عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 78 - (بابٌ المَرْأةُ وَحْدَهَا تَكُونُ
صَفّا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْمَرْأَة تكون صفا،
اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: الْوَاحِد والواحدة لَا
تسمى صفا إِذا انْفَرد، وَإِن جَازَت صلَاته مُنْفَردا خلف
الصَّفّ، وَأَقل مَا يُسمى إِذا جمع بَين اثْنَيْنِ على
طَريقَة وَاحِدَة، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قيل فِي قَوْله
تَعَالَى:
(5/260)
{يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا}
(النبإ: 38) . أَن الرّوح وَحده صف، وَالْمَلَائِكَة صف،
وَأجَاب الْكرْمَانِي: بِأَن المُرَاد أَنَّهَا لَا تقف
فِي صف الرِّجَال، بل تقف وَحدهَا، وَيكون فِي حكم صف. أَو
أَن جنس الْمَرْأَة غير مختلطة بِالرِّجَالِ تكون صفا.
727 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عَنْ إسْحَاقَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ
صَلَّيْتُ أَنا ويَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأمي أم سليم خلفنا) ،
لِأَنَّهَا وقفت خَلفهم وَحدهَا، فَصَارَت فِي حكم
الصَّفّ. وَعبد الله بن أبي مُحَمَّد هُوَ الْجعْفِيّ
الْمَعْرُوف بالمسندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة
وَإِسْحَاق ابْن عبد الله بن أبي طَلْحَة. وَفِي رِوَايَة
الْحميدِي عِنْد أبي نعيم وَعلي بن الْمدنِي عِنْد
الْإِسْمَاعِيلِيّ، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان حَدثنَا
إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة: أَنه سمع أنس بن
مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن
عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ. وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا
الحَدِيث مطولا فِي: بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير، عَن
عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن إِسْحَاق بن عبد الله،
وَقد ذكرنَا مباحثه هُنَاكَ مستوفاة.
قَوْله: (صليت أَنا ويتيم) ، ذكر لَفْظَة: أَنا، ليَصِح
الْعَطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع، وَهُوَ مَذْهَب
الْبَصرِيين، والكوفيون لم يشترطوا ذَلِك، واليتيم هُوَ:
ضميرَة بن أبي ضميرَة، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة، لَهُ
ولابنه صُحْبَة. قَوْله: (وَأمي أم سليم) وَأمي، عطف على:
يَتِيم، و: أم سليم، عطف بَيَان، وَكَانَت مشتهرة بِهَذِهِ
الكنية، وَاسْمهَا: سهلة، وَقيل: رميلة أَو رميثة أَو
الرميصاء أَو الغميضاء، زَوْجَة أبي طَلْحَة، وَكَانَت
فاضلة دينة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك: أَن النِّسَاء إِذا
صلين مَعَ الرِّجَال يجوز، وَلَكِن يَقِفن فِي آخر
الصُّفُوف، لما رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (أخروهن من حَيْثُ أخرهن الله) . أخرجه
عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن
الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن أبي معمر عَن ابْن
مَسْعُود، وَمن طَرِيقه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(مُعْجَمه) . وَكلمَة: حَيْثُ، عبارَة عَن الْمَكَان،
وَلَا مَكَان يجب تأخيرهن فِيهِ إلاّ مَكَان الصَّلَاة،
فالمأمور بِالتَّأْخِيرِ الرِّجَال، فَإِذا حاذت الرجل
امْرَأَة فَسدتْ صلَاته دون صلَاتهَا، لِأَنَّهُ ترك مَا
هُوَ مُخَاطب بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: الْمَرْأَة لَا تصف
مَعَ الرِّجَال، فَلَو خَالَفت أَجْزَأت صلَاتهَا عِنْد
الْجُمْهُور، وَعند الْحَنَفِيَّة تفْسد صَلَاة الرجل دون
الْمَرْأَة، وَهُوَ عَجِيب، وَفِي تَوْجِيهه تعسف. قلت:
هَذَا الْقَائِل لَو أدْرك دقة مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة
هَهُنَا مَا قَالَ: وَهُوَ عَجِيب، وتوجيهه مَا ذكرنَا،
وَلَيْسَ فِيهِ تعسف، والتعسف على الَّذِي لَا يفهم كَلَام
القَوْل. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاسْتدلَّ
بقوله: (فصففت أَنا واليتيم وَرَاءه) ، على أَن السّنة فِي
موقف الْإِثْنَيْنِ أَن يصفا خلف الإِمَام، لمن قَالَ من
الْكُوفِيّين: أَحدهمَا يقف عَن يَمِينه وَالْآخر عَن
يسَاره. قلت: الْقَائِل بذلك من الْكُوفِيّين هُوَ أَبُو
يُوسُف، فَإِنَّهُ قَالَ: الإِمَام يقف بَينهمَا، لما روى
التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) : عَن ابْن مَسْعُود أَنه صلى
بعلقمة وَالْأسود فَقَامَ بَينهمَا. وَأما عِنْد أبي
حنيفَة فَإِنَّهُ يتَقَدَّم على الْإِثْنَيْنِ لما فِي
حَدِيث أنس الْمَذْكُور، وَأجِيب عَن حَدِيث ابْن مَسْعُود
بِثَلَاثَة أجوبة: الأول:
ان ابْن مَسْعُود لم يبلغهمينه، وكل وَاحِد يُصَلِّي
لنَفسِهِ، فَقَامَ ابْن مَسْعُود خلفهمَا فَأَوْمأ
إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشمَالِهِ،
فَظن ابْن مَسْعُود أَن ذَلِك سنة الْموقف. وَلم يعلم أَنه
لَا يؤمهما. وَعلمه أَبُو ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
حَتَّى قَالَ: يُصَلِّي كل رجل منّا لنَفسِهِ، وَاسْتدلَّ
بِهِ ابْن بطال على صِحَة صَلَاة الْمُنْفَرد خلف الصَّفّ،
لِأَنَّهُ لما ثَبت ذَلِك للْمَرْأَة كَانَ للرجل أولى.
وَقَالَ الْخطابِيّ: اخْتلف أهل الْعلم فِيمَن صلى خلف
الصَّفّ وَحده، فَقَالَت طَائِفَة: صلَاته فَاسِدَة على
ظَاهر حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يُصَلِّي خلف الصَّفّ وَحده
فَقَالَ: أعد الصَّلَاة) . هَذَا قَول النَّخعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن حزم: صَلَاة الْمُنْفَرد خلف
الصَّفّ وَحده بَاطِلَة، لما فِي حَدِيث وابصة بن معبد،
أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : (صلى رجل خلف الصَّفّ
فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أعد صَلَاتك
فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لَك) . وَفِي حَدِيث عَليّ بن
شَيبَان: (اسْتقْبل صَلَاتك) ، وَفِي لفظ: (أعد صَلَاتك
فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لمنفرد خلف الصَّفّ وَحده) . وَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: صَلَاة الْمُنْفَرد
خلف الإِمَام جَائِزَة.
(5/261)
(وَأجِيب) : عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة
بِأَن الْأَمر بِالْإِعَادَةِ على الِاسْتِحْبَاب دون
الْإِيجَاب، وَعَن حَدِيث وابصة: أَنه لم يثبت عَن
جمَاعَة، وَفِيه اضْطِرَاب، قَالَه أَبُو عمر. وَقَالَ
الشَّافِعِي: فِي سَنَده اخْتِلَاف، وَعَن حَدِيث ابْن
شَيبَان: أَن رِجَاله غير مشهورين، وَعَن الشَّافِعِي: لَو
ثَبت هَذَا لَقلت بِهِ.
79 - (بابُ مَيْمَنَةِ المَسْجِدِ والإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن ميمنة الْمَسْجِد
وَالْإِمَام هِيَ مَكَان الْمَأْمُوم إِذا كَانَ وَحده.
80 - (بابٌ إذَا كانَ بَيْنَ الإمَامِ وبَيْنَ القَوْمِ
حائِطٌ أوْ سُتْرَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا كَانَ ... إِلَى آخِره،
وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يره ذَلِك،
وَالْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف، وَلَكِن مَا فِي الْبَاب يدل
على أَن ذَلِك جَائِز، وَهُوَ مَذْهَب الْمَالِكِيَّة
أَيْضا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن أنس وَأبي هُرَيْرَة
وَابْن سِيرِين وَسَالم، وَكَانَ عُرْوَة يُصَلِّي
بِصَلَاة الإِمَام وَهُوَ فِي دَار بَينهَا وَبَين
الْمَسْجِد طَرِيق، وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يُصَلِّي
وَبَينه وَبَين الإِمَام نهر صَغِير أَو طَرِيق،
وَكَذَلِكَ السفن المتقاربة يكون الإِمَام فِي إِحْدَاهَا
تجزيهم الصَّلَاة مَعَه، وَكره ذَلِك طَائِفَة، وَرُوِيَ
عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا
كَانَ بَينه وَبَين الإِمَام طَرِيق أَو حَائِط أَو نهر
فَلَيْسَ هُوَ مَعَه، وَكره الشّعبِيّ وَإِبْرَاهِيم أَن
يكون بَينهمَا طَرِيق وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: لَا يجْزِيه إِلَّا أَن تكون الصُّفُوف
مُتَّصِلَة فِي الطَّرِيق، وَبِه قَالَ اللَّيْث
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَشْهَب.
(5/262)
وَقَالَ الحَسَنُ لاَ بَأسَ أنْ تُصَلِّي
وبَيْنَكَ وبَيْنَهُ نَهْرٌ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن
الْفَاصِل بَينه وَبَين الإِمَام كالحائط وَالنّهر لَا
يضر. وروى سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح فِي الرجل
يُصَلِّي خلف الإِمَام وَهُوَ فَوق سطح يأتم بِهِ لَا
بَأْس بذلك، قَوْله: (وَبَيْنك) حَال، وَقَوله: (نهر) ،
ويروى (نهير) مُصَغرًا، وَهُوَ يدل على أَن المُرَاد من
النَّهر الصَّغِير وَالْكَبِير يمْنَع.
وقالَ أبُو مِجْلَزٍ يِأْتَمُّ بالإمامِ وإنْ كانَ
بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أوْ جِدَارٌ إذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ
الإمَامِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا، وَأَبُو مجلز، بِكَسْر
الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة:
اسْمه لَاحق بن حميد، بِضَم الْحَاء: ابْن سعيد
الْبَصْرِيّ الْأَعْوَر، من التَّابِعين الْمَشْهُورين،
مَاتَ بِظهْر الْكُوفَة فِي سنة مائَة أَو إِحْدَى
وَمِائَة، وَأخرج أَثَره مَوْصُولا ابْن أبي شيبَة عَن
مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن لَيْث بن أبي سليم عَنهُ
وَلَيْث ضَعِيف، فِي امْرَأَة تصلي وَبَينهَا وَبَين
الإِمَام حَائِط، قَالَ: إِذا كَانَت تسمع تَكْبِير
الإِمَام أجزأها ذَلِك.
729 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدَةُ عَنْ
يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ
عائِشَةَ قالَتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَةٍ وَجِدَارُ الحُجْرَةِ
قَصِير فَرَأي الناسُ شَخْصَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ فَأصْبَحُوا
فتَحَدَّثُوا بذَلِكَ فقامَ لَيْلَةَ الثَانِيةِ فَقامَ
معَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ صَنَعُوا ذَلِكَ
لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثَةً حَتَّى إذَا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ
جَلَسَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ
يَخْرُجْ فلَمَّا أصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ
إنِّي خَشِيتُ أنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَقَامَ نَاس يصلونَ
بِصَلَاتِهِ) لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبينهمْ جِدَار
الْحُجْرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد هُوَ ابْن
سَلام، قَالَه أَبُو نعيم، وَبِه جزم ابْن عَسَاكِر فِي
رِوَايَته. الثَّانِي: عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان الْكلابِي، من
أنفسهم، وَيُقَال: العامري الْكُوفِي، وَكَانَ اسْمه: عبد
الرَّحْمَن، وَعَبدَة لقبه، فغلب عَلَيْهِ ويكنى أَبَا
مُحَمَّد. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
الرَّابِع: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة
المدنية. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: من غلب
لقبه على اسْمه، وَهُوَ: عَبدة، وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: أَن
رُوَاته مَا بَين البيكندي وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وكوفي
ومدني. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه:
أَن شَيْخه مَذْكُور بِلَا نِسْبَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن
أبي خَيْثَمَة زُهَيْر بن حَرْب عَن هشيم بن بشير عَن يحيى
بِهِ مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي حجرته) أَي: فِي حجرَة بَيته،
يدل عَلَيْهِ ذكر جِدَار الْحُجْرَة، وأوضح مِنْهُ
رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن يحيى عِنْد أبي نعيم،
بِلَفْظ: (كَانَ يُصَلِّي فِي حجرَة من حجر أَزوَاجه) ،
والحجرة الْموضع الْمُنْفَرد من الدَّار. قَوْله: (شخص
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الشَّخْص سَواد
الْإِنْسَان وَغَيره يرَاهُ من بعيد، وَإِنَّمَا قَالَ
بِلَفْظ: الشَّخْص، لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِك بِاللَّيْلِ
وَلم يَكُونُوا يبصرون مِنْهُ إلاّ سوَاده. قَوْله:
(فَقَامَ نَاس) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَقَامَ
أنَاس) ، بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله. قَوْله:
(بِصَلَاتِهِ) ، أَي: متلبسين بِصَلَاتِهِ أَو مقتدين
بهَا. قَوْله: (فَأَصْبحُوا) أَي: دخلُوا فِي الصَّباح،
وَهِي تَامَّة. قَوْله: (فَقَامَ لَيْلَة الثَّانِيَة)
هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ: (فَقَامَ اللَّيْلَة الثَّانِيَة) ، وَجه
الرِّوَايَة الأولى أَن فِيهِ حذفا تَقْدِيره: لَيْلَة
الْغَدَاة الثَّانِيَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللَّيْلَة
مُضَافَة إِلَى الثَّانِيَة من بَاب إِضَافَة الْمَوْصُوف
إِلَى صفته. قَوْله: (ذَلِك) أَي: الِاقْتِدَاء
بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِذا
كَانَ) ، أَي: الْوَقْت وَالزَّمَان. قَوْله: (فَلم يخرج)
، أَي: إِلَى الْموضع الْمَعْهُود الَّذِي كَانَ صلى فِيهِ
تِلْكَ اللَّيَالِي، فَلم يرَوا
(5/263)
شخصه. قَوْله: (فَلَمَّا أصبح ذكر ذَلِك
النَّاس) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر
عبد الرَّزَّاق أَن الَّذِي خاطبه بذلك عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أخرجه معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة
عَنْهَا. قَوْله: (أَن تكْتب) ، أَي: تفرض، وَقَالَ
الْخطابِيّ: قد يُقَال عَلَيْهِ: كَيفَ يجوز أَن تكْتب
علينا صَلَاة وَقد أكمل الله الْفَرَائِض، ورد عدد
الْخمسين مِنْهَا إِلَى الْخمس؟ فَقيل: إِن صَلَاة
اللَّيْل كَانَت وَاجِبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وأفعاله الَّتِي تفضل بالشريعة وَاجِب على الْأمة
الائتساء بِهِ فِيهَا، وَكَانَ أَصْحَابه إِذا رَأَوْهُ
يواظب على فعل يقتدون بِهِ، ويرونه وَاجِبا، فَترك
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخُرُوج فِي
اللَّيْلَة الرَّابِعَة، وَترك الصَّلَاة فِيهَا لِئَلَّا
يدْخل ذَلِك الْفِعْل فِي الْوَاجِبَات كالمكتوبة
عَلَيْهِم من طَرِيق الْأَمر بالاقتداء بِهِ،
فَالزِّيَادَة إِنَّمَا تجب عَلَيْهِم من جِهَة وجوب
الِاقْتِدَاء بِأَفْعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لَا من جِهَة إنْشَاء فرض يسْتَأْنف زَائِدا،
وَهَذَا كَمَا يُوجب الرجل على نَفسه صَلَاة نذر، وَلَا
يدل ذَلِك على زِيَادَة جملَة فِي الشَّرْع الْمَفْرُوض
فِي الأَصْل، وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى
فرض الصَّلَاة أَولا خمسين، ثمَّ حط بشفاعة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معظمها تَخْفِيفًا عَن أمته،
فَإِذا عَادَتْ الْأمة فِيمَا استوهبت وتبرعت بِالْعَمَلِ
بِهِ لم يستنكر أَن يكْتب فرضا عَلَيْهِم، وَقد ذكر الله
عَن النَّصَارَى أَنهم ابتدعوا رَهْبَانِيَّة مَا كتبهَا
الله عَلَيْهِم، ثمَّ لما قصروا فِيهَا لحقتهم الْمَلَامَة
فِي قَوْله: {فَمَا رعوها حق رعايتها} (الْحَدِيد: 27) .
فأشفق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون سبيلهم أُولَئِكَ،
فَقطع الْعَمَل بِهِ تَخْفِيفًا عَن أمته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا قَالَه الْمُهلب
جَوَاز الائتمام بِمن لم ينْو أَن يكون إِمَامًا فِي
تِلْكَ الصَّلَاة، لِأَن النَّاس ائتموا بِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من وَرَاء الْحَائِط، وَلم يعْقد النِّيَّة
مَعَهم على الْإِمَامَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ
قلت: هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا إلاّ أَن أَصْحَابنَا
قَالُوا: لَا بُد من نِيَّة الْإِمَامَة فِي حق النِّسَاء،
خلافًا لزفَر. وَفِيه: أَن فعل النَّوَافِل فِي الْبَيْت
أفضل. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: إِن التَّنَفُّل
فِي الْبيُوت أفضل إِلَيّ مِنْهُ فِي مَسْجِد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ للغرباء. وَفِيه: جَوَاز
النَّافِلَة فِي جمَاعَة. وَفِيه: أَيْضا شفقته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على أمته خشيَة أَن تكْتب عَلَيْهِم صَلَاة
اللَّيْل فيعجزوا عَنْهَا، فَترك الْخُرُوج لِئَلَّا يخرج
ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ. وَفِيه: أَن الْجِدَار وَنَحْوه
لَا يمْنَع الِاقْتِدَاء بِالْإِمَامِ، وَعَلِيهِ
تَرْجَمَة الْبَاب. قلت: إِنَّمَا يجوز ذَلِك إِذا لم
يلتبس عَلَيْهِ حَال الإِمَام.
81 - (بابُ صَلاَةِ اللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة اللَّيْل، لم تقع هَذِه
التَّرْجَمَة على هَذَا الْوَجْه إلاَّ فِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَلَا وَجه لذكرها هَهُنَا، لِأَن
الْأَبْوَاب هَهُنَا فِي الصُّفُوف وإقامتها، وَلِهَذَا
لَا يُوجد فِي كثير من النّسخ، وَلَا تعرض إِلَيْهِ
الشُّرَّاح، ولصلاة اللَّيْل بخصوصها كتاب مُفْرد
سَيَأْتِي فِي أَوَاخِر الصَّلَاة، وَقد تكلّف بَعضهم
فَذكر مُنَاسبَة لذكر هَذِه التَّرْجَمَة هُنَا فَقَالَ:
لما كَانَ الْمُصَلِّي الَّذِي بَينه وَبَين إِمَامه
حَائِل من جِدَار وَنَحْوه قد يظنّ أَنه يمْنَع من
إِقَامَة الصَّفّ، ذكر هَذِه التَّرْجَمَة بِمَا فِيهَا
دفعا لذَلِك. وَقيل: وَجه ذَلِك أَن من صلى بِاللَّيْلِ
مَأْمُوما كَانَ لَهُ فِي ذَلِك شبه بِمن صلى وَرَاء
حَائِط.
730 - حدَّثنا إبراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا
ابنُ أبي فُدَيْكٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عَن
المَقْبَرِيُّ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ
عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ لَهُ حَصِيرٌ
يَبْسُطُهُ بالنَّهَارِ وَيَحْتَجِرُهُ بِاللَّيْلِ
فَثَابَ إلَيْهِ ناسٌ فَصَلُّوا وَرَاءَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصفوا وَرَاءه) ، لِأَن
صفهم وَرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي
صَلَاة اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر
أَبُو إِسْحَاق الْمدنِي، وَقد مر ذكره غير مرّة.
الثَّانِي: ابْن أبي الفديك، بِضَم الْفَاء وَفتح الدَّال
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
كَاف، وَقد يسْتَعْمل بِالْألف وَاللَّام وبدونها: من فدكت
الْقطن إِذا نفشته، وَهُوَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل ابْن
مُسلم بن أبي فديك، وَاسم أبي فديك: دِينَار الديلِي أَو
إِسْمَاعِيل الْمدنِي. الثَّالِث: ابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر
الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذيب، وَاسم
أبي ذيب هِشَام بن شُعْبَة أَبُو الْحَارِث الْمدنِي.
الرَّابِع: المَقْبُري، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف
وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، وَقيل: بِفَتْحِهَا
أَيْضا، وَهِي نِسْبَة إِلَى الْمقْبرَة، وَالْمرَاد بِهِ
هَهُنَا، سعيد بن أبي سعيد، وَاسم أبي سعيد: كيسَان أَبُو
سعيد الْمدنِي، وَسمي بالمقبري
(5/264)
لِأَن سكناهُ كَانَ بجوار الْمقْبرَة.
الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن
رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من
أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن
التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَرْبَعَة من الروَاة
لم يسموا: أحدهم مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ، وَالْآخرُونَ
مذكورون بالكنية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن أبي بكر عَن مُعْتَمر
بن سُلَيْمَان عَن عبيد الله بن عمر عَن المَقْبُري بِهِ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن
عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن عبيد الله بن عمر بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث
عَن ابْن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِتَمَامِهِ. وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد
بن بشر عَن عبيد الله بن عمر مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَصِير) ، قَالَ الْجَوْهَرِي:
الْحَصِير البارية قلت: هُوَ الْمُتَّخذ من البردى
وَغَيره، يبسط فِي الْبيُوت. قَوْله: (يبسطه بِالنَّهَارِ)
جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنه صفة لحصير. قَوْله:
(ويحتجره) بالراء الْمُهْملَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَمَعْنَاهُ: يَتَّخِذهُ مثل الْحُجْرَة فَيصَلي فِيهَا،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (يحجزه) ، بالزاي أَي: يَجعله
حاجزا بَينه وَبَين غَيره. قَوْله: (فَثَابَ إِلَيْهِ
نَاس) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة
من: ثاب النَّاس إِذا اجْتَمعُوا وجاؤا. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: ثاب الرجل يثوب ثوبا وثوبانا: رَجَعَ بعد
ذَهَابه، وثاب النَّاس اجْتَمعُوا وجاؤا، وَكَذَلِكَ: ثاب
المَاء إِذا اجْتمع فِي الْحَوْض، وَمِنْه المثابة وَهُوَ
الْموضع الَّذِي يُثَاب إِلَيْهِ أَي: يرجع إِلَيْهِ مرّة
بعد أُخْرَى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا
الْبَيْت مثابة للنَّاس} (الْبَقَرَة: 125) . لِأَن أَهله
يتصرفون فِي أُمُورهم ثمَّ يثوبون إِلَيْهِ أَي يرجعونن،
هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني والسرخسي: (فثار إِلَيْهِ نَاس) ، بالثاء
الْمُثَلَّثَة وَالرَّاء من: ثار يثور ثورا وثورانا إِذا
انْتَشَر وارتفع. قَالَه ابْن الْأَثِير. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: إِذا سَطَعَ، وَقَالَ غَيره: الثوران
الهيجان، وَالْمعْنَى هَهُنَا ارْتَفع النَّاس إِلَيْهِ،
وَيُقَال: ثار بِهِ النَّاس إِذا وَثبُوا عَلَيْهِ، وَوَقع
عِنْد الْخطابِيّ: آبوا، أَي: رجعُوا يُقَال: آب يؤب أوبا
وأوبة وإيابا، والأوّاب التائب، والمآب الْمرجع. قَوْله:
(فصلوا وَرَاءه) أَي: وَرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَأخرج هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا، وَلَعَلَّ
مُرَاده مِنْهُ بَيَان أَن الْحُجْرَة الْمَذْكُورَة فِي
الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن عمْرَة عَن عَائِشَة
الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبَاب كَانَت حَصِيرا،
وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وكل مَوضِع حجر
عَلَيْهِ فَهُوَ حجرَة، وَفِي حَدِيث زيد بن ثَابت الْآتِي
ذكره الْآن: (اتخذ حجرَة، قَالَ: حسبت أَنه قَالَ: من
حَصِير) ، وَجَاء فِي رِوَايَة: (احتجر بخصفة أَو حَصِير
فِي الْمَسْجِد) ، وَفِي رِوَايَة: (صلى فِي حُجْرَتي) ،
رَوَاهُ عمْرَة عَن عَائِشَة، وَفِي رِوَايَة: (فَأمرنِي
فَضربت لَهُ حَصِيرا يُصَلِّي عَلَيْهِ) ، وَلَعَلَّ هَذِه
كَانَت فِي أَحْوَال.
731 - حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى بنُ حَمَّادٍ قَالَ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ سَالِمٍ
أبي النضْرِ عنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عنْ زَيْدِ بنِ
ثَابِتٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتخَذَ
حُجْرَةً قَالَ حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ منْ حصِيرٍ فِي
رمَضَانَ فَصلَّى فيهَا ليالِيَ فَصَلَّى بِصَلاتِهه ناسٌ
مِنْ أصْحَابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ
فَخَرَجَ إلَيْهِمْ. فَقَالَ قَدْ عرَفْتُ الَّذِي رَأيْتُ
مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أيُّهَا النَّاسُ فِي
بُيُوتِكُمْ فإنَّ أفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاةُ المَرْءِ فِي
بَيْتِهِ إلاَّ المَكْتُوبَةَ. قالَ عفَّانُ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
النَّضْرِ عنْ بُسْرٍ عنْ زَيْدٍ عَن النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث فِي صَلَاة
اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم: كلهم ذكرُوا، فعبد الْأَعْلَى بن
حَمَّاد، بتَشْديد الْمِيم: ابْن نصر أَبُو يحيى، مر فِي:
بَاب الْجنب يخرج، ووهيب ابْن خَالِد مر فِي: بَاب من
أجَاب الْفتيا، ومُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش
الْأَسدي. وَسَالم أَبُو النَّضر، بِسُكُون الضَّاد
الْمُعْجَمَة: وَهُوَ ابْن أبي أُميَّة، مر فِي: بَاب
الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. وَبسر، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد، مر
فِي: بَاب الخوخة فِي الْمَسْجِد. وَزيد بن ثَابت
الْأنْصَارِيّ كَاتب الْوَحْي، مر فِي: بَاب إقبال الْحيض.
(5/265)
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة مدنيون على نسق
وَاحِد من التَّابِعين، أَوَّلهمْ: مُوسَى بن عقبَة ووهيب
بَصرِي وَعبد الْأَعْلَى أَصله من الْبَصْرَة، سكن
بَغْدَاد. وَفِيه: عَن سَالم أبي النَّضر، وروى ابْن جريج
عَن مُوسَى فَلم يذكر سالما، وَأَبا النَّضر فِي هَذَا
الْإِسْنَاد. أخرجه النَّسَائِيّ وَقَالَ: ذكر فِيهِ من
اخْتِلَاف ابْن جريج ووهيب على مُوسَى بن عقبَة فِي خبر
زيد بن ثَابت: أَخْبرنِي عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم
المصِّيصِي، قَالَ: سَمِعت حجاجا قَالَ، قَالَ ابْن جريج:
أَخْبرنِي مُوسَى بن عقبَة عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن
ثَابت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفضل
الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الْمَكْتُوبَة)
. أخبرنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان، قَالَ حَدثنَا عَفَّان بن
مُسلم، قَالَ: حَدثنَا وهيب، قَالَ، سَمِعت مُوسَى بن
عقبَة، قَالَ: سَمِعت أَبَا النَّضر يحدث عَن بسر بن سعيد
عَن زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (صلوا أَيهَا النَّاس فِي بُيُوتكُمْ فَإِن أفضل
صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة)
. ثمَّ قَالَ: وَقفه مَالك. أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد عَن
مَالك عَن أبي النَّضر عَن بسر بن سعيد أَن زيد بن ثَابت،
قَالَ: (أفضل الصَّلَاة صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ (.
يَعْنِي: إلاّ صَلَاة الْجَمَاعَة. قلت: وروى عَن مَالك
خَارج (الْمُوَطَّأ) مَرْفُوعا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن إِسْحَاق عَن عَفَّان، وَفِي
الْأَدَب، وَقَالَ الْمَكِّيّ: حَدثنَا عبد الله بن سعيد
وَعَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن
الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن
حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن وهيب بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن هَارُون بن عبد الله عَن مكي بن
إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب،
الْفَصْل الْأَخير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
بنْدَار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، الْفَصْل الْأَخير
مِنْهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن
سُلَيْمَان بن عَفَّان بِهِ، وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد
بن تَمِيم عَن حجاج عَن ابْن جريج، الْفَصْل الْأَخير
مِنْهُ. وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ الْفَصْل الْأَخير
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر بن الْخطاب وَجَابِر وَأبي
سعيد وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَعَائِشَة وَعبد الله بن
سعيد وَزيد بن خَالِد قلت: حَدِيث عمر بن الْخطاب عِنْد
ابْن مَاجَه وَلَفظه: قَالَ عمر: (سَأَلت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أما صَلَاة الرجل فِي بَيته
فنور، فنوروا بُيُوتكُمْ) ، وَفِيه انْقِطَاع. وَحَدِيث
جَابر عِنْد مُسلم فِي أَفْرَاده، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم الصَّلَاة
فِي مَسْجده فليجعل فِي بَيته نَصِيبا من صلَاته) .
وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد ابْن مَاجَه عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم صلَاته فليجعل
لبيته مِنْهَا نَصِيبا، فَإِن الله عز وَجل جَاعل فِي
بَيته من صلَاته خيرا) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه
مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكَبِير) وَفِي الْيَوْم
وَاللَّيْلَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر، إِن
الشَّيْطَان يفر من الْبَيْت الَّذِي تقْرَأ فِيهِ سُورَة
الْبَقَرَة) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الشَّيْخَانِ
وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث عَائِشَة أخرجه
أَحْمد: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يَقُول: صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تجعلوها عَلَيْكُم
قبورا) . وَحَدِيث عبد الله بن سعيد أخرجه التِّرْمِذِيّ
فِي الشَّمَائِل، وَابْن مَاجَه قَالَ: (سَأَلت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا أفضل: الصَّلَاة
فِي بَيْتِي أَو الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد؟ قَالَ: أَلا
ترى إِلَى بَيْتِي مَا أقربه من الْمَسْجِد؟ فَلِأَن
أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي
الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة) . وَحَدِيث
زيد بن خَالِد أخرجه أَحْمد وَالْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها
قبورا) . قلت: مِمَّا لم يذكرهُ عَن الْحسن بن عَليّ بن
أبي طَالب وصهيب بن النُّعْمَان. أما حَدِيث الْحسن
فَأخْرجهُ أَبُو يعلى. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها
قبورا) الحَدِيث. وَأما حَدِيث صُهَيْب بن النُّعْمَان
فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فضل صَلَاة
الرجل فِي بَيته على صلَاته حَيْثُ يرَاهُ النَّاس كفضل
الْمَكْتُوبَة على النَّافِلَة) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اتخذ حجرَة) ، بالراء عِنْد
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بالزاي، أَيْضا،
فَمَعْنَاه: شَيْئا حاجزا أَي: مَانِعا بَينه وَبَين
النَّاس. قَوْله: (قد عرفت) ، ويروى: (قد علمت) . قَوْله:
(من صنيعكم) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسر النُّون، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (من صنعكم) ، بِضَم الصَّاد وَسُكُون
النُّون أَي: حرصكم على إِقَامَة صَلَاة التَّرَاوِيح،
وَهَذَا الْكَلَام لَيْسَ لأجل صلَاتهم فَقَط، بل لكَوْنهم
رفعوا أَصْوَاتهم وسبحوا بِهِ ليخرج إِلَيْهِم، وحصب
بَعضهم الْبَاب لظنهم أَنه نَائِم، وَسَيَأْتِي ذَلِك فِي
الْأَدَب، وَزَاد فِي الِاعْتِصَام (حَتَّى خشيت أَن يكْتب
عَلَيْكُم، وَلَو كتب عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بِهِ) قَوْله:
(فَإِن أفضل الصَّلَاة. .) آخِره، ظَاهره يَشْمَل جَمِيع
النَّوَافِل. قَوْله: (إلاّ الْمَكْتُوبَة) أَي:
الْفَرِيضَة.
(5/266)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن
صَلَاة التَّطَوُّع فعلهَا فِي الْبيُوت أفضل من فعلهَا
فِي الْمَسَاجِد، وَلَو كَانَت فِي الْمَسَاجِد الفاضلة
الَّتِي تضعف فِيهَا الصَّلَاة على غَيرهَا، وَقد ورد
التَّصْرِيح بذلك فِي إِحْدَى روايتي أبي دَاوُد لحَدِيث
زيد بن ثَابت، فَقَالَ فِيهَا: (صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته
أفضل من صلَاته فِي مَسْجِدي هَذَا إلاّ الْمَكْتُوبَة) ،
وإسنادها صَحِيح، فعلى هَذَا: لَو صلى نَافِلَة فِي
مَسْجِد الْمَدِينَة كَانَت بِأَلف صَلَاة على القَوْل
بِدُخُول النَّوَافِل فِي عُمُوم الحَدِيث، وَإِذا صلاهَا
فِي بَيته كَانَت أفضل من ألف صَلَاة، وَهَكَذَا حكم
مَسْجِد مَكَّة وَبَيت الْمُقَدّس إلاّ أَن التَّضْعِيف
بِمَكَّة يحصل فِي جَمِيع مَكَّة، بل صحّح النَّوَوِيّ:
أَن التَّضْعِيف يحصل فِي جَمِيع الْحرم، وَاسْتثنى من
عُمُوم الحَدِيث عدَّة من النَّوَافِل، ففعلها فِي غير
الْبَيْت أكمل، وَهِي: مَا تشرع فِيهَا الْجَمَاعَة:
كالعيدين وَالِاسْتِسْقَاء والكسوف. وَقَالَت
الشَّافِعِيَّة: وَكَذَلِكَ: تَحِيَّة الْمَسْجِد وركعتا
الطّواف وركعتا الْإِحْرَام إِن كَانَ عِنْد الْمِيقَات
مَسْجِد كذي الحليفة، وَكَذَلِكَ التَّنَفُّل فِي يَوْم
الْجُمُعَة قبل الزَّوَال وَبعده. وَفِيه: حجَّة على من
اسْتحبَّ النَّوَافِل فِي الْمَسْجِد ليلية كَانَت أَو
نهارية حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض وَالنَّوَوِيّ عَن جمَاعَة
من السّلف، وعَلى من اسْتحبَّ نوافل النَّهَار فِي
الْمَسْجِد دون نوافل اللَّيْل، وَحكى ذَلِك عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ وَمَالك. وَفِيه: مَا يدل على أصل
التَّرَاوِيح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلاهَا
فِي رَمَضَان بعض اللَّيَالِي ثمَّ تَركهَا خشيَة أَن
تكْتب علينا، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي كَونهَا سنة أَو
تَطَوّعا مُبْتَدأ، فَقَالَ الإِمَام حميد الدّين
الضَّرِير: نفس التَّرَاوِيح سنة، أما أَدَاؤُهَا
بِالْجَمَاعَة فمستحب، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَن
التَّرَاوِيح سنة لَا يجوز تَركهَا. وَقَالَ الشَّهِيد:
هُوَ الصَّحِيح، وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : التَّرَاوِيح
سنة مُؤَكدَة، وَالْجَمَاعَة فِيهَا وَاجِبَة، وَفِي
(الرَّوْضَة) لِأَصْحَابِنَا: إِن الْجَمَاعَة فَضِيلَة.
وَفِي (الذَّخِيرَة) لِأَصْحَابِنَا عَن أَكثر
الْمَشَايِخ: إِن إِقَامَتهَا بِالْجَمَاعَة سنة على
الْكِفَايَة، وَمن صلى فِي الْبَيْت فقد ترك فَضِيلَة
الْمَسْجِد. وَفِي (الْمَبْسُوط) : لَو صلى إِنْسَان فِي
بَيته لَا يَأْثَم، فعلهَا ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم
وَنَافِع وَإِبْرَاهِيم، ثمَّ إِنَّهَا عشرُون رَكْعَة.
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَنَقله القَاضِي عَن
جُمْهُور الْعلمَاء، وَحكي أَن الْأسود بن يزِيد كَانَ
يقوم بِأَرْبَعِينَ رَكْعَة، ويوتر بِسبع، وَعند مَالك:
تسع ترويحات بست وَثَلَاثِينَ رَكْعَة غير الْوتر، وَاحْتج
على ذَلِك بِعَمَل أهل الْمَدِينَة، وَاحْتج أَصْحَابنَا
وَالشَّافِعِيَّة والحنابلة بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح عَن السَّائِب بن يزِيد الصَّحَابِيّ،
قَالَ: كَانُوا يقومُونَ على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، بِعشْرين رَكْعَة، وعَلى عهد عُثْمَان وَعلي، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مثله. فَإِن قلت: قَالَ فِي
(الْمُوَطَّأ) : عَن يزِيد بن رُومَان قَالَ: كَانَ
النَّاس فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقومُونَ
فِي رَمَضَان بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة؟ قلت: قَالَ
الْبَيْهَقِيّ: وَالثَّلَاث هُوَ الْوتر، وَيزِيد لم يدْرك
عمر، فَفِيهِ انْقِطَاع.
فَائِدَة: اسْتثِْنَاء الْمَكْتُوبَة مِمَّا يصلى فِي
الْبيُوت هُوَ فِي حق الرِّجَال دون النِّسَاء، فَإِن
صلاتهن فِي الْبيُوت أفضل، وَإِن أذن لَهُنَّ فِي حُضُور
بعض الْجَمَاعَات، وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إِذا استأذنكم
نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِد فأذنوا لَهُنَّ
وبيوتهن خير لَهُنَّ.
أُخْرَى: قَوْله: (فِي بُيُوتكُمْ) ، يحْتَمل أَن يكون
المُرَاد بذلك إِخْرَاج بيُوت الله تَعَالَى، وَهِي
الْمَسَاجِد، فَيدْخل فِيهِ بَيت الْمصلى وَبَيت غَيره،
كمن يُرِيد أَن يزور قوما فِي بُيُوتهم وَنَحْو ذَلِك.
وَيحْتَمل أَن يُرِيد بَيت الْمُصَلِّي دون بَيت غَيره،
وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (أفضل
صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته) ، فَيخرج بذلك أَيْضا بَيت غير
الْمصلى.
أُخْرَى: اخْتلف فِي المُرَاد بقوله: فِي حَدِيث ابْن عمر:
(صلوا فِي بُيُوتكُمْ) ، فَقَالَ الْجُمْهُور فِيمَا
حَكَاهُ القَاضِي عَنْهُم: إِن المُرَاد فِي صَلَاة
النَّافِلَة اسْتِحْبَاب إخفائها. قَالَ: وَقيل هَذَا فِي
الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا بعض فرائضكم فِي
بُيُوتكُمْ ليقتدي بكم من لَا يخرج إِلَى الْمَسْجِد من
نسْوَة وَعبيد ومريض وَنَحْوهم، قَالَ النَّوَوِيّ:
وَالصَّوَاب أَن المُرَاد النَّافِلَة فَلَا يجوز حمله على
الْفَرِيضَة.
أُخْرَى: إِنَّمَا حث على النَّوَافِل فِي الْبيُوت
لكَونهَا أخْفى وَأبْعد من الرِّيَاء، وأصون من المحبطات،
وليتبرك الْبَيْت بذلك، وتنزل فِيهِ الرَّحْمَة
وَالْمَلَائِكَة، وتنفر مِنْهُ الشَّيَاطِين. وَالله
تَعَالَى أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
731 - حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى بنُ حَمَّادٍ قَالَ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ سَالِمٍ
أبي النضْرِ عنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عنْ زَيْدِ بنِ
ثَابِتٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتخَذَ
حُجْرَةً قَالَ حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ منْ حصِيرٍ فِي
رمَضَانَ فَصلَّى فيهَا ليالِيَ فَصَلَّى بِصَلاتِهه ناسٌ
مِنْ أصْحَابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ
فَخَرَجَ إلَيْهِمْ. فَقَالَ قَدْ عرَفْتُ الَّذِي رَأيْتُ
مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أيُّهَا النَّاسُ فِي
بُيُوتِكُمْ فإنَّ أفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاةُ المَرْءِ فِي
بَيْتِهِ إلاَّ المَكْتُوبَةَ. قالَ عفَّانُ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
النَّضْرِ عنْ بُسْرٍ عنْ زَيْدٍ عَن النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث فِي صَلَاة
اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم: كلهم ذكرُوا، فعبد الْأَعْلَى بن
حَمَّاد، بتَشْديد الْمِيم: ابْن نصر أَبُو يحيى، مر فِي:
بَاب الْجنب يخرج، ووهيب ابْن خَالِد مر فِي: بَاب من
أجَاب الْفتيا، ومُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش
الْأَسدي. وَسَالم أَبُو النَّضر، بِسُكُون الضَّاد
الْمُعْجَمَة: وَهُوَ ابْن أبي أُميَّة، مر فِي: بَاب
الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. وَبسر، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد، مر
فِي: بَاب الخوخة فِي الْمَسْجِد. وَزيد بن ثَابت
الْأنْصَارِيّ كَاتب الْوَحْي، مر فِي: بَاب إقبال الْحيض.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة مدنيون على نسق وَاحِد من
التَّابِعين، أَوَّلهمْ: مُوسَى بن عقبَة ووهيب بَصرِي
وَعبد الْأَعْلَى أَصله من الْبَصْرَة، سكن بَغْدَاد.
وَفِيه: عَن سَالم أبي النَّضر، وروى ابْن جريج عَن مُوسَى
فَلم يذكر سالما، وَأَبا النَّضر فِي هَذَا الْإِسْنَاد.
أخرجه النَّسَائِيّ وَقَالَ: ذكر فِيهِ من اخْتِلَاف ابْن
جريج ووهيب على مُوسَى بن عقبَة فِي خبر زيد بن ثَابت:
أَخْبرنِي عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم المصِّيصِي،
قَالَ: سَمِعت حجاجا قَالَ، قَالَ ابْن جريج: أَخْبرنِي
مُوسَى بن عقبَة عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفضل الصَّلَاة
صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الْمَكْتُوبَة) . أخبرنَا
أَحْمد بن سُلَيْمَان، قَالَ حَدثنَا عَفَّان بن مُسلم،
قَالَ: حَدثنَا وهيب، قَالَ، سَمِعت مُوسَى بن عقبَة،
قَالَ: سَمِعت أَبَا النَّضر يحدث عَن بسر بن سعيد عَن زيد
بن ثَابت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(صلوا أَيهَا النَّاس فِي بُيُوتكُمْ فَإِن أفضل صَلَاة
الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) . ثمَّ
قَالَ: وَقفه مَالك. أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد عَن مَالك
عَن أبي النَّضر عَن بسر بن سعيد أَن زيد بن ثَابت، قَالَ:
(أفضل الصَّلَاة صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ (. يَعْنِي:
إلاّ صَلَاة الْجَمَاعَة. قلت: وروى عَن مَالك خَارج
(الْمُوَطَّأ) مَرْفُوعا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن إِسْحَاق عَن عَفَّان، وَفِي
الْأَدَب، وَقَالَ الْمَكِّيّ: حَدثنَا عبد الله بن سعيد
وَعَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن
الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن
حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن وهيب بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن هَارُون بن عبد الله عَن مكي بن
إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب،
الْفَصْل الْأَخير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
بنْدَار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، الْفَصْل الْأَخير
مِنْهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن
سُلَيْمَان بن عَفَّان بِهِ، وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد
بن تَمِيم عَن حجاج عَن ابْن جريج، الْفَصْل الْأَخير
مِنْهُ. وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ الْفَصْل الْأَخير
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر بن الْخطاب وَجَابِر وَأبي
سعيد وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَعَائِشَة وَعبد الله بن
سعيد وَزيد بن خَالِد قلت: حَدِيث عمر بن الْخطاب عِنْد
ابْن مَاجَه وَلَفظه: قَالَ عمر: (سَأَلت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أما صَلَاة الرجل فِي بَيته
فنور، فنوروا بُيُوتكُمْ) ، وَفِيه انْقِطَاع. وَحَدِيث
جَابر عِنْد مُسلم فِي أَفْرَاده، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم الصَّلَاة
فِي مَسْجده فليجعل فِي بَيته نَصِيبا من صلَاته) .
وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد ابْن مَاجَه عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم صلَاته فليجعل
لبيته مِنْهَا نَصِيبا، فَإِن الله عز وَجل جَاعل فِي
بَيته من صلَاته خيرا) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه
مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكَبِير) وَفِي الْيَوْم
وَاللَّيْلَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر، إِن
الشَّيْطَان يفر من الْبَيْت الَّذِي تقْرَأ فِيهِ سُورَة
الْبَقَرَة) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الشَّيْخَانِ
وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث عَائِشَة أخرجه
أَحْمد: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يَقُول: صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تجعلوها عَلَيْكُم
قبورا) . وَحَدِيث عبد الله بن سعيد أخرجه التِّرْمِذِيّ
فِي الشَّمَائِل، وَابْن مَاجَه قَالَ: (سَأَلت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا أفضل: الصَّلَاة
فِي بَيْتِي أَو الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد؟ قَالَ: أَلا
ترى إِلَى بَيْتِي مَا أقربه من الْمَسْجِد؟ فَلِأَن
أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي
الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة) . وَحَدِيث
زيد بن خَالِد أخرجه أَحْمد وَالْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها
قبورا) . قلت: مِمَّا لم يذكرهُ عَن الْحسن بن عَليّ بن
أبي طَالب وصهيب بن النُّعْمَان. أما حَدِيث الْحسن
فَأخْرجهُ أَبُو يعلى. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها
قبورا) الحَدِيث. وَأما حَدِيث صُهَيْب بن النُّعْمَان
فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فضل صَلَاة
الرجل فِي بَيته على صلَاته حَيْثُ يرَاهُ النَّاس كفضل
الْمَكْتُوبَة على النَّافِلَة) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اتخذ حجرَة) ، بالراء عِنْد
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بالزاي، أَيْضا،
فَمَعْنَاه: شَيْئا حاجزا أَي: مَانِعا بَينه وَبَين
النَّاس. قَوْله: (قد عرفت) ، ويروى: (قد علمت) . قَوْله:
(من صنيعكم) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسر النُّون، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (من صنعكم) ، بِضَم الصَّاد وَسُكُون
النُّون أَي: حرصكم على إِقَامَة صَلَاة التَّرَاوِيح،
وَهَذَا الْكَلَام لَيْسَ لأجل صلَاتهم فَقَط، بل لكَوْنهم
رفعوا أَصْوَاتهم وسبحوا بِهِ ليخرج إِلَيْهِم، وحصب
بَعضهم الْبَاب لظنهم أَنه نَائِم، وَسَيَأْتِي ذَلِك فِي
الْأَدَب، وَزَاد فِي الِاعْتِصَام (حَتَّى خشيت أَن يكْتب
عَلَيْكُم، وَلَو كتب عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بِهِ) قَوْله:
(فَإِن أفضل الصَّلَاة. .) آخِره، ظَاهره يَشْمَل جَمِيع
النَّوَافِل. قَوْله: (إلاّ الْمَكْتُوبَة) أَي:
الْفَرِيضَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن صَلَاة التَّطَوُّع
فعلهَا فِي الْبيُوت أفضل من فعلهَا فِي الْمَسَاجِد،
وَلَو كَانَت فِي الْمَسَاجِد الفاضلة الَّتِي تضعف فِيهَا
الصَّلَاة على غَيرهَا، وَقد ورد التَّصْرِيح بذلك فِي
إِحْدَى روايتي أبي دَاوُد لحَدِيث زيد بن ثَابت، فَقَالَ
فِيهَا: (صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته أفضل من صلَاته فِي
مَسْجِدي هَذَا إلاّ الْمَكْتُوبَة) ، وإسنادها صَحِيح،
فعلى هَذَا: لَو صلى نَافِلَة فِي مَسْجِد الْمَدِينَة
كَانَت بِأَلف صَلَاة على القَوْل بِدُخُول النَّوَافِل
فِي عُمُوم الحَدِيث، وَإِذا صلاهَا فِي بَيته كَانَت أفضل
من ألف صَلَاة، وَهَكَذَا حكم مَسْجِد مَكَّة وَبَيت
الْمُقَدّس إلاّ أَن التَّضْعِيف بِمَكَّة يحصل فِي جَمِيع
مَكَّة، بل صحّح النَّوَوِيّ: أَن التَّضْعِيف يحصل فِي
جَمِيع الْحرم، وَاسْتثنى من عُمُوم الحَدِيث عدَّة من
النَّوَافِل، ففعلها فِي غير الْبَيْت أكمل، وَهِي: مَا
تشرع فِيهَا الْجَمَاعَة: كالعيدين وَالِاسْتِسْقَاء
والكسوف. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: وَكَذَلِكَ: تَحِيَّة
الْمَسْجِد وركعتا الطّواف وركعتا الْإِحْرَام إِن كَانَ
عِنْد الْمِيقَات مَسْجِد كذي الحليفة، وَكَذَلِكَ
التَّنَفُّل فِي يَوْم الْجُمُعَة قبل الزَّوَال وَبعده.
وَفِيه: حجَّة على من اسْتحبَّ النَّوَافِل فِي الْمَسْجِد
ليلية كَانَت أَو نهارية حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض
وَالنَّوَوِيّ عَن جمَاعَة من السّلف، وعَلى من اسْتحبَّ
نوافل النَّهَار فِي الْمَسْجِد دون نوافل اللَّيْل، وَحكى
ذَلِك عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك. وَفِيه: مَا يدل
على أصل التَّرَاوِيح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
صلاهَا فِي رَمَضَان بعض اللَّيَالِي ثمَّ تَركهَا خشيَة
أَن تكْتب علينا، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي كَونهَا سنة
أَو تَطَوّعا مُبْتَدأ، فَقَالَ الإِمَام حميد الدّين
الضَّرِير: نفس التَّرَاوِيح سنة، أما أَدَاؤُهَا
بِالْجَمَاعَة فمستحب، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَن
التَّرَاوِيح سنة لَا يجوز تَركهَا. وَقَالَ الشَّهِيد:
هُوَ الصَّحِيح، وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : التَّرَاوِيح
سنة مُؤَكدَة، وَالْجَمَاعَة فِيهَا وَاجِبَة، وَفِي
(الرَّوْضَة) لِأَصْحَابِنَا: إِن الْجَمَاعَة فَضِيلَة.
وَفِي (الذَّخِيرَة) لِأَصْحَابِنَا عَن أَكثر
الْمَشَايِخ: إِن إِقَامَتهَا بِالْجَمَاعَة سنة على
الْكِفَايَة، وَمن صلى فِي الْبَيْت فقد ترك فَضِيلَة
الْمَسْجِد. وَفِي (الْمَبْسُوط) : لَو صلى إِنْسَان فِي
بَيته لَا يَأْثَم، فعلهَا ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم
وَنَافِع وَإِبْرَاهِيم، ثمَّ إِنَّهَا عشرُون رَكْعَة.
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَنَقله القَاضِي عَن
جُمْهُور الْعلمَاء، وَحكي أَن الْأسود بن يزِيد كَانَ
يقوم بِأَرْبَعِينَ رَكْعَة، ويوتر بِسبع، وَعند مَالك:
تسع ترويحات بست وَثَلَاثِينَ رَكْعَة غير الْوتر، وَاحْتج
على ذَلِك بِعَمَل أهل الْمَدِينَة، وَاحْتج أَصْحَابنَا
وَالشَّافِعِيَّة والحنابلة بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح عَن السَّائِب بن يزِيد الصَّحَابِيّ،
قَالَ: كَانُوا يقومُونَ على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، بِعشْرين رَكْعَة، وعَلى عهد عُثْمَان وَعلي، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مثله. فَإِن قلت: قَالَ فِي
(الْمُوَطَّأ) : عَن يزِيد بن رُومَان قَالَ: كَانَ
النَّاس فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقومُونَ
فِي رَمَضَان بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة؟ قلت: قَالَ
الْبَيْهَقِيّ: وَالثَّلَاث هُوَ الْوتر، وَيزِيد لم يدْرك
عمر، فَفِيهِ انْقِطَاع.
فَائِدَة: اسْتثِْنَاء الْمَكْتُوبَة مِمَّا يصلى فِي
الْبيُوت هُوَ فِي حق الرِّجَال دون النِّسَاء، فَإِن
صلاتهن فِي الْبيُوت أفضل، وَإِن أذن لَهُنَّ فِي حُضُور
بعض الْجَمَاعَات، وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إِذا استأذنكم
نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِد فأذنوا لَهُنَّ
وبيوتهن خير لَهُنَّ.
أُخْرَى: قَوْله: (فِي بُيُوتكُمْ) ، يحْتَمل أَن يكون
المُرَاد بذلك إِخْرَاج بيُوت الله تَعَالَى، وَهِي
الْمَسَاجِد، فَيدْخل فِيهِ بَيت الْمصلى وَبَيت غَيره،
كمن يُرِيد أَن يزور قوما فِي بُيُوتهم وَنَحْو ذَلِك.
وَيحْتَمل أَن يُرِيد بَيت الْمُصَلِّي دون بَيت غَيره،
وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (أفضل
صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته) ، فَيخرج بذلك أَيْضا بَيت غير
الْمصلى.
أُخْرَى: اخْتلف فِي المُرَاد بقوله: فِي حَدِيث ابْن عمر:
(صلوا فِي بُيُوتكُمْ) ، فَقَالَ الْجُمْهُور فِيمَا
حَكَاهُ القَاضِي عَنْهُم: إِن المُرَاد فِي صَلَاة
النَّافِلَة اسْتِحْبَاب إخفائها. قَالَ: وَقيل هَذَا فِي
الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا بعض فرائضكم فِي
بُيُوتكُمْ ليقتدي بكم من لَا يخرج إِلَى الْمَسْجِد من
نسْوَة وَعبيد ومريض وَنَحْوهم، قَالَ النَّوَوِيّ:
وَالصَّوَاب أَن المُرَاد النَّافِلَة فَلَا يجوز حمله على
الْفَرِيضَة.
أُخْرَى: إِنَّمَا حث على النَّوَافِل فِي الْبيُوت
لكَونهَا أخْفى وَأبْعد من الرِّيَاء، وأصون من المحبطات،
وليتبرك الْبَيْت بذلك، وتنزل فِيهِ الرَّحْمَة
وَالْمَلَائِكَة، وتنفر مِنْهُ الشَّيَاطِين. وَالله
تَعَالَى أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(أبْوابُ صِفَةُ الصَّلاَةِ)
لما فرغ من بَيَان أَحْكَام الْجَمَاعَة وَالْإِقَامَة
وتسوية الصُّفُوف الْمُشْتَملَة على مائَة واثنين وَعشْرين
حَدِيثا، الْمَوْصُول من ذَلِك
(5/267)
سِتَّة وَتسْعُونَ حَدِيثا، وَالْمُعَلّق
سِتَّة وَعِشْرُونَ، وعَلى سَبْعَة عشر أثرا من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، شرع فِي بَيَان صفة
الصَّلَاة بأنواعها وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بهَا
بتفاصيلها، فَقَالَ:
82 - (بابُ إيجَاب التَّكبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِيجَاب تَكْبِيرَة
الْإِحْرَام، ثمَّ: الْوَاو، فِي: وافتتاح الصَّلَاة،
قَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنَّهَا عاطفة إِمَّا على
الْمُضَاف وَهُوَ إِيجَاب، وَإِمَّا على الْمُضَاف
إِلَيْهِ وَهُوَ التَّكْبِير، وَالْأول أولى إِن كَانَ
المُرَاد بالافتتاح الدُّعَاء، لِأَنَّهُ لَا يجب.
وَالَّذِي يظْهر من سِيَاقه أَن: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ،
وَإِن المُرَاد بالافتتاح: الشُّرُوع فِي الصَّلَاة.
انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن: الْوَاو، هُنَا عاطفة، فَلَا
يَصح قَوْله: إِمَّا على الْمُضَاف وَإِمَّا على الْمُضَاف
إِلَيْهِ، بل: الْوَاو، هُنَا إِمَّا بِمَعْنى: بَاء
الْجَرّ، كَمَا فِي قَوْلهم: أَنْت أعلم وَمَالك،
وَالْمعْنَى: إِيجَاب التَّكْبِير بافتتاح الصَّلَاة.
وَأما بِمَعْنى: لَام التَّعْلِيل، وَالْمعْنَى: إِيجَاب
التَّكْبِير لأجل افْتِتَاح الصَّلَاة. ومجيء: الْوَاو،
بِمَعْنى: لَام التَّعْلِيل، ذكره الخارزنجي، وَيجوز أَن
تكون بِمَعْنى: مَعَ، أَي: إِيجَاب التَّكْبِير مَعَ
افْتِتَاح الصَّلَاة، ومجيء: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ،
شَائِع ذائع.
ثمَّ إعلم أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب وجوب
التَّكْبِير، لِأَن الْإِيجَاب هُوَ الْخطاب الَّذِي
يعْتَبر فِيهِ جَانب الْفَاعِل، وَالْوُجُوب هُوَ الَّذِي
يعْتَبر فِيهِ جَانب الْمَفْعُول، وَهُوَ فعل الْمُكَلف،
وَإِطْلَاق الْإِيجَاب على الْوُجُوب تسَامح.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، فَقَالَ
أَبُو حنيفَة: هِيَ شَرط، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد: ركن. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَقَالَ
الزُّهْرِيّ: تَنْعَقِد الصَّلَاة بِمُجَرَّد النِّيَّة
بِلَا تَكْبِير، قَالَ أَبُو بكر: وَلم يقل بِهِ غَيره.
قَالَ ابْن بطال: ذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى وجوب
تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنَّهَا
سنة، رُوِيَ ذَلِك عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن وَالْحكم
وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالُوا: إِن تَكْبِير
الرُّكُوع يجْزِيه عَن تَكْبِير الْإِحْرَام، وَرُوِيَ عَن
مَالك فِي الْمَأْمُوم مَا يدل على أَنه سنة، وَلم يخْتَلف
قَوْله فِي الْمُنْفَرد وَالْإِمَام أَنه وَاجِب على كل
وَاحِد مِنْهُمَا، وَأَن من نَسيَه يسْتَأْنف الصَّلَاة.
وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: التَّكْبِير ركن لَا
تَنْعَقِد الصَّلَاة إِلَّا بِهِ، سَوَاء تَركه سَهوا أَو
عمدا. قَالَ: وَهَذَا قَول ربيعَة وَالثَّوْري وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَحكى الثَّوْريّ
وَأَبُو الْحسن الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ عَن ابْن علية،
والأصم كَقَوْل الزُّهْرِيّ فِي انْعِقَاد الصَّلَاة
بِمُجَرَّد النِّيَّة بِغَيْر تَكْبِير، وَقَالَ عبد
الْعَزِيز ابْن ابراهيم بن بزيزة: قَالَت طَائِفَة
بِوُجُوب تَكْبِير الصَّلَاة كُله، وَعكس آخَرُونَ
فَقَالُوا: كل تَكْبِيرَة فِي الصَّلَاة لَيست بواجبة
مُطلقًا، مِنْهُم: ابْن شهَاب وَابْن الْمسيب، وأجازوا
الْإِحْرَام بِالنِّيَّةِ لعُمُوم قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) ،
وَالْجُمْهُور أوجبوها خَاصَّة دون مَا عَداهَا. وَاخْتلف
مَذْهَب مَالك: هَل يحملهَا الإِمَام عَن الْمَأْمُوم أم
لَا؟ فِيهِ قَولَانِ فِي الْمَذْهَب.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء: هَل يجزىء الِافْتِتَاح بالتسبيح
والتهليل مَكَان التَّكْبِير؟ فَقَالَ مَالك وَأَبُو
يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: لَا يجزىء
إِلَّا: الله أكبر، وَعَن الشَّافِعِي أَنه يجزىء: الله
الْأَكْبَر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: يجوز بِكُل
لفظ يقْصد بِهِ التَّعْظِيم، وَذكر فِي (الْهِدَايَة)
قَالَ أَبُو يُوسُف: إِن كَانَ الْمُصَلِّي يحسن
التَّكْبِير لم يجز إلاّ: الله أكبر، أَو: الله
الْأَكْبَر، أَو الله الْكَبِير، وَإِن لم يحسن جَازَ.
وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِحَدِيث عَائِشَة: (كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفْتَتح الصَّلَاة
بِالتَّكْبِيرِ) ، وَبِحَدِيث ابْن عمر: (رَأَيْت النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم افْتتح التَّكْبِير فِي
الصَّلَاة) على تعْيين لفظ: التَّكْبِير، دون لفظ غَيره من
أَلْفَاظ التَّعْظِيم، وَكَذَلِكَ استدلوا بِحَدِيث
رِفَاعَة فِي قصَّة الْمُسِيء صلَاته، أخرجه أَبُو دَاوُد:
(لَا تتمّ صَلَاة أحد من النَّاس حَتَّى يتَوَضَّأ فَيَضَع
الْوضُوء موَاضعه ثمَّ يكبر) . وَبِحَدِيث أبي حميد:
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ
إِلَى الصَّلَاة عقد قَائِما وَرفع يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ:
الله أكبر) ، أخرجه التِّرْمِذِيّ قلت: التَّكْبِير هُوَ
التَّعْظِيم من حَيْثُ اللُّغَة، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَلَمَّا رأينه أكبرنه} (يُوسُف: 31) . أَي:
عظمنه. {وَرَبك فَكبر} (المدثر: 3) أَي: فَعظم، فَكل لفظ
دلّ على التَّعْظِيم وَجب أَن يجوز الشُّرُوع بِهِ، وَمن
أَيْن قَالُوا: إِن التَّكْبِير وَجب بِعَيْنِه حَتَّى
يقْتَصر على لفظ: أكبر؟ وَالْأَصْل فِي خطاب الشَّرْع أَن
تكون نصوصه مَعْلُومَة معقولة، وَالتَّقْيِيد خلاف فِي
الأَصْل على مَا عرف فِي الْأُصُول. وَقَالَ تَعَالَى:
{وَذكر اسْم ربه فصلى} (الْأَعْلَى: 15) وَذكر اسْمه
تَعَالَى أَعم من أَن يكون: باسم الله، أَو: باسم
الرَّحْمَن، فَجَاز الرَّحْمَن أعظم، كَمَا جَازَ: الله
أكبر، لِأَنَّهُمَا فِي كَونهمَا ذكرا سَوَاء، قَالَ الله
تَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا}
(الْأَعْرَاف: 180) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه
إلاّ الله) ، فَمن
(5/268)
قَالَ لَا إِلَه إلاّ الرَّحْمَن أَو
الْعَزِيز كَانَ مُسلما، فَإِذا جَازَ ذَلِك فِي
الْإِيمَان الَّذِي هُوَ أصل، فَفِي فروعه أولى. وَفِي
(سنَن ابْن أبي شيبَة) : عَن أبي الْعَالِيَة أَنه سُئِلَ:
بِأَيّ شَيْء كَانَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام،
يستفتحون الصَّلَاة؟ قَالَ: بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيح
والتهليل. وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: بِأَيّ شَيْء من أَسمَاء
الله تَعَالَى افتتحت الصَّلَاة أجزأك، وَمثله عَن
النَّخعِيّ وَعَن إِبْرَاهِيم: إِذا سبح أَو كبر أَو هلل
أَجْزَأَ فِي الِافْتِتَاح، وَالْجَوَاب عَن حَدِيث
رِفَاعَة: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أثبتها صَلَاة
وَنفى قبُولهَا، وَيجوز أَن تكون جَائِزَة وَلَا تكون
مَقْبُولَة، إِذْ لَا يلْزم من الْجَوَاز الْقبُول،
وَعِنْدهم لَا تكون صَلَاة فَلَا حجَّة فِيهِ.
732 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أنَسُ بنُ مالِكٍ
الأنْصَارِيُّ أنَّ رسُولَ الله رَكِبَ فَرَسا فَجُحِشَ
شِقُّهُ الأيْمَنُ قَالَ أنَسٌ رَضِي الله عنْهُ فَصَلَّى
لَنَا يَوْمَئِذٍ صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ هْوَ قَاعِدٌ
فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودا ثُمَّ قَالَ لَمَّا
سَلَّمَ إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ فَإذَا
صَلَّى قائِما فَصَلُّوا قِيَاما وإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا
وإذَا رَفَعَ فارْفَعُوا وإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا وإذَا
قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا
ولَكَ الحَمْدُ.
هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي: بَاب إِنَّمَا جعل
الإِمَام ليؤتم بِهِ، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك
ابْن شهَاب عَن أنس، وَبَينهمَا تفَاوت فِي بعض
الْأَلْفَاظ، فهناك: (ركب فرسا فصرع عَنهُ فجحش) وَهُنَاكَ
بعد قَوْله: (وَرَاءه قعُودا، فَلَمَّا إنصرف قَالَ:
إِنَّمَا جعل الإِمَام) ، وَلَيْسَ هُنَاكَ: (وَإِذا سجد
فاسجدوا) ، وَفِي آخِره هُنَاكَ: (وَإِذا صلى جَالِسا
فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ) . وَفِي نفس الْأَمر هَذَا
الحَدِيث وَالَّذِي بعده فِي ذَلِك الْبَاب حَدِيث وَاحِد،
فَالْكل من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أنس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَفِي
الحَدِيث الَّذِي يتلوه: (وَإِذا كبر فكبروا) ، وَهُوَ
مُقَدّر أَيْضا فِي هَذَا الحَدِيث، لِأَن قَوْله: (إِذا
ركع فاركعوا) ، يَسْتَدْعِي سبق التَّكْبِير بِلَا شكّ،
والمقدر كالملفوظ، فَحِينَئِذٍ يظْهر التطابق بَين
تَرْجَمَة الْبَاب وَبَين هذَيْن الْحَدِيثين، لِأَن
الْأَمر بِالتَّكْبِيرِ صَرِيح فِي أَحدهمَا، مُقَدّر فِي
الآخر، وَالْأَمر بِهِ للْوُجُوب، فَدلَّ على الْجُزْء
الأول من التَّرْجَمَة وَهُوَ قَوْله: بَاب إِيجَاب
التَّكْبِير.
وَأما دلَالَته على الْجُزْء الثَّانِي وَهُوَ قَوْله:
وافتتاح الصَّلَاة، فبطريق اللُّزُوم، لِأَن التَّكْبِير
فِي أول الصَّلَاة لَا يكون إلاّ عِنْد افتتاحها،
وافتتاحها هُوَ الشُّرُوع فِيهَا، فَإِذا أمعنت النّظر
فِيمَا قلت عرفت أَن اعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ على
البُخَارِيّ هَهُنَا لَيْسَ بِشَيْء، وَهُوَ قَوْله:
لَيْسَ فِي حَدِيث شُعَيْب ذكر التَّكْبِير وَلَا ذكر
الِافْتِتَاح، وَمَعَ هَذَا فَحَدِيث اللَّيْث الَّذِي
ذكره إِنَّمَا فِيهِ: (إِذا كبر فكبروا) ، لَيْسَ فِيهِ
بَيَان إِيجَاب التَّكْبِير، وَإِنَّمَا فِيهِ بَيَان
إِيجَاب الَّتِي يكبرُونَ بهَا لَا يسبقون إمَامهمْ بهَا،
وَلَو كَانَ ذَلِك إِيجَابا للتكبير بِهَذَا اللَّفْظ
لَكَانَ قَوْله: (وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده
فَقولُوا: رَبنَا وَلَك الْحَمد) ، إِيجَابا لهَذَا
القَوْل على الْمُؤْتَم. انْتهى.
وَقد قُلْنَا: إِن هَذِه الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة فِي حكم
حَدِيث وَاحِد وَقد بَينا وَجهه، وَأَنه يدل على وجوب
التَّكْبِير، وبطريق اللُّزُوم يدل على افْتِتَاح
الصَّلَاة، وَقَوله: وَلَيْسَ فِيهِ بَيَان إِيجَاب
التَّكْبِير، مَمْنُوع، وَكَيف لَا يدل وَقد أَمر بِهِ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن التِّين
وَابْن بطال: تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَاجِبَة بِهَذَا
اللَّفْظ، أَعنِي بقوله: (فكبروا) ، لِأَنَّهُ ذكر
تَكْبِيرَة الْإِحْرَام دون غَيرهَا من سَائِر
التَّكْبِيرَات، وَالْأَمر للْوُجُوب. وَقَوله: وَلَو
كَانَ ذَلِك إِيجَابا ... إِلَى آخِره، قِيَاس غير صَحِيح،
لِأَن التَّحْمِيد غير وَاجِب على الْمُؤْتَم
بِالْإِجْمَاع، وَلَا يضر ذَلِك إِيجَاب الظَّاهِرِيَّة
إِيَّاه على الْمُؤْتَم، لِأَن خلافهم لَا يعْتَبر،
وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَيمكن أَن يكون البُخَارِيّ أَيْضا
قَائِلا بِوُجُوب التَّحْمِيد، كَمَا يُوجِبهُ
الظَّاهِرِيَّة. فَإِن قلت: روى عَن الْحميدِي أَنه قَالَ
بِوُجُوبِهِ؟ قلت: يحْتَمل أَنه لم يكن اطلع على كَون
الْإِجْمَاع فِيهِ على عدم الْوُجُوب، وَعرفت أَيْضا أَن
قَول صَاحب (التَّلْوِيح) : وافتتاح الصَّلَاة لَيْسَ فِي
ظَاهر الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْء أَيْضا،
لِأَنَّهُ نظر إِلَى الظَّاهِر، وَلَو غاص فِيمَا غصناه لم
يقل بذلك. والكرماني أَيْضا تصرف وتكلف هُنَا، ثمَّ توقف
فاستشكل دلَالَته على التَّرْجَمَة حَيْثُ قَالَ: أَولا:
الحَدِيث دلّ على الْجُزْء الثَّانِي من التَّرْجَمَة،
لِأَن لفظ: (إِذا صلى قَائِما) يتَنَاوَل لكَون
الِافْتِتَاح فِي حَال الْقيام، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا
افْتتح الإِمَام الصَّلَاة قَائِما فافتتحوا أَنْتُم
أَيْضا قيَاما، إلاّ أَن تكون: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ،
وَالْغَرَض بَيَان إِيجَاب
(5/269)
التَّكْبِير عِنْد افْتِتَاح الصَّلَاة،
يَعْنِي: لَا يقوم مقَامه التَّسْبِيح والتهليل،
فَحِينَئِذٍ دلَالَته على التَّرْجَمَة مُشكل. انْتهى.
قلت: قَوْله: وَالْغَرَض ... إِلَى آخِره، غير صَحِيح،
لِأَن الْغَرَض لَيْسَ مَا قَالَه، بل الْغَرَض بَيَان
وجوب نفس تَكْبِيرَة الْإِحْرَام للْوَجْه الَّذِي ذكرنَا،
خلافًا لمن نفى وُجُوبهَا، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَقد
يُقَال: عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا كَانَ فِي الْبَاب
حَدِيث دَال على التَّرْجَمَة يذكرهُ، وبتبعيته يذكر
أَيْضا مَا يُنَاسِبه، وَإِن لم يتَعَلَّق بالترجمة.
انْتهى. قلت: هَذَا جَوَاب عَاجز عَن تَوْجِيه الْكَلَام
على مَا لَا يخفى.
ثمَّ إعلم أَنا قد تكلمنا على مَا يتَعَلَّق بِهَذَا
الحَدِيث مستقصىً فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم
بِهِ، وَشَيخ البُخَارِيّ أَبُو الْيَمَان: هُوَ الحكم بن
نَافِع البهراني الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي
حَمْزَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. .
وَمن لطائف أسناده: إِنَّه من رباعيات البُخَارِيّ.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبلفظ
الْإِخْبَار فِي مَوضِع بِصِيغَة الْجمع، وَفِي مَوضِع
بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: رِوَايَة حمصيين ومدنيين.
733 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
لَيْثٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَسِ بنِ مالَكٍ أنَّهُ
قَالَ خَرَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ
فَرَسٍ فَجُحِشَ فَصَلَّى لَنَا قَاعِدا فَصَلَّيْنَا
مَعَهُ قُعُودا ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ إنَّمَا الإمَامُ
أوْ إنَّمَا جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإذَا
كَبَّرَ فكَبِّرُوا وإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا وَإِذا رفَعَ
فارْفَعُوا وَإِذا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ
فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ وَإذَا سَجَدَ
فاسْجُدُوا.
هَذَا طَرِيق عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن اللَّيْث بن سعيد
عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن أنس عَن
مَالك. قَوْله: (خر) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَتَشْديد الرَّاء أَي: وَقع من الخرور، وَهُوَ السُّقُوط.
قَوْله: (فجحش) بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء
الْمُهْملَة أَي: خدش وَهُوَ أَن يتقشر جلد الْعُضْو.
قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني
(ثمَّ انْصَرف) . قَوْله: (وَإِنَّمَا) شكّ من الرَّاوِي
فِي زِيَادَة لفظ: (جعل) ومفعول: (فكبروا) ومفعول:
(إرفعوا) محذوفان. قَوْله: (سمع الله لمن حَمده) قَالَ
الْكرْمَانِي: فَلَا بُد أَن يسْتَعْمل بِمن لَا
بِاللَّامِ. قلت: مَعْنَاهُ سمع الْحَمد لأجل الحامد
مِنْهُ قلت: يُقَال: استمعت لَهُ وتسمعت إِلَيْهِ وَسمعت
لَهُ وَسمعت عَنهُ، كُله بِمَعْنى أَي: أصيغت إِلَيْهِ.
قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن}
(فصلت: 26) وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يسَّمعون إِلَى الْمَلأ
الْأَعْلَى} (الصافات: 8) . وَالْمرَاد مِنْهُ فِي
التسميع، مجَاز بطرِيق إِطْلَاق اسْم السَّبَب وَهُوَ
الإصغاء على الْمُسَبّب وَهُوَ الْقبُول والإجابة، أَي:
أجَاب لَهُ وَقَبله، بِمَعْنى: قبل الله حمد من حَمده.
يُقَال: سمع الْأَمِير كَلَام فلَان، إِذا قبل، وَيُقَال:
مَا سمع كَلَامه أَي: رده وَلم يقبله، وَإِن سمع حَقِيقَة.
قَوْله: (وَلَك الْحَمد) قَالَ الْكرْمَانِي، بِدُونِ:
الْوَاو، وَفِي الرِّوَايَة السَّابِقَة، بِالْوَاو،
والأمران جائزان، وَلَا تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الآخر فِي
مُخْتَار أَصْحَابنَا قلت: رُوِيَ هُنَا أَيْضا:
بِالْوَاو، فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّصَرُّف.
وَقَوله: لَا تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الآخر، غير مُسلم
لِأَن بَعضهم رجح الَّذِي بِدُونِ: الْوَاو، لكَونهَا
زَائِدَة. وَفِي (الْمُحِيط) : رَبنَا لَك الْحَمد أفضل
لزِيَادَة: الْوَاو، وَبَعْضهمْ رجح الَّذِي بِالْوَاو
لِأَن تَقْدِيره: رَبنَا حمدناك وَلَك الْحَمد، فَيكون
الْحَمد مكررا، ثمَّ لفظ: رَبنَا، لَا يُمكن أَن يتَعَلَّق
بِمَا قبله، لِأَنَّهُ كَلَام الْمَأْمُوم وَمَا قبله
كَلَام الإِمَام، بِدَلِيل: فَقولُوا، بل هُوَ ابْتِدَاء
كَلَام، وَلَك الْحَمد، حَال مِنْهُ أَي: أَدْعُوك
وَالْحَال أَن الْحَمد لَك لَا لغيرك، وَلَا يجوز أَن
يعْطف على: أَدْعُوك، لِأَنَّهَا إنشائية، وَتلك خبرية.
734 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
قَالَ حدَّثنِي أبُو الزِّنادِ عنِ الأَعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ ليُؤْتَمَّ بهِ فإذَا كَبَّرَ
فكبِّرُوا وَإِذا ركَعَ فارْكَعُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ
الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا ولكَ الحَمْدُ
وإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا وَإذَا صَلَّى جالِسا فصَلُّوا
جُلُوسا أجْمَعُونَ. (أنظر الحَدِيث 722) .
مطابقته للتَّرْجَمَة بيناها فِي حَدِيث أنس فِي أول
الْبَاب: وَأخرجه عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع مثل
مَا أخرج حَدِيث أنس عَن أبي الْيَمَان أَيْضا، غير أَن
هُنَاكَ عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَهنا عَن
شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن عبد الله بن ذكْوَان
(5/270)
عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج
عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي:
بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ.
83 - (بابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأولَى
مَعَ الافْتِتَاحِ سَوَاءً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْمُصَلِّي يَدَيْهِ فِي
تَكْبِيرَة الْإِحْرَام مَعَ الِافْتِتَاح، أَي: الشُّرُوع
فِي الصَّلَاة. قَوْله: (سَوَاء) أَي: حَال كَون رفع
الْيَدَيْنِ مَعَ الِافْتِتَاح متساويين.
735 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنِ
ابنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ
أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَرْفَعُ
يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ
وإذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضا وَقَالَ سَمِعَ
الله لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ وكانَ لاَ
يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (يرفع يَدَيْهِ
إِذا افْتتح الصَّلَاة) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الله بن مسلمة هُوَ
القعْنبِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد
وَالْبَاقِي عنعنة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن
قُتَيْبَة، وَعَن عَمْرو بن عَليّ، وَعَن سُوَيْد بن نصر
عَن ابْن الْمُبَارك.
قَوْله: (حَذْو مَنْكِبَيْه) أَي ازاء مَنْكِبَيْه الحذو
والحذاء الازاء والمقابل قَوْله (رفعهما) جَوَاب لقَوْله:
(وَإِذا رفع) . قَوْله: (كَذَلِك) أَي: حَذْو مَنْكِبَيْه.
قَوْله: (وَكَانَ لَا يفعل ذَلِك فِي السُّجُود) أَي: لَا
يرفع يَدَيْهِ فِي ابْتِدَاء السُّجُود وَالرَّفْع مِنْهُ.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ
رفع الْيَدَيْنِ عِنْد افْتِتَاح الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: وَلم يَخْتَلِفُوا أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح
الصَّلَاة. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : أَجمعت الْأمة على
اسْتِحْبَاب رفع الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام،
وَنقل ابْن الْمُنْذر وَغَيره الْإِجْمَاع فِيهِ، وَنقل
الْعَبدَرِي عَن الزيدية، وَلَا يعْتد بهم أَنه لَا يرفع
يَدَيْهِ عِنْد الْإِحْرَام، وَفِي (فتاوي الْقفال) : إِن
أَبَا الْحسن أَحْمد بن سيار الْمروزِي قَالَ: إِذا لم
يرفع يَدَيْهِ لم تصح صلَاته لِأَنَّهَا وَاجِبَة،
فَوَجَبَ الرّفْع لَهَا، بِخِلَاف بَاقِي التَّكْبِيرَات،
لَا يجب الرّفْع لَهَا، لِأَنَّهَا غير وَاجِبَة. قَالَ
النَّوَوِيّ: وَهَذَا مَرْدُود بِإِجْمَاع من قبله.
وَقَالَ ابْن حزم: رفع الْيَدَيْنِ فِي أول الصَّلَاة فرض
لَا تجزىء الصَّلَاة إلاّ بِهِ. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن
الْأَوْزَاعِيّ. قلت: وَمِمَّنْ قَالَ بِالْوُجُوب:
الْحميدِي وَابْن خُزَيْمَة، نَقله عَنهُ الْحَاكِم،
وَحَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن عَن أَحْمد، وَقَالَ ابْن عبد
الْبر: كل من نقل عَنهُ الْإِيجَاب لَا تبطل الصَّلَاة
بِتَرْكِهِ إلاّ رِوَايَة عَن الْأَوْزَاعِيّ والْحميدِي،
وَنَقله الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الْمَالِكِيَّة.
وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة الرّفْع، فَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
يرفع ناشرا أَصَابِعه مُسْتَقْبلا بباطن كفيه الْقبْلَة،
كَأَنَّهُ لمح مَا فِي (الْأَوْسَط) للطبراني من حَدِيثه
عَن مُحَمَّد بن حزم، حَدثنَا عمر بن عمرَان عَن ابْن جريج
عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: إِذا استفتح أحدكُم
الصَّلَاة فَليرْفَعْ يَدَيْهِ وليستقبل بباطنهما
الْقبْلَة، فَإِن الله تَعَالَى، عز وَجل، أَمَامه. وَفِي
(الْمُحِيط) : وَلَا يفرج بَين الْأَصَابِع تفريجا،
كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من
حَدِيث سعيد بن سمْعَان: (دخل علينا أَبُو هُرَيْرَة
مَسْجِد بني زُرَيْق، فَقَالَ: ثَلَاث كَانَ يعْمل بِهن
فَتَرَكَهُنَّ النَّاس؛ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ هَكَذَا، وَأَشَارَ
أَبُو عَامر الْعَقدي بيدَيْهِ، وَلم يفرج بَين أَصَابِعه
وَلم يضمها) . وَضَعفه. وَفِي (الْحَاوِي) للماوردي:
يَجْعَل بَاطِن كل كف إِلَى الْأُخْرَى، وَعَن سَحْنُون:
ظهورهما إِلَى السَّمَاء وبطونهما إِلَى الأَرْض. وَعَن
القَاضِي: يقيمهما محنيتين شَيْئا يَسِيرا. وَنقل
الْمحَامِلِي عَن أَصْحَابهم: يسْتَحبّ تَفْرِيق
الْأَصَابِع. وَقَالَ الْغَزالِيّ: لَا يتَكَلَّف ضما
وَلَا تفريقا، بل يتركهما على هيئتهما. وَقَالَ
الرَّافِعِيّ: يفرق تفريقا وسطا. وَفِي (الْمُغنِي)
لِابْنِ قدامَة: يسْتَحبّ أَن يمد أَصَابِعه وَيضم
بَعْضهَا إِلَى بعض.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي وَقت الرّفْع، فَظَاهر رِوَايَة
البُخَارِيّ أَنه يبتدىء الرّفْع مَعَ ابْتِدَاء
التَّكْبِير، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَنه رفعهما ثمَّ
كبر، وَفِي رِوَايَة لَهُ: ثمَّ رفع يَدَيْهِ، فَهَذِهِ
حالات فعلت لبَيَان جَوَاز كل مِنْهَا. وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : وَهِي أوجه لِأَصْحَابِنَا أَصَحهَا
الِابْتِدَاء بِالرَّفْع مَعَ ابْتِدَاء التَّكْبِير،
وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك،
وَنسبَة الْغَزالِيّ إِلَى الْمُحَقِّقين
(5/271)
وَفِي (شرح الْهِدَايَة) : يرفع ثمَّ يكبر.
وَقَالَ صَاحب (الْمَبْسُوط) : وَعَلِيهِ أَكثر
مَشَايِخنَا. وَقَالَ خُوَاهَر زادة: يرفع مُقَارنًا
للتكبير، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ الْمَشْهُور من
مَذْهَب مَالك. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : الصَّحِيح أَن
يكون ابْتِدَاء الرّفْع مَعَ التَّكْبِير وانتهاؤه مَعَ
انتهائه، وَهُوَ الْمَنْصُوص. وَقيل: يرفع بِلَا تَكْبِير
ثمَّ يبتدىء التَّكْبِير مَعَ إرْسَال الْيَدَيْنِ، وَقيل:
يرفع بِلَا تَكْبِير ثمَّ يرسلهما بعد فرَاغ التَّكْبِير،
وَهَذَا مصحح عِنْد الْبَغَوِيّ. وَقيل: يبتدىء بهما مَعًا
وَيَنْتَهِي التَّكْبِير مَعَ انْتِهَاء الْإِرْسَال.
وَقيل: يبتدىء الرّفْع مَعَ ابْتِدَاء التَّكْبِير، وَلَا
اسْتِحْبَاب فِي الِانْتِهَاء، وَهَذَا مصحح عِنْد
الرَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن بطال: ورفعهما تعبد، وَقيل:
إِشَارَة إِلَى التَّوْحِيد. وَقيل: حكمته أَن يرَاهُ
الْأَصَم فَيعلم دُخُوله فِي الصَّلَاة، وَالتَّكْبِير
لإسماع الْأَعْمَى فَيعلم دُخُوله فِي الصَّلَاة. وَقيل:
انقياد. وَقيل: إِشَارَة إِلَى طرح أُمُور الدُّنْيَا
والإقبال بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الصَّلَاة. وَقيل: استعظام
مَا دخل فِيهِ. وَقيل: إِشَارَة إِلَى تَمام الْقيام.
وَقيل: إِلَى رفع الْحجاب بَين العَبْد والمعبود. وَقيل:
ليستقبل بِجَمِيعِ بدنه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا
أنسبها. وَقَالَ الرّبيع: قلت للشَّافِعِيّ: مَا معنى رفع
الْيَدَيْنِ؟ قَالَ: تَعْظِيم الله وَاتِّبَاع سنة نبيه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَنقل عَن عبد الْبر عَن ابْن
عمر أَنه قَالَ: رفع الْيَدَيْنِ من زِينَة الصَّلَاة،
بِكُل رفع عشر حَسَنَات، بِكُل أصْبع حَسَنَة.
الْوَجْه الثَّالِث: إِلَى أَيْن يرفع؟ فَظَاهر الحَدِيث،
يرفع حَذْو مَنْكِبَيْه، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا أصح قولي
مَالك، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: إِلَى صَدره، لما روى مُسلم
عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث: (كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذا كبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي
بهما أُذُنَيْهِ) . وَفِي لفظ: (حَتَّى يُحَاذِي بهما فروع
أُذُنَيْهِ) . وَعَن أنس مثله عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ،
وَسَنَده صَحِيح. وَعَن الْبَراء من عِنْد الطَّحَاوِيّ:
(يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يكون إبهاماه قَرِيبا من شحمتي
أُذُنَيْهِ) ، وَذهب ابْن حبيب إِلَى رفعهما إِلَى حَذْو
أُذُنَيْهِ. وَفِي رِوَايَة: فَوق رَأسه،. وَقَالَ ابْن
عبد الْبر: رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الرّفْع مدا مَعَ الرَّأْس، وَرُوِيَ أَنه كَانَ يرفعهما
حذاء أُذُنَيْهِ، وَرُوِيَ: إِلَى صَدره، وَرُوِيَ: حَذْو
مَنْكِبَيْه، وَكلهَا آثَار مَحْفُوظَة مَشْهُورَة دَالَّة
على التَّوسعَة. وَعَن ابْن طَاوُوس، عَن طَاوُوس: أَنه
كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُجَاوز بهما رَأسه، وَقَالَ:
رَأَيْت ابْن عَبَّاس يصنعه، وَلَا أعلم إلاّ أَنه قَالَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصنعه.
وَصَححهُ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه (الْوَهم
وَالْإِيهَام) : وَيكبر مرّة وَاحِدَة. وَعند الرافضة:
ثَلَاثًا. وَأخرج ابْن مَاجَه: (كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ عِنْد كل تَكْبِيرَة) .
وَزعم النَّوَوِيّ: أَن هَذَا الحَدِيث بَاطِل لَا أصل
لَهُ.
الْوَجْه الرَّابِع فِيهِ: رفع الْيَدَيْنِ عِنْد تَكْبِير
الرُّكُوع وَعند رفع رَأسه من الرُّكُوع، وَهُوَ قَول
الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَابْن جرير
الطَّبَرِيّ، وَرِوَايَة عَن مَالك، وَإِلَيْهِ ذهب الْحسن
الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِين وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وطاووس
وَمُجاهد وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم وَقَتَادَة
وَمَكْحُول وَسَعِيد بن جُبَير وعبد الله بن الْمُبَارك
وسُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه
(رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة) بعد أَن أخرجه من طَرِيق
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن
تِسْعَة عشر رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنهم كَانُوا يرفعون أَيْديهم عِنْد
الرُّكُوع، وَعدد أَكْثَرهم، وَزَاد الْبَيْهَقِيّ جماعات،
وَذكر ابْن الْأَثِير فِي (شَرحه) : أَن ذَلِك رُوِيَ عَن
أَكثر من عشْرين نَفرا، وَزَاد فيهم الْخُدْرِيّ، وَقَالَ
الْحَاكِم: من جُمْلَتهمْ الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم
بِالْجنَّةِ. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: قَالَ أَبُو
عَليّ: روى الرّفْع عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نَيف وَثَلَاثُونَ من الصَّحَابَة، وَفِي
(التَّوْضِيح) : ثمَّ الْمَشْهُور أَنه لَا يجب شَيْء من
الرّفْع، وَحكى الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَحكى عَن دَاوُد
إِيجَابه فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَبِه قَالَ ابْن
سيار من أَصْحَابنَا، وَحكي عَن بعض الْمَالِكِيَّة، وَحكي
عَن أبي حنيفَة مَا يَقْتَضِي الْإِثْم بِتَرْكِهِ.
وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: من ترك الرّفْع فِي الصَّلَاة فقد
ترك ركنا من أَرْكَانهَا. وَفِي (قَوَاعِد) ابْن رشد: عَن
بَعضهم وُجُوبه أَيْضا عِنْد السُّجُود، وَعند أبي حنيفَة
وَأَصْحَابه: لَا يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة
الأولى، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي
ليلى وعلقمة بن قيس وَالْأسود بن يزِيد وعامر الشّعبِيّ
وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وخيثمة والمغيرة ووكيع وَعَاصِم
بن كُلَيْب وَزفر، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عَن
مَالك، وَهُوَ الْمَشْهُور من مذْهبه والمعمول عِنْد
أَصْحَابه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَبِه يَقُول غير
وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَول سُفْيَان وَأهل الْكُوفَة.
وَفِي (الْبَدَائِع) : رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه
قَالَ: الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ مَا كَانُوا يرفعون أَيْديهم
إلاّ فِي افْتِتَاح الصَّلَاة وَذكر غَيره عَن عبد الله بن
مَسْعُود أَيْضا وَجَابِر بن سَمُرَة والبراء بن عَازِب
وَعبد الله بن عمر وَأَبا
(5/272)
سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
وَاحْتج أَصْحَابنَا بِحَدِيث الْبَراء بن عَازِب، قَالَ:
(كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا كبر
لافتتاح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَتَّى يكون إبهاماه
قَرِيبا من شحمتي أُذُنَيْهِ ثمَّ لَا يعود) . أخرجه أَبُو
دَاوُد والطَّحَاوِي من ثَلَاث طرق وَابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) : فَإِن قَالُوا: فِي حَدِيث الْبَراء قَالَ
أَبُو دَاوُد: روى هَذَا الحَدِيث هشيم وخَالِد وَابْن
إِدْرِيس عَن يزِيد ابْن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن
أبي ليلى عَن الْبَراء، وَلم يذكرُوا: ثمَّ لَا يعود.
وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يقل أحد فِي هَذَا: ثمَّ لَا يعود،
غير شريك. وَقَالَ أَبُو عمر: تفرد بِهِ يزِيد، وَرَوَاهُ
عَنهُ الْحفاظ فَلم يذكر وَاحِد مِنْهُم. قَوْله: (ثمَّ
لَا يعود) . وَقَالَ الْبَزَّار: لَا يَصح حَدِيث يزِيد
فِي رفع الْيَدَيْنِ ثمَّ لَا يعود. وَقَالَ عَبَّاس
الدوري عَن يحيى بن معِين: لَيْسَ هُوَ بِصَحِيح
الْإِسْنَاد وَقَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث واه، قد كَانَ
يزِيد يحدث بِهِ لَا يذكر: ثمَّ لَا يعود، فَلَمَّا لقن
أَخذ يذكرهُ فِيهِ. وَقَالَ جمَاعَة: إِن يزِيد كَانَ
يُغير بِآخِرهِ، فَصَارَ يَتَلَقَّن. قُلْنَا: يُعَارض
قَول أبي دَاوُد قَول ابْن عدي فِي (الْكَامِل) رَوَاهُ
هشيم وَشريك وَجَمَاعَة مَعَهُمَا: عَن يزِيد
بِإِسْنَادِهِ، وَقَالُوا فِيهِ: ثمَّ لم يعد، فَظهر أَن
شَرِيكا لم ينْفَرد بِرِوَايَة هَذِه الزِّيَادَة، فَسقط
بذلك أَيْضا كَلَام الْخطابِيّ: لم يقل فِي هَذَا: ثمَّ
لَا يعود غير شريك. فَإِن قلت: يزِيد ضَعِيف وَقد تفرد
بِهِ؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن عِيسَى بن عبد
الرَّحْمَن رَوَاهُ أَيْضا عَن ابْن أبي ليلى، فَكَذَلِك
أخرجه الطَّحَاوِيّ، إِشَارَة إِلَى أَن يزِيد قد توبع فِي
هَذَا. وَأما يزِيد فِي نَفسه فَإِنَّهُ ثِقَة. فَقَالَ
الْعجلِيّ: هُوَ جَائِز الحَدِيث وَقَالَ يَعْقُوب بن
سُفْيَان: هُوَ، وَإِن تكلم فِيهِ لتغيره، فَهُوَ مَقْبُول
القَوْل عدل ثِقَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أعلم أحدا
ترك حَدِيثه، وَغَيره أحب إِلَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْن
شاهين فِي كتاب (الثِّقَات) : قَالَ أَحْمد بن صَالح:
يزِيد ثِقَة، وَلَا يُعجبنِي قَول من يتَكَلَّم فِيهِ.
وَخرج حَدِيثه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) . وَقَالَ
السَّاجِي: صَدُوق، وَكَذَا قَالَ ابْن حبَان وَخرج مُسلم
حَدِيثه، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، فَإِذا كَانَ
كَذَلِك جَازَ أَن يحمل أمره على أَنه حدث بِبَعْض
الحَدِيث تَارَة، وبجملته أُخْرَى، أَو يكون قد نسي أَولا
ثمَّ تذكر. وَقد اتقنا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا
للهداية) وَالَّذِي يحْتَج بِهِ الْخصم من الرّفْع
مَحْمُول على أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، ثمَّ
نسخ. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عبد الله بن الزبير رأى
رجلا يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة عِنْد الرُّكُوع وَعند
رفع رَأسه من الرُّكُوع، فَقَالَ لَهُ: لَا تفعل، فَإِن
هَذَا شَيْء فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثمَّ تَركه، وَيُؤَيّد النّسخ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ:
أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله ابْن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا
أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد، قَالَ:
صليت خلف ابْن عمر فَلم يكن يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي
التَّكْبِيرَة الأولى من الصَّلَاة. قَالَ الطَّحَاوِيّ:
فَهَذَا ابْن عمر قد رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فعله.
وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا
أَبُو بكر بن عِيَاض عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد، قَالَ: مَا
رَأَيْت ابْن عمر يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي أول مَا يفْتَتح،
فَقَالَ الْخصم: هَذَا حَدِيث مُنكر، لِأَن طاووسا قد ذكر
إِنَّه رأى ابْن عمر يفعل مَا يُوَافق مَا روى عَنهُ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك، قُلْنَا: يجوز
أَن يكون ابْن عمر فعل مَا رَوَاهُ طَاوُوس يَفْعَله قبل
أَن تقوم الْحجَّة عِنْده بنسخة، ثمَّ قَامَت الْحجَّة
عِنْده بنسخة فَتَركه، وَفعل مَا ذكره عَنهُ مُجَاهِد،
فَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ،
فَجَوَابه أَن أَبَا دَاوُد قد أخرجه من وُجُوه كَثِيرَة:
أَحدهَا عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَلَيْسَ فِيهِ ذكر رفع
الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع، وَالطَّرِيق الَّذِي فِيهِ
ذَلِك فَهُوَ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر، فَهُوَ ضَعِيف.
قَالُوا: إِنَّه مطعون فِي حَدِيثه فَكيف يحتجون بِهِ على
الْخصم؟ فَإِن قلت: هُوَ من رجال مُسلم قلت: لَا يلْزم من
ذَلِك أَن لَا يكون ضَعِيفا عِنْد غَيره، وَلَئِن سلمنَا
ذَلِك فَالْحَدِيث مَعْلُول بِجِهَة أُخْرَى، وَهُوَ أَن
مُحَمَّد بن عمر وَابْن عَطاء لم يسمع هَذَا الحَدِيث من
أبي حميد وَلَا مِمَّن ذكر مَعَه فِي هَذَا الحَدِيث مثل
أبي قَتَادَة وَغَيره فَإِنَّهُ توفّي فِي خلَافَة
الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك، وَكَانَت خِلَافَته فِي
سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، وَلِهَذَا قَالَ ابْن حزم:
وَلَعَلَّ عبد الحميد ابْن جَعْفَر وهم فِيهِ، يَعْنِي فِي
رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن عمر وَابْن عَطاء. فَإِن قَالَ
الْخصم: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : حكم
البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : بِأَنَّهُ سمع أَبَا حميد،
قُلْنَا: الْقَائِل بِأَنَّهُ لم يسمع من أبي حميد هُوَ
الشّعبِيّ، وَهُوَ حجَّة فِي هَذَا الْبَاب، وَإِن احْتج
الْخصم بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه ابْن مَاجَه،
قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع
يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة حَذْو مَنْكِبَيْه حِين يفْتَتح
الصَّلَاة وَحين يرْكَع وَحين يسْجد) ، فَجَوَابه أَنه من
طَرِيق إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن صَالح بن كيسَان، وهم
لَا يجْعَلُونَ إِسْمَاعِيل فِيمَا يرْوى عَن غير الشاميين
حجَّة، فَكيف يحتجون بِمَا لَو احْتج بِمثلِهِ عَلَيْهِم
لم يسوغوه إِيَّاه؟ وَقَالَ النَّسَائِيّ: إِسْمَاعِيل
ضَعِيف.
(5/273)
وَقَالَ ابْن حبَان: كثير الْخَطَأ فِي
حَدِيثه، فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ ابْن
خُزَيْمَة: لَا يحْتَج بِهِ.
فَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث وَائِل بن حجر قَالَ:
(رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع
يَدَيْهِ حِين يكبر للصَّلَاة وَحين يرْكَع وَحين يرفع
رَأسه من الرُّكُوع يرفع يَدَيْهِ حِيَال أُذُنَيْهِ)
أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، فَجَوَابه أَنه ضاده
مَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الله بن
مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه لم يكن رأى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل مَا ذكر من رفع
الْيَدَيْنِ فِي غير تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، فعبد الله
أقدم صُحْبَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأفهم بأفعاله من وَائِل، وَقد كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يحب أَن يَلِيهِ الْمُهَاجِرُونَ
ليحفظوا عَنهُ، وَكَانَ عبد الله كثير الولوج على رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَائِل بن حجر أسلم فِي
الْمَدِينَة فِي سنة تسع من الْهِجْرَة، وَبَين إسلاميهما
اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة، وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم
للْمُغِيرَة، حِين قَالَ: إِن وائلاً حدث أَنه رأى (رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح
الصَّلَاة وَإِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) :
إِن كَانَ وَائِل رَآهُ مرّة يفعل ذَلِك، فقد رَآهُ عبد
الله خمسين مرّة لَا يفعل ذَلِك، فَإِن قلت: خبر
إِبْرَاهِيم غير مُتَّصِل لِأَنَّهُ لم يدْرك عبد الله،
لِأَنَّهُ مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: بِالْكُوفَةِ، ومولد إِبْرَاهِيم
سنة خمسين، كَمَا صرح بِهِ ابْن حبَان قلت: عَادَة
إِبْرَاهِيم إِذا أرسل حَدِيثا عَن عبد الله لم يُرْسِلهُ
ألاّ بعد صِحَّته عِنْده من الروَاة عَنهُ، وَبعد تكاثر
الرِّوَايَات عَنهُ، وَلَا شكّ أَن خبر الْجَمَاعَة أقوى
من خبر الْوَاحِد وَأولى.
فَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أخرجه الْأَرْبَعَة، وَفِيه: رفع يَدَيْهِ حَذْو
مَنْكِبَيْه، ويصنع مثل ذَلِك، إِذا قضى قِرَاءَته إِذا
أَرَادَ أَن يرْكَع، ويصنعه إِذا ركع وَرفع من الرُّكُوع،
فَجَوَابه أَنه رُوِيَ عَنهُ أَيْضا مَا يُنَافِيهِ
ويعارضه، فَإِن عَاصِم ابْن كُلَيْب روى عَن أَبِيه أَن
عليا كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي أول تَكْبِيرَة من الصَّلَاة
ثمَّ لَا يرفع بعد، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو بكر بن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) ، وَلَا يجوز لعَلي أَن يرى ذَلِك
من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يتْرك هُوَ
ذَلِك إلاّ وَقد ثَبت نسخ الرّفْع فِي غير تَكْبِيرَة
الْإِحْرَام، وَإسْنَاد حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب صَحِيح
على شَرط مُسلم.
الْوَجْه الْخَامِس: فِيهِ أَنه قَالَ: سمع الله لمن حَمده
رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَبِه اسْتدلَّ الشَّافِعِي أَن
الإِمَام يجمع بَين التسميع والتحميد، وَقد مضى الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.
الْوَجْه السَّادِس: فِيهِ أَنه لَا يرفع يَدَيْهِ فِي
ابْتِدَاء السُّجُود وَلَا فِي الرّفْع مِنْهُ، كَمَا صرح
بِهِ فِيمَا يَأْتِي، وَبِه قَالَ أَكثر الْفُقَهَاء،
وَخَالف فِيهِ بَعضهم.
84 - (بابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ إذَا كَبَّرَ وإذَا رَكَعَ
وإذَا رَفَعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْيَدَيْنِ إِذا كبر
للافتتاح. قَوْله: (وَإِذا رفع) أَي: رَأسه من الرُّكُوع.
736 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا
عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنْ عَبْدِ الله بنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رأيْتُ رسولَ
الله إذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى
يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وكانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ
ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ ويَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا
رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَيقُولُ سَمِعَ الله
لِمَنْ حَمِدَهُ ولاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو
الْحسن الْمروزِي المجاور بِمَكَّة، مَاتَ سنة سِتّ
وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن
الْمُبَارك. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر. السَّادِس: عبد الله
بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد
فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن أَبِيه هَكَذَا هُوَ
فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: عَن عبد
الله بن عمر. وَفِيه: تَصْرِيح الزُّهْرِيّ بِإِخْبَار
سَالم لَهُ بِهِ. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من
أَفْرَاده. وَفِيه: من الروَاة اثْنَان مروزيان وَاثْنَانِ
مدنيان وَوَاحِد أُيلي.
(5/274)
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن
مُحَمَّد بن عبد الله بن قهزاد عَن سَلمَة بن سُلَيْمَان،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر، وروى
هَذَا الحَدِيث أَيْضا نَافِع عَن ابْن عمر، وَزَاد فِي
رِوَايَة كَمَا ستعلمه فِي: بَاب رفع الْيَدَيْنِ إِذا
قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ، وَرَوَاهُ عَن
الزُّهْرِيّ عشرَة: مَالك. وَيُونُس. وَشُعَيْب. وَابْن
أبي حَمْزَة. وَابْن جريج. وَابْن عُيَيْنَة. وَعقيل.
والزبيدي. وَمعمر. وَعبد الله بن عمر. وَرَوَاهُ عَن مَالك
جمَاعَة مِنْهُم: القعْنبِي وَيحيى بن يحيى الأندلسي فَلم
يذكر فِيهِ الرّفْع عِنْد الانحطاط إِلَى الرُّكُوع،
وَتَابعه على ذَلِك جماعات، وَرَوَاهُ عشرُون نفسا
بإثباته، كَمَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي (جمعه لغرائب
مَالك الَّتِي لَيست فِي الْمُوَطَّأ) . وَقَالَ جمَاعَة:
إِن الْإِسْقَاط إِنَّمَا أَتَى من مَالك، وَهُوَ الَّذِي
كَانَ أوهم فِيهِ، وَنَقله ابْن عبد الْبر، قَالَ: وَهَذَا
الحَدِيث أحد الإحاديث الْأَرْبَعَة الَّتِي رَفعهَا سَالم
بن عبد الله إِلَى ابْن عمر وَفعله، وَمِنْهَا مَا جعله
عَن ابْن عمر عَن عمر، وَالْقَوْل فِيهَا قَول سَالم، وَلم
يلْتَفت النَّاس فِيهَا إِلَى نَافِع، فَهَذَا أَحدهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قَامَ فِي الصَّلَاة) أَي:
إِذا شرع فِيهَا، وَهُوَ غير قَائِم إِلَيْهَا وقائم
لَهَا، وَلَا يخفى الْفرق بَين الثَّلَاث. قَوْله: (حِين
يكبر للرُّكُوع) أَي: عِنْد ابْتِدَاء الرُّكُوع، وَهُوَ
حَاصِل رِوَايَة مَالك بن الْحُوَيْرِث الْمَذْكُورَة فِي
الْبَاب حَيْثُ قَالَ: (وَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع رفع
يَدَيْهِ) . وَسَيَأْتِي فِي: بَاب التَّكْبِير إِذا قَامَ
من السُّجُود، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (ثمَّ يكبر حِين
يرْكَع) . قَوْله: (وَيفْعل ذَلِك إِذا رفع رَأسه من
الرُّكُوع) يَعْنِي: إِذا أَرَادَ أَن يرفع. قَوْله:
(وَلَا يفعل ذَلِك فِي السُّجُود) ، يَعْنِي لَا فِي
الْهَوِي إِلَيْهِ. وَلَا فِي الرّفْع، وَفِيه: اقْتصر على
التسميع وَلم يذكر التَّحْمِيد، وَالظَّاهِر أَن السقط من
الرَّاوِي. |