسا فلأنا لَا نسلم أَنه كَانَ تقصيرا لِأَنَّهُ كَانَ مشتغلا فِي ذَلِك الْوَقْت بِمَا هُوَ أهم وَهُوَ إرشادهم إِلَى الْحق أَو لِأَن الْفَوات كَانَ بِالنِّسْيَانِ ثمَّ أَن الْجَبْر يحصل بِقَضَائِهِ مرّة وَاحِدَة على مَا هُوَ حكم أَبْوَاب الْقَضَاء فِي جَمِيع الْعِبَادَات بل الْجَواب الصَّحِيح أَن النَّهْي قَول وَصلَاته فعل وَالْقَوْل وَالْفِعْل إِذا تَعَارضا يقدم القَوْل وَيعْمل بِهِ انْتهى (قلت) قَوْله وَالْكل بَاطِل لَا يمشي فِي الْكل بل فِيهِ شَيْء موجه وَشَيْء غير موجه وَكَذَلِكَ فِي كَلَامه ودعواه بِبُطْلَان الْكل أما الَّذِي هُوَ غير موجه فَهُوَ قَوْله أَن النَّهْي كَانَ فِي صَلَاة لَا سَبَب لَهَا وَهَذَا غير صَحِيح لِأَن النَّهْي عَام وتخصيصه بِالصَّلَاةِ الَّتِي لَا سَبَب لَهَا تَخْصِيص بِلَا مُخَصص وَهَذَا بَاطِل وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى وَأما الَّذِي هُوَ غير موجه من كَلَام الْكرْمَانِي فَهُوَ قَوْله أَن الأَصْل عدم الِاخْتِصَاص وَهَذَا غير صَحِيح على إِطْلَاقه لِأَنَّهُ إِذا قَامَ الدَّلِيل على الِاخْتِصَاص فَلَا يُنكر وَهَهُنَا قد قَامَت دَلَائِل من الْأَحَادِيث وأفعال الصَّحَابَة فِي أَن هَذَا الَّذِي صلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الْعَصْر كَانَ من خَصَائِصه وَقد ذَكرنَاهَا فِيمَا مضى وَقَول الْكرْمَانِي وَصلَاته بعد الْعَصْر كَانَت مستمرة ترد دَعْوَاهُ عدم التَّخْصِيص إِذْ لَو لم يكن من خَصَائِصه لأمر بقضائها إِذا فَاتَت وَلم يَأْمر بذلك أَلا ترى فِي حَدِيث أم سَلمَة الْمَذْكُورَة فِيمَا مضى قَالَت " قلت يَا رَسُول الله أفنقضيها إِذا فاتتا قَالَ لَا " فَدلَّ ذَلِك على أَن حكم غَيره فيهمَا إِذا فاتتاه خلاف حكمه فَلَيْسَ لأحد أَن يُصَلِّيهمَا بعد الْعَصْر وَهنا شَيْء آخر يلْزمهُم وَهُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يداوم عَلَيْهِمَا وهم لَا يَقُولُونَ بِهِ فِي الْأَصَح الْأَشْهر فَإِن عورضوا يَقُولُونَ هَذَا من خَصَائِص رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قَالَ فِي الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ يَقُولُونَ الأَصْل عدم التَّخْصِيص وَهَذَا كَمَا يُقَال فلَان مثل الظليم الذّكر من النعام يستحمل عِنْد الاستطارة ويستطير عِنْد الاستحمال وَقَوله لَيْسَ التَّشَبُّه بهم غير صَحِيح فَإِن حَدِيث أبي أُمَامَة على التَّشَبُّه بهم وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ مُسلم وَفِيه " فَقلت يَا رَسُول الله أَخْبرنِي عَن الصَّلَاة فَقَالَ صل الصُّبْح ثمَّ اقصر عَن الصَّلَاة حِين تطلع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني الشَّيْطَان وَحِينَئِذٍ يسْجد لَهَا الْكفَّار " الحَدِيث وَفِيه أَيْضا " فَإِنَّهَا تغرب بَين قَرْني الشَّيْطَان " والشارع أخبر بِأَن الشَّيْطَان يُحَاذِي الشَّمْس بقرنيه عِنْد الطُّلُوع وَعند الْغُرُوب وَالْكفَّار يَسْجُدُونَ لَهَا حِينَئِذٍ فَنهى الشَّارِع عَن الصَّلَاة فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ حَتَّى لَا يكون المصلون فيهمَا كالساجدين لَهَا وَقَوله وَالْقَوْل وَالْفِعْل إِذا تَعَارضا يقدم القَوْل لَيْسَ على إِطْلَاقه فَإِن أَحدهمَا إِذا كَانَ حاظرا وَالْآخر مبيحا يقدم الحاظر على الْمُبِيح سَوَاء كَانَ قولا أَو فعلا فَافْهَم وَالله تَعَالَى أعلم
34 - (بابُ التَّبْكِيرِ بِالصَّلاَةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التبكير، أَي: الْمُبَادرَة والإسراع إِلَى الصَّلَاة فِي الْيَوْم الَّذِي فِيهِ الْغَيْم خوفًا من وُقُوعهَا خَارج الْوَقْت.

594 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدثنَا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى هُوَ ابنُ أبِي كَثِيرٍ عنُ أبي قِلاَبَة

(5/86)


َ أنَّ أَبَا المَلِيحِ حدَّثَهُ قَالَ كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يوْمٍ ذِي غيْمٍ فَقَالَ بَكِّرُوا بِالصَّلاَةِ فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ (انْظُر الحَدِيث 553) .

هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه قد مر فِي بَاب إِثْم من ترك الْعَصْر، غير أَن هُنَاكَ رَوَاهُ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام إِلَى آخِره نَحوه، وَفِيه لَفْظَة زَائِدَة، وَهِي: (كُنَّا مَعَ بُرَيْدَة فِي غَزْوَة فِي يَوْم ذِي غيم) ، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف، عبد الله ابْن زيد الْجرْمِي وَأَبُو الْمليح عَامر بن أُسَامَة الْهُذلِيّ، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: بن الْحصيب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة: الْأَسْلَمِيّ. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي التبكير فِي الصَّلَاة الْمُطلقَة فِي يَوْم الْغَيْم، والْحَدِيث لَا يطابقها من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمُطَابقَة لقَوْل بُرَيْدَة لَا للْحَدِيث، وَالثَّانِي: أَن الْمَذْكُور فِي الحَدِيث صَلَاة الْعَصْر، وَفِي التَّرْجَمَة مُطلق الصَّلَاة؟ قلت: دلّت الْقَرِينَة على أَن قَول بُرَيْدَة: (بَكرُوا بِالصَّلَاةِ) كَانَ فِي وَقت دُخُول الْعَصْر فِي يَوْم غيم، فَأمر بالتبكير حَتَّى لَا يفوتهُمْ بِخُرُوج الْوَقْت بتقصيرهم فِي ترك التبكير، وَهَذَا الْفِعْل كتركهم إِيَّاهَا فِي اسْتِحْقَاق الْوَعيد، وتفهم إِشَارَته أَن بَقِيَّة الصَّلَوَات كَذَلِك، لِأَنَّهَا مستوية الْإِقْدَام فِي الْفَرْضِيَّة، فَحِينَئِذٍ يفهم التطابق بَين الحَدِيث والترجمة بطرِيق الْإِشَارَة لَا بالتصريح. وَقَالَ بَعضهم: من عَادَة البُخَارِيّ أَن يترجم بِبَعْض مَا يشْتَمل عَلَيْهِ لفظ الحَدِيث، وَلَو لم يكن على شَرطه فَلَا إِيرَاد عَلَيْهِ. قلت: لَيْسَ هُنَا مَا يشْتَمل على التَّرْجَمَة من لفظ الحَدِيث، وَلَا من بعضه، وَكَيف لَا يُورد عَلَيْهِ إِذا ذكر تَرْجَمَة وَلم يُورد عَلَيْهَا شَيْئا، وَلَا فَائِدَة فِي ذكر التَّرْجَمَة عِنْد عدم الْإِيرَاد بِشَيْء. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة ذكر بُرَيْدَة الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْعَصْر مَعَ أَن غَيره مثله. قلت: كَانَ أمره بالتبكير فِي وَقت الْعَصْر كَمَا ذكرنَا وإلاَّ فَغَيره مثله، وَقد روى الْأَوْزَاعِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي يحيى بن كثير، بِلَفْظ: (بَكرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْم الْغَيْم فَإِنَّهُ من ترك صَلَاة الْفجْر حَبط عمله) . وَأما فَائِدَة تعْيين الْعَصْر فِي الحَدِيث فقد ذَكرْنَاهُ.

35 - (بابُ الأَذَانِ بعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان بعد خُرُوج الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بَاب الآذان بعد الْوَقْت، وَلَيْسَ فِيهَا لَفْظَة: ذهَاب، وَهِي مقدرَة أَيْضا، وَهَذِه مَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا على مَا يَجِيء عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

595 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْل قَالَ حَدَّثنا حُصَيْنٌ عنْ عَبْدِ الله ابنِ أبي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةً فقالَ بَعْضُ القَوْمِ لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رسولَ الله قَالَ أخافُ أنْ تَنَامُوا عنِ الصَّلاَةِ قَالَ بِلاَلٌ أَنا أُوقِظُكُمْ فاضْطَجَعُوا وأسْنَدَ بِلالٌ ظِهْرَهُ إلَى رَاحِلَتِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ فاسْتَيْقَظَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ طَلَعَ حاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ يَا بِلاَلُ أيْن مَا قُلْتَ قَالَ مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَط قالَ إنَّ الله قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِين شاءَ وَرَدَّها عَلَيْكُمْ حِينَ شاءَ يَا بِلاَلُ قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاَةِ فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وابْيَاضَّتْ قامَ فَصَلَّى. (الحَدِيث 595 طرفه فِي: 7471) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قُم يَا بِلَال فَأذن) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة تقدم فِي بَاب رفع الْعلم. الثَّانِي: مُحَمَّد بن فُضَيْل، بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة، تقدم فِي بَاب صَوْم رَمَضَان أيمانا. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: عبد الله بن أبي قَتَادَة، تقدم فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو قَتَادَة، واسْمه: الْحَارِث بن ربعي بن بلدية الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بضيغة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة الابْن

(5/87)


عَن الْأَب. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن هشيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد بن عبد الله وَعَن هناد عَن عَبْثَر بن الْقَاسِم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بِهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن كَامِل الْمروزِي عَن هشيم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سرنا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة) من: سَار يسير سيرا، وَفِيه رِوَايَة عمرَان بن حُصَيْن: (إِنَّا أسرينا) ، ويروى: (سرينا) ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم مُسْتَوفى، وَذكرنَا أَيْضا أَن هَذِه اللَّيْلَة فِي أَي سفرة كَانَت. قَوْله: (لَو عرست بِنَا يَا رَسُول الله) ، جَوَاب: لَو، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَكَانَ أسهل علينا، أَو هُوَ لِلتَّمَنِّي. وعرست، بتَشْديد الرَّاء من: التَّعْرِيس، وَهُوَ: نزُول الْقَوْم فِي السّفر آخر اللَّيْل للاستراحة. قَوْله: (أَنا أوقظكم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (فَمن يوقظنا؟ فَقَالَ بِلَال: أَنا) . قَوْله: (فاضطجعوا) ، يجوز أَن يكون بِصِيغَة الْمَاضِي، وَيجوز أَن يكون بِصِيغَة الْأَمر. قَوْله: (إِلَى رَاحِلَته) أَي: إِلَى مركبه. قَوْله: (فغلبته عَيناهُ) أَي: عينا بِلَال، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: (فَغلبَتْ) بِغَيْر ضمير. قَوْله: (فَنَامَ) ، أَي: بِلَال. قَوْله: (فَاسْتَيْقَظَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد طلع حَاجِب الشَّمْس) ، أَي: طرفها، وحواجب الشَّمْس نَوَاحِيهَا. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالشَّمْس فِي ظَهره) . قَوْله: (أَيْن مَا قلت؟) يَعْنِي: أَيْن الْوَفَاء بِقَوْلِك أَنا أوقظكم؟ . قَوْله: (مَا ألقيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. وَقَوله: (نومَة) مفعول نَائِب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (مثلهَا) أَي مثل هَذِه النومة الَّتِي كَانَت فِي هَذَا الْوَقْت، و: مثل، لَا يتعرف بِالْإِضَافَة، وَلِهَذَا وَقع صفة للنكرة. قَوْله: (إِن الله قبض أرواحكم) الْأَرْوَاح: جمع روح، يذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ: جَوْهَر لطيف نوراني يكدره الْغذَاء والأشياء الرَّديئَة الدنية، مدرك للجزئيات والكليات، حَاصِل فِي الْبدن متصرف، فِيهِ غنى عَن الاغتذاء، بَرِيء عَن التَّحَلُّل والنماء، وَلِهَذَا يبْقى بعد فنَاء الْبدن إِذْ لَيست لَهُ حَاجَة إِلَى الْبدن، وَمثل هَذَا الْجَوْهَر لَا يكون من عَالم العنصر بل من عَالم الملكوت، فَمن شَأْنه أَن لَا يضرّهُ خلل الْبدن ويلتذ بِمَا يلائمه ويتألم بِمَا يُنَافِيهِ، وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم} (ال عمرَان: 169) . الْآيَة. وَقَوله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا وضع الْمَيِّت على نعشه رَفْرَف روحه فَوق نعشه، وَيَقُول: يَا أَهلِي وَيَا وَلَدي) فَإِن قلت: كَيفَ يُفَسر الرّوح وَقد قَالَ تَعَالَى: {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} (الْإِسْرَاء: 18) . قلت: مَعْنَاهُ من الإبداعات الكائنة: بكن من غير مَادَّة، وتولد من أصل، على أَن السُّؤَال كَانَ عَن قدمه وحدوثه، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي جَوَاز تَفْسِيره. فَإِن قلت: إِذا قبض الرّوح يكون الشَّخْص مَيتا، لكنه نَائِم لَا ميت؟ قلت: الْمَعْنى من قبض الرّوح هُنَا قطع تعلقه عَن ظَاهر الْبدن فَقَط، وَالْمَوْت قطع تعلقه بِالْبدنِ ظَاهرا وَبَاطنا، فَمَعْنَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم , (إِن الله قبض أرواحكم) ، مثل قَوْله تَعَالَى: {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} (الزمر: 42) . قَوْله: (حِين شَاءَ) ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَ لوقت وَاحِد، فَإِن نوم الْقَوْم لَا يتَّفق غَالِبا فِي وَقت وَاحِد، بل يتتابعون فَيكون حِين الأول جزأ من أحيان مُتعَدِّدَة. قَوْله: (قُم فَأذن) ، بتَشْديد الذَّال، من التأذين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَأذن) ، بِالْمدِّ وَمَعْنَاهُ: أعلم النَّاس بِالصَّلَاةِ. قَوْله: (فَتَوَضَّأ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : فَتَوَضَّأ النَّاس) . قَوْله: (وابياضت) على وزن: افعالت، من الابيضاض، وَهَذِه الصِّيغَة تدل على الْمُبَالغَة، يُقَال: أَبيض الشَّيْء إِذا صَار ذَا بَيَاض، ثمَّ إِذا أَرَادوا الْمُبَالغَة فِيهِ ينقلونه إِلَى بَاب الافعيلال، فَيَقُولُونَ: ابياض. وَكَذَلِكَ: احمر واحمار، وَقَالَ بَعضهم: وَقيل: إِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِي كل لون بَين لونين، فَأَما الْخَالِص من الْبيَاض مثلا فَإِنَّمَا يُقَال لَهُ أَبيض، قلت: هَذَا القَوْل صادر عَمَّن لَيْسَ لَهُ ذوق من علم الصّرْف وَلَا اطلَاع فِيهِ. قَوْله: (قَامَ فصلى) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فصلى بِالنَّاسِ) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ خُرُوج الإِمَام بِنَفسِهِ فِي الْغَزَوَات.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الالتماس من السادات فِيمَا يتَعَلَّق بمصالحهم الدِّينِيَّة بل الدُّنْيَوِيَّة أَيْضا مِمَّا فِيهِ الْخَيْر.
الثَّالِث: أَن على الإِمَام أَن يُرَاعِي الْمصَالح الدِّينِيَّة.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الِاحْتِرَاز عَمَّا يحْتَمل فَوَات الْعِبَادَة عَن وَقتهَا.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْتِزَام خَادِم بمراقبة ذَلِك.
السَّادِس: فِيهِ الْأَذَان للفائتة، ولأجله ترْجم البُخَارِيّ الْبَاب، وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقَالَ أَصْحَابنَا: يُؤذن للفائتة وَيُقِيم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَفِيه: (ثمَّ أَمر مُؤذنًا فَأذن فصلى رَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر ثمَّ أَقَامَ ثمَّ صلى الْفجْر) . وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَإِن فَاتَتْهُ صلوَات أذن للأولى، وَأقَام، وَهُوَ مُخَيّر فِي الْبَاقِي: أَن شَاءَ أذن

(5/88)


وَأقَام لكل صَلَاة من الْفَوَائِت، وَإِن شَاءَ اقْتصر على الْإِقَامَة لما روى التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاتَتْهُ يَوْم الخَنْدَق أَربع صلوَات حَتَّى ذهب من اللَّيْل مَا شَاءَ الله، فَأمر بِلَالًا فَأذن ثمَّ أَقَامَ فصلى الظّهْر ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعَصْر ثمَّ أَقَامَ فصلى الْمغرب ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعشَاء) .
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمن أَيْن التَّخْيِير؟ قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: (قضاهن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآذان وَإِقَامَة) . وَفِي رِوَايَة: (بِأَذَان وَإِقَامَة للأولى وَإِقَامَة لكل وَاحِدَة من الْبَوَاقِي) . وَلِهَذَا الِاخْتِلَاف خيرنا فِي ذَلِك، وَفِي (التُّحْفَة) : وَرُوِيَ فِي غير رِوَايَة الْأُصُول عَن مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا فَاتَتْهُ صلوَات تقضى الأولى بآذان وَإِقَامَة، وَالْبَاقِي بِالْإِقَامَةِ دون الآذان. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْجَدِيد) يُقيم لَهُنَّ وَلَا يُؤذن، وَفِي الْقَدِيم: يُؤذن للأولى وَيُقِيم، ويقتصر فِي الْبَوَاقِي على الْإِقَامَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : يُقيم لكل وَاحِدَة بِلَا خلاف، وَلَا يُؤذن لغير الأولى مِنْهُنَّ. وَفِي الأولى ثَلَاثَة أَقْوَال فِي الْأَذَان، أَصَحهَا: أَنه يُؤذن وَلَا يعْتَبر بتصحيح الرَّافِعِيّ منع الْأَذَان والآذان للأولى مَذْهَب: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر. وَقَالَ ابْن بطال: لم يذكر الآذان فِي الأولى عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق: لَا يُؤذن لفائتة.
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على أَن قَضَاء الْفَوَائِت بِعُذْر لَيْسَ على الْفَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح، وَلَكِن يسْتَحبّ قَضَاؤُهَا على الْفَوْر. وَحكى الْبَغَوِيّ وَجها عَن الشَّافِعِي: أَنه، على الْفَوْر، وَأما الْفَائِتَة بِلَا عذر فَالْأَصَحّ قَضَاؤُهَا على الْفَوْر، وَقيل: لَهُ التَّأْخِير كَمَا فِي الأولى. الثَّامِن: فِيهِ أَن الْفَوَائِت لَا تقضى فِي الْأَوْقَات الْمنْهِي عَن الصَّلَاة فِيهَا، وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي قدر الْوَقْت الَّذِي تُبَاح فِيهِ الصَّلَاة بعد الطُّلُوع. قَالَ فِي الأَصْل: حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس قدر رمح أَو رُمْحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْفضل: مَا دَامَ الْإِنْسَان يقدر على النّظر إِلَى قرص الشَّمْس لَا تُبَاح فِيهِ الصَّلَاة، فَإِن عجز عَن النّظر تُبَاح.
التَّاسِع: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة بِالْجَمَاعَة.
الْعَاشِر: احْتج بِهِ الْمُهلب على أَن الصَّلَاة الْوُسْطَى هِيَ صَلَاة الصُّبْح، قَالَ: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمر أحدا بمراقبة وَقت صَلَاة غَيرهَا، وَفِيه نظر لَا يخفى.
الْحَادِي عشر: فِيهِ دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد، وَاسْتدلَّ بِهِ قوم على ذَلِك، وَقَالَ ابْن بزيزة: وَلَيْسَ هُوَ بقاطع فِيهِ لاحْتِمَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرجع إِلَى قَول بِلَال بِمُجَرَّدِهِ، بل بعد النّظر إِلَى الْفجْر لَو اسْتَيْقَظَ مثلا.
الثَّانِي عشر: اسْتدلَّ بِهِ مَالك فِي عدم قَضَاء سنة الْفجْر، وَقَالَ أَشهب: سُئِلَ مَالك هَل ركع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتي الْفجْر حِين نَام عَن صَلَاة الصُّبْح حَتَّى طلعت الشَّمْس؟ قَالَ: مَا بَلغنِي. وَقَالَ أَشهب: بَلغنِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركع. وَقَالَ عَليّ بن زِيَاد: وَقَالَ غير مَالك، وَهُوَ أحب إِلَى أَن يرْكَع، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ، وَقد قَالَ مَالك: إِن أحب أَن يركعهما من فَاتَتْهُ بعد طُلُوع الشَّمْس فعل. قلت: مَذْهَب مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا فَاتَتْهُ رَكعَتَا الْفجْر يقضيهما إِذا ارْتَفع النَّهَار إِلَى وَقت الزَّوَال، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يقضيهما هَذَا إِذا فَاتَت وَحدهَا، وَإِذا فَاتَت مَعَ الْفَرْض يقْضِي اتِّفَاقًا.
الثَّالِث عشر: فِيهِ أقوى دَلِيل لنا على عدم جَوَاز الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ترك الصَّلَاة حَتَّى ابياضت الشَّمْس، ولورود النَّهْي فِيهِ أَيْضا.

36 - (بابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من صلى بِالنَّاسِ الْفَائِتَة بعد خُرُوج الْوَقْت. قَوْله: (جمَاعَة) ، نصب على الْحَال من النَّاس بِمَعْنى مُجْتَمعين.
72 - (حَدثنَا معَاذ بن فضَالة قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَن جَابر بن عبد الله أَن عمر بن الْخطاب جَاءَ يَوْم الخَنْدَق بعد مَا غربت الشَّمْس فَجعل يسب كفار قُرَيْش قَالَ يَا رَسُول الله مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالله مَا صليتها فقمنا إِلَى بطحان فَتَوَضَّأ للصَّلَاة وتوضأنا لَهَا فصلى الْعَصْر بعد مَا غربت الشَّمْس ثمَّ صلى بعْدهَا الْمغرب) مطابقته للتَّرْجَمَة استفيدت من اخْتِصَار الرَّاوِي فِي قَوْله " فصلى الْعَصْر " إِذْ أَصله فصلى بِنَا الْعَصْر وَكَذَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع عَن هِشَام وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) كَيفَ دلّ الحَدِيث على الْجَمَاعَة (قلت) إِمَّا لِأَن البُخَارِيّ

(5/89)


استفاده من بَقِيَّة الحَدِيث الَّذِي هَذَا مُخْتَصره وَإِمَّا من إِجْرَاء الرَّاوِي الْفَائِتَة الَّتِي هِيَ الْعَصْر والحاضرة الَّتِي هِيَ الْمغرب مجْرى وَاحِدًا وَلَا شكّ أَن الْمغرب كَانَ بِالْجَمَاعَة كَمَا هُوَ مَعْلُوم من عَادَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) الْوَجْه الأول هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي نفس الْأَمر وَأما الْوَجْه الثَّانِي فَلَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ يردهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث أبي سعيد قَالَ " حبسنا يَوْم الخَنْدَق عَن الصَّلَاة حَتَّى كَانَ بعد الْمغرب بهوى من اللَّيْل حَتَّى كفينا فَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا فَأَقَامَ صَلَاة الظّهْر فَصلاهَا كَمَا كَانَ يُصليهَا فِي وَقتهَا ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْعَصْر فَصلاهَا كَذَلِك ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْمغرب فَصلاهَا كَذَلِك ثمَّ أَقَامَ الْعشَاء فَصلاهَا كَذَلِك قَالَ وَذَلِكَ قبل أَن ينزل الله عز وَجل فِي صَلَاة الْخَوْف {فرجالا أَو ركبانا} " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول معَاذ بِضَم الْمِيم ابْن فضَالة الزهْرَانِي وَيُقَال القريشي مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ. الثَّانِي هِشَام ابْن أبي عبد الله الدستوَائي. الثَّالِث يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَقد تقدم ذكرهم غير مرّة. الْخَامِس جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ. السَّادِس عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى وَعَن أبي نعيم عَن شَيبَان وَفِي صَلَاة الْخَوْف عَن يحيى عَن وَكِيع وَأخرجه فِي الْمَغَازِي عَن مكي بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى وَأبي غَسَّان وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن معَاذ بن هِشَام وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يَوْم الخَنْدَق " أَي يَوْم حفر الخَنْدَق وَهُوَ لفظ أعجمي تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب وَكَانَت فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة وَيُسمى بغزوة الْأَحْزَاب قَوْله " بَعْدَمَا غربت الشَّمْس " وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ عَن شَيبَان عَن يحيى " بَعْدَمَا أفطر الصَّائِم " وَالْمعْنَى وَاحِد قَوْله " فَجعل " أَي عمر يسب الْكفَّار لأَنهم كَانُوا السَّبَب لاشتغال الْمُسلمين بِحَفر الخَنْدَق الَّذِي هُوَ سَبَب لفَوَات صلَاتهم قَوْله " مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر ". اعْلَم أَن كَاد من أَفعَال المقاربة وَهِي على ثَلَاثَة أَنْوَاع نوع مِنْهَا وضع للدلالة على قرب الْخَبَر وَهُوَ كَاد وكرب وأوشك وَالرَّاجِح فِي كَاد أَن لَا يقرن بِأَن عكس عَسى وَقد وَقع فِي رِوَايَة مُسلم " حَتَّى كَادَت الشَّمْس أَن تغرب " قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) ظَاهره يَقْتَضِي أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صلى قبل الْغُرُوب (قلت) لَا نسلم بل يَقْتَضِي أَن كيدودته كَانَت عِنْد كيدودتها وَلَا يلْزم وُقُوع الصَّلَاة فِيهَا بل يلْزم أَن لَا تقع الصَّلَاة فِيهَا إِذْ حَاصله عرفا مَا صليت حَتَّى غربت الشَّمْس وَقَالَ الْيَعْمرِي إِذا تقرر أَن معنى كَاد المقاربة فَقَوْل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب مَعْنَاهُ أَنه صلى الْعَصْر قرب غرُوب الشَّمْس لِأَن نفي الصَّلَاة يَقْتَضِي إِثْبَاتهَا وَإِثْبَات الْغُرُوب يَقْتَضِي نَفْيه فَيحصل من ذَلِك لعمر ثُبُوت الصَّلَاة وَلم يثبت الْغُرُوب وَقَالَ بَعضهم لَا يخفى مَا بَين التقريرين من الْفرق وَمَا ادَّعَاهُ من الْفرق مَمْنُوع وَكَذَلِكَ العندية للْفرق الَّذِي أوضحه الْيَعْمرِي من الْإِثْبَات وَالنَّفْي لِأَن كَاد إِذا أَثْبَتَت نفت وَإِذا نفت أَثْبَتَت هَذَا مَعَ مَا فِي تَعْبِيره بِلَفْظ كيدودة من الثّقل انْتهى (قلت) كل ذَلِك لَا يشفي العليل وَلَا يروي الغليل وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن كَاد إِذا دخل عَلَيْهِ النَّفْي فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب. الأول أَنَّهَا كالأفعال إِذا تجردت من النَّفْي كَانَ مَعْنَاهُ إِثْبَاتًا وَإِن دخل عَلَيْهَا نفي كَانَ مَعْنَاهَا نفيا لِأَن قَوْلك كَاد زيد يقوم مَعْنَاهُ إِثْبَات قرب الْقيام لَا إِثْبَات نفس الْقيام فَإِذا قلت مَا كَاد زيد يفعل فَمَعْنَاه نفي قرب الْفِعْل. الثَّانِي أَنه إِذا دخل عَلَيْهَا النَّفْي كَانَت للإثبات. الثَّالِث إِذا دخل عَلَيْهَا حرف النَّفْي ينظر هَل دخل على الْمَاضِي أَو على الْمُسْتَقْبل فَإِن كَانَ مَاضِيا فَهِيَ للإثبات وَإِن كَانَ مُسْتَقْبلا فَهِيَ كالأفعال وَالأَصَح هُوَ الْمَذْهَب الأول نَص عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب وَإِذا تقرر هَذَا فكاد هَهُنَا دخل عَلَيْهِ النَّفْي فَصَارَ مَعْنَاهُ نفيا يَعْنِي نفي قرب الصَّلَاة كَمَا فِي قَوْلك مَا كَاد زيد يفعل نفي قرب الْفِعْل فَإِذا نفى قرب الصَّلَاة فنفي الصَّلَاة بطرِيق الأولى وَقَوله " حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب " حَال عَن النَّفْي فَهِيَ كَسَائِر الْأَفْعَال وَقَول الْيَعْمرِي يُشِير إِلَى الْمَذْهَب الثَّالِث وَهُوَ غير صَحِيح وَلَا يمشي هَهُنَا أَيْضا (فَإِن قلت) قَوْله تَعَالَى {فذبحوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يساعد الْمَذْهَب الثَّالِث لِأَن كَاد هَهُنَا دخل عَلَيْهَا النَّفْي وَهُوَ مَاض

(5/90)


وَاقْتضى الْإِثْبَات أَن لفعل الذّبْح وَاقع بِلَا شكّ (قلت) لَيْسَ فعل الذّبْح مستفادا من كَاد بل من قَوْله {فذبحوها} وَالْمعْنَى فذبحوها مجبرين وَمَا قاربوا فعل الذّبْح مختارين أَو نقُول فذبحوها بعد التَّرَاخِي وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ على الْفَوْر بِدَلِيل أَنهم سَأَلُوا سؤالا بعد سُؤال وَلم يبادروا إِلَى الذّبْح من حِين أمروا بِهِ قَوْله " بطحان " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء وَقيل بِفَتْح أَوله وَكسر ثَانِيه وَهُوَ وَاد بِالْمَدِينَةِ قَوْله " فصلى الْعَصْر " أَي صَلَاة الْعَصْر وَوَقع فِي الْمُوَطَّأ من طَرِيق أُخْرَى أَن الَّذِي فاتهم الظّهْر وَالْعصر وَفِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَفِي لفظ النَّسَائِيّ " حبسنا عَن صَلَاة الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء " وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه " أَن الْمُشْركين شغلوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق " الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم وَفِي قَوْله " أَربع " تجوز لِأَن الْعشَاء لم تكن فَاتَت (قلت) مَعْنَاهُ أَن الْعشَاء فَاتَتْهُ عَن وَقتهَا الَّذِي كَانَ يُصليهَا فِيهَا غَالِبا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا فَاتَت عَن وَقتهَا الْمَعْهُود وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الصَّحِيح أَن الصَّلَاة الَّتِي شغل عَنْهَا وَاحِدَة وَهِي الْعَصْر وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " شغلونا عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " قَالَ وَمِنْهُم من جمع بِأَن الخَنْدَق كَانَت وقعته أَيَّامًا وَكَانَ ذَلِك فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة فِي تِلْكَ الْأَيَّام قَالَ وَهَذَا أولى (فَإِن قلت) تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاة فِي ذَلِك الْيَوْم كَانَ نِسْيَانا أَو عمدا فَقيل كَانَ نِسْيَانا وَيُمكن أَن يسْتَدلّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث ابْن لَهِيعَة أَن أَبَا جُمُعَة حبيب بن سِبَاع قَالَ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْأَحْزَاب صلى الْمغرب فَلَمَّا فرغ قَالَ هَل علم أحد مِنْكُم أَنِّي صليت الْعَصْر قَالُوا لَا يَا رَسُول الله مَا صليتها فَأمر الْمُؤَذّن فَأَقَامَ فصلى الْعَصْر ثمَّ أعَاد الْمغرب " وَقيل كَانَ عمدا لكِنهمْ شغلوه وَلم يمكنوه من ذَلِك وَهُوَ أقرب (فَإِن قلت) هَل يجوز الْيَوْم تَأْخِير الصَّلَاة بِسَبَب الِاشْتِغَال بالعدو والقتال (قلت) الْيَوْم لَا يجوز تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا بل يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف وَكَانَ ذَلِك الِاشْتِغَال عذرا فِي التَّأْخِير لِأَنَّهُ كَانَ قبل نزُول صَلَاة الْخَوْف (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز سبّ الْمُشْركين وَلَكِن المُرَاد مَا لَيْسَ بفاحش إِذْ هُوَ اللَّائِق بِمنْصب عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه جَوَاز الْحلف من غير استحلاف إِذا ثبتَتْ على ذَلِك مصلحَة دينية وَقَالَ النَّوَوِيّ هُوَ مُسْتَحبّ إِذا كَانَت فِيهِ مصلحَة من توكيد الْأَمر أَو زِيَادَة طمأنينة أَو نفي توهم نِسْيَان أَو غير ذَلِك من الْمَقَاصِد الصَّالِحَة وَإِنَّمَا حلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تطبيبا لقلب عمر لما شقّ عَلَيْهِ تَأْخِيرهَا وَقيل يحْتَمل أَنه تَركهَا نِسْيَانا لاشتغاله بِالْقِتَالِ فَلَمَّا قَالَ عمر ذَلِك تذكر وَقَالَ وَالله مَا صليتها وَفِي رِوَايَة مُسلم " وَالله إِن صليتها " وَإِن بِمَعْنى مَا. وَفِيه أَن الظَّاهِر أَنه صلاهَا بِجَمَاعَة فَيكون فِيهِ دلَالَة على مَشْرُوعِيَّة الْجَمَاعَة فِي الْفَائِتَة وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وشذ اللَّيْث فَمنع من ذَلِك وَيرد عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث الْوَادي وَفِيه احتجاج من يرى امتداد وَقت الْمغرب إِلَى مغيب الشَّفق لِأَنَّهُ قدم الْعَصْر عَلَيْهَا وَلَو كَانَ ضيقا لبدأ بالمغرب لِئَلَّا يفوت وَقتهَا أَيْضا وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي فِي قَوْله الْجَدِيد فِي وَقت الْمغرب أَنه مضيق وقته. وَفِيه دَلِيل على عدم كَرَاهِيَة من يَقُول مَا صليت وروى البُخَارِيّ عَن ابْن سِيرِين أَنه كره أَن يُقَال فاتتنا وَليقل لم ندرك وَقَالَ البُخَارِيّ وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصح. وَفِيه مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِ من مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحسن التأني مَعَ أَصْحَابه وتألفهم وَمَا يَنْبَغِي الِاقْتِدَاء بِهِ فِي ذَلِك. وَفِيه مَا يدل على وجوب التَّرْتِيب بَين الصَّلَاة الوقتية والفائتة وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَاللَّيْث وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر وَقَالَ طَاوس التَّرْتِيب غير وَاجِب وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْقَاسِم وَسَحْنُون وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة وَمذهب مَالك وجوب التَّرْتِيب كَمَا قُلْنَا وَلَكِن لَا يسْقط بِالنِّسْيَانِ وَلَا بِضيق الْوَقْت وَلَا بِكَثْرَة الْفَوَائِت كَذَا فِي شرح الْإِرْشَاد وَفِي شرح الْمجمع وَالصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ من مَذْهَب مَالك سُقُوط التَّرْتِيب بِالنِّسْيَانِ كَمَا نطقت كتب مذْهبه وَعند أَحْمد لَو تذكر الْفَائِتَة فِي الوقتية يُتمهَا ثمَّ يُصَلِّي الْفَائِتَة ثمَّ يُعِيد الوقتية وَذكر بعض أَصْحَابه أَنَّهَا تكون نَافِلَة وَهَذَا يُفِيد وجوب التَّرْتِيب وَعند زفر من ترك صَلَاة شهر بعد المتروكة لَا تجوز الْحَاضِرَة وَقَالَ ابْن أبي ليلى من ترك صَلَاة لَا تجوز صَلَاة سنة بعْدهَا وَاسْتدلَّ صَاحب الْهِدَايَة وَغَيره فِي مَذْهَبنَا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنَيْهِمَا عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(5/91)


" من نسي صَلَاة فَلم يذكرهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الإِمَام فليتم صلَاته فَإِذا فرغ من صلَاته فليعد الَّتِي نسي ثمَّ ليعد الَّتِي صلاهَا مَعَ الإِمَام " وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ صَحِيح أَنه من قَول ابْن عمر كَذَا رَوَاهُ مَالك عَن ابْن عمر من قَوْله وَقَالَ عبد الْحق وَقد وَقفه سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَوَثَّقَهُ يحيى بن معِين (قلت) وَأخرجه أَبُو حَفْص بن شاهين مَرْفُوعا وَاسْتدلَّ أَيْضا من يرى وجوب التَّرْتِيب بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاة من عَلَيْهِ صَلَاة " قَالَ أَبُو بكر هُوَ بَاطِل وتأوله جمَاعَة على معنى لَا نَافِلَة لمن عَلَيْهِ فَرِيضَة وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا نَسْمَعهُ على أَلْسِنَة النَّاس وَمَا عرفنَا لَهُ أصلا وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قيل لِأَحْمَد بن حَنْبَل مَا معنى قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاة من عَلَيْهِ صَلَاة " قَالَ لَا أعرف هَذَا الْبَتَّةَ. وَفِيه مَا اسْتدلَّ بِهِ من يرى عدم مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان للفائتة وَأجَاب من اعْتَبرهُ بِأَن الْمغرب كَانَت حَاضِرَة وَلم يذكر الرَّاوِي الْأَذَان لَهَا اعْتِمَادًا على أَن من عَادَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَان للحاضرة فالترك من الرَّاوِي لِأَنَّهُ لم يَقع فِي نفس الْأَمر وَاعْترض بِاحْتِمَال وُقُوع الْمغرب بعد خُرُوج الْوَقْت بعد نهي إيقاعها فِيهِ (قلت) هَذَا الِاعْتِرَاض على مَذْهَب من يرى بِضيق وَقت الْمغرب وَمَعَ هَذَا ينْدَفع بتقديمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْر عَلَيْهَا وَهُوَ حجَّة على من يرى بِضيق وَقت الْمغرب وَالله تَعَالَى أعلم
37 - (بابُ منْ نَسِيَ صلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذا ذَكَرهَا وَلاَ يُعِيدُ إلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن من نسي صَلَاة حَتَّى خرج وَقتهَا فليصلها إِذا ذكرهَا. وَلَا يُعِيد إلاَّ تِلْكَ الصَّلَاة، أَي: لَا يَقْضِيهَا. وَفِي بعض النّسخ: وَلَا يعدو الْفرق بَينهمَا أَن الأول نفي، وَالثَّانِي نهي.
وَقَالَ إبْراهِيمُ مَنْ تَرَكَ صَلاَةً واحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ الوَاحِدَةَ إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن قَوْله: (من نسي صَلَاة فَليصل إِذا ذكرهَا) أَعم من أَن يكون ذكره إِيَّاهَا بعد النسْيَان بعد شهر أَو سنة أَو أَكثر من ذَلِك، وَقَيده بِعشْرين سنة للْمُبَالَغَة، وَالْمَقْصُود أَنه لَا يجب عَلَيْهِ إِلَّا إِعَادَة الصَّلَاة الَّتِي نَسِيَهَا خَاصَّة فِي أَي وَقت ذكرهَا. وَأخرج الثَّوْريّ هَذَا فِي (جَامعه) مَوْصُولا عَن مَنْصُور وَغَيره عَن إِبْرَاهِيم، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْأَثر إِلَى تَقْوِيَة قَوْله: (وَلَا يُعِيد إلاَّ تِلْكَ الصَّلَاة) ، وَيحْتَمل أَنه أَشَارَ أَيْضا إِلَى تَضْعِيف مَا وَقع فِي بعض طرق حَدِيث أبي قَتَادَة عِنْد مُسلم فِي قَضِيَّة النّوم عَن الصَّلَاة، حَيْثُ قَالَ: (فَإِذا كَانَ الْغَد فليصلها عِنْد وَقتهَا) ، فبعضهم زعم أَن ظَاهره إِعَادَة المقضية مرَّتَيْنِ: عِنْد ذكرهَا وَعند حُضُور مثلهَا من الْوَقْت الْآتِي. وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن اللَّفْظ الْمَذْكُور لَيْسَ نصا فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: (فليصلها عِنْد وَقتهَا) ، أَي: الصَّلَاة الَّتِي تحضر، لَا أَنه يُرِيد أَن يُعِيد الَّتِي صلاهَا بعد خُرُوج وَقتهَا. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عمرَان بن الْحصين فِي هَذِه الْقِصَّة: (من أدْرك مِنْكُم صَلَاة الْغَدَاة من غَد صَالحا فليقض مَعهَا مثلهَا) قلت: قَالَ الْخطابِيّ: لَا أعلم أحدا قَالَ بِظَاهِرِهِ وجوبا، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْأَمر فِيهِ للاستحباب ليحرز فَضِيلَة الْوَقْت فِي الْقَضَاء. انْتهى. وَحكى التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ: أَن هَذَا غلط من رِوَايَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَيْضا: (أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله، أَلا نقضيها لوَقْتهَا من الْغَد؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَنْهَاكُم الله عَن الرِّبَا وَيَأْخُذهُ مِنْكُم؟) .

597 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ ومُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قالاَ حدَّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذا ذَكَرَها لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إلاَّ ذلِكَ وأقِمِ الصَّلاَةَ لِلْذِكْرَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي. الثَّالِث: همام بن يحيى. الرَّابِع: قَتَادَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ روى هَذَا الحَدِيث عَن شيخين: أَحدهمَا: كُوفِي وَهُوَ أَبُو نعيم، وَبَقِيَّة الروَاة بصريون. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن

(5/92)


هدبة بن خَالِد، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن همام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من نسي صَلَاة فَليصل) ، كَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات: (فَليصل) ، بِحَذْف الضَّمِير الَّذِي هُوَ الْمَفْعُول، وَرَوَاهُ مُسلم عَن هدبة بن خَالِد بِلَفْظ: (فليصلها) ، وَزَاد أَيْضا من رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة: (أَو نَام عَنْهَا) ، وَلمُسلم أَيْضا فِي رِوَايَة أُخْرَى: (إِذا رقد أحدكُم عَن الصَّلَاة أَو غفل عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن الله يَقُول: {أقِم الصَّلَاة لذكري} ) (طاه: 14) . وَعند النَّسَائِيّ: (أَو يغْفل عَنْهَا، فَإِن كفارتها أَن يُصليهَا إِذا ذكرهَا) . وَعند ابْن مَاجَه: (سُئِلَ عَن الرجل، يغْفل عَن الصَّلَاة أَو يرقد عَنْهَا، قَالَ: يُصليهَا إِذا ذكرهَا) . وَفِي (مُعْجم) أبي الْحُسَيْن مُحَمَّد بن جَمِيع الغساني: عَن قَتَادَة عَن أنس: (إِذا ذكرهَا أَو إذااستيقظ) . قَوْله: (إِذا ذكر) ، أَي: إِذا ذكرهَا. فَإِن قلت: هَذَا يَقْتَضِي أَن يلْزم الْقَضَاء فِي الْحَال إِذا ذكر، مَعَ أَن الْقَضَاء من جملَة الْوَاجِبَات الموسعة إتفاقا؟ قلت: أُجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ لَو تذكرها ودام ذَلِك التَّذَكُّر مُدَّة، وَصلى فِي أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة، صدق أَنه صلى حِين التَّذَكُّر وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يكون فِي أول حَال التَّذَكُّر، وَجَوَاب آخر: أَن: إِذا، للشّرط كَأَنَّهُ قَالَ: فَليصل، إِذا ذكر، يَعْنِي: لَو لم يذكرهُ لَا يلْزم عَلَيْهِ الْقَضَاء، أَو: جَزَاؤُهُ مُقَدّر مُقَدّر يدل عَلَيْهِ الْمَذْكُور أَي: إِذا ذكر فليصلها، وَالْجَزَاء لَا يلْزم أَن يَتَرَتَّب على الشَّرْط فِي الْحَال، بل يلْزم أَن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة. قَوْله: (لَا كَفَّارَة لَهَا إلاَّ ذَلِك) أَي: لَا كَفَّارَة لتِلْك الصَّلَاة المنسية إلاَّ فعلهَا، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى الْقَضَاء الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (فليصلها إِذا ذكرهَا) ، لِأَن الصَّلَاة عِنْد الذّكر هِيَ الْقَضَاء، وَالْكَفَّارَة عبارَة عَن الْخصْلَة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة، أَي: تسترها، وَهِي على وزن: فعَّالة، للْمُبَالَغَة، وَهِي، من الصِّفَات الْغَالِبَة فِي الإسمية. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا يحْتَمل على وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنه لَا يكفرهَا غير قَضَائهَا، وَالْآخر: أَنه لَا يلْزمه فِي نسيانها غَرَامَة، وَلَا صَدَقَة وَلَا زِيَادَة تَضْعِيف لَهَا، إِنَّمَا يُصَلِّي مَا ترك. قَوْله: (أقِم الصَّلَاة لذكري) ، بِالْألف وَاللَّام وَفتح الرَّاء بعْدهَا مَقْصُورَة، ووزنها: فعلى، مصدر من ذكر يذكر، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس أَن الزُّهْرِيّ كَانَ يقْرؤهَا كَذَلِك، وَالْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة: لذكري، بلام وَاحِدَة وَكسر الرَّاء، كَمَا يَجِيء الْآن، وعَلى الْقِرَاءَتَيْن اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِهَذَا، فَقيل: الْمَعْنى لتذكرني فِيهَا، وَقيل: لأَذْكُرك بالمدح وَالثنَاء وَقيل: لأوقات الذكرى، وَهِي مَوَاقِيت الصَّلَاة. وَقيل: لذكري لِأَنِّي ذكرتها فِي الْكتب وَأمرت بهَا، وَقيل: لذكري خَاصَّة لَا ترائي بهَا وَلَا تشبها بِذكر غَيْرِي، وَقيل: شكرا لذكري. وَقيل: أَي أذكر أَمْرِي. وَقيل: إِذا ذكرت الصَّلَاة فقد ذَكرتني فَإِن الصَّلَاة عبَادَة الله، فَمَتَى ذكر المعبود فَكَأَنَّهُ أَرَادَ لذكر الصَّلَاة. وَقَالَ التوربشتي: هَذِه الْآيَة تحْتَمل وُجُوهًا كَثِيرَة من التَّأْوِيل، لَكِن الْوَاجِب أَيْضا أَن يُصَار إِلَى وَجه يُوَافق الحَدِيث. فَالْمَعْنى: أقِم الصَّلَاة لذكرها لِأَنَّهُ إِذا ذكرهَا فقد ذكر الله تَعَالَى، أَو: يقدرالمضاف أَي: لذكر صَلَاتي، أَو: وَقع ضمير الله فِي مَوضِع ضمير الصَّلَاة لشرفها وخصوصيتها.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: الْأَمر بِقَضَاء النَّاسِي من غير إِثْم، وَكَذَلِكَ النَّائِم سَوَاء كثرت الصَّلَاة أَو قلت، وَهَذَا مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة، وشذ بَعضهم فِيمَن زَاد على خمس صلوَات بِأَنَّهُ لَا يلْزمه قَضَاء، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ، وَلَا يعْتد بِهِ، فَإِن تَركهَا عَامِدًا فالجمهور على وجوب الْقَضَاء أَيْضا، وَحكي عَن دَاوُد وَجمع يسير عد ابْن حزم، مِنْهُم خَمْسَة من الصَّحَابَة، عدم وجوب قَضَاء الصَّلَاة على الْعَامِد لِأَن انْتِفَاء الشَّرْط يستلزمم انْتِفَاء الْمَشْرُوط، فَيلْزم مِنْهُ أَن من لم ينس لَا يُصَلِّي إِذا ذكر، والخمسة الَّذين ذكرهم ابْن حزم من الصَّحَابَة وهم: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود وسلمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَغَيرهم: الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَبُدَيْل بن ميسرَة وَمُحَمّد بن سِيرِين ومطرف بن عبد الله وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَسَالم بن أبي الْجَعْد وَأَبُو عبد الرَّحْمَن الْأَشْعَرِيّ،. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن الْقَيْد بِالنِّسْيَانِ فِيهِ لِخُرُوجِهِ على الْغَالِب أَو لِأَنَّهُ مَا ورد على السَّبَب الْخَاص مثل أَن يكون ثمَّة سَائل عَن حكم قَضَاء الصَّلَاة المنسية، أَو أَنه إِذا وَجب الْقَضَاء على الْمَعْذُور فَغَيره أولى بِالْوُجُوب، وَهُوَ من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، وَشرط اعْتِبَار مَفْهُوم الْمُخَالف عدم الْخُرُوج وَعدم وُرُوده على السَّبَب الْخَاص، وَعدم مَفْهُوم الْمُوَافق، وَادّعى نَاس بِأَن وجوب الْقَضَاء على الْعَامِد يُؤْخَذ من قَوْله: (نسي) ، لِأَن النسْيَان يُطلق على التّرْك سَوَاء كَانَ عَن ذُهُول أم لَا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} (الْحَشْر: 19) . {نسوا الله فنسيهم} (التَّوْبَة: 67) . أَي: تركُوا أمره فتركهم فِي الْعَذَاب، قَالُوا: وَيُقَوِّي ذَلِك قَوْله: (لَا كَفَّارَة لَهَا) ، والنائم وَالنَّاسِي لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَضَعفه بَعضهم بِأَن

(5/93)


الْخَبَر بِذكر النَّائِم ثَابت، وَقد قَالَ فِيهِ: لَا كَفَّارَة لَهَا، وَالْكَفَّارَة قد تكون عَن الْخَطَأ كَمَا تكون عَن الْعمد. قلت: كَمَا فِي قتل الْخَطَأ، فَإِن فِيهِ الْكَفَّارَة، وَيُجَاب بِهَذَا أَيْضا عَن اعْتِرَاض معترض بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان) . وَأَيْضًا إِنَّهُم لما توهموا أَن فِي هَذَا الْفِعْل كَفَّارَة، بيَّن لَهُم أَن لَا كَفَّارَة فِيهَا، وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء فَقَط من غير شَيْء آخر. وَقَالَ بَعضهم: وجوب الْقَضَاء بِالْخِطَابِ الأول. قلت: لَيْسَ على إِطْلَاقه، بل فِيهِ خلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ فِي أَن وُجُوبه بِأَمْر جَدِيد أَو بِالْأَمر الأول.
الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَن أحدا لَا يُصَلِّي عَن أحد، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل أَيْضا أَن الصَّلَاة لَا تجبر بِالْمَالِ كَمَا يجْبر الصَّوْم وَغَيره، أللَّهم إلاَّ إِذا كَانَت عَلَيْهِ صلوَات فَائِتَة فحضره الْمَوْت فأوصى بالفدية عَنْهَا، فَإِنَّهُ يجوز كَمَا بَين فِي (الْفُرُوع) .
الرَّابِع: أَن بَعضهم احْتج بقوله: إِذا ذكر، على جَوَاز قَضَاء الْفَوَائِت فِي الْوَقْت الْمنْهِي عَن الصَّلَاة فِيهِ. قلت: لَيْسَ بِلَازِم أَن يُصَلِّي فِي أول حَال الذّكر، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن ذكره سَبَب لوُجُوب الْقَضَاء، فَإِذا ذكرهَا فِي الْوَقْت الْمنْهِي وأخرها إِلَى أَن يخرج ذَلِك وَصلى، يكون عَاملا بِالْحَدِيثين: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر: حَدِيث النَّهْي فِي الْوَقْت الْمنْهِي عَنهُ.
قَالَ مُوسَى قَالَ همَّامٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ وأقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي
أَي: قَالَ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَهُوَ أحد الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين فِي أول الحَدِيث: سمعته، يَعْنِي: سَمِعت قَتَادَة يَقُول بعد، بِضَم الدَّال، أَي: بعد زمَان رِوَايَة الحَدِيث، حَاصله أَن هماما سَمعه من قَتَادَة مرّة بِلَفْظ: للذِّكْرَى، يَعْنِي: بِقِرَاءَة ابْن شهَاب الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَمرَّة بِلَفْظ: لذكري: أَي: بِالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَة. وَقد اخْتلف فِي هَذِه: هَل هِيَ من كَلَام قَتَادَة؟ أَو هِيَ من قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن هداب، قَالَ قَتَادَة: {وأقم الصَّلَاة لذكري} (طه: 14) . وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى من طَرِيق الْمثنى عَن قَتَادَة، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رقد أحدكُم عَن الصَّلَاة أَو غفل عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {أقِم الصَّلَاة لذكري} (طه: 14) . وَهَذَا ظَاهر أَن الْجَمِيع من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ حَبَّانُ حدَّثنا هَمَّامُ قالَ حدَّثنا قَتَادَةُ حدَّثنا أنسٌ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحوَهُ
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى بَيَان سَماع قَتَادَة من أنس لِأَنَّهُ صرح فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، لِأَن قَتَادَة من المدلسين، وروى عَنهُ أَولا بِلَفْظ: عَن أنس، فَأَرَادَ أَن يقويه بالرواية عَنهُ بِلَفْظ: حَدثنَا أنس، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن عمار بن رَجَاء عَن حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن هِلَال، وَفِيه: أَن همام بن يحيى سَمعه من قَتَادَة مرَّتَيْنِ، كَمَا فِي رِوَايَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.