عمدة القاري شرح صحيح البخاري

10 - (بابُ مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يقْرَأ فِي صَلَاة الْفجْر فِي صبح يَوْم الْجُمُعَة. وَقَوله: (يقْرَأ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على صِيغَة الْمَعْلُوم، أَي: يقْرَأ الْمُصَلِّي، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، وَمنع بَعضهم أَن تكون استفهامية، وَلَا مَانع مَعَ ذَلِك على مَا لَا يخفى.

891 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ هُوَ ابنُ هُرْمُزِ الأَعْرَجُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَهَلْ أتَى عَلى الإنْسَانِ (الحَدِيث 891 طرفه فِي: 1068) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَسعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو نعيم، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما: سعد والأعرج. وَفِيه: الْأَوَّلَانِ من الروَاة كوفيان وَالثَّالِث وَالرَّابِع مدنيان. فَإِن قلت: طعن سعد بن إِبْرَاهِيم فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث، وَلِهَذَا امْتنع مَالك عَن الرِّوَايَة عَنهُ، وَالنَّاس تركُوا الْعَمَل بِهِ لَا سِيمَا أهل الْمَدِينَة. قلت: لم ينْفَرد سعد بِهِ مُطلقًا، فقد أخرجه مُسلم من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مثله، وَكَذَا ابْن مَاجَه من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي صَلَاة الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة الم تَنْزِيل، وَهل أَتَى) . وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا

(6/184)


مثله، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَعَن ابْن مَسْعُود مثله أخرجه ابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ. وَامْتِنَاع مَالك من الرِّوَايَة عَنهُ لَيْسَ لأجل هَذَا الحَدِيث، بل لكَونه طعن فِي نسب مَالك، وَقَوْلهمْ: إِن النَّاس تركُوا الْعَمَل بِهِ، غير صَحِيح، لِأَن ابْن الْمُنْذر قَالَ: أَكثر أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ قَالُوا بِهِ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن ابْن مهْدي، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا مثل هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد الِاسْتِمْرَار. انْتهى. قلت: أَكثر الْعلمَاء على أَن: كَانَ، لَا يَقْتَضِي المداومة، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَة: ب {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} . و {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} . الحَدِيث، وروى أَيْضا من حَدِيث الضَّحَّاك بن قيس أَنه سَأَلَ عَن النُّعْمَان بن بشير: (مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بِهِ يَوْم الْجُمُعَة؟ . قَالَ: سُورَة الْجُمُعَة، و {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} . وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: (كَانَ يقْرَأ فِي الْجُمُعَة بِسُورَة الْجُمُعَة و {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} فَهَذِهِ الْأَحَادِيث فِيهَا لَفْظَة: كَانَ، وَلم تدل على المداومة، بل كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ بِهَذَا مرّة وَبِهَذَا مرّة، فَحكى عَنهُ كل فريق مَا حَضَره، فَفِيهِ دَلِيل على أَن لَا تَوْقِيت للْقِرَاءَة فِي ذَلِك، وَأَن للْإِمَام أَن يقْرَأ فِي ذَلِك مَعَ فَاتِحَة الْكتاب أَي الْقُرْآن شَاءَ. قَوْله: (فِي الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة) ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي: (فِي الْجُمُعَة فِي صَلَاة الْفجْر) . قَوْله: (آلم تَنْزِيل الْكتاب) ، بِضَم الَّلام على الْحِكَايَة، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: السَّجْدَة، وَهُوَ بِالنّصب على أَنه عطف بَيَان. قَوْله: {وَهل أَتَى على الْإِنْسَان} ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ زِيَادَة: ( {حِين من الدَّهْر} ) ، وَمَعْنَاهُ: يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى: {الم تَنْزِيل} ، وَفِي الثَّانِيَة: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} وأوضح ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه بِلَفْظ: (الم تَنْزِيل فِي الرَّكْعَة الأولى، وَفِي الثَّانِيَة {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى القَوْل بِهَذَا الحَدِيث، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، واستحبه النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالُوا: هُوَ سنة، وَاخْتلف قَول مَالك فِي ذَلِك، فروى ابْن وهب عَنهُ أَنه لَا بَأْس أَن يقْرَأ الإِمَام بِالسَّجْدَةِ فِي الْفَرِيضَة، وروى عَنهُ أَشهب: أَنه كره للْإِمَام إلاّ أَن يكون من خَلفه قَلِيل لَا يخَاف أَن يخلط عَلَيْهِم. قلت: الْكُوفِيُّونَ مَذْهَبهم كَرَاهَة قِرَاءَة شَيْء من الْقُرْآن مُؤَقَّتَة لشَيْء من الصَّلَوَات أَن يقْرَأ سَوْدَة السَّجْدَة وَهل أَتَى فِي الْفجْر كل جُمُعَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: مَعْنَاهُ إِذْ رَآهُ حتما وَاجِبا لَا يجزىء غَيره، أَو رأى الْقِرَاءَة بغَيْرهَا مَكْرُوهَة، أما لَو قَرَأَهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاة تبركا أَو تأسيا بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو لأجل التَّيْسِير فَلَا كَرَاهَة. وَفِي (الْمُحِيط) : بِشَرْط إِن يقْرَأ غير ذَلِك أَحْيَانًا لِئَلَّا يظنّ الْجَاهِل أَنه لَا يجوز غَيره. وَقَالَ الْمُهلب: الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة مَحْمُولَة على قَوْله تَعَالَى: {فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ} (المزمل: 20) . وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : قَالَ مَالك: يقْرَأ فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ {بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} و {الشَّمْس وَضُحَاهَا} وَنَحْوهمَا، وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: وَيسْتَحب أَن يقْرَأ فِي الأولى من الْعِيد {بسبح} وَفِي الثَّانِيَة {بالغاشية} نَص عَلَيْهِ أَحْمد. وَقَالَ الشَّافِعِي: فَقَرَأَ بقاف، واقتربت، لحَدِيث أبي وَاقد اللَّيْثِيّ، قَالَ: (سَأَلَني عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِمَا قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعِيدَيْنِ؟ قلت: قَاف، و {اقْتَرَبت السَّاعَة، وَانْشَقَّ الْقَمَر} . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَمُسلم، وَأخرجه الْأَرْبَعَة مُرْسلا، وَاسم أبي وَاقد: الْحَارِث بن مَالك، وَقيل: الْحَارِث بن عَوْف، وَقيل: عَوْف بن الْحَارِث، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : واختيارنا هُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي وَأبي سُلَيْمَان، وَأما صَلَاة الْجُمُعَة فقد قَالَ أَبُو عمر: اخْتلف الْفُقَهَاء فِيمَا يقْرَأ بِهِ فِي صَلَاة الْجُمُعَة، فَقَالَ مَالك: أحب إِلَيّ أَن يقْرَأ الإِمَام فِي الْجُمُعَة {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} مَعَ سُورَة الْجُمُعَة. وَقَالَ مرّة أُخْرَى: أما الَّذِي جَاءَ بِهِ الحَدِيث {فَهَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} مَعَ سُورَة الْجُمُعَة، وَالَّذِي أدْركْت عَلَيْهِ النَّاس {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} . قَالَ أَبُو عمر: مُحَصل مَذْهَب مَالك أَن كلتي السورتين قراءتهما مُسْتَحبَّة مَعَ سُورَة الْجُمُعَة، فَإِن فعل وَقَرَأَ بِغَيْرِهِمَا فقد أَسَاءَ، وَبئسَ مَا صنع، وَلَا تفْسد عَلَيْهِ بذلك صلَاته، وَقَالَ الشَّافِعِي، وَأَبُو ثَوْر: يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى بِسُورَة الْجُمُعَة، وَفِي الثَّانِيَة

(6/185)


{إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} وَاسْتحبَّ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد بن عَليّ أَن لَا يتْرك سُورَة الْجُمُعَة على كل حَال. فَإِن قلت: قد ثبتَتْ قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة بِسُورَة السَّجْدَة، فَهَل ورد أَنه سجد فِيهَا أم لَا؟ قلت: ذكر ابْن أبي دَاوُد فِي (كتاب الشَّرِيعَة) من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، غَدَوْت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة فِي صَلَاة الْفجْر فَقَرَأَ سُورَة فِيهَا سَجْدَة فَسجدَ. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) من حَدِيث على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي صَلَاة الصُّبْح فِي {تَنْزِيل} السَّجْدَة، وَالله أعلم. وَفِي إِسْنَاد الأول أبان، وَلَا يدْرِي من هُوَ. وَالثَّانِي ضَعِيف. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي اخْتِصَاص يَوْم الْجُمُعَة بِقِرَاءَة هَذِه السُّورَة بِعَينهَا حَتَّى إِذا لم يَقْرَأها يسْتَحبّ أَن يقْرَأ سُورَة فِيهَا سَجْدَة، وَفِي إِضَافَة هَل أَتَى} إِلَيْهَا؟ قلت: الْحِكْمَة فِي ذَلِك الْإِشَارَة إِلَى مَا فِي هَاتين السورتين من ذكر خلق آدم وأحوال يَوْم الْقِيَامَة، وَأَنَّهَا تقع يَوْم الْجُمُعَة.

11 - (بابُ الجُمُعَةِ فِي القُرَى وَالمُدْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن، والقرى جمع قَرْيَة على غير قِيَاس، قَالَ الْجَوْهَرِي: لِأَن مَا كَانَ على فعلة، بِفَتْح الْفَاء من المعتل، فَجَمعه مَمْدُود مثل: ركوة وركاء، وظبية وظباء، فجَاء الْقرى مُخَالفا لبابه لَا يُقَاس عَلَيْهِ. وَيُقَال الْقرْيَة لُغَة يَمَانِية، ولعلها جمعت على ذَلِك مثل لحية ولحى، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: قروي. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقرْيَة من المساكن والأبنية والضياع، وَقد تطلق على المدن. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : الْقرْيَة الْمَدِينَة وكل مَدِينَة قَرْيَة لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا، من: قريت المَاء فِي الْحَوْض أَي: جمعته، والمدن، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الدَّال: جمع مَدِينَة، وَتجمع أَيْضا على مَدَائِن بِالْهَمْزَةِ، وَقد تضم الدَّال. واشتقاقها من: مدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ، وَيُقَال: وَزنهَا فعيلة إِذا كَانَت من مدن إِذا أَقَامَ، ومفعلة إِذا كَانَت من: دنت، أَي: ملكت، وَفُلَان مدَّن الْمَدَائِن كَمَا يُقَال مصَّر الْأَمْصَار. وَسُئِلَ أَبُو عَليّ الْفَسَوِي عَن همز مَدَائِن، فَقَالَ: إِن كَانَت من: مدن، تهمز، وَإِن كَانَت من: دين، أَي: ملك، لَا تهمز، وَإِذا نسبت إِلَى مَدِينَة الرَّسُول قلت: مدنِي، وَالِي مَدِينَة مَنْصُور: مديني، وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى، قلت: مدائني، للْفرق بَين النّسَب لِئَلَّا يخْتَلط.

892 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قالَ حدَّثَنَا أبُو عَامرً العَقَدِيُّ قالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ أبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِي عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قالَ إنَّ أوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِدِ عَبْدِ القَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ البَحْرَيْنِ. (الحَدِيث 892 طرفه فِي: 4371) .

مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة إِنَّمَا تتجه إِذا كَانَ المُرَاد من: جواثى، أَنَّهَا تكون قَرْيَة من قرى الْبَحْرين، وَأما إِذا كَانَ: جواثى، اسْم مَدِينَة فالتطابق يكون للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، وسنحقق الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بجواثى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِلَفْظ الْمَفْعُول من التَّثْنِيَة بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَقد مر فِي: بَاب حلاوة الْإِيمَان. الثَّانِي: أَبُو عَامر الْعَقدي واسْمه: عبد الْملك بن عَمْرو، والعقدي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف: نِسْبَة إِلَى العقد، قوم من قيس وهم صنف من الأزد، مر فِي: بَاب أُمُور الْإِيمَان. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة، مر فِي: بَاب الْقِسْمَة وَتَعْلِيق القنو فِي الْمَسْجِد. الرَّابِع: أَبُو جَمْرَة، بِفَتْح الْجِيم، واسْمه: نصر بن عمرَان، والضبعي، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى ضبيعة، أَبُو حَيّ من بكر بن وَائِل. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الْأَوَّلين من الروَاة بصريان وَالثَّالِث هروي وَالرَّابِع بَصرِي. وَفِيه: عَن ابْن عَبَّاس، هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ من أَصْحَاب إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَنهُ، وَخَالفهُم الْمعَافي بن عمرَان فَقَالَ: عَن ابْن طهْمَان عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه النَّسَائِيّ: قَالُوا: إِنَّه خطأ من الْمعَافي، على أَنه يحْتَمل أَن يكون لإِبْرَاهِيم فِيهِ إسنادان.
والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَأخرج أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله المخرمي لَفظه، قَالَا: حَدثنَا وَكِيع عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن أبي جَمْرَة (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِن أول جُمُعَة جمعت فِي الْإِسْلَام بعد جُمُعَة جمعت فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ

(6/186)


لجمعة جمعت بجواثى) ، قَرْيَة من قرى الْبَحْرين. قَالَ عُثْمَان: قَرْيَة من قرى عبد الْقَيْس.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جمعت) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم، وَيُقَال: جمع الْقَوْم تجميعا أَي: شهدُوا الْجُمُعَة وقضوا الصَّلَاة فِيهَا. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (جمعت فِي الْإِسْلَام) ، كَمَا ذكرنَا الْآن. قَوْله: (بعد جُمُعَة) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الْمَغَازِي: (بعد جُمُعَة جمعت) . قَوْله: (فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة وَكِيع: بِالْمَدِينَةِ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمعَافي: بِمَكَّة، وَهُوَ خطأ بِلَا نزاع. قَوْله: (فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس) ، هُوَ علم لقبيلة كَانُوا ينزلون بِالْبَحْرَيْنِ، وَهُوَ مَوضِع قريب من بَحر عمان بِقرب القطيف والأحساء. قَوْله: (بجواثى) ، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْوَاو وبالثاء الْمُثَلَّثَة وبالقصر، وَمِنْهُم من يهمزها، وَهِي قَرْيَة من قرى الْبَحْرين، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة وَكِيع كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن أبي دَاوُد، وَفِي رِوَايَة عُثْمَان شيخ أبي دَاوُد: قَرْيَة من قرى عبد الْقَيْس، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة عَن ابْن طهْمَان، وَحكى ابْن التِّين عَن الشَّيْخ أبي الْحسن: أَنَّهَا مَدِينَة. وَفِي (الصِّحَاح) للجوهري و (الْبلدَانِ) للزمخشري: جواثى: حصن بِالْبَحْرَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: وَهِي مَدِينَة بِالْبَحْرَيْنِ لعبد الْقَيْس، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(ورحنا كأنا من جواثى عَشِيَّة ... نعالى النعاج بَين عدل ومحقب)

يُرِيد كأنا من تجار جواثى، لِكَثْرَة مَا مَعَهم من الصَّيْد، وَأَرَادَ كَثْرَة أَمْتعَة تجار جواثى. قلت: كَثْرَة الْأَمْتِعَة تدل غَالِبا على كَثْرَة التُّجَّار، وَكَثْرَة التُّجَّار تدل على أَن جواثى مَدِينَة قطعا، لِأَن الْقرْيَة لَا يكون فِيهَا تجار كَثِيرُونَ غَالِبا عَادَة. فَإِن قلت: قد يُطلق على الْمَدِينَة اسْم قَرْيَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى , {لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم} (الزخرف: 31) . يَعْنِي: مَكَّة والطائف، قلت: إِطْلَاق لفظ: الْقرْيَة، على الْمَدِينَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى اللّغَوِيّ، وَلَا يخرج ذَلِك عَن كَونه مَدِينَة فَلَا يتم اسْتِدْلَال من يُجِيز الْجُمُعَة فِي الْقرى بِهَذَا الْوَجْه، كَمَا سَنذكرُهُ مُسْتَوفى عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: استدلت الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْجُمُعَة تُقَام فِي الْقرْيَة إِذا كَانَ فِيهَا أَرْبَعُونَ رجلا أحرارا مقيمين، حَتَّى قَالَ الْبَيْهَقِيّ: بَاب الْعدَد الَّذين إِذا حَضَرُوا فِي قَرْيَة وَجَبت عَلَيْهِم، ثمَّ ذكر فِيهِ إِقَامَة الْجُمُعَة بجواثى. قُلْنَا: لَا نسلم أَنَّهَا قَرْيَة، بل هِيَ مَدِينَة كَمَا حكينا عَن الْبكْرِيّ وَغَيره، حَتَّى قيل: كَانَ يسكن فِيهَا فَوق أَرْبَعَة آلَاف نفس، والقرية لَا تكون كَذَلِك، وَإِطْلَاق الْقرْيَة عَلَيْهَا من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ. وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا قَرْيَة فَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطلع على ذَلِك وأقرهم عَلَيْهِ، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْموضع الَّذِي تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة، فَقَالَ مَالك: كل قَرْيَة فِيهَا مَسْجِد أَو سوق فالجمعة وَاجِبَة على أَهلهَا، وَلَا يجب على أهل العمود وَإِن كَثُرُوا لأَنهم فِي حكم الْمُسَافِرين. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: كل قَرْيَة فِيهَا أَرْبَعُونَ رجلا أحرارا بالغين عقلاء مقيمين بهَا لَا يظعنون عَنْهَا صيفا وَلَا شتاءً إلاّ ظعن حَاجَة، فالجمعة وَاجِبَة عَلَيْهِم، وَسَوَاء كَانَ الْبناء من حجر أَو خشب أَو طين أَو قصب أَو غَيرهَا، بِشَرْط أَن تكون الْأَبْنِيَة مجتمعة، فَإِن كَانَت مُتَفَرِّقَة لم تصح، وَأما أهل الْخيام فَإِن كَانُوا ينتقلون من موضعهم شتاءً أَو صيفا لم تصح الْجُمُعَة بِلَا خلاف، وَإِن كَانُوا دائمين فِيهَا شتاءً وصيفا وَهِي مجتمعة بَعْضهَا إِلَى بعض فَفِيهِ قَولَانِ: أصَحهمَا: لَا تجب عَلَيْهِم الْجُمُعَة وَلَا تصح مِنْهُم، وَبِه قَالَ مَالك. وَالثَّانِي: تجب عَلَيْهِم وَتَصِح مِنْهُم، وَبِه قَالَ أَحْمد وَدَاوُد: وَمذهب أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تصح الْجُمُعَة إلاّ فِي مصر جَامع أَو فِي مصلى الْمصر، وَلَا تجوز فِي الْقرى، وَتجوز فِي منى إِذا كَانَ الْأَمِير أَمِير الْحَاج، أَو كَانَ الْخَلِيفَة مُسَافِرًا. وَقَالَ مُحَمَّد: لَا جُمُعَة بمنى وَلَا تصح بِعَرَفَات فِي قَوْلهم جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي كِتَابه (الْأَحْكَام) : اتّفق فُقَهَاء الْأَمْصَار على أَن الْجُمُعَة مَخْصُوصَة بِموضع لَا يجوز فعلهَا فِي غَيره لأَنهم مجتمعون على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الْبَوَادِي، ومناهل الْأَعْرَاب، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يرى على أهل المناهل والمياه أَنهم يجمعُونَ.
ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الْمصر الَّذِي تجوز فِيهِ الْجُمُعَة، فَعَن أبي يُوسُف: هُوَ كل مَوضِع يكون فِيهِ كل محترف، وَيُوجد فِيهِ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ النَّاس من مَعَايشهمْ عَادَة، وَبِه قَاض يُقيم الْحُدُود. وَقيل: إِذا بلغ سكانه عشرَة آلَاف، وَقيل: عشرَة آلَاف مقَاتل، وَقيل: بِحَيْثُ أَن لَو قصدهم عَدو لأمكنهم دَفعه، وَقيل: كل مَوضِع فِيهِ أَمِير وقاض يُقيم الْحُدُود، وَقيل: أَن لَو اجْتَمعُوا إِلَى أكبر مَسَاجِدهمْ لم يسعهم، وَقيل: أَن يكون بِحَال يعِيش كل محترف بحرفته من سنة إِلَى سنة من غير أَن يشْتَغل بحرفة أُخْرَى، وَعَن مُحَمَّد: مَوضِع مصرة الإِمَام فَهُوَ مصر حَتَّى إِنَّه لَو بعث إِلَى قَرْيَة نَائِبا لإِقَامَة الْحُدُود وَالْقصاص تصير مصرا، فَإِذا عز لَهُ وَدعَاهُ يلْحق بالقرى،

(6/187)


ثمَّ اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الْقرى بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ؛ أخبرنَا معمر عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع) ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن حجاج عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث، (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق وَلَا صَلَاة فطر وَلَا أضحى إلاّ فِي مصر جَامع أَو مَدِينَة عَظِيمَة) ، وروى أَيْضا بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن طَلْحَة عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن أَنه قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع) . فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: حَدِيث عَليّ ضَعِيف مُتَّفق على ضعفه، وَهُوَ مَوْقُوف عَلَيْهِ بِسَنَد ضَعِيف مُنْقَطع؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يطلع إلاّ على الْأَثر الَّذِي فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَلم يطلع على طَرِيق جرير عَن مَنْصُور، فَإِنَّهُ سَنَد صَحِيح، وَلَو اطلع لم يقل بِمَا قَالَه، وَأما قَوْله: مُتَّفق على ضعفه، فَزِيَادَة من عِنْده، وَلَا يدْرِي من سلفه فِي ذَلِك، على أَن أَبَا زيد زعم فِي (الْأَسْرَار) : أَن مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ: رَوَاهُ مَرْفُوعا معَاذ وسراقة بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. فَإِن قلت: فِي (سنَن سعيد بن مَنْصُور) : عَن أبي هُرَيْرَة أَنهم كتبُوا إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تبَارك وَتَعَالَى عَنهُ، من الْبَحْرين يسألونه عَن الْجُمُعَة، فَيكْتب إِلَيْهِم: إجمعوا حَيْثُ مَا كُنْتُم. وَذكره ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح بِلَفْظ: جمعُوا، وَفِي (الْمعرفَة) أَن أَبَا هُرَيْرَة هُوَ السَّائِل، وَحسن سَنَده، وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن الزُّهْرِيّ، عَن أم عبد الله الدوسية، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْجُمُعَة وَاجِبَة على أهل كل قَرْيَة فِيهَا إِمَام وَإِن لم يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَة) . وَزَاد أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: حَتَّى ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة، وَفِي (المُصَنّف) : (عَن مَالك: كَانَ أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذِه الْمِيَاه بَين مَكَّة وَالْمَدينَة يجمعُونَ) . وروى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن أبي أُمَامَة بن سهل عَن أَبِيه عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك، وَكَانَ قَائِد أَبِيه بَعْدَمَا ذهب بَصَره، عَن أَبِيه عَن كَعْب بن مَالك أَنه: كَانَ إِذا سمع النداء يَوْم الْجُمُعَة ترحم لأسعد بن زُرَارَة، فَقلت لَهُ: إِذا سَمِعت النداء ترحمت لأسعد ابْن زُرَارَة؟ قَالَ: لِأَن أول من جمع بِنَا فِي هزم النبيت من حرَّة بني بياضة فِي نَقِيع يُقَال لَهُ: نَقِيع الْخضمات، قلت: كم أَنْتُم يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ) . وَأخرجه أَيْضا ابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ، وَزَاد: قبل مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي (الْمعرفَة) : قَالَ الزُّهْرِيّ: لما بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصعب بن عُمَيْر إِلَى الْمَدِينَة ليقرئهم الْقُرْآن جمع بهم وهم اثْنَا عشر رجلا، فَكَانَ مُصعب أول من جمع الْجُمُعَة بِالْمَدِينَةِ بِالْمُسْلِمين قبل أَن يقدمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يُرِيد الاثنا عشر النُّقَبَاء الَّذين خَرجُوا بِهِ إِلَى الْمَدِينَة وَكَانُوا لَهُ ظهيرا. وَفِي حَدِيث كَعْب: جمع بهم أسعد وهم أَرْبَعُونَ، وَهُوَ يُرِيد جَمِيع من صلى مَعَه مِمَّن أسلم من أهل الْمَدِينَة مَعَ النُّقَبَاء، وَعَن جَعْفَر بن برْقَان، قَالَ: كتب عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى عدي بن عدي. وَأما أهل قَرْيَة لَيْسُوا بِأَهْل عَمُود فأمِّر عَلَيْهِم أَمِيرا يجمع بهم. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ قلت: الْجَواب عَن الأول مَعْنَاهُ: جمعُوا حَيْثُ مَا كُنْتُم من الْأَمْصَار، أَلا ترى أَنَّهَا لَا تجوز فِي البراري؟ وَعَن الثَّانِي: أَن رُوَاته كلهم عَن الزُّهْرِيّ متروكون، وَلَا يَصح سَماع الزُّهْرِيّ من الدوسية. وَعَن الثَّالِث: أَنه لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على وجوب الْجُمُعَة على أهل الْقرى. وَعَن الرَّابِع: أَن فِيهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْحفاظ يتوقون مَا ينْفَرد بِهِ ابْن إِسْحَاق، وَهنا قد تفرد بِهِ، وَالْعجب مِنْهُ تَصْحِيحه هَذَا الحَدِيث، وَالْحَال أَنه كَانَ يتَكَلَّم فِي ابْن إِسْحَاق بأنواع الْكَلَام. فَإِن قلت: قَالَ الْحَاكِم: إِنَّه على شَرط مُسلم. قلت: لَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَن مَدَاره على ابْن إِسْحَاق، وَلم يخرج لَهُ مُسلم إلاّ مُتَابعَة. وَعَن الْخَامِس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمُرهُم بذلك وَلَا أقرهم عَلَيْهِ. وَعَن السَّادِس: أَنه: رأى عمر بن عبد الْعَزِيز لَيْسَ بِحجَّة، وَلَئِن سلمنَا فَلَيْسَ فِيهِ ذكر عدد، وَقَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه: لَا يَصح فِي عدد الْجُمُعَة شَيْء فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم، فِي معرض الِاسْتِدْلَال لمذهبه: وَمن أعظم الْبُرْهَان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى الْمَدِينَة، وَإِنَّمَا هِيَ قرى صغَار مُتَفَرِّقَة، فَبنى مَسْجده فِي بني مَالك بن النجار وَجمع فِيهِ فِي قَرْيَة لَيست بالكبيرة وَلَا مصر هُنَاكَ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء من وُجُوه: الأول: قد صحّح قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الَّذِي هُوَ أعلم النَّاس بِأَمْر الْمَدِينَة: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع. الثَّانِي: أَن الإِمَام أَي مَوضِع حل جمع. الثَّالِث: التمصير للْإِمَام، فَأَي مَوضِع مُصِّر.
وَأما معنى حَدِيث أبي دَاوُد فَقَوله: (فِي هزم النبيت) ، الهزم بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الزَّاي بعْدهَا مِيم: مَوضِع بالمدية، و: النبيت، بِفَتْح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: وَهِي حَيّ من الْيمن. قَوْله: (من حرَّة بني بياضة) ، الْحرَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد

(6/188)


الرَّاء قَرْيَة على ميل من الْمَدِينَة، وَبَنُو بياضة بطن من الْأَنْصَار، مِنْهُم: سَلمَة بن صَخْر البياضي لَهُ صُحْبَة، قَوْله: (فِي نَقِيع) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة: بطن من الأَرْض يستنقع فِيهِ المَاء مُدَّة، فَإِذا نضب المَاء أنبت الْكلأ، وَمِنْه حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنه حمى النقيع لخيل الْمُسلمين، وَقد يصحفه بعض النَّاس فيرويه بِالْبَاء الْمُوَحدَة، و: البقيع، بِالْبَاء: مَوضِع الْقُبُور، وَهُوَ بَقِيع الْغَرْقَد، قَوْله: (يُقَال لَهُ: نَقِيع الْخضمات) بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد المعجمتين، قَالَ ابْن الْأَثِير: نَقِيع الْخضمات مَوضِع بنواحي الْمَدِينَة.

893 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ المَرُوزِيُّ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنَا سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ. وزَادَ اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ كَتبَ رَزيْقُ بنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابنِ شِهَابٍ وَأنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي القُرَي هَلْ تَرَى أنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عامِلٌ علَى أرْضٍ يَعْمَلُهَا وفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وغَيْرِهِمْ ورُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أيْلَةَ فكَتَبَ ابنُ شِهَابٍ وَأنَا أسْمَعُ يَأمُرُهُ أنْ يُجَمِّعَ يُخْبِرُهُ أنَّ سالِما حَدَّثَهُ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ يقُولُ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ الإمَامُ رَاعٍ ومَسؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤلَةٌ عنْ رَعِيَّتِهَا والخَادِمُ راعٍ فِي مالِ سيِّدِهِ وَمسؤُلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أنْ قالَ والرَّجُلُ رَاعٍ فِي مالِ أبِيهِ وَمَسْؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ وكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسؤُلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن زُرَيْق بن حَكِيم، لما كَانَ عَاملا على طَائِفَة، كَانَ عَلَيْهِ أَن يُرَاعِي حُقُوقهم وَمن جُمْلَتهَا إِقَامَة الْجُمُعَة، فَيجب عَلَيْهِ إِقَامَتهَا وَإِن كَانَت فِي قَرْيَة، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْكرْمَانِي قلت: إِنَّمَا تتجه الْمُطَابقَة للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، لِأَن الْقرْيَة إِذا كَانَ فِيهَا نَائِب من جِهَة الإِمَام يُقيم الْحُدُود يكون حكمهَا حكم الْأَمْصَار والمدن، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، عَن مُحَمَّد بن الْحسن. وَإِن كَانَ مُرَاد الْكرْمَانِي: أَن هَذَا الحَدِيث يدل على جَوَاز إِقَامَة الْجُمُعَة فِي الْقرى فَلَا يتم بِهِ استدلاله، وَالظَّاهِر أَن مُرَاد البُخَارِيّ هَذَا وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث وَلَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله مُطَابقَة إلاّ للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة على الْوَجْه الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَإِنَّمَا مطابقتها للجزء الأول وَلَيْسَ فِيهِ خلاف، وَكَانَ مَقْصُود البُخَارِيّ أَن يُشِير إِلَى الْخلاف فَلم يتم. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد السجسْتانِي الْمروزِي، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: ابْن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. السَّادِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر. السَّابِع: رُزَيْق، بِضَم الرَّاء وَفتح الزَّاي: ابْن حَكِيم، بِضَم الْحَاء وَفتح الْكَاف: الْفَزارِيّ مولى بني فَزَارَة الْأَيْلِي: وَالِي أَيْلَة لعمر بن عبد الْعَزِيز، وَقيل: زُرَيْق بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، وَالْمَشْهُور الأول. وَقَالَ ابْن الْحذاء: وَكَانَ حَاكما بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْن مَاكُولَا: كَانَ عبدا صَالحا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: حَدثنَا سُفْيَان مرّة: رُزَيْق بن حَكِيم أَو حَكِيم، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُول: ابْن حَكِيم بِالْفَتْح، وَالصَّوَاب الضَّم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: الْكِتَابَة. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.

(6/189)


وَفِيه: أَن الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلين من الروَاة مروزيان وَالثَّالِث أيلي، وَكَانَ مرجئا، وَكَذَا السَّابِع، وَالرَّابِع وَالْخَامِس مدنيان. وَفِيه: قَوْله: وَزَاد اللَّيْث، إِشَارَة إِلَى أَن رِوَايَة اللَّيْث متفقة مَعَ ابْن الْمُبَارك، إلاّ فِي الْقِصَّة، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّة بِرِوَايَة اللَّيْث، وَرِوَايَة اللَّيْث معلقَة، وَقد وَصلهَا الذهلي عَن أبي صَالح كَاتب اللَّيْث عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا عَن بشر بن مُحَمَّد أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، وَأخرج مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا جحديث: (كلكُمْ رَاع) بِغَيْر هَذِه الْقِصَّة عَن نَافِع عَن ابْن عمر. وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح، وَقد رَوَاهُ عَن ابْن عمر غير نَافِع أَيْضا، وَرَوَاهُ أَيْضا شُعْبَة عَن الزُّهْرِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كلكُمْ رَاع) أصل: رَاع راعي فَاعل، إعلال قَاض، من رعى رِعَايَة، وَهُوَ حفظ الشَّيْء وَحسن التعهد لَهُ، والراعي: هُوَ الْحَافِظ المؤتمن الْمُلْتَزم صَلَاح مَا قَامَ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ تَحت نظره، فَكل من كَانَ تَحت نظره شَيْء فَهُوَ مَطْلُوب بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَام بمصالحه فِي دينه ودنياه ومتعلقاته، فَإِن وفى مَا عَلَيْهِ من الرِّعَايَة حصل لَهُ الْحَظ الأوفر وَالْجَزَاء الْأَكْبَر، وَإِن كَانَ غير ذَلِك طَالبه كل أحد من رَعيته بِحقِّهِ. قَوْله: (وَزَاد اللَّيْث) إِلَى قَوْله: (يُخبرهُ) ، تَعْلِيق أَي: زَاد اللَّيْث بن سعد فِي رِوَايَته على رِوَايَة عبد الله بن الْمُبَارك، وَقد وَصله الذهلي كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَأَنا مَعَه) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (بوادي الْقرى) ، هُوَ من أَعمال الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَادي الْقرى مَدِينَة بالحجاز مِمَّا يَلِي الشَّام، وَفتحهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمادي الْآخِرَة سنة سبع من الْهِجْرَة لما انْصَرف من خَيْبَر، بعد أَن امْتنع أَهلهَا وقاتلوا وَذكر بَعضهم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاتل فِيهَا، وَلما فتحهَا عنْوَة قسم أموالها وَترك الأَرْض وَالنَّخْل فِي أَيدي الْيَهُود، وعاملهم على نَحْو مَا عَامل عَلَيْهِ أهل خَيْبَر، وَأقَام عَلَيْهَا أَربع ليَالِي. قَوْله: (أَن أجمع) أَي: أُصَلِّي بِمن معي الْجُمُعَة. قَوْله: (على أَرض يعملها) ، أَي: يزرع فِيهَا. قَوْله؛ (من السودَان) .
قَوْله: (على أَيْلَة) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح اللَّام، قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ مَدِينَة على شاطىء الْبَحْر فِي منتصف مَا بَين مصر وَمَكَّة وتبوك، ورد صَاحب أَيْلَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَة. وَقَالَ الْبكْرِيّ: سميت بأيلة بنت مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد رُوِيَ أَن أَيْلَة هِيَ الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر. وَقَالَ اليعقوبي: أَيْلَة مَدِينَة جليلة على سَاحل الْبَحْر الْملح، وَبهَا يجْتَمع حَاج الشَّام ومصر وَالْمغْرب، وَبهَا التِّجَارَة الْكَثِيرَة، وَمن القلزم إِلَى أَيْلَة سِتّ مراحل فِي بَريَّة صحراء يتزود النَّاس من القلزم إِلَى أَيْلَة لهَذِهِ المراحل. قلت: هِيَ الْآن خراب ينزل بهَا الْحَاج الْمصْرِيّ والمغربي والغزي، وَبَعض آثَار الْمَدِينَة ظَاهر. قَوْله: (فَكتب ابْن شهَاب وَأَنا أسمع قَول يُونُس الْمَذْكُور فِيهِ) أَي: كتب مُحَمَّد بن مُسلم بن الشهَاب الزُّهْرِيّ، وَالْحَال أَنا أسمع، والمكتوب هُوَ الحَدِيث، والمسموع الْمَأْمُور بِهِ، قَالَه الْكرْمَانِي، وَالظَّاهِر أَن الَّذِي كتب هُوَ ابْن شهَاب، لِأَن الأَصْل فِي الْإِسْنَاد الْحَقِيقَة، وَيجوز أَن يكون كَاتبه كتبه بإملائه عَلَيْهِ فَسَموهُ يُونُس مِنْهُ، فَفِي الْوَجْه الأول فِيهِ تَقْدِير، وَهُوَ: كتب ابْن شهَاب وقرأه وَأَنا أسمعهُ. قَوْله: (يَأْمُرهُ) جملَة حَالية أَي: يَأْمر ابْن شهَاب رُزَيْق بن حَكِيم فِي كِتَابه إِلَيْهِ أَن يجمع، أَي: بِأَن يجمع أَي: بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَة، ثمَّ اسْتدلَّ ابْن شهَاب على أمره إِيَّاه بالتجميع بِحَدِيث سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (كلكُمْ رَاع) إِلَى آخِره. وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن رزيقا كَانَ أَمِيرا على الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة، فَكل من كَانَ أَمِيرا كَانَ عَلَيْهِ أَن يُرَاعِي حُقُوق رَعيته، وَمن جملَة حُقُوقهم إِقَامَة الْجُمُعَة. قَوْله: (يُخبرهُ) أَي: يخبر ابْن شهَاب رزيقا فِي كِتَابه الَّذِي كتب إِلَيْهِ أَن سالما حَدثهُ. . إِلَى آخِره. فَإِن قلت: مَا مَحل: يُخبرهُ، من الْإِعْرَاب؟ قلت: هِيَ جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِي: يَأْمُرهُ، من الْأَحْوَال المتداخلة، كَمَا أَن قَوْله: (اسْمَع) . وَقَوله: (يَأْمُرهُ) من الْأَحْوَال المترادفة. قَوْله: (يَقُول: سَمِعت) مَحل: يَقُول، من الْإِعْرَاب الرّفْع لِأَنَّهُ خبر إِن وَمحل: يَقُول، الثَّانِي على الْحَال أَي: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال كَونه يَقُول: (كلكُمْ رَاع) ، وَهَذِه جملَة إسمية، وإفراد الْخَبَر بِالنّظرِ إِلَى لَفْظَة: كل، وَقد اشْترك الإِمَام وَالرجل وَالْمَرْأَة وَالْخَادِم فِي هَذِه التَّسْمِيَة، وَلَكِن الْمعَانِي مُخْتَلفَة: فرعاية الإِمَام إِقَامَة الْحُدُود وَالْأَحْكَام فيهم على سنَن الشَّرْع، ورعاية الرجل أَهله سياسته لأمرهم وتوفية حَقهم فِي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالْعشرَة، ورعاية

(6/190)


الْمَرْأَة حسن التَّدْبِير فِي بَيت زَوجهَا والنصح لَهُ وَالْأَمَانَة فِي مَاله وَفِي نَفسهَا، ورعاية الْخَادِم لسَيِّده حفظ مَا فِي يَده من مَاله وَالْقِيَام بِمَا يسْتَحق من خدمته، وَالرجل لَيْسَ لَهُ بِإِمَام وَلَا لَهُ أهل وَلَا خَادِم يُرَاعِي أَصْحَابه وأصدقاءه بِحسن المعاشرة على مَنْهَج الصَّوَاب. فَإِن قيل: إِذا كَانَ كل من هَؤُلَاءِ راعياد فَمن المرعي؟ أُجِيب: هُوَ أَعْضَاء نَفسه وجوارحه وَقواهُ وحواسه، أَو الرَّاعِي يكون مرعيا بِاعْتِبَار أَمر آخر، ككون الشَّخْص مرعيا للْإِمَام رَاعيا لأَهله، أَو الْخطاب خَاص بأصحاب التَّصَرُّفَات وَمن تَحت نظره مَا عَلَيْهِ إصْلَاح حَاله. قَوْله: (قَالَ: وحسبت) فَاعل قَالَ يُونُس بن يزِيد الْمَذْكُور فِيهِ، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي جزما، وَالظَّاهِر أَن فَاعله: سَالم بن عبد الله الرَّاوِي، وَكلمَة: أَن مُخَفّفَة من المثقلة، وَالتَّقْدِير: وحسبت أَنه، أَي: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد قَالَ: (وَالرجل رَاع فِي مَال أَبِيه. .) إِلَى آخِره، ثمَّ فِي هَذَا الْموضع من النُّكْتَة أَنه: عمم أَولا ثمَّ خصص ثَانِيًا، وَقسم الخصوصية إِلَى أَقسَام من جِهَة الرجل وَمن جِهَة الْمَرْأَة وَمن جِهَة الْخَادِم وَمن جِهَة النّسَب، ثمَّ عمم ثَانِيًا وَهُوَ قَوْله: (وكلكم رَاع. .) إِلَى آخِره تَأْكِيدًا، وردا للعجز إِلَى الصَّدْر بَيَانا لعُمُوم الحكم أَولا وآخرا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : إِيرَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث لأجل أَن أَيْلَة إِمَّا مَدِينَة أَو قَرْيَة، وَقد ترْجم لَهما. قلت: الْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور أَنَّهَا مَدِينَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَلَا وَجه للتردد فِيهَا، وَقد ذكر البُخَارِيّ الْبَاب بترجمتين، بقوله: فِي الْقرى والمدن، وَذكر فِيهِ حديثين: الأول: مِنْهُمَا مُطَابق للتَّرْجَمَة الأولى على زَعمه، وَالثَّانِي: مُطَابق للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة، وَكَلَام صَاحب (التَّوْضِيح) لَا طائل تَحْتَهُ.
الثَّانِي: قَالَ بَعضهم: فِي هَذِه الْقِصَّة يَعْنِي الْقِصَّة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث إِيمَاء إِلَى أَن الْجُمُعَة تَنْعَقِد بِغَيْر إِذن من السُّلْطَان إِذا كَانَ فِي الْقَوْم من يقوم بمصالحهم. قلت: الَّذِي يقوم بمصالح الْقَوْم هُوَ الْمولى عَلَيْهِم من جِهَة السُّلْطَان، وَمن كَانَ مولى من جِهَة السُّلْطَان كَانَ مَأْذُونا بِإِقَامَة الْجُمُعَة لِأَنَّهَا من أكبر مصالحهم، وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل أَنه يسْتَدلّ على عدم إِذن السُّلْطَان لإِقَامَة الْجُمُعَة بِالْإِيمَاءِ، وَيتْرك مَا دلّ على ذَلِك حَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه وَفِيه: (من تَركهَا فِي حَياتِي أَو بعدِي وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا فَلَا جمع الله شَمله، وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره، أَلا وَلَا صَلَاة لَهُ وَلَا زَكَاة لَهُ وَلَا حج لَهُ وَلَا صَوْم لَهُ وَلَا بر لَهُ) . الحَدِيث، وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : عَن ابْن عمر مثله، فَإِن قلت: فِي سَنَد ابْن مَاجَه: عبد الله بن مُحَمَّد الْعَدوي، وَفِي سَنَد الْبَزَّار: عَليّ بن زيد بن جدعَان، وَكِلَاهُمَا مُتَكَلم فِيهِ؟ قلت: إِذا رُوِيَ الحَدِيث من طرق ووجوه مُخْتَلفَة تحصل لَهُ قُوَّة، فَلَا يمْنَع من الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلَا سِيمَا اعتضد بِحَدِيث ابْن عمر، وَالْقَائِل الْمَذْكُور أَشَارَ بقوله إِلَى قَول الشَّافِعِي، فَإِن عِنْده إِذن السُّلْطَان لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة الْجُمُعَة، وَلَكِن السّنة أَن لَا تُقَام إِلَّا بِإِذن السُّلْطَان، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعَن أَحْمد أَنه شَرط كمذهبنا، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما كَانَ محصورا بِالْمَدِينَةِ صلى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْجُمُعَة بِالنَّاسِ، وَلم يرو أَنه صلى بِأَمْر عُثْمَان، وَكَانَ الْأَمر بِيَدِهِ. قُلْنَا هَذَا الِاحْتِجَاج سَاقِط لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن عليا فعل ذَلِك بأَمْره، أَو كَانَ لم يتَوَصَّل إِلَى إِذن عُثْمَان، وَنحن أَيْضا نقُول: إِذا لم يتَوَصَّل إِلَى إِذن الإِمَام فللناس أَن يجتمعوا ويقدموا من يُصَلِّي بهم، فَمن أَيْن علم أَن عليا فعل ذَلِك بِلَا إِذن عُثْمَان، وَهُوَ بِحَيْثُ يتَوَصَّل إِلَى إِذْنه؟ وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: مَضَت السّنة بِأَن الَّذِي يُقيم الْجُمُعَة السُّلْطَان أَو من قَامَ بهَا بأَمْره، فَإِذا لم يكن ذَلِك صلوا الظّهْر. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أَربع إِلَى السُّلْطَان، فَذكر مِنْهَا الْجُمُعَة. وَقَالَ حبيب بن أبي ثَابت: لَا تكون الْجُمُعَة إلاّ بأمير وخطبة، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن مسلمة وَيحيى بن عمر الْمَالِكِي وَعَن مَالك: إِذا تقدم رجل بِغَيْر إِذن الإِمَام لم يجزهم، وَذكر صَاحب (الْبَيَان) قولا قَدِيما للشَّافِعِيّ: أَنَّهَا لَا تصح إلاّ خلف السُّلْطَان أَو من أذن لَهُ. وَعَن أبي يُوسُف: إِن لصَاحب الشرطة أَن يُصَلِّي بهم دون القَاضِي، وَقيل: يُصَلِّي القَاضِي.
الثَّالِث: قَالَ بَعضهم: فِي الحَدِيث إِقَامَة الْجُمُعَة فِي الْقرى خلافًا لمن شَرط لَهَا المدن؟ قلت: لَا دَلِيل على ذَلِك أصلا لِأَنَّهُ إِن كَانَ يدعى بذلك بِنَفس الحَدِيث الْمُتَّصِل فَلَا يقوم بِهِ حجَّة، وَلَا يتم. وَإِن كَانَ يَدعِي بِكِتَاب ابْن شهَاب يَأْمر فِيهِ لرزيق بن حَكِيم بِأَن يجمع فَلَا تتمّ بِهِ حجَّته أَيْضا، لِأَنَّهُ من أَيْن علم أَنه أَمر بذلك؟ سَوَاء كَانَ فِي قَرْيَة أَو مَدِينَة؟ فَإِن قَالَ: رُزَيْق كَانَ عَاملا على أَرض يعملها، وَكَانَ فِيهَا جمَاعَة من السودَان وَغَيرهم، وَلَيْسَ هَذَا إلاّ قَرْيَة، فَلَا يتم بِهِ استدلاله أَيْضا، لِأَن الْموضع الْمَذْكُور صَار حكمه حكم الْمَدِينَة بِوُجُود الْمُتَوَلِي عَلَيْهِم من جِهَة الإِمَام، وَقد قُلْنَا فِيمَا مضى: إِن

(6/191)


الإِمَام إِذا بعث إِلَى قَرْيَة نَائِبا لإِقَامَة الْأَحْكَام تصير مصرا، على أَن إِمَامه لَا يرى قَول الصَّحَابِيّ حجَّة، فَكيف بقول التَّابِعِيّ؟
الرَّابِع: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن الرجلَيْن إِذا حكما رجلا بَينهمَا نقد حكمه إِذا أصَاب.
الْخَامِس: قَالَ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ عَن بَعضهم: إِنَّه اسْتدلَّ بِهِ على سُقُوط الْقطع عَن الْمَرْأَة إِذا سرقت من مَال زَوجهَا، وَعَن العَبْد إِذا سرق من مَال سَيّده إِلَّا فِيمَا حجبهما عَنهُ، وَلم يكن لَهما فِيهِ تصرف. وَالله أعلم.

12 - (بابٌ هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ والصِّبْيَانِ وغَيْرِهِمْ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: هَل على من. . إِلَى آخِره، وَإِنَّمَا اقْتصر على الِاسْتِفْهَام وَلم يجزه بالحكم لوُقُوع الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد فِي أَحَادِيث هَذَا الْبَاب، مِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (حق على كل مُسلم أَن يغْتَسل) ، فَإِنَّهُ مُطلق يتَنَاوَل الْجَمِيع. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل) ، فَإِنَّهُ مُقَيّد بالمجيء، وَيخرج من ذَلِك من لم يَجِيء. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ: (غسل يَوْم الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم) ، فَإِنَّهُ مُقَيّد بالاحتلام، فَيخرج الصّبيان. وَمِنْهَا: حَدِيث النَّهْي عَن منع النِّسَاء عَن الْمَسَاجِد إلاّ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يخرج الْجُمُعَة، وَقد مضى الْكَلَام مُسْتَوفى، فِي هَذِه الْأَحَادِيث.
قَوْله: (وَغَيرهم) ، أَي: وَغير النِّسَاء وَالصبيان، مثل الْمُسَافِرين وَالْعَبِيد وَأهل السجْن والمرضى والعميان وَمن بهم زَمَانه.
وقالَ ابنُ عُمَرَ إنَّمَا الغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ علَيْهِ الجُمُعَةُ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه نبه بِهِ على أَن الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة لَا يشرع إلاّ على من تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة، وَأَن مُرَاده بالاستفهام فِي التَّرْجَمَة الحكم بِعَدَمِ الْوُجُوب على من لم يشْهد الْجُمُعَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عمر.

894 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني سالِمُ بنُ عَبْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ. (انْظُر الحَدِيث 877 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَفْهُوم، لِأَن عدم وجوب الْغسْل على من لم يَجِيء الْجُمُعَة، وَمن لم يَجِيء لم يشهدها، وَنبهَ بِهِ أَيْضا على أَن مُرَاده بالاستفهام الحكم بِعَدَمِ الْوُجُوب على من لم يشْهد، وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا فِي: بَاب فضل الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.

895 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عنْ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ واجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَفْهُوم، لِأَن مَفْهُومه عدم وجوب الْغسْل على كل من لم يَحْتَلِم، وَمن لم يَحْتَلِم مِمَّن لَا يشْهد الْجُمُعَة، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي: بَاب وضوء الصّبيان عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن صَفْوَان عَن عَطاء عَن أبي سعيد. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب فضل الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَهَهُنَا عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن مَالك، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب وضوء الصّبيان جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ.

896 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طاوُسٍ عنْ أبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فهاذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيهِ فهَدَانَا الله فَغَدا لِلْيَهُودِ وبَعْدَ غَدٍ

(6/192)


لِلنَّصَارَى فَسَكَتَ. ثمَّ قَالَ حق على كل مُسلم أَن يغْتَسل فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا يغسل فِيهِ رَأسه وَجَسَده) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " كل مُسلم " لِأَن المُرَاد من كل مُسلم هُوَ الْمُسلم المحتلم لِأَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا وَقد مر فِي الحَدِيث السَّابِق على كل محتلم وَلَيْسَ المُرَاد من لفظ محتلم أَي محتلم كَانَ بل المُرَاد كل محتلم مُسلم وَهَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ فَإِذا كَانَ المُرَاد الْمُسلم المحتلم يخرج عَنهُ الْمُسلم غير المحتلم وَهُوَ يدْخل فِي قَوْله " من لم يشْهد الْجُمُعَة " وَأَيْضًا المُرَاد من الْمُسلم هُوَ الْمُسلم الَّذِي يَجِيء إِلَى الْجُمُعَة يدل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب وَالْمُسلم الَّذِي لَا يَجِيء يخرج مِنْهُ وَبِهَذَا التَّقْرِير يخرج الْجَواب عَمَّا قَالَه الْكرْمَانِي التَّحْقِيق أَن الحَدِيث الأول أَعنِي حَدِيث ابْن عمر دلّ على أَن الْغسْل لمن جَاءَ إِلَى الْجُمُعَة خَاصَّة وَهَذَا الحَدِيث أعنى حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَام للمجمع وَغَيره فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب بقوله لَا مُنَافَاة بَين ذكر الْخَاص وَالْعَام لِأَن الْمُنَافَاة حَاصِلَة بِحَسب الظَّاهِر لِاتِّحَاد الْمحل وَالتَّحْقِيق مَا ذَكرْنَاهُ (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ ووهيب بن خَالِد الْبَصْرِيّ صَاحب الكرابيس وَابْن طَاوس عبد الله وَأَبوهُ طَاوس بن كيسَان وَأَبُو هُرَيْرَة (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه أَن الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلين من الروَاة بصريان والاثنين الآخرين يمانيان وَفِيه رِوَايَة الابْن عَن الْأَب (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب وَأخرجه مُسلم فِي الْجُمُعَة عَن ابْن عمر عَن سُفْيَان عَن ابْن طَاوس بِهِ دون ذكر الْغسْل وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن وهيب بِذكر الْغسْل فَقَط وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن سُفْيَان مثل حَدِيث ابْن أبي عمر وَأول الحَدِيث وَهُوَ من قَوْله " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ بعد غَد " أخرجه البُخَارِيّ فِي بَاب فرض الْجُمُعَة عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة وَقد تكلمنا على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ قَوْله " فغدا للْيَهُود " ظرف مُتَعَلق إِمَّا بالْخبر وَإِمَّا بالمبتدأ تَقْدِيره الِاجْتِمَاع للْيَهُود فِي غَد وَلِلنَّصَارَى من بعد غَد ويروى فغد بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ فِي حكم الْمُضَاف فَلَا يضر كَونه فِي الصُّورَة نكرَة تَقْدِيره فغد الْجُمُعَة للْيَهُود وغد بعد غَد لِلنَّصَارَى قَوْله " فَسكت " أَي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " فَحق " الْفَاء فِيهِ يجوز أَن تكون جَوَاب شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَحق على كل مُسلم أَن يغْتَسل وَكلمَة أَن مَصْدَرِيَّة قَوْله " يَوْمًا " مُبْهَم هُنَا وَقد عينه جَابر فِي حَدِيث عِنْد النَّسَائِيّ بِلَفْظ " الْغسْل وَاجِب على كل مُسلم فِي كل أُسْبُوع يَوْمًا وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة " وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وروى سعيد بن مَنْصُور وَابْن أبي شيبَة من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب مَرْفُوعا نَحوه وَلَفظه " من الْحق على الْمُسلم أَن يغْتَسل يَوْم الْجُمُعَة " وبنحوه روى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَن رجل من الصَّحَابَة مَرْفُوعا قَوْله " وَجَسَده " أَي وَيغسل جسده أَيْضا وَإِنَّمَا ذكر الرَّأْس وَإِن كَانَ ذكر الْجَسَد يَشْمَلهُ للاهتمام بِهِ من حَيْثُ أَنه قوام الْبدن والعمدة فِيهِ
(رَوَاهُ أبان بن صَالح عَن مُجَاهِد عَن طَاوس عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لله تَعَالَى على كل مُسلم حق أَن يغْتَسل فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا) أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور أبان بن صَالح بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي هِلَال عَن أبان عَن مُجَاهِد بن جبر وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من وَجه آخر عَن طَاوس وَصرح فِيهِ بِسَمَاعِهِ لَهُ من أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -

(6/193)


899 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا شَبَابَةُ قَالَ حدَّثنا وَرْقَاءُ عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَنْ مُجَاهِدِ عنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ ائْذِنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إلَى المَسَاجِدِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يخرج الْجُمُعَة فِي حقهن فَلَا يلزمهن شهودها، وَمن لم يشهدها فَلَيْسَ عَلَيْهِ غسل، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه تعلقه بالترجمة؟ قلت: عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا عقد تَرْجَمَة للباب وَذكر مَا يتَعَلَّق بهَا يذكر أَيْضا مَا يُنَاسِبهَا، فجَاء بِهَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده ليبين إِن النِّسَاء لَهُنَّ شُهُود الْجُمُعَة. انْتهى. قلت: الْإِذْن مُقَيّد بِاللَّيْلِ، فَكيف يكون لَهُنَّ الْخُرُوج إِلَى الْجُمُعَة وَهِي نهارية؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي، فِيمَا قبل كَلَامه هَذَا فَإِن قلت: لفظ بِاللَّيْلِ مَفْهُومه أَن لَا يُؤذن فِي الْخُرُوج بِالنَّهَارِ؟ قلت: إِذا جَازَ خروجهن بِاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مَحل الْوُقُوع فِي الْفِتَن، فجواز الْخُرُوج بِالنَّهَارِ بِالطَّرِيقِ الأولى. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه مُخَالف لما قَالَه الْعلمَاء، فَإِنَّهُم قَالُوا: يخْرجن بِاللَّيْلِ لوُقُوع الْأَمْن من الْفساد من جِهَة الْفُسَّاق، لأَنهم بِاللَّيْلِ إِمَّا مشغولون بفسقهم أَو نائمون، وَلَا يخْرجن بِالنَّهَارِ لعدم الْأَمْن لانتشار الْفُسَّاق.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: عبد الله بن مُحَمَّد البُخَارِيّ المسندي، وَقد مر غير مرّة، وشبابة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة أُخْرَى: ابْن سوار الْفَزارِيّ أَبُو عَمْرو المدايني، وَقد مر فِي: بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء، وورقاء بن عَمْرو الْمَدَائِنِي مر فِي: بَاب وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء، وَعَمْرو بن دِينَار تكَرر ذكره، وَمُجاهد بن جبر مر فِي أول كتاب الْإِيمَان. قَالُوا، قد رأى هاروت وماروت وَكَاد يتْلف.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري ومدائني ومكيين وهما: عَمْرو وَمُجاهد.
وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد بِاللَّيْلِ، عَن عبد الله بن عمر بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد وَغير هَذَا اللَّفْظ، أما إِسْنَاده: فَعَن عبيد الله بن مُوسَى عَن حَنْظَلَة عَن سَالم بن عبد الله عَن ابْن عمر، وَأما لَفظه: (إِذا استأذنكم نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِد فأذنوا لَهُنَّ) . وَقَالَ هُنَاكَ: تَابعه شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر وَقد أوضحناه هُنَاكَ.

900 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ مُوسى اقال حدَّثنا أبُو أسامَةَ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ كانَتِ امْرَأةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ والعِشَاءِ فِي الجمَاعَةِ فِي المَسْجِدِ فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وقَدْ تَعْلَمِينَ أنَّ عُمَرَ يَكْرهُ ذالِكَ ويَغَارُ قالَتْ وَمَا يَمْنَعُهُ أنْ يَنْهَانِي قالَ يَمْنَعُهُ قَوْلُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَمْنَعُوا إماءَ الله مَسَاجِدَ الله. .

هَذَا الحَدِيث مُطلق، وَالَّذِي قبله مُقَيّد، فَكَأَن البُخَارِيّ حمل هَذَا الْمُطلق على ذَاك الْمُقَيد، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون الْمَعْنى: لَا تمنعوا أماء الله مَسَاجِد الله بِاللَّيْلِ، وَالْجُمُعَة تخرج عَنهُ لِأَنَّهَا نهارية، فَحِينَئِذٍ لَا تشهدها، وَمن لَا يشهدها لَيْسَ عَلَيْهِ غسل، فحصلت الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة بِهَذَا الطَّرِيق. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: يُوسُف بن مُوسَى بن رَاشد بن بِلَال الْقطَّان الْكُوفِي، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة. الثَّالِث: عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عمر حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب أَبُو عُثْمَان الْمدنِي، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه: أحد الروَاة بالكنية وَالْآخر بِالتَّصْغِيرِ، وَقد ذكره الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) من حَدِيث ابْن عمر فِي مُسْنده، وَقيل: هُوَ من مُسْند عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، والْحَدِيث أَيْضا من أَوله إِلَى قَوْله: (قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من المرسلات.

(6/194)


ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَت امْرَأَة لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) اسْمهَا: عَاتِكَة بنت زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، أُخْت سعيد بن زيد أحد الْعشْرَة المبشرة، وعينها الزُّهْرِيّ فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: (عَن معمر عَنهُ، قَالَ: كَانَت عَاتِكَة بنت زيد بن عَمْرو بن نفَيْل عِنْد عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَت تشهد الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ عمر يَقُول لَهَا: وَالله إِنَّك لتعلمين أَنِّي مَا أحب هَذَا، قَالَت: وَالله لَا أَنْتَهِي حَتَّى تنهاني! قَالَ: فَلَقَد طعن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّهَا لفي الْمَسْجِد) . كَذَا ذكره مُرْسلا، وَرَوَاهُ عبد الْأَعْلَى عَن معمر مَوْصُولا بِذكر سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، لَكِن أبهم الْمَرْأَة. أخرجه أَحْمد عَنهُ وسماها من وَجه آخر عَن سَالم قَالَ: (كَانَ عمر رجلا غيورا، وَكَانَ إِذا خرج إِلَى الصَّلَاة اتبعته عَاتِكَة بنت زيد) الحَدِيث، وَهُوَ مُرْسل. قَوْله: (تشهد) أَي: تحضر. قَوْله: (فَقيل لَهَا) أَي: لامْرَأَة عمر، وَقَالَ بَعضهم: إِن قَائِل ذَلِك كُله هُوَ عمر، وَلَا مَانع أَن يعبر عَن نَفسه بقوله: (إِن عمر) إِلَى آخِره، فَيكون من بَاب التَّجْرِيد والالتفات. انْتهى. قلت: هُوَ من بَاب التَّجْرِيد لَا من بَاب الِالْتِفَات. قَوْله: (لم تخرجين؟) أَصله: لما تخرجين، فحذفت الْألف كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {عَم يتساءلون} (النبأ: 1) . قَوْله: (وَقد تعلمين) ، جملَة وَقعت حَالا. وَقد علم أَن الْفِعْل الْمُضَارع إِذا وَقع حَالا وَهُوَ مُثبت تدخل فِيهِ كلمة: قد. قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى خُرُوجهَا الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (تخرجين) قَوْله: (ويغار) ، على وزن: يخَاف، من الْغيرَة. قَوْله: (فَمَا يمنعهُ) ، ويروى: (وَمَا يمنعهُ، بِالْوَاو وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل، وَالتَّقْدِير: فَمَا يَمْنعنِي بِأَن ينهاني، أَي: بنهيه إيَّايَ، وَقد مر الْبَحْث فِيهِ مُسْتَوفى، فِي: بَاب اسْتِئْذَان الْمَرْأَة زَوجهَا بِالْخرُوجِ إِلَى الْمَسْجِد، قبيل كتاب الْجُمُعَة.

14 - (بابُ الرُّخْصَةِ إنْ لَمْ يَحْضُرِ الجُمُعَةَ فِي المَطَرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الرُّخْصَة إِن لم يحضر الْمُصَلِّي صَلَاة الْجُمُعَة فِي وَقت نزُول الْمَطَر، وَكلمَة: إِن، بِالْكَسْرِ، و: لم يحضر، على صِيغَة الْمَعْلُوم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: و: أَن، بِالْفَتْح أَي: فِي أَن، و: يحضر، على لفظ الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الرُّخْصَة لمن لم يحضر الْجُمُعَة، وَهَذِه أحسن من غَيرهَا على مَا لَا يخفى.
والرخصة فِي اللُّغَة عبارَة عَن الْإِطْلَاق والسهولة، وَفِي الشَّرِيعَة مَا يكون ثَابتا على إعذار الْعباد تيسيرا يُسمى: رخصَة.

901 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ أَخْبرنِي عَبْدُ الحَمِيدِ صاحبُ الزِّيادِيِّ. قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ الحَارِثِ ابنُ عَمِّ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قالَ ابنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إذَا قُلْتُ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدا رَسُولَ الله فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فكأنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا. قَالَ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إنَّ الجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإنِّي كرهْتُ أنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ. (انْظُر الحَدِيث 616 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان مُسْتَوفى، لِأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب وَعبد الحميد بن دِينَار صَاحب الزيَادي، وَعَاصِم الْأَحول عَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ: (خَطَبنَا ابْن عَبَّاس فِي يَوْم ردغ. .) الحَدِيث، وَهنا أخرجه: عَن مُسَدّد أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن علية إِلَى آخِره. قَوْله: (فِي يَوْم مطير) . قَوْله: (فَكَأَن النَّاس استنكروا) أَي: استنكروا. قَوْله: (فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة، قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ) ، وَفِي رُوَاة الحَجبي: كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِك، وَفِي: بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان، فَنظر الْقَوْم بَعضهم إِلَى بعض، أَي: نظر إِنْكَار. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فعله) أَي: فعل مَا قلته للمؤذن. قَوْله: (من هُوَ خير مني) أَرَادَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عَزمَة) ، بِسُكُون الزَّاي، أَي: وَاجِبَة متحتمة. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ. قَوْله: (إِن الْجُمُعَة عَزمَة) لَا أَظُنهُ صَحِيحا، فَإِن أَكثر الرِّوَايَات بِلَفْظ: إِنَّهَا عَزمَة أَي: إِن كلمة الْأَذَان وَهِي: حَيّ على الصَّلَاة عَزمَة لِأَنَّهَا دُعَاء إِلَى الصَّلَاة يَقْتَضِي لسامعه الْإِجَابَة، وَلَو كَانَ الْمَعْنى: إِن الْجُمُعَة عَزمَة، لكَانَتْ

(6/195)


عَزِيمَة لَا تَزُول بترك بَقِيَّة الْأَذَان. انْتهى. قلت: كَأَن الْإِسْمَاعِيلِيّ إِنَّمَا اسْتشْكل هَذَا بِالنّظرِ إِلَى معنى الْعَزِيمَة، وَهُوَ مَا يكون ثَابتا ابْتِدَاء غير مُتَّصِل بمعارض، وَلَكِن المُرَاد بقول ابْن عَبَّاس: وَإِن كَانَت الْجُمُعَة عَزِيمَة، وَلَكِن الْمَطَر من الْأَعْذَار الَّتِي تصير الْعَزِيمَة رخصَة، وَهَذَا مَذْهَب ابْن عَبَّاس: أَن من جملَة الْأَعْذَار لترك الْجُمُعَة الْمَطَر، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن سِيرِين وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَت طَائِفَة: لَا يتَخَلَّف عَن الْجُمُعَة فِي الْيَوْم المطير، وروى ابْن قَانِع: قيل لمَالِك: أتتخلف عَن الْجُمُعَة فِي الْيَوْم المطير؟ قَالَ: مَا سَمِعت، قيل لَهُ: فِي الحَدِيث: (أَلا صلوا فِي الرّحال!) قَالَ: ذَلِك فِي السّفر، وَقد رخص فِي ترك الْجُمُعَة بأعذار أخر غير الْمَطَر، روى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه أجَاز أَن يتَخَلَّف عَنْهَا لجنازة أَخ من إخوانه لينْظر فِي أمره. وَقَالَ ابْن حبيب عَن مَالك: وَكَذَا إِن كَانَ لَهُ مَرِيض يخْشَى عَلَيْهِ الْمَوْت، وَقد زار ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ابْنا لسعد بن زيد ذكر لَهُ شكواه، فَأَتَاهُ إِلَى العقيق وَترك الْجُمُعَة، وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي أَمر الْوَالِد: إِذا خَافَ فَوَات نَفسه. وَقَالَ عَطاء: إِذا استصرخ على أَبِيك يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَقُمْ إِلَيْهِ واترك الْجُمُعَة. وَقَالَ الْحسن: يرخص ترك الْجُمُعَة للخائف، وَقَالَ مَالك فِي (الْوَاضِحَة) : وَلَيْسَ على الْمَرِيض وَالصَّحِيح الفاني جُمُعَة. وَقَالَ أَبُو مجلز: إِذا اشْتَكَى بَطْنه لَا يَأْتِي الْجُمُعَة. وَقَالَ ابْن حبيب: أرخص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّخَلُّف عَنْهَا لمن شهد الْفطر والأضحى صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم من أهل الْقرى الْخَارِجَة عَن الْمَدِينَة، لما فِي رُجُوعه من الْمَشَقَّة لما أَصَابَهُم من شغل الْعِيد، وَفعله عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لأهل الغوالي، وَاخْتلف قَول مَالك فِيهِ، وَالصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة: السُّقُوط، وَاخْتلف فِي تخلف الْعَرُوس والمجذوم، حَكَاهُ ابْن التِّين، وَاعْتبر بَعضهم شدَّة الْمَطَر، وَاخْتلف عَن مَالك: هَل عَلَيْهِ أَن يشهدها؟ وَكَذَا رُوِيَ عَنهُ، فِيمَن يكون مَعَ صَاحبه فيشتد مَرضه: لَا يدع الْجُمُعَة إلاّ أَن يكون فِي الْمَوْت. قَوْله: (أَن أحرجكم) من الإحراج، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالجيم من: الْحَرج، وَهُوَ الْمَشَقَّة. وَالْمعْنَى: إِنِّي كرهت أَن أشق عَلَيْكُم بإلزامكم السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فِي الطين والمطر. ويروى: (أَن أخرجكم) من الْإِخْرَاج، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من الْخُرُوج. ويروى: (كرهت أَو أؤثمكم) أَي: أَن أكون سَببا لاكتسابكم الْإِثْم عِنْد ضيق صدوركم. قَوْله: (فِي الدحض) ، بِفَتْح الدَّال والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة، وَيجوز تسكين الْحَاء وَهُوَ: الزلق. قَالَ فِي (الْمطَالع) : كَذَا فِي رِوَايَة الكافة، وَعند الْقَابِسِيّ بالراء، وَفَسرهُ بَعضهم بِمَا يجْرِي فِي الْبيُوت من الرحاضة، وَهُوَ بعيد إِنَّمَا الرحض: الْغسْل، والمرحاض خَشَبَة يضْرب بهَا الثَّوْب ليغسل عِنْد الْغسْل، وَأما ابْن التِّين فَإِنَّهُ ذكره بالراء. قَالَ: وَكَذَا لأبي الْحسن، ورحضت الشَّيْء غسلته، وَمِنْه المرحاض، أَي: المغتسل، فوجهه أَن الأَرْض حِين يُصِيبهَا الْمَطَر تصير كالمغتسل، وَالْجَامِع بَينهمَا: الزلق.

15 - (بابٌ مِنْ أيْنَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ وعَلَى عَنْ تَجِبُ لِقَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ الله} (الْجُمُعَة: 9) .)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: من أَيْن تُؤْتى الْجُمُعَة؟ وَكلمَة: أَيْن، اسْتِفْهَام عَن الْمَكَان. وَقَوله: تُؤْتى، مَجْهُول من الْإِتْيَان. قَوْله: (وعَلى من تجب؟) أَي: الْجُمُعَة. قَوْله: (لقَوْله تَعَالَى) يتَعَلَّق بقوله: (تجب) ، وَأَرَادَ بإيراده بعض هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة الْإِشَارَة إِلَى وجوب الْجُمُعَة، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَكِن الْخلاف فِيمَن تجب عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ ذكر التَّرْجَمَة بالاستفهام لهَذَا الْمَعْنى، وَقد تكلمنا فِيمَا يتَعَلَّق بِالْآيَةِ الْكَرِيمَة فِي أول كتاب الْجُمُعَة لِأَنَّهُ ذكر الْآيَة الْكَرِيمَة هُنَاكَ.
وقَالَ عَطَاءٌ إذَا كُنْتُ فِي قَرْيَةٍ جامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَحَقَّ عَلَيْكَ أنْ تَشْهَدَهَا سَمعْت النِّدَاءَ أوْ لَمْ تَسْمَعْهُ
عَطاء هُوَ: ابْن أبي رَبَاح، وَوَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ، وَزَاد فِي رِوَايَته: عَن ابْن جريج أَيْضا قلت لعطاء: مَا الْقرْيَة الجامعة؟ قَالَ: ذَات الْجَمَاعَة والأمير وَالْقَاضِي والدور المجتمعة الْآخِذ بَعْضهَا بِبَعْض، مثل جدة. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره حد الْمَدِينَة أطلق عَلَيْهَا اسْم الْقرْيَة. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: على رجل من القريتين} (الزخرف: 31) . وهما: مَكَّة والطائف، وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة. قَوْله: (سَمِعت النداء أَو لم تسمعه) يَعْنِي: إِذا كَانَ دَاخل الْبَلَد، وَبِهَذَا صرح

(6/196)


أَحْمد، وَنقل النَّوَوِيّ: أَنه لَا خلاف فِيهِ.
وكانَ أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فِي قَصْرِهِ أحْيانا يجَمِّعُ وأحْيانا لاَ يُجَمِّعُ وَهْوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ
أنس هُوَ ابْن مَالك خَادِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا وَكِيع عَن أبي البخْترِي، قَالَ: رَأَيْت أنسا شهد الْجُمُعَة من الزاوية، وَهِي على فرسخين من الْبَصْرَة. قَوْله: (أَحْيَانًا) أَي: فِي بعض الْأَوْقَات، وانتصابه على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (يجمع) ، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْمِيم أَي: يُصَلِّي الْجُمُعَة بِمن مَعَه، أأو: يشْهد الْجُمُعَة بِجَامِع الْبَصْرَة. قَوْله: (وَهُوَ) أَي: الْقصر (بالزاوية) : وَهُوَ مَوضِع ظَاهر الْبَصْرَة مَعْرُوف، بَينهَا وَبَين الْبَصْرَة فرسخان، والفرسخ، فِيهِ وقْعَة كَبِيرَة بَين الْحجَّاج وَابْن الْأَشْعَث قَوْله: (فرسخين) أَي: من الْبَصْرَة. فَإِن قلت: روى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ثَابت قَالَ: كَانَ أنس يكون فِي أرضه وَبَينه وَبَين الْبَصْرَة ثَلَاثَة أَمْيَال، فَيشْهد الْجُمُعَة بِالْبَصْرَةِ، فَهَذَا يُعَارض مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة؟ قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَن الأَرْض الْمَذْكُورَة غير الْقصر، وَأَيْضًا الفرسخ ثَلَاثَة أَمْيَال، والميل أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة.

902 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ وَهَبٍ. قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ الحارِثِ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي جَعْفَرٍ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ جَعْفَرِ بنِ الزُبَيْرِ حدَّثَهُ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ كانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ مَنازِلِهِمْ والعَوَالِي فيَأتُونَ فِي الغُبَارِ يُصِيبُهُمُ الغُبَارُ والعَرَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ العَرَقُ فأتَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنْسَان مِنْهُمْ وَهْوَ عِنْدِي فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ أنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هاذا.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (كَانَ النَّاس ينتابون الْجُمُعَة من مَنَازِلهمْ والعوالي) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن صَالح، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَبِه قَالَ ابْن السكن، وَذكر الجياني أَن البُخَارِيّ روى عَن أَحْمد، يَعْنِي: غير مُسَمّى، عَن ابْن وهب فِي كتاب الصَّلَاة فِي موضِعين، وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد حَدثنَا ابْن وهب قَالَ ... ، وَنسبه أَبُو عَليّ بن السكن فِي نسخته، فَقَالَ: أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: روى البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع عَن أَحْمد عَن ابْن وهب، فَقيل: إِنَّه ابْن صَالح الْمصْرِيّ. وَقيل: ابْن عِيسَى التسترِي، وَلَا يَخْلُو أَن يكون وَاحِدًا مِنْهُمَا، فقد روى عَنْهُمَا فِي (الْجَامِع) ونسبهما فِي مَوَاضِع، وَذكر أَبُو نصر الكلاباذي، قَالَ: قَالَ لي أَبُو أَحْمد، يَعْنِي الْحَاكِم: أَحْمد عَن ابْن وهب فِي (الْجَامِع) هُوَ ابْن أخي ابْن وهب. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: من قَالَ هَذَا فقد وهم وَغلط، دَلِيله أَن الْمَشَايِخ الَّذين ترك البُخَارِيّ الرِّوَايَة عَنْهُم فِي (الْجَامِع) فقد روى عَنْهُم فِي سَائِر مصنفاته: كَابْن صَالح وَغَيره، وَلَيْسَ لَهُ عَن ابْن أخي وهب رِوَايَة فِي مَوضِع، فَهَذَا يدل على أَنه لم يكْتب عَنهُ، أَو كتب عَنهُ ثمَّ ترك الرِّوَايَة عَنهُ أصلا. وَقَالَ الكلاباذي: قَالَ ابْن مَنْدَه: كلما قَالَ البُخَارِيّ فِي (الْجَامِع) : حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب فَهُوَ ابْن صَالح، وَلم يخرج عَن ابْن أخي ابْن وهب فِي (الصَّحِيح) وَإِذا حدث عَن أَحْمد بن عِيسَى نِسْبَة. الثَّانِي: عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ. الثَّالِث: عَمْرو بن الْحَارِث، مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع: عبيد الله بن أبي جَعْفَر الْأمَوِي الْقرشِي، وَاسم أبي جَعْفَر: يسَار، أحد أَعْلَام مصر، مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير بن الْعَوام الْقرشِي. السَّادِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الْأَرْبَعَة من الروَاة مصريون وهم: شَيْخه وَثَلَاثَة بعده متناسقون، وَاثْنَانِ بعدههما مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن سعيد وَأحمد بن عِيسَى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ينتابون الْجُمُعَة) ، أَي: يحضرونها بالنوبة، وَهُوَ من الانتياب من النّوبَة، وَهُوَ الْمَجِيء نوبا،

(6/197)


ويروى (يتناوبون) من النّوبَة أَيْضا. قَوْله: (والعوالي) جمع الْعَالِيَة، وَهِي مَوَاضِع وقرى بِقرب مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِهَة الْمشرق من ميلين إِلَى ثَمَانِيَة أَمْيَال. وَقيل: أدناها من أَرْبَعَة أَمْيَال. قَوْله: (فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَار يصيبهم الْغُبَار) كَذَا وَقع لأكْثر الروَاة، وَعند الْقَابِسِيّ: (فَيَأْتُونَ فِي العباء) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالمد جمع: عباءة، وعباية، لُغَتَانِ مشهورتان، وَكَذَا شَرحه النَّوَوِيّ فِي (شَرحه) لِأَنَّهُ عِنْد مُسلم كَذَا هُوَ، وَكَذَا عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيرهمَا، وَهُوَ الصَّوَاب. قَوْله: (إِنْسَان مِنْهُم) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (أنَاس مِنْهُم) . قَوْله: (لَو أَنكُمْ تطهرتم) ، كلمة: لَو، تَقْتَضِي دُخُولهَا على الْفِعْل، تَقْدِيره: لَو ثَبت تطهركم، ثمَّ إِن: لَو، هَذِه يجوز أَن تكون لِلتَّمَنِّي، فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَيجوز أَن تكون على أَصْلهَا وَالْجَزَاء مَحْذُوف تَقْدِيره: لَكَانَ حسنا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب أَعنِي: فِي وجوب الْجُمُعَة على من كَانَ خَارج الْمصر فَقَالَت طَائِفَة: تحب على من آواه اللَّيْل إِلَى أَهله، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وَأنس وَابْن عمر وَمُعَاوِيَة، وَهُوَ قَول نَافِع وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَالْحكم وَالنَّخَعِيّ وَأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنْهُم لحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الْجُمُعَة على من آواه اللَّيْل إِلَى أَهله) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وضعفاه، وَنقل عَن أَحْمد أَنه لم يره شَيْئا، وَقَالَ لمن ذكره لَهُ: اسْتغْفر رَبك اسْتغْفر رَبك، وَمعنى هَذَا الحَدِيث: أَنه إِذا جمع مَعَ الإِمَام أمكنه الْعود إِلَى أَهله آخر النَّهَار قبل دُخُول اللَّيْل. وَقَالَت طَائِفَة: إِنَّهَا تجب على من سمع النداء، رُوِيَ ذَلِك عَن عبد الله بن عمر أَيْضا وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَحَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ عَن مَالك أَيْضا وَاسْتدلَّ لَهُ بِحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن سعيد عَن أبي سَلمَة بن نبيه عَن عبد الله بن هَارُون عَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ: (الْجُمُعَة على من سمع النداء) . قَالَ أَبُو دَاوُد: روى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة عَن سُفْيَان مَقْصُورا على عبد الله بن عَمْرو، وَلم يرفعوه. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة الْوَلِيد عَن زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِنَّمَا الْجُمُعَة على من سمع النداء) ، والوليد هُوَ ابْن مُسلم، وَزُهَيْر ابْن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا من رجال (الصَّحِيح) . لَكِن زهيرا روى عَنهُ أهل الشَّام مَنَاكِير، مِنْهُم: الْوَلِيد والوليد مُدَلّس، وَقد رَوَاهُ بالعنعنة فَلَا تصح، وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة مُحَمَّد ابْن الْفضل بن عَطِيَّة عَن حجاج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (وَالْجُمُعَة على من يهدىء الصَّوْت) . قَالَ دَاوُد بن رشيد: يَعْنِي حَيْثُ يسمع الصَّوْت، وَمُحَمّد بن الْفضل بن عَطِيَّة ضَعِيف جدا، وَالْحجاج هُوَ: ابْن أَرْطَأَة، وَهُوَ مُدَلّس مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الْوُجُوب على من سمع النداء عِنْد الشَّافِعِي، قَالَ: وتعليقه السَّعْي على سَماع النداء يسْقطهُ عَمَّن كَانَ فِي الْمصر الْكَبِير إِذا لم يسمعهُ، وَقَالَت طَائِفَة: يجب على أهل الْمصر، وَلَا يجب على من كَانَ خَارج الْمصر، سمع النداء أَو لم يسمعهُ. قَالَ شَيخنَا فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَهُوَ قَول أبي حنيفَة بِنَاء على قَوْله: إِن الْجُمُعَة لَا تجب على أهل الْقرى والبوادي مَا لم يكن فِي الْمصر، وَرجحه القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ، وَقَالَ: إِن الظَّاهِر مَعَ أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة: أَن الْجُمُعَة لَا تصح إلاّ فِي مصر جَامع، أَو فِي مصلى الْمصر نَحْو مصلى الْعِيد. وَفِي (الْمُفِيد) و (الاسبيجابي) و (التُّحْفَة) : لَا تجب الْجُمُعَة عندنَا إلاّ فِي مصر جَامع، أَو فِيمَا هُوَ فِي حكمه، كمصلى الْعِيد. وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : وأرباض الْمصر كالمصر، وَفِي (الْيَنَابِيع) : لَو كَانَ منزله خَارج الْمصر لَا تجب عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا أصح مَا قيل فِيهِ، وَفِي (قاضيخان) : عَن أبي يُوسُف هُوَ رِوَايَة عَنهُ، وَعنهُ من ثَلَاثَة فراسخ، وَعنهُ إِذا شهد الْجُمُعَة فَإِن أمكنه الْمبيت بأَهْله لَزِمته الْجُمُعَة، وَاخْتَارَهُ كثير من مَشَايِخنَا. وَفِي (الذَّخِيرَة) : فِي ظَاهر رِوَايَة أَصْحَابنَا: لَا يجب شُهُود الْجُمُعَة إلاّ على من يسكن الْمصر والأرباض دون السوَاد، سَوَاء كَانَ قَرِيبا من مصر أَو بَعيدا عَنْهَا. وَعَن مُحَمَّد: إِذا كَانَ بَينه وَبَين الْمصر ميل أَو ميلان أَو ثَلَاثَة أَمْيَال فَعَلَيهِ الْجُمُعَة، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث، وَفِي (منية الْمُفْتِي) على أهل السوَاد الْجُمُعَة إِذا كَانُوا على قدر فَرسَخ هُوَ الْمُخْتَار، وَعنهُ: إِذا كَانَ أقل من فرسخين تجب، وَفِي الْأَكْثَر. لَا، وَفِي رِوَايَة: كل مَوضِع لَو خرج الإِمَام إِلَيْهِ صلى الْجُمُعَة فَتجب، وَعَن معَاذ بن جبل: يجب الْحُضُور من خَمْسَة عشر فرسخا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: يجب عِنْد ابْن الْمُنْكَدر وَرَبِيعَة وَالزهْرِيّ فِي رِوَايَة: من أَرْبَعَة أَمْيَال، وَعَن الزُّهْرِيّ: من سِتَّة أَمْيَال، وَحَكَاهُ ابْن التِّين عَن النَّخعِيّ وَعَن مَالك وَاللَّيْث: ثَلَاثَة أَمْيَال. وَحكى أَبُو حَامِد عَن عَطاء: عشرَة أَمْيَال.
وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك: هَل مُرَاعَاة

(6/198)


ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمنَار أَو من طرف الْمَدِينَة؟ فَالْأول قَالَه القَاضِي أَبُو مُحَمَّد، وَالثَّانِي قَالَه مُحَمَّد بن عبد الحكم. وَعَن حُذَيْفَة: لَيْسَ على من على رَأس ميل جُمُعَة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : فِي حَدِيث الْبَاب رد لقَوْل الْكُوفِيّين أَن الْجُمُعَة لَا تجب على من كَانَ خَارج الْمصر، لِأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخْبرت عَنْهُم بِفعل دَائِم أَنهم كَانُوا يتناوبون الْجُمُعَة، فَدلَّ على لُزُومهَا عَلَيْهِم. قلت: هَذَا نَقله عَن الْقُرْطُبِيّ، وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا على أهل العوالي مَا تناوبوا، ولكانوا يحْضرُون جَمِيعًا.
وَفِيه من الْفَوَائِد: رفق الْعَالم بالمتعلم، واستحباب التَّنْظِيف لمجالسة أهل الْخَيْر، وَاجْتنَاب أَذَى الْمُسلم بِكُل طَرِيق، وحرص الصَّحَابَة على امْتِثَال الْأَمر وَلَو شقّ عَلَيْهِم.