عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 44 - (بابُ منْ كانَ فِي حاجَةِ أهْلِهِ
فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَخَرَجَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من كَانَ ... إِلَى
آخِره، وَأَشَارَ بِهَذَا الْبَاب إِلَى أَن حكم هَذَا
خلاف حكم الْبَاب السَّابِق، إِذْ لَو قيس عَلَيْهِ
(5/199)
كل أَمر تتشوق النَّفس إِلَيْهِ لم يبْق
للصَّلَاة وَقت، وَإِنَّمَا حكم هَذَا أَن من كَانَ فِي
حَاجَة بَيته فأقيمت الصَّلَاة يخرج إِلَيْهَا وَيتْرك
تِلْكَ الْحَاجة، بِخِلَاف مَا إِذا حضر الْعشَاء، وأقيمت
الصَّلَاة، فَإِنَّهُ يقدم الْعشَاء على الصَّلَاة إلاَّ
إِذا خَافَ فَوتهَا.
676 - حدَّثنا ادَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا
الحَكَمُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ قَالَ سَألْتُ
عائِشَةَ مَا كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قالَتْ كانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ
أهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ فإذَا حَضَرَتِ
الصَّلاَةُ خَرَجَ إلَى الصَّلاَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وآدَم ابْن إِيَاس، وَالْحكم،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف: ابْن عُيَيْنَة،
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ؛ وَالْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع
والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن خَاله،
وَهُوَ إِبْرَاهِيم يروي عَن خَاله الْأسود.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن حَفْص بن
عمر، وَفِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن عرْعرة. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن هناد عَن وَكِيع، وَقَالَ:
صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا كَانَ) ، كلمة: مَا،
للاستفهام. قَوْله: (كَانَ يكون) فَائِدَة تَكْرِير:
الْكَوْن، الِاسْتِمْرَار وَبَيَان أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يداوم عَلَيْهَا. وَاسم: كَانَ، ضمير الشان.
قَوْله: (فِي مهنة أَهله) ، بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا
وَسُكُون الْهَاء، وَقد فَسرهَا آدم شيخ البُخَارِيّ فِي
نفس الحَدِيث، بقوله: (تَعْنِي: خدمَة أَهله) . وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: المهنة، بِالْفَتْح: الْخدمَة. وَقَالَ ابْن
سَيّده: المهنة: الحذق بِالْخدمَةِ، وَالْعَمَل، وَقَالَ
بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا، وَفتح الْهَاء أَيْضا. وَأنكر
الْأَصْمَعِي الْكسر، فَقَالَ: مهنهم يمهنهم مهنا، ومهنة،
من بَاب: نصر ينصر، والماهن الْخَادِم، وَجمعه: مهان
ومهنة، بِفَتْح الْمِيم وَالْهَاء. وَوَقع فِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي وَحده: فِي مهنة بَيت أَهله. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْبَيْت تَارَة يُضَاف إِلَى الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَتارَة إِلَى أَهله، وَهُوَ فِي
الْوَاقِع إِمَّا لَهُ أَو لَهُم. ثمَّ أجَاب بقوله:
فِيمَا أَثْبَتَت الملكية فالإضافة حَقِيقِيَّة، وَفِيمَا
لم تثبت فالإضافة فِيهِ بِأَدْنَى مُلَابسَة، وَهُوَ نَحْو
كَونه مسكنا لَهُ. وَقد وَقع المهنة مفسرة فِي
(الشَّمَائِل) لِلتِّرْمِذِي، من طَرِيق عمْرَة عَن
عَائِشَة بِلَفْظ: (مَا كَانَ إلاَّ بشرا من الْبشر يفلي
ثَوْبه ويحلب شاته ويخدم نَفسه) . وَلأَحْمَد وَابْن حبَان
من رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا: (يخيط ثَوْبه ويخصف نَعله) .
وَزَاد ابْن حبَان: (ويرقع دلوه) ، وَزَاد الْحَاكِم فِي
الإكليل) : (وَمَا رَأَيْته ضرب بِيَدِهِ امْرَأَة وَلَا
خَادِمًا) .
45 - (بابُ مَنْ صَلَّى بالنَّاسِ وَهْوَ لاَ يُرِيدُ
إلاَّ أنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاَةَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وسُنَّتَهْ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمَة: من صلى بِالنَّاسِ ... إِلَى
آخِره. و: الْوَاو، فِي قَوْله: وَهُوَ، للْحَال. قَوْله:
(وَسنة) . وَهُوَ بِالنّصب عطف على صَلَاة النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
677 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أيوبُ عنْ أبي قِلاَبَةَ قَالَ
جاءَنا مالِكُ بنُ الحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا
فقالَ أنِّي لأصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ
أُصَلِّي كَيْفَ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي فَقُلْتُ لأبِي قِلاَبَةَ كَيْفَ كانَ يُصَلِّي
قَالَ مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا وكانَ شَيْخا يَجْلِسُ إذَا
رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أنْ يَنْهَضَ فِي
الرَّكْعَةِ الأولَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
أَبُو سَلمَة التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: وهيب تَصْغِير وهب
بن خَالِد صَاحب الْكَرَابِيسِي. الثَّالِث: أَيُّوب بن
أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة
عبد الله بن زيد الْجرْمِي. الْخَامِس: مَالك بن
الْحُوَيْرِث اللَّيْثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ لِأَن
أَيُّوب رأى أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون، وَمَالك بن الْحُوَيْرِث
سكن الْبَصْرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه
(5/200)
وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُعلى بن أَسد، وَعَن سُلَيْمَان
بن حَرْب وَأبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل، وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَزِيَاد بن أَيُّوب.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن
مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي مَسْجِدنَا هَذَا) ،
الظَّاهِر أَنه مَسْجِد الْبَصْرَة. قَوْله: (إِنِّي
لأصلي) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَهِي مَفْتُوحَة.
قَوْله: (وَمَا أُرِيد الصَّلَاة) : الْوَاو، فِيهِ
للْحَال أَي: لَيْسَ مَقْصُود أَدَاء فرض الصَّلَاة،
لِأَنَّهُ لَيْسَ وَقت الْفَرْض، أَو لِأَنِّي صليته، بل
الْمَقْصُود أَن أعلمكُم صَلَاة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وكيفيتها. فَإِن قلت: فِي هَذَا النَّفْي
يلْزم وجود الصَّلَاة بِغَيْر قربَة، وَهَذَا لَا يَصح؟
قلت: أوضحت لَك مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ مُرَاده نفي
الْقرْبَة، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان أَن السَّبَب الْبَاعِث
لَهُ على ذَلِك قصد التَّعْلِيم. فَإِن قلت: هَل تعين
التَّعْلِيم عَلَيْهِ حَتَّى فعل ذَلِك؟ قلت: يحْتَمل
ذَلِك لِأَنَّهُ أحد من خُوطِبَ بذلك فِي قَوْله: (صلوا
كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) . فَإِن قلت: فِيهِ نوع
التَّشْرِيك فِي الْعِبَادَة قلت: لَا، لِأَن قَصده كَانَ
التَّعْلِيم وَلَيْسَ للتشريك فِيهِ دخل. قَوْله:
(أُصَلِّي كَيفَ رَأَيْت) أَي: أُصَلِّي هَذِه الصَّلَاة
على الْكَيْفِيَّة الَّتِي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي، وَفِي الْحَقِيقَة، كَيفَ، مفعول
فعل مُقَدّر، تَقْدِيره: أريكم كَيفَ رَأَيْت، وَالْمرَاد
من الرُّؤْيَة لازمها، وَهِي كَيْفيَّة صلَاته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن كَيْفيَّة الرُّؤْيَة لَا يُمكن أَن
يُرِيهم إِيَّاهَا. قَوْله: (فَقلت لأبي قلَابَة)
الْقَائِل هُوَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. قَوْله: (مثل
شَيخنَا) ، هَذَا هُوَ عَمْرو بن سَلمَة، كَمَا سَيَأْتِي
فِي: بَاب اللّّبْث بَين السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ أَيُّوب:
وَكَانَ ذَلِك الشَّيْخ يتم الرُّكُوع، وَإِذا رفع رَأسه
من السَّجْدَة الثَّانِيَة جلس وَاعْتمد على الأَرْض ثمَّ
قَامَ. قَوْله: (فِي الرَّكْعَة الأولى) يتَعَلَّق بقوله:
(من السُّجُود) أَي: السُّجُود الَّذِي فِي الرَّكْعَة
الأولى، لَا بقوله: قبل أَن ينْهض، لِأَن النهوض يكون
مِنْهَا لَا فِيهَا، وَيجوز أَن يكون فِي الرَّكْعَة
الأولى خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا الْجُلُوس أَو
هَذَا الحكم بِهِ كَانَ فِي الرَّكْعَة الأولى، وَيجوز أَن
تكون كلمة: فِي، بِمَعْنى: من فَإِن قلت: هَل جَاءَ: فِي،
بِمَعْنى: من؟ قلت: نعم، كَمَا فِي قَول امرىء الْقَيْس:
(وَهل يعمن من كَانَ أحدث عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي
ثَلَاث أَحْوَال)
أَي: من ثَلَاثَة أَحْوَال. فَإِن قلت: هَذِه ضَرُورَة
الشَّاعِر قلت: لَا ضَرُورَة هُنَا لِأَن هَذَا من
الطَّوِيل فَلَو قَالَ: من، لَا يخْتل الْوَزْن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك: احْتج بِهِ
الشَّافِعِي وَقَالَ: إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة
الثَّانِيَة يجلس جلْسَة خَفِيفَة ثمَّ ينْهض مُعْتَمدًا
يَدَيْهِ على الأَرْض. وَفِي (التَّلْوِيح) : اخْتلف
الْعلمَاء فِي هَذِه الجلسة الَّتِي تسمى: جلْسَة
الاسْتِرَاحَة، عقيب الْفَرَاغ من الرَّكْعَة الأولى
وَالثَّالِثَة، فَقَالَ بهَا الشَّافِعِي فِي قَول: وَزعم
ابْن الْأَثِير أَنَّهَا مُسْتَحبَّة. وَقَالَ فِي (الام)
: يقوم من السَّجْدَة الثَّانِيَة، وَلم يَأْمر
بِالْجُلُوسِ. فَقَالَ بعض أَصْحَابه: إِن ذَلِك على
اخْتِلَاف حَالين إِن كَانَ كَبِيرا أَو ضَعِيفا جلس،
وإلاَّ لم يجلس. وَقَالَ بعض أَصْحَابه: فِي الْمَسْأَلَة
قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يجلس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة
وَمَالك وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق، وَرُوِيَ ذَلِك
عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعمر وَعلي
وَأبي الزِّنَاد وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَ ابْن قدامَة:
وَعَن أَحْمد قَول: إِنَّه يجلس، وَهُوَ اخْتِيَار
الْخلال. وَقيل: إِنَّه فصل بَين الضَّعِيف وَغَيره.
وَقَالَ أَحْمد: وَترك الْجُلُوس عَلَيْهِ أَكثر
الْأَحَادِيث. وَقَالَ النُّعْمَان بن أبي عَيَّاش:
أدْركْت غير وَاحِد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا يجلس. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَعَلِيهِ
الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم. وَقَالَ أَبُو (الزِّنَاد:
تِلْكَ السّنة، وَأَجَابُوا عَن حَدِيث مَالك بن
الْحُوَيْرِث بِأَنَّهُ: يحْتَمل ذَلِك أَن يكون بِسَبَب
ضعف كَانَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
السفاقسي: قَالَ أَبُو عبد الْملك: كَيفَ ذهب هَذَا
الَّذِي أَخذ بِهِ الشَّافِعِي على أهل الْمَدِينَة
وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي بهم عشر
سِنِين، وَصلى بهم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان
وَالصَّحَابَة والتابعون؟ فَأَيْنَ كَانَ يذهب عَلَيْهِم
هَذَا الْمَذْهَب؟ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَالنَّظَر يُوجب
أَنه لَيْسَ بَين السُّجُود وَالْقِيَام جُلُوس، لِأَن من
شَأْن الصَّلَاة التَّكْبِير فِيهَا والتحميد عِنْد كل خفض
وَرفع وانتقال من حَال إِلَى حَال، فَلَو كَانَ بَينهمَا
جُلُوس لاحتاج أَن يكبر عِنْد قِيَامه من ذَلِك الْجُلُوس
تَكْبِيرَة، كَمَا يكبر عِنْد قِيَامه من الْجُلُوس فِي
صلَاته إِذا أَرَادَ الْقيام إِلَى الرَّكْعَة الَّتِي بعد
الْجُلُوس. وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يعْتَمد
عِنْد قِيَامه، وَفعله مَسْرُوق وَمَكْحُول وَعَطَاء
وَالْحسن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد محتجين بِهَذَا
الحَدِيث. وَأَجَازَهُ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) ثمَّ
كرهه، وَرَأَتْ طَائِفَة أَن لَا يعْتَمد على يَدَيْهِ
إلاَّ أَن يكون شَيخا أَو مَرِيضا، وَقَالَ ابْن بطال:
رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري، وَكره
الِاعْتِمَاد ابْن سِيرِين وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) .
وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَهُوَ حَدِيث مَالك بن
الْحُوَيْرِث، مَحْمُول على فعله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، بعد
(5/201)
مَا كبر وأسن. قلت: فِيهِ تَأمل، لِأَن
إنهاء مَا عمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاث
وَسِتُّونَ سنة، وَفِي هَذَا الْقدر لَا يعجز الرجل عَن
النهوض، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا كَانَ لعذر مرض أَو
جِرَاحَة وَنَحْوهمَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَحمل مَالك
هَذَا الحَدِيث على حَالَة الضعْف بعيد، وَكَذَا قَول من
قَالَ أَن مَالك بن الْحُوَيْرِث رجل من أهل الْبَادِيَة
أَقَامَ عِنْد رَسُول الله عشْرين لَيْلَة وَلَعَلَّه
رَآهُ فعل ذَلِك فِي صَلَاة وَاحِدَة لعذر فَظن أَنه من
سنة الصَّلَاة أبعد، وَأبْعد لَا يُقَال ذَلِك فِيهِ.
وجلسة الاسْتِرَاحَة ثَابِتَة فِي حَدِيث أبي حميد
الساعدة، لَا كَمَا نفاها الطَّحَاوِيّ، بل هِيَ ثَابِتَة
فِي حَدِيث الْمُسِيء فِي صلَاته فِي البُخَارِيّ. انْتهى.
قلت: مَا نفى الطَّحَاوِيّ إلاَّ كَونهَا سنة، وَكَيف وَقد
روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْهض فِي الصَّلَاة
مُعْتَمدًا على صُدُور قَدَمَيْهِ) . وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث عَلَيْهِ الْعَمَل عِنْد
أهل الْعلم. فَإِن قلت: فِي سَنَده خَالِد بن إِيَاس،
وَقيل: خَالِد بن إِيَاس ضعفه البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ
وَأحمد وَابْن معِين؟ قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: مَعَ ضعفه
يكْتب حَدِيثه، ويقويه مَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة فِي
ذَلِك على مَا ذَكرْنَاهُ.
وَفِيه: دَلِيل على أَنه يجوز للرجل أَن يعلم غَيره
الصَّلَاة وَالْوُضُوء، عملا وعيانا، كَمَا فعل جِبْرِيل،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: أَن التَّعْلِيم بِالْفِعْلِ أوضح
من القَوْل.
46 - (بابٌ أهْلُ العِلْمِ والفَضْلِ أحَقُّ بِالإمَامةِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق
بِالْإِمَامَةِ من غَيرهم مِمَّن لَيْسَ من أهل الْعلم،
وَقَالَ بَعضهم: وَمُقْتَضَاهُ أَن الأعلم وَالْأَفْضَل
أَحَق من الْعَالم والفاضل. قلت: هَذَا التَّرْكِيب لَا
يَقْتَضِي أصلا هَذَا الْمَعْنى، بل مُقْتَضَاهُ أَن
الْعَالم أَحَق من الْجَاهِل، والفاضل أَحَق من غَيره
الْفَاضِل. ثمَّ قَالَ: وَذكر الْفضل بعد الْعلم من ذكر
الْعَام بعد الْخَاص. قلت: هَذَا إِنَّمَا يتمشى إِذا
أُرِيد من لفظ الْفضل معنى الْعُمُوم، وَأما إِذا أُرِيد
مِنْهُ معنى خَاص لَا يتمشى هَذَا على مَا لَا يخفى.
678 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قَالَ حدَّثنا حُسَيْنٌ
عَن زَائِدَةَ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ قَالَ
حدَّثني أبُو بُرْدَةَ عَن أبي مُوسَى قَالَ مَرِضَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ
فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ
قالِتْ عَائِشَةُ إنَّهُ رجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَامَ
مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قالَ
مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ
صَوَاحِبُ يُوسُفَ فأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى
بِالنَّاسِ فِي حَياةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الحَدِيث 678 طرفه فِي: 3385) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن أَبَا بكر أفضل
الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق ابْن نصر،
بِفَتْح النُّون وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة: وَهُوَ
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير
مَوضِع من كِتَابه، مرّة يَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم بن نصر، وَمرَّة يَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن
نصر، فينسبه إِلَى جده. الثَّانِي: حُسَيْن ابْن عَليّ بن
الْوَلِيد الْجعْفِيّ الكُوفي. الثَّالِث: زَائِدَة بن
قدامَة. الرَّابِع: عبد الْملك بن عُمَيْر بتصغير عمر وبن
سُوَيْد الْكُوفِي كَانَ مَعْرُوفا: بِعَبْد الْملك
القبطي، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فرس سَابق يعرف بالقبطي،
فنسب إِلَيْهِ. وَكَانَ على قَضَاء الْكُوفَة بعد
الشّعبِيّ وَهُوَ أول من عبر نهر جيحون نهر بَلخ من طَرِيق
سَمَرْقَنْد، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وعمره
مائَة سنة وَثَلَاث سِنِين. الْخَامِس: أَبُو بردة بن أبي
مُوسَى واسْمه: عَامر. السَّادِس: أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي موضِعين، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع، وَفِيه: العنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: نِسْبَة الرَّاوِي إِلَى
جده وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه:
أَن رُوَاته كلهم كوفيون سوى شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: وَأخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام،
عَن الرّبيع عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة.
(5/202)
ذكر مَعْنَاهُ: وَقد ذكرنَا أَكثر
مَعَانِيه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ فِي: بَاب حد الْمَرِيض
أَن يشْهد الْجَمَاعَة، فَإِنَّهُ روى هَذَا الحَدِيث
هُنَاكَ من حَدِيث الْأسود عَن عَائِشَة، وبيَّنا هُنَاكَ
مَا ذكر فِيهِ من اخْتِلَاف الرِّوَايَات. قَوْله:
(رَقِيق) أَي: رَقِيق الْقلب. قَوْله: (لم يسْتَطع) أَي:
من الْبكاء لِكَثْرَة الْحزن ورقة الْقلب. قَوْله:
(فَعَادَت) أَي: عَائِشَة إِلَى مقالتها الأولى. قَوْله:
(فَإِنَّكُنَّ) ، الْخطاب لجنس عَائِشَة، وإلاَّ
فَالْقِيَاس أَن يُقَال: فَإنَّك، بِلَفْظ الْمُفْرد.
قَوْله: (فَأَتَاهُ الرَّسُول) ، أَي: فَأتى أَبَا بكر
رَسُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتبليغ الْأَمر
بِصَلَاتِهِ بِالنَّاسِ، وَكَانَ الرَّسُول هُوَ بِلَال،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فصلى بِالنَّاسِ فِي
حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وسلمفإن قلت: أَي:
إِلَى أَن مَاتَ، وَكَذَا صرح بِهِ مُوسَى بن عقبَة فِي
(الْمَغَازِي) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول:
فِيهِ دلَالَة على فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن أَبَا بكر صلى بِالنَّاسِ فِي
حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت فِي
هَذِه الْإِمَامَة الَّتِي هِيَ الصُّغْرَى دلَالَة على
الْإِمَامَة الْكُبْرَى. الثَّالِث: فِيهِ أَن الأحق
بِالْإِمَامَةِ هُوَ الأعلم، وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن
هُوَ أولى بِالْإِمَامَةِ. فَقَالَت طَائِفَة: الأفقه،
وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالْجُمْهُور. وَقَالَ
أَبُو يُوسُف وَأحمد وَإِسْحَاق: الأقرأ، وَهُوَ قَول ابْن
سِيرِين وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَلَا شكّ فِي اجْتِمَاع
هذَيْن الوصفين فِي حق الصّديق، أَلا ترى إِلَى قَول أبي
سعيد: وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا، ومراجعة الشَّارِع
بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي تدل على تَرْجِيحه على
جَمِيع الصَّحَابَة وتفضيله. فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي
مَسْعُود البدري الثَّابِت فِي مُسلم: (ليؤم الْقَوْم
أقرؤهم لكتاب الله تَعَالَى) ، يُعَارض هَذَا؟ قلت: لَا،
لِأَنَّهُ لَا يكَاد يُوجد إِذْ ذَاك قارىء إلاّ وَهُوَ
فَقِيه، وَأجَاب بَعضهم: بِأَن تَقْدِيم الأقرأ كَانَ فِي
أول الْإِسْلَام حِين كَانَ حفاظ الْإِسْلَام قَلِيلا،
وَقد قدم عَمْرو بن سَلمَة وَهُوَ صَغِير على الشُّيُوخ
لذَلِك، وَكَانَ سَالم يؤم الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار
فِي مَسْجِد قبَاء حِين أَقبلُوا من مَكَّة لعدم الْحفاظ
حِينَئِذٍ، وَقَالَ أَصْحَابنَا: أولى النَّاس
بِالْإِمَامَةِ أعلمهم بِالسنةِ، أَي: بالفقه
وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِذا كَانَ يحسن من
الْقِرَاءَة مَا تجوز بِهِ الصَّلَاة، وَهُوَ قَول
الْجُمْهُور، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء وَالْأَوْزَاعِيّ
وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. وَعَن أبي يُوسُف: أَقرَأ النَّاس
أولى بِالْإِمَامَةِ، يَعْنِي: أعلمهم بِالْقِرَاءَةِ
وَكَيْفِيَّة أَدَاء حروفها ووقوفها وَمَا يتَعَلَّق
بِالْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أحد الْوُجُود عِنْد
الشَّافِعِيَّة. وَفِي (الْمَبْسُوط) وَغَيره: أَنما قدم
الأقرأ فِي الحَدِيث لأَنهم كَانُوا فِي ذَلِك الْوَقْت
يتلقونه بأحكامه، حَتَّى رُوِيَ أَن ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، حفظ سُورَة الْبَقَرَة فِي اثْنَتَيْ
عشرَة سنة، فَكَانَ الأقرأ فيهم هُوَ الأعلم بِالسنةِ
وَالْأَحْكَام، وَعَن ابْن عمر أَنه قَالَ: مَا كَانَت
تنزل السُّورَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إلاّ ونعلم أمرهَا ونهيها وزجرها وحلالها وحرامها، وَالرجل
الْيَوْم يقْرَأ السُّورَة وَلَا يعرف من أَحْكَامهَا
شَيْئا. فَإِن قلت: لما كَانَ أقرؤهم أعلمهم فَمَا معنى
قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن كَانُوا فِي
الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ؟) وأقرؤهم هُوَ:
أعلمهم بِالسنةِ فِي ذَلِك الْوَقْت لَا محَالة على مَا
قَالُوا؟ قلت: الْمُسَاوَاة فِي الْقِرَاءَة توجيهها فِي
الْعلم فِي ذَلِك الزَّمَان ظَاهرا لَا قطعا، فَجَاز تصور
مُسَاوَاة الْإِثْنَيْنِ فِي الْقِرَاءَة مَعَ التَّفَاوُت
فِي الْأَحْكَام، ألاَ ترى أَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، كَانَ أَقرَأ وَابْن مَسْعُود كَانَ أعلم
وأفقه. وَفِي (النِّهَايَة) : اسْتَقل بِحِفْظ الْقُرْآن
سِتَّة: أَبُو بكر وَعُثْمَان وَعلي وَزيد وَأبي وَابْن
مَسْعُود. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، كَانَ أعلم وأفقه من عُثْمَان، وَلَكِن
كَانَ يعسر عَلَيْهِ حفظ الْقُرْآن، فَجرى كَلَامه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْأَعَمّ الْأَغْلَب. فَإِن
قلت: الْكَلَام فِي الْأَفْضَلِيَّة مَعَ الِاتِّفَاق على
الْجَوَاز على أَي وَجه كَانَ، وَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم
بِالسنةِ) ، بِصِيغَة تدل على عدم جَوَاز إِمَامَة
الثَّانِي عِنْد وجود الأول، لِأَن صيغته صِيغَة إِخْبَار،
وَهُوَ فِي اقْتِضَاء الْوُجُوب آكِد من الْأَمر،
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذكره بِالشّرطِ وَالْجَزَاء فَكَانَ
اعْتِبَار الثَّانِي إِنَّمَا كَانَ بعد وجود الأول لَا
قبله قلت: صِيغَة الْإِخْبَار لبَيَان الشَّرْعِيَّة لَا
أَنه لَا يجوز غَيره، كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(يمسح الْمُقِيم يَوْمًا وَلَيْلَة) . وَلَئِن سلمنَا أَن
صِيغَة الْإِخْبَار مَحْمُولَة على معنى الْأَمر، وَلَكِن
الْأَمر يحمل على الِاسْتِحْبَاب لوُجُود الْجَوَاز
بِدُونِ الِاقْتِدَاء بِالْإِجْمَاع. فَإِن قلت: لَو كَانَ
المُرَاد فِي الحَدِيث من قَوْله: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم)
هُوَ الأعلم لَكَانَ يلْزم تكْرَار الأعلم فِي الحَدِيث،
وَيكون التَّقْدِير: يؤم الْقَوْم أعلمهم، فَإِن تساووا
فأعلمهم؟ قلت: المُرَاد من قَوْله: كَانَ أقرؤهم أعلمهم،
يَعْنِي: أعلمهم بِكِتَاب الله دون السّنة. وَمن قَوْله:
أعلمهم بِالسنةِ أعلمهم بِأَحْكَام الْكتاب وَالسّنة
جَمِيعًا. فَكَانَ الأعلم الثَّانِي غير الأعلم الأول.
فَإِن قلت: حَدِيث أبي مَسْعُود الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ
وَمُسلم: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم) ، الحَدِيث يُعَارضهُ
قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مروا أَبَا بكر
يُصَلِّي
(5/203)
بِالنَّاسِ) ، إِذْ كَانَ فيهم من هُوَ
أَقرَأ مِنْهُ لِلْقُرْآنِ مثل: أبي، وَغَيره وَهُوَ أولى
قلت: حَدِيث أبي مَسْعُود كَانَ فِي أول الْهِجْرَة
وَحَدِيث أبي بكر فِي آخر الْأَمر، وَقد تفقهوا فِي
الْقُرْآن، وَكَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أعلمهم وأفقههم فِي كل أمره، وَقَالَ أَصْحَابنَا: فَإِن
تساووا فِي الْعلم وَالْقِرَاءَة فأولاهم أورعهم. وَفِي
(البدرية) : الْوَرع الاجتناب عَن الشُّبُهَات، وَالتَّقوى
الاجتناب عَن الْمُحرمَات، فَإِن تساووا فِي الْقِرَاءَة
وَالْعلم والورع فأسنهم أولى بِالْإِمَامَةِ لقَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (وليؤمكما أكبركما) ، وَفِي
(الْمُحِيط) : الأسن أولى من الأورع إِذا لم يكن فِيهِ فسق
ظَاهر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالسِّنِّ سنّ مضى
فِي الْإِسْلَام، فَلَا يقدم شيخ أسلم قَرِيبا على شَاب
نَشأ فِي الْإِسْلَام، أَو أسلم قبله. قَالَ أَصْحَابنَا:
فَإِن تساووا فِي السن فأحسنهم خلقا، وَزَاد بَعضهم: فَإِن
تساووا فأحسنهم وَجها. وَفِي (مُخْتَصر الْجَوَاهِر) :
يرجح بالفضائل الشَّرْعِيَّة والخلقية والمكانية وَكَمَال
الصُّورَة، كالشرف فِي النّسَب وَالسّن، ويلتحق بذلك حسن
اللبَاس. وَقيل: وبصباحة الْوَجْه وَحسن الْخلق وبملك
رَقَبَة الْمَكَان أَو منفعَته. قَالَ المرغيناني:
الْمُسْتَأْجر أولى من الْمَالِك، وَفِي (الْخُلَاصَة) :
فَإِن تساووا فِي هَذِه الْخِصَال يقرع، أَو الْخِيَار
إِلَى الْقَوْم. وَقيل: إِمَامَة الْمُقِيم أولى من
الْعَكْس، وَقَالَ أَبُو الْفضل الْكرْمَانِي: هما سَوَاء،
وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ فِي الْقَدِيم: تَقْدِيم
الْأَشْرَف ثمَّ الأقدم هِجْرَة ثمَّ الأسن، وَهُوَ
الْأَصَح. وَالْقَوْل الثَّانِي: يقدم الأسن ثمَّ
الْأَشْرَف ثمَّ الأقدم هِجْرَة، وَفِي تتمتهم: ثمَّ بعد
الْكبر والشرف تقدم نظافة الثَّوْب، وَالْمرَاد بِهِ
النَّظَافَة عَن الْوَسخ لَا عَن النَّجَاسَات، لِأَن
الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَات لَا تصح، ثمَّ بعد ذَلِك حسن
الصَّوْت، لِأَنَّهُ بِهِ تميل النَّاس إِلَى الصَّلَاة
خَلفه فتكثر الْجَمَاعَة، ثمَّ حسن الصُّورَة.
679 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ
أُمّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ الله تَعَالى عَنْهَا أنَّهَا
قَالَتْ إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّي بِالنَّاسِ
قالَتْ عائِشَةُ قُلْتُ إنَّ أبَا بَكْرٍ إذَا قامَ فِي
مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ فَمُرْ
عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ فقالَتْ عائِشَةُ فَقُلْتُ
لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إنَّ أبَا بَكْرٍ إذَا قَامَ فِي
مَقَامِكَ لمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ فَمُرْ
عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ فَفَعلَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَهْ إنَّكُنَّ
لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ للنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لَعَائِشَةَ مَا
كُنْتُ لأصِيبَ مِنْكِ خَيْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد مروا غير
مرّة.
قَوْله: (عَن عَائِشَة) ، رَوَاهُ حَمَّاد عَن مَالك
مَوْصُولا، وَهُوَ فِي أَكثر نسخ (الْمُوَطَّأ) مُرْسلا
لَيْسَ فِيهِ عَائِشَة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الِاعْتِصَام. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن
إِسْحَاق ابْن مُوسَى عَن معن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم.
قَوْله: (فَليصل بِالنَّاسِ) ، ويروى: (للنَّاس) ، وَهِي
رِوَايَة الْكشميهني، ويروى: (فليصلي) ، بِالْيَاءِ.
قَوْله: (إنكن) ويروى: (فَإِنَّكُنَّ) ، أَي: إِن هَذَا
الْجِنْس هن اللَّاتِي شوشن على يُوسُف، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وكدرنه وأوقعنه فِي الْمَلَامَة:
فَجمع بِاعْتِبَار الْجِنْس، أَو لِأَن أقل الْجمع عِنْد
طَائِفَة اثْنَان.
71 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ
وَكَانَ تبع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - وخدمه وَصَحبه أَن أَبَا بكر كَانَ يُصَلِّي بهم فِي
وجع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الَّذِي توفّي فِيهِ حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ
وهم صُفُوف فِي الصَّلَاة فكشف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ستر الْحُجْرَة ينظر إِلَيْنَا
وَهُوَ قَائِم كَأَن وَجهه ورقة مصحف ثمَّ تَبَسم يضْحك
فهممنا أَن نفتتن من الْفَرح بِرُؤْيَة النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنكص أَبُو بكر على
عَقِبَيْهِ
(5/204)
ليصل الصَّفّ وَظن أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَارج إِلَى الصَّلَاة
فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَن أَتموا صَلَاتكُمْ وأرخى السّتْر فَتوفي
من يَوْمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله " إِن أَبَا بكر
كَانَ يُصَلِّي بهم " وَرِجَاله تقدمُوا وَأَبُو الْيَمَان
الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة
وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب قَوْله " تبع
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا
ذكر الْمَتْبُوع فِيهِ ليشعر بِالْعُمُومِ أَي تبعه فِي
العقائد والأقوال وَالْأَفْعَال والأخلاق قَوْله " وخدمه "
أَي وخدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِنَّمَا ذكر خدمته لبَيَان زِيَادَة شرفه وَهُوَ كَانَ
خَادِمًا لَهُ عشر سِنِين لَيْلًا وَنَهَارًا وَذكر صحبته
مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَن
الصُّحْبَة مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أفضل أَحْوَال الْمُؤمنِينَ وَأَعْلَى مقاماتهم قَوْله "
يَوْم الِاثْنَيْنِ " بِالنّصب أَي كَانَ الزَّمَان يَوْم
الِاثْنَيْنِ وَيجوز أَن تكون كَانَ تَامَّة وَيكون يَوْم
الِاثْنَيْنِ مَرْفُوعا قَوْله " وهم صُفُوف " جملَة اسمية
وَقعت حَالا وَكَذَا قَوْله " ينظر " جملَة وَقعت حَالا
ويروى " فَنظر " قَوْله " كَأَن وَجهه ورقة مصحف " الورقة
بِفَتْح الرَّاء والمصحف مُثَلّثَة الْمِيم وَوجه
التَّشْبِيه عبارَة عَن الْجمال البارع وَحسن الْوَجْه
وصفاء الْبشرَة قَوْله " يضْحك " جملَة وَقعت حَالا
تَقْدِيره فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا وَسبب تبسمه فرحه بِمَا رأى
من اجْتِمَاعهم على الصَّلَاة واتفاق كلمتهم وإقامتهم
شَرِيعَته وَلِهَذَا استنار وَجهه ويروى " فَضَحِك " بفاء
الْعَطف قَوْله " فهممنا " أَي قصدنا قَوْله " فنكص أَبُو
بكر " أَي رَجَعَ قَوْله " ليصل الصَّفّ " من الْوُصُول
لَا من الْوَصْل قَوْله " الصَّفّ " مَنْصُوب بِنَزْع
الْخَافِض أَي إِلَى الصَّفّ قَوْله " فَتوفي من يَوْمه "
ويروى " وَتُوفِّي " بِالْوَاو -
681 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ قَالَ
لَمْ يَخْرُجِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاَثا
فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ
فَقَالَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالحِجَابِ
فَرَفَعَهُ فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وسلمما نَظرنَا منْظرًا كَانَ أعجب إِلَيْنَا من
وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ وَضَحَ لَنا
فَأَوْمَأ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إلَى
أبِي بَكْرٍ أنْ يَتَقَدَّمَ وأرْخَى النَّبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى
ماتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَوْمأ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إِلَى أبي بكر) لِأَن
إِشَارَته إِلَيْهِ بالتقدم أَمر لَهُ بِالصَّلَاةِ
للْقَوْم على سَبِيل الْخلَافَة، وَلم يومِ إِلَيْهِ إلاّ
لكَونه أعلمهم وأفضلهم.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين: عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري المقعد
الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَعبد الْعَزِيز بن
صُهَيْب، والرواة كلهم بصريون.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي مُوسَى
وَهَارُون الْجمال، كِلَاهُمَا عَن عبد الصَّمد بن عبد
الْوَارِث عَن أَبِيه بِهِ.
قَوْله: (ثَلَاثًا) ، أَي: ثَلَاثَة أَيَّام، وَقد قُلْنَا
غير مرّة: إِن الْمُمَيز إِذا لم يكن مَذْكُورا جَازَ فِي
لفظ الْعدَد التَّاء وَعَدَمه، وَكَانَ ابْتِدَاء
الثَّلَاث من حِين خرج، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فصلى بهم
قَاعِدا. قَوْله: (فَذهب أَبُو بكر فَتقدم) ، ويروى:
(يتَقَدَّم) ، بياء المضارعة وموقعها حَال، أَي: فَذهب
مُتَقَدما. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: نَبِي الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بالحجاب، أَي: أَخذ الْحجاب فرفعه. وإجراء
لفظ: قَالَ، بِمَعْنى: فعل، شَائِع فِي كَلَام الْعَرَب.
قَوْله: (فَلَمَّا وضح) أَي: فَلَمَّا ظهر وَجه النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن التِّين: أَي: ظهر
لنا بياضه وَحسنه، لِأَن الوضاح، عِنْد الْعَرَب هُوَ:
الْأَبْيَض اللَّوْن لحسنه. قَوْله: (مَا رَأينَا) ، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (مَا نَظرنَا) . قَوْله: (أَن
يتَقَدَّم) ، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: فَأَوْمأ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أبي بكر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، بالتقدم إِلَى الصَّلَاة ليُصَلِّي
بهم. (فَلم يقدر عَلَيْهِ) ، أَي: على الْمَشْي، وَيقدر
بِضَم الْيَاء وَفتح الدَّال بِلَفْظ الْمُفْرد الْغَائِب
على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى: (فَلم نقدر) ، بِفَتْح
النُّون وَكسر الدَّال: بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، قَالَه
الْكرْمَانِي.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن أَبَا بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، كَانَ خَلِيفَته فِي الصَّلَاة، إِلَى
مَوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
(5/205)
وَلم يعزله عَنْهَا، كَمَا زعمت الشِّيعَة،
أَنه عزل بِخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وتخلفه وَتقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأَن
الْإِشَارَة بِالْيَدِ تقوم مقَام الْأَمر فِي مثل هَذَا
الْموضع.
682 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا ابنُ
وَهَبٍ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَاب عنْ
حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ الله أنَّهُ أخْبَرَهُ عنْ أبِيهِ
قالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا
أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالناس قالَتْ عائِشَةُ إنَّ
أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذا قَرَأ غَلَبَهُ البُكَاءُ
قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ مُرُوهُ
فَيُصَلِّي إنَّكُنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن سُلَيْمَان بن
يحيى أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي، سكن مصر وَمَات
بهَا سنة ثَمَان، وَيُقَال: سبع وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ.
الثَّالِث: يُونُس ابْن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع:
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس:
حَمْزَة بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَبُو عمَارَة أَخُو سَالم. السَّادِس:
أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من
أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وأيلي
ومصري ومدني.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي: عشرَة
النِّسَاء، عَن صَفْوَان بن عَمْرو عَن بشر بن شُعَيْب عَن
أَبِيه عَن الزُّهْرِيّ. بِهِ
قَوْله: (فِي الصَّلَاة) أَي: فِي شَأْن الصَّلَاة
وَتَعْيِين الإِمَام. قَوْله: (فَليصل) ويروى: (فليصلي)
بِالْيَاءِ. قَوْله: (فعاودته) ، بِفَتْح الدَّال وَسُكُون
التَّاء أَي: فعاودته عَائِشَة، ويروى: (فعاودنه) ،
بِسُكُون الدَّال بعْدهَا نون الْجمع، وَهِي: عَائِشَة
وَمن مَعهَا من النِّسَاء. قَوْله: (فَقَالَ) ويروى:
(قَالَ) ، بِدُونِ الْفَاء. قَوْله: (فَليصل) ، ويروى
(فليصلي) بِالْيَاءِ.
تابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ
أَي: تَابع يُونُس بن يزِيد الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد
الْحِمصِي أَبُو الْهُذيْل. قَالَ: أَقمت مَعَ الزُّهْرِيّ
عشر سِنِين بالرصافة، مَاتَ بِالشَّام سنة ثَمَان
وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَوصل الطَّبَرَانِيّ هَذِه
الْمُتَابَعَة فِي مُسْند الشاميين من طَرِيق عبد الله بن
سَالم الْحِمصِي عَنهُ مَوْصُولا مَرْفُوعا.
وابْنُ أخِي الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع يُونُس أَيْضا ابْن أخي الزُّهْرِيّ، وَهُوَ:
مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم، قَتله غلمانه بِأَمْر
وَلَده فِي خلَافَة أبي جَعْفَر، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ:
وَكَانَ وَلَده سَفِيها شاطرا، قَتله للميراث، فَوَثَبَ
غلمانه بعد سنتَيْن فَقَتَلُوهُ. وَوصل مُتَابَعَته ابْن
أخي الزُّهْرِيّ ابْن عدي من رِوَايَة الدَّرَاورْدِي
عَنهُ.
وإسْحَاقُ بنُ يَحْيَى الكَلْبِيُّ
أَي: تَابع يُونُس أَيْضا إِسْحَاق بن يحيى الْكَلْبِيّ
الْحِمصِي، وَوصل مُتَابَعَته هَذِه أَبُو بكر بن شَاذان
الْبَغْدَادِيّ.
عنِ الزُّهْرِيِّ
يتَعَلَّق بِالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورين، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْفرق بَين المتابعتين أَن الثَّانِيَة
كَامِلَة من حَيْثُ رفع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَالْأولَى نَاقِصَة حَيْثُ صَار مَوْقُوفا على
الزُّهْرِيّ، وَيحْتَمل أَن يفرق بَينهمَا، بِأَن الأولى:
هِيَ الْمُتَابَعَة فَقَط، وَالثَّانيَِة: مقاولة لَا
مُتَابعَة، وفيهَا إرْسَال أَيْضا. قلت: الثَّانِيَة
مُرْسلَة لَا غير.
وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
حَمْزَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن عقيلاً ومعمرا خالفا يُونُس
وَمن تَابعه فأرسلا الحَدِيث، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن
خَالِد الْأَيْلِي، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد،
وَقد تكَرر ذكرهمَا، وَقد وصل الذهلي رِوَايَة عقيل فِي
الزهريات، وَأما معمر فَاخْتلف عَلَيْهِ، فَرَوَاهُ عبد
الله ابْن الْمُبَارك عَنهُ مُرْسلا كَذَلِك أخرجه ابْن
سعد وَأَبُو يعلى من طَرِيقه، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق
عَن معمر مَوْصُولا، لَكِن قَالَ: عَن عَائِشَة، بدل
قَوْله: عَن أَبِيه، كَذَلِك أخرجه مُسلم.
(5/206)
47 - (بابُ منْ قامَ إلَى جَنْبِ الإمَامِ
لِعِلَّةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَامَ من الْمُصَلِّين
إِلَى جنب الإِمَام لأجل عِلّة، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا
لِأَن الأَصْل أَن يتَقَدَّم الإِمَام على الْمَأْمُوم،
وَلَكِن للْمَأْمُوم أَن يقف بِجنب الإِمَام عِنْد وجود
أَسبَاب تَقْتَضِي ذَلِك: أَحدهَا: هُوَ الْعلَّة الَّتِي
ذكرهَا. وَالثَّانِي: ضيق الْموضع، فَلَا يقدر الإِمَام
على التَّقَدُّم فَيكون مَعَ الْقَوْم فِي الصَّفّ.
وَالثَّالِث: جمَاعَة العراة فَإِن إمَامهمْ يقف مَعَهم
فِي الصَّفّ. وَالرَّابِع: أَن يكون مَعَ الإِمَام وَاحِد
فَقَط يقف عَن يَمِينه، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بِابْن عَبَّاس إِذْ أداره من خَلفه إِلَى
يَمِينه، وَبِهَذَا يرد على التَّمِيمِي حَيْثُ حصر
الْجَوَاز الْمَذْكُور على صُورَتَيْنِ، فَقَالَ: لَا يجوز
أَن يكون أحد مَعَ الإِمَام فِي صف إلاّ فِي موضِعين:
أَحدهمَا: مثل مَا فِي الحَدِيث من ضيق الْموضع وَعدم
الْقُدْرَة على التَّقَدُّم. وَالثَّانِي: أَن يكون رجل
وَاحِد مَعَ الإِمَام، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بِابْن عَبَّاس حَيْثُ أداره من خَلفه
إِلَى يَمِينه.
683 - حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدَّثنا
ابنُ نُمَيْرٍ قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ
أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ أمَرَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بَكْرٍ أنْ يُصلِّي بِالنَّاسِ فِي
مَرَضِهِ فَكانَ يُصَلِّي بِهمْ، قَالَ عُرْوَةُ فَوجَدَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفسِهِ خِفَّةً
فَخرَجَ فإذَا أبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا
رَآهُ أبْو بكْرٍ اسْتَأخَرَ فَأشَارَ إليْهِ كَمَا أنْتَ
فَجلَسَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِذَاءَ أبِي
بَكْرٍ إلَى جَنْبِهِ فكانَ أَبُو بكْرٍ يُصلِّي بِصلاةِ
رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والناسُ يُصَلُّونَ
بِصَلاةِ أبِي بَكْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن نمير هُوَ عبد الله
بن نمير.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار
كَذَلِك فِي مَوضِع، والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَأبي كريب وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي:
من هَهُنَا إِلَى آخِره مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَهُوَ من
مَرَاسِيل التَّابِعين وَمن تعليقات البُخَارِيّ،
وَيحْتَمل دُخُوله تَحت الْإِسْنَاد الأول. وَقَالَ
بَعضهم: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَوهم من جعله
مُعَلّقا قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَول الْكرْمَانِي،
وَمَعَ هَذَا إِن الْكرْمَانِي مَا جزم بِأَنَّهُ مُرْسل،
بل قَالَ: يحْتَمل دُخُوله تَحت الْإِسْنَاد الأول.
وَأخرجه ابْن مَاجَه بِهَذَا الْإِسْنَاد مُتَّصِلا بِمَا
قبله، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا عبد
الله بن نمير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن
عَائِشَة قَالَ: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَبَا بكر أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي مَرضه
فَكَانَ يُصَلِّي بهم، فَوجدَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خفَّة فَخرج، فَإِذا أَبُو بكر يؤم
النَّاس، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ
إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن: كَمَا
أَنْت، فَجَلَسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حذاء
أبي بكر إِلَى جنبه، فَكَانَ أَبُو بكر يُصَلِّي بِصَلَاة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس يصلونَ
بِصَلَاة أبي بكر) ، فَإِن قلت: إِذا كَانَ الحَدِيث
مُتَّصِلا فَلِمَ قطعه عُرْوَة عَن الْقدر الأول الَّذِي
أَخذه عَن عَائِشَة؟ قلت: لاحْتِمَال أَن يكون عُرْوَة
أَخذه عَن غير عَائِشَة، فَقطع الثَّانِي عَن الْقدر الأول
لذَلِك. قَوْله: (اسْتَأْخَرَ) أَي: تَأَخّر. قَوْله:
(أَن: كَمَا أَنْت) كلمة: مَا، مَوْصُولَة. وَأَنت،
مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: كَمَا أَنْت عَلَيْهِ أَو
فِيهِ، و: الْكَاف، للتشبيه. أَي: كن مشابها لما أَنْت
عَلَيْهِ، أَي: يكون حالك فِي الْمُسْتَقْبل مشابها بحالك
فِي الْمَاضِي. وَيجوز أَن تكون الْكَاف زَائِدَة، أَي:
الْتزم الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِمَامَة.
قَوْله: (حذاء أبي بكر) أَي: محاذيا من جِهَة الْجنب لَا
من جِهَة القدام وَالْخلف، وَلَا مُنَافَاة بَين قَوْله
فِي التَّرْجَمَة: قَامَ إِلَى جنب الإِمَام، وَهنا قَالَ:
جلس إِلَى جنبه، لِأَن الْقيام إِلَى جنب الإِمَام قد يكون
انتهاؤه بِالْجُلُوسِ فِي جنبه، وَلَا شكّ أَنه كَانَ
قَائِما فِي الِابْتِدَاء ثمَّ صَار جَالِسا، أَو قَاس
الْقيام على الْجُلُوس فِي جَوَاز كَونه فِي الْجنب، أَو
المُرَاد: قيام أبي بكر لَا قيام رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمعْنَى: قَامَ أَبُو بكر بِجنب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محاذيا لَهُ لَا
مُتَخَلِّفًا عَنهُ، لغَرَض مُشَاهدَة أَحْوَال رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(5/207)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز
الْإِشَارَة المفهمة عِنْد الْحَاجة، وَجَوَاز جُلُوس
الْمَأْمُوم بِجنب الإِمَام عِنْد الضَّرُورَة أَو
الْحَاجة، وَفِي قَوْله: اسْتَأْخَرَ، دَلِيل وَاضح أَنه
لم يكن عِنْده مستنكرا أَن يتَقَدَّم الرجل عَن مقَامه
الَّذِي قَامَ فِيهِ فِي صلَاته ويتأخر، وَذَلِكَ عمل فِي
الصَّلَاة من غَيرهَا، فَكل مَا كَانَ نَظِير ذَلِك وَفعله
فَاعل فِي صلَاته لأمر دَعَاهُ إِلَيْهِ فَذَلِك جَائِز.
قيل: فِي الحَدِيث إِشْعَار بِصِحَّة صَلَاة الْمَأْمُوم
وَإِن لم يتَقَدَّم الإِمَام عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَب
الْمَالِكِيَّة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ قد يكون بَينهمَا
الْمُحَاذَاة مَعَ تقدم الْعقب على عقب الْمَأْمُوم، أَو
جَازَ محاذاة العقبين لَا سِيمَا عِنْد الضَّرُورَة أَو
الْحَاجة. وَفِيه: دلَالَة أَن الْأَئِمَّة إِذا كَانُوا
بِحَيْثُ لَا يراهم من يأتم بهم جَازَ أَن يرْكَع
الْمَأْمُوم بركوع المكبر. وَفِيه: أَن الْعَمَل الْقَلِيل
لَا يفْسد الصَّلَاة.
48 - (بابُ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ الناسَ فَجَاءَ الإمامُ
الأوَّلُ فَتَأخَّرَ الأوَّلُ أوْ لَمْ يَتَأخَّرْ جازَتْ
صَلاَتُهُ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته من دخل ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (الإِمَام) الأول أَي: الإِمَام الرَّاتِب.
قَوْله: (فَتَأَخر الأول) أَي: الَّذِي أَرَادَ أَن يَنُوب
عَن الرَّاتِب، والمعرة إِذا أُعِيدَت إِنَّمَا تكون عين
الأول عِنْد عدم الْقَرِينَة الدَّالَّة على الْمُغَايرَة،
ويروي: (فَتَأَخر الآخر) ، وَالْمرَاد مِنْهُ: الدَّاخِل.
وكل مِنْهُمَا أول بِاعْتِبَار.
فِيهِ عنْ عَائِشَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
أَي: فِي الْمَذْكُور من قَوْله: (فجَاء الامام الاول
فَتَأَخر الأول) إِلَى آخِره، رُوِيَ عَن عَائِشَة،
وَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثهَا الَّذِي روى عَنْهَا
عُرْوَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق، وَهُوَ
قَوْله: (فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر اسْتَأْخَرَ) ، أَي:
فَلَمَّا رأى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبُو
بكر فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ الأول لِأَنَّهُ
الإِمَام الرَّاتِب، وَأَبُو بكر هُوَ الدَّاخِل وَيُطلق
عَلَيْهِ الأول بِاعْتِبَار أَنه تقدم أَولا، وَيُطلق
عَلَيْهِ الآخر لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأول آخر.
فَافْهَم.
684 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ أبي حازِمِ بنِ دِينَارٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ
السَّاعِدِيِّ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ
بَيْنَهُمْ فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَجَاءَ المُؤَذَّنُ إلَى
أبِي بَكْرٍ فَقَالَ أتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ قَالَ
نَعَمْ فَصَلَّى أبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم والنَّاسُ فِي الصَّلاةِ فَتَخَلَّصَ
حَتَّى وقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وكانَ أبُو
بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أكْثَرَ
النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأى رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَأشَارَ إلَيْهِ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنِ امْكُثْ مَكانَكَ فَرَفَعَ أبُو بَكْرٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ الله عَلَى
مَا أمَرَهُ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ
ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوى فِي
الصَّفِّ وتَقَدَّمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَصَلَّى فَلَمَّا انْصرَفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا
مَنَعَكَ أنْ تَثْبُتَ إذْ أمَرْتُكَ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ
مَا كانَ لابنِ أبي قحَافَةَ أنْ يصلّي بَيْنَ يَدَيْ
رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رسولُ الله ت
مَا لِي رَأيْتُكُمْ أكْثَرْتُمُ التَّصفِيقَ منْ رَابَهُ
شَيءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإنَّهُ إذَا سَبَّحَ
الْتفت إلَيْهِ وإنَّما التصْفِيقُ لَلنِّساءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو
بكر حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفّ وَتقدم رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف
التنيسِي. القاني: مَالك بن أنس. الثَّالِث: أَبُو حَازِم،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سَلمَة بن
دِينَار وَقد تقدم. الرَّابِع: سهل بن سعد السَّاعِدِيّ
الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع
وَاحِد. وَفِيه: عَن سهل، وَفِي رِوَايَة
(5/208)
النَّسَائِيّ من طَرِيق سُفْيَان: عَن أبي
حَازِم، سَمِعت سهلاً. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين تنسي
ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي سَبْعَة مَوَاضِع هُنَا، وَفِي الصَّلَاة فِيمَا يجوز
من التَّسْبِيح وَالْحَمْد للرِّجَال، وَرفع الْأَيْدِي
فِيهَا لأمر ينزل بِهِ، وَالْإِشَارَة فِيهَا، والسهو،
وَالصُّلْح وَالْأَحْكَام. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة
عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيع وَعَن
يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دواد عَن القعْنبِي وَعَن
عَمْرو بن عَوْف. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن
عبد الله وَعَن أَحْمد بن عَبدة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: إِلَى بني عَمْرو بن عَوْف) هم: من
ولد مَالك بن الْأَوْس، وَكَانُوا بقباء، والأوس أحد
قبيلتي الْأَنْصَار، وهما: الْأَوْس والخزرج، وَبَنُو
عَمْرو بن عَوْف بطن كثير من الْأَوْس فِيهِ عدَّة أَحيَاء
مِنْهُم: بَنو أُميَّة بن زيد، وَبَنُو ضبيعة بن زيد،
وَبَنُو ثَعْلَبَة ابْن عَمْرو بن عَوْف، وَالسَّبَب فِي
ذَهَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ فِي الصُّلْح من طَرِيق مُحَمَّد بن جَعْفَر
عَن أبي حَازِم: (أَن أهل قبَاء اقْتَتَلُوا حَتَّى تراموا
بِالْحِجَارَةِ، فَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بذلك، فَقَالَ إذهبوا بِنَا نصلح بَينهم) . وَرُوِيَ
فِي الْأَحْكَام من طَرِيق حَمَّاد بن زيد: أَن توجهه
كَانَ بعد أَن صلى الظّهْر، وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق
عَمْرو بن عَليّ عَن أبي حَازِم: أَن الْخَبَر جَاءَ بذلك،
وَقد أذن بِلَال لصَلَاة الظّهْر. قَوْله: (فحانت
الصَّلَاة) ، أَي: صَلَاة الْعَصْر، وَصرح بِهِ فِي
الْأَحْكَام. وَلَفظه: فَلَمَّا حضرت صَلَاة الْعَصْر أذن
بِلَال ثمَّ أَقَامَ ثمَّ أَمر أَبَا بكر فَتقدم) . وَلم
يبين فَاعل ذَلِك، وَقد بَين ذَلِك أَبُو دَاوُد فِي
(سنَنه) بِسَنَد صَحِيح، وَلَفظه: (كَانَ قتال بَين بني
عَمْرو بن عَوْف فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَأَتَاهُم ليصلح بَينهم بعد الظّهْر، فَقَالَ
لِبلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِن حضرت صَلَاة
الْعَصْر وَلم آتِك فَمر أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ،
فَلَمَّا حضرت صَلَاة الْعَصْر أذن بِلَال ثمَّ أَقَامَ
ثمَّ أَمر أَبَا بكر فَتقدم) . وَعلم من ذَلِك أَن
المُرَاد من قَوْله: (فجَاء الْمُؤَذّن) هُوَ: بِلَال.
قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: الْمُؤَذّن الَّذِي هُوَ بِلَال.
قَوْله: (أَتُصَلِّي للنَّاس؟) الْهمزَة فِيهَا للاستفهام
على سَبِيل التَّقْرِير، وَبِهَذَا ينْدَفع إِشْكَال من
يَقُول: هَذَا يُخَالف مَا ذكر فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من
قَوْله: (ثمَّ أَمر أَبَا بكر فَتقدم) ، ويروى:
(أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ؟) بِالْبَاء الْمُوَحدَة عوض عَن
اللَّام. قَوْله: (فأقيم) ، قَالَ الْكرْمَانِي:
بِالرَّفْع وَالنّصب، وَسكت على ذَلِك. قلت: وَجه الرّفْع
على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَأَنا أقيم،
وَوجه النصب على أَنه جَوَاب الِاسْتِفْهَام،
وَالتَّقْدِير: فَإِن أقيم. قَوْله: (قَالَ نعم) أَي:
قَالَ أَبُو بكر: نعم أقِم الصَّلَاة، وَزَاد فِي رِوَايَة
عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه لَفْظَة: (إِن
شِئْت) . وَأخرج البُخَارِيّ هَذِه الزِّيَادَة فِي: بَاب
رفع الْأَيْدِي، وَوجه هَذَا التَّفْوِيض إِلَيْهِ
لاحْتِمَال أَن يكون عِنْده زِيَادَة علم من النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك. قَوْله: (فصلى أَبُو بكر)
، لَيْسَ على حَقِيقَته، بل مَعْنَاهُ: دخل فِي الصَّلَاة،
وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (وَتقدم أَبُو بكر
فَكبر) وَرِوَايَة المَسْعُودِيّ عَن أبي حَازِم:
(فَاسْتَفْتَحَ أَبُو بكر الصَّلَاة) ، وَهِي رِوَايَة
الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قَوْله: (وَالنَّاس فِي الصَّلَاة)
جملَة حَالية يَعْنِي: شرعوا فِيهَا مَعَ شُرُوع أبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فتخلص) ، قَالَ
الْكرْمَانِي: أَي: صَار خَالِصا من الاشغال قلت: لَيْسَ
المُرَاد هَذَا الْمَعْنى هَهُنَا، بل مَعْنَاهُ: فتخلص من
شقّ الصُّفُوف حَتَّى وصل إِلَى الصَّفّ الأول، وَهُوَ
معنى قَوْله: (حَتَّى وقف فِي الصَّفّ) أَي: فِي الصَّفّ
الأول، وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَا رِوَايَة عبد
الْعَزِيز، عِنْد مُسلم: (فجَاء النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فخرق الصُّفُوف حَتَّى قَامَ عِنْد
الصَّفّ الْمُقدم) . قَوْله: (فَصَفَّقَ النَّاس) ،
بتَشْديد الْفَاء، من: التصفيق. قَالَ الْكرْمَانِي:
التصفيق الضَّرْب الَّذِي يسمع لَهُ صَوت، والتصفيق
بِالْيَدِ التصويت بهَا. انْتهى. التصفيق: هُوَ التصفيح
بِالْحَاء، سَوَاء صفق بِيَدِهِ أَو صفح. وَقيل: هُوَ
بِالْحَاء: الضَّرْب بِظَاهِر الْيَد إِحْدَاهمَا على صفحة
الْأُخْرَى، وَهُوَ الْإِنْذَار والتنبيه. وبالقاف: ضرب
إِحْدَى الصفحتين على الْأُخْرَى، وَهُوَ اللَّهْو واللعب.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ عِيسَى بن أَيُّوب: التصفيح
للنِّسَاء ضرب بإصبعين من يَمِينهَا على كفها الْيُسْرَى.
وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِي بعض الرِّوَايَات: (فصفح
الْقَوْم، وَإِنَّمَا التصفيح للنِّسَاء) . فَيحمل أَنهم
ضربوا أكفهم على أَفْخَاذهم قلت: رِوَايَة عبد الْعَزِيز:
(فَأخذ النَّاس فِي التصفيح، قَالَ سهل: أَتَدْرُونَ مَا
التصفيح؟ هُوَ التصفيق) . قَوْله: (وَكَانَ أَبُو بكر لَا
يلْتَفت فِي صلَاته) وَذَلِكَ لعلمه بِالنَّهْي عَن ذَلِك،
وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : سَأَلت عَائِشَة النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْتِفَات الرجل فِي
الصَّلَاة، فَقَالَ: هُوَ اختلاس يختلسه الشَّيْطَان من
صَلَاة الرجل. قَوْله: (فَلَمَّا أَكثر النَّاس التصفيق) ،
وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (فَلَمَّا رأى التصفيح لَا
يمسك عَنهُ الْتفت) ، قَوْله: (أَن أمكث مَكَانك) . كلمة:
أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالْمعْنَى: فَأَشَارَ إِلَيْهِ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمكث
(5/209)
فِي مَكَانَهُ. وَفِي رِوَايَة عبد
الْعَزِيز: (فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بِأَن يُصَلِّي)
، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن عَليّ: (فَدفع فِي صَدره
لِيَتَقَدَّم فَأبى) . قَوْله: (فَرفع أَبُو بكر يَدَيْهِ
فَحَمدَ الله) ظَاهره أَنه حمد الله تَعَالَى بِلَفْظِهِ
صَرِيحًا، لَكِن فِي رِوَايَة الْحميدِي عَن سُفْيَان:
(فَرفع أَبُو بكر رَأسه إِلَى السَّمَاء شكرا لله وَرجع
الْقَهْقَرِي) ، وَادّعى ابْن الْجَوْزِيّ أَنه أَشَارَ
إِلَى الشُّكْر وَالْحَمْد بِيَدِهِ وَلم يتَكَلَّم،
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْحميدِي مَا يمْنَع أَن يكون
بِلَفْظِهِ، وَيُقَوِّي ذَلِك مَا رَوَاهُ أَحْمد من
رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون عَن أبي حَازِم:
(يَا أَبَا بكر لم رفعت يَديك؟ وَمَا مَنعك أَن تثبت حِين
أَشرت إِلَيْك؟ قَالَ: رفعت يَدي لِأَنِّي حمدت الله على
مَا رَأَيْت مِنْك) . وَزَاد المَسْعُودِيّ: (فَلَمَّا
تنحى تقدم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَنَحْوه
فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد. قَوْله: (ثمَّ اسْتَأْخَرَ)
أَي: تَأَخّر. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّلَاة، قَوْله: (إِذْ
أَمرتك) أَي: حِين أَمرتك. قَوْله: (لِابْنِ أبي قُحَافَة)
بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وَبعد
الْألف فَاء: واسْمه عُثْمَان بن عَامر الْقرشِي، أسلم
عَام الْفَتْح، وعاش إِلَى خلَافَة عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَمَات سنة أَربع عشرَة، وَإِنَّمَا لم
يقل أَبُو بكر: مَا لي، أَو: مَا لأبي بكر، تحقيرا
لنَفسِهِ واستصغارا لمرتبته عِنْد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بَين يَدي رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) وَالْمرَاد من بَين يَدي: القدام. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَو لفظ يَدي مقحم؟ قلت: إِذا كَانَ لفظ:
يَدي مقحما لَا يَنْتَظِم الْمَعْنى على مَا لَا يخفى.
قَوْله: (مَا لي رأيتكم) تَعْرِيض، وَالْغَرَض: مَا لكم.
قَوْله: (من نابه) أَي: من أَصَابَهُ. قَوْله: (فليسبح) ،
أَي: فَلْيقل: سُبْحَانَ الله، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم، (فَلْيقل:
سُبْحَانَ الله) . قَوْله: (الْتفت إِلَيْهِ) على صِيغَة
الْمَجْهُول، قَوْله: (وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء) ،
وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (وَإِنَّمَا التصفيح
للنِّسَاء) . وَوَقع فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد بِصِيغَة
الْأَمر، وَلَفظه: (إِذا نابكم أَمر فليسبح الرِّجَال
وليصفح النِّسَاء) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام: وَهُوَ على
وُجُوه: الأول: فِيهِ فضل الْإِصْلَاح بَين النَّاس وحسم
مَادَّة الْفِتْنَة بَينهم وجمعهم على كلمة وَاحِدَة.
الثَّانِي: فِيهِ توجه الإِمَام بِنَفسِهِ إِلَى بعض
رَعيته للإصلاح، وَتَقْدِيم ذَلِك على مصلحَة الْإِمَامَة
بِنَفسِهِ، لِأَن فِي ذَلِك دفع الْمفْسدَة وَهُوَ أولى من
الْإِمَامَة بِنَفسِهِ، ويلتحق بذلك توجه الْحَاكِم
لسَمَاع دَعْوَى بعض الْخُصُوم إِذا علم أَن فِيهِ مصلحَة.
الثَّالِث: قيل فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة
بإمامين: أَحدهمَا بعد الآخر، وَأَن الإِمَام الرَّاتِب
إِذا غَابَ يسْتَخْلف غَيره، وَإنَّهُ إِذا حضر بعد أَن
دخل نَائِبه فِي الصَّلَاة يتَخَيَّر بَين أَن يأتم بِهِ
أَو يؤم هُوَ وَيصير النَّائِب مَأْمُوما من غير أَن يقطع
الصَّلَاة، وَلَا يبطل شَيْء من ذَلِك صَلَاة أحد
الْمَأْمُومين. انْتهى. قلت: جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة
بإمامين: أَحدهمَا بعد الآخر مُسلم، لِأَن الإِمَام إِذا
أحدث واستخلف خَليفَة فَأَتمَّ الْخَلِيفَة صلَاته صَحَّ
ذَلِك وَيُطلق عَلَيْهِ أَنه صَلَاة وَاحِدَة بإمامين،
وَقَوله أَيْضا: إِن الإِمَام الرَّاتِب إِذا غَابَ
يسْتَخْلف غَيره مُسلم أَيْضا. قَوْله: وَإنَّهُ إِذا حضر
... إِلَى آخِره، غير مُسلم. واحتجاج من يذهب إِلَى هَذَا
بِهَذَا الحَدِيث غير صَحِيح، لِأَن ذَلِك من خَصَائِص
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر ذَلِك ابْن عبد
الْبر، وَادّعى الْإِجْمَاع على عدم جَوَاز ذَلِك لغيره.
قلت: لِأَنَّهُ لَا يجوز التَّقَدُّم بَين يَدي النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ لسَائِر النَّاس
الْيَوْم من الْفضل من يجب أَن يتَأَخَّر لَهُ، وَكَانَ
جَائِزا لأبي بكر أَن لَا يتَأَخَّر لإشارة النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن امْكُث مَكَانك) : وَقَالَ بعض
الْمَالِكِيَّة أَيْضا: تَأَخّر أبي بكر وتقدمه، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من خواصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا
يفعل ذَلِك بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ
بَعضهم: ونوقض يَعْنِي: دَعْوَى ابْن عبد الْبر
الْإِجْمَاع الْمَذْكُور، بِأَن الْخلاف ثَابت،
فَالصَّحِيح الْمَشْهُور عِنْد الشَّافِعِيَّة الْجَوَاز.
انْتهى. قلت: هَذَا خرق للْإِجْمَاع السَّابِق قبل
هَؤُلَاءِ الشَّافِعِيَّة، وخرق الْإِجْمَاع بَاطِل.
الرَّابِع: قيل فِيهِ جَوَاز إِحْرَام الْمَأْمُوم قبل
الإِمَام، وَأَن الْمَرْء قد يكون فِي بعض صلَاته إِمَامًا
وَفِي بَعْضهَا مَأْمُوما انْتهى. قلت: قَوْله: فِيهِ
جَوَاز إِحْرَام الْمَأْمُوم قبل الإِمَام، قَول غير
صَحِيح يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كبر
الإِمَام فكبروا) . وَلَفظ البُخَارِيّ: (فَإِذا كبر
فكبروا) ، وَقد رتب تَكْبِير الْمَأْمُوم على تَكْبِير
الإِمَام فَلَا يَصح أَن يسْبقهُ. وَقَالَ ابْن بطال: لَا
أعلم من يَقُول: إِن من كبر قبل إِمَامه فَصلَاته تَامَّة
إلاَّ الشَّافِعِي بِنَاء على مذْهبه، وَهُوَ أَن صَلَاة
الْمَأْمُوم غير مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام، وَسَائِر
الْفُقَهَاء لَا يجيزون ذَلِك.
الْخَامِس: استنبط الطَّبَرِيّ مِنْهُ، وَقَالَ: فِي هَذَا
الْخَبَر دَلِيل على خطأ من زعم أَنه لَا يجوز لمن أحرم
بفريضة وَصلى بَعْضهَا ثمَّ أُقِيمَت عَلَيْهِ تِلْكَ
الصَّلَاة أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يدْخل مَعَ الْجَمَاعَة
(5/210)
فِي بَقِيَّة صلَاته حَتَّى يخرج مِنْهَا
وَيسلم، ثمَّ يدْخل مَعَهم، فَإِن دخل مَعَهم دون سَلام
فَسدتْ صلَاته وَلَزِمَه قَضَاؤُهَا. انْتهى. قلت:
الحَدِيث يبين خطأه هُوَ، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، ابتدا صَلَاة كَانَ أَبُو بكر صلى بَعْضهَا وائتم
بِهِ أَصْحَابه فِيهَا، فَكَانَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، مبتدئا وَالْقَوْم متممين.
السَّادِس: فِيهِ فضل أبي بكر على جَمِيع الصَّحَابَة.
السَّابِع: فِيهِ أَن إِقَامَة الصَّلَاة واستدعاء
الإِمَام من وَظِيفَة الْمُؤَذّن، وَأَن الْمُؤَذّن هُوَ
الَّذِي يُقيم وَهَذَا هُوَ السّنة، فَإِن أَقَامَ غَيره
كَانَ خلاف السّنة. قيل: يعْتد بِإِذْنِهِ عِنْد
الْجُمْهُور. قلت: وَبِغير إِذْنه أَيْضا يعْتد، وَإِذا
أَقَامَ غير الْمُؤَذّن أَيْضا يعْتد عندنَا، لقَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله بن زيد حِين رأى الْأَذَان:
(ألقها على بِلَال فَإِنَّهُ أمد صَوتا مِنْك، وأقم أَنْت)
. وَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أذن فَهُوَ
يُقيم) ، كَانَ فِي حق زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي،
وَكَانَ حَدِيث الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ، وَأمره بِهِ
كَيْلا تدخله الوحشة.
الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز التَّسْبِيح وَالْحَمْد فِي
الصَّلَاة لِأَنَّهُ من ذكر الله تَعَالَى، وَأما إِذا
قَالَ: الْحَمد لله، وَأَرَادَ بِهِ الْجَواب اخْتلف
الْمَشَايِخ فِي فَسَاد صلَاته. وَفِي (الْمُحِيط) : لَو
حمد الله الْعَاطِس فِي نَفسه وَلَا يُحَرك لِسَانه، عَن
أبي حنيفَة، لَا تفْسد وَلَو حرك تفْسد. وَفِي (فَتَاوَى
العتابي) : لَو قَالَ السَّامع: الْحَمد على رَجَاء
الثَّوَاب من غير إِرَادَة الْجَواب لَا تفْسد، وَإِذا فتح
على إِمَامه لَا تفْسد، وعَلى غَيره تفْسد. وَقَالَ ابْن
قدامَة: قَالَ أَبُو حنيفَة: إِن فتح على الإِمَام بطلت
صلَاته قلت: هَذَا غير صَحِيح. وَقَالَ السفاقسي: احْتج
بِالْحَدِيثِ جمَاعَة من الحذاق على أبي حنيفَة فِي
قَوْله: إِن فتح الرجل لغير إِمَامه لم تجز صلَاته. قلت:
لَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على هَذَا، وَالَّذِي لَيْسَ
فِي صلَاته لَا يدْخل تَحت قَوْله: (من نابه شَيْء فِي
صلَاته) ، وَلِأَنَّهُ يكون تَعْلِيما وتلقينا. وَقَالَ
السفاقسي: قَالَ مَالك: من أخبر فِي صلَاته بسرور فَحَمدَ
الله تَعَالَى لَا تضر صلَاته. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: من
أخبر بمصيبة فَاسْتَرْجع، أَو أخبر بِشَيْء فَقَالَ:
الْحَمد لله على كل حَال، أَو قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي
بنعمته تتمّ الصَّالِحَات، لَا يُعجبنِي، وَصلَاته مجزية.
وَقَالَ أَشهب: إلاّ أَن يُرِيد بذلك قطع الصَّلَاة.
وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا سبح لأعمى خوف أَن يَقع
فِي بِئْر أَو دَابَّة أَو فِي حَيَّة إِنَّه جَائِز.
التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز الِالْتِفَات للْحَاجة، قَالَه
ابْن عبد الْبر، وَجُمْهُور الْفُقَهَاء على أَن
الِالْتِفَات لَا يفْسد الصَّلَاة إِذا كَانَ يَسِيرا قلت:
هَذَا إِذا كَانَ لحَاجَة، لما روى سهل بن الحنظلية من
حَدِيث فِيهِ: (فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي وَهُوَ يلْتَفت إِلَى الشّعب) . وَقَالَ أَبُو
دَاوُد: كَانَ أرسل فَارِسًا إِلَى الشّعب يحرس، وَقَالَ
الْحَاكِم: سَنَده صَحِيح، وَأما إِذا كَانَ لَا لحَاجَة
فَإِنَّهُ يكره، لما رُوِيَ عَن أبي ذَر قَالَ: قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يزَال الله
تَعَالَى مُقبلا على العَبْد وَهُوَ فِي صلَاته مَا لم
يلْتَفت، فَإِذا الْتفت انْصَرف عَنهُ) . وَعند ابْن
خُزَيْمَة عَن ابْن عَبَّاس: (كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا وَلَا يلوي عُنُقه خلف
ظَهره) . وَعند التِّرْمِذِيّ، واستغر بِهِ: (يلحظني
يَمِينا وَشمَالًا) . وَقَالَ ابْن الْقطَّان: صَحِيح،
وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن عَليّ بن شَيبَان، وَكَانَ أحد
الْوَفْد قَالَ: (صليت خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فلمح بمؤخر عَيْنَيْهِ إِلَى رجل لَا يُقيم صلبه فِي
الرُّكُوع وَالسُّجُود) . وَعَن جَابر صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهُوَ شَاك، فصلينا وَرَاءه قعُودا فَالْتَفت
إِلَيْنَا فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد: لَا صَلَاة لملتفت
قلت: ضعفه ابْن الْقطَّان وَغَيره.
الْعَاشِر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز اسْتِخْلَاف الإِمَام
إِذا أَصَابَهُ مَا يُوجب ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَمَالك وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول عمر وَعلي
وَالْحسن وعلقمة وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري،
وَعَن الشَّافِعِي وَأهل الظَّاهِر: لَا يسْتَخْلف
الإِمَام.
الْحَادِي عشر: فِيهِ جَوَاز شقّ الصُّفُوف وَالْمَشْي
بَين الْمُصَلِّين لقصد الْوُصُول إِلَى الصَّفّ الأول،
لَكِن هَذَا فِي حق الإِمَام وَيكرهُ فِي حق غَيره.
الثَّانِي عشر: فِيهِ جَوَاز إِمَامَة الْمَفْضُول للفاضل.
الثَّالِث عشر: فِيهِ سُؤال الرئيس عَن سَبَب مُخَالفَة
أمره قبل الزّجر عَن ذَلِك.
الرَّابِع عشر: فِيهِ إكرام الْكَبِير بمخاطبته بالكنية.
الْخَامِس عشر: فِيهِ أَن الْعَمَل الْقَلِيل فِي
الصَّلَاة لَا يُفْسِدهَا، لتأخر أبي بكر عَن مقَامه إِلَى
الصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ.
السَّادِس عشر: فِيهِ تَقْدِيم الْأَصْلَح وَالْأَفْضَل.
السَّابِع عشر: فِيهِ تَقْدِيم غير الإِمَام إِذا تَأَخّر،
وَلم يخف فتْنَة وَلَا إِنْكَار من الإِمَام.
الثَّامِن عشر: قيل فِيهِ تَفْضِيل الصَّلَاة فِي أول
الْوَقْت. قلت: إِنَّمَا صلوا فِي أول الْوَقْت ظنا
مِنْهُم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَأْتِيهم فِي
الْوَقْت وَالْجَمَاعَة كَانُوا حاضرين، وَفِي تأخيرهم
كَانَ تشويش لَهُم من جِهَة أَن فيهم من كَانَ ذَا حَاجَة
وَذَا ضعف وَنَحْو ذَلِك.
التَّاسِع عشر: فِيهِ أَن رفع الْيَد فِي الصَّلَاة لَا
يُفْسِدهَا.
الْعشْرُونَ: فِيهِ أَن الْمُصَلِّي إِذا نابه شَيْء
فليسبح، أَي فَلْيقل: سُبْحَانَ الله. وَعَن مَالك:
الْمَرْأَة تسبح كَالرّجلِ لِأَن كلمة: من، فِي الحَدِيث
تقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث. قَالَ: و: التصفيق
(5/211)
مَنْسُوخ بقوله: (من نابه شَيْء فِي صلَاته فليسبح) ،
وَأنْكرهُ بَعضهم، وَقَالَ: لِأَنَّهُ لَا يخْتَلف أَن أول
الحَدِيث لَا ينْسَخ آخِره، وَمذهب الشَّافِعِي
وَالْأَوْزَاعِيّ تَخْصِيص النِّسَاء بالتصفيق، وَهُوَ
ظَاهر الحَدِيث، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : (إِذا نابكم
شَيْء فِي صَلَاة فليسبح الرِّجَال وليصفق النِّسَاء.
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: فِيهِ شكر الله على الوجاهة فِي
الدّين. وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال. |