عمدة القاري شرح صحيح البخاري

38 - (بابٌ إذَا أُقِيمَتِ الصلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إلاَّ المَكْتُوبَةُ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا أُقِيمَت ... إِلَى آخِره، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا لفظ حَدِيث أخرجه مُسلم فِي: كتاب الصَّلَاة، من طرق كَثِيرَة عَن عَمْرو بن دِينَار الْمَكِّيّ عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بشر بن خلف. فَإِن قلت: مَا كَانَ الْمَانِع للْبُخَارِيّ جعل هَذَا تَرْجَمَة وَلم يُخرجهُ؟ قلت: اخْتلف هَذَا على عَمْرو بن دِينَار فِي رَفعه وَوَقفه، فَلذَلِك لم يُخرجهُ، وَلَكِن الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي الْبَاب يُغني عَن ذَلِك، كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
55 - (حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عبد الله قَالَ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن حَفْص بن عَاصِم عَن عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة قَالَ مر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَجُل. قَالَ وحَدثني عبد الرَّحْمَن قَالَ حَدثنَا بهز بن أَسد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ أَخْبرنِي سعد بن إِبْرَاهِيم قَالَ سَمِعت حَفْص بن عَاصِم قَالَ سَمِعت رجلا من الأزد يُقَال لَهُ مَالك بن بُحَيْنَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى رجلا وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لاث بِهِ النَّاس فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آلصبح أَرْبعا آلصبح أَرْبعا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " آلصبح أَرْبعا " حَيْثُ أنكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الرجل الَّذِي كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعد أَن أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح فَقَالَ " آلصبح أَرْبعا " أَي الصُّبْح تصلى أَرْبعا لِأَنَّهُ إِذا صلى رَكْعَتَيْنِ بعد أَن أُقِيمَت الصَّلَاة ثمَّ يُصَلِّي مَعَ الإِمَام رَكْعَتَيْنِ صَلَاة الصُّبْح فَيكون فِي معنى من صلى الصُّبْح أَرْبعا فَدلَّ هَذَا على أَن لَا صَلَاة بعد الْإِقَامَة إِلَّا الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة (فَإِن قلت) حَدِيث التَّرْجَمَة أَعم لِأَنَّهُ يَشْمَل سَائِر الصَّلَوَات وَحَدِيث الْبَاب فِي صَلَاة الصُّبْح (قلت) كِلَاهُمَا فِي الْمَعْنى وَاحِد لِأَن الحكم فِي الْإِنْكَار فِيهِ أَن يتفرغ الْمُصَلِّي للفريضة من أَولهَا حَتَّى لَا تفوته فَضِيلَة الْإِحْرَام مَعَ الإِمَام فَهَذَا يعم الْكل فِي الْحَقِيقَة وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن تكون اللَّام فِي حَدِيث التَّرْجَمَة عهدية فيتفقان (قلت) لَا حَاجَة إِلَى ذكر الِاحْتِمَال لِأَن الأَصْل فِي اللَّام أَن تكون للْعهد فِي الأَصْل فحين قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة " لَا نزاع أَنه كَانَ ذَلِك فِي وَقت صَلَاة من الصَّلَوَات (ذكر رِجَاله) وهم تِسْعَة. الأول عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأوسي الْمدنِي. الثَّانِي إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو اسحق الزُّهْرِيّ الْمدنِي. الثَّالِث أَبوهُ سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الرَّابِع حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة وبحينة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَفِي آخِره هَاء وَهِي بنت الْحَارِث بن عبد الْمطلب بن عبد منَاف وَهُوَ اسْم أم عبد الله وَقَالَ أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي بُحَيْنَة أم أَبِيه مَالك ابْن القشب بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَهُوَ لقب واسْمه جُنْدُب بن نَضْلَة بن عبد الله بن رَافع الْأَزْدِيّ وَقَالَ ابْن سعد بُحَيْنَة عَبدة بنت الْحَارِث لَهَا صُحْبَة وَقَالَ قدم مَالك بن القشب مَكَّة فِي الْجَاهِلِيَّة فحالف بني الْمطلب بن عبد منَاف وَتزَوج بُحَيْنَة بنت الْحَارِث بن الْمطلب وَأدْركت بُحَيْنَة الْإِسْلَام فَأسْلمت وصحبت وَأسلم ابْنهَا عبد الله قَدِيما وَحكى ابْن عبد الْبر خلافًا لبحينة هَل هِيَ أم عبد الله أَو أم مَالك وَالصَّوَاب أَنَّهَا أم عبد الله كَمَا قُلْنَا. السَّادِس عبد الرَّحْمَن بن بشر بن الحكم بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي مَاتَ فِي سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. السَّابِع بهز بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي

(5/182)


آخِره زَاي بن أَسد الْعمي أَبُو الْأسود الْبَصْرِيّ. الثَّامِن شُعْبَة بن الْحجَّاج. التَّاسِع مَالك بن بُحَيْنَة قَالَ ابْن الْأَثِير لَهُ صُحْبَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَجْرِيد الصَّحَابَة مَالك بن بُحَيْنَة وَالِد عبد الله ورد عَنهُ حَدِيث وَصَوَابه لعبد الله وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمته مَالك بن بُحَيْنَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا وهم وَقَالَ ابْن معِين عبد الله هُوَ الَّذِي روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَ يروي أَبوهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا نَقله عَنهُ الغسائي (ذكر لطائف إِسْنَاده) هُنَا إسنادان الأول عَن عبد الْعَزِيز عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن حَفْص بن عَاصِم عَن عَمْرو بن مَالك. الْإِسْنَاد الثَّانِي عَن عبد الرَّحْمَن عَن بهز عَن شُعْبَة عَن سعد عَن حَفْص عَن مَالك بن بُحَيْنَة هَكَذَا يَقُول شُعْبَة فِي هَذَا الصَّحَابِيّ وَتَابعه على ذَلِك أَبُو عوَانَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَحكم الْحفاظ يحيى بن معِين وَأحمد وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ والإسماعيلي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو مَسْعُود وَآخَرُونَ عَلَيْهِم بالوهم فِي موضِعين أَحدهمَا أَن بُحَيْنَة وَالِدَة عبد الله لَا وَالِدَة مَالك. والآخران الصُّحْبَة وَالرِّوَايَة لعبد الله لَا لمَالِك وجنح الدَّاودِيّ إِلَى أَن مَالِكًا لَهُ صُحْبَة حَيْثُ قَالَ وَهَذَا الِاخْتِلَاف لَا يضر فَأَي الرجلَيْن كَانَ فَهُوَ صَاحب (فَإِن قلت) لم لم يسق البُخَارِيّ لفظ رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وتحول إِلَى رِوَايَة شُعْبَة (قلت) كَأَنَّهُ أوهم أَنَّهُمَا متوافقتان وَلَيْسَ كَذَلِك وَقد سَاق مُسلم رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد بالسند الْمَذْكُور وَلَفظه " مر بِرَجُل يُصَلِّي وَقد أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح فكلمة بِشَيْء لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَلَمَّا انصرفنا أحطنا نقُول مَاذَا قَالَ لَك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَالَ لي يُوشك أحدكُم أَن يُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا " فَفِي هَذَا السِّيَاق مُخَالفَة لسياق شُعْبَة فِي كَونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلم الرجل وَهُوَ يُصَلِّي وَرِوَايَة شُعْبَة تَقْتَضِي أَنه كَلمه بَعْدَمَا فرغ (قلت) يُمكن الْجمع بَينهمَا أَنه كَلمه أَولا سرا وَلِهَذَا احتاجوا أَن يسألوه ثمَّ كَلمه ثَانِيًا جَهرا فسمعوه وَفَائِدَة التّكْرَار تَقْرِير الْإِنْكَار وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه السماع فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين نيسابوري وبصري ومدني وواسطي وَفِيه أَن شَيْخه عبد الْعَزِيز من أَفْرَاده وَفِيه اثْنَان من الصَّحَابَة على قَول من يَقُول مَالك بن بُحَيْنَة من الصَّحَابَة وَفِيه اثْنَان من التَّابِعين أَحدهمَا سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَانَ من أجلة التَّابِعين وَالْآخر حَفْص بن عَاصِم (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه وَعَن قُتَيْبَة عَن أبي عوَانَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن حَفْص بن عَاصِم عَن ابْن بُحَيْنَة بِهِ قَالَ وَقَوله عَن أَبِيه خطأ بُحَيْنَة هِيَ أم عبد الله قَالَ أَبُو مَسْعُود وَهَذَا يخطيء فِيهِ القعْنبِي بقوله عَن أَبِيه وَأسْقط مُسلم من أَوله عَن أَبِيه ثمَّ قَالَ فِي عقبه وَقَالَ القعْنبِي عَن أَبِيه وَأهل الْعرَاق مِنْهُم شُعْبَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَأَبُو عوَانَة يَقُولُونَ عَن سعد عَن حَفْص عَن مَالك بن بُحَيْنَة وَأهل الْحجاز قَالُوا فِي نِسْبَة عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة وَهُوَ الْأَصَح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وهب بن جرير عَن شُعْبَة بِإِسْنَاد نَحوه وَقَالَ هَذَا خطأ وَالصَّوَاب عبد الله بن بُحَيْنَة وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " من الأزد " بِسُكُون الزَّاي وَيُقَال لَهُ الْأسد أَيْضا وهم أَزْد شنُوءَة وبالسين رِوَايَة الْأصيلِيّ قَوْله " رأى رجلا " هُوَ عبد الله الرَّاوِي كَمَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَنهُ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بِهِ وَهُوَ يُصَلِّي " وَفِي رِوَايَة " خرج وَابْن القشب يُصَلِّي " وَأخرج ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ " كنت أُصَلِّي وَأخذ الْمُؤَذّن بِالْإِقَامَةِ فجذبني النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ أَتُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا " (فَإِن قلت) يحْتَمل أَن يكون الرجل هُوَ ابْن عَبَّاس (قلت) لَا بل هما قضيتان قَوْله " وَقد أُقِيمَت " هُوَ ملتقى الإسنادين وَالْقدر الْمُشْتَرك بَين الطَّرِيقَيْنِ إِذْ تَقْدِيره مر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَجُل وَقد أُقِيمَت وَمَعْنَاهُ وَقد نُودي للصَّلَاة بالألفاظ الْمَخْصُوصَة قَوْله " فَلَمَّا انْصَرف " أَي من الصَّلَاة قَوْله " لاث بِهِ النَّاس " بالثاء الْمُثَلَّثَة الْخَفِيفَة أَي دَار وأحاط وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة أصل اللوث الطي وَيُقَال لاث عمَامَته أَي أدارها وَيُقَال فلَان يلوث بِي أَي يلوذ بِي وَالْمَقْصُود أَن النَّاس أحاطوا بِهِ والتفوا حوله وَالضَّمِير فِي بِهِ يرجع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَكِن طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد الْمُتَقَدّمَة تَقْتَضِي أَنه يرجع إِلَى الرجل قَوْله " آلصبح أَرْبعا " بِهَمْزَة ممدودة فِي أَوله وَيجوز قصرهَا وَهُوَ اسْتِفْهَام للإنكار التوبيخي وَالصُّبْح مَنْصُوب بإضمار فعل

(5/183)


مُقَدّر تَقْدِيره أَتُصَلِّي الصُّبْح وَقَالَ الْكرْمَانِي وَيجوز الصُّبْح بِالرَّفْع أَي الصُّبْح تصلى أَرْبعا (قلت) يكون الصُّبْح على هَذَا التَّقْدِير مُبْتَدأ وَقَوله تصلي أَرْبعا جملَة وَقعت خَبرا وَالضَّمِير مَحْذُوف لِأَن تَقْدِيره تصليه أَرْبعا وَالضَّمِير الَّذِي يَقع مَفْعُولا حذفه شَائِع ذائع وانتصاب أَرْبعا على الْحَال قَالَه ابْن مَالك وَقَالَ الْكرْمَانِي على الْبَدَلِيَّة (قلت) يكون بدل الْكل من الْكل لِأَن الصُّبْح صَار فِي معنى الْأَرْبَع وَيجوز أَن يكون بدل الْكل من الْبَعْض لِأَن الْأَرْبَع ضعف صَلَاة الصُّبْح وَيجوز أَن يكون بدل الاشتمال لِأَن الَّذِي صلاهَا الرجل أَربع رَكْعَات فِي الْمَعْنى (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه. الأول اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن دخل الْمَسْجِد لصَلَاة الصُّبْح فأقيمت الصَّلَاة هَل يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر أم لَا فَكرِهت طَائِفَة أَن يرْكَع رَكْعَتي الْفجْر فِي الْمَسْجِد وَالْإِمَام فِي صَلَاة الْفجْر محتجين بِهَذَا الحَدِيث وروى ذَلِك عَن ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَسَعِيد بن جُبَير وَعُرْوَة وَابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَقَالَت طَائِفَة لَا بَأْس أَن يُصَلِّيهمَا خَارج الْمَسْجِد إِذا تَيَقّن أَنه يدْرك الرَّكْعَة الْأَخِيرَة مَعَ الإِمَام وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَّا أَن الْأَوْزَاعِيّ أجَاز أَن يركعهما فِي الْمَسْجِد وَقَالَ الثَّوْريّ إِن خشِي فَوت رَكْعَة دخل مَعَه وَلم يصلهمَا وَإِلَّا صلاهما فِي الْمَسْجِد وَقَالَ صَاحب الْهِدَايَة وَمن انْتهى إِلَى الإِمَام فِي صَلَاة الْفجْر وَهُوَ لم يصل رَكْعَتي الْفجْر إِن خشِي أَن تفوته رَكْعَة يَعْنِي من صَلَاة الْفجْر لاشتغاله بِالسنةِ وَيدْرك الرَّكْعَة الْأُخْرَى وَهِي الثَّانِيَة يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر عِنْد بَاب الْمَسْجِد ثمَّ يدْخل الْمَسْجِد لِأَنَّهُ أمكنه الْجمع بَين الفضيلتين يَعْنِي فَضِيلَة السّنة وفضيلة الْجَمَاعَة وَإِنَّمَا قيد بقوله عِنْد بَاب الْمَسْجِد لِأَنَّهُ لَو صلاهما فِي الْمَسْجِد كَانَ متنفلا فِيهِ مَعَ اشْتِغَال الإِمَام بِالْفَرْضِ وَإنَّهُ مَكْرُوه لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة " وخصت سنة الْفجْر بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تدعوهما وَإِن طردتكم الْخَيل " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة هَذَا إِذا كَانَ عِنْد بَاب الْمَسْجِد مَوضِع لذَلِك وَإِن لم يكن يُصَلِّيهمَا فِي الْمَسْجِد خلف سَارِيَة من سواريه خلف الصُّفُوف وَذكر فَخر الْإِسْلَام وأشدها كَرَاهَة أَن يُصَلِّي مخالطا للصف مُخَالفا للْجَمَاعَة وَالَّذِي يَلِي ذَلِك خلف الصَّفّ من غير حَائِل بَينه وَبَين الصَّفّ وَفِي الذَّخِيرَة السّنة فِي سنة الْفجْر يَعْنِي رَكْعَتي الْفجْر أَن يَأْتِي بهما فِي بَيته فَإِن لم يفعل فَعِنْدَ بَاب الْمَسْجِد إِذا كَانَ الإِمَام يُصَلِّي فِيهِ فَإِن لم يُمكنهُ فَفِي الْمَسْجِد الْخَارِج إِذا كَانَ الإِمَام فِي الْمَسْجِد الدَّاخِل وَفِي الدَّاخِل إِذا كَانَ الإِمَام فِي الْخَارِج وَفِي الْمُحِيط وَقيل يكره ذَلِك كُله لِأَن ذَلِك بِمَنْزِلَة مَسْجِد وَاحِد وَعند الظَّاهِرِيَّة أَنه يقطع الصَّلَاة إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَفِي الْجلاب يُصَلِّيهمَا وَإِن فَاتَتْهُ الصَّلَاة مَعَ الإِمَام إِذا كَانَ الْوَقْت وَاسِعًا وَاسْتدلَّ من كره صلاتهما بِحَدِيث الْبَاب وَبِمَا فِي مُسلم من حَدِيث عبد الله بن سرجس " جَاءَ رجل وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الصُّبْح فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاة فَلَمَّا انْصَرف قَالَ لَهُ يَا فلَان أَيَّتهمَا صَلَاتك الَّتِي صليتها وَحدك أَو الَّتِي صليت مَعنا " وَبِمَا ذكره ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " كنت أُصَلِّي " الحَدِيث وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن أنس " خرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين أُقِيمَت الصَّلَاة فَرَأى نَاسا يصلونَ رَكْعَتَيْنِ بالعجلة فَقَالَ صلاتان مَعًا فَنهى أَن تصليا فِي الْمَسْجِد إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة (فَإِن قلت) قد روى ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي عِنْد الْإِقَامَة فِي بَيت مَيْمُونَة (قلت) هَذَا الحَدِيث وهاه ابْن الْقطَّان وَغَيره فِي كتاب الصَّلَاة للدكيني عَن سُوَيْد بن غَفلَة كَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يضْرب على الصَّلَاة قبل الْإِقَامَة وَرَأى ابْن جُبَير رجلا يُصَلِّي حِين أُقِيمَت الصَّلَاة فَقَالَ لَيست هَذِه سَاعَة صَلَاة وَعَن صَفْوَان بن موهب أَنه سمع مُسلم بن عقيل يَقُول للنَّاس وهم يصلونَ وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة وَيْلكُمْ إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة وَعند الْبَيْهَقِيّ رأى ابْن عمر رجلا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ والمؤذن يُقيم فَحَصَبه وَقَالَ أَتُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا وَذكر أَبُو أُميَّة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الطرسوسي فِي كِتَابه مُسْند ابْن عمر رَفعه من حَدِيث قدامَة بن مُوسَى عَن رجل من بني حَنْظَلَة عَن أبي عَلْقَمَة عَن يسَار بن نمير مولى ابْن عمر قَالَ " رَآنِي ابْن عمر وَأَنا أُصَلِّي الْفجْر فَقَالَ يَا يسَار إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج علينا وَنحن نصلي هَذِه الصَّلَاة فتغيظ علينا وَقَالَ ليبلغ شاهدكم غائبكم لَا صَلَاة بعد الْفجْر إِلَّا رَكْعَتَيْنِ " وَذكر ابْن حزم نَحوه عَن ابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم وَعند أبي نعيم الْفضل عَن طَاوس " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَأَنت فِي الصَّلَاة فدعها " وَعند عبد الرَّزَّاق

(5/184)


قَالَ سعيد بن جُبَير " إقطع صَلَاتك عِنْد الْإِقَامَة " وَعند ابْن أبي شيبَة قَالَ سُفْيَان كَانَ قيس بن أبي حَازِم يأمنا فَأَقَامَ الْمُؤَذّن الصَّلَاة وَقد صلى رَكْعَة فَتَركهَا ثمَّ تقدم فصلى بِنَا وَكَذَا قَالَه الشّعبِيّ وَاسْتدلَّ من أجَاز ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق حجاج بن نصير عَن عباد بن كثير عَن لَيْث عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر " قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذِه الزِّيَادَة لَا أصل لَهَا وحجاج وَعباد ضعيفان (قلت) قَالَ يَعْقُوب بن شيبَة سَأَلت ابْن معِين عَن حجاج بن نصير الفساطيطي الْبَصْرِيّ فَقَالَ صَدُوق وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات وَعباد بن كثير كَانَ من الصَّالِحين وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه دخل الْمَسْجِد وَقد أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح فَرَكَعَ رَكْعَتي الْفجْر إِلَى أسطوانة بِمحضر حُذَيْفَة وَأبي مُوسَى قَالَ ابْن بطال وروى مثله عَن عمر بن الْخطاب وَأبي الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَعَن ابْن عمر أَنه أَتَى الْمَسْجِد لصَلَاة الصُّبْح فَوجدَ الإِمَام يُصَلِّي فَدخل بَيت حَفْصَة فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل فِي صَلَاة الإِمَام وَعند ابْن أبي شيبَة عَن إِبْرَاهِيم كَانَ يَقُول إِن بَقِي من صَلَاتك شَيْء فأتممه وَعنهُ إِذا افتتحت الصَّلَاة تَطَوّعا وأقيمت الصَّلَاة فَأَتمَّ الثَّانِي من الْوُجُوه فِي حِكْمَة إِنْكَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاة عِنْد إِقَامَة الْفَرْض فَقَالَ عِيَاض لِئَلَّا يَتَطَاوَل الزَّمَان فيظن وُجُوبهَا وَيُؤَيِّدهُ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد " يُوشك أحدكُم أَن يُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا " وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وعَلى هَذَا إِذا حصل الْأَمْن لَا يكره ذَلِك وَقَالَ بَعضهم وَهُوَ متعقب بِعُمُوم حَدِيث التَّرْجَمَة (قلت) قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} يخص هَذَا الْعَام مَعَ مَا روى عَن هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الْمَذْكُورين آنِفا وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا وَقيل لِئَلَّا تَلْتَبِس صَلَاة الْفَرْض بالنفل وَإِلَى هَذَا جنح الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَو كَانَ خَارج الْمَسْجِد أَو فِي زَاوِيَة مِنْهُ لم يكره وَهُوَ متعقب أَيْضا بِمَا ذكر انْتهى (قلت) دَعْوَاهُ التعقب متعقبة لِأَن الأَصْل فِي النُّصُوص التَّعْلِيل وَهُوَ وَجه الْحِكْمَة فالعلة فِي حَدِيث التَّرْجَمَة هِيَ كَونه جَامعا بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فِي مَكَان وَاحِد فَإِذا صلى خَارج الْمَسْجِد أَو فِي زَاوِيَة مِنْهُ لَا يلْزم ذَلِك وَهُوَ كنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من صلى الْجُمُعَة أَن يُصَلِّي بعْدهَا تَطَوّعا فِي مَكَان وَاحِد كَمَا نهى من صلى الْجُمُعَة أَن يتَكَلَّم أَو يتَقَدَّم وَقَالَ هَذَا الْقَائِل هَذَا أَيْضا وَذهب بَعضهم إِلَى أَن سَبَب الْإِنْكَار عدم الْفَصْل بَين الْفَرْض وَالنَّفْل لِئَلَّا يلتبسا وَإِلَى هَذَا جنح الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ بالأحاديث الْوَارِدَة بِالْأَمر بذلك وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَو كَانَ فِي زَاوِيَة من الْمَسْجِد لم يكره وَهُوَ متعقب بِمَا ذكره. إِذْ لَو كَانَ المُرَاد مُجَرّد الْفَصْل بَين الْفَرْض وَالنَّفْل لم يحصل إِنْكَار أصلا لِأَن ابْن بُحَيْنَة سلم من صلَاته قطعا ثمَّ دخل فِي الْفَرْض انْتهى (قلت) ذكر شَيْئا لَا يجدي لرده مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ فَلَو نقل مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا لَكَانَ علم أَن رده لَيْسَ بِشَيْء وَهُوَ أَنه روى بِسَنَدِهِ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بِابْن بُحَيْنَة وَهُوَ يُصَلِّي بَين يَدي نِدَاء الصُّبْح فَقَالَ لَا تجْعَلُوا هَذِه الصَّلَاة كَصَلَاة الظّهْر وَاجْعَلُوا بَينهمَا فصلا " فَبَان بِهَذَا أَن الَّذِي كرهه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِابْنِ بُحَيْنَة وَصله إِيَّاهَا بالفريضة فِي مَكَان وَاحِد دون أَن يفصل بَينهمَا بِشَيْء يسير (قلت) فَعلم بذلك أَنه مَا اعْتبر الْفَصْل الْيَسِير وَالسَّلَام مِنْهُ وَكَانَ سَبَب الْكَرَاهَة الْوَصْل بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فِي مَكَان وَاحِد وَلَا اعْتِبَار بِالْفَصْلِ بِالسَّلَامِ فَمُقْتَضى ذَلِك أَن لَا يكره خَارج الْمَسْجِد وَلَا فِي زَاوِيَة مِنْهُ وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي استنباط الْأَحْكَام من النُّصُوص وَلَيْسَ ذَلِك بالتحسيس من الْخَارِج وَقَالَ النَّوَوِيّ الْحِكْمَة فِي الْإِنْكَار الْمَذْكُور أَن يتفرغ للفضيلة من أَولهَا فيشرع فِيهَا عقيب شُرُوع الإِمَام والمحافظة على مكملات الْفَرِيضَة أولى من التشاغل بالنافلة (قلت) الِاشْتِغَال بِسنة الْفجْر الَّذِي ورد فِيهِ التَّأْكِيد بالمحافظة عَلَيْهَا مَعَ الْعلم بإدراكه الْفَرِيضَة أولى (فَإِن قلت) فِي حَدِيث التَّرْجَمَة منع عَن التَّنَفُّل بعد الشُّرُوع فِي إِقَامَة الصَّلَاة سَوَاء كَانَ من الرَّوَاتِب أَو لَا لما روى مُسلم بن خَالِد عَن عَمْرو بن دِينَار فِي هَذَا الحَدِيث " قيل يَا رَسُول الله وَلَا رَكْعَتي الْفجْر قَالَ وَلَا رَكْعَتي الْفجْر " أخرجه ابْن عدي فِي تَرْجَمَة يحيى بن نصر ابْن حَاجِب (قلت) روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن على شَيْء من النَّوَافِل أَشد تعاهدا مِنْهُ على رَكْعَتَيْنِ قبل الصُّبْح " وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تدعوهما وَإِن طردتكم الْخَيل " أَي لَا تتركوهما وَإِن طردتكم الفرسان فَهَذَا كِنَايَة عَن الْمُبَالغَة وحث عَظِيم على مواظبتهما وَعَن هَذَا أَصْحَابنَا ذَهَبُوا فِيهِ إِلَى مَا ذكرنَا عَنْهُم على أَن فِيهِ الْجمع بَين الْأَمريْنِ

(5/185)


فَافْهَم. الْوَجْه الثَّالِث أَن قَوْله فِي التَّرْجَمَة إِلَّا الْمَكْتُوبَة أَي الْمَفْرُوضَة يَشْمَل الْحَاضِرَة والفائتة وَلَكِن المُرَاد الْحَاضِرَة وَصرح بذلك أَحْمد والطَّحَاوِي من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الَّتِي أُقِيمَت " وَقد مر وَجه الْإِنْكَار فِيهِ مستقصى
(تَابعه غنْدر ومعاذ عَن شُعْبَة عَن مَالك) أَي تَابع بِهَذَا غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر أَبُو عبد الله بن امْرَأَة شُعْبَة وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَقد تقدم غير مرّة وَقد وصل أَحْمد طَرِيق غنْدر عَنهُ كَذَلِك قَوْله " ومعاذ " أَي وَتَابعه معَاذ أَيْضا وَهُوَ معَاذ ابْن معَاذ أَبُو الْمثنى الْبَصْرِيّ قاضيها وَوصل طَرِيقه الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه قَوْله " فِي مَالك " أَي فِي الرِّوَايَة عَن مَالك بن بُحَيْنَة. ويروى عَن مَالك وَهِي أوضح وَفِي رِوَايَة الْكشميهني
(وَقَالَ ابْن إِسْحَاق عَن سعد عَن حَفْص عَن عبد الله بن بُحَيْنَة) ابْن إِسْحَاق هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن حَفْص بن عَاصِم وَهَذِه الرِّوَايَة مُوَافقَة لرِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه وَهِي الراجحة وَقَالَ أَبُو مَسْعُود أهل الْمَدِينَة يَقُولُونَ عبد الله بن بُحَيْنَة وَأهل الْعرَاق يَقُولُونَ مَالك بن بُحَيْنَة وَالْأول هُوَ الصَّوَاب وَرَوَاهُ القعْنبِي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة عَن أَبِيه قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه قَوْله عَن أَبِيه خطأ وَأسْقط مُسلم فِي كِتَابه من هَذَا الْإِسْنَاد قَوْله عَن أَبِيه من رِوَايَة القعْنبِي وَلم يذكرهُ لكنه نبه عَلَيْهِ وَقَالَ يحيى بن معِين ذكر أَبِيه خطأ لَيْسَ يروي أَبوهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا
(وَقَالَ حَمَّاد أخبرنَا سعد عَن حَفْص عَن مَالك) حَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة جزم بِهِ الْمزي وَجَمَاعَة آخَرُونَ وَكَذَا أخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن مندة مَوْصُولا من طَرِيقه. وَقَالَ الْكرْمَانِي حَمَّاد أَي ابْن زيد وَهُوَ وهم مِنْهُ وَالْمرَاد أَن حَمَّاد بن سَلمَة وَافق شُعْبَة فِي قَوْله عَن مَالك بن بُحَيْنَة فَافْهَم -
39 - (بابُ حَدِّ المَرِيضِ أنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حد الْمَرِيض، لِأَن يشْهد الْجَمَاعَة، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: لشهود الْجَمَاعَة، وَحَاصِل الْمَعْنى: بَاب فِي بَيَان مَا يحد للْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة، حَتَّى إِذا جَاوز ذَلِك الْحَد لم يسْتَحبّ لَهُ شهودها، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن رشيد، وَقد تكلّف الشُّرَّاح فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ العسف مِنْهُم ابْن بطال، فَقَالَ: معنى الْحَد هُنَا: الحدة، كَمَا قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كنت أداري مِنْهُ بعض الْحَد، أَي: الحدة. وَتَبعهُ على ذَلِك ابْن التِّين، وَالْمعْنَى على هَذَا: الحض على شُهُود الْجَمَاعَة، وَقَالَ ابْن التِّين أَيْضا: وَيصِح أَن يُقَال أَيْضا: فِي بَاب جد الْمَرِيض، بِالْجِيم الْمَكْسُورَة، بِمَعْنى: بَاب اجْتِهَاد الْمَرِيض لشهود الْجَمَاعَة. ثمَّ قَالَ: لَكِن لم أسمع أحدا رَوَاهُ بِالْجِيم. قلت: روى ابْن قرقول رِوَايَة الْجِيم وَعَزاهَا للقابسي.

664 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ الأَسْوَدُ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَذَكَرْنَا المُوَاظَبَةَ عَلى الصَّلاَةِ والتَّعْظِيمَ لَهَا قالَتْ لمَّا مَرضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَضَهُ الَّذِي ماتَ فِيهِ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فأذَّنَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ إذَا قامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يُصَلِّي بالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأعَادُوا لَهُ فَأعَادَ الثَّالِثَةَ فقالَ إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ فَخَرَجَ أبُو بَكْرٍ فَصَلَّى فَوَجَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وسلممِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأنِّي أنْظُرُ رجْلَيْهِ تَخُطَّانِ الأَرْضَ مِنَ الوَجَعِ فأرَادَ أبُو بَكْرٍ أنْ يَتأخَّرَ فَأوْمَأ إلَيْهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ

(5/186)


وَسلم أنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إلَى جَنْبِه قيلَ لِلأعْمَشِ وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وأبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ والنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أبي بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأسِهِ نَعَمْ. .

مناسبته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى الْجَمَاعَة وَهُوَ مَرِيض يهادي بَين اثْنَيْنِ، فَكَانَ هَذَا الْمِقْدَار هُوَ الْحَد لحضور الْجَمَاعَة، حَتَّى لَو زَاد على ذَلِك أَو لم يجد من يحملهُ إِلَيْهَا لَا يسْتَحبّ لَهُ الْحُضُور، فَلَمَّا تحامل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك وَخرج بَين اثْنَيْنِ دلّ على تَعْظِيم أَمر الْجَمَاعَة، وَدلّ على فضل الشدَّة على الرُّخْصَة، وَفِيه ترغيب لأمته فِي شُهُود الْجَمَاعَة لما لَهُم فِيهِ من عَظِيم الْأجر، وَلِئَلَّا يعْذر أحد مِنْهُم نَفسه فِي التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة مَا أمكنه وَقدر عَلَيْهَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَالْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: التَّصْرِيح باسم الْجد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: ة أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن منْجَاب ابْن الْحَارِث وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي كريب عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد.
ذكر اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِي هَذِه الْقِصَّة: عِنْد مُسلم فِي لفظ: (أول مَا اشْتَكَى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَيت مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَاسْتَأْذَنَ أَزوَاجه أَن يمرض فِي بَيْتِي فأذنَّ لَهُ. قَالَت: فَخرج وَيَده على الْفضل بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالْأُخْرَى على رجل آخر، وَهُوَ يخط برجليه فِي الأَرْض. قَالَت: فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ وَجَعه قَالَ: أهريقوا عَليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعَلي أَعهد إِلَى النَّاس، فأجلسناه فِي مخضب لحفصة، ثمَّ طفقنا نصب عَلَيْهِ من تِلْكَ الْقرب حَتَّى طفق يُشِير إِلَيْنَا أَن قد فعلتن. ثمَّ خرج إِلَى النَّاس فصلى بهم وخطبهم) (قَالَت عَائِشَة: إِن أَبَا بكر إِذا قَامَ مقامك لم يُسمع النَّاس من الْبكاء، فَمر عمر فليصلِّ بِالنَّاسِ. فَفعلت حَفْصَة، فَقَالَ: مَه، إنكن لأنتن صَوَاحِب يُوسُف، مروا أَبَا بكر فليصلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَت لعَائِشَة: مَا كنت لأصيب مِنْك خيرا) وَفِي (فَضَائِل الصَّحَابَة) لأسد بن مُوسَى: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة فِي حَدِيث طَوِيل فِي مرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَرَأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَفسه خفَّة، فَانْطَلق يهادي بَين رجلَيْنِ، فَذهب أَبُو بكر يسْتَأْخر فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ: مَكَانك، فَاسْتَفْتَحَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر من الْقِرَاءَة) ، وَفِي حَدِيثه عَن الْمُبَارك بن فضَالة عَن الْحسن مُرْسلا: (فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد ذهب أَبُو بكر يجلس، فَأَوْمأ إِلَيْهِ، أَن: كَمَا كنت، فصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلف أبي بكر لِيُرِيَهُمْ أَنه صَاحب صلَاتهم من بعده، وَتُوفِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يَوْمه ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ) . وَعند ابْن حبَان: (فأجلسناه فِي مخضب لحفصة من نُحَاس، ثمَّ خرج فَحَمدَ الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ واستغفر للشهداء الَّذين قتلوا يَوْم أحد) ، وعنها: (رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جَنَازَة بِالبَقِيعِ وَأَنا أجد صداعا فِي رَأْسِي، وَأَنا أَقُول: وَا رأساه، فَقَالَ: بل أَنا يَا عَائِشَة وارأساه. ثمَّ قَالَ: وَمَا ضرك لَو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وَصليت عَلَيْك ثمَّ دفنتك؟ فَقلت: لكَأَنِّي بك لَو فعلت ذَلِك رجعت إِلَى بَيْتِي فأعرست فِيهِ بِبَعْض نِسَائِك، فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ بدا فِي وَجَعه الَّذِي مَاتَ فِيهِ) . وعنها: (أُغمي عَلَيْهِ وَرَأسه فِي حجري، فَجعلت أمسحه وأدعو لَهُ بالشفاء، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: لَا، بل اسْأَل الله الرفيق الْأَعْلَى مَعَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل عَلَيْهِم السَّلَام) . وَفِي لفظ: (سمعته، وَأَنا مسندته إِلَى صَدْرِي يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الْأَعْلَى) . وَفِي لفظ: (إِن أَبَا بكر صلى بِالنَّاسِ وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّفّ خَلفه) . وَلَفظه: عِنْد التِّرْمِذِيّ: (صلى خلف أبي بكر فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدا) . وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب، وَعِنْده من حَدِيث أنس: (صلى فِي مَرضه خلف أبي بكر قَاعِدا فِي ثوب متوشحا بِهِ) . وَقَالَ: حسن صَحِيح. زَاد النَّسَائِيّ: وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا مَعَ الْقَوْم. قَالَ ابْن حبَان: خَالف شُعْبَة زَائِدَة بن قدامَة فِي متن هَذَا الْخَبَر عَن مُوسَى، فَجعل شُعْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُوما حَيْثُ صلى قَاعِدا، وَالْقَوْم قيام، وَجعله زَائِدَة إِمَامًا حَيْثُ صلى قَاعِدا وَالْقَوْم قيام، وهما متقنان حَافِظَانِ

(5/187)


وَلَيْسَ بَين حديثيهما تضَاد وَلَا تهاتر وَلَا نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ، بل مُجمل مُفَسّر. وَإِذا ضم بَعْضهَا إِلَى بعض بَطل التضاد بَينهمَا، وَاسْتعْمل كل خبر فِي مَوْضِعه. بَيَان ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي علته صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد جمَاعَة لَا صَلَاة وَاحِدَة، فِي إِحْدَاهمَا: كَانَ إِمَامًا، وَفِي الْأُخْرَى كَانَ مَأْمُوما، وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك فِي خبر عبد الله بن جريج: بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا الْعَبَّاس وَالْآخر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي خبر مَسْرُوق: خرج بَين بَرِيرَة ونوبة، فَهَذَا يدلك على أَنَّهَا كَانَت صَلَاتَيْنِ لَا صَلَاة وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ التَّوْفِيق بَين كَلَام نعيم بن أبي هِنْد، وَبَين كَلَام عَاصِم بن أبي النجُود فِي متن خبر أبي وَائِل، فَإِن فِيهِ: (وَجِيء بِنَبِي لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوضع بحذاء أبي بكر فِي الصَّفّ) قَالَ أَبُو حَاتِم: فِي هَذِه الصَّلَاة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُوما وَصلى قَاعِدا خلف أبي بكر، فَإِن عَاصِمًا جعل أَبَا بكر مَأْمُوما وَجعل نعيم أَبَا بكر إِمَامًا، وهما ثقتان حَافِظَانِ متقنان. وَذكر أَبُو حَاتِم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بَين الجاريتين إِلَى الْبَاب، وَمن الْبَاب أَخذه الْعَبَّاس وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حَتَّى دخلا بِهِ الْمَسْجِد، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) : (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهادي بَين الرجلَيْن: أُسَامَة وَالْفضل، حَتَّى صلى خلف أبي بكر) ، فِيمَا ذكره السُّهيْلي، وَزعم بعض النَّاس أَن طَرِيق الْجمع أَنهم كَانُوا يتناوبون الْأَخْذ بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ الْعَبَّاس ألزمهم بِيَدِهِ، وَأُولَئِكَ يتناوبونها، فَذكرت عَائِشَة أَكْثَرهم مُلَازمَة ليده وَهُوَ: الْعَبَّاس، وعبرت عَن أحد المتناوبين بِرَجُل آخر. فَإِن قلت: لَيْسَ بَين الْمَسْجِد وبيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسَافَة تَقْتَضِي التناوب. قلت: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لزِيَادَة فِي إكرامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو لالتماس الْبركَة من يَده وَفِي حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ وجعا، فَأمر أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَوجدَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خفَّة فجَاء فَقعدَ إِلَى جنب أبي بكر، فَأم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر وَهُوَ قَاعد، وَأم أَبُو بكر النَّاس وَهُوَ قَائِم) . وَفِي حَدِيث قيس عَن عبد الله ابْن أبي السّفر عَن الأرقم بن شُرَحْبِيل عَن ابْن عَبَّاس عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مَرضه: مروا أَبَا بكر فليصلِّ بِالنَّاسِ، وَوجد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي نَفسه خفَّة، فَخرج يهادي بَين رجلَيْنِ، فَتَأَخر أَبُو بكر فَجَلَسَ إِلَى جنب أبي بكر، فَقَرَأَ من الْمَكَان الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أَبُو بكر من السُّورَة) ، وَفِي حَدِيث ابْن خُزَيْمَة أخرجه عَن سَالم بن عبيد قَالَ: (مرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثمَّ أَفَاق فَقَالَ: أحضرت الصَّلَاة؟ قُلْنَ: نعم. قَالَ: مروا بِلَالًا فليؤذن، ومروا أَبَا بكر فليصلِّ بِالنَّاسِ، ثمَّ أُغمي عَلَيْهِ) . فَذكر الحَدِيث. وَفِيه: (أُقِيمَت الصَّلَاة؟) قُلْنَ: نعم. قَالَ: جيئوني بِإِنْسَان فأعتمد عَلَيْهِ، فجاؤا ببريرة وَرجل آخر فاعتمد عَلَيْهِمَا. ثمَّ خرج إِلَى الصَّلَاة، فأجلس إِلَى جنب أبي بكر فَذهب أَبُو بكر يتَنَحَّى، فأمسكه حَتَّى فرغ من الصَّلَاة) . وَفِي كتاب عبد الرَّزَّاق: أَخْبرنِي ابْن جريج، أَخْبرنِي عَطاء قَالَ: (اشْتَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمر أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنَّاس يَوْمًا قَاعِدا وَجعل أَبَا بكر وَرَاءه بَينه وَبَين النَّاس، قَالَ: فصلى النَّاس وَرَاءه قيَاما، وَإِن صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا) . وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن زَمعَة، لما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مروا أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ) ، خرج عبد الله ابْن زَمعَة، فَإِذا عمر فِي النَّاس، وَكَانَ أَبُو بكر غَائِبا، فَقَالَ: قُم يَا عمر فصلِّ بِالنَّاسِ، فَتقدم، فَلَمَّا سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوته قَالَ: أَيْن أَبُو بكر؟ يَأْبَى الله ذَلِك والمسلمون. فَبعث إِلَى أبي بكر فجَاء بعد أَن صلي عمر تِلْكَ الصَّلَاة، فصلى أَبُو بكر بِالنَّاسِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (والتعظيم لَهَا) ، بِالنّصب عطفا على: الْمُوَاظبَة، قَوْله: (مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ) ، قد بيَّن الزُّهْرِيّ فِي رِوَايَته كَمَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من هَذَا الْبَاب، أَن ذَلِك كَانَ بعد أَن اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض وَاسْتقر فِي بَيت عَائِشَة. قَوْله: (فَأذن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، من: التأذين. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: وَأذن بِالْوَاو، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ أوجه قلت: لم يبين مَا وَجه الأوجهية، بل الْفَاء أوجه على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَإِذن) أَي: بِالصَّلَاةِ كَمَا فِي رِوَايَة أُخْرَى جَاءَ كَذَلِك، وَفِي أُخْرَى: وَجَاء بِلَال يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ، وَفِي أُخْرَى: إِن هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الظّهْر. وَفِي مُسلم: خرج لصَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (مروا) أَصله: أؤمروا، لِأَنَّهُ من: أَمر، فحذفت الْهمزَة للاستثقال، واستغني عَن الْألف فحذفت، فَبَقيَ: مروا، على وزن: علو، لِأَن الْمَحْذُوف فَاء الْفِعْل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا أَمر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر، وَلَفظ: مروا، يدل على أَنهم الأمرون لَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أجَاب بقوله: الْأَصَح عِنْد الأصولي أَن الْمَأْمُور بِالْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا بِهِ، سِيمَا وَقد صرح النَّبِي بقوله هَهُنَا بِلَفْظ الْأَمر، حَيْثُ قَالَ: فَليصل. انْتهى. هَذِه مَسْأَلَة مَعْرُوفَة فِي الْأُصُول، وفيهَا خلاف. قَالَ بَعضهم: إِن الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء يكون أمرا بِهِ، وَمِنْهُم من منع

(5/188)


ذَلِك، وَقَالُوا: مَعْنَاهُ: بلغُوا فلَانا أَنِّي أَمرته. قَوْله: (فَليصل بِالنَّاسِ) الْفَاء فِيهِ للْعَطْف، تَقْدِيره: فَقولُوا لَهُ قولي: فَليصل. قَوْله: (فَقيل لَهُ) ، قَائِل ذَلِك عَائِشَة، كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات. قَوْله: (أسيف) على وزن: فعيل، بِمَعْنى: فَاعل، من الأسف وَهُوَ شدَّة الْحزن، وَالْمرَاد: أَنه رَقِيق الْقلب سريع الْبكاء وَلَا يَسْتَطِيع لغَلَبَة الْبكاء وَشدَّة الْحزن، والأسف عِنْد الْعَرَب شدَّة الْحزن والندم. يُقَال مِنْهُ: أَسف فلَان على كَذَا يأسف، إِذا اشْتَدَّ حزنه، وَهُوَ رجل أسيف وأسوف، وَمِنْه قَول يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {يَا أسفي على يُوسُف} (يُوسُف: 84) يَعْنِي: واحزناه واجزعاه تأسفا وتوجعا لفقده. وَقيل: الأسيف: الضَّعِيف من الرِّجَال فِي بطشه. وَأما الأسف فَهُوَ: الغضبان المتلهف. قَالَ تَعَالَى: {فَرجع مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا} (الْأَعْرَاف: 150) . وَسَيَأْتِي بعد سِتَّة أَبْوَاب من حَدِيث ابْن عمر فِي هَذِه الْقِصَّة، (فَقَالَت لَهُ عَائِشَة: إِنَّه رجل رَقِيق الْقلب إِذا قَرَأَ غَلبه الْبكاء) . وَمن رِوَايَة مَالك عَن هِشَام عَن أَبِيه عَنْهَا، بِلَفْظ، قَالَت عَائِشَة: (قلت: إِن أَبَا بكر إِذا قَامَ فِي مقامك لم يسمع النَّاس من الْبكاء، فَمر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (وَأعَاد) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مقَالَته فِي أبي بكر بِالصَّلَاةِ. قَوْله: (فَأَعَادُوا لَهُ) أَي: من كَانَ فِي الْبَيْت، يَعْنِي: الْحَاضِرُونَ لَهُ مقالتهم فِي كَون أبي بكر أسيفا. فَإِن قلت: الْخطاب لعَائِشَة كَمَا ترى، فَمَا وَجه الْجمع؟ قلت: جمع لأَنهم كَانُوا فِي مقَام الموافقين لَهَا على ذَلِك، وَوَقع فِي حَدِيث أبي مُوسَى بِالْإِفْرَادِ، وَلَفظه: فَعَادَت، وَفِي رِوَايَة ابْن عمر: فعاودته. قَوْله: (فَأَعَادَ الثَّالِثَة) ، أَي: فَأَعَادَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمرة الثَّالِثَة فِي مقَالَته تِلْكَ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (فراجعته مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) .
وَفِي اجْتِهَاد عَائِشَة فِي أَن لَا يتَقَدَّم والدها وَجْهَان: أَحدهمَا: مَا هُوَ مَذْكُور فِي بعض طرقه. (قَالَت) (وَمَا حَملَنِي على كَثْرَة مُرَاجعَته إلاَّ أَنه لم يَقع فِي قلبِي أَن يحب النَّاس من بعده رجلا قَامَ مقَامه أبدا، وَكنت أرى أَنه لن يقوم أحد مقَامه إلاَّ تشاءم النَّاس بِهِ، فَأَرَدْت أَن يعدل ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر) . الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهَا علمت أَن النَّاس علمُوا أَن أَبَاهَا يصلح للخلافة، فَإِذا رَأَوْهُ استشعروا بِمَوْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف غَيره.
قَوْله: (إنكن صَوَاحِب يُوسُف) أَي: مثل صواحبه فِي التظاهر على مَا يردن من كَثْرَة الإلحاح فِيمَا يُمكن إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَن عَائِشَة وَحَفْصَة بالغتا فِي المعاودة إِلَيْهِ فِي كَونه أسيفا لَا يَسْتَطِيع ذَلِك. والصواحب جمع: صَاحِبَة، على خلاف الْقيَاس، وَهُوَ شَاذ. وَقيل: يُرَاد بهَا امْرَأَة الْعَزِيز وَحدهَا، وَإِنَّمَا جمعهَا كَمَا يُقَال: فلَان يمِيل إِلَى النِّسَاء وَإِن كَانَ مَال إِلَى وَاحِدَة، وَعَن هَذَا قيل: إِن المُرَاد بِهَذَا الْخطاب عَائِشَة وَحدهَا، كَمَا أَن المُرَاد زليخا وَحدهَا فِي قصَّة يُوسُف. قَوْله: (فَليصل بِالنَّاسِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (للنَّاس) . قَوْله: (فَخرج أَبُو بكر يُصَلِّي) فَإِن قلت: كَيفَ تتَصَوَّر الصَّلَاة وَقت الْخُرُوج؟ قلت: لفط: يُصَلِّي، وَقع حَالا من الْأَحْوَال المنتظرة. وَفِي رِوَايَة: فصلى، بفاء الْعَطف، وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي، وَرِوَايَة غَيرهمَا: يُصَلِّي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف. وَظَاهره أَنه شرع فِي الصَّلَاة، وَيحْتَمل أَنه تهَيَّأ لَهَا، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْأَكْثَرين لِأَنَّهُ حَال، فَفِي حَالَة الْخُرُوج كَانَ متهيأ للصَّلَاة وَلم يكن مُصَليا. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش: فَلَمَّا دخل فِي الصَّلَاة. قلت: يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: فَلَمَّا أَرَادَ الدُّخُول فِي الصَّلَاة، أَو: فَلَمَّا دخل فِي مَكَان الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة: فَأَتَاهُ الرَّسُول، أَي: بِلَال لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أعلم بِحُضُور الصَّلَاة. وَفِي رِوَايَة: فَقَالَ لَهُ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرك أَن تصلي بِالنَّاسِ. فَقَالَ أَبُو بكر، وَكَانَ رجلا رَقِيقا، يَا عمر! صل بِالنَّاسِ. فَقَالَ لَهُ عمر: أَنْت أَحَق بذلك) . وَقَول أبي بكر هَذَا لم يرد بِهِ مَا أَرَادَت عَائِشَة. قَالَ النَّوَوِيّ: تَأَوَّلَه بَعضهم على أَنه قَالَه تواضعا وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَالَه للْعُذْر الْمَذْكُور، وَهُوَ أَنه رَقِيق الْقلب كثير الْبكاء، فخشي أَن لَا يسمع النَّاس. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فهم من الْإِمَامَة الصُّغْرَى الْإِمَامَة الْكُبْرَى، وَعلم مَا فِي تحملهَا من الْخطر، وَعلم قُوَّة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على ذَلِك فاختاره. وَيُؤَيِّدهُ أَنه عِنْد الْبيعَة أَشَارَ عَلَيْهِم أَن يبايعوه أَو يبايعوا أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح. قَوْله: (فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَفسه خفَّة) ظَاهره: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجدهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاة بِعَينهَا، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك بعْدهَا. وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة: فصلى أَبُو بكر تِلْكَ الْأَيَّام، ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد من نَفسه خفَّة، فعلى هَذَا لَا يتَعَيَّن أَن تكون الصَّلَاة الْمَذْكُورَة هِيَ الْعشَاء، قَوْله: (يهادي بَين رجلَيْنِ) ، بِلَفْظ: الْمَجْهُول من المفاعلة، يُقَال: جَاءَ فلَان يهادي بَين اثْنَيْنِ، إِذا كَانَ يمشي بَينهمَا مُعْتَمدًا عَلَيْهِمَا من ضعفه، متمايلاً، إِلَيْهِمَا فِي مَشْيه من شدَّة الضعْف، وَالرجلَانِ هما: الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على مَا يَأْتِي فِي الحَدِيث الثَّانِي من حَدِيثي الْبَاب، وَقد مر فِي بَيَان اخْتِلَاف

(5/189)


الرِّوَايَات: فَخرج بَين بَرِيرَة ونوبة، بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة؛ وَكَانَ عبدا أسود، وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث سَالم بن عبيد فِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة بِلَفْظ: فَخرج بَين بَرِيرَة وَرجل آخر، وَقَالَ بَعضهم: وَذكره بَعضهم فِي النِّسَاء الصحابيات، وَهُوَ وهم، قلت: أَرَادَ بِالْبَعْضِ الذَّهَبِيّ، فَإِنَّهُ ذكر: نوبَة، فِي بَاب النُّون فِي الصحابيات، وَقَالَ: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مَرضه بَين بَرِيرَة ونوبة، وَإِسْنَاده جيد، وَقد علمت أَن الذَّهَبِيّ من جهابذة الْمُتَأَخِّرين لَا يجاري فِي فنه. قَوْله: (يخطان الأَرْض) أَي: لم يكن يقدر على رفعهما من الأَرْض. قَوْله: (أَن مَكَانك) ، كلمة: أَن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون، ومكانك، مَنْصُوب على معنى: إلزم مَكَانك، وَفِي رِوَايَة عَاصِم: أَن اثْبتْ مَكَانك، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة. فَأَوْمأ إِلَيْهِ بِأَن لَا يتَأَخَّر. قَوْله: (ثمَّ أُتِي بِهِ) بِضَم الْهمزَة أَي: أُتِي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جلس إِلَى جنبه، وَبَين ذَلِك فِي رِوَايَة الْأَعْمَش: حَتَّى جلس عَن يسَار أبي بكر، على مَا سَيَأْتِي فِي: بَاب مَكَان الْجُلُوس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي (شرح مُسلم) : لم يَقع فِي الصَّحِيح بَيَان جُلُوسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ عَن يَمِين أبي بكر أَو عَن يسَاره؟ قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، وَقد بيّن ذَلِك فِي (الصَّحِيح) كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَقيل للأعمش) ، هُوَ سُلَيْمَان، ويروى: قيل، بِدُونِ الْفَاء، وَظَاهر هَذَا أَنه مُنْقَطع لِأَن الْأَعْمَش لم يسْندهُ، لَكِن فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَنهُ ذكر ذَلِك مُتَّصِلا بِالْحَدِيثِ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد من هَذِه الْقِصَّة: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى تَعْظِيم الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة. الثَّانِي: فِيهِ تَقْدِيم أبي بكر وترجيحه على جَمِيع الصَّحَابَة. الثَّالِث: فِيهِ فَضِيلَة عمر بن الْخطاب بعده. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الثَّنَاء فِي الْوَجْه لمن أَمن عَلَيْهِ الْإِعْجَاب. الْخَامِس: فِيهِ ملاطفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأزواجه وخصوصا لعَائِشَة. السَّادِس: فِي هَذِه الْقِصَّة وجوب الْقسم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ فِيهَا: فأذنِّ لَهُ، أَي: فَأَذنت لَهُ نساؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالتمريض فِي بَيت عَائِشَة، على مَا سَيَأْتِي. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز مُرَاجعَة الصَّغِير للكبير. الثَّامِن: فِيهِ الْمُشَاورَة فِي الْأَمر الْعَام. التَّاسِع: فِيهِ الْأَدَب مَعَ الْكَبِير حَيْثُ أَرَادَ أَبُو بكر التَّأَخُّر عَن الصَّفّ. الْعَاشِر: الْبكاء فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا وَإِن كثر، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم حَال أبي بكر فِي رقة الْقلب وَكَثْرَة الْبكاء وَلم يعدل عَنهُ، وَلَا نَهَاهُ عَن الْبكاء. وَأما فِي هَذَا الزَّمَان فقد قَالَ أَصْحَابنَا: إِذا بَكَى فِي الصَّلَاة فارتفع بكاؤه، فَإِن كَانَ من ذكر الْجنَّة أَو النَّار لم يقطع صلَاته، وَإِن كَانَ من وجع فِي بدنه أَو مُصِيبَة فِي مَاله أَو أَهله قطعهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَقَالَ الشَّافِعِي: الْبكاء والأنين والتأوه يبطل الصَّلَاة إِذا كَانَت حرفين، سَوَاء بَكَى للدنيا أَو للآخرة. الْحَادِي عشر: أَن الْإِيمَاء يقوم مقَام النُّطْق، لَكِن يحْتَمل أَن اقْتِصَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِشَارَة أَن يكون لضعف صَوته، وَيحْتَمل أَن يكون للإعلام، بِأَن مُخَاطبَة من يكون فِي الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ أولى من النُّطْق. الثَّانِي عشر: فِيهِ تَأْكِيد أَمر الْجَمَاعَة وَالْأَخْذ فِيهَا بالأشد، وَإِن كَانَ الْمَرَض يرخص فِي تَركهَا، وَيحْتَمل أَن يكون فعل ذَلِك لبَيَان جَوَاز الْأَخْذ بالأمثل، وَإِن كَانَت الرُّخْصَة أولى. الثَّالِث عشر: اسْتدلَّ بِهِ الشّعبِيّ على جَوَاز ائتمام بعض الْمَأْمُومين بِبَعْض، وَهُوَ مُخْتَار الطَّبَرِيّ أَيْضا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ورد بِأَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ مبلغا، وعَلى هَذَا فَمَعْنَى الِاقْتِدَاء اقْتِدَاؤُهُ بِصَوْتِهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَالِسا، وَأَبُو بكر كَانَ قَائِما، فَكَانَت بعض أَفعاله تخفى على بعض الْمَأْمُومين، فلأجل ذَلِك كَانَ أَبُو بكر كَالْإِمَامِ فِي حَقهم. الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على جَوَاز اسْتِخْلَاف الإِمَام لغير ضَرُورَة، لصنيع أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس عشر: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على جَوَاز مُخَالفَة موقف الإِمَام للضَّرُورَة، كمن قصد أَن يبلغ عَنهُ، ويلتحق بِهِ من زحم عَن الصَّفّ. السَّادِس عشر: فِيهِ إتباع صَوت المكبر وَصِحَّة صَلَاة المستمع وَالسَّامِع، وَمِنْهُم من شَرط فِي صِحَّته تقدم إِذن الإِمَام. السَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ الطَّبَرِيّ على أَن للْإِمَام أَن يقطع الِاقْتِدَاء بِهِ، ويقتدي هُوَ بِغَيْرِهِ من غير أَن يقطع الصَّلَاة. الثَّامِن عشر: فِيهِ جَوَاز إنْشَاء الْقدْوَة فِي أثْنَاء الصَّلَاة. التَّاسِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على جَوَاز تقدم إِحْرَام الْمَأْمُوم على الإِمَام، بِنَاء على أَن أَبَا بكر كَانَ دخل فِي الصَّلَاة ثمَّ قطع الْقدْوَة وائتم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَرقم بن شُرَحْبِيل عَن ابْن عَبَّاس: فابتدأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقِرَاءَة من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر، كَمَا قدمْنَاهُ. الْعشْرُونَ: اسْتدلَّ بِهِ على صِحَة صَلَاة الْقَادِر على الْقيام قَائِما خلف الْقَاعِد، خلافًا للمالكية وَأحمد حَيْثُ أوجب الْقعُود على من يُصَلِّي خلف الْقَاعِد. قلت: يُصَلِّي الْقَائِم خلف

(5/190)


الْقَاعِد عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة. وَقَالَ أَحْمد وَالْأَوْزَاعِيّ: يصلونَ خَلفه قعُودا، وَبِه قَالَ حَمَّاد بن زيد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن أَرْبَعَة من الصَّحَابَة وهم: جَابر بن عبد الله، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأسيد ابْن حضير، وَقيس بن فَهد حَتَّى لَو صلوا قيَاما لَا يجزيهم، وَعند مُحَمَّد بن الْحسن: لَا تجوز صَلَاة الْقَائِم خلف الْقَاعِد، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عَنهُ وَزفر. الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: اسْتدلَّ لَهُ ابْن الْمسيب على أَن مقَام الْمَأْمُوم يكون عَن يسَار الإِمَام، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس على يسَار أبي بكر، وَالْجَمَاعَة على خِلَافه، ويتمشى قَوْله على أَن الإِمَام هُوَ أَبُو بكر، وَأما من قَالَ: الإِمَام هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يتمشى. قَوْله: قلت: اخْتلفت الرِّوَايَات: هَل كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإِمَام أَو أَبُو بكر الصّديق؟ فجماعة قَالُوا: الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث عَائِشَة صَرِيح فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ الإِمَام إِذا جلس عَن يسَار أبي بكر، وَلقَوْله: (فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسا وَأَبُو بكر قَائِما يَقْتَدِي بِهِ) ، وَكَانَ أَبُو بكر مبلغا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون للنَّاس إمامان. وَجَمَاعَة قَالُوا: كَانَ أَبُو بكر هُوَ الإِمَام، لما رَوَاهُ شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خلف أبي بكر) وَفِي رِوَايَة مَسْرُوق عَنْهَا: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خلف أبي بكر جَالِسا فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ، وَرُوِيَ حَدِيث عَائِشَة بطرق كَثِيرَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا، وَفِيه اضْطِرَاب غير قَادِح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا تعَارض فِي أحاديثها، فَإِن الصَّلَاة الَّتِي كَانَ فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَامًا هِيَ صَلَاة الظّهْر يَوْم السبت أَو يَوْم الْأَحَد، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَأْمُوما هِيَ صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْإِثْنَيْنِ. وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى خرج من الدُّنْيَا. وَقَالَ نعيم بن أبي هِنْد: الْأَخْبَار الَّتِي وَردت فِي هَذِه الْقِصَّة كلهَا صَحِيحَة، وَلَيْسَ فِيهَا تعَارض، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد، فِي إِحْدَاهمَا كَانَ إِمَامًا، وَفِي الْأُخْرَى كَانَ مَأْمُوما. وَقَالَ الضياء الْمَقْدِسِي وَابْن نَاصِر: صَحَّ وَثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خَلفه مقتديا بِهِ فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ ثَلَاث مَرَّات، وَلَا يُنكر ذَلِك إلاَّ جَاهِل لَا علم لَهُ بالرواية. وَقيل: إِن ذَلِك كَانَ مرَّتَيْنِ جمعا بَين الْأَحَادِيث، وَبِه جزم ابْن حبَان. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْآثَار الصِّحَاح على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الإِمَام. الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: فِيهِ تَقْدِيم الأفقه الأقرأ، وَقد جمع الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَين الْفِقْه وَالْقُرْآن فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا ذكره أَبُو بكر بن الطّيب وَأَبُو عَمْرو الدواني. الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: فِيهِ جَوَاز تَشْبِيه أحد بِأحد فِي وصف مَشْهُور بَين النَّاس. الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أَن للمستخلف أَن يسْتَخْلف فِي الصَّلَاة وَلَا يتَوَقَّف على أذن خَاص لَهُ بذلك.
رواهُ أبُو داوُدَ عنْ شُعْبَةَ عنِ الأعْمَشِ بعْضَهُ
أَي: رُوِيَ الحَدِيث الْمَذْكُور أَبُو دَاوُد وَسليمَان الطَّيَالِسِيّ. قَوْله: (بعضه) ، بِالنّصب بدل: من الضَّمِير الَّذِي فِي: رَوَاهُ، وَرِوَايَته هَذِه وَصلهَا الْبَزَّار، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا أَبُو دَاوُد بِهِ. وَلَفظه: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُقدم بَين يَدي أبي بكر) ، هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصرا، يَعْنِي: يَوْم صلى بِالنَّاسِ وَأَبُو بكر إِلَى جنبه.
وَزَادَ أبُو مُعَاوِيَةَ جَلَسَ عنْ يَسَارِ أبِي بَكرٍ فَكانَ أبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِما
يَعْنِي: زَاد أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن حَازِم الضَّرِير فِي رِوَايَته عَن الْأَعْمَش بِإِسْنَادِهِ، وَهَذِه الزِّيَادَة أسندها البُخَارِيّ فِي: بَاب الرجل يأتم بِالْإِمَامِ ويأتم النَّاس بالمأموم، عَن قُتَيْبَة عَنهُ، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَرَوَاهُ ابْن حبَان عَن الْحسن بن شعْبَان عَن ابْن نمير عَنهُ، بِلَفْظ: (فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَاعِدا وَأَبُو بكر قَائِما) .

665 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ عنْ مَعْمَرٍ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله قَالَ قالَتْ عائِشَةُ لَمَّا ثَقُلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واشْتَدَّ وجَعُهُ اسْتَأذَنَ أزْوَاجَهُ أنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذَنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأرْضِ وكانَ بَيْنَ العَبَّاسِ ورَجلٍ آخَرَ. قَالَ عُبَيْدُ الله بنُ عبْدِ الله فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لابنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عائِشَةُ فقالَ لِي وهَلْ تَدْرِي

(5/191)


مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ قَالَ هُوَ عَلِيُّ بنُ أبِي طالِبٍ.

مناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد بن زَاذَان التَّمِيمِي الْفراء، أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير، روى عَنهُ مُسلم أَيْضا. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين: ابْن رَاشد الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله بتصغير الأول ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: هِشَام بن يُوسُف من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي ويماني وبصري ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة فِي: بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب والقدح والخشب وَالْحِجَارَة عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره مطولا، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي وَفِي الطِّبّ وَفِي الصَّلَاة وَفِي الْهِبَة وَفِي الْخمس وَفِي ذكر اسْتِئْذَان أَزوَاجه. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا وَذكرنَا أَيْضا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَنَذْكُر بعض شَيْء.
فقولها: (ثقل) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وبضم الْقَاف: من الثّقل وَهُوَ عبارَة عَن اشتداد الْمَرَض وتناهي الضعْف وركود الْأَعْضَاء عَن خفَّة الحركات. قَوْله: (اسْتَأْذن) من الاسْتِئْذَان، وَهُوَ طلب الْإِذْن. قَوْله: (فَأذن) ، بتَشْديد نون جمَاعَة النِّسَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (فَأذن) بِلَفْظ الْمَجْهُول قلت: يَعْنِي بِصِيغَة الْإِفْرَاد، ثمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضهَا بِلَفْظ الْمَعْرُوف بِصِيغَة جمع الْمُؤَنَّث، وَجعلهَا رِوَايَة. قَوْله: (لم تسم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: لم مَا سمته ثمَّ قَالَ: مَا سمته تحقيرا أَو عَدَاوَة، حاشاها من ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ثَبت أَيْضا أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَاءَ بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا أُسَامَة وَأَيْضًا أَن الْفضل بن عَبَّاس كَانَ آخِذا بِيَدِهِ الْكَرِيمَة فوجهه أَن يُقَال: إِن الثَّلَاثَة كَانُوا يتناوبون فِي الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، وَكَانَ الْعَبَّاس يلازم الْأَخْذ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وأكرموا الْعَبَّاس باختصاصه بِيَدِهِ واستمرارها لَهُ لما لَهُ من السن والعمومة وَغَيرهمَا، فَلذَلِك ذكرته عَائِشَة مُسَمّى صَرِيحًا وأبهمت الرجل الآخر، إِذْ لم يكن أحدهم ملازما فِي جَمِيع الطَّرِيق وَلَا معظمه، بِخِلَاف الْعَبَّاس. انْتهى. قلت: وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر: وَلَكِن عَائِشَة لَا تطيب نفسا لَهُ بِخَير، وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) : عَن الزُّهْرِيّ: وَلكنهَا لَا تقدر على أَن تذكره بِخَير، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي هَذَا رد على من زعم أَنَّهَا أبهمت الثَّانِي لكَونه لم يتَعَيَّن فِي جَمِيع الْمسَافَة وَلَا معظمها. قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّد على النَّوَوِيّ، وَلكنه مَا صرح باسمه لاعتنائه بِهِ ومحاماته لَهُ.

40 - (بابُ الرُّخْصَةِ فِي المَطَرِ والعِلَّةِ أنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرُّخْصَة عِنْد نزُول الْمَطَر وَعند حُدُوث عِلّة من الْعِلَل الْمَانِعَة من حُضُور الْجَمَاعَة، مثل: الرّيح الشَّديد والظلمة الشَّدِيدَة وَالْخَوْف فِي الطَّرِيق من الْبشر أَو الْحَيَوَان وَنَحْو ذَلِك، وَعطف الْعلَّة على الْمَطَر من عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (أَن يُصَلِّي) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة و: اللَّام، فِيهِ مقدرَة أَي: للصَّلَاة فِي رَحْله، وَهُوَ منزله ومأواه.

666 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ أذَّنَ بِالصَّلاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتَ بَرْدٍ وَرِيحٍ ثمَّ قَالَ إلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ثُمَّ قَالَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَأمُرُ الْمُؤَذِّنَ إذَا كانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ ومَطَرٍ يَقُولُ ألاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ. (انْظُر الحَدِيث 632) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْنَاده بِعَيْنِه مر غير مرّة، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب الْأَذَان للْمُسَافِر: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن عبيد الله بن عمر بن نَافِع، الحَدِيث.

(5/192)


667 - حدَّثنا إسماعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٌ عنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبِيعِ الأَنصَارِيِّ أنَّ عِتْبَانَ بنَ مالِكٍ كانَ يَؤُمُّ قَومَهُ وهُوَ أعْمَى وأنَّهُ قَالَ لِرسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا رسولَ الله إنَّها تكُونُ الظلمَةُ والسَّيْلُ وَأَنا رَجُلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ فَصَلِّ يَا رسولَ الله فِي بَيْتِي مَكانا أتَّخِذُهُ مُصَلى فَجَاءَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ فأشَارَ إلَى مَكانٍ مِنَ البَيْتِ فَصَلَّى فِيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .

مطابقته أَيْضا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث قد مر مطولا فِي: بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت: عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن مَحْمُود بن الرّبيع الْأنْصَارِيّ ... الحَدِيث، وَإِسْمَاعِيل شيخ البُخَارِيّ هُنَا هُوَ ابْن أبي أُويس.
قَوْله: (مَحْمُود بن الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء، وعتبان، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالباء الْمُوَحدَة. قَوْله: (إِنَّهَا) ، أَي: أَن الْقِصَّة، أَو: أَن الْحَالة. قَوْله: (تكون) تَامَّة لَا تحْتَاج إِلَى الْخَبَر. قَوْله: (والسيل) سيل المَاء. قَوْله: (اتَّخذهُ) بِالرَّفْع والحزم. قَوْله: (مصلى) ، بِضَم الْمِيم أَي: موضعا للصَّلَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظلمَة هَل لَهَا دخل فِي الرُّخْصَة أم السَّيْل وَحده يَكْفِي فِيهَا؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ لَا دخل لَهَا وَكَذَا ضرارة الْبَصَر، بل كل وَاحِد من الثَّلَاثَة عذر كَاف فِي ترك الْجَمَاعَة، لَكِن عتْبَان جمع بَين الثَّلَاثَة بَيَانا لتَعَدد أعذاره ليعلم أَنه شَدِيد الْحِرْص على الْجَمَاعَة لَا يَتْرُكهَا إلاَّ عِنْد كَثْرَة الْمَوَانِع.
وَفِيه من الْفَوَائِد: جَوَاز إِمَامَة الْأَعْمَى وَترك الْجَمَاعَة للْعُذْر. والتماس دُخُول الأكابر منزل الأصاغر. واتخاذ مَوضِع معِين من الْبَيْت مَسْجِدا وَغَيره.
قَوْله فِي حَدِيث ابْن عمر: ثمَّ قَالَ هَذَا مشْعر بِأَنَّهُ قَالَه بعد الْأَذَان، وَتقدم فِي بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان أَنه كَانَ فِي اثناء الْأَذَان، فَعلم مِنْهُ جَوَاز الْأَمريْنِ. وَقَوله: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر الْمُؤَذّن) مُحْتَمل لَهما لَا تَخْصِيص لَهُ بِأَحَدِهِمَا. قَوْله: (ذَات برد) بِسُكُون الرَّاء، وَكَذَلِكَ حكمه: فِي لَيْلَة ذَات برد، بِفَتْح الرَّاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ابْن عمر أذن عِنْد الرّيح وَالْبرد، وَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عِنْد الْمَطَر وَالْبرد، فَمَا وَجه استدلاله؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ قَاس الرّيح على الْمَطَر بِجَامِع الْمَشَقَّة، ثمَّ قَالَ: هَل يَكْفِي الْمَطَر فَقَط أَو الرّيح أَو الْبرد فِي رخصَة ترك الْجَمَاعَة أم يحْتَاج إِلَى ضم أحد الْأَمريْنِ بالمطر؟ فَأجَاب: بِأَن كل وَاحِد مِنْهَا عذر مُسْتَقل فِي ترك الْحُضُور إِلَى الْجَمَاعَة نظرا إِلَى الْعلَّة، وَهِي الْمَشَقَّة، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.

41 - (بابٌ هَلْ يُصَلِّي الإِمامُ بِمَنْ حَضَرَ وهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي المَطَرِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: هَل يُصَلِّي الإِمَام بِمن حضر من الَّذين لَهُم الْعلَّة المرخصة للتخلف عَن الْجَمَاعَة؟ يَعْنِي: يُصَلِّي بهم وَلَا يكره ذَلِك؟ فَإِن قلت: فَحِينَئِذٍ مَا فَائِدَة الْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي الرّحال؟ قلت: فَائِدَته الْإِبَاحَة، لِأَن من كَانَ لَهُ الْعذر إِذا تكلّف وَحضر فَلهُ ذَلِك وَلَا حرج عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَهل يخْطب) أَي: الْخَطِيب يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَطَر إِذا حضر أَصْحَاب الْأَعْذَار الْمَذْكُورين، يَعْنِي: يخْطب وَلَا يتْرك وَيُصلي بهم الْجُمُعَة.

668 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الحَمِيدِ صاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنِ الحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابنُ عَبَّاس فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ فَأَمَرَ المُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ قلِ الصَّلاَةَ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَكَأَنَّهُمْ أنْكَرُوا فَقَالَ كأنَّكُمْ أنْكَرْتُمْ هَذَا إنَّ هَذا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّهَا عَزْمَةٌ وإنِّي كَرِهْتُ أنْ أُحْرِجَكُمْ. (انْظُر الحَدِيث 616 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (خَطَبنَا) ، لِأَن ذَلِك كَانَ يَوْم الْجُمُعَة، وَكَانَ يَوْم الْمَطَر. وَمن قَوْله أَيْضا: (إِنَّهَا عَزمَة) أَي: إِن الْجُمُعَة متحتمة، وَمَعَ هَذَا كره ابْن عَبَّاس أَن يكلفهم بهَا لأجل الْحَرج.

(5/193)


ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، والْحَدِيث أَيْضا مضى فِي: بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان. وَأخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب وَعبد الحميد صَاحب الزيَادي وَعَاصِم الْأَحْوَال عَن عبد الله بن الْحَارِث. قَالَ: خَطَبنَا ابْن عَبَّاس. . الحَدِيث. وَفِي متني الحَدِيث تفَاوت يقف عَلَيْهِ المعاود، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع تعلقات الحَدِيث.
وَشَيْخه هُنَا: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم فِي: بَاب ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فِي كتاب الْعلم.
قَوْله: (ذِي ردغ) أَي: ذِي وَحل. قَوْله: (الصَّلَاة) بِالنّصب أَي: الزموها، وَيجوز بِالرَّفْع، أَي: الصَّلَاة رخصَة فِي الرّحال. قَوْله: (كَأَنَّهُمْ) ، ويروى: فكأنهم. قَوْله: (إِن هَذَا فعله) على صِيغَة الْمَاضِي، ويروي: (هَذَا فعل رَسُول الله ت) . قَوْله: (أَن أحرجكم) ، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَفتح الْجِيم: وَمَعْنَاهُ أَن أؤثمكم، من الْإِثْم، وأحرجكم من الإحراج، وثلاثيه من الْحَرج، وَهُوَ الْإِثْم. ويروى: (أَن أخرجكم) من الْإِخْرَاج، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
وعنْ حَمَّادٍ عنْ عَاصِمٍ عنْ عبْدِ الله بنِ الحَارِثِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ نحْوَهُ غَيْرَ أنَّهُ قَالَ كرِهْتُ أنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ وتَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ.
قَوْله: (وَعَن حَمَّاد عَن عَاصِم) عطف على قَوْله: (حَدثنَا حَمَّاد بن زيد) ، وَلَيْسَ بمعلق، وَقد ذكرنَا الْآن أَنه رَوَاهُ فِي: بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان، عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب وَعبد الحميد وَعَاصِم، وَهنا: عَن حَمَّاد عَن عَاصِم وَحده، وَعَاصِم هُوَ الْأَحول. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا، وَلَكِن لما كَانَت فِيهِ زِيَادَة ذكرهَا بقوله: (غير أَنه قَالَ: كرهت أَن أؤثمكم) إِلَى آخِره، وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا: (كرهت أَن أحرجكم) ، وَهنا: أؤثمكم، وَكِلَاهُمَا فِي الْمَعْنى قريب، والتفاوت فِي اللَّفْظ.
ثمَّ هَذِه اللَّفْظَة رويت على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن أؤثمكم، من الإيثام من بَاب الإفعال، يُقَال: آثمه يؤثمه، إِذا أوقعه فِي الْإِثْم. وَالْآخر: أَن أؤثمكم من التأثيم من بَاب التفعيل. قَوْله: (فتجيئون) إِلَى آخِره، زَائِد صرف على الرِّوَايَة الأولى، وتجيئون: بالنُّون على الأَصْل فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فتجيئوا، بِحَذْف النُّون، وَهُوَ لُغَة للْعَرَب حَيْثُ يحذفون نون الْجمع بِدُونِ الْجَازِم والناصب. قَوْله: (وتدوسون الطين) من الدوس وَهُوَ الْوَطْء.

669 - حدَّثنا مَسْلِمُ بنُ إبْرَهِيمَ قَالَ حَدثنَا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ قَالَ سألْتُ أبَا سَعِيدٍ الخدْرِيَّ فَقَالَ جاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سالَ السَّقْفُ وكانَ مَنْ جَرِيدِ النخْلِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَرَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْجُدُ فِي المَاءِ والطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الْجُزْء الأول مِنْهَا من حَيْثُ إِن الْعَادة أَن فِي يَوْم الْمَطَر يتَخَلَّف بعض النَّاس عَن الْجَمَاعَة، فَلَا شكّ أَن صَلَاة الإِمَام تكون حِينَئِذٍ مَعَ من حضر، فينطبق على قَوْله: بَاب هَل يُصَلِّي الإِمَام بِمن حضر؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَإِن صَحَّ أَن هَذَا كَانَ فِي يَوْم الْجُمُعَة فدلالته على الْجُزْء الْأَخير ظَاهِرَة. قلت: سَيَأْتِي فِي الِاعْتِكَاف أَنَّهَا كَانَت فِي صَلَاة الصُّبْح.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير الْيَمَانِيّ الطَّائِي. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وأهوازي ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِكَاف عَن معَاذ بن فضَالة، وَفِي الصَّلَاة فِي موضِعين عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَفِيه أَيْضا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن عبد الله بن مُنِير وَفِي الِاعْتِكَاف أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك وَعَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر وَعَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَعَن ابْن ابي عَمْرو، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عبد بن حميد وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن يحيى

(5/194)


وَعَن مُؤَمل بن الْفضل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاعْتِكَاف عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر بِبَعْضِه وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلت أَبَا سعيد) : المسؤول عَنهُ مَحْذُوف بيَّنه فِي الِاعْتِكَاف وَهُوَ قَوْله: إِن أَبَا سَلمَة قَالَ: (سَأَلت أَبَا سعيد، قلت: هَل سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر لَيْلَة الْقدر؟ قَالَ: نعم) وسرد تَمام الحَدِيث. قَوْله: (حَتَّى سَالَ السّقف) ، هُوَ إِسْنَاد مجازي، لِأَن السّقف لَا يسيل، وَإِنَّمَا يسيل المَاء الَّذِي يُصِيبهُ، وَهَذَا من قبيل قَوْلهم: سَالَ الْوَادي، أَي: مَاء الْوَادي، وَهُوَ من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (وَكَانَ من جريد النّخل) ، أَي: وَكَانَ سقف الْمَسْجِد من جريد النّخل، والجريد بِمَعْنى: المجرود، وَهُوَ الْقَضِيب الَّذِي يجرد عَنهُ الخوص، يَعْنِي: يقشر، وَسَيَأْتِي تَمام الْكَلَام فِي بَاب الِاعْتِكَاف.

670 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أنَسا يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ إنِّي لاَ أسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ وَكَانَ رَجُلاً ضَخْما فَصَنَعَ للنبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما فَدَعَاهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرا ونَضَحَ طَرَفَ الحَصِيرِ فَصَلَّى علَيْهِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الجَارُودِ لأِنَسٍ أكانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلّي الضُّحَى قَالَ مَا رَأيْتُهُ صَلاَّهَا إلاّ يَوْمَئِذٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِسَائِر الْحَاضِرين عِنْد غيبَة الرجل الضخم، فينطبق الحَدِيث على قَوْله: بَاب هَل يُصَلِّي الإِمَام بِمن حضر؟ فَإِن قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث أنس ذكر الْخطْبَة. قلت: لَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي الْبَاب على كل التَّرْجَمَة، بل لَو دلّ الْبَعْض على الْبَعْض لكفى.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك. الثَّالِث: أنس ابْن سِيرِين ابْن أخي مُحَمَّد بن سِيرِين، مولى أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ، مَاتَ بعد سنة عشر وَمِائَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين عسقلاني وواسطي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صَلَاة الضُّحَى عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن سَلام. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ رجل من الْأَنْصَار) ، قَالَ بَعضهم: قيل: إِنَّه عتْبَان بن مَالك وَهُوَ مُحْتَمل لتقارب القضيتين. قلت: هُوَ مُبْهَم لَا يُفَسر بِهَذَا الِاحْتِمَال، وَأَيْضًا من هُوَ هَذَا الْقَائِل؟ ينظر فِيهِ. قَوْله: (مَعَك) أَي: فِي الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد قَوْله: (ضخما) أَي: سمينا، والضخم الغليظ من كل شَيْء. قَوْله: (حَصِيرا) قَالَ ابْن سَيّده: الْحَصِير سَقِيفَة تصنع من بردى واسل ثمَّ تفترش، سمي بذلك لِأَنَّهُ يَلِي وَجه الأَرْض، وَوجه الأَرْض سمي حَصِيرا. وَفِي (الجمهرة) : الْحَصِير عَرَبِيّ، سمي حَصِيرا لانضمام بعضه إِلَى بعض. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَصِير البارية. قَوْله: (ونضح طرف الْحَصِير) ، النَّضْح بِمَعْنى: الرش إِن كَانَت النَّجَاسَة متوهمة فِي طرف الْحَصِير، وَبِمَعْنى: الْغسْل، إِن كَانَت متحققة، أَو يكون النَّضْح لأجل تليينه لأجل الصَّلَاة عَلَيْهِ. قَوْله: (رجل من آل الْجَارُود) ، وَفِي أبي دَاوُد: قَالَ فلَان بن الْجَارُود لأنس، و: الْجَارُود، بِالْجِيم وبضم الرَّاء وَبعد الرَّاء دَال مُهْملَة. قَوْله: (أَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ جَوَاز اتِّخَاذ الطَّعَام لأولي الْفضل ليستفيد من علمهمْ. الثَّانِي: فِيهِ اسْتِحْبَاب إِجَابَة الدعْوَة، وَقيل بِالْوُجُوب. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة على الْحَصِير من غير كَرَاهَة، وَفِي مَعْنَاهُ: كل شَيْء يعْمل من نَبَات الأَرْض، وَهَذَا إِجْمَاع إلاَّ مَا رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يعْمل لأجل التَّوَاضُع كَمَا

(5/195)


فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ بن جبل: (عفر وَجهك بِالتُّرَابِ) فَإِن قلت: مَا تَقول فِي حَدِيث يزِيد بن الْمِقْدَام عِنْد ابْن أبي شيبَة: عَن الْمِقْدَام عَن أَبِيه شُرَيْح أَنه سَأَلَ عَائِشَة: أَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي على الْحَصِير؟ فَإِنِّي سَمِعت فِي كتاب الله عز وَجل {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} (الْإِسْرَاء: 8) . فَقَالَت: لَا لم يكن يُصَلِّي عَلَيْهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لضعف يزِيد، وَيَردهُ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز التَّطَوُّع بِالْجَمَاعَة. الْخَامِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب صَلَاة الضُّحَى، لِأَن أنسا أخبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاهَا، وَلَكِن مَا رَآهَا إلاَّ يَوْمئِذٍ، يَعْنِي: يَوْم كَانَ فِي منزل رجل من الْأَنْصَار. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم هانىء بنت أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (ان رَسُول الله صلى يَوْم الْفَتْح سبْحَة الضُّحَى ثَمَان رَكْعَات يسلم فِي كل رَكْعَتَيْنِ) وَرُوِيَ ايضا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَن عبد الله بن شَقِيق سَأَلَهَا: هَل كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَت: لَا إلاَّ أَن يَجِيء من مغيبه) الحَدِيث. وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مطولا ومختصرا، وَالْجمع بَين حَدِيث عَائِشَة فِي نفي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى وإثباتها هُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصليهَا فِي بعض الْأَوْقَات لفضلها، وَيَتْرُكهَا فِي بَعْضهَا خشيَة أَن تفرض. وَتَأْويل قَوْلهَا: لَا إلاَّ أَن يَجِيء من مغيبه، مَا رَأَيْته، كَمَا قَالَت فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي سبْحَة الضُّحَى) . وَسَببه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا كَانَ يكون عِنْد عَائِشَة فِي وَقت الضُّحَى إلاّ فِي نَادِر من الْأَوْقَات، وَقد يكون فِي ذَلِك مُسَافِرًا، وَقد يكون حَاضرا وَلكنه فِي الْمَسْجِد أَو فِي مَوضِع آخر، وَإِذا كَانَ عِنْد نِسَائِهِ فَإِنَّمَا كَانَ لَهَا يَوْم من تِسْعَة فَيصح قَوْلهَا: مَا رَأَيْته يُصليهَا، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَكَذَا يَصح قَوْلهَا: لَا، كَمَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، أَو يكون معنى قَوْلهَا: لَا مَا رَأَيْته يُصليهَا ويداوم عَلَيْهَا، فَيكون نفيا للمداومة لَا لأصلها. فَافْهَم. فَإِن قلت: قد صَحَّ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ فِي الضُّحَى: هِيَ بِدعَة قلت: هُوَ مَحْمُول على أَن صلَاتهَا فِي الْمَسْجِد والتظاهر بهَا، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِدعَة، لَا أَن أَصْلهَا فِي الْبيُوت وَنَحْوهَا مَذْمُوم، أَو يُقَال: قَوْله: بِدعَة أَي: الْمُوَاظبَة عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يواظب عَلَيْهَا خشيَة أَن تفرض. وَقد يُقَال: إِن ابْن عمر لم يبلغهُ فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى وَأمره بهَا، وَكَيف مَا كَانَ، فجمهور الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الضُّحَى، وَإِنَّمَا نقل التَّوَقُّف فِيهَا عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة عَن تَوْبَة الْعَنْبَري عَن مُورق الْعجلِيّ، قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا عمر؟ قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا أَبُو بكر؟ قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا أخال. حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي عُبَيْدَة، قَالَ: لم يُخْبِرنِي أحد من النَّاس أَنه رأى ابْن مَسْعُود يُصَلِّي الضُّحَى. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز ترك الْجَمَاعَة لأجل السّمن، وَزعم ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : أَنه تتبع الْأَعْذَار الْمَانِعَة من إتْيَان الْجَمَاعَة من السّنَن، فَوَجَدَهَا عشرا: الْمَرَض الْمَانِع من الْإِتْيَان إِلَيْهَا، وَحُضُور الطَّعَام عِنْد الْمغرب، وَالنِّسْيَان الْعَارِض فِي بعض الْأَحْوَال، وَالسمن المفرط، وَوُجُود الْمَرْء حَاجته فِي نَفسه، وَخَوف الْإِنْسَان على نَفسه وَمَاله فِي طَرِيقه إِلَى الْمَسْجِد، وَالْبرد الشَّديد، والمطر المؤذي، وَوُجُود الظلمَة الَّتِي يخَاف الْمَرْء على نَفسه الْمَشْي فِيهَا، وَأكل الثوم والبصل والكراث.

42 - (بابٌ إذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وأُقِيمتِ الصَّلاَةُ)

أَي: هَذَا بَاب ترْجم فِيهِ إِذا حضر الطَّعَام وأقيمت الصَّلَاة، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، تَقْدِيره: يقدم الطَّعَام على الصَّلَاة، وَإِنَّمَا لم يذكر الْجَواب تَنْبِيها على أَن الحكم بِالنَّفْيِ أَو بالإثبات غير مجزوم بِهِ لقُوَّة الْخلاف فِيهِ.
وكانَ ابنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِالعِشَاءِ
هَذَا الْأَثر يبين أَن جَوَاب: إِذا، فِي التَّرْجَمَة الْإِثْبَات، وَفِيه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة، وَهَذَا الْأَثر مَذْكُور فِي الْبَاب بِمَعْنَاهُ مُسْندًا قَرِيبا حَيْثُ قَالَ: (وَكَانَ ابْن عمر يوضع لَهُ الطَّعَام وتقام الصَّلَاة فَلَا يَأْتِيهَا حَتَّى يفرغ وَإنَّهُ ليسمع قِرَاءَة الإِمَام) . وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) من طَرِيق صَحِيح: وتعشى ابْن عمر لَيْلَة وَهُوَ ليسمع الْإِقَامَة، و: الْعشَاء، بِفَتْح الْعين وبالمد: الطَّعَام بِعَيْنِه، وَهُوَ خلاف الْغَدَاء.
وَقَالَ أبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ فِقْهِ المَرْءِ إقْبَالُهُ عَلَى حاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وقَلْبُهُ فارِغٌ
هَذَا الْأَثر مثل ذَلِك فِي بَيَان جَوَاب: إِذا، فِي التَّرْجَمَة. وَفِيه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة، لِأَن معنى قَوْله: (إقباله على حَاجته) أَعم من إقباله إِلَى الطَّعَام إِذا حضر، وَمن قَضَاء حَاجَة نَفسه إِذا دَعَتْهُ إِلَيْهِ. قَوْله: (وَقَلبه فارغ) أَي: من الشواغل الدنياوية ليقف بَين يَدي الرب،

(5/196)


عز وَجل، على أكمل حَال. وَهَذَا الْأَثر وَصله عبد الله بن الْمُبَارك فِي (كتاب الزّهْد) . وَأخرجه مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي فِي (كتاب تَعْظِيم قدر الصَّلَاة) من طَرِيق ابْن الْمُبَارك.

671 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ سَمِعْتُ عائِشةَ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ إذَا وُضِعَ العَشَاءُ وأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فابْدَؤا بِالعِشَاءِ (الحَدِيث 671 طرفه فِي: 5465) .

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا.
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ: ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا وضع) وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن نمير وَحَفْص ووكيع بِلَفْظ: (إِذا حضر) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة السرّاج من طَرِيق يحيى بن سعيد الْأمَوِي عَن هِشَام بن عُرْوَة. (إِذا حضر) ، وَلَكِن الَّذين رَوَوْهُ بِلَفْظ: (إِذا وضع) أَكثر، قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَالْفرق بَين اللَّفْظَيْنِ أَن الْحُضُور أَعم من الْوَضع، فَيحمل قَوْله: (حضر) أَي: بَين يَدَيْهِ، لتتفق الرِّوَايَتَانِ لِاتِّحَاد الْمخْرج. وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أنس الْآتِي بعده بِلَفْظ: (إِذا قدم الْعشَاء) ، وَلمُسلم: (إِذا قرب) ، وعَلى هَذَا فَلَا يناط الحكم بِمَا اذا حضر الْعشَاء، لكنه لم يقرب للْأَكْل كَمَا لَو لم يفرغ، وَنَحْوه. قَوْله: (وإقيمت الصَّلَاة) ، قيل: الْألف وَاللَّام فيهمَا للْعهد، وَهِي: الْمغرب. لقَوْله: (فابدأوا بالعشاء) ، وَيُؤَيّد هَذَا مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (فابدأوا بِهِ قبل أَن تصلوا الْمغرب) . والْحَدِيث يُفَسر بعضه بَعْضًا. وَقيل: الْألف وَاللَّام فِيهِ للاستغراق نظرا إِلَى الْعلَّة وَهِي التشويش المفضي إِلَى ترك الْخُشُوع، وَذكر الْمغرب لَا يَقْتَضِي الْحصْر فِيهَا، لِأَن الجائع غير الصَّائِم قد يكون أشوق إِلَى الْأكل من الصَّائِم. قَوْله: ((فابدأوا) اخْتلفُوا فِي هَذَا الْأَمر، فالجمهور على أَنه للنَّدْب. وَقيل: للْوُجُوب، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة، وَقَالُوا: لَا يجوز لأحد حضر طَعَامه بَين يَدَيْهِ وَسمع الْإِقَامَة أَن يبْدَأ بِالصَّلَاةِ قبل الْعشَاء، فَإِن فعل فَصلَاته بَاطِلَة، وَالْجُمْهُور على الصِّحَّة وعَلى عدم الْإِقَامَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي هَذَا الْبَاب كَرَاهَة للصَّلَاة بِحَضْرَة الطَّعَام الَّذِي يُرِيد أكله، لما فِيهِ من اشْتِغَال الْقلب وَذَهَاب كَمَال الْخُشُوع، وَهَذِه الْكَرَاهَة إِذا صلى كَذَلِك، وَفِي الْوَقْت سَعَة فَإِن ضَاقَ بِحَيْثُ لَو أكل خرج الْوَقْت لَا يجوز تَأْخِير الصَّلَاة. ولأصحابنا وَجه: أَنه يَأْكُل وَإِن خرج الْوَقْت، لِأَن الْمَقْصُود من الصَّلَاة الْخُشُوع فَلَا يفوتهُ. وَفِيه: دَلِيل على امتداد وق الْمغرب، وعَلى أَنه يَأْكُل حَاجته من الْأكل بِكَمَالِهِ. وَقَالَ فِي (شرح السّنة) : الِابْتِدَاء بِالطَّعَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا كَانَت نَفسه شَدِيدَة التوقان إِلَى الْأكل، وَكَانَ فِي الْوَقْت سَعَة، وإلاّ فَيبْدَأ بِالصَّلَاةِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحتز من كتف شَاة، فدعي إِلَى الصَّلَاة فألقاها وَقَامَ يُصَلِّي. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: يؤول هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث الحز من كتف شَاة بِأَن من شرع فِي الْأكل ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة أَنه يقوم إِلَى الصَّلَاة وَلَا يتمادى فِي الْأكل، لِأَنَّهُ قد أَخذ مِنْهُ مَا يمنعهُ من شغل البال، وَإِنَّمَا الَّذِي أَمر بِالْأَكْلِ قبل الصَّلَاة من لم يكن بَدَأَ بِهِ لِئَلَّا يشْتَغل باله بِهِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَيرد هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث ابْن عَمْرو: لَا يعجل حَتَّى يقْضِي حَاجته. انْتهى. قيل لَا رد عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَقُول: أَنه قد قضى حَاجته، كَمَا فِي الحَدِيث، إِذْ لَيْسَ من شَرطه أَنه يَسْتَوْفِي أكل الْكَتف لَا سِيمَا قلَّة أكله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه يَكْتَفِي بحزة وَاحِدَة، وَلَكِن لقَائِل أَن يَقُول: لَيست الصَّلَاة الَّتِي دعِي إِلَيْهَا فِي حَدِيث عَمْرو بن أُميَّة، وَهُوَ حَدِيث الحز من كتف الشَّاة، أَنَّهَا الْمغرب، وَإِذا ثَبت ذَلِك زَالَ مَا يؤول بِهِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذِه الْأَحَادِيث، فَذكر ابْن الْمُنْذر أَنه قَالَ بظاهرها عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَأَصله: شغل الْقلب وَذَهَاب كَمَال الْخُشُوع. وَقَالَ الشَّافِعِي: يبْدَأ بالعشاء إِذا كَانَت نَفسه شَدِيدَة التوقان إِلَيْهِ، فَإِن لم يكن كَذَلِك ترك الْعشَاء، وإتيان الصَّلَاة أحب إِلَيّ. وَذكر ابْن حبيب مثل مَعْنَاهُ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر، عَن مَالك: يبْدَأ بِالصَّلَاةِ إلاّ أَن يكون طَعَاما خَفِيفا. وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ حميد: كُنَّا عِنْد أنس، فَأذن بالمغرب، فَقَالَ أنس: ابدأوا بالعشاء، وَكَانَ عشاؤه خَفِيفا. وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: لَا يُصَلِّي بِحَال، بل يَأْكُل وَإِن خرج الْوَقْت، وَالصَّوَاب خِلَافه، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقد ظن قوم أَن هَذَا من بَاب تَقْدِيم حَظّ العَبْد على حق الْحق، عز وَجل، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة لحق الْحق ليدْخل الْعِبَادَة بقلوب غير مَشْغُولَة. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُؤخر الصَّلَاة لطعام وَلَا لغيره) . قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، فبالضعيف لَا يعْتَرض على الصَّحِيح، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَلهُ معنى غير معنى الآخر، بِمَعْنى إِذا وَجَبت

(5/197)


لَا تُؤخر، وَإِذا كَانَ الْوَقْت بَاقِيا يبْدَأ بالعشاء فَاجْتمع مَعْنَاهُمَا وَلم يتهاترا.

672 - حدَّثنا يحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَس بنِ مالِكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا قُدِّمَ العَشَاءُ فَابْدَؤوا بِهِ قَبْلَ أنْ تُصَلوا صَلاَةَ المَغْرِبِ وَلاَ تَعْجَلُوا عنْ عَشَائِكُمْ. (الحَدِيث 672 طرفه فِي: 5463) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لَكِن التَّرْجَمَة أَعم مِنْهُ وَهُوَ يَشْمَل الْمغرب وَغَيرهَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة تكَرر ذكرهم، وَاللَّيْث: هُوَ ابْن سعد، وَعقيل، بِضَم الْعين: هُوَ ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن عقيل، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي عقيل وَفِيه.: ابْن شهَاب عَن أنس، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي أنس. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ مَنْسُوب إِلَى جده وَهُوَ: يحيى بن عبد الله ابْن بكير. وَفِيه: الِاثْنَان الْأَوَّلَانِ مصريان، وَالثَّالِث إيلي، وَابْن شهَاب مدنِي.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع أخر، وَلمُسلم: (إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَالْعشَاء فابدأوا بالعشاء) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قدم الْعشَاء) ، زَاد ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُوسَى بن أعين: عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن ابْن شهَاب: (وأحدكم صَائِم) . وَقد أخرج مُسلم من طَرِيق ابْن وهب عَن عَمْرو بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة، وَذكر الطَّبَرَانِيّ أَن مُوسَى بن أعين تفرد بهَا. قلت: مُوسَى ثِقَة مُتَّفق عَلَيْهِ، وَلما ذكر الدَّارَقُطْنِيّ هَذِه الزِّيَادَة قَالَ: وَلَو لم تصح هَذِه الزِّيَادَة لَكَانَ مَعْلُوما من قَاعِدَة الشَّرْع الْأَمر بِحُضُور الْقلب فِي الصَّلَاة والإقبال عَلَيْهَا. قَوْله: (وَلَا تعجلوا) ، بِفَتْح التَّاء وَالْجِيم، من الثلاثي، ويروى: بِضَم التَّاء وَكسر الْجِيم، من الْأَفْعَال.

673 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أبِي أُسَامَةَ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسولْ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا وُضِعَ عَشَاءُ أحَدِكُمْ وأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فابْدَؤا بالعَشَاءِ ولاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهُ. وكانَ ابنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وتُقَامُ الصَّلاَةُ فَلاَ يَأتِيهَا حَتَّى يَفْرَغَ وإنَّهُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإمَام.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد بن إِسْمَاعِيل الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وَالْبَاقِي عنعنة.
وَأخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (وَلَا يعجل) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْأَحَد فِي: أحدكُم، قَالَ الطَّيِّبِيّ: الْأَحَد إِذا كَانَ فِي سِيَاق النَّفْي يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع، وَفِي الحَدِيث فِي سِيَاق الْإِثْبَات، فَكيف وَجه الْأَمر إِلَيْهِ تَارَة بِالْجمعِ وَأُخْرَى بِالْإِفْرَادِ؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ جمع نظرا إِلَى لفظ: كم، وأفرد نظرا إِلَى لفظ الْأَحَد، وَالْمعْنَى: إِذا وضع عشَاء أحدكُم فابدأوا انتم بالعشاء، وَلَا يعجل هُوَ حَتَّى يفرغ مَعكُمْ مِنْهُ. قَوْله: (وَكَانَ ابْن عمر) ، هُوَ مَوْصُول عطفا على الْمَرْفُوع، وَقد رَوَاهُ السراج من طَرِيق يحيى بن سعيد عَن عبد الله عَن نَافِع فَذكر الْمَرْفُوع، ثمَّ قَالَ: قَالَ نَافِع: وَكَانَ ابْن عمر إِذا حضر عشاؤه وَسمع الْإِقَامَة وَقِرَاءَة الإِمَام لم يقم حَتَّى يفرغ. قَوْله: (وَإنَّهُ يسمع) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (ليسمع) ، بلام التَّأْكِيد فِي أَوله.

674 - حدَّثنا وقالَ زُهَيْرٌ ووَهَبُ بنُ عُثْمَانَ عَن مُوسَى بنِ عُقْبَةِ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا كانَ أحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِي حاجَتَهُ مِنْهُ وإنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ. (انْظُر الحَدِيث 673 وطرفه) .

زُهَيْر، بِضَم الزَّاي: هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، ووهب عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (عَن مُوسَى بن عقبَة) يَعْنِي: يرويان عَن مُوسَى عَن نَافِع إِلَى آخِره، وَهَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَزعم الْحميدِي فِي كِتَابه (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) : أَن الشَّيْخَيْنِ خرجاه من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة غير صَوَاب، لِأَن البُخَارِيّ علقه كَمَا ترى. وَأما مُسلم فَإِنَّهُ خرجه فِي (صَحِيحه) عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن

(5/198)


أنس بن عِيَاض عَن مُوسَى، وَطَرِيق زُهَيْر الْمَذْكُورَة وَصلهَا أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) .
قالَ أبُو عَبْدِ الله رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ عنْ وَهَبِ بنِ عُثْمَانَ وَوَهْبٌ مَدِينِيٌّ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن وهب بن عُثْمَان، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر من شُيُوخ البُخَارِيّ، وَمن أَفْرَاده، ووهب بن عُثْمَان اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ هَهُنَا، وَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن عقبَة أَيْضا حَفْص بن ميسرَة وَأَيْضًا أخرجه الْبَيْهَقِيّ. قَوْله: (ووهب مديني) ، بِكَسْر الدَّال، ويروى: مدنِي، بِفَتْحِهَا، وَكِلَاهُمَا نِسْبَة إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غير أَن الْقيَاس فتح الدَّال كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى ربيعَة: ربعي، وَإِلَى جذيمة: جذمي. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة ذكر البُخَارِيّ نِسْبَة وهب بقوله مديني أَو مدنِي؟ قلت: لم يظْهر لي شَيْء يجدي إلاَّ أَنه أَشَارَ إِلَى أَنه مديني، كَمَا أَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الَّذِي روى عَنهُ مدنِي أَيْضا.

43 - (بابُ إذَا دُعِيَ الإمامُ إلَى الصَّلاَةِ وَبِيَدِهِ مَا يأكُلُ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا دعى الإِمَام إِلَى آخِره، وَالْوَاو فِي: (وَبِيَدِهِ) ، للْحَال. قَوْله: (مَا يَأْكُل) : مَا، مَوْصُولَة: وَيَأْكُل، صلتها، والعائد مَحْذُوف وَالتَّقْدِير: مَا يَأْكُلهُ، ومحلها مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره هُوَ قَوْله: (بِيَدِهِ) ، وَيجوز أَن تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير: وَبِيَدِهِ الْأكل، أَي: الْمَأْكُول، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب السَّابِق، تَنْبِيها على أَن الْأَمر فِيهِ للنَّدْب لَا للْإِيجَاب، إِذْ لَو كَانَ تَقْدِيم الْعشَاء على الصَّلَاة الَّتِي أُقِيمَت وَاجِبا، لَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل أكله وَلَا ألْقى السكين فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي فِي الْبَاب، وَلَا قَامَ إِلَى الصَّلَاة. فَإِن قلت: الْعلَّة فِي تَقْدِيم الْعشَاء إخلاء الْقلب عَن الشواغل الَّتِي أكبرها ميل النَّفس إِلَى الطَّعَام الَّذِي حضر، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَوِيا على مدافعة قُوَّة الشَّهْوَة: (وَأَيكُمْ يملك أربه) قلت: لَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ فِي خَاصَّة نَفسه بالعزيمة فَقدم الصَّلَاة على الطَّعَام، وَأمر غَيره بِالرُّخْصَةِ. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تَقْيِيد التَّرْجَمَة بِالْإِمَامِ؟ قلت: تَقْيِيده بِهِ يحْتَمل أَنه يرى التَّفْصِيل بَين مَا إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة قبل الشُّرُوع فِي الْأكل أَو بعده، كَمَا ذهب إِلَيْهِ قوم كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ إِنَّه يرى بِأَن يكون الإِمَام مَخْصُوصًا بِهِ، وَغَيره من الْمَأْمُومين يكون الْأَمر مُتَوَجها إِلَيْهِم على الْإِطْلَاق.

675 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ عَنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي جَعْفَرُ بنُ عَمْرو بنِ أُمَيَّةَ أنَّ أبَاهُ قَالَ رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأكُلُ ذِرَاعا يَحْتَزُّ مِنْهَا فَدُعِيَ إلَى الصَّلاَةِ فقامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ فَصَلَّى ولَمْ يَتَوَضَّأ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ مَا تضمنه معنى الحَدِيث وَهُوَ ظَاهر.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن يحيى بن عَمْرو أَبُو الْقَاسِم الأويسي الْمدنِي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي الْمدنِي. السَّادِس: أَبوهُ عَمْرو بن أُميَّة بن خويلد، أَبُو أُميَّة الضمرِي شهد بَدْرًا وأحدا مُشْركًا، وَأسلم بعد، وَعَمْرو قَالَ الْوَاقِدِيّ: بَقِي إِلَى دهر مُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ، وَمَات بهَا. وَقد مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب من لم يتَوَضَّأ من لحم الشَّاة، وتكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَالله تَعَالَى أعلم.