عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 21 - (بابُ الأذَانِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان يَوْم
الْجُمُعَة مَتى يشرع.
912 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عنِ
الزُّهْرِيِّ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ كانَ
النِّدَاءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أوَّلُهُ إذَا جَلَسَ
الإمامُ عَلَى المِنْبَر عَلى عَهْدِ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا فَلَمَّا كانَ عُثْمَانُ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ وكَثُرَ النَّاسُ زادَ النِّدَاءُ الثَّالِثَ عَلَى
الزَّوْرَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: آدم بن أبي إِيَاس، وَمُحَمّد
بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، وَمُحَمّد بن مُسلم بن
شهَاب الزُّهْرِيّ، والسائب بن يزِيد الْكِنْدِيّ ابْن اخت
النمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي
موضِعين وَفِيه عَن السَّائِب، وَفِي رِوَايَة عقيل: عَن
ابْن شهَاب أَن السَّائِب ابْن يزِيد أخبرهُ، وَفِي
رِوَايَة يونسوفيه: عَن الزُّهْرِيّ سَمِعت السَّائِب،
وَسَتَأْتِي هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَن قريب إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجُمُعَة عَن أبي نعيم وَعَن يحيى بن بكير
وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة الْمرَادِي وَعَن عبد
الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي وَعَن هناد بن السّري وَعَن
مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ
عَن أَحْمد بن منيع وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة الْمرَادِي
بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن عبد
الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن يُوسُف بن
مُوسَى الْقطَّان وَعَن عبد الله بن سعيد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ النداء) ، أَي: الْأَذَان،
وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة عَن وَكِيع عَن
ابْن أبي ذِئْب، (كَانَ الْأَذَان على عهد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر أذانين يَوْم
الْجُمُعَة) يُرِيد بالأذانين: الْأَذَان وَالْإِقَامَة.
تَغْلِيبًا، أَو لاشْتِرَاكهمَا فِي الْإِعْلَام وَفِي
رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة عَن أبي عَامر: (عَن ابْن أبي
ذِئْب: كَانَ ابْتِدَاء النداء الَّذِي ذكره الله تَعَالَى
فِي الْقُرْآن يَوْم الْجُمُعَة) . قَوْله: (أَوله) ،
بِالرَّفْع بدل من النداء. قَوْله: (إِذا جلس الإِمَام على
الْمِنْبَر) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر: كَانَ،
وَفِي رِوَايَة أبي عَامر الْمَذْكُورَة: (إِذا خرج
الإِمَام وَإِذا أُقِيمَت الصَّلَاة) . وَكَذَا فِي
رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن أبي فديك عَن ابْن
أبي ذِئْب. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن سُلَيْمَان
التَّيْمِيّ: عَن الزُّهْرِيّ (كَانَ بِلَال يُؤذن إِذا
جلس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر،
فَإِذا نزل أَقَامَ، ثمَّ كَانَ كَذَلِك فِي زمن أبي بكر
وَعمر) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (كَانَ يُؤذن بَين
يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بَاب
الْمَسْجِد وَأبي بكر وَعمر) . وَكَذَا فِي رِوَايَة
الطَّبَرَانِيّ، وَفِي رِوَايَة عبد بن حميد فِي
تَفْسِيره: (فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأبي بكر وَعمر وَعَامة خلَافَة عُثْمَان، فَلَمَّا
تَبَاعَدت الْمنَازل وَكثر النَّاس أَمر بالنداء الثَّالِث
فَلم يعب ذَلِك عَلَيْهِ، وعيب عَلَيْهِ إتْمَام الصَّلَاة
بمنى) . وَقَالَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله: حَدثنَا بعض
أَصْحَابنَا عَن ابْن أبي ذِئْب، وَفِيه: ثمَّ أحدث
عُثْمَان الْأَذَان الأول على الزَّوْرَاء. وَفِي (مُصَنف
عبد الرَّزَّاق) : عَن ابْن جريج، قَالَ سُلَيْمَان بن
مُوسَى: (أول من زَاد الْأَذَان بِالْمَدِينَةِ عُثْمَان،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ عَطاء: كلا إِنَّمَا
كَانَ يَدْعُو النَّاس دُعَاء وَلَا
(6/210)
يُؤذن غير أَذَان وَاحِد) ، وَفِيه أَيْضا
عَن الْحسن: (النداء الأول يَوْم الْجُمُعَة الَّذِي يكون
عِنْد خُرُوج الإِمَام، وَالَّذِي يكون قبل ذَلِك مُحدث) .
وَكَذَا قَالَ ابْن عمر فِي رِوَايَة عَنهُ: الْأَذَان
الأول يَوْم الْجُمُعَة بِدعَة، وَعَن الزُّهْرِيّ: أول من
أحدث الْأَذَان الأول عُثْمَان، يُؤذن لأهل الْأَسْوَاق.
وَفِي لفظ: (فأحدث عُثْمَان التأذينة الثَّالِثَة على
الزَّوْرَاء ليجتمع النَّاس) . وَوَقع فِي (تَفْسِير
جُوَيْبِر) : عَن الضَّحَّاك عَن برد بن سِنَان عَن
مَكْحُول (عَن معَاذ بن عمر، هُوَ الَّذِي زَاد: فَلَمَّا
كَانَت خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكثر
السلمون أَمر مؤذنين أَن يؤذنا للنَّاس بِالْجمعَةِ
خَارِجا فِي الْمَسْجِد حَتَّى يسمع النَّاس الْأَذَان،
وَأمر أَن يُؤذن بَين يَدَيْهِ كَمَا كَانَ يفعل
الْمُؤَذّن بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَبَين يَدي أبي بكر، ثمَّ قَالَ عمر أما الْأَذَان الأول
فَنحْن ابتدعناه لِكَثْرَة الْمُسلمين فَهُوَ سنة من
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاضِيَة) . وَقيل:
إِن أول من أحدث الْأَذَان الأول بِمَكَّة: الْحجَّاج،
وبالبصرة: زِيَاد. قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان)
أَرَادَ أَنه لما صَار خَليفَة. قَوْله: (وَكثر النَّاس)
أَي: بِمَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصرح
بِهِ فِي رِوَايَة الْمَاجشون، وَظَاهر هَذَا أَن عُثْمَان
أَمر بذلك فِي ابْتِدَاء خِلَافَته، لَكِن فِي رِوَايَة
أبي حَمْزَة عَن يُونُس عِنْد أبي نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) أَن ذَلِك كَانَ بعد مُضِيّ مُدَّة
خِلَافَته. قَوْله: (زَاد النداء الثَّالِث) إِنَّمَا سمي
ثَالِثا بِاعْتِبَار كَونه مزيدا، لِأَن الأول هُوَ
الْأَذَان عِنْد جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر،
وَالثَّانِي هُوَ الْإِقَامَة للصَّلَاة عِنْد نُزُوله،
وَالثَّالِث عِنْد دُخُول وَقت الظّهْر فَإِن قلت: هُوَ
الأول لِأَنَّهُ مقدم عَلَيْهِمَا قلت: نعم هُوَ أول فِي
الْوُجُود، وَلكنه ثَالِث بِاعْتِبَار شرعيته بِاجْتِهَاد
عُثْمَان وموافقة سَائِر الصَّحَابَة بِهِ بِالسُّكُوتِ
وَعدم الْإِنْكَار، فَصَارَ إِجْمَاعًا سكوتيا وَإِنَّمَا
أطلق الْأَذَان على الْإِقَامَة لِأَنَّهَا إِعْلَام
كالأذان، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بَين
كل أذانين صَلَاة لمن شَاءَ) . وَيَعْنِي بِهِ بَين
الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَإِنَّمَا أولناه هَكَذَا حَتَّى
لَا يلْزم أَن يكون الْأَذَان ثَلَاثًا، وَلم يكن كَذَلِك،
وَلَا يلْزم أَيْضا أَن يكون فِي الزَّمن الأول أذانان،
وَلم يكن إلاّ أَذَان وَاحِد، فالأذان الثَّالِث الَّذِي
زَاده عُثْمَان هُوَ الأول الْيَوْم، فَيكون الأول: هُوَ
الْأَذَان الَّذِي كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وزمن أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، عِنْد الْجُلُوس على الْمِنْبَر، وَالثَّانِي:
هُوَ الْإِقَامَة. وَالثَّالِث: الْأَذَان الَّذِي زَاده
عُثْمَان، فَأذن بِهِ على الزَّوْرَاء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قيل اسْتدلَّ البُخَارِيّ
بِهَذَا الحَدِيث على الْجُلُوس على الْمِنْبَر قبل
الْخطْبَة، قَالَ بَعضهم: خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة،
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) قَوْله: (إِذا جلس الإِمَام
على الْمِنْبَر) هَذَا سنة، وَعَلِيهِ عَامَّة الْعلمَاء،
خلافًا لأبي حنيفَة، كَذَا قَالَه ابْن بطال وَتَبعهُ ابْن
التِّين. وَقَالا: خَالف الحَدِيث قلت: هما خالفا الحَدِيث
حَيْثُ نسبا إِلَيْهِ مَا لم يقل، لِأَن مذْهبه مَا ذكره
صَاحب (الْهِدَايَة) . وَإِذا صعد الإِمَام على الْمِنْبَر
جلس وَأذن الْمُؤَذّن بَين يَدي الْمِنْبَر، بذلك جرى
التَّوَارُث. انْتهى. وَاخْتلف أَن جُلُوس الإِمَام على
الْمِنْبَر قبل الْخطْبَة هَل هُوَ للأذان أَو لراحة
الْخَطِيب؟ فعلى الأول لَا يسن فِي الْعِيد، لِأَنَّهُ لَا
أَذَان لَهُ. وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الْأَذَان
قبل الْخطْبَة وَأَن الْخطْبَة قبل الصَّلَاة. وَمِنْه:
أَن التأذين كَانَ بِوَاحِد، وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلف
الْفُقَهَاء هَل يُؤذن بَين يَدي الإِمَام وَاحِد أَو
مؤذنون؟ فَذكر ابْن عبد الحكم عَن مَالك: إِذا جلس على
الْمِنْبَر ونادى الْمُنَادِي منع النَّاس من البيع تِلْكَ
السَّاعَة، هَذَا يدل على أَن النداء عِنْده وَاحِد بَين
يَدي الإِمَام، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي، وَيشْهد لَهُ
حَدِيث السَّائِب: (لم يكن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم غير مُؤذن وَاحِد) ، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون
أَرَادَ بِلَالًا لمواظبته على الْأَذَان دون ابْن أم
مَكْتُوم وَغَيره، وَعَن ابْن الْقَاسِم، عَن مَالك: إِذا
جلس الإِمَام على الْمِنْبَر وَأخذ المؤذنون فِي الْأَذَان
حرم البيع، فَذكر المؤذنون بِلَفْظ الْجَمَاعَة، وَيشْهد
لهَذَا حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن ثَعْلَبَة بن أبي مَالك
الْقرظِيّ: (أَنهم كَانُوا فِي زمن عمر بن الْخطاب يصلونَ
يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى يخرج عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَجلسَ على الْمِنْبَر وَأذن المؤذنون. .)
الحَدِيث، وَهَكَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة
وَأَصْحَابه، قَالَ ابْن عمر: وَمَعْلُوم عِنْد النَّاس
أَنه جَائِز أَن يكون المؤذنون وَاحِدًا وَجَمَاعَة فِي كل
صَلَاة إِذا كَانَ ذَلِك مترادفا لَا يمْنَع من إِقَامَة
الصَّلَاة فِي وَقتهَا، وَعَن الدَّاودِيّ: كَانُوا
يُؤذنُونَ فِي أَسْفَل الْمَسْجِد لَيْسُوا بَين يَدي
الإِمَام، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، جعل من يُؤذن على الزَّوْرَاء، وَهِي كالصومعة،
فَلَمَّا كَانَ هِشَام جعل المؤذنين أَو بَعضهم يُؤذنُونَ
بَين يَدَيْهِ، فصاروا ثَلَاثَة، فَسُمي فعل عُثْمَان
ثَالِثا لذَلِك. فَإِن قلت: قد مر عَن السَّائِب: (لم يكن
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير مُؤذن وَاحِد) ،
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ: (لم يكن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُؤذن غير وَاحِد) ، فقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن ابْن أم
مَكْتُوم كَانَ يُؤذن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلذَلِك قَالَ: (فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تسمعوا
(6/211)
تأذين ابْن أم مَكْتُوم) ، وَكَانَ من
مؤذنيه أَيْضا سعد الْقرظ وَأَبُو مَحْذُورَة والْحَارث
الصدائي، فَمَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت:
أَرَادَ السَّائِب بقوله: (لم يكن لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم غير مُؤذن وَاحِد) ، يَعْنِي فِي
الْجُمُعَة، فَلم ينْقل أَن غَيره كَانَ يُؤذن للْجُمُعَة،
فَالَّذِي ورد عَنهُ التأذين يَوْم الْجُمُعَة، بِلَال،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم ينْقل أَن ابْن أم
مَكْتُوم كَانَ يُؤذن للْجُمُعَة. وَأما سعد الْقرظ
فَكَانَ جعله مُؤذنًا بقباء، وَأما أَبُو مَحْذُورَة جعله
مُؤذنًا بِمَكَّة، شرفها الله تَعَالَى، وَأما الْحَارِث،
فَإِنَّهُ تعلم الْأَذَان حَتَّى يُؤذن لِقَوْمِهِ.
قَالَ أبُو عُبَيْدِ الله الزَّوْرَاءُ مَوْضِعٌ بالسُّوقِ
بالمَدِينَةِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، والزوراء، بِفَتْح
الزَّاي وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا رَاء ممدودة، وَقد
فَسرهَا البُخَارِيّ بقوله: مَوضِع بِالسوقِ
بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْن بطال: هُوَ حجر كَبِير عِنْد
بَاب الْمَسْجِد. قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ ممدودة ومتصلة
بِالْمَدِينَةِ، وَبهَا كَانَ مَال أحيحة بن الجلاح، وَهِي
الَّتِي عنيت بقوله:
(إِنِّي مُقيم على الزَّوْرَاء أعمرها ... إِن الْكَرِيم
على الإخوان ذُو المَال)
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَمَوِيّ: هِيَ قرب الْجَامِع
مُرْتَفعَة كالمنارة، وَيفرق بَينهَا وَبَين أَرض أحيحة
وَفِي (فَتَاوَى ابْن يَعْقُوب الخاصي) : هِيَ المأذنة،
وَفِيه نظر. وَلم يكن فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مأذنة الَّتِي يُقَال لَهَا: المنارة، نعم كل مَوضِع
مُرْتَفع عَال يشبه بالمنارة، وَعند ابْن مَاجَه وَابْن
خُزَيْمَة بِلَفْظ: (زَاد النداء الثَّالِث على دَار فِي
السُّوق يُقَال لَهَا: الزَّوْرَاء) ، وَعند
الطَّبَرَانِيّ: (فَأمر بالنداء الأول على دَار لَهُ
يُقَال لَهَا الزَّوْرَاء) .
22 - (بابٌ المُؤَذِّنُ الوَاحِدُ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: الْمُؤَذّن الْوَاحِد يَوْم
الْجُمُعَة، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد
على من قَالَ: (كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
إِذا رقي الْمِنْبَر وَجلسَ أذن المؤذنون، وَكَانُوا
ثَلَاثَة وَاحِدًا بعد وَاحِد، فَإِذا فرغ الثَّالِث قَامَ
فَخَطب) . وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْن حبيب.
913 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
العَزِيزِ بنُ أبِي سَلَمَةَ المَاجِشُونُ عنِ
الزُّهْرِيِّ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ أنَّ الَّذِي
زَادَ التَّأذِينَ الثَّالِثَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عُثْمَانُ
بنُ عَفَّانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حينَ كَثُرَ أهْلُ
المَدِينَةِ ولَمْ يَكُنْ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُؤذِّنٌ غَيْرُ وَاحِدٍ وكانَ التَّأذِينْ يوْمَ
الجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإمامُ يَعْنِي عَلَى
المِنْبَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث أخرجه فِي
الْبَاب الَّذِي قبله عَن آدم بن أبي إِيَاس، وَأخرجه
هَهُنَا لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة للزِّيَادَة
الَّتِي فِيهِ، وَهِي قَوْله: (وَلم يكن للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مُؤذن غير وَاحِد) ، عَن أبي نعيم الْفضل
بن دُكَيْن عَن عبد الْعَزِيز ابْن أبي سَلمَة، بِفَتْح
اللَّام الْمَاجشون، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا، عَن
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره.
وَفِيه أَن عُثْمَان هُوَ الَّذِي زَاد الْأَذَان
الثَّالِث الَّذِي هُوَ الأول فِي الْوُجُود، كَمَا ذكرنَا
وَجهه مستقصىً وَذكرنَا أَيْضا وَجه قَوْله: (وَلم يكن
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذن غير وَاحِد) .
وَفِيه: أَن الْمُسْتَحبّ أَن يجلس الإِمَام على
الْمِنْبَر بعد صُعُوده، إِمَّا للأذان أَو للاستراحة،
كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق، وَأَن
الْمُسْتَحبّ الْخطْبَة على الْمِنْبَر، فَإِن لم يكن فعلى
مَوضِع عَال مشرفٍ، وَسمي الْمِنْبَر أَيْضا بِهِ
لِأَنَّهُ من النبر وَهُوَ الِارْتفَاع، وَالْقِيَاس فِيهِ
فتح الْمِيم، وَلَكِن المسموع كسرهَا. فَافْهَم.
23 - (بابٌ يُجِيبُ الإمَامُ عَلَى المِنْبَرِ إذَا سَمِعَ
النِّدَاءَ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته يُجيب الإِمَام وَهُوَ على
الْمِنْبَر إِذا سمع النداء أَي: الْأَذَان، وَإِنَّمَا
أطلق الْأَذَان عَلَيْهِ. وَإِن كَانَ جَوَابا لَهُ، لِأَن
صورته صُورَة الْأَذَان. وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: يُؤذن،
بدل: يُجيب، فَكَأَنَّهُ سَمَّاهُ أذانا لكَونه
بِلَفْظِهِ.
(6/212)
914 - حدَّثنا بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا
عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا أَبُو بَكْرِ بنُ عُثْمَانَ بنُ
سَهلِ بنِ حُنَيْفٍ عَن أبي أمامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ
حُنَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بنَ أبِي سُفْيَانَ
وَهْوَ جالِسٌ عَلى المِنْبَرِ أذَّنَ المُؤذنُ قَالَ ألله
أكبرُ الله أكبرُ قَالَ مُعَاوِيةُ الله أكبرُ الله
أكْبَرُ قالَ أشهَدُ أنُ لَا إلَهَ إلاَّ الله فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ وَأنا فَقَالَ أشهَدُ أنَّ مُحَمَّدا رَسولُ
الله فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنا فلَمَّا أنْ قَضَى
التَّأذِين قَالَ يَا أيُّها النَّاسُ إنِّي سَمِعْتُ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى هَذَا
المَجْلِسِ حِينَ أذَّنَ المُؤَذَّنُ يقُولُ مَا
سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي. (انْظُر الحَدِيث 612
وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل
الْمروزِي المجاور بِمَكَّة، ثِقَة صَاحب حَدِيث، مَاتَ
سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن
الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: أَبُو بكر بن عُثْمَان
بن سهل بن حنيف، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء.
الرَّابِع: أَبُو أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة: واسْمه أسعد
بن سهل بن حنيف. الْخَامِس: مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان،
واسْمه: صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه،
وَهِي رِوَايَة أبي بكر عَن أبي أُمَامَة. وَفِيه:
رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: عَن أبي
أُمَامَة. وَفِيه: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: سَمِعت
أَبَا أُمَامَة. وَفِيه: أَن الْأَوَّلين من الروَاة
مروزيان والاثنان مدنيان.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة
وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن
سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك وَعَن مُحَمَّد
بن مَنْصُور. وَأخرج البُخَارِيّ أَيْضا حَدِيث أبي
أُمَامَة بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه: فِي بَاب وَقت
الْعَصْر، وتكلمنا فِي حَدِيث الْبَاب مستقصىً فِي: بَاب
مَا يَقُول إِذا سمع الْمُنَادِي.
قَوْله: (وَهُوَ جَالس على الْمِنْبَر) جملَة إسمية وَقعت
حَالا. قَوْله: (أَنا) أَي: وَأَنا أشهد أَيْضا بِهِ، أَو
وَأَنا أَيْضا أَقُول مثله. قَوْله: (فَلَمَّا أَن قضى)
كلمة: أَن، زَائِدَة وَسَقَطت فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ،
وَمَعْنَاهُ: فَلَمَّا فرغ. وَفِي راية الْكشميهني:
(فَلَمَّا أَن انْقَضى) أَي: انْتهى.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: تعلم الْعلم وتعليمه من
الإِمَام وَهُوَ على الْمِنْبَر. وَفِيه: إِجَابَة
الْخَطِيب للمؤذن وَهُوَ على الْمِنْبَر. وَفِيه: قَول
الْمُجيب: وَأَنا كَذَلِك، وَنَحْوه. وَظَاهره أَن هَذَا
الْمِقْدَار يَكْفِي، وَلَكِن الأولى أَن يَقُول مثل قَول
الْمُؤَذّن. وَفِيه: إِبَاحَة الْكَلَام قبل الشُّرُوع فِي
الْخطْبَة. وَفِيه: الْجُلُوس قبل الْخطْبَة.
24 - (بابُ الجُلُوسِ عَلَى المِنْبَرِ عِنْدَ
التَّأذِينِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جُلُوس الْخَطِيب على
الْمِنْبَر عِنْد التأذين، أَي: عِنْد الْأَذَان أَو عِنْد
تأذين الْمُؤَذّن بَين يَدَيْهِ.
915 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيثُ عَن عُقَيلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ السَّائبَ ابنَ
يزِيدَ أخبرَهُ أنَّ التَّأذينَ الثَّاني يَومَ الجُمُعَةِ
أمرَ بهِ عُثمانُ حِينَ كثُرَ أهْلُ المسْجدِ وكانَ
التأذِينُ يومَ الجُمُعة حينَ يَجلِس الإمامُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ التأذين يَوْم
الْجُمُعَة. .) إِلَى آخِره. وَكَانَ الْمُنَاسب أَن
يَقُول: بَاب التأذين يَوْم الْجُمُعَة حِين يجلس الإِمَام
على الْمِنْبَر، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، و: عقيل،
بِضَم الْعين الْمُهْملَة: ابْن خَالِد، وَقد تقدم مَا
فِيهِ من المباحث.
52 - (بابُ التَّأذِينِ عِنْدَ الخُطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التأذين عِنْد الْخطْبَة أَي:
قبلهَا عِنْد إرادتها.
(6/213)
916 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ
قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ
الزُّهْرِيِّ قالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ
يَقُولُ إنَّ الأذَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ كانَ أوَّلُهُ
حِينَ يَجْلِسُ الإمامُ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى
المِنْبَرِ فِي عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
فلَمَّا كانَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمانَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ وكَثَرُوا أمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الجُمُعَةِ
بِالأذَانِ الثَّالِثِ فَأذِنَ بهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ
فثَبَتَ الأمرُ علَى ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حِين يجلس الإِمَام
يَوْم الْجُمُعَة على الْمِنْبَر) ، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ عَن قريب، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك،
وَيُونُس ابْن يزِيد. قَوْله: (كَانَ أَوله) ، أَي: أول
الْأَذَان أَي: قبل أَمر عُثْمَان بِهِ. قَوْله: (وكثروا)
أَي: النَّاس. قَوْله: (أَمر) جَوَاب: (فَلَمَّا) .
قَوْله: (بِالْأَذَانِ الثَّالِث) قد مر وَجه ذَلِك،
وتسميته بالثالث. قَوْله: (فَأذن بِهِ) على صِيغَة
الْمَجْهُول من التأذين. قَوْله: (فَثَبت الْأَمر) أَي:
أَمر الْأَذَان على ذَلِك، أَي: على أذانين وَإِقَامَة
كَمَا أَن الْيَوْم الْعَمَل عَلَيْهِ فِي جَمِيع
الْأَمْصَار اتبَاعا للخلف وَالسَّلَف.
26 - (بابُ الخُطْبَةِ عَلَى المِنْبَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخطْبَة على الْمِنْبَر،
يَعْنِي مشروعيتها عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لم يقل يَوْم
الْجُمُعَة ليتناول الْجُمُعَة وَغَيرهَا.
وَقَالَ أنسٌ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ خطَبَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى المِنْبَرِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام،
وَفِي الْفِتَن مطولا، وَفِيه قصَّة عبد الله بن حذافة،
وَحَدِيث أنس أَيْضا فِي الاسْتِسْقَاء فِي قصَّة الَّذِي
قَالَ: هلك المَال، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
917 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ
عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ القَارِيُّ القُرَشِيُّ
اْلإسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو حازِمِ بنُ
دِينارٍ أنَّ رِجالاً أتَوْا سَهْلَ بنَ سَعْدٍ
السَّاعِدِيَّ وقَدِ امْتَرَوْا فِي المِنْبَرِ مِمَّ
عُودُهُ فَسَألُوهُ عنْ ذالِكَ فقالَ وَالله إِنِّي
لاَعْرِفُ مِمَّا هُوَ ولَقَدْ رَأَيْتُهُ أوَّلَ يَوْمٍ
وُضِعَ يَوْمَ جَلَسَ عَلَيْهِ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى فُلاَنَةَ امْرَأةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ
مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أنْ يَعْمَلَ لِي أعْوَادا
أجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ فَأَمَرَتْهُ
فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفاءِ الغَابَةِ ثُمَّ جاءَ بِهَا
إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ بِهَا
فَوُضِعَتْ هاهُنا ثُمَّ رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى عَلَيْهَا وكَبَّرَ وَهْوَ
عَلَيْهَا ثُمَّ رَكعَ وَهْوَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ
القَهْقَرَى فَسَجدَ فِي أصْلِ المِنْبَرِ ثُمَّ عادَ
فَلَمَّا فَرَغَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فقالَ أيُّهَا
النَّاسُ إنَّمَا صَنَعْتُ هذَا لتَأْتَمُّوا بِي
وَلِتَعَلَّمُوا صَلاتِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا كلمت النَّاس)
إِذْ الْعَادة أَن الْخَطِيب لَا يتَكَلَّم على
الْمِنْبَر، إِلَّا بِالْخطْبَةِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد،
وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن
هُوَ الْقَارِي، بِالْقَافِ وبالراء المخففة وبياء
النِّسْبَة إِلَى القارة، وَهِي قَبيلَة. وَإِنَّمَا قيل
لَهُ: الْقرشِي، لِأَنَّهُ حَلِيف بني زهرَة، و: الْمدنِي،
لِأَن أَصله من الْمَدِينَة، و: الاسكندراني لِأَنَّهُ سكن
فِيهَا وَمَات بهَا سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة.
الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي،
واسْمه سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج. الرَّابِع: سهل بن
سعد السَّاعِدِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ بلخي، والإثنان
مدنيان، والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ، جَمِيعهم عَن قُتَيْبَة.
(6/214)
ذكر مَعْنَاهُ: قد مضى الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى فِي: بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر والسطوح
والخشب، وَلَكِن نذْكر هَهُنَا مَا لم نذْكر هُنَاكَ
زِيَادَة للْبَيَان وَإِن وَقع فِيهِ بعض تكْرَار،
فَنَقُول: قَوْله: (إِن رجَالًا) لم يسموا من هم. قَوْله:
(وَقد امتروا) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من:
الامتراء. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ الشَّك، وَقَالَ
بَعضهم: من المماراة: وَهِي المجادلة، وَالَّذِي قَالَه
الْكرْمَانِي هُوَ الأصوب. قَوْله: (وَالله إِنِّي لَا
أعرف مِمَّا هُوَ) أَي: من أَي شَيْء هُوَ، أَي: عوده،
وَإِنَّمَا أَتَى بالقسم مؤكدا بِالْجُمْلَةِ الإسمية
وبكلمة: أَن، الَّتِي للتحقيق، وبلام التَّأْكِيد فِي
الْخَبَر لإِرَادَة التَّأْكِيد فِيمَا قَالَه للسامع.
قَوْله: (وَلَقَد رَأَيْته أول يَوْم وضع) أَي: لقد
رَأَيْت الْمِنْبَر فِي أول يَوْم وضع فِي مَوْضِعه،
وَهُوَ زِيَادَة على السُّؤَال، وَكَذَا قَوْله: (وَأول
يَوْم جلس عَلَيْهِ) ، أَي: أول يَوْم جلس النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر، وَفَائِدَة هَذِه
الزِّيَادَة الْمُؤَكّدَة بِاللَّامِ وَكلمَة: قد للإعلام
بِقُوَّة مَعْرفَته بِمَا سَأَلُوهُ. قَوْله: (ارسل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الى آخِره شرح جَوَابه
لَهُم وَبَيَانه فَلذَلِك فَصله عَمَّا قبله وَلم يذكرهُ
بعطف قَوْله (إِلَى فُلَانَة) ، فلَان للمذكر وفلانة
للمؤنث، كِنَايَة عَن اسْم سمي بِهِ الْمُحدث عَنهُ خَاص
غاالب، وَيُقَال فِي غير النَّاس الفلان والفلانة،
وَالْمَانِع من صرفه، وجود العلتين: العلمية والتأنيث.
وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الصَّلَاة على الْمِنْبَر، مَا
قَالُوا فِي إسمها، وَكَذَلِكَ ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي
صانع الْمِنْبَر على أَقْوَال كَثِيرَة مستقصاة، وَفِي
حَدِيث سهل الْمَذْكُور وَهُنَاكَ: عمله فلَان مولى
فُلَانَة، وَهَهُنَا قَوْله: (مري غلامك) تَقْدِيره: أرسل
إِلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: مري غلامك، وَهُوَ أَمر من:
أَمر يَأْمر، وَأَصله: أؤمري، على وزن افعلي، فاجتمعت
همزتان فنقلتا فحذفت الثَّانِيَة واستغنيت عَن همزَة
الْوَصْل فَصَارَ مري على وزن: عَليّ، لِأَن الْمَحْذُوف
فَاء الْفِعْل. قَوْله: (غلامك النجار) بِنصب النجار
لِأَنَّهُ صفة للغلام، وَقد سَمَّاهُ عَبَّاس بن سهل بِأَن
اسْمه مَيْمُون، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ من رَوَاهُ، وَيُقَال
اسْمه: مينا، ذكره إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَبِيه،
قَالَ: عمل الْمِنْبَر غُلَام لامْرَأَة من الْأَنْصَار من
بني سَلمَة أَو بني سَاعِدَة أَو امْرَأَة لرجل مِنْهُم
يُقَال لَهُ مينا. وأشبه الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِي
صانع الْمِنْبَر بِالصَّوَابِ قَول من قَالَ: هُوَ
مَيْمُون، لكَون الْإِسْنَاد فِيهِ من طَرِيق سهل بن سعد،
وَبَقِيَّة الْأَقْوَال بأسانيد ضَعِيفَة بل فِيهَا شَيْء
واه.
فَإِن قلت: كَيفَ يكون طَرِيق الْجمع بَين هَذِه
الْأَقْوَال وَهِي سَبْعَة على مَا ذكرنَا فِي: بَاب
الصَّلَاة على الْمِنْبَر؟ قلت: لَا طَرِيق فِي هَذَا
إِلَّا أَن يحمل على وَاحِد بِعَيْنِه مَا هُوَ فِي صَنعته
والبقية أعوانه. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون الْكل قد
اشْتَركُوا فِي الْعَمَل؟ قلت: جَاءَ فِي رِوَايَات
كَثِيرَة أَنه لم يكن بِالْمَدِينَةِ إلاّ نجار وَاحِد.
فَإِن قلت: مَتى كَانَ عمل هَذَا الْمِنْبَر؟ قلت: ذكر
ابْن سعد أَنه كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة، لَكِن يردهُ
ذكر الْعَبَّاس وَتَمِيم فِيهِ، وَكَانَ قدوم الْعَبَّاس
بعد الْفَتْح فِي آخر سنة ثَمَان، وقدوم تَمِيم سنة تسع،
وَذكر ابْن النجار بِأَنَّهُ كَانَ فِي سنة ثَمَان،
وَيَردهُ أَيْضا مَا ورد فِي حَدِيث الْإِفْك فِي
(الصَّحِيحَيْنِ) : (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، قَالَت: فثار الْحَيَّانِ الْأَوْس والخزرج
حَتَّى كَادُوا أَن يقتتلوا، وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر، فحفضهم حَتَّى سكتوا) .
وَعَن الطُّفَيْل بن أبي ابْن كَعْب عَن أَبِيه قَالَ:
(كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي إِلَى
جذع إِذْ كَانَ الْمَسْجِد عَرِيشًا، وَكَانَ يخْطب إِلَى
ذَلِك الْجذع. فَقَالَ رجل من أَصْحَابه: يَا رَسُول الله!
هَل لَك أَن نجْعَل لَك منبرا تقوم عَلَيْهِ يَوْم
الْجُمُعَة وَتسمع النَّاس يَوْم الْجُمُعَة خطبتك؟ قَالَ:
نعم، فَصنعَ لَهُ ثَلَاث دَرَجَات هِيَ على الْمِنْبَر،
فَلَمَّا صنع الْمِنْبَر وضع مَوْضِعه الَّذِي وَضعه فِيهِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَدَأَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقوم فيخطب عَلَيْهِ،
فَمر إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَازَ الْجذع الَّذِي كَانَ يخْطب
إِلَيْهِ خار حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ، فَنزل النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمع صَوت الْجذع فمسحه بِيَدِهِ
ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَر) . وَعَن عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا: (لما وضع النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَده على الْجذع وسكنه غَار الْجذع فَذهب)
. وَقيل: لما سكن لم يزل على حَاله، فَلَمَّا هدم
الْمَسْجِد أَخذ ذَلِك أبي بن كَعْب فَكَانَ عِنْده إِلَى
أَن بلي وأكلته الأَرْض، فَعَاد رفاتا، رَوَاهُ
الشَّافِعِي وَأحمد وَابْن مَاجَه. وَفِي رِوَايَة: لما
وضع يَده على الْجذع سكن حنينه، وَجَاء فِي رِوَايَة
أُخْرَى: (لَو لم أفعل ذَلِك لحن إِلَى قيام السَّاعَة) .
فَإِن قلت: حكى بعض أهل السّير أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يخْطب على مِنْبَر من طين قبل أَن يتَّخذ
الْمِنْبَر الَّذِي من خشب. قلت: يردهُ الحَدِيث الَّذِي
ذَكرْنَاهُ، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسْتَند إِلَى الْجذع إِذا خطب.
ثمَّ إعلم أَن الْمِنْبَر لم يزل على حَاله ثَلَاث
دَرَجَات حَتَّى زَاده مَرْوَان فِي خلَافَة مُعَاوِيَة
سِتّ دَرَجَات من أَسْفَله، وَكَانَ سَبَب ذَلِك مَا
حَكَاهُ الزبير بن بكار فِي (أَخْبَار الْمَدِينَة)
بِإِسْنَادِهِ إِلَى حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف،
قَالَ: بعث مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان وَهُوَ عَامله على
الْمَدِينَة أَن يحمل الْمِنْبَر إِلَيْهِ فَأمر بِهِ
فَقلع: فأظلمت الْمَدِينَة، فَخرج مَرْوَان فَخَطب
فَقَالَ:
(6/215)
إنماأمرني أَمِير المأمنين أَن أرفعه،
فَدَعَا نجارا وَكَانَ ثَلَاث دَرَجَات فَزَاد فِيهِ
الزِّيَادَة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْم. وَرَوَاهُ
من وَجه آخر، قَالَ: فكسفت الشَّمْس حَتَّى رَأينَا
النُّجُوم، قَالَ: وَزَاد فِيهِ سِتّ دَرَجَات، وَقَالَ:
إِنَّمَا زِدْت فِيهِ حِين كثر النَّاس. فَإِن قلت: روى
أَبُو دَاوُد عَن ابْن عمر أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لما بدن قَالَ لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ:
(أَلا اتخذ لَك منبرا يَا رَسُول الله يجمع أَو يحمل
عظامك؟ قَالَ: بلَى، فَاتخذ لَهُ منبرا مرقاتين) أَي: اتخذ
لَهُ منبرا دَرَجَتَيْنِ، فبينه وَبَين مَا ثَبت فِي
الصَّحِيح أَنه ثَلَاث دَرَجَات مُنَافَاة. قلت: الَّذِي
قَالَ: مرقاتين، لم يعْتَبر الدرجَة الَّتِي كَانَ يجلس
عَلَيْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابْن النجار
وَغَيره: اسْتمرّ على ذَلِك إِلَّا مَا أصلح مِنْهُ إِلَى
أَن أحترق مَسْجِد الْمَدِينَة سنة أَربع وَخمسين
وسِتمِائَة، فَاحْتَرَقَ ثمَّ جدد المظفر صَاحب الْيمن سنة
سِتّ وَخمسين منبرا ثمَّ أرسل الظَّاهِر بيبرس رَحمَه الله
بعد عشر سِنِين منبرا، فأزيل مِنْبَر المظفر فَلم يزل
ذَلِك إِلَى هَذَا الْعَصْر، فَأرْسل الْملك الْمُؤَيد
شيخ، رَحمَه الله، فِي سنة عشْرين وثمان مائَة منبرا
جَدِيدا، وَكَانَ أرسل فِي سنة ثَمَانِي عشرَة منبرا
جَدِيدا إِلَى مَكَّة أَيْضا.
قَوْله: (وأجلس) ، بِالرَّفْع والجزم، قَالَه
الْكرْمَانِي. قلت: أما الرّفْع فعلى تَقْدِير: وَأَنا
أَجْلِس، وَأما الْجَزْم فَلِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر،
قَوْله: (من طرفاء الغابة) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن
أبي حَازِم: من أثل الغابة. الطرفاء، بِفَتْح الطَّاء
وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبعد الرَّاء فَاء
ممدودة، وَهُوَ شجر من شجر الْبَادِيَة، وَاحِدهَا طرفَة،
بِفَتْح الْفَاء مثل قَصَبَة وقصباء، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ:
الطرفاء وَأحمد وَجمع. والأثل بِسُكُون الثَّاء
الْمُثَلَّثَة، قَالَ الْقَزاز: هُوَ ضرب من الشّجر يشبه
الطرفاء، وَقَالَ الْخطابِيّ، هُوَ الشَّجَرَة الطرفاء.
قلت: فعلى هَذَا لَا مُنَافَاة بَين الرِّوَايَتَيْنِ،
والغاية، بالغين الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة:
وَهِي أَرض على تِسْعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة كَانَت
إبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُقِيمَة بهَا
للمرعى، وَبهَا وَقعت قصَّة العرنيين الَّذِي أَغَارُوا
على سرحه، وَقَالَ ياقوت: بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة
أَرْبَعَة أَمْيَال. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الغابة بريد
من الْمَدِينَة من طَرِيق الشَّام. وَفِي (الْجَامِع) : كل
شجر ملتف فَهُوَ غابة. وَفِي (الْمُحكم) : الغابة الأجمة
الَّتِي طَالَتْ وَلها أَطْرَاف مُرْتَفعَة باسقة. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: هِيَ أجمة الْقصب. قَالَ: وَقد جعلت جمَاعَة
الشّجر غابا مأخوذا من الغيابة، وَالْجمع غابات وَغَابَ.
قَوْله: (فَأرْسلت) أَي: الْمَرْأَة تعلم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ فرغ. قَوْله: (فَأمر بهَا
فَوضعت) أنث الضَّمِير فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَار
الأعواد والدرجات. قَوْله: (عَلَيْهَا) أَي: على الأعواد.
قَوْله: (وَهُوَ عَلَيْهَا) ، جملَة حَالية. قَوْله: (ثمَّ
نزل الْقَهْقَرَى) ، وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى خلف. قيل:
يُقَال رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَلَا يُقَال: نزل
الْقَهْقَرَى، لِأَنَّهُ نوع من الرُّجُوع لَا من
النُّزُول. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لما كَانَ النُّزُول
رُجُوعا من فَوق إِلَى تَحت صَحَّ ذَلِك، وَكَانَ
الْحَامِل على ذَلِك الْمُحَافظَة على اسْتِقْبَال
الْقبْلَة، وَلم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة الْقيام بعد
الرُّكُوع وَلَا الْقِرَاءَة بعد التَّكْبِير، وَقد بَين
ذَلِك فِي رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي حَازِم، وَلَفظه:
(كبر فَقَرَأَ وَركع ثمَّ رفع رَأسه ثمَّ رَجَعَ
الْقَهْقَرَى) ، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن سعد عَن أبي
حَازِم عِنْد الطَّبَرَانِيّ: (فَخَطب النَّاس عَلَيْهِ
ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فَكبر وَهُوَ على الْمِنْبَر) .
قَوْله: (فِي أصل الْمِنْبَر) أَي: على الأَرْض إِلَى جنب
الدرجَة السُّفْلى مِنْهُ. قَوْله: (ثمَّ عَاد) ، وَزَاد
مُسلم من رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (حَتَّى فرغ من آخر
صلَاته) . قَوْله: (ولتعلموا) ، بِكَسْر اللَّام وَفتح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد اللَّام، وَأَصله:
لتتعلموا، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَعرف مِنْهُ أَن
الْحِكْمَة فِي صلَاته فِي أَعلَى الْمِنْبَر ليراه من قد
يخفى عَلَيْهِ رُؤْيَته إِذا صلى على الأَرْض. وَقَالَ
ابْن حزم، وبكيفية هَذِه الصَّلَاة قَالَ أَحْمد
وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث وَأهل الظَّاهِر. وَمَالك
وَأَبُو حنيفَة لَا يجيزانها، وَقَالَ ابْن التِّين:
الْأَشْبَه أَن ذَلِك كَانَ لَهُ خَاصَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن من فعل شَيْئا
يُخَالف الْعَادة بَين حكمته لأَصْحَابه، فَإِن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى هَذِه الصَّلَاة بِهَذِهِ
الْكَيْفِيَّة وَكَانَ ذَلِك لمصْلحَة بيناها، فَنَقُول:
إِذا كَانَ مثل ذَلِك لمصْلحَة يَنْبَغِي أَن لَا تفْسد
صلَاته وَلَا تكره أَيْضا، كَمَا فِي مَسْأَلَة من انْفَرد
خلف الصَّفّ وَحده، فَإِن لَهُ أَن يجذب وَاحِدًا من
الصَّفّ إِلَيْهِ ويصطفان، فَإِن المجذوب لَا تبطل صلَاته
وَلَو مَشى خطْوَة أَو خطوتين، وَبِه صرح أَصْحَابنَا فِي
الْفِقْه. وَفِيه: دَلِيل على أَن الْفِعْل الْكثير
بالخطوات وَغَيرهَا إِذا تفرق لَا يبطل الصَّلَاة، لِأَن
النُّزُول عَن الْمِنْبَر والصعود تكَرر، وَجُمْلَته
كَثِيرَة، وَلَكِن أَفْرَاده المتفرقة كل وَاحِد مِنْهَا
قَلِيل. وَفِيه: اسْتِحْبَاب اتِّخَاذ الْمِنْبَر لكَونه
أبلغ فِي مُشَاهدَة الْخَطِيب وَالسَّمَاع مِنْهُ،
وَيسْتَحب أَن يكون الْمِنْبَر على يَمِين الْمِحْرَاب
مُسْتَقْبل الْقبْلَة فَإِن لم يكن مِنْبَر فموضع عَال،
وإلاّ فَإلَى خَشَبَة لِلِاتِّبَاعِ فَإِنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْطب إِلَى جذع قبل اتِّخَاذ
الْمِنْبَر، فَلَمَّا صنع تحول إِلَيْهِ، وَيكرهُ
الْمِنْبَر الْكَبِير جدا الَّذِي يضيق على الْمُصَلِّين
إِذا لم يكن الْمَسْجِد متسعا. وَفِيه: اسْتِحْبَاب
الِافْتِتَاح بِالصَّلَاةِ فِي كل شَيْء جَدِيد، إِمَّا
شكرا وَإِمَّا تبركا.
(6/216)
918 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ
قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبرنِي
يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ أنَسٍ أنَّهُ
سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ كانَ جِذْعٌ يَقُومُ
عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمَّا وُضِعَ
لَهُ المنْبَرُ سَمِعْنَا لَلْجِذْعِ مِثْلَ أصْواتِ
العِشَارِ حَتَّى نزَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (حَتَّى نزل
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، لِأَن نزُول كَانَ
بعد صعودة إِلَى الْمِنْبَر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم،
وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي
كثير ضد قَلِيل الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: يحيى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: ابْن أنس، هُوَ حَفْص بن عبيد
الله بن أنس، وَقد بَينه باسمه فِي الرِّوَايَة
الْمُعَلقَة الَّتِي تَأتي عَن قريب. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: هُوَ مَجْهُول، فَصَارَ الْإِسْنَاد بِهِ من
بَاب الرِّوَايَة عَن المجاهيل، ثمَّ أجَاب عَنهُ بِأَن
يحيى لما كَانَ لَا يروي إلاّ عَن الْعدْل الضَّابِط فَلَا
بَأْس بِهِ، أَو لما علم من الطَّرِيق الَّذِي بعده أَنه
حَفْص بن عبيد الله بن أنس، فَاكْتفى بِهِ. وَقَالَ أَبُو
مَسْعُود الدِّمَشْقِي فِي (الْأَطْرَاف) : إِنَّمَا أبهم
البُخَارِيّ حفصا لِأَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير
يَقُول: عبيد الله بن حَفْص فيقبله، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو
نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق مُحَمَّد بن مِسْكين
عَن ابْن أبي مَرْيَم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، وَكَذَا
أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الله بن يَعْقُوب
بن إِسْحَاق عَن يحيى بن سعيد، وَلَكِن أخرجه من طَرِيق
أبي الْأَحْوَص مُحَمَّد بن الْهَيْثَم عَن ابْن أبي
مَرْيَم، فَقَالَ: عَن حَفْص بن عبيد الله على الصَّوَاب.
وَقَالَ: الصَّوَاب فِيهِ حَفْص بن عبيد الله. وَقَالَ
البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : قَالَ بَعضهم: عبد الله بن
حَفْص، وَلَا يَصح. وَفِي نُسْخَة أبي ذَر: حَفْص بن عبد
الله بتكبير العَبْد وَصَوَابه: عبيد الله،
بِالتَّصْغِيرِ. وَحَفْص هَذَا روى لَهُ البُخَارِيّ
وَمُسلم روى عَن جده وَجَابِر بن عبد الله وَابْن عمر
وَأبي هُرَيْرَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يثبت لَهُ
السماع إلاّ من جده. وَفِي البُخَارِيّ فِي (عَلَامَات
النُّبُوَّة) : عَن جَابر مُصَرحًا بِهِ. الْخَامِس: جَابر
بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة عَن مَجْهُول صُورَة، وَبينا
وَجهه. وَفِيه: لَيْسَ لِابْنِ أنس عَن جَابر فِي
البُخَارِيّ إلاّ هَذَا الحَدِيث، قَالَه الْحميدِي فِي
جمعه. وَفِيه: إِطْلَاق الابْن على ابْن ابْنه مجَازًا.
وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مصري والإثنان مدنيان،
وَالرَّابِع بَصرِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جذع) ، بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون
الذَّال الْمُعْجَمَة. قَالَه الْجَوْهَرِي: وَاحِد جُذُوع
النّخل. قَوْله: (يقوم عَلَيْهِ) ويروى: (يقوم إِلَيْهِ.
قَوْله: (مثل أصوات العشار) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة
بعْدهَا شين مُعْجمَة، قَالَه الْجَوْهَرِي: العشار جمع
عشراء، بِالضَّمِّ، ثمَّ الْفَتْح، وَهِي النَّاقة
الْحَامِل الَّتِي مَضَت لَهَا عشرَة أشهر وَلَا يزَال
ذَلِك إسمها، إِلَى أَن تَلد. وَفِي (الْمطَالع) : العشار
النوق الْحَوَامِل. قَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الَّتِي
مَعهَا أَوْلَادهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ الَّتِي
قاربت الْولادَة. يُقَال: نَاقَة عشراء ونوق عشار على غير
قِيَاس، وَنقل ابْن التِّين: أَنه لَيْسَ فِي الْكَلَام
فعلاء على فعال، غير: نفسَاء وعشراء، وَيجمع على: عشراوات
ونفساوات. وَمثل: صَوت الْجذع بِأَصْوَات العشار عِنْد
فِرَاق أَوْلَادهَا، وَفِيه علم عَظِيم من أَعْلَام نبوته،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدَلِيل على صِحَة رسَالَته،
وَهُوَ حنين الجماد، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى جعل للجذع
حَيَاة حن بهَا، وَهَذَا من بَاب الإفضال من الرب، جلّ
جَلَاله، الَّذِي يحيي الْمَوْتَى بقوله: {كن فَيكون} .
(الْبَقَرَة: 217، آل عمرَان: 47 لأ 59، الْأَنْعَام: 273،
النَّحْل: 240، مَرْيَم: 35، ي س: 83، وغافر: 68) .
وَفِيه: الرَّد على الْقَدَرِيَّة، لِأَن الصياح ضرب من
الْكَلَام وهم لَا يجوزون الْكَلَام إِلَّا مِمَّن لَهُ
فَم ولسان.
قَالَ سُلَيْمَانُ عنْ يَحْيى أخبَرَني حَفْصُ بنُ
عُبَيْدِ الله بنِ أنَسٍ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ
الله
هَذَا التَّعْلِيق عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن
سعيد إِلَى آخِره، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي عَلَامَات
النُّبُوَّة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزعم بَعضهم أَنه
سُلَيْمَان بن كثير
(6/217)
لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد، ورد
بِأَن سُلَيْمَان بن كثير قَالَ فِيهِ: عَن يحيى عَن سعيد
بن الْمسيب عَن جَابر، كَذَلِك أخرجه الدَّارمِيّ عَن
مُحَمَّد بن كثير عَن أَخِيه سُلَيْمَان فَإِن كَانَ هَذَا
مَحْفُوظًا فليحيى بن سعيد فِيهِ شَيْخَانِ، وَقَالَ
الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : ذكر أَبُو مَسْعُود وَخلف إِن
سُلَيْمَان الَّذِي اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي
الصَّلَاة هُوَ ابْن بِلَال، وَذكر أَن سُلَيْمَان بن كثير
أَيْضا رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد عَن حَفْص بن عبد الله بن
أنس، كَمَا قَالَ سُلَيْمَان وَالَّذِي ذكره الذهلي
وَالدَّارَقُطْنِيّ أَن سُلَيْمَان بن كثير رَوَاهُ عَن
يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن جَابر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
919 - حدَّثنا آدمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي
ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عَن سالِمٍ عنْ أبِيهِ قَالَ
سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ علَى
المِنْبَرِ فَقَالَ منْ جاءَ إلَى الجُمُعَةِ
فَلْيَغْتَسِلْ. (انْظُر الحَدِيث 877 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سَمِعت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَلأَجل هَذَا الْمِقْدَار أوردهُ
هَهُنَا لأجل التَّرْجَمَة. وَأخرج بَقِيَّته فِي: بَاب
فضل الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن
مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة
فليغتسل) . وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب هَل على من لم يشْهد
الْجُمُعَة غسل؟ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ وحَدثني سَالم بن عبد الله أَنه سمع عبد الله
بن عمر يَقُول: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: من جَاءَ مِنْكُم الْجُمُعَة فليغتسل) ،
وَهَهُنَا أخرجه عَن آدم عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن
بن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سَالم
بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
والمستفاد مِنْهُ أَن الْخطْبَة يَنْبَغِي أَن تكون على
الْمِنْبَر إِن وجد، وإلاّ فعلى مَوضِع مشرف.
27 - (بابُ الخُطْبةِ قائِما)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْخطْبَة قَائِما، أَي:
يكون الْخَطِيب فِيهَا قَائِما، هَذَا التَّقْدِير على
كَون الْبَاب مُضَافا إِلَى الْخطْبَة، وَيجوز أَن
يَنْقَطِع عَن الْإِضَافَة وينون على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، وَيكون لفظ: الْخطْبَة، مَرْفُوعا على
الِابْتِدَاء، وَيكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب تَرْجَمته
الْخطْبَة يخطبها الْخَطِيب حَال كَونه قَائِما. فانتصاب
قَائِما على الْوَجْه الأول بِكَوْنِهِ خبر: يكون، وعَلى
الْوَجْه الثَّانِي على أَنه حَال من الْخَطِيب، وَهَذَا
كُله لَا يَخْلُو عَن تعسف لأجل التعسف فِي تركيب
التَّرْجَمَة.
وَقَالَ أنَسٌ بَيْنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَخْطُبُ قائِما
هَذَا التَّعْلِيق مُوَافق للتَّرْجَمَة، وَهُوَ طرف من
حَدِيث الاسْتِسْقَاء على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى. وَقد مر غير مرّة أَن: بَينا، أَصله: بَين،
فأشبعت فَتْحة النُّون فَصَارَت ألفا. وَهُوَ ظرف زمَان
بِمَعْنى المفاجأة مُضَاف إِلَى الْجُمْلَة من مُبْتَدأ
وَخبر، وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى،
وَجَوَابه: فِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء.
والمستفاد مِنْهُ أَن يكون الْخَطِيب قَائِما، لَكِن على
أَي وَجه؟ نبينه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
920 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ القَوَارِيرِيُّ
قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ الحَارِثِ قَالَ حدَّثنا
عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ قائِما ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ
يَقُومُ كمَا تَفْعَلُونَ الآنَ. . (الحَدِيث 920 طرفه
فِي: 928) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله بتصغير
العَبْد ابْن عمر بن ميسرَة الْبَصْرِيّ أَبُو سعيد
القواريري، والقواريري، بِالْقَافِ: نِسْبَة لمن يعْمل
الْقَوَارِير أَو يَبِيعهَا. الثَّانِي: خَالِد بن
الْحَارِث بن سليم الهُجَيْمِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة
سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَمر ذكره فِي: بَاب
اسْتِقْبَال الْقبْلَة. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر بن
حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب الْقرشِي. الرَّابِع:
نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن نصف رُوَاته
بَصرِي وَالنّصف الآخر مدنِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
القواريري وَأبي كَامِل فُضَيْل بن الْحُسَيْن الجحدري.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن
خَالِد بن الْحَارِث وروى أَحْمد وَالْبَزَّار وَأَبُو
يعلى وَالطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة الْحجَّاج بن أَرْطَاة
عَن الحكم، (عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه:
(6/218)
كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة قَائِما ثمَّ
يقْعد ثمَّ يقوم ثمَّ يخْطب) ، اللَّفْظ لِأَحْمَد وَأبي
يعلى. قَوْله: (ثمَّ يقْعد) أَي: بعد الْخطْبَة الأولى
ثمَّ يقوم للخطبة الثَّانِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْإِخْبَار عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يخْطب
قَائِما. قَالَ شَيخنَا فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : فِي
اشْتِرَاط الْقيام فِي الْخطْبَتَيْنِ إلاّ عِنْد الْعَجز،
وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة. انْتهى.
قلت: لَا يدل الحَدِيث على الِاشْتِرَاط، غَايَة مَا فِي
الْبَاب أَنه يدل على السّنيَّة. وَفِي (التَّوْضِيح) :
الْقيام للقادر شَرط لصحتها، وَكَذَا الْجُلُوس بَينهمَا
عِنْد الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَأَصْحَابه. فَإِن عجز عَنهُ اسْتخْلف، فَإِن خطب قَاعِدا
أَو مُضْطَجعا للعجز جَازَ قطعا كَالصَّلَاةِ، وَيصِح
الِاقْتِدَاء بِهِ حِينَئِذٍ، وَعِنْدنَا وَجه: أَنَّهَا
تصح قَاعِدا للقادر، وَهُوَ شَاذ، نعم هُوَ مَذْهَب أبي
حنيفَة وَمَالك وَأحمد كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيّ عَنْهُم،
قاسوه على الْأَذَان. وَحكى ابْن بطال عَن مَالك كالشافعي،
وَعَن ابْن الْقصار كَأبي حنيفَة، وَنقل ابْن التِّين عَن
القَاضِي أبي مُحَمَّد أَنه مسيىء، وَلَا يبطل حجَّة
الشَّافِعِي حَدِيث الْبَاب. قلت: حَدِيث الْبَاب لَا يدل
على الِاشْتِرَاط، وَاسْتدلَّ بَعضهم للشَّافِعِيّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، بِمَا فِي (صَحِيح مُسلم) : (أَن
كَعْب بن عجْرَة دخل الْمَسْجِد وَعبد الرَّحْمَن بن أبي
الحكم يخْطب قَاعِدا، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا
الْخَطِيب يخْطب قَاعِدا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَكُوك
قَائِما} (الْجُمُعَة: 11) . وَفِي (صَحِيح ابْن
خُزَيْمَة) : (قَالَ كَعْب: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قطّ
إِمَام يؤم الْمُسلمين يخْطب وَهُوَ جَالس، يَقُول ذَلِك
مرَّتَيْنِ) . وَأجِيب: عَنهُ بِأَن إِنْكَار كَعْب
عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ لتَركه السّنة، وَلَو كَانَ
الْقيام شرطا لما صلوا مَعَه مَعَ ترك الْفَرْض. فَإِن
قلت: روى مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه من رِوَايَة سماك بن حَرْب عَن جَابر ابْن سَمُرَة
قَالَ: (كَانَت للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خطبتان
يجلس بَينهمَا يقْرَأ الْقُرْآن وَيذكر النَّاس) وَفِي
رِوَايَة: (كَانَ يخْطب قَائِما ثمَّ يجلس ثمَّ يقوم فيخطب
قَائِما، فَمن نبأك أَنه كَانَ يخْطب جَالِسا فقد كذب، فقد
وَالله صليت مَعَه أَكثر من ألفي صَلَاة) . قلت: هَذَا
مَحْمُول على الْمُبَالغَة، لِأَن هَذَا الْقدر من الْجمع
إِنَّمَا يكمل فِي نَيف وَأَرْبَعين سنة، وَهَذَا الْقدر
لم يصله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت:
قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد الصَّلَوَات الْخمس لَا
الْجمع، لِأَنَّهُ غير مُمكن. قلت: سِيَاق الْكَلَام
يُنَافِي هَذَا التَّأْوِيل، لِأَن الْكَلَام فِي الْجمع
لَا فِي الصَّلَوَات الْخمس، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا
ذكره ابْن أبي شيبَة عَن طَاوُوس، قَالَ: (خطب رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان
قيَاما، وَأول من جلس على الْمِنْبَر مُعَاوِيَة، قَالَ
الشّعبِيّ: حِين كثر شَحم بَطْنه ولحمه) . وَرَوَاهُ ابْن
حزم عَن على، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا،
وَالْجَوَاب عَنهُ وَعَن كل حَدِيث ورد فِيهِ الْقيام فِي
خطْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن قَوْله:
{وَتَرَكُوك قَائِما} (الْجُمُعَة: 11) . بِأَن ذَلِك
إِخْبَار عَن حَالَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْد
انقضاضهم، وَبِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يواظب على الشَّيْء الْفَاضِل مَعَ جَوَاز غَيره، وَنحن
نقُول بِهِ، وَمن أقوى الْحجَج لِأَصْحَابِنَا مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم جلس ذَات يَوْم على الْمِنْبَر
وَجَلَسْنَا حوله) ، على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى، وَحَدِيث سهل: (مري غلامك يعْمل لي أعوادا
أَجْلِس عَلَيْهِنَّ إِذا كلمت النَّاس) .
28 - (بابُ يَسْتَقْبِلُ الإمامُ القومَ وَاسْتِقْبَالِ
النَّاسِ الإمَامَ إِذا خَطَبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِقْبَال النَّاس الإِمَام،
والاستقبال مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَالْإِمَام
بِالنّصب مفعول لَهُ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: بَاب
يسْتَقْبل الإِمَام الْقَوْم واستقبال النَّاس الإِمَام
إِذا خطب.
وَاسْتَقْبَلَ ابنُ عُمَرَ وَأنسٌ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، الإمَامَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، أما أثر عبد الله بن عمر
فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الْوَلِيد بن مُسلم،
قَالَ: ذكرت اللَّيْث بن سعد فَأَخْبرنِي عَن ابْن عجلَان
عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ يفرغ من سبحته يَوْم
الْجُمُعَة قبل خُرُوج الإِمَام، فَإِذا خرج لم يقْعد
الإِمَام حَتَّى يستقبله، وَأما أثر أنس بن مَالك
فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا عبد الصَّمد (عَن
المستمر بن رَيَّان، قَالَ: رَأَيْت أنسا إِذا أَخذ
الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة فِي الْخطْبَة يستقبله
بِوَجْهِهِ حَتَّى يفرغ الإِمَام من خطبَته) . وَرَوَاهُ
ابْن الْمُنْذر من وَجه آخر: (عَن أنس أَنه جَاءَ يَوْم
الْجُمُعَة فاستند إِلَى الْحَائِط واستقبل الإِمَام) .
قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم فِي ذَلِك خلافًا بَين
الْعلمَاء، وَحكى غَيره: (عَن سعيد بن الْمسيب أَنه كَانَ
لَا يسْتَقْبل هِشَام بن إِسْمَاعِيل إِذا خطب، فَوكل بِهِ
هِشَام شرطيا يعطفه إِلَيْهِ) . وَهِشَام هَذَا هُوَ
هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن الْوَلِيد بن
(6/219)
الْمُغيرَة المَخْزُومِي، كَانَ واليا
بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ الَّذِي ضرب سعيد بن الْمسيب أفضل
التَّابِعين بالسياط، فويل لَهُ من ذَلِك، وَفِي
(الْمُغنِي) : رُوِيَ عَن الْحسن أَنه اسْتقْبل الْقبْلَة
وَلم ينحرف إِلَى الإِمَام، وروى التِّرْمِذِيّ عَن عبد
الله بن مَسْعُود، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَوَى على الْمِنْبَر استقبلناه
بوجوهنا) . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن الْفضل، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: هُوَ ضَعِيف ذَاهِب الحَدِيث عِنْد
أَصْحَابنَا، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَغَيرهم
يستحبون اسْتِقْبَال الإِمَام إِذا خطب، وَهُوَ قَول
سُفْيَان الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق،
وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم شَيْء. وروى ابْن مَاجَه عَن عدي بن ثَابت
عَن أَبِيه: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
قَامَ على الْمِنْبَر استقبله النَّاس) . وَفِي (سنَن
الْأَثر) : عَن مُطِيع أبي يحيى الْمُزنِيّ عَن أَبِيه عَن
جده، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِذا قَامَ على الْمِنْبَر أَقبلنَا بوجوهنا إِلَيْهِ) .
وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: أخبرنَا هشيم أخبرنَا عبد الحميد
بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ بِإِسْنَاد لَا أحفظه، قَالَ:
(كَانُوا يجيؤن يَوْم الْجُمُعَة يَجْلِسُونَ حول
الْمِنْبَر ثمَّ يقبلُونَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِوُجُوهِهِمْ) ، وَفِي (الْمَبْسُوط) : كَانَ أَبُو
حنيفَة إِذا فرغ الْمُؤَذّن من أَذَانه أدَار وَجهه إِلَى
الْأَمَام، وَهُوَ قَول شُرَيْح وطاووس وَمُجاهد وَسَالم
وَالقَاسِم وزادان وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء، وَبِه
قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَسَعِيد بن عبد
الْعَزِيز وَابْن جَابر وَيزِيد بن أبي مَرْيَم
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، قَالَ ابْن الْمُنْذر:
وَهَذَا كالإجماع.
921 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عَن هلاَل بنِ أبي مَيْمُونةَ قَالَ
حدَّثنا عَطاءُ بنُ يَسَارٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ
الخُدْرِيَّ قَالَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جلَسَ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وجَلَسْنَا حَوْلَهُ.
.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن جلوسهم حول النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكون إلاّ وهم ينظرُونَ
إِلَيْهِ، وَهُوَ عين الِاسْتِقْبَال.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: معَاذ بن فضَالة أَبُو
زيد الزهْرَانِي الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: هِشَام
الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع:
هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن هِلَال،
وَهُوَ هِلَال بن عَليّ، تقدم ذكره فِي أول كتاب الْعلم.
الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر
الْحُرُوف. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه:
سعد بن مَالك مَشْهُور باسمه وكنيته.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن الأول من
الروَاة بَصرِي. وَالثَّانِي أهوازي، وَالثَّالِث يماني
وَالرَّابِع وَالْخَامِس مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح
وَفِي الزَّكَاة عَن معَاذ بن فضَالة أَيْضا وَفِي الرقَاق
عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي
الزَّكَاة عَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وَعَن عَليّ بن
حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب
عَن ابْن علية بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن ابْن
مَسْعُود، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِي الْبَاب عَن
ابْن عمر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط)
وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة عِيسَى ابْن عبد
الله الْأنْصَارِيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ:
(كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دنا من
منبره يَوْم الْجُمُعَة سلم على من عِنْده، فَإِذا صعده
اسْتقْبل النَّاس بِوَجْهِهِ) . لفظ الْبَيْهَقِيّ،
وَضَعفه، وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: (فَإِذا صعد الْمِنْبَر
توجه إِلَى النَّاس وَسلم عَلَيْهِم) ، وَعِيسَى بن عبد
الله فِيهِ مقَال، وَعَن عدي بن ثَابت عَن أَبِيه أخرجه
ابْن مَاجَه، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَعَن مُطِيع أبي
يحيى عَن أَبِيه عَن جده أخرجه الْأَثْرَم، وَقد
ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَعَن الْبَراء من طَرِيق أبان بن
عبد الله البَجلِيّ أخرجه ابْن خُزَيْمَة، وَقَالَ: إِنَّه
مَعْلُول.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الْحِكْمَة فِي استقبالهم
للخطيب أَن يتفرغوا لسَمَاع موعظته وتدبر كَلَامه وَلَا
يشتغلوا بِغَيْرِهِ. قَالَ الْفُقَهَاء: إِنَّمَا استدبر
الْقبْلَة لِأَنَّهُ إِذا اسْتَقْبلهَا فَإِن كَانَ فِي
صدر الْمَسْجِد كَانَ مستديرا للْقَوْم، واستدبارهم وهم
المخاطبون قَبِيح خَارج عَن عرف المخاطبات، وَإِن كَانَ
فِي آخِره فإمَّا أَن يستقبله الْقَوْم فَيَكُونُوا
مستدبرين الْقبْلَة، واستدبار وَاحِد أَهْون من استدبار
الْجَمَاعَة، وَإِمَّا أَن يستدبروه فتلزم الْهَيْئَة
القبيحة، وَلَو خَالف الْخَطِيب فاستدبرهم واستقبل
الْقبْلَة كره وَصحت خطبَته، وَحكى الشَّاشِي وَجها شاذا:
أَنه لَا يَصح. فَإِن قلت: مَا المُرَاد باستقبال النَّاس
الْخَطِيب؟ هَل المُرَاد من يواجهه؟ أَو المُرَاد جَمِيع
أهل
(6/220)
الْمَسْجِد حَتَّى أَن من هُوَ فِي الصَّفّ الأول
وَالثَّانِي وَإِن طَالَتْ الصُّفُوف ينحرفون بأبدانهم أَو
بِوُجُوهِهِمْ لسَمَاع الْخطْبَة؟ قلت: الظَّاهِر أَن
المُرَاد بذلك من يسمع الْخطْبَة دون من بعد فَلم يسمع
فاستقبال الْقبْلَة أولى بِهِ من توجهه لجِهَة الْخَطِيب،
ثمَّ إِن الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ جزما باستحباب ذَلِك،
وَصرح القَاضِي أَبُو الطّيب بِوُجُوب ذَلِك، ثمَّ بَقِي
هُنَا اسْتِقْبَال الْخَطِيب للنَّاس فَذكر الرَّافِعِيّ:
أَنه من سنَن الْخطْبَة، وَلَو خطب مستدبرا للنَّاس جَازَ،
وَإِن خَالف السّنة. وَحكى فِي (الْبَيَان) وَغَيره وَجه:
أَنه لَا يجْزِيه، كَمَا ذكرنَا عَن قريب عَن الشَّاشِي.
فَإِن قلت: حول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظَهره
إِلَى النَّاس فِي خطْبَة الاسْتِسْقَاء؟ قلت: كَانَ ذَلِك
تفاؤلاً بِتَغَيُّر الْحَال، كَمَا قلب رِدَاءَهُ فِيهَا
تفاؤلاً بذلك، فَأَما فِي الْجُمُعَة فَلم ينْقل ذَلِك
مَعَ كَونه قد استسقى فِي خطْبَة الْجُمُعَة وَلم يحول
وَجهه فِي الدُّعَاء للْقبْلَة، وكل مِنْهُمَا أصل
بِنَفسِهِ لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره، واستنبط
الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من الحَدِيث الْمَذْكُور أَن
الْخَطِيب لَا يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالاً حَالَة
الْخطْبَة. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : اتّفق الْعلمَاء على
كَرَاهَة ذَلِك، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْبدع الْمُنكرَة،
خلافًا لأبي حنيفَة، فَإِنَّهُ قَالَ: يلْتَفت يمنة ويسرة
كالأذان، نَقله الشَّيْخ أَبُو حَامِد. قلت: فِي هَذَا
النَّقْل عَن أبي حنيفَة نظر، وَلَا يَصح ذَلِك عَنهُ،
وَمن السّنة عندنَا أَن يتْرك الْخَطِيب السَّلَام من وَقت
خُرُوجه إِلَى دُخُوله فِي الصَّلَاة، وَالْكَلَام أَيْضا،
وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: السّنة
إِذا صعد الْمِنْبَر أَن يسلم على الْقَوْم إِذا أقبلهم
بِوَجْهِهِ، كَذَا رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قلت: هَذَا الحَدِيث أوردهُ ابْن عدي من حَدِيث ابْن عمر
فِي تَرْجَمَة عِيسَى بن عبد الله الْأنْصَارِيّ وَضَعفه،
وَكَذَا ضعفه ابْن حبَان. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة:
حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن مجَالد: (عَن الشّعبِيّ،
قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
صعد الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة اسْتقْبل النَّاس
فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم. .) قلت: هَذَا مُرْسل فَلَا
يحْتَج بِهِ عِنْدهم، وَقَالَ عبد الْحق فِي (الْأَحْكَام
الْكُبْرَى) : هُوَ مُرْسل، وَإِن أسْندهُ أَحْمد من
حَدِيث عبد الله بن لَهِيعَة فَهُوَ مَعْرُوف فِي
الضُّعَفَاء، فَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ:
الحَدِيث لَيْسَ بِقَوي. |