عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 11 - (كِتَابُ الجُمُعَةِ)
هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْجُمُعَة، وَقد ذكرنَا
فِيمَا مضى: أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع
الْفُصُول، وَهَذِه التَّرْجَمَة ثبتَتْ فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَلَكِن مِنْهُم من قدمهَا على
الْبَسْمَلَة، وَالْأَصْل تَقْدِيم الْبَسْمَلَة،
وَلَيْسَت هَذِه التَّرْجَمَة مَوْجُودَة فِي رِوَايَة
كَرِيمَة وَأبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ، وَهِي، بِضَم الْمِيم
على الْمَشْهُور، وَحكى الواحدي إسكان الْمِيم وَفتحهَا،
وقرىء بهَا فِي الشواذ، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ. وَقَالَ
الزّجاج: قرىء بِكَسْرِهَا أَيْضا وَقَالَ الْفراء: خففها
الْأَعْمَش وثقلها عَاصِم وَأهل الْحجاز، وَقَالَ
الْأَزْهَرِي: من ثقل اتبع الضمة الضمة، وَمن خفف فعلى
الأَصْل، والقراء قرءوها بالتثقيل. وَفِي (الموعب) لِابْنِ
التياني: من قَالَ بالتسكين قَالَ فِي جمعه جمع، وَمن
قَالَ بالتثقيل قَالَ فِي جمعه جمعات.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَسْمِيَة هَذَا الْيَوْم بِالْجمعَةِ،
فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
أَنه قَالَ: إِنَّمَا سمي يَوْم الْجُمُعَة لِأَن الله
تَعَالَى جمع فِيهِ خلق آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وروى ابْن خُزَيْمَة عَن سلمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (يَا سلمَان مَا تَدْرِي يَوْم
الْجُمُعَة؟ قلت: الله أعلم وَرَسُوله أعلم. قَالَ: بِهِ
جمع أَبوك أَو أبوكم) وَفِي (الأمالي) لثعلب: إِنَّمَا سمي
يَوْم الْجُمُعَة لِأَن قُريْشًا كَانَت تَجْتَمِع إِلَى
قصي فِي دَار الندوة. وَقيل: لِأَن كَعْب بن لؤَي كَانَ
يجمع فِيهِ قومه فيذكرهم وَيَأْمُرهُمْ بتعظيم الْحرم،
ويخبرهم بِأَنَّهُ سيبعث مِنْهُ نَبِي. وروى ذَلِك الزبير
فِي (كتاب النّسَب) عَن أبي سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن
مَقْطُوعًا. وَفِي كتاب (الدَّاودِيّ) : سمي يَوْم
الْجُمُعَة يَوْم الْقِيَامَة لِأَن الْقِيَامَة تقوم
فِيهِ النَّاس. وَقَالَ ابْن حزم: وَهُوَ اسْم إسلامي.
وَلم يكن فِي الْجَاهِلِيَّة، إِنَّمَا كَانَت تسمى فِي
الْجَاهِلِيَّة: الْعرُوبَة، فسميت فِي الْإِسْلَام:
الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ يجْتَمع فِيهِ للصَّلَاة، إسما
مأخوذا من الْجمع، وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: أخبرنَا
عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين
قَالَ: جمع أهل الْمَدِينَة قبل أَن يقدم رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَقبل أَن تنزل
الْجُمُعَة، وهم الَّذين سَموهَا: الْجُمُعَة. وَذَلِكَ
أَن الْأَنْصَار قَالُوا: للْيَهُود يَوْم يَجْتَمعُونَ
فِيهِ كل سَبْعَة أَيَّام، وَكَذَا لِلنَّصَارَى،
فَهَلُمَّ فلنجهل يَوْمًا نَجْتَمِع فِيهِ، وَنَذْكُر الله
وَنُصَلِّي ونشكره، فَاجْعَلُوهُ يَوْم الْعرُوبَة،
وَكَانُوا يسمون يَوْم الْجُمُعَة: يَوْم الْعرُوبَة،
فَاجْتمعُوا إِلَى أسعد فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ وَذكرهمْ
فسموا: الْجُمُعَة، حِين اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، وَذبح لَهُم
أسعد شَاة فتغدوا وتعشوا من شَاة، وَذَلِكَ لقلتهم،
فَأنْزل الله فِي ذَلِك بعد: {إِذا نُودي للصَّلَاة من
يَوْم الْجُمُعَة) (الْجُمُعَة: 9) . الْآيَة. انْتهى.
وَقَالَ الزّجاج وَالْفراء وَأَبُو عبيد وَأَبُو عَمْرو:
كَانَت الْعَرَب العاربة تَقول ليَوْم السبت: شبار، وليوم
الْأَحَد: أول، وليوم الِاثْنَيْنِ: أَهْون، وليوم
الثُّلَاثَاء: جَبَّار، وللأربعاء: دبار، وللخميس: مونس،
وليوم الْجُمُعَة: الْعرُوبَة، وَأول من نقل الْعرُوبَة
إِلَى يَوْم الْجُمُعَة: كَعْب بن لؤَي، ثمَّ لفظ
الْجُمُعَة بِسُكُون الْمِيم، بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي:
الْيَوْم الْمَجْمُوع فِيهِ، وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنى
الْفَاعِل، أَي: الْيَوْم الْجَامِع للنَّاس. قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ أنَّث الْجُمُعَة وَهُوَ
صفة الْيَوْم؟ قلت: لَيست التَّاء للتأنيث، بل
للْمُبَالَغَة كَمَا يُقَال: رجل عَلامَة، أَو: هِيَ صفة
للساعة.
1 - بابُ فَرْضِ الجُمُعَةِ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فرض الْجُمُعَة، وَاسْتدلَّ
على ذَلِك بقوله.
لِقَوْلِ الله تعالَى {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ
يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ الله وذَرُوا
البَيْعَ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ}
قد قُلْنَا إِنَّه اسْتدلَّ على فَرضِيَّة صَلَاة
الْجُمُعَة بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا
إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة:
9) . الْآيَة، وَوَقع ذكر الْآيَة عِنْد الْأَكْثَرين
إِلَى قَوْله: {وذروا البيع} (الْجُمُعَة: 9) . وَفِي
رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي ذَر، سَاق جَمِيع الْآيَة.
قَوْله: ( {إِذا نُودي للصَّلَاة} ) (الْجُمُعَة: 9) .
أَرَادَ بِهَذَا النداء الْأَذَان عِنْد قعُود الإِمَام
على الْمِنْبَر للخطبة، يدل على ذَلِك مَا روى الزُّهْرِيّ
عَن السَّائِب بن يزِيد: (كَانَ لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مُؤذن وَاحِد لم يكن لَهُ مُؤذن غَيره،
وَكَانَ إِذا جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
الْمِنْبَر أذن على الْمَسْجِد، فَإِذا نزل أَقَامَ
الصَّلَاة، ثمَّ كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، كَذَلِك وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَذَلِك
حَتَّى إِذا كَانَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَكثر النَّاس وَتَبَاعَدَتْ الْمنَازل زَاد أذانا، فَأمر
بِالتَّأْذِينِ الأول على دَار لَهُ بِالسوقِ، يُقَال
(6/161)
لَهُ: الزَّوْرَاء، فَكَانَ يُؤذن لَهُ
عَلَيْهَا، فَإِذا جلس عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، على الْمِنْبَر أذن مؤذنه الأول، فَإِذا نزل
أَقَامَ الصَّلَاة فَلم يعب ذَلِك عَلَيْهِ) . قَوْله: (من
يَوْم) ، بَيَان: لإذا، وَتَفْسِير لَهُ. وَقيل: من يَوْم
الْجُمُعَة أَي: فِي يَوْم الْجُمُعَة، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} (فاطر: 240
والأحقاف: 40) . أَي: فِي الأَرْض قَوْله: ( {إِلَى ذكر
الله} ) أَي: إِلَى الصَّلَاة، وَعَن سعيد بن الْمسيب:
فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله إِلَى موعظة الإِمَام، وَقيل
إِلَى ذكر الله، إِلَى الْخطْبَة وَالصَّلَاة. قَوْله:
(وذروا البيع) أَي: اتْرُكُوا البيع وَالشِّرَاء، لِأَن
البيع يتَنَاوَل الْمَعْنيين جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يحرم
البيع عِنْد الْأَذَان الثَّانِي، وَقَالَ الزُّهْرِيّ:
عِنْد خُرُوج الإِمَام. وَقَالَ الضَّحَّاك: إِذا زَالَت
الشَّمْس حرم البيع وَالشِّرَاء، وَقيل: أَرَادَ الْأَمر
بترك مَا يذهل عَن ذكر الله من شواغل الدُّنْيَا،
وَإِنَّمَا خص البيع من بَينهَا لِأَن يَوْم الْجُمُعَة
يَوْم يهْبط النَّاس فِيهِ من قراهم وبواديهم وينصبون
إِلَى الْمصر من كل أَوب، وَوقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص
الْأَسْوَاق بهم إِذا انْفَتح النَّهَار وَتَعَالَى
الضُّحَى، ودنا وَقت الظهيرة، وَحِينَئِذٍ تحر التِّجَارَة
ويتكاثر البيع وَالشِّرَاء، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْوَقْت
مَظَنَّة الذهول بِالْبيعِ عَن ذكر الله، والمضي إِلَى
الْمَسْجِد، قيل لَهُم: بَادرُوا تِجَارَة الْآخِرَة،
واتركوا تِجَارَة الدُّنْيَا، واسعوا إِلَى ذكر الله
الَّذِي لَا شَيْء أَنْفَع مِنْهُ وأربح، وذروا البيع
الَّذِي نَفعه يسير وَربحه مُتَقَارب. قَوْله: (ذَلِكُم)
الْكَاف فِيهِ حرف الْخطاب، كالتاء فِي: أَنْت، وَذَلِكَ
للدلالة على أَحْوَال المخاطبين وعددهم، فَإِذا أَشرت
إِلَى وَاحِد مُذَكّر وخاطبت مثله قلت: ذَلِك، وَإِذا
خاطبت اثْنَيْنِ قلت: ذلكما، وَإِذا خاطبت جمعا قلت:
ذَلِكُم، وَإِذا خاطبت إِنَاثًا قلت: ذلكن. قَوْله:
(فَاسْعَوْا فامضوا) ، هَذِه فِي رِوَايَة أبي ذَر
الْحَمَوِيّ وَحده، وَهُوَ تَفْسِير مِنْهُ للمراد بالسعي
هُنَا، بِخِلَاف قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (فَلَا تأتوها
تسعون) ، فَإِن المُرَاد بِهِ الجري وَفِي تَفْسِير
النَّسَفِيّ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} (الْجُمُعَة: 9)
. فامضوا إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا لَهُ، وَعَن ابْن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سَمِعت عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. يقْرَأ: فامضوا إِلَى ذكر الله، وَعنهُ:
مَا سَمِعت عمر يقْرؤهَا قطّ إِلَّا: فامضوا إِلَى ذكر
الله. وروى الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم: كَانَ عبد الله
يقْرؤهَا: فامضوا إِلَى ذكر الله، وَيَقُول: لَو قرأتها:
فَاسْعَوْا لسعيت حَتَّى يسْقط رِدَائي، وَهِي قِرَاءَة
أبي الْعَالِيَة، وَعَن الْحسن: لَيْسَ السَّعْي على
الْأَقْدَام وَلَقَد نهوا أَن يَأْتُوا الْمَسْجِد إلاّ
وَعَلَيْهِم السكينَة وَالْوَقار، وَلَكِن بالقلوب
وَالنِّيَّة والخشوع. وَعَن قَتَادَة: أَنه كَانَ يَقُول
فِي هَذِه الْآيَة: {فَاسْعَوْا} : أَن: تسْعَى بقلبك
وعملك، وَهِي الْمَشْي إِلَيْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي:
السَّعْي فِي هَذَا الْموضع هُوَ الْعَمَل، فَإِن الله
يَقُول: {إِن سعيكم لشتى} (اللَّيْل: 4) . وَقَالَ
تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاّ مَا سعى}
(النَّجْم: 39) . وَقَالَ تَعَالَى) {وَإِذا تولى سعى فِي
الأَرْض ليفسد فِيهَا} . (الْبَقَرَة: 205) [/ ح.
ثمَّ فَرضِيَّة الْجُمُعَة: باكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
وَنَوع من الْمَعْنى: أما الْكتاب: فالآية الْمَذْكُورَة،
وَالْمرَاد من الذّكر فِيهَا الْخطْبَة بِاتِّفَاق
الْمُفَسّرين، وَالْأَمر للْوُجُوب، فَإِذا فرض السَّعْي
إِلَى الْخطْبَة الَّتِي هِيَ شَرط جَوَاز الصَّلَاة
فَإلَى أصل الصَّلَاة كَانَ أوجب، ثمَّ أكد الْوُجُوب
بقوله: (وذروا البيع) فَحرم البيع بعد النداء، وَتَحْرِيم
الْمُبَاح لَا يكون إلاّ من أجل وَاجِب. . وَأما السّنة:
فَحَدِيث جَابر وَأبي سعيد قَالَا: (خَطَبنَا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) . الحَدِيث، وَفِيه:
(وَاعْلَمُوا أَن الله فرض عَلَيْكُم صَلَاة الْجُمُعَة.
.) الحَدِيث. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ. وروى أَبُو دَاوُد من
حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (الْجُمُعَة على من سمع
النداء) ، وَعَن حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (رواح الْجُمُعَة
وَاجِب على كل محتلم) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد
صَحِيح على شَرط مُسلم، قَالَه النَّوَوِيّ. وَأما
الْإِجْمَاع: فَإِن الْأمة قد أَجمعت من لدن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِلَى يَوْمنَا هَذَا على
فرضيتها من غير إِنْكَار، لَكِن اخْتلفُوا فِي أصل
الْفَرْض فِي هَذَا الْوَقْت، فَقَالَ الشَّافِعِي: فِي
الْجَدِيد، وَزفر وَمَالك وَأحمد وَمُحَمّد فِي رِوَايَة:
فرض الْوَقْت الْجُمُعَة، وَالظّهْر بدل عَنْهَا. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف الشَّافِعِي، فِي الْقَدِيم:
الْفَرْض هُوَ الظّهْر، وَإِنَّمَا أَمر غير الْمَعْذُور
بإسقاطه بأَدَاء الْجُمُعَة. وَقَالَ مُحَمَّد، فِي
رِوَايَة: فَرْضه أَحدهمَا غير عين، وَالتَّعْيِين
إِلَيْهِ. وَفَائِدَة الْخلاف تظهر فِي حر مُقيم أدّى
الظّهْر فِي أول وقته يجوز مُطلقًا، حَتَّى لَو خرج بعد
أَدَاء الظّهْر إِلَيْهَا أَو لم يخرج لم يبطل فَرْضه،
لَكِن عِنْد أبي حنيفَة يبطل بِمُجَرَّد السَّعْي مُطلقًا،
وَعِنْدَهُمَا: لَا يبطل إلاّ إِذا أدْرك، وَعند
الشَّافِعِي وَمن مَعَه: لَا يجوز ظَهره، سَوَاء أدْرك
الْجُمُعَة أَو لَا، خرج إِلَيْهَا أَولا. وَأما الْمَعْنى
فلأنا أمرنَا بترك الظّهْر لإِقَامَة الْجُمُعَة،
وَالظّهْر فَرِيضَة وَلَا يجوز ترك الْفَرْض إلاّ لفرض
هُوَ آكِد مِنْهُ، وَأولى، فَدلَّ على أَن الْجُمُعَة آكِد
من الظّهْر فِي الْفَرْضِيَّة، فَصَارَت الْجُمُعَة فرض
عين. وَقَالَ الْخطابِيّ أَكثر الْفُقَهَاء على أَنَّهَا
من فروض الْكِفَايَة. قَالَ: هَذَا غلط، وَحكى أَبُو
الطّيب عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: غلط من قَالَ
إِنَّهَا فرض كِفَايَة. قلت: ابْن كج يَقُول: إِنَّهَا فرض
كِفَايَة،
(6/162)
وَهُوَ غلط ذكره فِي (الْحِلْية) و (شرح
الْوَجِيز) وَفِي (الدِّرَايَة) : صَلَاة الْجُمُعَة
فَرِيضَة محكمَة جاحدها كَافِر بِالْإِجْمَاع.
1 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب قَالَ
حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز
الْأَعْرَج مولى ربيعَة بن الْحَارِث حَدثهُ أَنه سمع
أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول نَحن
الْآخرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة بيد أَنهم
أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا ثمَّ هَذَا يومهم الَّذِي فرض
الله عَلَيْهِم فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فهدانا الله لَهُ
فَالنَّاس لنا فِيهِ تبع الْيَهُود غَدا وَالنَّصَارَى بعد
غَد) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " هَذَا يومهم
الَّذِي فرض الله عَلَيْهِم " إِلَى آخِره. (ذكر رِجَاله)
وهم خَمْسَة. الأول أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
الثَّانِي شُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة. الثَّالِث أَبُو
الزِّنَاد بِكَسْر الزَّاي وبالنون عبد الله بن ذكْوَان.
الرَّابِع الْأَعْرَج. الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة. (ذكر
لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع والتحديث أَيْضا
بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه السماع فِي
موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن
رُوَاته مَا بَين حمصيين وهما أَبُو الْيَمَان وَشُعَيْب
ومدنيين وهما أَبُو الزِّنَاد والأعرج وَأخرجه مُسلم عَن
عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر فرقهما وَأخرجه
النَّسَائِيّ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن (ذكر مَعْنَاهُ
وَإِعْرَابه) قَوْله " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ "
فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد عِنْد
مُسلم " نَحن الْآخرُونَ وَنحن السَّابِقُونَ "
وَمَعْنَاهُ نَحن الْآخرُونَ زَمَانا وَالسَّابِقُونَ
يَعْنِي الْأَولونَ منزلَة وَيُقَال مَعْنَاهُ نَحن
الْآخرُونَ لأجل إيتَاء الْكتاب لَهُم قبلنَا وَنحن
السَّابِقُونَ لهداية الله تَعَالَى لنا لذَلِك وَيُقَال
نَحن الْآخرُونَ الَّذين جَاءُوا آخر الْأُمَم
وَالسَّابِقُونَ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة إِلَى الْموقف
وَالسَّابِقُونَ فِي دُخُول الْجنَّة ويوضح ذَلِك مَا
رَوَاهُ مُسلم عَن حُذَيْفَة قَالَ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أضلّ الله عَن الْجُمُعَة
من كَانَ قبلنَا فَكَانَ للْيَهُود يَوْم السبت وَكَانَ
لِلنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد فجَاء الله بِنَا فهدانا الله
تَعَالَى ليَوْم الْجُمُعَة فَجعل الْجُمُعَة والسبت
والأحد كَذَلِك هم تبع لنا يَوْم الْقِيَامَة نَحن
الْآخرُونَ من أهل الدُّنْيَا والأولون يَوْم الْقِيَامَة
المقضى لَهُم قبل الْخَلَائق " وَقيل المُرَاد بِالسَّبقِ
إِحْرَاز فَضِيلَة الْيَوْم السَّابِق بِالْفَضْلِ وَهُوَ
الْجُمُعَة وَقيل المُرَاد بِالسَّبقِ السَّبق إِلَى
الْقبُول وَالطَّاعَة الَّتِي حرمهَا أهل الْكتاب
فَقَالُوا سمعنَا وعصينا قَوْله " بيد " بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهُوَ مثل
غير وزنا وَمعنى وإعرابا وَيُقَال ميد بِالْمِيم وَهُوَ
اسْم ملازم للإضافة إِلَى أَن وصلتها وَله مَعْنيانِ
أَحدهمَا غير إِلَّا أَنه لَا يَقع مَرْفُوعا وَلَا مجرورا
بل مَنْصُوبًا وَلَا يَقع صفة وَلَا اسْتثِْنَاء مُتَّصِلا
وَإِنَّمَا يسْتَثْنى بِهِ فِي الِانْقِطَاع خَاصَّة
وَقَالَ ابْن هِشَام وَمِنْه الحَدِيث " نَحن الْآخرُونَ
السَّابِقُونَ بيد أَنهم أُوتُوا الْكتاب قبلنَا " وَفِي
مُسْند الشَّافِعِي بأيد أَنهم وَفِي مجمع الغرائب بعض
الْمُحدثين يرويهِ بأيدانا أوتينا أَي بِقُوَّة إِنَّا
أعطينا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَهُوَ غلط لَيْسَ لَهُ معنى
يعرف وَزعم الدَّاودِيّ أَنَّهَا بِمَعْنى على أَو مَعَ
قَالَ الْقُرْطُبِيّ إِن كَانَت بِمَعْنى غير فينصب على
الِاسْتِثْنَاء وَإِذا كَانَت بِمَعْنى مَعَ فينصب على
الظّرْف وروى ابْن أبي حَاتِم فِي مَنَاقِب الشَّافِعِي
عَن الرّبيع عَنهُ أَن معنى بيد من أجل وَكَذَا ذكره ابْن
حبَان وَالْبَغوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي
وَقَالَ عِيَاض هُوَ بعيد وَقَالَ بَعضهم وَلَا بعد فِيهِ
بل مَعْنَاهُ إِنَّا سبقنَا بِالْفَضْلِ إِذْ هدينَا
للْجُمُعَة مَعَ تأخرنا فِي الزَّمَان بِسَبَب أَنهم ضلوا
عَنْهَا مَعَ تقدمهم انْتهى (قلت) استبعاد عِيَاض موجه
وَنفى هَذَا الْقَائِل الْبعد بعيد لفساد الْمَعْنى لِأَن
بيد إِذا كَانَ بِمَعْنى من أجل يكون الْمَعْنى نَحن
السَّابِقُونَ لأجل أَنهم أَتَوا الْكتاب وَهَذَا ظَاهر
الْفساد على مَا لَا يخفى ثمَّ أكد هَذَا الْقَائِل
كَلَامه بقوله وَيشْهد لَهُ مَا وَقع فِي فَوَائِد ابْن
الْمقري فِي طرق أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ "
نَحن الْآخرُونَ فِي الدُّنْيَا وَنحن أول من يدْخل
الْجنَّة لأَنهم أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا " (قلت) هَذَا
لَا يصلح أَن يكون شَاهدا لما ادَّعَاهُ لِأَن قَوْله
لأَنهم أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا تَعْلِيل لقَوْله نَحن
الْآخرُونَ فِي الدُّنْيَا قَوْله " أُوتُوا الْكتاب " أَي
أَعْطوهُ
(6/163)
وَالْمرَاد من الْكتب التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل فَتكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد
وَقَالَ بَعضهم اللَّام للْجِنْس وَهُوَ غير صَحِيح قَوْله
" ثمَّ هَذَا " إِشَارَة إِلَى يَوْم الْجُمُعَة قَوْله "
الَّذِي فرض الله عَلَيْهِم " هُوَ هَكَذَا فِي رِوَايَة
الْحَمَوِيّ وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين الَّذِي فرض
عَلَيْهِم وَقَالَ ابْن بطال لَيْسَ المُرَاد أَن يَوْم
الْجُمُعَة فرض عَلَيْهِم بِعَيْنِه فَتَرَكُوهُ لِأَنَّهُ
لَا يجوز لأحد أَن يتْرك مَا فرض الله عَلَيْهِ وَهُوَ
مُؤمن وَإِنَّمَا يدل وَالله أعلم أَنه فرض عَلَيْهِم
يَوْم الْجُمُعَة ووكل إِلَى اختيارهم ليقيموا فِيهِ
شريعتهم فَاخْتَلَفُوا فِي أَي الْأَيَّام هُوَ وَلم
يهتدوا ليَوْم الْجُمُعَة وجنح القَاضِي عِيَاض إِلَى
هَذَا ورشحه بقوله لَو كَانَ فرض عَلَيْهِم بِعَيْنِه لقيل
فخالفوا بدل فَاخْتَلَفُوا وَقَالَ النَّوَوِيّ يُمكن أَن
يَكُونُوا أمروا بِهِ صَرِيحًا فَاخْتَلَفُوا هَل يلْزم
تَعْيِينه أم يسوغ إِبْدَاله بِيَوْم آخر فاجتهدوا فِي
ذَلِك فأخطأوا وَقَالَ بَعضهم وَيشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله
{إِنَّمَا جعل السبت على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ} قَالَ
أَرَادوا الْجُمُعَة فأخطأوا وَأخذُوا السبت مَكَانَهُ
(قلت) كَيفَ يشْهد لَهُ هَذَا وهم أخذُوا السبت لِأَنَّهُ
جعل عَلَيْهِم وَإِن كَانَ أَخذهم بعد اخْتلَافهمْ فِيهِ
فخطئوهم فِي إرادتهم الْجُمُعَة وَمَعَ هَذَا استقروا على
السبت الَّذِي جعل عَلَيْهِم وَقيل يحْتَمل أَن يكون فرض
عَلَيْهِم يَوْم الْجُمُعَة بِعَيْنِه فَأَبَوا وَيدل
عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أَسْبَاط
بن نصر عَن السّديّ التَّصْرِيح بذلك وَلَفظه " إِن الله
فرض على الْيَهُود الْجُمُعَة فَأَبَوا وَقَالُوا يَا
مُوسَى إِن الله لم يخلق يَوْم السبت شَيْئا فاجعله لنا
فَجعله عَلَيْهِم " وَلم يكن هَذَا بِبَعِيد مِنْهُم
لأَنهم هم الْقَائِلُونَ سمعنَا وعصينا قَوْله " فهدانا
الله لَهُ " يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون الله قد
نَص لنا عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَن تكون الْهِدَايَة
إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين
وَقد ذَكرْنَاهُ فِي كتاب الْجُمُعَة فَإِن فِيهِ أَن أهل
الْمَدِينَة قد جمعُوا قبل أَن يقدمهَا رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) هَذَا
مُرْسل (قلت) وَله شَاهد بِإِسْنَاد حسن أخرجه أَحْمد
وَأَبُو دَاوُد وَابْن ماجة من حَدِيث كَعْب بن مَالك
قَالَ " كَانَ أول من صلى بِنَا الْجُمُعَة قبل مقدم
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْمَدِينَة أسعد بن زُرَارَة " قَوْله " تبع " بِفَتْح
التَّاء الْمُثَنَّاة وَالْبَاء الْمُوَحدَة جمع تَابع
كالخدم جمع خَادِم قَوْله " الْيَهُود غَدا " فِيهِ حذف
تَقْدِيره يعظم الْيَهُود غَدا أَو الْيَهُود يعظمون غَدا
فعلى الأول ارْتِفَاع الْيَهُود بالفاعلية وعَلى الثَّانِي
بِالِابْتِدَاءِ وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير لِأَن ظرف
الزَّمَان لَا يكون خَبرا عَن الجثة فَحِينَئِذٍ انتصاب
غَدا على الظَّرْفِيَّة وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله "
وَالنَّصَارَى بعد غَد " وَالْمرَاد من قَوْله " غَدا
السبت " وَمن قَوْله " بعد غَد " الْأَحَد وَإِنَّمَا
اخْتَار الْيَهُود السبت لأَنهم زَعَمُوا أَنه يَوْم قد
فرغ الله مِنْهُ عَن خلق الْخلق فَقَالُوا نَحن نستريح
فِيهِ عَن الْعَمَل ونشتغل فِيهِ بِالْعبَادَة وَالشُّكْر
لله تَعَالَى وَاخْتَارَ النَّصَارَى يَوْم الْأَحَد
لأَنهم قَالُوا أول يَوْم بَدَأَ الله فِيهِ بِخلق الخليقة
فَهُوَ أولى بالتعظيم فهدانا الله لليوم الَّذِي فَرْضه
وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِي
دَلِيل على فَرضِيَّة الْجُمُعَة وَهُوَ قَوْله " فرض الله
عَلَيْهِم فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فهدانا الله لَهُ " لِأَن
التَّقْدِير فرض الله عَلَيْهِم وعلينا فضلوا وهدينا
وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ "
كتب علينا " وَفِيه أَن الْهِدَايَة والإضلال من الله
تَعَالَى كَمَا هُوَ قَول أهل السّنة وَفِيه أَن سَلامَة
الْإِجْمَاع من الْخَطَأ مَخْصُوص بِهَذِهِ الْأمة وَفِيه
دَلِيل قوي على زِيَادَة فضل هَذِه الْأمة على الْأُمَم
السالفة وَفِيه سُقُوط الْقيَاس مَعَ وجود النَّص وَذَلِكَ
أَن كلا مِنْهُمَا قَالَ بِالْقِيَاسِ مَعَ وجود النَّص
على قَول التَّعْيِين فضلا وَفِيه التَّفْوِيض وَترك
الِاخْتِيَار لِأَنَّهُمَا اختارا فضلا وَنحن علقنا
الِاخْتِيَار على من هُوَ بِيَدِهِ فهدى وَكفى -
2 - (بابُ فَضْل الغُسْلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهَلْ عَلَى
الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوْ عَلى
النِّسَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة،
ولهذه التَّرْجَمَة ثَلَاثَة أَجزَاء: الأول: فضل الْغسْل
يَوْم الْجُمُعَة. الثَّانِي: هَل على الصَّبِي شُهُود
يَوْم الْجُمُعَة؟ أَي: حُضُوره. الثَّالِث: على النِّسَاء
شُهُود يَوْم الْجُمُعَة؟ ثمَّ إِنَّه اقْتصر على ذكر حكم
الْجُزْء الأول، وَهُوَ: الْفضل، لِأَن مَعْنَاهُ
التَّرْغِيب فِيهِ، والأدلة متفقة فِيهِ، وَلم يجْزم
بالحكم فِي الجزأين الْأَخيرينِ بل ذكره بالاستفهام. أما
فِي حق الصَّبِي فللإحتمال فِي دُخُولهمْ فِي عُمُوم
قَوْله: (إِذا جَاءَ أحدكُم) ، وَلكنه خرج بقوله: (على كل
محتلم) ، وَأما فِي حق النِّسَاء فلاحتمال دخولهن فِي
الْعُمُوم الْمَذْكُور بطرِيق التّبعِيَّة، وَلَكِن عُمُوم
النَّهْي فِي مَنعهنَّ من حُضُور الْمَسَاجِد إلاّ
بِاللَّيْلِ يخرج حضورهن الْجُمُعَة، وَاعْترض أَبُو عبد
الْملك على البُخَارِيّ فِي الجزأين الْأَخيرينِ من
التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ ترْجم بهما ثمَّ أورد: (إِذا
(6/164)
جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل) ،
وَلَيْسَ فِيهِ ذكر شُهُود وَلَا غَيره. وَأجَاب ابْن
التِّين عَنهُ: بِأَنَّهُ أَرَادَ سُقُوط الْوَاجِب
عَنْهُم، لِأَنَّهُ قَالَ: وَهل عَلَيْهِم؟ فأبان
بِحَدِيث: (غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم) ،
أَنَّهَا غير وَاجِبَة على الصّبيان، وَلم يجب عَن سُقُوط
الْوَاجِب عَن النِّسَاء، وَيُجَاب عَن هَذَا بِمَا
ذكرنَا.
877 - وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نافَعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ إذَا جاءَ أحَدُكُمْ الجُمُعَةَ
فَلْيَغْتَسِلْ.
مطابقته للجزأين الْأَخيرينِ من التَّرْجَمَة تفهم من
الْجَواب عَن اعْتِرَاض أبي عبد الْملك.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم على هَذَا النسق.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم وَغَيره. وَلَفظ مُسلم:
(إِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يَأْتِي الْجُمُعَة فليغتسل) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: (من جَاءَ مِنْكُم الْجُمُعَة
فليغتسل) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَلَفظه: (من أَتَى
الْجُمُعَة فليغتسل) . وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة
عَن مَالك نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ سندا ومتنا، وَفِي
لفظ مثل رِوَايَة مُسلم الثَّانِيَة، وَفِي لفظ نَحْو لفظ
البُخَارِيّ، وَفِي لفظ: (إِذا أَتَى أحدكُم الْجُمُعَة
فليغتسل) . وَأخرجه ابْن مَاجَه وَلَفظه: عَن ابْن عمر،
قَالَ: (سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
على الْمِنْبَر: من أَتَى الْجُمُعَة فليغتسل) . وَفِي
رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي (صَحِيحه) وَأبي عوَانَة فِي
(مستخرجه) : (من أَتَى الْجُمُعَة من الرِّجَال
وَالنِّسَاء فليغتسل) . وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة
بِزِيَادَة: (وَمن لم يأتها فَلَيْسَ عَلَيْهِ غسل من
الرِّجَال وَالنِّسَاء) . وَأخرجه الْبَزَّار من حَدِيث
عَائِشَة، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(من أَتَى الْجُمُعَة فليغتسل) . وروى الْبَزَّار أَيْضا
من حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أَتَى الْجُمُعَة
فليغتسل) ، وروى ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث ابْن
عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن هَذَا يَوْم عيد جعله الله للنَّاس، فَمن
جَاءَ إِلَى الْجُمُعَة فليغتسل) . وروى الطَّبَرَانِيّ من
حَدِيث أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من جَاءَ مِنْكُم
الْجُمُعَة فليغتسل) . الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة) ،
ظَاهره أَن يكون الْغسْل عقيب الْمَجِيء، لِأَن الْفَاء
للتعقيب، وَلَكِن لَيْسَ ذَلِك المُرَاد، وَإِنَّمَا
الْمَعْنى: إِذا أَرَادَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل، وَقد
جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع،
وَلَفظه: (إِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يَأْتِي الْجُمُعَة
فليغتسل) ، وَنَظِير ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا
قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} (النَّحْل: 98) .
تَقْدِيره: إِذا أردْت أَن تقْرَأ الْقُرْآن فاستعذ،
والظاهرية قَالُوا بِظَاهِرِهِ فِي الْقِرَاءَة، وَهَهُنَا
لم يَقُولُوا بِهِ لظَاهِر رِوَايَة اللَّيْث
الْمَذْكُورَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (إِذا جَاءَ أحدكُم)
علم مِنْهُ أَن الْغسْل إِنَّمَا هُوَ للمجموع، وَهَذَا
عَام للصَّبِيّ وللنساء أَيْضا. فَإِن قلت: من أَيْن
يُسْتَفَاد الْعُمُوم؟ قلت: من لفظ: الْأَحَد، الْمُضَاف.
فَإِن قلت: مَا وَجه دلَالَته على شهودهما، وَهَذِه
شَرْطِيَّة، فَلَا يدل على وُقُوع الْمَجِيء؟ قلت:
لَفْظَة: إِذا، لَا تدخل إِلَّا فِيمَا كَانَ وُقُوعه
مَجْزُومًا بِهِ. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه
بِنَاء على أَنه فهم من الِاسْتِفْهَام فِي التَّرْجَمَة
الْجَزْم بالحكم، وَلَيْسَ كَذَلِك على مَا قَرَّرْنَاهُ.
قَوْله: (إِذا جَاءَ) المُرَاد: بالمجيء هُوَ: أَن يحضر
إِلَى الصَّلَاة أول إِلَى الْمَكَان الَّذِي تُقَام فِيهِ
الْجُمُعَة، وَذكر الْمَجِيء بِاعْتِبَار الْغَالِب وإلاّ
فَالْحكم شَامِل لمن كَانَ مجاورا للجامع أَو مُقيما بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احتجت بِهِ الظَّاهِرَة على
أَن أول الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن
الْأَمر بِالْغسْلِ ورد على سَبَب وَقد زَالَ السَّبَب،
فَزَالَ الحكم بِزَوَال علته، لما رَوَاهُ البُخَارِيّ من
حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت:
(كَانَ النَّاس مهنة أنفسهم، وَكَانُوا إِذا راحوا إِلَى
الْجُمُعَة راحوا فِي مهنتهم، فَقيل لَهُم: لَو اغتسلتم.
.) وَسَيَأْتِي هَذَا فِي: بَاب وَقت الْجُمُعَة إِذا
زَالَت الشَّمْس، وَبَعض أَصْحَابنَا قَالُوا: إِن
الحَدِيث الْمَذْكُور مَنْسُوخ بقوله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت، وَمن
اغْتسل فَهُوَ أفضل) . وَاعْترض بِأَنَّهُ ضَعِيف، فَكيف
يحكم أَن الصَّحِيح مَنْسُوخ بِهِ؟ قلت: هَذَا الحَدِيث
رُوِيَ من سَبْعَة أنفس من الصَّحَابَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، وهم: سَمُرَة بن جُنْدُب أخرجه أَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن قَتَادَة عَن
الْحسن عَن سَمُرَة، فَذكره. وَأنس عِنْد ابْن مَاجَه
والطَّحَاوِي وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ، وَأَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ عِنْد الْبَيْهَقِيّ وَالْبَزَّار، وَأَبُو
هُرَيْرَة عِنْد الْبَزَّار، وَابْن عدي، وَجَابِر عِنْد
ابْن عدي فِي (الْكَامِل) ، وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة
عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَابْن عَبَّاس عِنْد الْبَيْهَقِيّ
فِي (سنَنه) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن.
وَاخْتلف فِي سَماع الْحسن عَن سَمُرَة، فَعَن ابْن
الْمَدِينِيّ إِمَام هَذَا الْفَنّ: أَنه سمع مِنْهُ
مُطلقًا،. وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه الْمُعْتَرض
فالأحاديث الضعيفة إِذا ضم بَعْضهَا إِلَى بعض أخذت قُوَّة
فِيمَا اجْتمعت فِيهِ من الحكم، كَذَا
(6/165)
قَالَه الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَقَالَ
الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابنَا: إِن حَدِيث الْكتاب خبر
الْوَاحِد فَلَا يُخَالف الْكتاب لِأَنَّهُ يُوجب غسل
الْأَعْضَاء الثَّلَاثَة وَمسح الرَّأْس عِنْد الْقيام
إِلَى الصَّلَاة مَعَ وجود الْحَدث، فَلَو وَجب الْغسْل
لَكَانَ زِيَادَة على الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، وَهَذَا
لَا يجوز لِأَنَّهُ يصير كالنسخ. فَافْهَم قلت: إِذا
حملنَا الْأَمر فِيهِ على الِاسْتِحْبَاب تَوْفِيقًا بَين
الْحَدِيثين لَا يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى شَيْء آخر.
وَقَالَ الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَمِمَّا
يدل على أَن أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالْغسْلِ يَوْم الْجُمُعَة فَضِيلَة على الِاخْتِيَار
لَا على الْوُجُوب، حَدِيث عمر حَيْثُ قَالَ لعُثْمَان:
وَالْوُضُوء أَيْضا؟ وَقد علمت أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْغسْلِ يَوْم الْجُمُعَة؟ فَلَو
علما أَن أمره على الْوُجُوب لم يتْرك عمر عُثْمَان حَتَّى
يردهُ وَيَقُول لَهُ: إرجع فاغتسل. وَقَالَ ابْن دَقِيق:
فِي الحَدِيث دَلِيل على تَعْلِيق الْأَمر بِالْغسْلِ
بالمجيء إِلَى الْجُمُعَة، وَاسْتدلَّ بِهِ لمَالِك فِي
أَنه يعْتَبر أَن يكون الْغسْل مُتَّصِلا بالذهاب،
وَوَافَقَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالْجُمْهُور،
قَالُوا: يجزىء من بعد الْفجْر. انْتهى. قلت: قَالَ صَاحب
(الْهِدَايَة) : ثمَّ هَذَا الْغسْل، أَي غسل يَوْم
الْجُمُعَة، للصَّلَاة عِنْد أبي يُوسُف، يَعْنِي: لَا يصل
لَهُ الثَّوَاب إلاّ إِذا صلى صَلَاة الْجُمُعَة بِهَذَا
الْغسْل، حَتَّى لَو اغْتسل بعد الْجُمُعَة أَو أول
الْيَوْم وانتقض ثمَّ تَوَضَّأ وَصلى لَا يكون مدْركا
كالثواب وَالْغسْل، وَهُوَ الصَّحِيح، وَاحْترز بِهِ عَن
قَول الْحسن بن زِيَاد، فَإِنَّهُ قَالَ: لليوم إِظْهَارًا
لفضيلته، وَبِقَوْلِهِ قَالَ دَاوُد، وَفِي (الْمَبْسُوط)
: وَهُوَ قَول مُحَمَّد، وَفِي (الْمُحِيط) : وَهُوَ
رِوَايَة عَن أبي يُوسُف، فعلى هَذَا عَن أبي يُوسُف، فعلى
هَذَا عَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ، وَقيل: تظهر
الْفَائِدَة أَيْضا فِي هَذَا الْخلاف فِيمَن اغْتسل بعد
الصَّلَاة قبل الْغُرُوب، إِن كَانَ مُسَافِرًا، أَو عبدا
أَو امْرَأَة، أَو مِمَّن لَا يجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة،
وَهَذَا بعيد، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ إِزَالَة
الرَّائِحَة الكريهة كَيْلا يتَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بهَا،
وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى بعْدهَا، وَلَو اتّفق يَوْم
الْجُمُعَة وَيَوْم الْعِيد أَو يَوْم عَرَفَة وجامع ثمَّ
اغْتسل يَنُوب عَن الْكل، وَفِي صَلَاة الجلابي: لَو
اغْتسل يَوْم الْخَمِيس أَو لَيْلَة الْجُمُعَة اسْتنَّ
بِالسنةِ لحُصُول الْمَقْصُود، وَهُوَ قطع الرَّائِحَة
الكريهة.
878 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ
قَالَ أخبرنَا جُوَيْرِيَةُ عنْ مالِكٍ عنِ الزُّهْرِيِّ
عنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عنِ ابنِ عُمَرَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ
بَيْنَمَا هُوَ قائِمٌ فِي الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمْعَةِ
إذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ
أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَاداهُ
عُمَرُ أيَّةَ سَاعَةٍ هاذِهِ قَالَ إنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ
أنْقَلِبَ إلَى أهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأذِينَ فَلَمْ
أزِدْ أنْ تَوَضَّأتُ فَقَالَ والوضُوءُ أَيْضا وقَدْ
عَلِمْتَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ
يأمُرُ بالغُسْلِ (الحَدِيث 878 طرفه فِي: 882) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (وَالْوُضُوء
أَيْضا) لِأَن مَعْنَاهُ: تركت فَضِيلَة الْغسْل واقتصرت
على الْوضُوء أَيْضا.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن
أَسمَاء، بِفَتْح الْهمزَة وبالمد: الضبعِي، بِضَم الضَّاد
الْمُعْجَمَة وفتخ الْبَاء الْمُوَحدَة: الْبَصْرِيّ ابْن
أخي جوَيْرِية بن أَسمَاء، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جوَيْرِية بن أَسمَاء بن عبيد
الضبعِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو أَربع
وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: مَالك بن أنس. الرَّابِع:
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم
بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. السَّادِس: أَبوهُ عبد
الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن ابْن أَخِيه. وَفِيه: رِوَايَة
الإبن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن الْإِثْنَيْنِ الْأَوَّلين
من الروَاة والبقية مدنيون.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة: عَن مُحَمَّد بن
أبان حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ (ح)
، وَحدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن أخبرنَا عبد الله
بن صَالح حَدثنِي اللَّيْث عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ
بِهَذَا الحَدِيث، وروى مَالك هَذَا الحَدِيث عَن سَالم
قَالَ: (بَيْنَمَا عمر يخْطب يَوْم الْجُمُعَة) ، فَذكر
الحَدِيث. قَالَ أَبُو عِيسَى: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن
هَذَا فَقَالَ: الصَّحِيح حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم
عَن أَبِيه، قَالَ مُحَمَّد: وَقد رُوِيَ عَن مَالك أَيْضا
عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه نَحْو هَذَا
الحَدِيث. انْتهى. قلت: البُخَارِيّ أورد الحَدِيث
الْمَذْكُور من رِوَايَة جوَيْرِية بن أَسمَاء عَن مَالك،
وَهُوَ عِنْد رُوَاة (الْمُوَطَّأ) : عَن مَالك لَيْسَ
فِيهِ ذكر ابْن عمر، وَحكى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن
الْبَغَوِيّ، بعد أَن أخرجه من طَرِيق روح بن عبَادَة عَن
مَالك، أَنه لم يذكر فِي هَذَا الحَدِيث أحد
(6/166)
عَن مَالك عبد الله بن عمر غير روح بن
عبَادَة وَجُوَيْرِية، وَقد تابعهما أَيْضا عبد الرَّحْمَن
بن مهْدي، أخرجه أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ بِذكر: ابْن عمر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَينا) أَصله: بَين، فأشبعت
فَتْحة النُّون فَصَارَ: بَينا، وَرُبمَا يدخلهَا: مَا،
فَيُقَال: بَيْنَمَا، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة،
ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، ويحتاجان
إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَجَوَاب: بَينا، هُنَا
قَوْله: (إِذا دخل رجل) ، والأفصح أَن يكون فِيهِ: إِذْ
وَإِذا، وَفِي رِوَايَة يُونُس هَهُنَا: بَيْنَمَا،
بِالْمِيم، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والأصيلي
وكريمة: (إِذْ دخل رجل) ، وَفِي رِوَايَة غَيرهم: (إِذْ
جَاءَ رجل) ، وَالرجل هُوَ: عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد سَمَّاهُ بِهِ ابْن وهب وَابْن
الْقَاسِم فِي روايتهما عَن مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) ،
وَكَذَلِكَ سَمَّاهُ معمر فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ،
وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن وهب عَن أُسَامَة ابْن زيد
عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم فِيهِ خلافًا غير ذَلِك.
قَوْله: (من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين) قَالَ الشّعبِيّ:
هم من أدْرك بيعَة الرضْوَان، وَسَأَلَ قَتَادَة عَن سعيد
بن الْمسيب فَقَالَ: هم من صلى إِلَى الْقبْلَتَيْنِ.
قَالَ فِي (الْكَشَّاف) : هم الَّذين شهدُوا بَدْرًا.
قَوْله: (فناداه عمر) ، أَي: قَالَ لَهُ: يَا فلَان.
قَوْله: (أَيَّة سَاعَة هَذِه) أَيَّة، بتَشْديد الْيَاء
آخر الْحُرُوف، وَهِي كلمة يستفهم بهَا، وأنث: أَيَّة،
لأجل: سَاعَة. فَإِن قلت: قد ذكرت فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت} (لُقْمَان: 34) .
قلت: الْأَمْرَانِ جائزان، يُقَال: أَي امْرَأَة جاءتك،
وأية امْرَأَة جاءتك. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قرىء: بأية
أَرض تَمُوت، وَشبه سِيبَوَيْهٍ تَأْنِيث: أَ، بتأنيث: كل،
فِي قَوْلهم: كُلهنَّ، والساعة اسْم لجزء من الزَّمَان
مَخْصُوص، وَيُطلق على جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين جُزْءا
هِيَ مَجْمُوع الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَيُطلق أَيْضا على
جُزْء مَا غير مُقَدّر من الزَّمَان، وَلَا يتَحَقَّق.
وعَلى الْوَقْت الْحَاضِر والهندسي بقسم الْيَوْم على
اثْنَي عشر قسما، وَكَذَا اللَّيْلَة طالا أم قصرا،
فيسمونه: سَاعَة. فَإِن قلت: مَا هَذَا الِاسْتِفْهَام؟
قلت: اسْتِفْهَام توبيخ وإنكار، فَكَأَنَّهُ يَقُول: لم
تَأَخَّرت إِلَى هَذِه السَّاعَة؟ وَقد ورد التَّصْرِيح
بالإنكار فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ عمر: (لم
تحتبسون عَن الصَّلَاة؟) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَعرض
بِهِ عمر، فَقَالَ: مَا بَال رجال يتأخرون بعد النداء؟)
فَإِن قلت: هَل صدر هَذَا كُله عَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ؟ قلت: الظَّاهِر ذَلِك، وَلَكِن حفظ بعض
الروَاة مَا لم يحفظ الآخر. فَإِن قلت: مَا كَانَ مُرَاد
عمر من هَذِه الْمقَالة؟ قلت: التَّنْبِيه إِلَى سَاعَات
التبكير الَّتِي وَقع فِيهَا التَّرْغِيب، لِأَنَّهَا إِذا
انْقَضتْ طوت الْمَلَائِكَة الصُّحُف، كَمَا ورد فِي
الحَدِيث. فَإِن قلت: هَل فهم عُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، هَذَا من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟
قلت: نعم، فَلذَلِك بَادر إِلَى الِاعْتِذَار عَن
التَّأْخِير بقوله: (إِنِّي شغلت) إِلَى آخِره، وَهُوَ على
صِيغَة الْمَجْهُول، وَقد بَين شغله فِي رِوَايَة عبد
الرَّحْمَن بن مهْدي حَيْثُ قَالَ: انقلبت من السُّوق
فَسمِعت النداء، وَالْمرَاد بِهِ الْأَذَان بَين يَدي
الْخَطِيب. قَوْله: (فَلم أنقلب إِلَى أَهلِي) الانقلاب:
الرُّجُوع من حَيْثُ جَاءَ، وَهُوَ انفعال من: قلبت
الشَّيْء إِذا كببته أوردته. قَوْله: (حَتَّى سَمِعت
التأذين) ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (النداء) ، وَهُوَ
بِكَسْر النُّون أشهر من ضمهَا. قَوْله: (فَلم أَزْد أَن
تَوَضَّأت) كلمة: أَن، هَذِه صلَة زيدت لتأكيد النَّفْي.
قَوْله: (وَالْوُضُوء أَيْضا؟) جَاءَت الرِّوَايَة فِيهِ
بِالْوَاو وحذفها، وبنصب الْوضُوء ورفعهما. أما وَجه وجود
الْوَاو فَهُوَ أَن يكون للْعَطْف على الْإِنْكَار الأول،
وَهُوَ قَوْله: (أَيَّة سَاعَة هَذِه؟) لِأَن معنى
الْإِنْكَار: ألم يكفك أَن أخرت الْوَقْت وفوت فَضِيلَة
السَّبق حَتَّى اتبعته بترك الْغسْل والقناعة بِالْوضُوءِ؟
فَتكون هَذِه الْجُمْلَة المبسوطة مدلولاً عَلَيْهَا
بِتِلْكَ اللَّفْظَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْوَاو، عوض
من همزَة الِاسْتِفْهَام، كَمَا قَرَأَ ابْن كثير: {قَالَ
فِرْعَوْن وآمنتم بِهِ} (الْأَعْرَاف: 123) . وَأما وَجه
حذف الْوَاو فَظَاهر، وَلَكِن يكون لفظ الْوضُوء
بِالرَّفْع وَالنّصب. أما وَجه الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ
قد حذف خَبره، تَقْدِيره: الْوضُوء أَيْضا يقْتَصر
عَلَيْهِ؟ وَيجوز أَن يكون خَبرا مَحْذُوف الْمُبْتَدَأ
تَقْدِيره: كفايتك الْوضُوء أَيْضا؟ وَأما وَجه النصب
فَهُوَ على إِضْمَار فعل التَّقْدِير: أتتوضأ الْوضُوء
فَقَط؟ يَعْنِي: اقتصرت على الْوضُوء وَحده؟ قَوْله:
(أَيْضا) مَنْصُوب على أَنه مصدر من: آض يئيض، أَي: عَاد
وَرجع. قَالَ ابْن السّكيت: تَقول فعلته أَيْضا إِذا كنت
قد فعلته بعد شَيْء آخر، كَأَنَّك أفدت بذكرهما الْجمع
بَين الْأَمريْنِ أَو الْأُمُور. قَوْله: (وَقد علمت)
جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنَّك قد علمت أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر بِالْغسْلِ لمن
يُرِيد الْمَجِيء إِلَى الْجُمُعَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْقيام للخطبة وَأَنه
من سننها وَأَنه على الْمِنْبَر. وَفِيه: تفقد الإِمَام
رَعيته وَأمره لَهُم بمصالح دينهم وإنكاره على من أخل
بِالْفَضْلِ. وَفِيه: مُوَاجهَة الإِمَام بالإنكار للتكبير
ليرتدع من هُوَ دونه بذلك. وَفِيه: أَن الْأَمر
(6/167)
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر
فِي أثْنَاء الْخطْبَة لَا يُفْسِدهَا. وَفِيه:
الِاعْتِذَار إِلَى وُلَاة الْأُمُور. وَفِيه: إِبَاحَة
الشّغل وَالتَّصَرُّف يَوْم الْجُمُعَة قبل النداء، وَلَو
أفْضى ذَلِك إِلَى ترك فَضِيلَة البكور إِلَى الْجُمُعَة،
لِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يَأْمر بِرَفْع
السُّوق بعد هَذِه الْقِصَّة، وَاسْتدلَّ بِهِ مَالك على
أَن السُّوق لَا يمْنَع يَوْم الْجُمُعَة قبل النداء
لكَونهَا كَانَت فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَلكَون الذَّاهِب إِلَيْهَا مثل عُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَقد قُلْنَا: إِن وجوب السَّعْي
وَحُرْمَة البيع وَالشِّرَاء بِالْأَذَانِ الَّذِي يُؤذن
بَين يَدي الْمِنْبَر، لِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل، وَبِه
قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأكْثر فُقَهَاء الْأَمْصَار.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي حُرْمَة البيع فِي ذَلِك
الْوَقْت، فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأَصْحَابه
وَالشَّافِعِيّ: يجوز البيع مَعَ الْكَرَاهَة، وَعند مَالك
وَأحمد والظاهرية: البيع بَاطِل، وَقد عرف فِي الْفُرُوع.
وَفِيه: جَوَاز شُهُود الْفُضَلَاء السُّوق ومعاناة
التَّجر. وَفِيه: أَن فَضِيلَة التَّوَجُّه إِلَى
الْجُمُعَة إِنَّمَا تحصل قبل التأذين، وَقد اسْتدلَّ
بَعضهم بقوله: كَانَ يَأْمر بِالْغسْلِ، إِن الْغسْل يَوْم
الْجُمُعَة وَاجِب، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيف
لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لرجع عُثْمَان حِين كَلمه
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَو لرده عمر حِين لم
يرجع، فَلَمَّا لم يرجع وَلم يُؤمر بِالرُّجُوعِ، ويحضرهما
الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار، دلّ على أَنه لَيْسَ
بِوَاجِب. وَهَذِه قرينَة على أَن المُرَاد من قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الَّذِي فِيهِ: فليغتسل،
لَيْسَ أَمر الْإِيجَاب، بل هُوَ للنَّدْب، وَكَذَا
المُرَاد من قَوْله: وَاجِب، أَنه كالواجب، جمعا بَين
الْأَدِلَّة.
879 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بنِ
يَسَار عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ واجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.
.
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه
يدل على أَن قَوْله: (على كل محتلم) يخرج الصَّبِي
والْحَدِيث بِعَيْنِه أخرجه فِي: بَاب وضوء الصّبيان
وَمَتى يجب عَلَيْهِم، وَلَكِن أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ
بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن صَفْوَان بن سليم عَن عَطاء
ابْن يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَهَهُنَا أخرجه: عَن عبد الله بن يُوسُف التنيسِي
عَن مَالك. . إِلَى آخِره، وَلم تخْتَلف رُوَاة
(الْمُوَطَّأ) على مَالك فِي إِسْنَاده.
وَرِجَاله مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن
تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ. وَقد ذكرنَا بَقِيَّة الْكَلَام
هُنَاكَ.
3 - (بابُ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الطّيب لأجل الْجُمُعَة،
وَلَكِن لم يجْزم بِحكمِهِ للِاخْتِلَاف فِيهِ.
880 - حدَّثنا عَلِيِّ قَالَ حدَّثنا حرَمِيُّ بنُ
عُمَارَةَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَة عنْ أبي بَكْرِ بنِ
المُنْكَدِرِ قَالَ حدَّثني عَمْرُو بنُ سُلَيْمٍ
الأَنْصَارِيُّ قَالَ أشْهَدُ عَلَى أبي سَعِيد قَالَ
أشْهَدُ عَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةَ واجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ
وأنْ يَسْتَنَّ وأنْ يَماسَّ طِيبا إنْ وَجَدَ قاال عَمْرٌ
وأمَّا الغُسْلُ فَأَشْهَدُ أنَّهُ واجِبٌ وأمَّا
الاسْتِنَانُ والطِّيبُ فَالله أعْلَمُ أوَاجِبٌ هُوَ أمْ
لَا ولاكِنْ هَكَذَا فِي الحدِيثِ،.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَن يمس طيبا) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن الْمَدِينِيّ.
الثَّانِي: حرمي، بِفَتْح الْحَاء وَالرَّاء
الْمُهْمَلَتَيْنِ وَكسر الْمِيم: إِبْنِ عمَارَة، بِضَم
الْعين وَتَخْفِيف الْمِيم، وَقد مر ذكره فِي: بَاب {فَإِن
تَابُوا} (التَّوْبَة: 5 و 11) . . فِي كتاب الْإِيمَان.
الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: أَبُو بكر بن
الْمُنْكَدر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون: على صِيغَة
اسْم الْفَاعِل من الإنكدار: ابْن عبد الله بن ربيعَة
الْمَدِينِيّ. الْخَامِس: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن
سليم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي: بَاب إِذا دخل أحدكُم
الْمَسْجِد. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة
مَوَاضِع. وَفِيه: لفظ: أشهد، فِي موضِعين، وَأَرَادَ بِهِ
الرَّاوِي تَأْكِيدًا لروايته وإظهارا لسماعه. وَفِيه:
عَليّ، بِغَيْر
(6/168)
ذكر نسبته إِلَى أَبِيه أَو إِلَى بَلَده
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر:
عَليّ بن عبد الله، بِذكر أَبِيه. وَفِيه: أَدخل بَعضهم
بَين عَمْرو بن سليم وَبَين أبي سعيد رجلا، وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: وَقد اخْتلف على شُعْبَة، فَقَالَ
الباغندي: عَن عَليّ عَن حرمي عَنهُ عَن أبي بكر عَن عبد
الرَّحْمَن ابْن أبي سعيد عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ عُثْمَان
بن سليم: عَن عَمْرو بن سليم عَن أبي سعيد. فَإِن قلت:
إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَكيف ذكره البُخَارِيّ فِي
صَحِيحه؟ قلت: لَا يضرّهُ ذَلِك لِأَنَّهُ صرح بِأَن عمرا
أشهد على أبي سعيد، وَيحمل على أَنه رَوَاهُ أَولا عَنهُ
ثمَّ سَمعه مِنْهُ، وَأَنه رَوَاهُ فِي حالتين، وَهَذِه
حجَّة قَوِيَّة لتخريجه هَذَا فِي صَحِيحه. وَفِيه: أَن
رُوَاته مَا بَين بصريين وواسطي ومدنيين.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن
عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن
سعيد ابْن أبي هِلَال وَبُكَيْر بن الْأَشَج، كِلَاهُمَا
عَن أبي بكر بن الْمُنْكَدر عَن عَمْرو ابْن سليم عَن أبي
سعيد، وَلم يذكر عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن وهب، وَلم يذكر
السِّوَاك وَلَا الطّيب، وَقَالَ فِي آخِره: إلاّ أَن
بكيرا لم يذكر عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن مُحَمَّد بن سَلمَة بِإِسْنَادِهِ مثله، وَعَن هَارُون
بن عبد الله عَن الْحسن بن سوار عَن اللَّيْث نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (محتلم) أَي: بَالغ، وَهُوَ مجَاز،
لِأَن الِاحْتِلَام يسْتَلْزم الْبلُوغ، والقرينة
الْمَانِعَة عَن الْحمل على الْحَقِيقَة أَن الِاحْتِلَام
إِذا كَانَ مَعَه الْإِنْزَال مُوجب للْغسْل، سَوَاء كَانَ
يَوْم الْجُمُعَة أَو لَا. قَوْله: (وَأَن يستن) ، عطف على
معنى الْجُمْلَة السَّابِقَة، و: أَن، مَصْدَرِيَّة
تَقْدِيره: والاستنان، وَهُوَ الاستياك، مَأْخُوذ من:
السن، يُقَال لَهُ: سننت الْحَدِيد حككته على المسن، وَقيل
لَهُ: الاستنان لَازم لِأَنَّهُ إِنَّمَا يستاك على
الْأَسْنَان، وَحَاصِله دلك السن بِالسِّوَاكِ. قَوْله:
(إِن وجد) ، مُتَعَلق: بيمس، أَي: إِن وجد الطّيب يمسهُ،
وَيحْتَمل تعلقه: بِأَن يستن، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ويمس
من الطّيب مَا يقدر عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ:
(وَلَو من طيب الْمَرْأَة) . وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل
قَوْله: (مَا يقدر عَلَيْهِ) ، إِرَادَة التَّأْكِيد فيفعل
مَا أمكنه، وَيحْتَمل إِرَادَة الْكَثْرَة، وَالْأول أظهر،
وَيُؤَيّد قَوْله: (وَلَو من طيب الْمَرْأَة) ، لِأَنَّهُ
يكره اسْتِعْمَاله للرجل، وَهُوَ مَا ظهر لَونه وخفي
رِيحه، فإباحته للرجل لأجل عدم غَيره يدل على تَأَكد
الْأَمر فِي ذَلِك. قَوْله: (قَالَ عَمْرو) وَهُوَ: ابْن
سليم رَاوِي الْخَبَر، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور إِلَيْهِ. قَوْله: (وَأما الاستنان وَالطّيب)
إِلَى آخِره، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْعَطف لَا
يَقْتَضِي التَّشْرِيك من جَمِيع الْوُجُوه، فَكَانَ
الْقدر الْمُشْتَرك تَأْكِيدًا لطلب الثَّلَاثَة،
وَكَأَنَّهُ جزم بِوُجُوب الْغسْل دون غَيره للتصريح بِهِ
فِي الحَدِيث، وَتوقف فِيمَا عداهُ لوُقُوع الإحتمال
فِيهِ، وَذكر الطَّحَاوِيّ والطبري: أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما قرن الْغسْل بالطيب يَوْم الْجُمُعَة،
وَأجْمع الْجَمِيع على أَن تَارِك الطّيب يَوْمئِذٍ غير
حرج إِذا لم يكن لَهُ رَائِحَة مَكْرُوهَة يُؤْذِي بهَا
أهل الْمَسْجِد، فَكَذَا حكم تَارِك الْغسْل، لِأَن
مخرجهما من الشَّارِع وَاحِد، وَكَذَا الاستنان
بِالْإِجْمَاع أَيْضا، وَكَذَا هما وَإِن كَانَ الْعلمَاء
يستحبون لمن قدر عَلَيْهِ كَمَا يستحبون اللبَاس الْحسن.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل إِن يكون قَوْله:
(وَأَن يستن) إِلَى آخِره من كَلَام أبي سعيد، خلطه
الرَّاوِي بِكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقَالَ بَعضهم: لم أر هَذَا فِي شَيْء من النّسخ وَلَا
فِي المسانيد، وَدَعوى الإدراج فِيهِ لَا حَقِيقَة لَهَا.
قلت: ظَاهر التَّرْكِيب يَقْتَضِي صِحَة مَا قَالَه ابْن
الْجَوْزِيّ، وَإِن تكلفنا وَجه صِحَة الْعَطف فِيمَا قبل
قَوْله، وَلَكِن هَكَذَا فِي الحَدِيث.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: ذهب مَالك
إِلَى إِيجَاب الْغسْل، وَأكْثر الْفُقَهَاء إِلَى أَنه
غير وَاجِب، وتأولوا الحَدِيث على معنى التَّرْغِيب فِيهِ
والتوكيد لأَمره حَتَّى يكون كالواجب على معنى
التَّشْبِيه، وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بِأَنَّهُ قد عطف
عَلَيْهِ الاستنان وَالطّيب، وَلم يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمَا
غير واجبين. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث ظَاهر فِي أَن
الْغسْل مَشْرُوع للبالغ سَوَاء أَرَادَ الْجُمُعَة أَو
لَا، وَحَدِيث: (إِذا جَاءَ أحدكُم) فِي أَنه لما أرادها
سَوَاء الْبَالِغ وَالصَّبِيّ، فَيُقَال فِي الْجمع
بَينهمَا: إِنَّه مُسْتَحبّ للْكُلّ ومتأكد فِي حق المريد،
وآكد فِي حق الْبَالِغ وَنَحْوه، ومذهبنا الْمَشْهُور:
أَنه مُسْتَحبّ لكل مُرِيد أَتَى، وَفِي وَجه: للذكور
خَاصَّة، وَفِي وَجه: لمن تلْزمهُ الْجُمُعَة، وَفِي وَجه:
لكل أحد. وَفِي (المُصَنّف) : وَكَانَ ابْن عمر يجمر
ثِيَابه كل جُمُعَة. وَقَالَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة:
أدْركْت ثَلَاثِينَ من مزينة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك،
وَحَكَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس
(6/169)
وَعَن أبي سعيد وَابْن مُغفل وَابْن عمر
وَمُجاهد نَحوه، وَخَالف ابْن حزم لما ذكر فَرضِيَّة
الْغسْل على الرِّجَال وَالنِّسَاء، قَالَ: وَكَذَلِكَ
الطّيب والسواك، وَشرع الطّيب لِأَن الْمَلَائِكَة على
أَبْوَاب الْمَسَاجِد يَكْتُبُونَ الأول فَالْأول،
فَرُبمَا صافحوه أَو لمسوه. وَاخْتلف فِي الِاغْتِسَال فِي
السّفر، فَمِمَّنْ يرَاهُ؛ عبد الله بن الْحَارِث وطلق بن
حبيب وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن
وَطَلْحَة ابْن مصرف. وَقَالَ الشَّافِعِي: مَا تركته فِي
حضر وَلَا سفر وَإِن اشْتَرَيْته بِدِينَار، وَمِمَّنْ
كَانَ لَا يرَاهُ: عَلْقَمَة وَعبد الله بن عَمْرو وَابْن
جُبَير بن مطعم وَمُجاهد وطاووس وَالقَاسِم بن مُحَمَّد
وَالْأسود وَإيَاس بن مُعَاوِيَة. وَفِي كتاب ابْن التِّين
عَن طَلْحَة وطاووس وَمُجاهد أَنهم كَانُوا يغتسلون
للْجُمُعَة فِي السّفر، واستحبه أَبُو ثَوْر.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله هُوَ أَخُو محمَّدِ بنِ
المُنْكَدِرِ ولَمْ يُسَمَّ أبُو بَكْر هَذا رَواهُ عَنْهُ
بُكَيْرُ بنُ الأشَجِّ وسَعِيدُ بنُ أبِي هِلالٍ وعِدَّةٌ
وكانَ مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ يُكَنَّى بِأبي بَكْرٍ
وأبِي عَبْدِ الله
أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (هُوَ)
أَي: أَبُو بكر بن الْمُنْكَدر الْمَذْكُور فِي سَنَد
الحَدِيث الْمَذْكُور: هُوَ أَخُو مُحَمَّد بن
الْمُنْكَدر. وَمُحَمّد أَيْضا يكنى: بِأبي بكر، وَلَكِن
سمي بِمُحَمد وَأَبُو بكر أَخُوهُ لم يسم وَهُوَ معنى
قَوْله: (وَلم يسم أَبُو بكر هَذَا) ، وَالْحَاصِل أَن كلا
من الْأَخَوَيْنِ الْمَذْكُورين يكنى: بِأبي بكر، وَلَكِن
الامتياز بَينهمَا بتصريح اسْم أَحدهمَا وَهُوَ مُحَمَّد،
وَأَيْضًا هُوَ يكنى بكنية أُخْرَى، وَهِي: أَبُو عبد
الله، وَهُوَ معنى قَول البُخَارِيّ: وَكَانَ مُحَمَّد بن
المكندر يكنى بِأبي بكر وبأبي عبد الله وَأَخُوهُ كنيته
اسْمه وَلَيْسَت لَهُ كنية غَيرهَا. قَوْله: (روى عَنهُ)
أَي: عَن أبي بكر بن المكندر، كَذَا وَقع بِلَفْظ: روى
عَنهُ، فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره
(رَوَاهُ عَنهُ) أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي
بكر بن الْمُنْكَدر (بكير بن الْأَشَج) ، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة مصغرر ومخفا: ابْن عبد الله الْأَشَج، بالشين
الْمُعْجَمَة وَالْجِيم. قَوْله: (وَسَعِيد بن أبي هِلَال)
أَي: وروى عَن أبي بكر بن الْمُنْكَدر سعيد بن أبي هِلَال،
وَقد مر سعيد فِي: بَاب فضل الْوضُوء، وَلَكِن فرق بَين
روايتيهما. فرواية بكير مُوَافقَة لرِوَايَة شُعْبَة فِي
إِسْقَاط لواسطة بَين عَمْرو بن سليم وَبَين أبي سعيد
الْخُدْرِيّ، وَرِوَايَة سعيد بن أبي هِلَال بِوَاسِطَة
بَين عَمْرو بن سليم وَبَين أبي سعيد، كَمَا أخرجه مُسلم
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَمْرو بن
الْحَارِث: أَن سعيد بن أبي هِلَال وَبُكَيْر بن الْأَشَج
حَدثا عَن أبي بكر بن المكندر عَن عَمْرو بن سليم عَن عبد
الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن أَبِيه، فَذكر
الحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: إلاّ أَن بكيرا لم يذكر عبد
الرَّحْمَن، وَكَذَلِكَ أخرج أَحْمد من طَرِيق ابْن
لَهِيعَة: عَن بكير، لَيْسَ فِيهِ عبد الرَّحْمَن. قَوْله:
(وعدة) ، أَي: وروى أَيْضا عَن أبي بكر بن الْمُنْكَدر
عدَّة: جمَاعَة أَي: عدد كثير من النَّاس.
4 - (بابُ فَضحلِ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْجُمُعَة، وَهَذِه
اللَّفْظَة تَشْمَل صَلَاة الْجُمُعَة وَيَوْم الْجُمُعَة.
881 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالَكٌ عنْ سُمَيٍ ّ موْلَى أبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ
الرَّحمنِ عنْ أبِي صالِحٍ السَّمَّانِ عَن أبي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ
غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ راحَ فكَأنَّمَا قَرَّبَ
بَدَنَةً ومَن رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ
فكأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ومَنْ راحَ فِي السَّاعَةِ
الثَّالِثَةِ فَكأنَّمَا قَرَّبَ كَبْشا أقْرَنَ ومَنْ
راحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكأنَّمَا قَرَّبَ
دَجَاجَةً ومَنْ راحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ
فَكأنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإذَا خَرَجَ الإمامُ
حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الَّذِي يحضر
الْجُمُعَة الَّذِي هُوَ عبَادَة بدنية كَأَنَّهُ يَأْتِي
أَيْضا بِالْعبَادَة الْمَالِيَّة، فَكَأَنَّهُ يجمع بَين
العبادتين: الْبَدَنِيَّة والمالية، وَهَذِه الخصوصية
للْجُمُعَة دون غَيرهَا من الصَّلَوَات، فَدلَّ ذَلِك على
فضل الْجُمُعَة، فَنَاسَبَ تَرْجَمَة
(6/170)
الْبَاب بِفضل الْجُمُعَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَقد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو
صَالح اسْمه: ذكْوَان.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن
قُتَيْبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمَلَائِكَة عَن مُحَمَّد بن
سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن أبي
الْقَاسِم وَفِيه وَفِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة، خمستهم
عَن مَالك بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن
عجلَان عَن سمي بِلَفْظ آخر: (تقعد الْمَلَائِكَة على
أَبْوَاب الْمَسْجِد يَكْتُبُونَ النَّاس على مَنَازِلهمْ،
فَالنَّاس فِيهِ كَرجل قدم بَدَنَة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل
قدم شَاة، وكرجل قدم دجَاجَة وكرجل قدم عصفورا وكرجل قدم
بَيْضَة) . رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من
رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد
بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة
كَانَ على كل بَاب من أَبْوَاب الْمَسْجِد مَلَائِكَة
يَكْتُبُونَ النَّاس على مَنَازِلهمْ، فَإِذا خرج الإِمَام
طويت الصُّحُف وَاسْتَمعُوا الْخطْبَة، فالمهجر إِلَى
الصَّلَاة كالمهدي بَدَنَة، ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ كالمهدي
بقرة، ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ كالمهدي كَبْشًا، حَتَّى ذكر
الْبَيْضَة والدجاجة) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من
رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن الْأَعرَابِي عبد الله
عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة قعدت الْمَلَائِكَة
على أَبْوَاب الْمَسْجِد فَكَتَبُوا من جَاءَ إِلَى
الْجُمُعَة، فَإِذا خرج الإِمَام طوت الْمَلَائِكَة
الصُّحُف. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: المهجر إِلَى الْجُمُعَة كالمهدي يَعْنِي بَدَنَة،
ثمَّ كالمهدي بقرة، ثمَّ كالمهدي شَاة، ثمَّ كالمهدي بطة،
ثمَّ كالمهدي دجَاجَة، ثمَّ كالمهدي بَيْضَة) . وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث وائلة بن
الْأَسْقَع، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يبْعَث الْمَلَائِكَة
يَوْم الْجُمُعَة على أَبْوَاب الْمَسْجِد يَكْتُبُونَ
الْقَوْم الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع
وَالْخَامِس وَالسَّادِس، فَإِذا بلغُوا السَّابِع كَانُوا
بِمَنْزِلَة فِي قرب العصافير) . وَفِي رِوَايَته
مَجْهُول، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة
قعدت الْمَلَائِكَة على أَبْوَاب الْمَسْجِد فيكتبون
النَّاس من جَاءَ على مَنَازِلهمْ، فَرجل قدم جزورا، وَرجل
قدم بقرة، وَرجل قدم دجَاجَة. وَرجل قدم بَيْضَة. فَإِذا
أذن الْمُؤَذّن وَجلسَ الإِمَام على الْمِنْبَر طويت
الصُّحُف فَدَخَلُوا الْمَسْجِد يَسْتَمِعُون الذّكر) .
وَإِسْنَاده جيد. وَفِي كتاب (التَّرْغِيب) لأبي الْفضل
الْجَوْزِيّ من حَدِيث فرات بن السَّائِب عَن مَيْمُون بن
مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (إِذا كَانَ يَوْم
الْجُمُعَة قد دفع إِلَى الْمَلَائِكَة ألوية حمد إِلَى كل
مَسْجِد يجمع فِيهِ، ويحضر جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، الْمَسْجِد الْحَرَام، مَعَ كل ملك كتاب،
وُجُوههم كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر، مَعَهم أَقْلَام
من فضَّة وقراطيس من فضَّة يَكْتُبُونَ النَّاس على
مَنَازِلهمْ: فَمن جَاءَ قبل الإِمَام كتب من السَّابِقين،
وَمن جَاءَ بعد خُرُوج الإِمَام كتب: شهد الْخطْبَة، وَمن
جَاءَ حِين تُقَام الصَّلَاة كتب: شهد الْجُمُعَة، وَإِذا
سلم الإِمَام تصفح الْمَلَائِكَة وُجُوه الْقَوْم، فَإِذا
فقدوا مِنْهُم رجلا كَانَ فِيمَا خلا من السَّابِقين
قَالُوا: يَا رب إِنَّا فَقدنَا فلَانا ولسنا نَدْرِي مَا
خَلفه الْيَوْم؟ فَإِن كنت قَبضته فارحمه، وَإِن كَانَ
مَرِيضا فاشفه، وَإِن كَانَ مُسَافِرًا فَأحْسن صحابته
ويؤمن من مَعَه من الْكتاب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من اغْتسل) ، يدْخل فِيهِ
بِعُمُومِهِ كل من يَصح مِنْهُ التَّقَرُّب، سَوَاء كَانَ
ذكرا أَو أُنْثَى حرا أَو عبدا. قَوْله: (غسل الْجَنَابَة)
، بِنصب اللَّام على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: غسلا
كَغسْل الْجَنَابَة، وَيشْهد بذلك رِوَايَة ابْن جريج عَن
سمي عَن عبد الرَّزَّاق: (فاغتسل أحدكُم كَمَا يغْتَسل من
الْجَنَابَة) ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن ماهان: (من
اغْتسل غسل الْجُمُعَة) ، وَاخْتلفُوا فِي معنى، غسل
الْجَنَابَة، فَقَالَ قوم: إِنَّه حَقِيقَة، حَتَّى
يسْتَحبّ أَن يواقع زَوجته ليَكُون أَغضّ لبصره وأسكن
لنَفسِهِ. قَالُوا: وَيشْهد لذَلِك حَدِيث أَوْس
الثَّقَفِيّ، قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من غسل يَوْم الْجُمُعَة واغتسل
ثمَّ بكر وابتكر وَمَشى وَلم يركب ودنا من الإِمَام واستمع
وَلم يلغ كَانَ لَهُ بِكُل خطْوَة عمل سنة: أجر صيامها
وقيامها) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أَوْس حَدِيث حسن، وَقَالَ: معنى
قَوْله: (غسل) وطىء امْرَأَته قبل الْخُرُوج إِلَى
الصَّلَاة، يُقَال: غسل الرجل امْرَأَته وغسّلها مشددا
ومخففا إِذا جَامعهَا، وفحل غسلة: إِذا كَانَ كثير الضراب،
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن التَّشْبِيه فِي قَوْله: (غسل
الْجَنَابَة) للكيفية لَا للْحكم. قَوْله: (ثمَّ رَاح)
أَي: ذهب أول النَّهَار، وَيشْهد لهَذَا مَا رَوَاهُ
أَصْحَاب (الْمُوَطَّأ) : عَن مَالك فِي: (السَّاعَة
الأولى) . قَوْله: (وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة)
قَالَ مَالك: المُرَاد بالساعات هُنَا لحظات لَطِيفَة بعد
زَوَال الشَّمْس، وَبِه قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَإِمَام
الْحَرَمَيْنِ. والرواح عِنْدهم بعد زَوَال الشَّمْس،
وَادعوا أَن هَذَا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة، وَقَالَ
جَمَاهِير الْعلمَاء باستحباب
(6/171)
التبكير إِلَيْهَا أول النَّهَار، وَبِه
قَالَ الشَّافِعِي وَابْن حبيب الْمَالِكِي، والساعات
عِنْدهم من أول النَّهَار، والرواح يكون أول النَّهَار
وَآخره. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: لُغَة الْعَرَب أَن الرواح:
الذّهاب، سَوَاء كَانَ أول النَّهَار أَو آخِره أَو فِي
اللَّيْل، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يَقْتَضِيهِ
الحَدِيث، وَالْمعْنَى: لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أخبر أَن الْمَلَائِكَة تكْتب من جَاءَ فِي
السَّاعَة الأولى وَهُوَ كالمهدي بَدَنَة، ثمَّ من جَاءَ
فِي السَّاعَة الثَّانِيَة، ثمَّ فِي الثَّالِثَة، ثمَّ
فِي الرَّابِعَة، ثمَّ فِي الْخَامِسَة، وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ: السَّادِسَة، فَإِذا خرج إِمَام طَوَوْا
الصُّحُف وَلم يكتبوا بعد ذَلِك. وَمَعْلُوم أَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يخرج إِلَى الْجُمُعَة
مُتَّصِلا بالزوال، وَهُوَ بعد انْقِضَاء السَّاعَة
السَّادِسَة، فَدلَّ على أَنه لَا شَيْء من الْفَضِيلَة
لمن جَاءَ بعد الزَّوَال، وَلِأَن ذكر السَّاعَات إِنَّمَا
كَانَ للحث على التبكير إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيب فِي
فَضِيلَة السَّبق وَتَحْصِيل الصَّفّ الأول وانتظارها
والاشتغال بالتنفل وَالذكر، وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا كُله
لَا يحصل بالذهاب بعد الزَّوَال، وَلَا فَضِيلَة لمن أَتَى
بعد الزَّوَال لِأَن النداء يكون حِينَئِذٍ، وَيحرم
التَّخَلُّف بعد النداء. قلت: الْحَاصِل أَن الْجُمْهُور
حملُوا السَّاعَات الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث على
السَّاعَات الزمانية، كَمَا فِي سَائِر الْأَيَّام، وَقد
روى النَّسَائِيّ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
(يَوْم الْجُمُعَة اثْنَتَا عشرَة سَاعَة) ، وَأما أهل علم
الْمِيقَات فيجعلون سَاعَات النَّهَار ابتداءها من طُلُوع
الشَّمْس، ويجعلون الْحصَّة الَّتِي من طُلُوع الْفجْر
إِلَى طُلُوع الشَّمْس من حِسَاب اللَّيْل، واستواء
اللَّيْل وَالنَّهَار عِنْدهم إِذا تساوى مَا بَين الْمغرب
وطلوع الشَّمْس، وَمَا بَين طُلُوع الشَّمْس وغروبها،
فَإِن أُرِيد السَّاعَات على اصطلاحهم فَيكون ابْتِدَاء
الْوَقْت المرغب فِيهِ لذهاب الْجُمُعَة من طُلُوع
الشَّمْس، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: إِنَّه الْأَصَح، ليَكُون قبل
ذَلِك من طُلُوع الْفجْر زمَان غسل وتأهب. وَقَالَ
الرَّوْيَانِيّ: إِن ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي أَن التبكير
يكون من طُلُوع الْفجْر، وَصَححهُ الرَّوْيَانِيّ،
وَكَذَلِكَ صَاحب (الْمُهَذّب) قبله، ثمَّ الرَّافِعِيّ
وَالنَّوَوِيّ، وَلَهُم وَجه ثَالِث: إِن التبكير من
الزَّوَال كَقَوْل مَالك، حَكَاهُ الْبَغَوِيّ
وَالرُّويَانِيّ. وَفِيه وَجه رَابِع حَكَاهُ الصيدلاني:
إِنَّه من ارْتِفَاع النَّهَار، وَهُوَ وَقت الهجير.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: لَيْسَ المُرَاد من السَّاعَات على
اخْتِلَاف الْوُجُوه الْأَرْبَع وَالْعِشْرين الَّتِي قسم
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا المُرَاد
تَرْتِيب الدَّرَجَات وَفضل السَّابِق على الَّذِي
يَلِيهِ. قَوْله: (قرب بَدَنَة) أَي: تصدق ببدنة متقربا
إِلَى الله تَعَالَى، وَقيل: المُرَاد أَن للمبادر فِي أول
سَاعَة نَظِير مَا لصَاحب الْبَدنَة من الثَّوَاب مِمَّن
شرع لَهُ القربان، لِأَن القربان لم يشرع لهَذِهِ الْأمة
على الْكَيْفِيَّة الَّتِي كَانَت للأمم الْمَاضِيَة.
وَقيل: لَيْسَ المُرَاد بِالْحَدِيثِ إلاّ بَيَان تفَاوت
المبادرين إِلَى الْجُمُعَة، وَأَن نِسْبَة الثَّانِي من
الأول نِسْبَة الْبَقَرَة إِلَى الْبَدنَة فِي الْقيمَة
مثلا، وَيدل عَلَيْهِ أَن فِي مُرْسل طَاوُوس، رَوَاهُ عبد
الرَّزَّاق: كفضل صَاحب الْجَزُور على صَاحب الْبَقَرَة،
والبدنة تطلق على الْإِبِل وَالْبَقر، وخصصها مَالك
بِالْإِبِلِ، وَلَكِن المُرَاد هَهُنَا من الْبَدنَة
الْإِبِل بالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهَا قوبلت بالبقرة،
وَتَقَع على الذّكر وَالْأُنْثَى. وَقَالَ بَعضهم:
المُرَاد بالبدنة هُنَا النَّاقة بِلَا خلاف. قلت: فِيهِ
نظر، فَكَانَ لفظ: الْهَاء، فِيهِ غره، وَحسب أَنه
للتأنيث، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ للوحدة كقمحة وشعيرة
وَنَحْوهمَا من أَفْرَاد الْجِنْس، سميت بذلك لعظم بدنهَا.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْبَدنَة نَاقَة أَو بقرة تنحر
بِمَكَّة، سميت بذلك لأَنهم كَانُوا يسمونها. وَحكى
النَّوَوِيّ عَن الْأَزْهَرِي، أَنه قَالَ: الْبَدنَة تكون
من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. قلت: هَذَا غلط،
الظَّاهِر أَنه من النساخ، لِأَن الْمَنْقُول الصَّحِيح
عَن الْأَزْهَرِي، أَنه قَالَ: الْبَدنَة لَا تكون إلاّ من
الْإِبِل، وَأما الْهَدْي فَمن الْإِبِل وَالْبَقر
وَالْغنم. قَوْله: (بقرة) ، التَّاء فِيهَا للوحدة. قَالَ
الْجَوْهَرِي: الْبَقر اسْم جنس، وَالْبَقَرَة تقع على
الذّكر وَالْأُنْثَى، وَإِنَّمَا دخله الْهَاء على أَنه
وَاحِد من جنس، والبقرات جمع بقرة، والباقر جمَاعَة
الْبَقر مَعَ رعاتها، وَالْبَقر، وَأهل الْيمن يسمون
الْبَقَرَة: باقورة، وَهُوَ مُشْتَقّ من: البَقْر، وَهُوَ:
الشق فَإِنَّهَا تبقر الأَرْض أَي: تشقها بالحراثة.
قَوْله: (كَبْشًا أقرن) ، الْكَبْش هُوَ الْفَحْل،
وَإِنَّمَا وصف بالأقرن لِأَنَّهُ أكمل وَأحسن صُورَة،
وَلِأَن الْقرن ينْتَفع بِهِ، وَفِيه فَضِيلَة على الأجم.
قَوْله: (دجَاجَة) ، بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا لُغَتَانِ
مشهورتان، وَحكى الضَّم أَيْضا. وَعَن مُحَمَّد بن حبيب:
إِنَّهَا بِالْفَتْح من الْحَيَوَان، وبالكسر من النَّاس.
والدجاجة تقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَسميت بذلك
لإقبالها وإدبارها، وَجَمعهَا: دَجَاج ودجائج ودجاجات،
ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي:
فتح الدَّال فِي الدَّجَاج أفْصح من كَسره، وَدخلت الْهَاء
فِي الدَّجَاجَة لِأَنَّهُ وَاحِد من جنس، مثل: حمامة وبطة
وَنَحْوهمَا، وكما جَاءَت الدَّال مُثَلّثَة فِي
الْمُفْرد، فَكَذَلِك يُقَال فِي الْجمع: الدَّجَاج
(6/172)
والدجاج والدجاج. قَوْله: (بَيْضَة) ،
الْبَيْضَة وَاحِدَة من الْبيض، وَالْجمع: بيوض، وَجَاء
فِي الشّعْر: بيضات. قَوْله: (حضرت الْمَلَائِكَة) ،
بِفَتْح الضَّاد وَكسرهَا، وَالْفَتْح أَعلَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب الْغسْل
يَوْم الْجُمُعَة. وَفِيه: فَضِيلَة التبكير، وَقد ذكرنَا
حَده عَن قريب. وَفِيه: أَن مَرَاتِب النَّاس فِي
الْفَضِيلَة على حسب أَعْمَالهم. وَفِيه: أَن القربان
وَالصَّدَََقَة تقع على الْقَلِيل وَالْكثير، وَقد جَاءَ
فِي النَّسَائِيّ بعد الْكَبْش: بطة ثمَّ دجَاجَة ثمَّ
بَيْضَة، وَفِي أُخْرَى: دجَاجَة ثمَّ عُصْفُور ثمَّ
بَيْضَة، وإسنادهما صَحِيح. وَفِيه: إِطْلَاق القربان على
الدَّجَاجَة والبيضة لِأَن المُرَاد من التَّقَرُّب
التَّصَدُّق، وَيجوز التَّصَدُّق بالدجاجة والبيضة
وَنَحْوهمَا. وَفِيه: أَن التَّضْحِيَة من الْإِبِل أفضل
من الْبَقر لِأَن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدمهَا أَولا
وتلاها بالبقرة، وَأَجْمعُوا عَلَيْهِ فِي الْهَدَايَا
وَاخْتلفُوا فِي الْأُضْحِية فمذهب أبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: أَن الْإِبِل أفضل ثمَّ
الْبَقر ثمَّ الْغنم كالهدايا، وَمذهب مَالك: أَن الْغنم
أفضل ثمَّ الْبَقر ثمَّ الْإِبِل، قَالُوا: لِأَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى بكبشين وَهُوَ فدَاء
إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَحجَّة
الْجُمْهُور حَدِيث الْبَاب مَعَ الْقيَاس على
الْهَدَايَا، وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدل على
الْأَفْضَلِيَّة بل على الْجَوَاز، وَلَعَلَّه لم يجد
غَيره، كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: ضحى عَن نِسَائِهِ بالبقرة. فَإِن قلت: روى أَبُو
دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت
بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه قَالَ: (خير الْأُضْحِية الْكَبْش
الأقرن) . قلت: مُرَاده خير الْأُضْحِية من الْغنم
الْكَبْش الأقرن، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الْبَدنَة
من الْإِبِل ثمَّ الشَّرْع قد يُقيم مقَامهَا بقرة وَسبعا
من الْغنم، وَتظهر ثَمَرَة هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ: لله
عَليّ بَدَنَة، وَفِيه خلاف، الْأَصَح تعين الْإِبِل إِن
وجدت، وإلاّ فالبقر أَو سبع من الْغنم، وَقيل: تتَعَيَّن
الْإِبِل مُطلقًا وَقيل يتَخَيَّر مُطلقًا. وَفِيه:
الْمَلَائِكَة المذكورون غير الْحفظَة، ووظيفتهم كِتَابَة
حاضريها، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَالنَّوَوِيّ، وَقَالَ
ابْن بزيزة: لَا أَدْرِي هم أم غَيرهم؟ قلت: هَؤُلَاءِ
الْمَلَائِكَة يَكْتُبُونَ منَازِل الجائين إِلَى
الْجُمُعَة مختصون بذلك، كَمَا روى أَحْمد فِي (مُسْنده) :
عَن أبي أُمَامَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (سَمِعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: تقعد
الْمَلَائِكَة على أَبْوَاب الْمَسَاجِد فيكتبون الأول
وَالثَّانِي وَالثَّالِث. .) الحَدِيث، والحفظة لَا
يفارقون من وكلوا عَلَيْهِم، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث
عَطاء الْخُرَاسَانِي، قَالَ: (سَمِعت عليا، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على مِنْبَر الْكُوفَة يَقُول: إِذا كَانَ
يَوْم الْجُمُعَة غَدَتْ الشَّيَاطِين براياتها إِلَى
الْأَسْوَاق فيرمون النَّاس بالترابيث أَو الربائث،
ويثبطونهم عَن الْجُمُعَة، وتغدو الْمَلَائِكَة فتجلس على
أَبْوَاب الْمَسْجِد فيكتبون الرجل من سَاعَة وَالرجل من
ساعتين حَتَّى يخرج الإِمَام، فَإِذا جلس الرجل مَجْلِسا
يتَمَكَّن فِيهِ من الِاسْتِمَاع وَالنَّظَر فأنصت وَلم
بلغ كَانَ كفلان من الْأجر، فَإِن نأى حَيْثُ لَا يستمع
فأنصت وَلم بلغ كَانَ لَهُ كفل من الْأجر، وَإِن جلس
مَجْلِسا يتَمَكَّن فِيهِ من الِاسْتِمَاع وَالنَّظَر فلغا
وَلم ينصت كَانَ لَهُ كفل من وزر، وَمن قَالَ يَوْم
الْجُمُعَة لصَاحبه: مَه، فقد لغى، فَلَيْسَ لَهُ فِي
جمعته تِلْكَ شَيْء، ثمَّ يَقُول فِي آخر ذَلِك: سَمِعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول ذَلِك) .
قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم عَن ابْن
جَابر، قَالَ: بالربائث، وَقَالَ مولى امْرَأَته أم
عُثْمَان ابْن عَطاء، وَرَوَاهُ أَحْمد من رِوَايَة
الْحجَّاج بن أَرْطَاة عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي بِلَفْظ:
(وتقعد الْمَلَائِكَة على أَبْوَاب الْمَسْجِد يَكْتُبُونَ
النَّاس على قدر مَنَازِلهمْ السَّابِق وَالْمُصَلي
وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى يخرج الإِمَام) ، والربائث،
بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَآخره ثاء
مُثَلّثَة: جمع ربيثة، وَهُوَ مَا يحبس الْإِنْسَان
ويشغله. وَأما الترابيث فَقَالَ صَاحب (النِّهَايَة) :
يجوز أَن يكون جمع: تربيثة، وَهِي الْمرة الْوَاحِدَة من
التربيث، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَهَذِه الرِّوَايَة لَيست
بِشَيْء. وَفِيه: حُضُور الْمَلَائِكَة إِذا خرج الإِمَام
ليسمعوا الْخطْبَة، لِأَن المُرَاد من قَوْله:
(يَسْتَمِعُون الذّكر) : هُوَ الْخطْبَة. فَإِن قلت: فِي
الرِّوَايَة الْأُخْرَى من (الصَّحِيح) : فَإِذا جلس
الإِمَام طَوَوْا الصُّحُف، فَمَا الْفرق بَين
الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: بِخُرُوج الإِمَام يحْضرُون من غير
طي، فَإِذا جلس الإِمَام على الْمِنْبَر طووها. وَيُقَال:
ابْتِدَاء طيهم الصُّحُف عِنْد ابْتِدَاء خُرُوج الإِمَام
وانتهاؤه بجلوسه على الْمِنْبَر، وَهُوَ أول سماعهم
للذّكر، وَالْمرَاد بِهِ مَا فِي الْخطْبَة من المواعظ
وَنَحْوهَا.
5 - (بابٌ)
ثَبت لفظ: بَاب، هَكَذَا من غير ضم إِلَى شَيْء فِي أصل
البُخَارِيّ، وَهُوَ كالفصل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَقد
ذكرنَا أَن
(6/173)
الْأَبْوَاب تجمع الْفُصُول، كَمَا أَن
الْكتب تجمع الْأَبْوَاب، وَهُوَ غير مُعرب لِأَن المعرب
جُزْء الْمركب إلاّ إِذا جَعَلْنَاهُ مَحْذُوف
الْمُبْتَدَأ على تَقْدِير: هَذَا بَاب، فَحِينَئِذٍ يكون
معربا.
882 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ
يَحْيى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ عُمَرَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ
الجُمُعَة إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ لِمَ
تَحْتَبِسُونَ عنِ الصَّلاَةِ فَقَالَ الرَّجُلُ مَا هُوَ
إلاّ أنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأتُ فَقَالَ ألَمْ
تَسْمعوا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا راحَ
أحدُكُمْ إِلَى الجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ. (انْظُر
الحَدِيث 878) .
وَجه مُطَابقَة دُخُوله فِي بَاب فضل الْجُمُعَة من حَيْثُ
إِنْكَار عمر على هَذَا الدَّاخِل، وَهُوَ عُثْمَان بن
عَفَّان، على مَا ذَكرْنَاهُ مَعَ جلالة قدره، لأجل
احتباسه عَن التبكير، فلولا عظم الْفَضِيلَة فِيهِ لما
أنكر عمر عَلَيْهِ بِحُضُور الصَّحَابَة من الْمُهَاجِرين
وَالْأَنْصَار، فَإِذا ثبتَتْ الْفَضِيلَة فِي التبكير
إِلَى الْجُمُعَة ثبتَتْ للْجُمُعَة بِالطَّرِيقِ الأولى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم
النُّون: الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان، بِفَتْح
الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وبالباء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون: وَهُوَ ابْن عبد
الرَّحْمَن التَّمِيمِي النَّحْوِيّ. الثَّالِث: يحيى بن
أبي كثير. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
(6/174)
مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع
وَاحِد. وَفِيه: أَن الراويين الْأَوَّلين كوفيان
وَالثَّالِث يماني وَالرَّابِع مدنِي. وَفِيه: شيخ
البُخَارِيّ الْمَذْكُور مَذْكُور بكنيته، وَشَيْخه
مَذْكُور مُجَردا. وَفِيه: أَبُو سَلمَة مَذْكُور بكنيته
وَفِي اسْمه اخْتِلَاف، وَالأَصَح أَن كنيته اسْمه.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الطَّهَارَة عَن أبي تَوْبَة الرّبيع بن نَافِع. وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب فضل الْغسْل يَوْم
الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ أخرج هُنَاكَ من حَدِيث ابْن عمر
عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (إِذْ
دخل رجل) ، سَمَّاهُ عبيد الله بن مُوسَى فِي رِوَايَته
عَن شَيبَان أَنه: عُثْمَان بن عَفَّان، وَكَذَا سَمَّاهُ
الْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَته عِنْد مُسلم، وَكَذَا
سَمَّاهُ حَرْب بن شَدَّاد فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ،
كِلَاهُمَا عَن يحيى بن أبي كثير. قَوْله: (لم تحتبسون عَن
الصَّلَاة؟) أَي: عَن الْحُضُور فِي أول وَقتهَا. قَوْله:
(النداء) أَي: الْأَذَان. قَوْله: (يَقُول) ، ويروى:
(قَالَ) .
6 - (بابُ الدَّهْنِ لِلْجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الدّهن لأجل الْجُمُعَة،
والدهن، بِفَتْح الدَّال: مصدر من دهنت دهنا، وبالضم اسْم،
وَهَهُنَا بِالْفَتْح، وَإِنَّمَا لم يجْزم بِحكمِهِ
للِاخْتِلَاف فِيهِ على مَا نذكرهُ.
883 - حدَّثنا آدَمُ قالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئبٍ عنْ
سَعِيدٍ المَقْبَرِيِّ قالَ أخبرَنِي أبي عنِ ابنِ
وَدِيعَةَ عَنْ سلْمَانَ الفَارِسِيِّ قَالَ قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٍ يَوْمَ
الجُمُعَةِ ويتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ
ويَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أوْ يَمسُّ مِنْ طِيبِ بيتِهِ
ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفرِّقُ بَينَ اثْنَيْنِ ثُمَّ
يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تكَلَّمَ
الإمامُ إلاّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجُمعةِ
الأُخْرَى. (الحَدِيث 883 طرفه فِي: 910) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويدهن من دهنه) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن
الْحَارِث بن أبي ذِئْب، واسْمه هِشَام الْقرشِي العامري
أَبُو الْحَارِث الْمدنِي. الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد
واسْمه: كيسَان المَقْبُري أَبُو سعيد الْمدنِي، والمقبري
نِسْبَة إِلَى مَقْبرَة بِالْمَدِينَةِ كَانَ مجاورا بهَا.
الرَّابِع: أَبُو سعيد المَقْبُري. الْخَامِس: عبد الله بن
وَدِيعَة بن حرَام أَبُو وَدِيعَة الْأنْصَارِيّ الْمدنِي،
قتل بِالْحرَّةِ. السَّادِس: سلمَان الْفَارِسِي، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلم
مدنيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين مُتَوَالِيَة
وهم: سعيد وَأَبوهُ وَابْن وَدِيعَة، وَقد ذكر ابْن سعد
ابْن وَدِيعَة من الصَّحَابَة، وَكَذَا ذكره ابْن مَنْدَه،
وَعَزاهُ لأبي حَاتِم. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد
الصَّحَابَة) : عبد الله ابْن وَدِيعَة بن حرَام
الْأنْصَارِيّ، لَهُ صُحْبَة، وروى عَنهُ أَبُو سعيد
المَقْبُري، فعلى هَذَا يكون فِيهِ: رِوَايَة تابعيين عَن
صحابيين. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن
ابْن وَدِيعَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاّ هَذَا
الحَدِيث. وَفِيه: غمز الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ
حَيْثُ قَالَ: إِنَّه اخْتلف فِيهِ على سعيد المَقْبُري،
فَرَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب عَنهُ هَكَذَا، وَرَوَاهُ ابْن
عجلَان عَنهُ، فَقَالَ: عَن أبي ذَر، بدل سلمَان، وأرسله
أَبُو معشر عَنهُ، فَلم يذكر سلمَان وَلَا أَبَا ذَر،
وَرَوَاهُ عبيد الله الْعمريّ عَنهُ فَقَالَ: عَن أبي
هُرَيْرَة. انْتهى. قلت: رِوَايَة ابْن عجلَان من حَدِيث
أبي ذَر أخرجهَا ابْن مَاجَه فَقَالَ: أخبرنَا سهل بن أبي
سهل وحوثرة بن مُحَمَّد قَالَا: أخبرنَا يحيى بن سعيد
الْقطَّان عَن ابْن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه
عَن عبد الله بن وَدِيعَة عَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة
فَأحْسن غسله، وتطهر فَأحْسن طهوره، وَلبس من أحسن
ثِيَابه، وَمَسّ مَا كتب الله لَهُ من طيب أَهله، ثمَّ
أَتَى الْجُمُعَة وَلم يلغ وَلم يفرق بَين اثْنَيْنِ غفر
لَهُ مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى) .
وَرِوَايَة أبي معشر عَن سعيد بن مَنْصُور، وَرِوَايَة
عبيد الله الْعمريّ عَن أبي يعلى، وَلَا يرد كَلَام
الدَّارَقُطْنِيّ لِأَن رِوَايَة البُخَارِيّ والطريقة
الَّتِي فِيهَا من اتقن الرِّوَايَات وأحكمها، وَغَيرهَا
لَا يلْحقهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يغْتَسل رجل. .) إِلَى آخِره،
مُشْتَمل على شُرُوط سَبْعَة لحُصُول الْمَغْفِرَة، وَجَاء
فِي غَيره من الْأَحَادِيث شُرُوط أُخْرَى على مَا نذكرها
إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الأول: الِاغْتِسَال يَوْم
الْجُمُعَة، وَفِيه دَلِيل على أَنه يدْخل وَقت غسل
الْجُمُعَة بِطُلُوع الْفجْر من يَوْمه، وَهُوَ قَول
جُمْهُور الْعلمَاء. الثَّانِي: التطهر، وَهُوَ معنى:
(ويتطهر مَا اسْتَطَاعَ من الطُّهْر) ، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (من طهر) بالتنكير، وَيُرَاد بِهِ
الْمُبَالغَة فِي التَّنْظِيف، فَلذَلِك ذكره فِي بَاب
التفعل وَهُوَ للتكلف، وَالْمرَاد بِهِ: التَّنْظِيف بِأخذ
الشَّارِب وقص الظفر وَحلق الْعَانَة، أَو المُرَاد
بالاغتسال: غسل الْجَسَد، وبالتطهر: غسل الرَّأْس. أَو
المُرَاد بِهِ: تنظيف الثِّيَاب، وَورد ذَلِك فِي حَدِيث
أبي سعيد وَأبي أَيُّوب، فَحَدِيث أبي سعيد عِنْد أبي
دَاوُد وَلَفظه: (من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة وَلبس من
أحسن ثِيَابه) . وَحَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ، وَلَفظه: (من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة
وَمَسّ من طيب إِن كَانَ عِنْده وَلبس من أحسن ثِيَابه) .
الثَّالِث: الادهان، وَهُوَ معنى قَوْله: (ويدهن من دهنه)
، وَالْمرَاد بِهِ: إِزَالَة شعث الرَّأْس واللحية بِهِ،
ويدهن بتَشْديد الدَّال من بَاب الافتعال، لِأَن أَصله:
يتدهن، فقلبت التَّاء دَالا وادغمت الدَّال فِي الدَّال.
الرَّابِع: مس الطّيب، وَهُوَ معنى قَوْله: (أَو يمس من
طيب بَيته) ، قيل: مَعْنَاهُ إِن لم يجد دهنا يمس من طيب
بَيته، وَقيل: أَو، بِمَعْنى: الْوَاو. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: و: أَو، فِي (أَو يمس) لَا يُنَافِي الْجمع
بَينهمَا. وَقيل: بِطيب بَيته ليؤذن بِأَن السّنة أَن
يتَّخذ الطّيب لنَفسِهِ وَيجْعَل اسْتِعْمَاله عَادَة
لَهُ، فيدخر فِي الْبَيْت بِنَاء على أَن المُرَاد
بِالْبَيْتِ حَقِيقَته، وَلَكِن فِي حَدِيث عبد الله بن
عَمْرو عِنْد دَاوُد: (أَو يمس من طيب امْرَأَته) ،
وَالْمعْنَى على هَذَا إِن لم يتَّخذ لنَفسِهِ طيبا
فليستعمل من طيب امْرَأَته. وَفِي حَدِيث سلمَان عِنْد
البُخَارِيّ وَلَفظه: (أَو يمس من طيب بَيته) ، وَقَالَ
شَيخنَا زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : الظَّاهِر
أَن تَقْيِيد ذَلِك بِطيب الْمَرْأَة والأهل غير مَقْصُود،
وَإِنَّمَا خرج مخرج الْغَالِب، وَإِنَّمَا المُرَاد بِمَا
سهل عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَوْجُود فِي بَيته، وَيدل
عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة:
(ويمس من طيب إِن كَانَ عِنْده) . أَي: فِي الْبَيْت
سَوَاء كَانَ فِيهِ طيب أَهله أَو طيب امْرَأَته. قَوْله:
(ثمَّ يخرج) زَاد فِي حَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد ابْن
خُزَيْمَة: (إِلَى الْمَسْجِد) . الْخَامِس: أَن لَا يفرق
بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ معنى قَوْله: (فَلَا يفرق بَين
اثْنَيْنِ) ، وَهُوَ كِنَايَة عَن التبكير، أَي: عَلَيْهِ
أَن يبكر فَلَا يتخطى رِقَاب النَّاس، كَذَا قَالَه
الْكرْمَانِي، وَيُقَال: مَعْنَاهُ لَا يزاحم رجلَيْنِ
فَيدْخل بَينهمَا، لِأَنَّهُ رُبمَا ضيق عَلَيْهِمَا
خُصُوصا فِي شدَّة الْحر واجتماع الأنفاس. السَّادِس:
يُصَلِّي مَا شَاءَ وَهُوَ معنى قَوْله: (ثمَّ يُصَلِّي
مَا كتب لَهُ) ، وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء عِنْد
أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، (وَركع مَا قضي لَهُ) ، وَفِي
حَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا
(فيركع إِن بدا لَهُ) . السَّابِع: الْإِنْصَات، وَهُوَ
معنى قَوْله: (ثمَّ ينصت) ، بِضَم الْيَاء: من
الْإِنْصَات. يُقَال: أنصت إِذا سكت وأنصته إِذا أسكته،
فَهُوَ لَازم ومتعد، وَالْأول المُرَاد هُنَا، ويروى:
(ثمَّ أنصت) ، وَفِي أصُول مُسلم: (انتصت) ، بِزِيَادَة
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. قَالَ عِيَاض: وَهُوَ وهم،
وَذكر صَاحب (الموعب) والأزهري وَغَيرهمَا: أنصت ونصت
وانتصت، ثَلَاث لُغَات بِمَعْنى وَاحِد فَلَا وهم
(6/175)
حِينَئِذٍ. قَوْله: (إِذا تكلم الإِمَام)
أَي: إِذا شرع فِي الْخطْبَة. وَفِي حَدِيث قرثع
الضَّبِّيّ: (حَتَّى يقْضِي صلَاته) ، وَنَحْوه فِي حَدِيث
أبي أَيُّوب.
وَأما الزِّيَادَة على الشُّرُوط السَّبْعَة
الْمَذْكُورَة. فَمِنْهَا: الْمَشْي وَترك الرّكُوب، وَفِي
حَدِيث أبي الدَّرْدَاء عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) : (من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة) الحَدِيث،
وَفِيه: (ثمَّ مَشى إِلَى الْجُمُعَة) ، وَلَا شكّ أَن
الْمَشْي فِي السَّعْي إِلَيْهَا أفضل إِلَّا أَن يكون
بَعيدا عَن إِقَامَتهَا وخشي فَوتهَا فالركوب أفضل، وَهل
المُرَاد بِالْمَشْيِ فِي الذّهاب إِلَيْهَا فَقَط أَو
الذّهاب وَالرُّجُوع؟ أما فِي الذّهاب إِلَيْهَا فَهُوَ
آكِد، وَأما فِي الرُّجُوع فَهُوَ مَنْدُوب إِلَيْهِ
أَيْضا. وَمِنْهَا: ترك الْأَذَى، فَفِي حَدِيث أبي
أَيُّوب: (وَلم يؤذ أحدا) . فَإِن قلت: قَوْله: (فَلَا
يفرق بَين اثْنَيْنِ) يُغني عَن هَذَا؟ قلت: الْأَذَى أَعم
من التَّفْرِيق بَين الِاثْنَيْنِ، فَيحْتَمل أَن يكون
الْأَذَى فِي الْمَسْجِد، وَفِي طَرِيق الْمَسْجِد، وَيدل
عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: (وَلم يتخط أحدا
وَلم يؤذ) ، والعطف يَقْتَضِي الْمُغَايرَة، فَهُوَ من ذكر
الْعَام بعد الْخَاص. وَمِنْهَا: الْمَشْي إِلَى
الْمَسْجِد، وَعَلِيهِ السكينَة. وَفِي حَدِيث أبي
أَيُّوب: (ثمَّ خرج وَعَلِيهِ السكينَة حَتَّى يَأْتِي
الْمَسْجِد) ، وَالْمرَاد بِهِ: التؤدة فِي مَشْيه إِلَى
الْجُمُعَة وتقصير الخطا. وَمِنْهَا: الدنو من الإِمَام،
كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه، ثمَّ المُرَاد بالدنو من الإِمَام هَل هُوَ
حَالَة الْخطْبَة أَو حَالَة الصَّلَاة إِذا تبَاعد مَا
بَين الْمِنْبَر والمصلى مثلا؟ الظَّاهِر أَن المُرَاد
حِينَئِذٍ الدنو مِنْهُ فِي حَالَة الْخطْبَة لسماعها،
وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (ثمَّ دنا حَيْثُ
يسمع خطْبَة الإِمَام) ، والْحَدِيث ضَعِيف. وَمِنْهَا:
ترك اللَّغْو، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر، وَعند أبي
دَاوُد: (ثمَّ لم يتخط رِقَاب النَّاس وَلم يلغ عِنْد
الموعظة كَانَت كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَمن لَغَا وتخطى
رِقَاب النَّاس كَانَت لَهُ ظهرا) . وَفِي حَدِيث أبي
طَلْحَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) (وأنصت وَلم
يلغ فِي يَوْم الْجُمُعَة) الحَدِيث. واللغو قد يكون
بِغَيْر الْكَلَام، كمس الْحَصَى وتقليبه بِحَيْثُ يشغل
سَمعه وفكره، وَفِي بعض الْأَحَادِيث: (وَمن مس الْحَصَى
فقد لَغَا) . وَمِنْهَا: الِاسْتِمَاع، وَهُوَ إِلْقَاء
السّمع لما يَقُوله الْخَطِيب. فَإِن قلت: الأنصات يُغني
عَنهُ؟ قلت: لَا لِأَن الانصات ترك الْكَلَام،
وَالِاسْتِمَاع مَا ذَكرْنَاهُ، وَقد يستمع وَلَا ينصت
بِأَن يلقِي سَمعه لما يَقُوله وَهُوَ يتَكَلَّم بِكَلَام
يسير أَو يكون قوي الْحَواس بِحَيْثُ لَا يشْتَغل
بالاستماع عَن الْكَلَام، وَلَا بالْكلَام عَن
الِاسْتِمَاع، فالكمال الْجمع بَين الْإِنْصَات
وَالِاسْتِمَاع.
قَوْله: (مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى) أَي:
مَا بَين يَوْم الْجُمُعَة هَذَا وَبَين يَوْم الْجُمُعَة
الْأُخْرَى. قَوْله: (الْأُخْرَى) يحْتَمل الْمَاضِيَة
قبلهَا والمستقبلة بعْدهَا، لِأَن الْأُخْرَى تَأْنِيث
الآخر بِفَتْح الْخَاء لَا بِكَسْرِهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب الْغسْل
يَوْم الْجُمُعَة، وَقَوله: (لَا يغْتَسل. .) إِلَى آخِره،
وَهُوَ مَحْمُول على الْغسْل الشَّرْعِيّ عِنْد جُمْهُور
الْعلمَاء، وَحكي عَن الْمَالِكِيَّة تجويزه بِمَاء
الْورْد، وَيَردهُ قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
(الصَّحِيح) (من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة غسل الْجَنَابَة)
. وَفِيه: اسْتِحْبَاب تنظيف ثِيَابه يَوْم الْجُمُعَة.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب الادهان والتطيب. وَفِيه: كَرَاهَة
التخطي يَوْم الْجُمُعَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: أكره
التخطي إلاّ لمن لَا يجد السَّبِيل إِلَى الْمصلى إلاّ
بذلك، وَكَانَ مَالك لَا يكره التخطي إلاّ إِذا كَانَ
الإِمَام على الْمِنْبَر. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة
التَّنَفُّل قبل صَلَاة الْجُمُعَة بِمَا شَاءَ، لقَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلى مَا كتب لَهُ) . وَفِيه:
وجوب الْإِنْصَات لوُرُود الْأَمر بذلك، وَاخْتلف
الْعلمَاء فِي الْكَلَام: هَل هُوَ حرَام أم مَكْرُوه
كَرَاهَة تَنْزِيه؟ وهما قَولَانِ للشَّافِعِيّ قديم
وجديد، قَالَ القَاضِي: قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة
وَعَامة الْفُقَهَاء: يجب الْإِنْصَات للخطبة. وَحكي عَن
الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ: أَنه لَا يجب إلاّ إِذا تلى
فِيهَا الْقُرْآن، وَاخْتلفُوا إِذا لم يسمع الإِمَام هَل
يلْزمه الْإِنْصَات كَمَا لَو سَمعه؟ فَقَالَ الْجُمْهُور:
يلْزمه. وَقَالَ النَّخعِيّ وَأحمد وَالشَّافِعِيّ، فِي
أحد قوليه: لَا يلْزمه. وَلَو لَغَا الإِمَام هَل يلْزمه
الْإِنْصَات أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ. وَفِيه: أَن
الْمَغْفِرَة مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى،
مَشْرُوطَة بِوُجُود مَا تقدم من الْأُمُور السَّبْعَة
الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث فَإِن قلت: فِي حَدِيث
نُبَيْشَة: (يكون كَفَّارَة للْجُمُعَة الَّتِي تَلِيهَا)
، فَمَا وَجه الْجمع بَين الْحَدِيثين؟ قلت: يحْتَمل أَن
يحمل الحديثان على حَالين، فَإِن كَانَت لَهُ ذنُوب فِي
الْجُمُعَة الَّتِي قبلهَا كفرت مَا قبلهَا، فَإِن لم تكن
لَهُ ذنُوب فِيهَا بِأَن حفظ فِيهَا أَو كفرت بِأَمْر آخر
إِمَّا بِالْأَيَّامِ الثَّلَاثَة الزَّائِدَة على
الْأُسْبُوع الَّتِي عينهَا فِي الحَدِيث: (وَزِيَادَة
ثَلَاثَة أَيَّام) ، فتكفر عَنهُ ذنُوب الْجُمُعَة
الْمُسْتَقْبلَة. فَإِن قلت: تَكْفِير الذُّنُوب
الْمَاضِيَة: بِالْحَسَنَاتِ وبالتوبة وبتجاوز الله
تَعَالَى، فَكيف يعقل تَكْفِير الذَّنب قبل وُقُوعه؟ قلت:
المُرَاد عدم الْمُؤَاخَذَة بِهِ إِذا وَقع، وَمِنْه مَا
ورد فِي مغْفرَة مَا تقدم من الذَّنب وَمَا تَأَخّر،
وَمِنْه حَدِيث أبي قَتَادَة فِي (صَحِيح مُسلم) : (صِيَام
يَوْم عَرَفَة احتسب على الله أَن يكفر السّنة الَّتِي
قبله وَالسّنة الَّتِي بعده) .
(6/176)
884 - حَدثنَا أبُو اليَمَانِ قَالَ
أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ طاوُوسٌ قُلْتُ
لابنِ عَبَّاسٍ ذكَرُوا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قالَ اغْتَسِلُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا
رُؤوسَكُمْ وَإنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبا وَأصِيبُوا مِنَ
الطِّيبِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أمَّا الغُسْلُ فَنَعَمْ
وأمَّا الطِّيبُ فَلاَ أدْرِي (الحَدِيث 884 طرفه فِي:
885) .
لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث ذكر الدّهن ليطابق
التَّرْجَمَة، وَلَكِن تَأتي الْمُطَابقَة من وَجه آخر،
وَهُوَ أَن الْعَادة اسْتِعْمَال الدّهن بعد غسل الرَّأْس،
فَكَأَن هَذَا أشعر بِهِ، وَوجه آخر: أَن الدّهن ذكر فِي
حَدِيث طَاوُوس هَذَا فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن ميسرَة،
وَإِنَّمَا الزُّهْرِيّ الَّذِي لم يذكرهُ، وَزِيَادَة
الثِّقَة الْحَافِظ مَقْبُولَة، والْحَدِيث وَاحِد،
فَكَأَنَّهُ مَذْكُور أَيْضا فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ
تَقْديرا وَإِن لم يكن صَرِيحًا.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الْيَمَان هُوَ
الحكم بن نَافِع غَالِبا يروي عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة
عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن طَاوُوس.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد
بن يحيى بن عبد الله عَن أبي الْيَمَان بِهِ.
قَوْله: (ذكرُوا) ، لم يسم طَاوُوس من حَدثهُ بذلك،
وَالظَّاهِر أَنه أَبُو هُرَيْرَة، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى
من طَرِيق عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن أبي
هُرَيْرَة نَحوه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة
وَابْن حبَان. قَوْله: (واغسلوا رؤوسكم) إِمَّا تَأْكِيد
(لاغتسلوا) من بَاب ذكر الْخَاص بعد الْعَام، وَبَيَان
لزِيَادَة الاهتمام بِهِ، أَو يُرَاد بِالْأولِ: الْغسْل
الْمَشْهُور الَّذِي هُوَ كَغسْل الْجَنَابَة،
وَبِالثَّانِي: التَّنْظِيف من الْأَذَى وَاسْتِعْمَال
الدّهن. قَوْله: (وَإِن لم تَكُونُوا جنبا) ، عطف على
مُقَدّر تَقْدِيره: إِن كُنْتُم جنبا وَإِن لم تَكُونُوا
جنبا، وَلَفظ الْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرد والمثنى
وَالْجمع والمذكر والمؤنث، فَلذَلِك وَقع خَبرا لقَوْله:
(وَإِن لم تَكُونُوا) . قَوْله: (وأصيبوا) أَمر من
الْإِصَابَة، وَكلمَة: من، فِي: من الطّيب، للتَّبْعِيض
قَائِم مقَام الْمَفْعُول أَي: أصيبوا بعض الطّيب،
وَمَعْنَاهُ: استعملوا. قَوْله: (فَلَا أَدْرِي) أَي:
فَلَا أعلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَه، وَهَذَا يُخَالف مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من
رِوَايَة صَالح بن أبي الْأَخْضَر عَن الزُّهْرِيّ عَن
عبيد بن السباق عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (من جَاءَ
إِلَى الْجُمُعَة فليغتسل وَإِن كَانَ لَهُ طيب فليمس
مِنْهُ) ، وَصَالح ضَعِيف، وَخَالفهُ مَالك فَرَوَاهُ عَن
الزُّهْرِيّ عَن عبيد بن سباق مُرْسلا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن الِاغْتِسَال يَوْم
الْجُمُعَة للجنابة يجوز عَن الْجُمُعَة، سَوَاء نَوَاه
للْجُمُعَة أَو لَا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَكثر من
يحفظ فِيهِ من أهل الْعلم يَقُولُونَ: يجزىء غسلة وَاحِدَة
للجنابة وَالْجُمُعَة. وَقَالَ ابْن بطال: روينَاهُ عَن
ابْن عمر وَمُجاهد وَمَكْحُول وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر، وَقَالَ أَحْمد: أَرْجُو
أَن يجْزِيه، وَهُوَ قَول أَشهب وَغَيره، وَبِه قَالَ
الْمُزنِيّ. وَعَن أَحْمد: أَنه لَا يجْزِيه عَن غسل
الْجَنَابَة حَتَّى ينويها، وَهُوَ قَول مَالك فِي
(الْمُدَوَّنَة) : وَذكره ابْن عبد الحكم، وَذكر ابْن
الْمُنْذر عَن بعض ولد أبي قَتَادَة أَنه قَالَ: من اغْتسل
للجنابة يَوْم الْجُمُعَة اغْتسل للْجُمُعَة.
885 - حدَّثنا إبْرَاهيمُ بنُ مُوساى قَالَ أخبرنَا
هِشَامٌ أنَّ ابنَ جُريْجٍ أخْبَرَهُمْ قالَ أخبرَنِي
إبْرَاهيمُ بنُ مَيْسَرَةَ عنْ طَاوُسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الغُسْلِ يَوْمَ
الجُمُعَةِ فَقُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ أيَمَسُّ طِيبا أوْ
دُهْنا إنْ كانَ عِنْدِ أهْلِهِ فقالَ لاَ أعْلَمُهُ.
(انْظُر الحَدِيث 884) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى
الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ الْحَافِظ. الثَّانِي:
هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء،
مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة بِالْيمن. الثَّالِث:
عبد الْملك بن جريج. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن ميسرَة،
بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
السِّين وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ: الطَّائِفِي
الْمَكِّيّ التَّابِعِيّ. الْخَامِس: طَاوُوس
الْيَمَانِيّ. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع
وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي
موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ
عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي
وصنعاني ومكي وطائفي ويماني على نسق مَذْكُور فِيهِ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن الْحسن بن عَليّ
وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَعَن هَارُون بن عبد الله، الْكل عَن ابْن جريج.
قَوْله: (أيمس طيبا؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام
(6/177)
وطيبا. مَنْصُوب بقوله: (يمس) . قَوْله:
(فَقَالَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس. قَوْله: (لَا أعلمهُ) أَي:
لَا أعلم أَنه قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَلَا كَونه مَنْدُوبًا.
7 - (بابٌ يَلْبَسُ أحْسَنَ مَا يَجِدُ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته يلبس من يَجِيء إِلَى
الْجُمُعَة أحسن مَا يجد من الثِّيَاب.
886 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ
عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رأى حُلَّةً سِبَرَاءَ عِنْدَ بابِ
المَسْجِدِ فقالَ يَا رسُولَ الله لَوِ اشْتَرَيْتَ هاذِهِ
فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وللْمِوَفدِ إِذا
قَدِمُوا عَلَيْكَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إنَّمَا يَلْبَسُ هاذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي
الآخِرَةِ ثُمَّ جاءَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنْهَا حُلَلٌ فأعْطَى عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ مِنْهَا حُلَّةً فقالَ عُمَرُ يَا
رَسولَ الله كَسَوْتَنِيهَا وقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ
عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ قالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إنِّي لَمْ أكْسُكهَا لِتَلْبِسَهَا فَكَسَاهَا
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أَخا لَهُ
بِمَكَّةَ مُشْرِكا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدل على
اسْتِحْبَاب التجمل يَوْم الْجُمُعَة، والتجمل يكون
بِأَحْسَن الثِّيَاب، وإنكاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يكن لأجل التجمل
بِأَحْسَن الثِّيَاب، وَإِنَّمَا كَانَ لأجل تِلْكَ
الْحَالة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عمر بشرائها من
الْحَرِير، وَبِهَذَا يرد على الدَّاودِيّ قَوْله: لَيْسَ
فِي الحَدِيث دلَالَة على التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ لَا
يلْزم أَن تكون الدّلَالَة صَرِيحًا، وَلم يلْتَزم
البُخَارِيّ بذلك، وَقد جرت عَادَته فِي التراجم بِمثل
ذَلِك، وبأبعد مِنْهُ فِي الدّلَالَة عَلَيْهَا. فَافْهَم.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ: أما رِجَاله فَإِنَّهُم قد
تكَرر ذكرهم خُصُوصا على هَذَا النسق، وَهَذَا السَّنَد من
أَعلَى الْأَسَانِيد وأحسنها: مَالك عَن نَافِع عَن ابْن
عمر.
وَأما البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أخرجه فِي الْهِبَة أَيْضا
عَن القعْنبِي، وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن يحيى ابْن
يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، الْكل عَن
مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ من مُسْند ابْن
عمر، وَجعله مُسلم من مُسْند عمر لَا ابْنه.
وَأما مَعْنَاهُ فَقَوله: (حلَّة) : هِيَ الْإِزَار
والرداء، لَا تكون حلَّة حَتَّى تكون ثَوْبَيْنِ، سَوَاء
كَانَا من برد أَو غَيره. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا تكون
حلَّة حَتَّى تكون جَدِيدَة، سميت بذلك لحلها عَن طيها،
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْحلَل برود الْيمن، وَتجمع على:
حَلَال أَيْضا وَالْأَشْهر: حلل. قَوْله: (سيراء) ،
بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف
بعْدهَا رَاء ممدودة، قَالَ ابْن قرقول: هُوَ الْحَرِير
الصافي، فَمَعْنَاه: حلَّة حَرِير، وَعَن مَالك: السيراء
شَيْء من حَرِير، وَعَن ابْن الْأَنْبَارِي: السيراء
الذَّهَب، وَقيل: هُوَ نبت ذُو ألوان وخطوط ممتدة
كَأَنَّهَا السيور ويخالطها حَرِير، وَقَالَ الْفراء: هِيَ
نبت، وَهِي أَيْضا ثِيَاب من ثِيَاب الْيمن. وَفِي
(الصِّحَاح) : برود فِيهَا خطوط صفر. وَفِي (الْمُحكم) :
قيل هُوَ ثوب مسير فِيهِ خطوط يعْمل من القز. وَفِي
(الْجَامِع) : قيل هِيَ ثِيَاب يخالطها حَرِير. وَفِي
(الْعين) : يُقَال: سيرت الثَّوْب والسهم جعلته خُطُوطًا.
وَفِي (المغيث) : برود يخالطها حَرِير كالسيور، فَهُوَ
فعلاء من السّير وَهُوَ: الْقد. وَقَالَ الطقرطبي: هِيَ
المخططة بالحرير، ذكره الْخَلِيل والأصمعي، ثمَّ إِعْرَاب:
حلَّة سيراء، وَرَوَاهُ بَعضهم على الوصفية. قلت: فعلى
هَذَا: حلَّة، بِالتَّنْوِينِ، وسيراء، صفته وَقيل: إِن
سيراء، بدل من: حلَّة، وَلَيْسَ بِصفة. وَقَالَ
الْخطابِيّ: حلَّة سيراء كناقة عشراء قلت: يَعْنِي
بِالتَّنْوِينِ، وَلَكِن أهل الْعَرَبيَّة يختارون
الْإِضَافَة. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: لم يَأْتِ فعلاء صفة،
وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذِه اللَّفْظَة. فَقَالَ
أَبُو عمر: قَالَ أهل الْعلم: إِنَّهَا كَانَت حلَّة من
حَرِير، وَجَاء: من استبرق وَهُوَ الْحَرِير الغليظ،
وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ رَقِيق الْحَرِير، وَأهل
اللُّغَة على خِلَافه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (من ديباج
أَو خَز) . وَفِي رِوَايَة: (حلَّة سندس) ، وَكلهَا
دَالَّة على أَنَّهَا كَانَت حَرِيرًا مَحْضا. وَهُوَ
الصَّحِيح لِأَنَّهُ هُوَ الْمحرم. وَأما الْمُخْتَلط
فَلَا يحرم إلاّ أَن يكون الْحَرِير أَكثر وزنا عِنْد
الشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة الْعبْرَة للحمة
كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. قَوْله: (لَو اشْتريت هَذِه؟)
يجوز أَن تكون كلمة: لَو، للشّرط، وَيكون جزاؤها محذوفا
تَقْدِيره: لَكَانَ حسنا، وَيجوز أَن تكون لِلتَّمَنِّي
فَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَزَاء. قَوْله: (فلبستها يَوْم
الْجُمُعَة وللوفد؟) وَفِي رِوَايَة
(6/178)
للْبُخَارِيّ: (فلبستها للعيد وللوفود) ،
وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي: فلبستها للْجُمُعَة والوفود)
، وَهُوَ جمع: وَفد، والوفد جمع: وَافد، وَهُوَ القادم
رَسُولا وزائرا منتجعا أَو مسترفدا. قَوْله: (إِنَّمَا
يليس هَذِه من لَا خلاق لَهُ) ، وَفِي رِوَايَة: (إِنَّمَا
يلبس الْحَرِير) ، ويلبس بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة،
والخلاق: الْحَظ والنصيب من الْخَيْر وَالصَّلَاح. وَقَالَ
ابْن سَيّده: لَا خلاق لَهُ، يَعْنِي: لَا رَغْبَة لَهُ
فِي الْخَيْر. وَقَالَ عِيَاض: وَقيل: الْحُرْمَة، وَقيل:
الدّين، فعلى قَول من يَقُول: النَّصِيب والحظ، يكون
مَحْمُولا على الْكفَّار، وعَلى الْقَوْلَيْنِ الْأَخيرينِ
يتَنَاوَل الْمُسلم وَالْكَافِر. قَوْله: (مِنْهَا) ، أَي:
من الْحلَّة السيراء، وَالضَّمِير فِي: مِنْهَا، الثَّانِي
يرجع إِلَى الْحلَل. قَوْله: (فِي حلَّة عُطَارِد) ، بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر
الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ عُطَارِد بن
حَاجِب بن زُرَارَة بن زيد بن عبد الله ابْن درام بن
حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَفد على
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة تسع وَعَلِيهِ
الْأَكْثَرُونَ، وَقيل: سنة عشر، وَهُوَ صَاحب الديباج
الَّذِي أهداه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ
كسْرَى كَسَاه إِيَّاه فَعجب مِنْهُ الصَّحَابَة، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لمناديل سعد بن
معَاذ فِي الْجنَّة خير من هَذَا) . وَقَالَ الذَّهَبِيّ:
لَهُ وفادة مَعَ الْأَقْرَع والزبرقان، ذكره فِي (كتاب
الصَّحَابَة) وَكَانَ عُطَارِد يُقيم بِالسوقِ الْحلَل
أَي: يعرضهَا للْبيع، فأضاف الْحلَّة إِلَيْهِ بِهَذِهِ
الملابسة، وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ أَيُّوب: عَن ابْن
سِيرِين: حلَّة عُطَارِد أَو لبيد على الشَّك. قَوْله:
(فكساها عمر) ، أَي: فكسا الْحلَّة الَّتِي أرسلها
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَخا لَهُ بِمَكَّة
مُشْركًا) وانتصاب: أَخا، على أَنه مفعول ثَان: لكسا،
يُقَال: كسوته جُبَّة، فيتعدى إِلَى مفعولين أَحدهمَا غير
الأول. قَوْله: (لَهُ) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة
لقَوْله: (أَخا) تَقْدِيره أَخا كَائِنا لَهُ، وَكَذَلِكَ:
بِمَكَّة، فِي مَحل النصب، ومشركا أَيْضا نصب على أَنه صفة
بعد صفة. قيل: إِنَّه أَخُوهُ من أمه. وَقيل: أَخُوهُ من
الرضَاعَة. وَفِي النَّسَائِيّ و (صَحِيح أبي عوَانَة) :
(فكساها أَخا لَهُ من أمه مُشْركًا) ، واسْمه: عُثْمَان
ابْن حَكِيم، وَقد اخْتلف فِي إِسْلَامه، قَالَه بَعضهم.
قلت: وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: أرسل بهَا عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى أَخ لَهُ من أهل مَكَّة قبل
أَن يسلم، وَهَذَا يدل على إِسْلَامه بعد ذَلِك.
وَأما الَّذِي يُسْتَفَاد مِنْهُ: فعلى أوجه: الأول: فِيهِ
دلَالَة على حُرْمَة الْحَرِير للرِّجَال، قَالَ
الْقُرْطُبِيّ، رَحمَه الله: اخْتلف النَّاس فِي لِبَاس
الْحَرِير، فَمن مَانع وَمن مجوز على الْإِطْلَاق،
وَالْجُمْهُور من الْعلمَاء على مَنعه للرِّجَال، وَقد
صَحَّ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (شققها خمرًا
بَين نِسَائِك) ، وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (حرم لِبَاس
الْحَرِير وَالذَّهَب على ذُكُور أمتِي وَأحل لإناثهم) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح: (وَعَن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه خطب بالجابية
فَقَالَ: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الْحَرِير إلاّ مَوضِع إِصْبَعَيْنِ أَو ثَلَاث أَو أَربع)
. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز البيع وَالشِّرَاء على أَبْوَاب
الْمَسَاجِد. الثَّالِث: فِيهِ مُبَاشرَة الصَّالِحين
والفضلاء البيع وَالشِّرَاء،. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز ملك
مَا لَا يجوز لبسه لَهُ، وَجَوَاز هديته وَتَحْصِيل المَال
مِنْهُ، وَقد جَاءَ: (لتصيب بهَا مَالا) . الْخَامِس:
فِيهِ مَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ من
السخاء والجود وصلَة الإخوان وَالْأَصْحَاب بالعطاء.
السَّادِس: فِيهِ صلَة للأقارب الْكفَّار وَالْإِحْسَان
إِلَيْهِم، وَجَوَاز الْهَدِيَّة إِلَى الْكَافِر.
السَّابِع: فِيهِ جَوَاز إهداء الْحَرِير للرِّجَال
لِأَنَّهَا لَا تتَعَيَّن للبسهم. فَإِن قلت: يُؤْخَذ
مِنْهُ عدم مُخَاطبَة الْكفَّار بالفروع حَيْثُ كَسَاه
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِيَّاه؟ قلت: هَذِه
حجَّة الْحَنَفِيَّة، فَإِن الْكفَّار غير مخاطبين
بالشرائع عِنْدهم. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: يُؤْخَذ
مِنْهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْإِذْن، وَإِنَّمَا
هُوَ الْهَدِيَّة إِلَى الْكَافِر، وَقد بعث الشَّارِع
ذَلِك إِلَى عمر وَعلي وَأُسَامَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَلم يلْزم مِنْهُ إِبَاحَة لبسهَا لَهُم، بل صرح
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ إِنَّمَا اعطاها
لينْتَفع بهَا بِغَيْر اللّبْس، حَيْثُ قَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (تبيعها وتصيب بهَا حَاجَتك) . الثَّامِن:
فِيهِ عرض الْمَفْضُول على الْفَاضِل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
من مَصَالِحه الَّتِي لَا يذكرهَا. التَّاسِع: فِيهِ أَن
من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا من الرِّجَال وَالنِّسَاء
ظَاهره أَنه يحرم من ذَلِك فِي الْآخِرَة، لِأَن كلمة: من،
تدل على الْعُمُوم وتتناول الذُّكُور وَالْإِنَاث، لَكِن
الحَدِيث مَخْصُوص بِالرِّجَالِ لقِيَام دَلَائِل أُخْرَى
بإباحته للنِّسَاء، وَأما مَسْأَلَة الحرمان فِي الْآخِرَة
فَمنهمْ من حمله على حَقِيقَته، وَزعم أَن لابسه يحرم فِي
الْآخِرَة من لبسه سَوَاء تَابَ عَن ذَلِك أَو لَا، جَريا
على الظَّاهِر، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه لَا يحرم إِذا
تَابَ وَمَات على تَوْبَته. الْعَاشِر: فِيهِ اسْتِحْبَاب
لبس الثِّيَاب الْحَسَنَة يَوْم الْجُمُعَة، وروى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث ابْن سَلام، قَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا على أحدكُم لَو اشْترى
ثَوْبَيْنِ ليَوْم الْجُمُعَة سوى ثوبي مهنته؟) . وروى
ابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول
(6/179)
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا على
أحدكُم، أَن وجد سَعَة أَن يتَّخذ ثَوْبَيْنِ للْجُمُعَة
سوى ثوبي مهنته؟) وروى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد على شَرط
مُسلم، عَن أبي سعيد مَرْفُوعا: (إِن من الْحق على
الْمُسلم إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة السِّوَاك، وَأَن
يلبس من صَالح ثِيَابه، وَأَن يطيب بِطيب إِن كَانَ) .
8 - (بابُ السِّوَاكِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال السِّوَاك يَوْم
الْجُمُعَة، والسواك إسم لما يدلك بِهِ الْأَسْنَان من
العيدان، يُقَال: ساك فَاه يسوكه إِذا دلكه بِالسِّوَاكِ،
فَإذْ لم يذكر الْفَم. يُقَال: استاك، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: السِّوَاك المسواك.
وقَالَ أبُو سَعِيدٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَسْتَن
أَبُو سعيد هُوَ الْخُدْرِيّ، واسْمه سعد بن مَالك،
وَهَذَا تَعْلِيق وَهُوَ طرف من حَدِيث أبي سعيد ذكره فِي:
بَاب الطّيب للجمة، وَفِي الحَدِيث ذكر الْجُمُعَة، وَبِه
يَقع التطابق بَين هَذَا الْمُعَلق والترجمة. قَوْله:
(يستن) من الاستنان وَهُوَ الاستياك.
887 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قالَ أخْبَرَنَا
مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَوْلاَ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي
أوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كلِّ
صَلاةٍ. (الحَدِيث 887 طرفه فِي: 7240) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السِّوَاك عِنْد كل
صَلَاة، وَصَلَاة الْجُمُعَة من كل صَلَاة.
وَرِجَاله: قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد عبد
الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز،
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة جَعْفَر بن
ربيعَة بِلَفْظ: (على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ) ، وَعند
النَّسَائِيّ من رِوَايَة قُتَيْبَة عَن مَالك: (مَعَ كل
صَلَاة) ، وَزعم أَبُو عمر أَن رِوَايَة عبد الله بن
يُوسُف عَن مَالك: (لَوْلَا أَن أشق على الْمُؤمنِينَ أَو
على النَّاس لأمرتهم بِالسِّوَاكِ) ، وَكَذَا قَالَه
القعْنبِي وَأَيوب بن صَالح ومعن، وَزَاد: (عِنْد كل
صَلَاة) ، وَكَذَلِكَ قَالَ قُتَيْبَة فِيهِ: (عِنْد كل
صَلَاة) ، وَلم يقل: أَو على النَّاس، وَذكر أَبُو
الْعَبَّاس أَحْمد بن طَاهِر فِي آخر كِتَابه (أَطْرَاف
الْمُوَطَّأ) أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: (لَوْلَا أَن يشق
على أمته لأمرهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كل وضوء) ، وَأَنه
مَوْقُوف عِنْد يحيى بن يحيى وَطَائِفَة، وَرَفعه روح
وَسَعِيد بن عفير ومطرف وَجَمَاعَة عَن مَالك، قَالَ،
وَرِوَايَة معن ومطرف وَجُوَيْرِية: (مَعَ كل صَلَاة) ،
وَأما الدَّارَقُطْنِيّ فَذكر فِي (الْمُوَطَّأ) : أَن
ابْن يُوسُف وَمُحَمّد بن يحيى قَالَا: (لَوْلَا أَن أشق
على أمتِي أَو على النَّاس) وَقَالَ معن: (على
الْمُؤمنِينَ أَو على النَّاس لأمرتهم بِالسِّوَاكِ) ،
وَزَاد معن: (عِنْد كل صَلَاة) . انْتهى. وَكَأن قَول
الدَّارَقُطْنِيّ هُوَ الصَّوَاب، كَمَا ذكره البُخَارِيّ
وَغَيره، وَادّعى ابْن التِّين أَنه لَيْسَ فِي هَذَا
الحَدِيث فِي (الْمُوَطَّأ) : (مَعَ كل صَلَاة) ، وَلَا
قَوْله: (أَو على النَّاس) ، وَقد ظهر لَك خِلَافه،
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَفِي الْبَاب عَن سَبْعَة
عشر صحابيا ذكرهم التِّرْمِذِيّ. فَإِن قلت: كَيفَ
التَّوْفِيق بَين رِوَايَة: عِنْد كل وضوء، وَرِوَايَة:
عِنْد كل صَلَاة؟ قلت: السِّوَاك الْوَاقِع عِنْد الْوضُوء
وَاقع للصَّلَاة لِأَن الْوضُوء مشرع لَهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَوْلَا) كلمة لربط امْتنَاع
الثَّانِيَة لوُجُود الأولى، نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك،
أَي: لَوْلَا زيد مَوْجُود، وَالْمعْنَى هَهُنَا، لَوْلَا
مَخَافَة أَن أشق لأمرتهم أَمر إِيجَاب، وإلاّ لانعكس
مَعْنَاهَا إِذْ الْمُمْتَنع: الْمَشَقَّة، وَالْمَوْجُود:
الْأَمر. وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: لَوْلَا، كلمة
تدل على انْتِفَاء الشَّيْء لثُبُوت غَيره، وَالْحق
أَنَّهَا مركبة من: لَو، الدَّالَّة على انْتِفَاء
الشَّيْء لانْتِفَاء غَيره، و: لَا، النافية، فَدلَّ
الحَدِيث على انْتِفَاء الْأَمر لثُبُوت الْمَشَقَّة،
لِأَن انْتِفَاء النَّفْي ثُبُوت، فَيكون الْأَمر منفيا
لثُبُوت الْمَشَقَّة. قَوْله: (أَن أشق) كلمة: أَن،
مَصْدَرِيَّة، وَهِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء،
وَخَبره مَحْذُوف وَاجِب الْحَذف، وَالتَّقْدِير: لَوْلَا
الْمَشَقَّة مَوْجُودَة لأمرتهم. قَوْله: (أَو على
النَّاس) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (بِالسِّوَاكِ) أَي:
بِاسْتِعْمَال السِّوَاك، لِأَن السِّوَاك آلَة.
ذكر الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِهِ: وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: ان اسْتِعْمَال السِّوَاك، هَل هُوَ وَاجِب أم سنة؟
فَذهب أَكثر أهل الْعلم إِلَى عدم وُجُوبه، بل ادّعى
بَعضهم فِيهِ الْإِجْمَاع، وَحكى الشَّيْخ أَبُو حَامِد
وَالْمَاوَرْدِيّ عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه قَالَ:
(6/180)
هُوَ وَاجِب لكل صَلَاة فَمن تَركه
عَامِدًا بطلت صلَاته، وَعَن دَاوُد: أَنه وَاجِب وَلكنه
لَيْسَ بِشَرْط، وَاحْتج من قَالَ بِوُجُوبِهِ بورود
الْأَمر بِهِ، فَعِنْدَ ابْن مَاجَه فِي حَدِيث أبي
أُمَامَة مَرْفُوعا: (تسوكوا) ، وَلأَحْمَد نَحوه من
حَدِيث الْعَبَّاس، وَقَالُوا: فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة
الْمَذْكُور دَلِيل على أَن الْأَمر للْوُجُوب من
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه نفي الْأَمر مَعَ ثُبُوت
الندبية، وَلَو كَانَ للنَّدْب لما جَازَ النَّفْي.
وَالْآخر: أَنه جعل الْأَمر مشقة عَلَيْهِم، وَذَلِكَ
إِنَّمَا يتَحَقَّق أذا كَانَ الْأَمر للْوُجُوب، إِذْ
النّدب لَا مشقة فِيهِ لِأَنَّهُ جَائِز التّرْك. قلت:
الْجَواب أَن شَيْئا من الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة لم
يثبت، وَثُبُوت الندبية بِدَلِيل آخر، والْحَدِيث نفي
الْفَرْضِيَّة بِمَا ذكرنَا والسنية أَو الندبية بدلائل
أُخْرَى. وَقَالَ الشَّافِعِي: فِيهِ دَلِيل على أَن
السِّوَاك لَيْسَ بِوَاجِب، لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا
لأمرهم بِهِ، شقّ عَلَيْهِم أَو لم يشق، وَالْعجب من صَاحب
(الْهِدَايَة) يَقُول: السِّوَاك سنة لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يواظب عَلَيْهِ، وَلم يذكر شَيْئا من
الْأَحَادِيث الدَّالَّة على الْمُوَاظبَة، وَقد علم أَن
مواظبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فعل شَيْء
يدل على أَن ذَلِك وَاجِب، وأعجب مِنْهُ مَا قَالَه
الشُّرَّاح (للهداية) : أَن الْمُوَاظبَة مَعَ التّرْك
دَلِيل السّنيَّة، وَقد دلّ على تَركه حَدِيث
الْأَعرَابِي، فَإِنَّهُ لم ينْقل فِيهِ تَعْلِيم
السِّوَاك، فَلَو كَانَ وَاجِبا لعلمه. قلت: فِيهِ نظر من
وَجْهَيْن. الأول: أَنهم لم يَأْتُوا بِحَدِيث فِيهِ
تَصْرِيح بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَركه فِي
الْجُمْلَة. وَالثَّانِي: أَن حَدِيث الْأَعرَابِي لَا يتم
بِهِ استدلالهم، لِأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي السِّوَاك،
فَقَالَ بَعضهم: هُوَ من سنة الدّين، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ
من سنة الْوضُوء، وَقَالَ آخَرُونَ: من سنة الصَّلَاة.
وَقَول من قَالَ: إِنَّه من سنة الدّين أقوى، نقل ذَلِك
عَن أبي حنيفَة. وَفِيه أَحَادِيث تدل على ذَلِك. مِنْهَا:
مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي
أَيُّوب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَربع من سنَن
الْمُرْسلين: الْخِتَان والسواك والتعطر وَالنِّكَاح)
وَرَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة وَغَيره من حَدِيث فليح بن
عبد الله عَن أَبِيه عَن جده نَحوه، وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس. وَمِنْهَا: مَا
رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا: (عشر من الْفطْرَة) فَذكر فِيهَا السِّوَاك.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: (الطهارات أَربع: قصّ الشَّارِب وَحلق
الْعَانَة وتقليم الأظافر والسواك) ، وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي بَيَان وَقت الاستياك. فَعِنْدَ
أَكثر أَصْحَابنَا وقته وَقت الْمَضْمَضَة، وَذكر صَاحب
(الْمُحِيط) وَغَيره: إِن وقته وَقت الْوضُوء، إِلَّا أَن
الْمَنْقُول عَن أبي حنيفَة أَنه من سنَن الدّين،
فَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي فِيهِ كل الْأَحْوَال، وَذكر فِي
(كِفَايَة المنتهي) : أَنه يستاك قبل الْوضُوء، وَعند
الشَّافِعِي: هُوَ سنة الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَعند
الْوضُوء وَعند كل حَال يتَغَيَّر فِيهَا الْفَم.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي كَيْفيَّة الاستياك: قَالَ
أَصْحَابنَا يستاك عرضا لَا طولا، عِنْد مضمضة الْوضُوء.
وَأخرج أَبُو نعيم من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك عرضا لَا طولا) . وَفِي
(مَرَاسِيل) أبي دَاوُد (إِذا استكتم فاستاكوا عرضا)
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى بهز، قَالَ:
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك عرضا) .
وَعَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنه يمر السِّوَاك على طول
الْأَسْنَان وعرضها، فَإِن اقْتصر على أَحدهمَا فالعرض
أولى. وَقَالَ غَيره من أَصْحَاب الشَّافِعِي: يستاك عرضا
لَا طولا، وَيَأْخُذ السِّوَاك باليمنى، وَالْمُسْتَحب
فِيهِ ثَلَاث بِثَلَاث مياه.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي أَنه لَا تَقْدِير فِي السِّوَاك،
بل يستاك إِلَى أَن يطمئن قلبه بِزَوَال النكهة واصفرار
السن، وَيَقُول عِنْد الاستياك، اللَّهُمَّ طهر فمي وَنور
قلبِي وطهر بدني وَحرم جَسَدِي على النَّار وأدخلني
بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين. وَفِي (الْمُحِيط) :
العلك للْمَرْأَة يقوم مقَام السِّوَاك لِأَن أسنانها
ضَعِيفَة يخَاف مِنْهَا السُّقُوط، وَهِي ينقي الْأَسْنَان
ويشد اللثة كالسواك.
الْوَجْه الْخَامِس: فِيمَن لَا يجد السِّوَاك يعالج
بالأصبع، لما روى الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث
أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يجزىء من السِّوَاك الْأَصَابِع) ،
وَضَعفه. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (قلت: يَا
رَسُول الله! الرجل يدهن فوه أيستاك؟ قاال: نعم. قلت:
كَيفَ يصنع؟ قَالَ: يدْخل إصبعه فِي فِيهِ) .
الْوَجْه السَّادِس: فِيمَا يستاك بِهِ وَمَا لَا يستاك
بِهِ: الْمُسْتَحبّ أَن يستاك بِعُود من أَرَاك، وروى
البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) وَغَيره من حَدِيث أبي خيرة
الصباحي: (كنت فِي الْوَفْد فزودنا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بالأراك، وَقَالَ: استاكوا بِهَذَا) . وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث معَاذ بن جبل،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (نعم السِّوَاك
الزَّيْتُون من شَجَرَة مباركة يطيب الْفَم وَيذْهب بالخفر
وَهُوَ سِوَاكِي وَسوَاك الْأَنْبِيَاء قبلي) . وروى
الْحَارِث فِي (مُسْنده) عَن ضَمرَة بن حبيب، قَالَ: (نهى
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن السِّوَاك
بِعُود الريحان، وَقَالَ: إِنَّه يُحَرك الجذام) .
الْوَجْه السَّابِع: فِي
(6/181)
الْحِكْمَة فِي الاستياك: قَالَ ابْن
دَقِيق الْعِيد: الْحِكْمَة فِي اسْتِحْبَاب الاستياك
عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة كَونهَا حَال تقرب إِلَى
الله تَعَالَى، فَاقْتضى أَن تكون حَال كَمَال ونظافة
إِظْهَارًا لشرف الْعِبَادَة. وَقد ورد من حَدِيث عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار مَا يدل على
أَنه لأمر يتَعَلَّق بِالْملكِ الَّذِي يستمع الْقُرْآن من
الْمُصَلِّي فَلَا يزَال يدنو مِنْهُ حَتَّى يضع فَاه على
فِيهِ، وروى أَبُو نعيم من حَدِيث جَابر برواة ثقاة: (إِذا
قَامَ أحدكُم من اللَّيْل يُصَلِّي فليستك، فَإِنَّهُ إِذا
قَامَ يُصَلِّي أَتَاهُ ملك فَيَضَع فَاه على فِيهِ فَلَا
يخرج شَيْء من فِيهِ إلاّ وَقع فِي الْملك) . وروى
الْقشيرِي بِلَا إِسْنَاد عَن أبي الدَّرْدَاء، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (عَلَيْكُم بِالسِّوَاكِ فَإِن فِي
السِّوَاك أَرْبعا وَعشْرين خصْلَة أفضلهَا أَن يرضى
الرَّحْمَن، وتضاعف صلَاته سبعا وَسبعين ضعفا، وَيُورث
السعَة والغنى ويطيب النكهة ويشد اللثة ويسكن الصداع
وَيذْهب وجع الضرس وتصافحه الْمَلَائِكَة لنُور وَجهه وبرق
أَسْنَانه) ،
الْوَجْه الثَّامِن: فِي فَضِيلَة السِّوَاك. مِنْهَا: مَا
رَوَاهُ أَحْمد وَابْن حبَان من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (السِّوَاك مطهرة للفم مرضاة للرب) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه:
(عَلَيْكُم بِالسِّوَاكِ فَإِنَّهُ مطهرة للفم مرضاة للرب)
. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد وَابْن خُزَيْمَة
وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن عدي
وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) وَأَبُو نعيم من حَدِيث
عُرْوَة عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (فضل الصَّلَاة الَّتِي يستاك لَهَا على الصَّلَاة
الَّتِي لَا يستاك لَهَا سَبْعُونَ ضعفا) . وَقَالَ أَبُو
عمر: فضل السِّوَاك مجمع عَلَيْهِ لَا اخْتِلَاف فِيهِ،
وَالصَّلَاة عِنْد الْجَمِيع بِهِ أفضل مِنْهَا
بِغَيْرِهِ، حَتَّى قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: هُوَ شطر
الْوضُوء، ويتأكد طلبه عِنْد إِرَادَة الصَّلَاة وَعند
الْوضُوء وَقِرَاءَة الْقُرْآن والاستيقاظ من النّوم وَعند
تغير الْفَم، وَيسْتَحب بَين كل رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة
اللَّيْل وَيَوْم الْجُمُعَة وَقبل النّوم وَبعد الْوتر
وَعند الْأكل فِي السحر.
الْوَجْه التَّاسِع: فِي حَدِيث الْبَاب بَيَان مَا كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ من الشَّفَقَة
على أمته لِأَنَّهُ لم يَأْمر بِالسِّوَاكِ على سَبِيل
الْوُجُوب مَخَافَة الْمَشَقَّة عَلَيْهِم.
الْوَجْه الْعَاشِر فِيهِ: جَوَاز الِاجْتِهَاد مِنْهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا لم ينزل عَلَيْهِ فِيهِ نَص،
لكَونه جعل الْمَشَقَّة سَببا لعدم أمره، فَلَو كَانَ
الحكم متوقفا على النَّص لَكَانَ سَبَب انْتِفَاء
الْوُجُوب عدم وُرُود النَّص لَا وجود الْمَشَقَّة، فَيكون
معنى قَوْله: (لأمرتهم) أَي: عَن الله بِأَنَّهُ وَاجِب.
قلت: هَذَا احْتِمَال بعيد، وَالظَّاهِر أَنه ترك الْأَمر
بِهِ لخوف الْمَشَقَّة، وَالْأَمر مِنْهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر من الله فِي الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ
لَا ينْطق عَن الْهوى.
الثَّانِي عشر: اسْتدلَّ بِهِ النَّسَائِيّ على
اسْتِحْبَاب السِّوَاك للصَّائِم بعد الزَّوَال لعُمُوم
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عِنْد كل صَلَاة) .
الثَّانِي عشر: اسْتدلَّ بِهَذِهِ اللَّفْظَة على
اسْتِحْبَاب السِّوَاك للفرائض والنوافل وَصَلَاة الْعِيد
وَالِاسْتِسْقَاء والكسوف والخسوف لاقْتِضَاء الْعُمُوم
ذَلِك.
الثَّالِث عشر: قَالَ الْمُهلب فِيهِ: إِن السّنَن
والفضائل ترْتَفع عَن النَّاس إِذا خشِي مِنْهَا الْحَرج
على النَّاس، وَإِنَّمَا أكد فِي السِّوَاك لمناجاة الرب
وتلقي الْمَلَائِكَة، فَلَزِمَ تَطْهِير النكهة وتطييب
الْفَم.
الرَّابِع عشر فِيهِ: إِبَاحَة السِّوَاك فِي الْمَسْجِد
لِأَن: عِنْد، تَقْتَضِي الظَّرْفِيَّة حَقِيقَة فتقتضي
اسْتِحْبَابه فِي كل صَلَاة، وَعند بعض الْمَالِكِيَّة
كَرَاهَته فِي الْمَسْجِد لاستقذاره، وَالْمَسْجِد ينزه
عَنهُ.
888 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَارِثِ قالَ حدَّثنا شُعَيْبُ بنُ الحَبْحَابِ قَالَ
حدَّثنا أنَسٌ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْإِكْثَار فِي
السِّوَاك الَّذِي هُوَ الْمُبَالغَة فِي الْحَث عَلَيْهِ
يتَنَاوَل فعلهَا عِنْد سَائِر الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة،
وَالْجُمُعَة أقواها لِأَنَّهَا يَوْم ازدحام، فَكَمَا أَن
الِاغْتِسَال مُسْتَحبّ فِيهِ لتنظيف الْبدن وَإِزَالَة
الرَّائِحَة الكريهة رفعا لأذاها عَن النَّاس، فَكَذَلِك
تَطْهِير النكهة، بل هُوَ أقوى على مَا لَا يخفى، وَلَقَد
أبعد ابْن رشيد فِي تَوْجِيه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث
وَبَين التَّرْجَمَة، وَاسْتَحْسنهُ بَعضهم حَتَّى نَقله
فِي كِتَابه، فَمن نظر فِيهِ عرف وَجه الاستبعاد فِيهِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين: عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج، واسْمه
ميسرَة التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: عبد الْوَارِث
بن سعيد وَهُوَ رِوَايَة. الثَّالِث: شُعَيْب بن الحبحاب،
بِفَتْح الحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ بَينهمَا بَاء مُوَحدَة
سَاكِنة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى: أَبُو صَالح
الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
كل الْإِسْنَاد. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم
(6/182)
بصريون. وَفِيه: أَنه فِي أَفْرَاده،
قَالَه صَاحب (التَّوْضِيح) وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن
النَّسَائِيّ أخرجه أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن حميد بن
مسْعدَة وَعمْرَان بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أكثرت عَلَيْكُم) أَي: بالغت
مَعكُمْ فِي أَمر السِّوَاك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى
بِصِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، أَي: بولغت من عِنْد
الله. قَالَ الْجَوْهَرِي، يُقَال: فلَان مكثور عَلَيْهِ
إِذا نفذ مَا عِنْده، وَفِي (التَّوْضِيح) : مَعْنَاهُ
حقيق أَن أفعل وحقيق أَن تسمعوا وتطيعوا. قَوْله: (فِي
السِّوَاك) أَي: فِي اسْتِعْمَال السِّوَاك، هَذَا إِذا
كَانَ المُرَاد من السِّوَاك الْآلَة، وَإِذا كَانَ
المُرَاد مِنْهُ الْفِعْل فَلَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير.
فَافْهَم.
889 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قالَ أخبرنَا
سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ أبِي وَائِلٍ
عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إذَا قامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فاهُ. (انْظُر
الحَدِيث 245 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قِيَامه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي اللَّيْل يحْتَمل أَن يكون للصَّلَاة،
وَهُوَ الظَّاهِر من حَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَكَانَ يشوص فَاه لأجل التَّنْظِيف، وَقد علم من زِيَادَة
اهتمامه بِالْجمعَةِ فِي تنظيفها، وَكَانَت لَهُ مزية
فَضِيلَة، وَكَانَ السِّوَاك مُسْتَحبا لكل صَلَاة
فَكَانَت الْجُمُعَة أولى بذلك، خُصُوصا لِأَنَّهُ يَوْم
ازدحام من النَّاس وَحُضُور من الْمَلَائِكَة، فدلالته على
مطابقته للتَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَإِن لم
يكن صَرِيحًا، لِأَن الْأُمُور الاعتبارية تراعى فِي مثل
هَذِه الْمَوَاضِع.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن كثير ضد
الْقَلِيل مر فِي: بَاب الْغَضَب فِي الموعظة. الثَّانِي:
سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: مَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر. الرَّابِع: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء
الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة: ابْن عبد
الرَّحْمَن مر فِي: بَاب الْأَذَان بعد الْوَقْت.
الْخَامِس: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة الْكُوفِي.
السَّادِس: حُذَيْفَة بن الْيَمَان، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: رِوَايَة وَاحِد عَن
اثْنَيْنِ. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ بَصرِي والبقية
كوفيون، وَفِيه: ثَلَاثَة غير منسوبين وَوَاحِد مكي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي آخر كتاب الْوضُوء فِي:
بَاب السِّوَاك، عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن
مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة. . إِلَى آخِره
نَحوه، وَفِي آخِره بِالسِّوَاكِ، وَقد تكلمنا هُنَاكَ على
جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.
قَوْله: (يشوص فَاه) أَي: يدلك أَسْنَانه وينقيها. وَقيل:
هُوَ أَن يستاك من سفل إِلَى علو، وأصل الشوص الْغسْل،
قَالَه ابْن الْأَثِير. وَمِنْهُم من فسر الشوص بِأَن
يستاك طولا، وَهُوَ غير مرضِي، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ.
9 - (بابُ مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من تسوك بسواك غَيره
فَكَأَنَّهُ يُشِير بِحَدِيث هَذَا الْبَاب إِلَى جَوَاز
ذَلِك وَإِلَى طَهَارَة ريق بني آدم.
890 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني سُلَيْمَانُ بنُ
بِلاَلٍ قَالَ قَالَ هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ أَخْبرنِي أبي
عَن عَائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَ
عَبْدُ الرَّحمانِ بنُ أبِي بَكْرٍ ومَعَهُ سِوَاكٌ
يَسْتَنُّ بِهِ فَنَظَرَ إلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْتُ لَهُ أعْطِنِي هاذَا السِّوَاكَ
يَا عَبْدَ الرَّحْمانِ فأعْطَانِيهِ فَقَصَمْتُهُ ثُمَّ
مَضَغْتُهُ فأعْطَيْتُهُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فاسْتَنَّ بِهِ وَهْوَ مُسْتَسْنِدٌ إلَى صَدْرِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم تسوك بسواك عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي
أويس. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال. الثَّالِث: هِشَام
بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن
رِوَايَة إِسْمَاعِيل
(6/183)
عَن سُلَيْمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد لم تعرف فِي غير
طَرِيق البُخَارِيّ عَنهُ، وَإِسْمَاعِيل يروي عَنهُ
أَيْضا كثيرا بِوَاسِطَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي فَضَائِل أبي بكر. وَفِي الْجَنَائِز
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور عَن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه
أَيْضا فِي الْخمس والمغازي ومرضه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَفضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأخرجه
مُسلم فِي فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل) ، أَي: دخل عبد الرَّحْمَن
حجرَة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي مرض
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَمَعَهُ
سواك) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَكَذَلِكَ قَوْله:
(يستن بِهِ) ، جملَة فعلية حَالية. أَي: يستاك بِهِ من
الاستنان، وَقد مر عَن قريب. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي:
إِلَى عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (فَقلت لَهُ) أَي: قَالَت
عَائِشَة: فَقلت لعبد الرَّحْمَن. قَوْله: (فقصمته) فِي
هَذِه اللَّفْظَة ثَلَاث رِوَايَات. الأولى: بِالْقَافِ
وَالصَّاد الْمُهْملَة، وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أَي:
كَسرته، فأبنت مِنْهُ الْموضع الَّذِي كَانَ عبد الله يستن
مِنْهُ، وأصل: القصم، الدق وَالْكَسْر. وَيُقَال لما يكسر
من رَأس السِّوَاك إِذا قَصم: القصامة، يُقَال: وَالله لَو
سَأَلَني قصامة سواك مَا أَعْطيته، و: القصمة بِالْكَسْرِ:
الكسرة. وَفِي الحَدِيث: (استغنوا وَلَو من قصمة
السِّوَاك) . الرِّوَايَة الثَّانِيَة: بِالْفَاءِ
وَالصَّاد الْمُهْملَة، فَإِنَّهُ كسر بإبانة. وَقَالَ
ابْن التِّين: هُوَ فِي الْكتب بصاد غير مُعْجمَة وقاف،
وَضَبطه بَعضهم بِالْفَاءِ، وَالْمعْنَى صَحِيح.
الرِّوَايَة الثَّالِثَة: بِالْقَافِ وَالضَّاد
الْمُعْجَمَة، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة وَابْن السكن
وَالْمُسْتَمْلِي والحموي، وَهُوَ من: القضم، بِالْقَافِ
وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الْأكل بأطراف
الْأَسْنَان، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَهُوَ الْأَصَح.
وَكَانَت عَائِشَة أَخَذته بأطراف أسنانها. وَقَالَ
ثَعْلَب: قضمت الدَّابَّة شعيرها، بِكَسْر ثَانِيه، تقضم.
وَحكى الْفَتْح فِي الْمَاضِي. قَوْله: (وَهُوَ مُسْتَند)
، جملَة إسمية وَقعت حَالا، ويروى: (وَهُوَ مستسند)
فَالْأول من الِاسْتِنَاد من بَاب الافتعال، وَالثَّانِي:
من الاستسناد من بَاب الاستفعال.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل على طَهَارَة
ريق بني آدم، وَعَن النَّخعِيّ نَجَاسَة البصاق. وَفِيه:
دَلِيل على جَوَاز الدُّخُول فِي بَيت الْمَحَارِم.
وَفِيه: إصْلَاح السِّوَاك وتهيئته. وَفِيه: الاستياك
بسواك غَيره. وَفِيه: الْعَمَل بِمَا يفهم عِنْد
الْإِشَارَة والحركات. وَفِيه: الدَّلِيل على تَأَكد أَمر
السِّوَاك فِي اسْتِعْمَاله. |