عمدة القاري شرح صحيح البخاري

62 - (بابٌ إذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شاءَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُصَلِّي إِذا صلى، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْأَمر بِالتَّخْفِيفِ على الْإِطْلَاق إِنَّمَا هُوَ فِي حق الْأَئِمَّة لِأَن خَلفه من لَا يُطيق التَّطْوِيل، وَأما إِذا صلى وَحده فَلَا حجر عَلَيْهِ إِن شَاءَ طول، وَإِن شَاءَ خفف، وَلَكِن لَا يَنْبَغِي التَّطْوِيل إِلَى أَن يخرج الْوَقْت، أَو يدْخل فِي حد الْكَرَاهَة.

703 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فإنَّ فِيهُمُ الضَّعِيفَ والسَّقِيمَ والكَبِيرَ وإذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شاءَ

(5/241)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهَذَا الْإِسْنَاد بهؤلاء الرِّجَال قد مر غير مرّة. وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله ابْن ذكْوَان، والأعرج: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
قَوْله: (للنَّاس) أَي: إِذا صلى إِمَامًا للنَّاس، أَو لأجل ثَوَاب النَّاس أَو لخيرهم الْحَاصِل من الْجَمَاعَة. قَوْله: (فَإِن فيهم) هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِن مِنْهُم) ، وَالْمرَاد بالضعيف هُنَا: ضَعِيف الْخلقَة، وبالسقيم: الْمَرِيض. وَزَاد مُسلم من وَجه آخر عَن أبي الزِّنَاد: (وَالصَّغِير وَالْكَبِير) . وَزَاد الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ: (وَالْحَامِل والمرضع) ، وَله من حَدِيث عدي بن حَاتِم: (والعابر السَّبِيل) ، وَحَدِيث أبي مَسْعُود الَّذِي مضى عَن قريب يَشْمَل الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة. قَوْله: (فليطول مَا شَاءَ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَليصل كَيفَ شَاءَ) أَي: مخففا أَو مطولا. وَفِي (مُسْند السراج) : حَدثنَا اللَّيْث بن سعد عَن ابْن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكر الحَدِيث. وَفِيه: (إِذا صلى وَحده فليطول إِن شَاءَ) . انْتهى. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يعلم من نَفسه مَا لَا يعلم من غَيره، وَقد ذكر الرب، جلّ جَلَاله، الْأَعْذَار الَّتِي من أجلهَا أسقط فرض قيام اللَّيْل عَن عباده فَقَالَ تَعَالَى: {علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} (المزمل: 20) الْآيَة، فَيَنْبَغِي للْإِمَام التَّخْفِيف مَعَ إِكْمَال الْأَركان، أَلاَ ترى أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ للَّذي لم يتم رُكُوعه وَلَا سُجُوده: (إرجع فصل فَإنَّك لم تصل) ! وَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تجزىء صَلَاة من لَا يُقيم ظَهره فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود) ، وَمِمَّنْ كَانَ يُخَفف الصَّلَاة من السّلف أنس بن مَالك، قَالَ ثَابت: صليت مَعَه الْعَتَمَة فَتجوز مَا شَاءَ الله، وَكَانَ سعد إِذا صلى فِي الْمَسْجِد خفف الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَتجوز، وَإِذا صلى فِي بَيته أَطَالَ الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالصَّلَاة، فَقيل لَهُ: فَقَالَ: إِنَّا أَئِمَّة يَقْتَدِي بِنَا، وَصلى الزبير بن الْعَوام صَلَاة خَفِيفَة فَقيل لَهُ: أَنْتُم أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخف النَّاس صَلَاة، فَقَالَ: إِنَّا نبادر هَذَا الوسواس، وَقَالَ عمار: إحذفوا هَذِه الصَّلَاة قبل وَسْوَسَة الشَّيْطَان، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يتم الرُّكُوع وَالسُّجُود ويتجوز، فَقيل لَهُ: هَكَذَا كَانَت صَلَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: نعم وأجوز. وَقَالَ عَمْرو بن مَيْمُون: لما طعن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ تقدم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَرَأَ بأخصر سورتين فِي الْقُرْآن: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} (الْكَوْثَر: 1) و {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} (النَّصْر: 1) وَكَانَ إِبْرَاهِيم يُخَفف الصَّلَاة وَيتم الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَقَالَ أَبُو مجلز: كَانُوا يتمون ويتجوزون ويبادرون الوسوسة، ذكر هَذِه الْآثَار ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .

63 - (بابُ منْ شكا إمامَهُ إذَا طَوَّلَ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: من شكى إِمَامه إِذا طول عَلَيْهِم الصَّلَاة.
وَقَالَ أبُو أُسَيْدٍ طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن قَول أبي أسيد لِابْنِهِ: طولت بِنَا الصَّلَاة، كالشكاية من تطويله، وَأَبُو أسيد، بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَأسيد، بِضَم الْهمزَة، كَذَا بِخَط الدمياطي. وَقَالَ الجياني فِي نُسْخَة أبي ذَر من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: أَبُو أسيد، بِفَتْح الْهمزَة. وَقَالَ أَبُو عبد الله: قَالَ عبد الرَّزَّاق ووكيع: أَبُو أسيد، وَهُوَ الصَّوَاب، واسْمه: مَالك بن ربيعَة الْأنْصَارِيّ السَّاعِدِيّ الْمدنِي، شهد الْمشَاهد كلهَا، وَهُوَ مَشْهُور بكنيته، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة سِتِّينَ، وَفِيه اخْتِلَاف كثير، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الْبَدْرِيِّينَ وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن الغسيل، قَالَ: حَدثنِي الْمُنْذر بن أبي أسيد الْأنْصَارِيّ قَالَ: كَانَ أبي يُصَلِّي خَلْفي، فَرُبمَا قَالَ لي: يَا بني طولت بِنَا الْيَوْم بالصافات. انْتهى. وَعلم من هَذَا أَن اسْم أبي أسيد: الْمُنْذر، وَقَوله: يَا بني بِالتَّصْغِيرِ لأجل الشَّفَقَة دون التحقير. وَفِي (التَّلْوِيح) قَالَ البُخَارِيّ: وَكره عَطاء أَن يؤم الرجل أَبَاهُ، هَذَا التَّعْلِيق مَذْكُور فِي بعض النّسخ، فلئن صَحَّ فقد رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: عَن وَكِيع حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أبي يزِيد الْمَكِّيّ عَن عَطاء قَالَ: لَا يؤم الرجل أَبَاهُ.

704 - حدَّثنا مُحَمَّد بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَن إسْمَاعِيلَ بنِ أبِي خالِدٍ عنْ قَيْسِ ابنِ أبِي حازِمٍ عنْ أبي مسْعُودٍ قَالَ قَالَ رجُلٌ يَا رسولَ الله إنِّي لاَتأخَّرُ عنِ الصَّلاَةِ فِي الفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ

(5/242)


بِنَا فُلانٌ فِيهَا فَغَضِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رأيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كانَ أشَدَّ غَضَبا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثمَّ قالَ يَا أيّهَا الناسُ إنَّ مِنْكُمْ منَفِّرِينَ فَمَنْ أمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإنَّ خَلْفَهُ الضَعِيفَ والكَبِيرَ وذَا الحَاجَةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب الَّذِي سبق قبل الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن إِسْمَاعِيل، وَهَهُنَا: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقيل: مُحَمَّد بن يُوسُف: هُوَ أَبُو مُحَمَّد البُخَارِيّ البيكندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْأول أصح، نَص عَلَيْهِ أَبُو نعيم. وَأَبُو مَسْعُود: هُوَ عقبَة ابْن عَمْرو البدري. قَوْله: (فِي موعظة) ، ويروى: (فِي مَوضِع) . قَوْله: (منفرين) ، ويروى: (المنفرين) ، بلام التَّأْكِيد، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَأنس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أما حَدِيث أبي وَاقد فَأخْرجهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) من حَدِيث عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم: عَن نَافِع بن سرجس قَالَ: عدنا أَبَا وَاقد اللَّيْثِيّ فَسَمعته يَقُول: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخف النَّاس صَلَاة على النَّاس، فأطول النَّاس صَلَاة لنَفسِهِ) . وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: عَن أَبِيه سَمِعت ابْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَيّكُم أم النَّاس فليخفف، فَإِن فيهم الضَّعِيف وَالْكَبِير وَذَا الْحَاجة) . وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح عَنهُ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا بِالتَّخْفِيفِ ويؤمنا) ، وَأما حَدِيث عُثْمَان فَأخْرجهُ مُسلم عَنهُ يرفعهُ: (من أم النَّاس فليخفف فَإِن فيهم الْكَبِير، وَإِن فيهم الضَّعِيف، وَإِن فيهم ذَا الْحَاجة فَإِذا صلى أحدكُم فَليصل كَيفَ شَاءَ) . وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض الْمَوَاضِع عمم الْخطاب وَلم يُخَاطب معَاذًا بِخُصُوصِهِ، وَقَالَ: (إِن مِنْكُم) ، وَفِي بَعْضهَا خصصه، وَقَالَ: (أفتَّان أَنْت؟) قلت: نظرا إِلَى الْمقَام، فَحَيْثُ بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن معَاذًا نَالَ مِنْهُ خاطبه بِالصَّرِيحِ، وَحَيْثُ لم يبلغهُ عممه تضعيفا للتعزير بِتَضْعِيف الجريمة.

705 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُحَارِبُ بنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله الأنْصَارِيّ قَالَ أقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذا يُصَلِّي فَتَرَكَ ناضِحَهُ وأقْبَلَ إلَيَّ مُعَاذٍ فَقَرأ بِسُورَةِ البَقَرَةِ أَو النِّساءِ فانْطَلَقَ الرّجُلْ وَبَلَغَهُ أنَّ معَاذًا نَالَ منْهُ فأتَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشَكا إلَيْهِ مُعَاذا فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا مُعَاذُ أفَتَّانٌ أنْتَ أوْ أفَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى والشمْسِ وضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَي فَإنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ والضَعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ أحْسِبُ هذَا فِي الحَدِيثِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ شكوى صَاحب الناضح إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من معَاذ حِين طول الصَّلَاة وَهُوَ إِمَام.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة، قد ذكرُوا فِيمَا مضى، ومحارب، بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء. و: دثار، بِكَسْر الدَّال: خلاف الشعار.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بناضحين) الناضح، بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة: مَا اسْتعْمل من الْإِبِل فِي سقِِي النّخل وَالزَّرْع، وَهُوَ الْبَعِير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ. قَوْله: (وَقد جنح اللَّيْل) أَي: أقبل بظلمته، وَهُوَ بِفَتْح النُّون من بَاب: فتح يفتح. قَوْله: (فَقَرَأَ سُورَة الْبَقَرَة) ، يُقَال: قَرَأَهَا وَقَرَأَ بهَا، لُغَتَانِ. قَوْله: (أَو النِّسَاء) الشَّك من محَارب، دلّت عَلَيْهِ رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة: شكّ محَارب، وَبِهَذَا يرد على من زعم أَن الشَّك فِيهِ من جَابر. قَوْله: (وبلغه) أَي: بلغ الرجل، وَهُوَ صَاحب الناضح. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أفتان أَنْت؟) فتان صفة وَاقعَة بعد ألف الِاسْتِفْهَام رَافِعَة لظَاهِر، وَيجوز أَن يكون مبتدإ و: أَنْت، سَادًّا مسد الْخَبَر، وَيجوز أَيْضا أَن تكون: أَنْت مُبْتَدأ و: هُوَ، خَبره، و: فتان، صِيغَة مُبَالغَة. فاتن. وَقَوله: (أَو فاتن) على وزن: فَاعل، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (فلولا صليت) أَي: فَهَلا صليت. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ فَهَلا قَرَأت. وَقد

(5/243)


علم أَن لَوْلَا تَأتي على أَرْبَعَة أوجه: مِنْهَا: أَن تكون للتخصيص وَالْعرض فتختص بالمضارع أَو مَا فِي تَأْوِيله. وَمِنْهَا: أَن تكون للتوبيخ والتنديم فتختص بالماضي. وَمِنْهَا: لربط امْتنَاع الثَّانِيَة بِوُجُود الأولى نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك. وَمِنْهَا: أَن تكون للاستفهام نَحْو: {لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب} (المُنَافِقُونَ: 10) . وَفِيه خلاف، وَهَهُنَا بِمَعْنى الْقسم، الثَّالِث، وَهُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) الخ، فِيهِ دَلِيل على أَن أوساط الْمفصل إِلَى: وَالضُّحَى، لِأَن هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الْعشَاء، وَالسّنة فِيهَا الْقِرَاءَة من أوساط الْمفصل لَا من قصاره، ثمَّ ذكر هَذِه السُّور الثَّلَاث لَيْسَ للتخصيص بِعَينهَا، لِأَن المُرَاد هَذِه الثَّلَاث أَو نَحْوهَا من الْقصار، كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات لفظ: وَنَحْوهَا. قَوْله: (أَحسب هَذَا فِي الحَدِيث) قَائِل: أَحسب، هُوَ شُعْبَة الرَّاوِي عَن محَارب، وَلَفْظَة: هَذَا، إِشَارَة إِلَى الْجُمْلَة الْأَخِيرَة. وَهِي قَوْله: (فَإِنَّهُ يُصَلِّي) إِلَى آخِره، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المحسوب هُوَ:: (فلولا صليت) إِلَى آخِره، لِأَن الحَدِيث بِرِوَايَة عَمْرو فِيمَا تقدم آنِفا انْتهى عِنْده حَيْثُ قَالَ: وَلَا أحفظهما. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: أَحسب يحْتَمل أَن يكون كَلَام محَارب أَو من بعده. قلت: قد بَين أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ أَن قَائِله شُعْبَة، كَمَا ذكرنَا، وَقد رَوَاهُ غير شُعْبَة من أَصْحَاب محَارب عَنهُ بِدُونِهَا، وَكَذَا أَصْحَاب جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: وَقيل: أَو إِنَّه من كَلَام البُخَارِيّ، وَأَن المُرَاد بِهِ لفظ: ذُو الْحَاجة، فَقَط. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه تخمين وحسبان، فَلذَلِك قَالَ: هُوَ لَكِن لم يتَحَقَّق لي ذَلِك لَا سَمَاعا وَلَا استنباطا من الْكتاب.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله وتَابَعَهُ سَعِيدُ بنُ مَسْرُوقٍ وَمِسْعَرٌ والشَّيْبَانِيُّ
أَي: تَابع شُعْبَة سعيد بن مَسْرُوق وَهُوَ وَالِد سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقد وصل رِوَايَته هَذِه أَبُو عوَانَة من طَرِيق أبي الْأَحْوَص عَنهُ. قَوْله: (ومسعر) ، بِالرَّفْع عطف على: سعيد، أَي: وتابع شُعْبَة أَيْضا مسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن كدام الْكُوفِي، وَقد وصل رِوَايَته السراج: عَن زِيَاد بن أَيُّوب حَدثنَا أَبُو نعيم عَنهُ عَن محَارب بِلَفْظ: (فَقَرَأَ بالبقرة وَالنِّسَاء، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما يَكْفِيك أَن تقْرَأ بالسماء والطارق، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَنَحْو هَذَا؟) قَوْله: (والشيباني) ، بِالرَّفْع أَيْضا عطف على: مسعر، أَي: وتابع شُعْبَة أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ، واسْمه: سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان، واسْمه: فَيْرُوز الْكُوفِي، وَوصل رِوَايَته الْبَزَّار عَن محَارب ومتابعة هَؤُلَاءِ فِي أصل الحَدِيث لَا فِي جَمِيع أَلْفَاظه.
قَالَ عَمْرٌ ووَعُبَيْدُ الله بنُ مِقْسَمٍ وأبُو الزُّبَيْر عنّ جَابِرٍ قَرَأ مُعَاذٌ فِي العِشَاءِ بِالبَقَرَةِ
عَمْرو: هُوَ ابْن دِينَار، وَإِنَّمَا قَالَ: قَالَ عَمْرو، وَلم يقل: وَتَابعه، مثل مَا قَالَ فِي سابقه ولاحقه، لِأَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لم يتابعوا أحدا فِي ذَلِك، أما رِوَايَة عَمْرو فقد تقدّمت فِي: بَاب إِذا طول الإِمَام، وَأما رِوَايَة عبيد الله بن مقسم، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف: الْمدنِي فوصلها ابْن خُزَيْمَة عَن بنْدَار عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى عَن قريب، وَأما رِوَايَة أبي الزبير مُحَمَّد بن كنَانَة فوصلها عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ، وَهِي عِنْد مُسلم من طَرِيق اللَّيْث عَنهُ، لَكِن لم يتَعَيَّن أَن السُّورَة الْبَقَرَة.
وتابَعَهُ الأعْمَشُ عنْ مُحَاربٍ
أَي: تَابع شُعْبَة سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن محَارب بن دثار، وَوصل رِوَايَته النَّسَائِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش عَن محَارب وَأبي صَالح، كِلَاهُمَا عَن جَابر بِطُولِهِ. وَقَالَ فِيهِ: (فطول بهم معَاذ وَلم يعين السُّورَة) ، وَالْفرق بَين المتابعتين أَعنِي السَّابِقَة واللاحقة أَن الأولى نَاقِصَة، إِذا لم يذكر المتابع عَلَيْهِ، والأخيرة كَامِلَة إِذا ذكره حَيْثُ قَالَ: عَن محَارب، وَالله أعلم.

64 - (بابُ الإيجَازِ فِي الصَّلاةِ وَإكْمَالِهَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إيجاز الصَّلَاة مَعَ إكمالها، أَي: إِكْمَال أَرْكَانهَا، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الإيجاز، فَقَط. وَمَعَ هَذَا هَذِه التَّرْجَمَة إِنَّمَا ثبتَتْ عِنْد الْمُسْتَمْلِي وكريمة، وَذكرهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا، وَلَيْسَت بموجودة فِي رِوَايَة البَاقِينَ.

(5/244)


706 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوارِثِ قَالَ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوجِزُ الصَّلاَةَ ويُكْمِلُهَا (الحَدِيث 707 طرفه فِي: 868) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا فَإِن قلت: فعلى سُقُوط هَذِه التَّرْجَمَة، فَمَا وَجه مُنَاسبَة هَذَا الحَدِيث لترجمة الْبَاب السَّابِق؟ قلت: من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر فِي حَدِيث ذَلِك الْبَاب بالإيجاز، وَهَهُنَا فعله بِنَفسِهِ، فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الإيجاز مَعَ الْإِكْمَال مَنْدُوب لِأَنَّهُ ثَبت بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفعله.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو المقعد، مر مرَارًا عديدة، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب.
وَفِي إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد، وَالْقَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَابْن مَاجَه وَلَفظه: (يوجز الصَّلَاة وَيتم الصَّلَاة) ، وَعند السراج: (يوجز فِي الصَّلَاة) ، وَفِي لفظ مُسلم: (كَانَ أتم النَّاس صَلَاة فِي إيجازه) . وَفِي لفظ: (أخف النَّاس صَلَاة فِي تَمام) ، وَفِي لفظ: (من أخف) ، وَفِي لفظ: (كَانَت صلَاته مُتَقَارِبَة) . وَكَانَت صَلَاة أبي بكر مُتَقَارِبَة، فَلَمَّا كَانَ عمر مد فِي صَلَاة الْفجْر. وَفِي لفظ: (مَا صليت بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة أخف من صلَاته فِي تَمام رُكُوع وَسُجُود) ، وَفِي لفظ: (كَانَ إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، قَامَ حَتَّى تَقول قد أوهم، وَكَانَ يقْعد بَين السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نقُول قد أوهم) . قَوْله: (يوجز الصَّلَاة) من الإيجاز، وَهُوَ ضد الإطناب، والإكمال ضد النَّقْص.

65 - (بابُ منْ أخَفَّ الصَّلاَةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصّبِيِّ)

يجوز أَن يُضَاف: بَاب، إِلَى: من، الموصولة، وَيجوز أَن ينون على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا بَاب. قَوْله: (من أخف) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: تَرْجَمته من أخف، وَقَوله: أخف، على وزن أفعل، من الإخفاف، وَهُوَ التَّخْفِيف.

707 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا الولِيدُ قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ عنْ يَحْيى بنِ أبي كَثِيرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ أبِي قَتَادَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي لأقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأسْمَعُ بكاءَ الصَّبِي فأتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أنْ أشُقَّ عَلَى أُمِّهِ (الحَدِيث 707 طرفه فِي: 868) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ يعرف بالصغير، مر فِي: بَاب غسل الْحَائِض رَأس زَوجهَا. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، مر فِي: بَاب وَقت الْمغرب. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير، وَقد مر أَيْضا. الْخَامِس: عبد الله بن أبي قَتَادَة أَبُو يحيى الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ. السَّادِس: أَبوهُ الْحَارِث بن ربعي الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: عَن يحيى، وَفِي رِوَايَة بشر الْآتِيَة عَن يحيى الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي يحيى. وَفِيه: عَن عبد الله ابْن أبي قَتَادَة فِي رِوَايَة ابْن سَماع عَن الْأَوْزَاعِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي عبد الله ابْن أبي قَتَادَة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي ودمشقي ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مِسْكين عَن بشر بن بكر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن دُحَيْم عَن عمر بن عبد الْوَاحِد وَبشر بن بكر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن دُحَيْم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنِّي لأَقوم فِي الصَّلَاة أُرِيد) وَفِي رِوَايَة بشر بن بكر: (لأَقوم إِلَى الصَّلَاة وَأَنا أُرِيد) ، وَالْوَاو فِي: وَأَنا أُرِيد، للْحَال. وَقَوله: أُرِيد، أَيْضا فِي مَوضِع الْحَال. قَوْله: (أَن أطول) : أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: أُرِيد التَّطْوِيل فِي الصَّلَاة. قَوْله: (بكاء الصَّبِي) الْبكاء إِذا مددت أردْت بِهِ الصَّوْت الَّذِي يكون مَعَه، وَإِذا قصرت أردْت خُرُوج الدمع، وَهَهُنَا مَمْدُود لَا محَالة بِقَرِينَة: (فَأَسْمع) ، إِذْ السماع لَا يكون إلاّ فِي الصَّوْت. قَوْله: (فأتجوز) أَي: فأخفف. وَقَالَ ابْن سابط: التَّجَوُّز هُنَا: يُرَاد بِهِ تقليل الْقِرَاءَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان

(5/245)


عَن أبي السَّوْدَاء النَّهْدِيّ: (عَن ابْن سابط: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الرَّكْعَة الأولى بِسُورَة نَحْو سِتِّينَ آيَة، فَسمع بكاء صبي فَقَرَأَ فِي الثَّانِيَة بِثَلَاث آيَات) . قلت: ابْن سابط هُوَ: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن سابط الجُمَحِي، مَاتَ بِمَكَّة سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة. قَوْله: (كَرَاهِيَة) ، بِالنّصب على التَّعْلِيل مُضَاف إِلَى: أَن، المصدرية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز إِدْخَال الصَّبِي فِي الْمَسْجِد، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لاحْتِمَال أَن يكون الصَّبِي كَانَ مخلفا فِي بَيت يقرب من الْمَسْجِد. قلت: لَيْسَ هَذَا مَوضِع النّظر، لِأَن الظَّاهِر أَن الصَّبِي لَا يُفَارق أمه غَالِبا. وَفِيه: دلَالَة على جَوَاز صَلَاة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال. وَفِيه: دلَالَة على كَمَال شَفَقَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَصْحَابه، ومراعاة أَحْوَال الْكَبِير مِنْهُم وَالصَّغِير، وَبِه اسْتدلَّ بعض الشَّافِعِيَّة على أَن الإِمَام إِذا كَانَ رَاكِعا فأحس بداخل يُرِيد الصَّلَاة مَعَه ينتظره ليدرك مَعَه فَضِيلَة الرَّكْعَة فِي جمَاعَة، وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ لَهُ أَن يحذف من طول الصَّلَاة لحَاجَة الْإِنْسَان فِي بعض أُمُور الدُّنْيَا كَانَ لَهُ أَن يزِيد فِيهَا لعبادة الله تَعَالَى، بل هَذَا أَحَق وَأولى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَلَا دلَالَة فِيهِ، لِأَن هَذَا زِيَادَة عمل فِي الصَّلَاة بِخِلَاف الْحَذف. وَقَالَ ابْن بطال: وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك الشّعبِيّ وَالْحسن وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَقَالَ آخَرُونَ: ينْتَظر مَا لم يشق على أَصْحَابه، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَقَالَ مَالك: لَا ينْتَظر لِأَنَّهُ يضر من خَلفه، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ السفاقسي عَن سَحْنُون: صلَاتهم بَاطِلَة. قلت: وَفِي (الذَّخِيرَة) من كتب أَصْحَابنَا: سمع الإِمَام فِي الرُّكُوع خَفق النِّعَال، هَل ينْتَظر؟ قَالَ أَبُو يُوسُف: سَأَلت أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى عَن ذَلِك فكرهاه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: أخْشَى عَلَيْهِ أمرا عَظِيما يَعْنِي الشّرك وروى هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه كره ذَلِك، وَعَن أبي مُطِيع: أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِذا كَانَ ذَلِك مِقْدَار التسبيحة والتسبيحتين، وَقَالَ بَعضهم: يطول التسبيحات وَلَا يزِيد فِي الْعدَد، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الصفَّار: إِن كَانَ الجائي غَنِيا لَا يجوز، وَإِن كَانَ فَقِيرا يجوز انْتِظَاره. وَقَالَ أَبُو اللَّيْث: إِن كَانَ الإِمَام عرف الجائي لَا ينتظره، وَإِن لم يعرفهُ فَلَا بَأْس بِهِ، إِذْ فِيهِ إِعَانَة على الطَّاعَة. وَقيل: إِن أَطَالَ الرُّكُوع لإدراك الجائي خَاصَّة وَلَا يُرِيد إطالة الرُّكُوع للتقرب إِلَى الله تَعَالَى، فَهَذَا مَكْرُوه، وَقيل: إِن كَانَ الجائي شريرا ظَالِما لَا يكره لدفع شَره.
تابَعَهُ بِشْرُ بنُ بَكْرٍ وابنُ المُبَارَكِ وَبَقِيَّةُ عنِ الأوزَاعِيِّ
أَي: تَابع الْوَلِيد بن مُسلم بن بشر بن بكر الشَّامي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة. وَبكر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة. وَذكر البُخَارِيّ فِي: بَاب خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد، حَدِيث بشر مُسْندًا: حَدثنَا مُحَمَّد بن مِسْكين، قَالَ: حَدثنَا بشر بن بكر، قَالَ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي لأَقوم إِلَى الصَّلَاة) الحَدِيث. وَقَالَ بعض الشُّرَّاح فِي هَذَا الْموضع: هِيَ مَوْصُولَة عِنْد الْمُؤلف فِي كتاب الْجُمُعَة. قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ وسهو، وَلَيْسَ الْأَمر إلاَّ كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَابْن الْمُبَارك) أَي: تَابع الْوَلِيد بن مُسلم أَيْضا عبد الله ابْن الْمُبَارك، ومتابعته هَذِه رَوَاهَا النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر، قَالَ: أخبرنَا عبد الله عَن الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِنِّي لأَقوم) الحَدِيث. قَوْله: (وَبَقِيَّة) أَي: وتابع الْوَلِيد بن مُسلم بَقِيَّة أَيْضا، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن الْوَلِيد الكلَاعِي، بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام: الْحَضْرَمِيّ، سكن حمص، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم وَالْبُخَارِيّ اسْتشْهد بِهِ، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، وتابع مُسلم بن الْوَلِيد أَيْضا عمر بن عبد الْوَاحِد أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا عمر بن عبد الْوَاحِد وَبشر بن بكر عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي لأَقوم) الحَدِيث، وتابع الْوَلِيد أَيْضا إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن سَمَّاعَة، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ.

708 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ قَالَ حدَّثنا شَرِيكُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يَقُولُ مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أخَ صَلاَةً ولاَ أتَمَّ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(5/246)


وإنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفّفُ مَخَافَةَ أنْ تفْتَنَ أُمُّهُ (الحَدِيث 709 طرفه فِي: 710) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: البَجلِيّ الْكُوفِي، مر فِي أول كتاب الْعلم. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد التَّيْمِيّ. الثَّالِث: شريك بن عبد الله بن أبي نمير، أَبُو عبد الله الْقرشِي، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ من أنفسهم، مَاتَ عَام أَرْبَعِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ كُوفِي وَبَقِيَّة الروَاة مدنيون، وَقَالَ بَعضهم: والإسناد كُله مدنيون وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن خَالِد بن مخلد كُوفِي، كَمَا ذكرنَا، وَيُقَال لَهُ: الْقَطوَانِي أَيْضا، وقطوان محلّة على بَاب الْكُوفَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل ابْن جَعْفَر عَن شريك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أخف) صفة للْإِمَام، وَصَلَاة نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (وَإِن كَانَ) ، إِن هَذِه لَفْظَة مُخَفّفَة وَأَصلهَا: وَأَنه، وَالضَّمِير فِيهِ للشان. قَوْله: (فيخفف) ، بَين مُسلم فِي رِوَايَة ثَابت مَحل التَّخْفِيف، وَلَفظه: (فَيقْرَأ بالسورة القصيرة) . قَوْله: (مَخَافَة) ، نصب على التَّعْلِيل مُضَاف إِلَى: أَن، المصدرية. قَوْله: (أَن تفتتن أمه) ، من الافتتان، أَي: تلتهي عَن صلَاتهَا لاشتغال قَلبهَا ببكائه، زَاد عبد الرَّزَّاق من مُرْسل عَطاء: (أَو تتركه فيضيع) . وَقَالَهُ الْكرْمَانِي: ويفتن من الثلاثي، وَمن الْأَفْعَال والتفعيل. وَالثَّالِث: (قلت) اشار بِهَذَا إِلَى ثَلَاثَة أوجه مِنْهُ الاول يفتن على صِيغَة الْمَجْهُول من فتن يفتن وَالثَّانِي من افتن على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا من التفتين، وَالَّذِي ذكرته من بَاب الافتعال، فَيكون على أَرْبَعَة أوجه.

709 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةَ أنَّ أنَسَ بنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي لأدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وأنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا فاسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فأتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ منْ بُكَائِهِ (الحَدِيث 709 طرفه فِي: 710) .

هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث أنس عَن عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر أَبُو الْحسن، يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ، عَن يزِيد بن زُرَيْع، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَرُوَاته كلهم بصريون.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمنْهَال عَن يزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن نصر بن عَليّ عَن عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (مِمَّا أعلم) ، كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، والعائد محذوفا. قَوْله: (وجد أمه) الوجد: الْحزن. قَالَ ابْن سَيّده: وجد الرجل وجدا ووجدا، كِلَاهُمَا عَن اللحياني: حزن. وَفِي (الفصيح) : وَوجدت فِي الْحزن وجدا، ومضارعه: يجد، وَحكى الْقَزاز عَن الْفراء: يجد، يَعْنِي بِضَم الْجِيم. وَفِي (الْمطَالع) : من موجدة أمه، أَي: من حبا إِيَّاه وحزنها لبكائه. قَالَ: وَقد رُوِيَ: (من وجد أمه) ، قَالَ بَعضهم: وَكَانَ ذكر الْأُم خرج مخرج الْغَالِب، وإلاَّ فَمن كَانَ فِي مَعْنَاهَا يلْتَحق بهَا، وَفِيه نظر، لِأَن غير الْأُم لَيْسَ كالأم فِي الموجدة، وَيفهم من قَوْله: (وَأَنا أُرِيد إطالتها) ، أَن من قصد فِي الصَّلَاة الْإِتْيَان بِشَيْء لَا يجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بِهِ، بل يسْتَحبّ، خلافًا لأَشْهَب، فَإِنَّهُ قَالَ: من نوى التَّطَوُّع قَائِما لَيْسَ لَهُ أَن يتمه جَالِسا.

710 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي عَدِيٍ عنْ سَعِيدٍ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي لأدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ فأُرِيدُ إطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأتَجَوَّزُ مِمَّا أعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ (أُنظر الحَدِيث 709) .

هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث أنس عَن مُحَمَّد بن بشار الملقب ببندار عَن مُحَمَّد بن أبي عدي وَاسم أبي عدي: إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ

(5/247)


عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَرِجَاله كلهم بصريون. قَوْله: (مِمَّا أعلم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لما أعلم) ، بلام التَّعْلِيل.
وَقَالَ مُوسَى حدَّثنا أبانُ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ قَالَ حدَّثنا أنسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ
هَذَا تَعْلِيق، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، وَأَبَان هُوَ ابْن يزِيد الْعَطَّار.
وَفَائِدَة هَذَا التَّعْلِيق بَيَان سَماع قَتَادَة لَهُ من أنس، وَوَصله السراج فِي (مُسْنده) فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن جرير بن جبلة حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أبان بن يزِيد حَدثنَا قَتَادَة، فَذكره بِلَفْظ: (إِنِّي أقوم فِي الصَّلَاة وَأَنا أُرِيد إطالتها، فَأَسْمع بكاء الصَّبِي فأتجوز فِي صَلَاتي مِمَّا أعلم من شدَّة وجد أمه ببكائه) . وَفِي حَدِيث حميد وَعلي بن يزِيد عَنهُ: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جوز ذَات يَوْم فِي صَلَاة الْفجْر، فَقلت لَهُ: جوزت يَا رَسُول الله! قَالَ: سَمِعت بكاء صبي فَكرِهت أَن أشغل عَلَيْهِ أمه) . وَفِي لفظ: (سمع صَوت صبي وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فَخفف الصَّلَاة فظننا أَنه خفف رَحْمَة للصَّبِيّ من أجل أَن أمه فِي الصَّلَاة) . وَفِي حَدِيث ثَابت عَنهُ: (إِذا سمع بكاء الصَّبِي قَرَأَ بالسورة الْخَفِيفَة، أَو السُّورَة القصيرة، شكّ جَعْفَر بن سُلَيْمَان) .

66 - (بابُ إذَا صَلَّى ثُمَّ أمَّ قَوْما)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا صلى رجل مَعَ الإِمَام ثمَّ أم قوما وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، جَريا على عَادَته فِي ترك الْجَزْم بالحكم الْمُخْتَلف فِيهِ، وَالظَّاهِر أَن ميله إِلَى جَوَاز ذَلِك، فَحِينَئِذٍ يقدر الْجَواب لفظ: يجوز أَو يجزىء.

711 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وأبُو النُّعْمَانِ قَالَا حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ عَمْرِو بنِ دِينَار عنْ جَابِرٍ قَالَ كانَ مُعاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يَأتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد مروا غير مرّة، وَقد مر الْبَحْث فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ مُسْتَوفى.

67 - (بابُ مَنْ أسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإمَامِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أسمع النَّاس، وَهَذَا بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْمُؤَذّن وَغَيره مِمَّن يسمع النَّاس تَكْبِير الإِمَام فِي الصَّلَاة.

712 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ دَاوُدَ قالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا مَرِضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَضَهُ الَّذِي ماتَ فِيهِ أتاهُ بِلاَلٌ يُؤذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فقالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ قُلْتُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ إنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي فَلاَ يَقْدِرُ عَلى القِرَاءَةِ قَالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ فَقُلْتُ مِثْلَهُ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَو الرَّابِعَةِ إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ فَصَلَّى وخَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهَادِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ الأرْضَ فَلَمَّا رَآهُ أبُو بَكْرٍ ذَهَبَ يَتأخَّرُ فأشَارَ إلَيْهِ أنْ صَلِّ فَتَأخَّرَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وقَعَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى جَنْبِهِ وأبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَبُو بكر يسمع النَّاس التَّكْبِير) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي: بَاب حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجُمُعَة. وَفِي: بَاب أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق بِالْإِمَامَةِ.
قَوْله: (يُؤذنهُ) بِضَم الْيَاء من الإيذان، وَهُوَ الْإِعْلَام. قَوْله: (أسيف) أَي: رَقِيق الْقلب. قَوْله: (إِن يقم مقامك) ، وَقَالَ ابْن مَالك فِي بعض الرِّوَايَات: (إِن يقم مقامك يبكي) . قَوْله: (فَليصل) ، أَمر مجزوم، وَيجوز بِإِثْبَات الْيَاء فِيهِ فِي موضِعين، وَهُوَ من قبيل إِجْرَاء المعتل مجْرى الصَّحِيح، والاكتفاء بِحَذْف الْحَرَكَة.

(5/248)


قَوْله: (يهادي) بِفَتْح الدَّال أَي: يمشي بَين اثْنَيْنِ مُعْتَمدًا عَلَيْهِمَا. قَوْله: (وَأَبُو بكر) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
تابَعَهُ مُحَاضِرٌ عنِ الأعْمَشِ
أَي: تَابع عبد الله بن دَاوُد محَاضِر عَن سُلَيْمَان عَن الْأَعْمَش، و: محَاضِر، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ وَبعد الْألف ضاد مُعْجمَة مَكْسُورَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن الْمُوَرِّع، بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَكسر الرَّاء: الْهَمدَانِي الْكُوفِي، مَاتَ سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ.

68 - (بابٌ الرَّجُلُ يَأتَمُّ بالإمَامِ ويأتَمُّ النَّاسُ بِالمَأمُومِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الرجل الَّذِي يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ ويقتدي النَّاس بالمأموم الَّذِي اقْتدى بِالْإِمَامِ، وَالَّذِي يظْهر من هَذِه التَّرْجَمَة أَن البُخَارِيّ يمِيل إِلَى مَذْهَب الشّعبِيّ فِي ذَلِك، لِأَن الشّعبِيّ يرى أَن الْجَمَاعَة يتحملون عَن بَعضهم بَعْضًا مَا يتحمله الإِمَام، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ، فِيمَن أحرم قبل أَن يرفع الصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ رؤوسهم من الرَّكْعَة: إِنَّه أدْركهَا، وَلَو كَانَ الإِمَام رفع قبل ذَلِك، لِأَن بَعضهم لبَعض أَئِمَّة، فَهَذَا يدل على أَن كل وَاحِد من الْجَمَاعَة إِمَام للْآخر، مَعَ كَونهم مأمومين، وَأَنه لَيْسَ المُرَاد أَنه يأتم بِالْإِمَامِ ويأتم النَّاس بِهِ فِي التَّبْلِيغ فَقَط. فَإِن قلت: ظَاهر حَدِيث الْبَاب السَّابِق يدل على أَن النَّاس كَانُوا مَعَ أبي بكر فِي مقَام التَّبْلِيغ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (وَأَبُو بكر يسمع النَّاس فِيهِ) . قلت: إسماع أبي بكر لَهُم التَّكْبِير جُزْء من أَجزَاء مَا يأتمون بِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ نفي لغيره، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش فِي حَدِيث الْبَاب السَّابِق، وَفِيه: (وَالنَّاس يأتمون بِأبي بكر، وَأَبُو بكر يسمعهم) . وَمِمَّا يُؤَكد أَن ميل البُخَارِيّ إِلَى مَذْهَب الشّعبِيّ كَونه صدر هَذَا الْبَاب بِالْحَدِيثِ الْمُعَلق، فَإِنَّهُ صَرِيح فِي أَن الْقَوْم يأتمون بِالْإِمَامِ فِي الصَّفّ الأول، وَمن بعدهمْ يأتمون بهم، كَمَا نذكرهُ عَن قريب.
ويُذْكَرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ائْتَمُّوا بِي ولْيَأتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ
هَذَا التَّعْلِيق أخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن الدَّارمِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الرقاشِي حَدثنَا بشر بن مَنْصُور عَن الْجريرِي عَن أبي نَضرة (عَن أبي سعيد: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى فِي أَصْحَابه تأخرا، فَقَالَ لَهُم: تقدمُوا فأئتموا بِي، وليأتم بكم من بعدكم، وَلَا يزَال قوم يتأخرون حَتَّى يؤخرهم الله تَعَالَى) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَمُحَمّد بن عبد الله الْخُزَاعِيّ، قَالَا: حَدثنَا أَبُو الْأَشْهب عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ ... الحَدِيث، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
قَوْله: (ائتموا بِي) خطاب لأهل الصَّفّ الأول. قَوْله: (وليأتم بكم من بعدكم) مَعْنَاهُ عِنْد الْجُمْهُور: يستدلون بأفعالكم على أفعالي، لَا أَنهم يقتدون بهم، فَإِن الِاقْتِدَاء لَا يكون إِلَّا لإِمَام وَاحِد، وَمذهب من يَأْخُذ بِظَاهِرِهِ وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن.
وَفِيه: جَوَاز اعْتِمَاد الْمَأْمُوم فِي مُتَابعَة الإِمَام الَّذِي لَا يرَاهُ وَلَا يسمعهُ على مبلغ عَنهُ أَو صف قدامه يرَاهُ مُتَابعًا للْإِمَام.
قَوْله: (من) ، بِفَتْح الْمِيم، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله: (وليأتم) ، قَوْله: (وَلَا يزَال قوم يتأخرون) أَي: عَن الصَّفّ الأول حَتَّى يؤخرهم الله عَن عَظِيم فَضله أَو رفع مَنْزِلَته أَو نَحْو ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي، وَيذكر تَعْلِيق بِلَفْظ التمريض، قَالَ بَعضهم: هَذَا عِنْدِي لَيْسَ بصواب لِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَونه على غير شَرطه أَنه لَا يصلح للاحتجاج بِهِ عِنْده، بل قد يكون صَالحا للاحتجاج بِهِ عِنْده وَلَيْسَ هُوَ على شَرط صَحِيحه الَّذِي هُوَ على شُرُوط الصِّحَّة قلت: هَذَا الَّذِي ذكره يخرم قَاعِدَته، لِأَنَّهُ إِذا لم يكن على شَرطه كَيفَ يحْتَج بِهِ؟ وإلاّ فَلَا فَائِدَة لذَلِك الشَّرْط، وَأَبُو نَضرة الَّذِي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، لَيْسَ على شَرطه، وَإِنَّمَا يصلح عِنْده للاستشهاد، وَلِهَذَا اسْتشْهد بِهِ عَن جَابر فِي كتاب الشُّرُوط على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأَبُو نَضرة، بالنُّون الْمَفْتُوحَة وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: واسْمه الْمُنْذر بن مَالك الْعَوْفِيّ الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْأَشْهب فِي مُسْند أبي دَاوُد واسْمه: جَعْفَر بن حبَان العطاردي السَّعْدِيّ الْبَصْرِيّ الْأَعْمَى، وَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.

(5/249)


713 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الاسْوَدِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ لَما ثَقُلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ بِلاَلٌ يُؤذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ وإنَّهُ مَتَى مَا يعمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أمَرْتَ عُمَرَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ وإنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعُ الناسَ فَلَوْ أمَرْتَ عُمَرَ قالَ إنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَجَدَ رسولُ الله فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فقامَ يُهَادِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ ورِجْلاَهُ يَخُطَّانِ فِي الأرْضِ حَتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ فَلَمَّا سَمِعَ أبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ أبُو بَكْرٍ يَتَأخَّرُ فأوْمأ إلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جَلَسَ عنْ يَسَارِ أبِي بَكْرٍ فَكَانَ أبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِما وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي قاعِدا يَقْتَدِي أبُو بَكْرٍ بِصَلاَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِصَلاَةِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَقْتَدِي أَبُو بكر بِصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي: بَاب حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة، رَوَاهُ عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَفِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زَائِدَة عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبيد الله بن عبد الله عَن عَائِشَة، وَفِي: بَاب من أسمع النَّاس تَكْبِير الإِمَام، عَن مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَقد مر الْكَلَام فِي مباحثه مُسْتَوْفِي. قَوْله: (يُؤذنهُ) أَي: يُعلمهُ. قَوْله: (مروا أَبَا بكر أَن يُصَلِّي) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (مروا أَبَا بكر يُصَلِّي) . قَوْله: (مَتى مَا يقوم) ، هَكَذَا بِإِثْبَات الْوَاو فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَتى مَا يقم) ، بِالْجَزْمِ هَذَا على الأَصْل، لِأَن: مَتى، من كلم المجازاة، وَأما على رِوَايَة الْأَكْثَرين فشبهت: مَتى بإذا فأهملت كَمَا تشبه: إِذا بمتى، فتهمل كَمَا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أَرْبعا وَثَلَاثِينَ. وتسبحا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتحمدا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) . قَوْله: (فَلَو أمرت) لَو، إِمَّا للشّرط وَجَوَابه مَحْذُوف، وَإِمَّا لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب. قَوْله: (تخطان فِي الأَرْض) . هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (تخطان الأَرْض) . قَوْله: (حسه) أَي: صَوته الْخَفي. قَوْله: (يتَأَخَّر) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فَأَوْمأ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: أَشَارَ إِلَيْهِ أَن لَا يتَأَخَّر. قَوْله: (حَتَّى جلس عَن يسَار أبي بكر) إِنَّمَا لم يجلس عَن الْيَمين، لِأَن الْيَسَار كَانَ من جِهَة حجرته، فَكَانَ أخف عَلَيْهِ. قَوْله: (مقتدون بِصَلَاة أبي بكر) على صِيغَة الْجمع باسم الْفَاعِل، ويروى: (يقتدون) ، بِصِيغَة الْمُضَارع.

69 - (بابٌ هِلْ يَأخُذُ الإمَامُ إذَا شَكَّ بِقَوْلِ الناسِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: هَل يَأْخُذ الإِمَام ... إِلَى آخِره، وَفِي بعض النّسخ: هَل يَأْخُذ الإِمَام بقول النَّاس إِذا شكّ، يَعْنِي فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا لم يذكر الْجَواب لِأَنَّهُ مَشى على عَادَته أَن الحكم فِيهِ إِذا كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ لَا يذكرهُ بِالْجَزْمِ. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَن الإِمَام إِذا شكّ فِي صلَاته فَأخْبرهُ الْمَأْمُوم بترك رَكْعَة مثلا، هَل يرجع إِلَى قَوْله أم لَا؟ وَاخْتلف عَن مَالك فِي ذَلِك فَقَالَ مرّة: يرجع إِلَى قَوْلهم: وَهُوَ قَول أبي حنيفَة: وَقَالَ مرّة: يعْمل عمل يقينه وَلَا يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابه. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شكّ بِإِخْبَار ذِي الْيَدَيْنِ، فَسَأَلَهُمْ إِرَادَة تَيَقّن أحد الْأَمريْنِ، فَلَمَّا صدقُوا ذَا الْيَدَيْنِ علم صِحَة قَوْله. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ البُخَارِيّ بتبويبه.
103 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة عَن مَالك بن أنس عَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ)

(5/250)


عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انْصَرف من اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أقصرت الصَّلَاة أم نسيت يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصدق ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاس نعم فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصلى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثمَّ سلم ثمَّ كبر فَسجدَ مثل سُجُوده أَو أطول) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شكّ فِيمَا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَرجع فِيهِ إِلَى قَول النَّاس وَهُوَ السَّبَب الظَّاهِر فِي ذَلِك وَإِن كَانَ يحْتَمل تذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَمر من تِلْقَاء نَفسه فَبنى عَلَيْهِ لَا على إِخْبَار النَّاس لِأَن هَذَا سَبَب خَفِي وَالشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ سببان ظَاهر وخفي فيسند إِلَى السَّبَب الظَّاهِر دون الْخَفي. (ذكر رِجَاله) قد ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه ذكر مَالك بنسبته إِلَى أَبِيه وَكَذَلِكَ أَيُّوب ذكر مَعَ نسبته إِلَى حرفته وَاسم أبي تَمِيمَة كيسَان وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مدنِي وبصري وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَقد ذكرنَا مبَاحث هَذَا الحَدِيث وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من كل شَيْء فِي بَاب تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَفِي بَاب التَّوَجُّه نَحْو الْقبْلَة قَوْله " انْصَرف من اثْنَتَيْنِ " أَي رَكْعَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ من الصَّلَاة الرّبَاعِيّة وَكَانَت إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء على مَا جَاءَ فِي لفظ البُخَارِيّ " صلى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء " قَالَ ابْن سِيرِين سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَة وَلَكِن نسيت أَنا. وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عَن مُحَمَّد أكبر ظَنِّي أَنَّهَا الظّهْر وَكَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي الْأَدَب وَفِي الْمُوَطَّأ الْعَصْر قَوْله " أصدق ذُو الْيَدَيْنِ " واسْمه الْخِرْبَاق بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة والهمزة فِي " أقصرت " للاستفهام عَن سَبَب تَغْيِير وضع الصَّلَاة وَنقص ركعاتها قَوْله " مثل سُجُوده " ظَاهره أَنه سَجْدَة وَاحِدَة وَلَكِن لفظ السُّجُود مصدر يتَنَاوَل السَّجْدَة والسجدتين والْحَدِيث الَّذِي يَأْتِي بعده يبين أَن المُرَاد سَجْدَتَانِ -
715 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ فَقَيلَ صلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.

هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن سعد ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن عَمه أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عبد الله ابْن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن عبيد الله عَن بهز عَن شُعْبَة بِهِ، وَقَالَ: لَا أعلم أحدا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث: ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ، غير سعد بن إِبْرَاهِيم فَإِن قلت: روى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) : أخبرنَا أَبُو يعلى حَدثنَا ابْن معِين حَدثنَا شُعَيْب بن أبي مَرْيَم حَدثنَا لَيْث وَابْن وهب عَن عبد الله الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ سَجْدَتي السَّهْو، قَالَ: وَكَانَ ابْن شهَاب يَقُول: إِذا عرف الرجل مَا نسي من صلَاته فأتمها فَلَيْسَ عَلَيْهِ سجدتا السَّهْو، لهَذَا الحَدِيث قلت: قَالَ مُسلم فِي التَّمْيِيز: قَول ابْن شهَاب، إِنَّه لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، خطأ وَغلط، وَقد ثَبت أَنه سجد سَجْدَتي السَّهْو من رِوَايَة الثِّقَات ابْن سِيرِين وَغَيره.