عمدة القاري شرح صحيح البخاري

16 - (بابُ وَقْتِ الجُمُعَةِ إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن وَقت صَلَاة الْجُمُعَة إِذا زَالَت الشَّمْس من كبد السَّمَاء: وَقَالَ بَعضهم: جزم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة مَعَ وُقُوع الْخلاف فِيهَا لضعف دَلِيل الْمُخَالف عِنْده. قلت: لَا حَاجَة إِلَى الْقَيْد بِلَفْظ: عِنْده، لِأَن عِنْد غَيره أَيْضا من جَمَاهِير الْعلمَاء: إِن وَقت الْجُمُعَة إِذا زَالَت الشَّمْس.
وكَذالِكَ يُرْوَى عنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ والنُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ وعَمْرِو بنِ حُرَيْثٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَي: كَمَا ذكرنَا: إِن وَقت الْجُمُعَة إِذا زَالَت الشَّمْس، كَذَلِك رُوِيَ عَن هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَهَذِه أَربع تعاليق.
الأول: عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق سُوَيْد بن غَفلَة أَنه: صلى مَعَ أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حِين تَزُول الشَّمْس، وَفِي حَدِيث السَّقِيفَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وزالت الشَّمْس خرج عمر فَجَلَسَ على الْمِنْبَر.
الثَّانِي: عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن أبي العنبس عَمْرو بن مَرْوَان عَن أَبِيه، قَالَ: كُنَّا نجمع مَعَ عَليّ إِذا زَالَت الشَّمْس، وَقَالَ ابْن حزم: روينَا عَن أبي إِسْحَاق، قَالَ: شهِدت عَليّ بن أبي طَالب يُصَلِّي الْجُمُعَة إِذا زَالَت الشَّمْس.
عَن النُّعْمَان بن بشير، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن سماك، قَالَ: كَانَ النُّعْمَان يُصَلِّي بِنَا الْجُمُعَة بعد مَا تَزُول الشَّمْس. انْتهى. وَكَانَ النُّعْمَان أَمِيرا على الْكُوفَة فِي أول خلَافَة يزِيد بن مُعَاوِيَة.
الرَّابِع: عَن عَمْرو بن حُرَيْث، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا من طَرِيق الْوَلِيد بن الغيزار قَالَ: (مَا رَأَيْت إِمَامًا كَانَ أحسن صَلَاة للْجُمُعَة من عَمْرو بن حُرَيْث، فَكَانَ يُصليهَا إِذا زَالَت الشَّمْس) . إِسْنَاده صَحِيح، وَكَانَ عَمْرو يَنُوب عَن زِيَاد وَعَن وَلَده فِي الْكُوفَة أَيْضا. فَإِن قلت: لم اقْتصر البُخَارِيّ على هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة دون غَيرهم؟ قلت: قيل: لِأَنَّهُ نقل عَنْهُم خلاف ذَلِك، وَفِي التَّوْضِيح لِأَنَّهُ روى عَن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يصلونَ الْجُمُعَة قبل الزَّوَال، من طَرِيق لَا يثبت قَالَه ابْن بطال. وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي رزين، قَالَ: كُنَّا نصلي مَعَ عَليّ الْجُمُعَة فأحيانا نجد فَيْئا، وَأَحْيَانا لَا نجد. وَرُوِيَ أَيْضا عَن طَرِيق عبد الله بن سَلمَة، بِكَسْر اللَّام، وَقَالَ: صلى بِنَا عبد الله يَعْنِي ابْن مَسْعُود الْجُمُعَة ضحىٌ، وَقَالَ: خشيت عَلَيْكُم الْحر. وَرُوِيَ أَيْضا من طَرِيق سعيد بن سُوَيْد قَالَ: صلى بِنَا مُعَاوِيَة الْجُمُعَة ضحى، وَرُوِيَ أَيْضا عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن سَلمَة بن كهيل عَن مُصعب بن سعد قَالَ: كَانَ سعد يقيل بعد الْجُمُعَة. قلت: الْجَواب عَمَّا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه مَحْمُول على الْمُبَادرَة عِنْد الزَّوَال أَو التَّأْخِير قَلِيلا، وَأما الَّذِي رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود، فَفِيهِ عبد الله، وَهُوَ صَدُوق وَلكنه تغير لما كبر، قَالَه شُعْبَة وَغَيره، وَأما الَّذِي روى عَن مُعَاوِيَة فَفِي سَنَده سعد، ذكره ابْن عدي فِي الضُّعَفَاء. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يُتَابع على حَدِيثه، وَأما الَّذِي روى عَن سعد فَلَا يدل على فعلهَا قبل الزَّوَال، بل أَنه كَانَ يُؤَخر النّوم للقائلة إِلَى بعد الزَّوَال لاشتغاله بالتهيئة إِلَى الْجُمُعَة من الْغسْل والتنظيف أَو لتبكيره إِلَيْهَا.
26 - (حَدثنَا عَبْدَانِ قَالَ أخبرنَا عبد الله قَالَ أخبرنَا يحيى بن سعيد أَنه سَأَلَ عمْرَة عَن الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَت قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ النَّاس مهنة أنفسهم وَكَانُوا إِذا راحوا

(6/199)


إِلَى الْجُمُعَة راحوا فِي هيئتهم فَقيل لَهُم لَو اغتسلتم) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " وَكَانُوا إِذا راحوا إِلَى الْجُمُعَة راحوا " لِأَن الرواح لَا يكون إِلَّا بعد الزَّوَال (فَإِن قلت) رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ المُرَاد بالرواح فِي قَوْله " من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ رَاح " الذّهاب مُطلقًا فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا تُوجد الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة (قلت) إِمَّا يكون مجَازًا أَو مُشْتَركا فعلى كل من التَّقْدِيرَيْنِ فالقرينة مخصصة فِي قَوْله " من رَاح فِي السَّاعَة الأولى " قَائِمَة فِي إِرَادَة مُطلق الذّهاب وَفِي هَذَا قَائِمَة فِي الذّهاب بعد الزَّوَال (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول عَبْدَانِ بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة وَبعد الْألف نون واسْمه عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة الْأَزْدِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمروزِي مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع عمْرَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم بنت عبد الرَّحْمَن بن سعد الْأَنْصَارِيَّة المدنية. الْخَامِس عَائِشَة الصديقة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين وَفِيه السُّؤَال وَفِيه القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه شيخ البُخَارِيّ مَذْكُور باللقب وَفِيه رِوَايَة التابعية عَن الصحابية وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية وَفِيه من الروَاة مروزيان وهما شَيْخه وَشَيخ شَيْخه ومدني ومدنية وهما يحيى وَعمرَة (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رمح عَن اللَّيْث وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن يحيى بن سعيد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " مهنة أنفسهم " بِفَتْح الْمِيم وَالْهَاء وَالنُّون جمع ماهن ككتبة جمع كَاتب والماهن الْخَادِم وَحكى ابْن التِّين أَنه رُوِيَ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَهُوَ مصدر وَمَعْنَاهُ أَصْحَاب خدمَة أنفسهم (قلت) هِيَ رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد أَكَانَ النَّاس أهل عمل وَلم يكن لَهُم كفاءة أَي لم يكن لَهُم من يكفيهم الْعَمَل من الخدم قَوْله " إِذا راحوا " أَي إِذا ذَهَبُوا بعد الزَّوَال لِأَن حَقِيقَة الرواح بعد الزَّوَال عِنْد أَكثر أهل اللُّغَة وَفِيه سُؤال ذَكرْنَاهُ عَن قريب مَعَ جَوَابه قَوْله " لَو اغتسلتم " كلمة لَو إِمَّا لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب وَإِمَّا على أَصْلهَا فجوابها مَحْذُوف نَحْو لَكَانَ حسنا وَنَحْو ذَلِك (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) أَن وَقت الْجُمُعَة بعد الزَّوَال وَهُوَ وَقت الظّهْر وَإِن الِاغْتِسَال مُسْتَحبّ لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة حَتَّى لَا يتَأَذَّى النَّاس بل الْمَلَائِكَة أَيْضا -
904 - حدَّثنا سُرَيْجُ بنُ النعْمَانِ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمَانَ عنْ عُثْمانَ بنِ عَبدِ الرَّحْمانِ بنِ عُثْمَانَ التَّيْمِي عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّي الجُمُعَةَ حِينَ تَمُيلُ الشَّمْسُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسريج، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم: ابْن النُّعْمَان بِضَم النُّون الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وفليح، بِضَم الْفَاء، مر فِي أول كتاب الْعلم. قَوْله: (عَن أنس) صرح الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق زيد بن الْحباب عَن فليح بِسَمَاع عُثْمَان لَهُ من أنس.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن الْحسن بن عَليّ عَن زيد بن الْحباب عَن فليح بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع عَن سُرَيج بن النُّعْمَان بِهِ وَعَن يحيى بن مُوسَى عَن أبي دَاوُد عَن فليح نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَقَالَ: وَفِي الْبَاب عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع وَجَابِر وَالزُّبَيْر بن الْعَوام. قلت: وَفِيه أَيْضا عَن سهل بن سعد وَعبد الله بن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَسعد الْقرظِيّ وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. أما حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع فَأخْرجهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة خلا التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة إِيَاس بن سَلمَة بن الْأَكْوَع عَن أَبِيه قَالَ: (كُنَّا نصلي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجُمُعَة ثمَّ ننصرف وَلَيْسَ للحيطان ظلّ نستظل بِهِ) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (كُنَّا نجمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا زَالَت الشَّمْس ثمَّ نرْجِع نتتبع الْفَيْء) . أما حَدِيث جَابر، فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: (كُنَّا نصلي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نرْجِع فنريح نواضحنا. قَالَ حسن: يَعْنِي ابْن عَيَّاش، فَقلت لجَعْفَر: فِي أَي سَاعَة تِلْكَ؟ قَالَ: بعد زَوَال الشَّمْس) . وَأما حَدِيث

(6/200)


الزبير بن الْعَوام فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة مُسلم بن جُنْدُب عَن الزبير قَالَ: (كُنَّا نصلي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجُمُعَة ثمَّ ننصرف فنبتدر فِي الأجام فَمَا نجد من الظل إلاّ قدر مَوضِع أقدامنا) . قَالَ يزِيد بن هَارُون، الأجام: الأطام. وَأما حَدِيث سهل بن سعد فَأخْرجهُ البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي، وَأخرجه أَيْضا مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ. وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) . وَأما حَدِيث عمار بن يَاسر فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) عَنهُ قَالَ: (كُنَّا نصلي الْجُمُعَة ثمَّ ننصرف فَمَا نجد للحيطان فَيْئا نستظل بِهِ) وَأما حَدِيث سعد الْقرظِيّ، فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه عَنهُ: (أَنه كَانَ يُؤذن يَوْم الْجُمُعَة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ الْفَيْء مثل الشرَاك) . وَأما حَدِيث بِلَال فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) : (أَنه كَانَ يُؤذن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة إِذا كَانَ الْفَيْء قدر الشرَاك، إِذا قعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أجمع الْعلمَاء على أَن وَقت الْجُمُعَة بعد زَوَال الشَّمْس إلاّ مَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: يجوز فعلهَا فِي وَقت صَلَاة الْعِيد، لِأَنَّهَا صَلَاة عيد، وَقَالَ أَحْمد: تجوز قبل الزَّوَال، وَنَقله ابْن الْمُنْذر عَن عَطاء وَإِسْحَاق، وَنَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي السَّادِسَة. وَقَالَ ابْن قدامَة، فِي (الْمقنع) : يشْتَرط لصِحَّة الْجُمُعَة أَرْبَعَة شُرُوط: أَحدهَا الْوَقْت، وأوله أول وَقت صَلَاة الْعِيد، قَالَ: وَقَالَ الْجرْمِي: يجوز فعلهَا فِي السَّاعَة السَّادِسَة، قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَجَابِر وَسعد وَمُعَاوِيَة أَنهم صلوها قبل الزَّوَال، وَقَالَ القَاضِي وَأَصْحَابه: يجوز فعلهَا فِي وَقت صَلَاة الْعِيد. قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِك عَن عبد الله عَن أَبِيه، قَالَ: نَذْهَب إِلَى أَنَّهَا كَصَلَاة الْعِيد، وَأَرَادَ بِعَبْد الله عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ عَطاء: كل عيد حِين يَمْتَد الضُّحَى الْجُمُعَة والأضحى وَالْفطر، لما رُوِيَ (عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: مَا كَانَ عيدا إلاّ فِي أول النَّهَار، وَلَقَد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِنَا الْجُمُعَة فِي ظلّ الْحطيم) . رَوَاهُ ابْن البخْترِي فِي (أَمَالِيهِ) بِإِسْنَادِهِ، وَاحْتج بعض الْحَنَابِلَة بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن هَذَا يَوْم جعله الله عيدا للْمُسلمين) ، قَالُوا: فَلَمَّا سَمَّاهُ عيدا جَازَت الصَّلَاة فِيهِ، فِي وَقت الْعِيد، كالفطر والأضحى، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من تَسْمِيَة يَوْم الْجُمُعَة عيدا أَن يشْتَمل على جَمِيع أَحْكَام الْعِيد، بِدَلِيل أَن يَوْم الْعِيد يحرم وصومه مُطلقًا، سَوَاء صَامَ قبله أَو بعده بِخِلَاف يَوْم الْجُمُعَة بالِاتِّفَاقِ.

17 - (بابٌ إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ يَوْمَ الجُمُعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا اشْتَدَّ الْحر، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا اشْتَدَّ الْحر يَوْم الْجُمُعَة أبرد بهَا، وَإِنَّمَا لم يجْزم بالحكم الَّذِي يفهم من الْجَواب لكَونه لم يتَيَقَّن أَن قَوْله: يَعْنِي الْجُمُعَة، من كَلَام التَّابِعِيّ أَو من كَلَام من دونه، لِأَن قَول أنس: (كَانَ

(6/201)


النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اشْتَدَّ الْبرد بكر بِالصَّلَاةِ، وَإِذا اشْتَدَّ الْحر أبرد بِالصَّلَاةِ) ، وَمُطلق يتَنَاوَل الظّهْر وَالْجُمُعَة، كَمَا أَن قَوْله فِي رِوَايَة حميد عَنهُ: (كُنَّا نبكر بِالْجمعَةِ) ، مُطلق يتَنَاوَل شدَّة الْحر وَشدَّة الْبرد، وَالْحَاصِل أَن النَّقْل عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مُخْتَلف. فرواية حميد عَنهُ تدل على التبكير بِالْجمعَةِ مُطلقًا، وَرِوَايَة أبي خلدَة عَنهُ تدل على التَّفْصِيل فِيهَا، وَرِوَايَته الثَّانِيَة عَنهُ تدل على أَن هَذَا الحكم بِالصَّلَاةِ مُطلقًا، يَعْنِي: سَوَاء كَانَ جُمُعَة أَو ظهرا، وَرِوَايَته الثَّالِثَة الَّتِي رَوَاهَا عَنهُ بشر بن ثَابت تدل على أَن هَذَا الحكم بِالظّهْرِ، وَيحصل الائتلاف بَين هَذِه الرِّوَايَات بِأَن نقُول: الأَصْل فِي الظّهْر التبكير عِنْد اشتداد الْبرد والإبراد عِنْد اشتداد الْحر، كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَالْأَصْل فِي الْجُمُعَة، التبكير لِأَن يَوْم الْجُمُعَة يَوْم اجْتِمَاع النَّاس وازدحامهم، فَإِذا أخرت يشق عَلَيْهِم: وَقَالَ ابْن قدامَة: وَلذَلِك كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصليهَا إِذا زَالَت الشَّمْس صيفا وشتاءً على مِيقَات وَاحِد، ثمَّ إِن أنسا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَاس الْجُمُعَة على الظّهْر عِنْد اشتداد الْحر لَا بِالنَّصِّ، لِأَن أَكثر الْأَحَادِيث تدل على التَّفْرِقَة فِي الظّهْر وعَلى التبكير فِي الْجُمُعَة.

906 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ قَالَ حدَّثنا حَرَمِيُّ بنُ عُمَارَةَ قالَ حدَّثنا أبُو خَلْدَةَ هُوَ خالِدُ بنُ دِينارٍ قالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يَقُولُ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا اشْتَدَّ البَرْدُ بكَّرَ بِالصَّلاَةِ وَإذَا اشْتَدَّ الحَرُّ أبْرَدَ بِالصَّلاَةِ يَعْنِي الجُمُعَةَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا اشْتَدَّ الْحر) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الْمقدمِي، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد الدَّال الْمَفْتُوحَة، وحرمي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالرَّاء وَكسر الْمِيم: ابْن عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم، وَأَبُو خلدَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام وَبِفَتْحِهَا أَيْضا، وَهُوَ كنية خَالِد بن دِينَار التَّمِيمِي السَّعْدِيّ الْبَصْرِيّ الْخياط، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أحد الروَاة بِصِيغَة النِّسْبَة وَالْآخر بالكنية وتصريح الِاسْم. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ روى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد فَقَط من أبي خلدَة. قَالَه الغساني، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَلم يذكر فِيهِ لفظ: الْجُمُعَة، بل ذكره بعد قَوْله: تَعْجِيل الظّهْر فِي الْبرد.
قَالَ يُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ أخبرنَا أبُو خَلْدَةَ فَقَالَ بِالصَّلاةِ ولَمْ يَذْكُرِ الجُمُعَةَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي (الْأَدَب الْمُفْرد) وَلَفظه: (سَمِعت أنس بن مَالك، وَهُوَ مَعَ الحكم أَمِير الْبَصْرَة على السرير، يَقُول: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ الْحر أبرد بِالصَّلَاةِ، وَإِذا كَانَ الْبرد بكر بِالصَّلَاةِ) . قَوْله: (وَقَالَ بِالصَّلَاةِ) ، أَي: وَقَالَ أَبُو خلدَة فِي رِوَايَة يُونُس عَنهُ بِلَفْظ: الصَّلَاة، فَقَط، وَلم يذكر الْجُمُعَة، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي الْحسن: حَدثنَا أَبُو هِشَام عَن يُونُس بِلَفْظ: (إِذا كَانَ الْحر أبرد بِالصَّلَاةِ وَإِذا كَانَ الْبرد بكرها) ، يَعْنِي: الظّهْر، وَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبيد بن يعِيش عَنهُ بِلَفْظ: (الصَّلَاة) ، فَقَط. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: وَلم يذكر الْجُمُعَة، مُوَافق لقَوْل الْفُقَهَاء حَيْثُ قَالُوا: ندب الْإِبْرَاد إلاّ فِي الْجُمُعَة لشدَّة الْخطر فِي فَوَاتهَا، وَلِأَن النَّاس يبكرون إِلَيْهَا فَلَا يتأذون بِالْحرِّ.
وَقَالَ بِشْرُ بنُ ثابَتٍ حدَّثنا أبُو خَلْدَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا أميرٌ الجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ لأِنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَيْفَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الظهْرَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق عَن بشر عَن أنس، بِلَفْظ: (إِذا كَانَ الشتَاء بكر بِالظّهْرِ، وَإِذا كَانَ الصَّيف أبرد بهَا، وَلَكِن يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس بَيْضَاء نقية) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. قَوْله: (أَمِير) سَمَّاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب (الْأَدَب الْمُفْرد) على مَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ: الحكم بن أبي عقيل الثَّقَفِيّ، كَانَ نَائِبا عَن ابْن عَمه الْحجَّاج بن يُوسُف، وَكَانَ على طَريقَة

(6/202)


ابْن عَمه فِي تَطْوِيل الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى يكَاد الْوَقْت أَن يخرج، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن بطال على أَن وَقت الْجُمُعَة وَقت الظّهْر، لِأَن أنسا سوى بَينهمَا فِي جَوَابه للْحكم الْمَذْكُور، حَتَّى قيل: كَيفَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الظّهْر خلافًا لمن أجَاز الْجُمُعَة قبل الزَّوَال؟ وَقَالَ التَّيْمِيّ: معنى الحَدِيث أَن الْجُمُعَة وَقتهَا وَقت الظّهْر، وَأَنَّهَا تصلى بعد الزَّوَال ويبرد بهَا فِي شدَّة الْحر، وَلَا يكون الْإِبْرَاد إلاّ بعد تمكن الْوَقْت،

18 - (بابُ المَشْيِ إلَى الجُمُعَةِ وقَوْلِ الله جَلَّ ذِكْرُهُ فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ الله ومَنْ قَالَ السَّعْيُ العَمَلُ والذَّهَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} الْإِسْرَاء: 19) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمَشْي إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة، أَرَادَ أَن فِي حَالَة الْمَشْي إِلَيْهَا مَا يَتَرَتَّب من الحكم. قَوْله: (وَقَول الله) بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (الْمَشْي) أَي: وَفِي بَيَان معنى قَول الله عز وَجل: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} (الْجُمُعَة: 9) . وَالسَّعْي فِي لِسَان الْعَرَب: الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي والاشتداد. وَفِي (الْمُحكم) : السَّعْي عدوٌ دون الشد، سعى يسْعَى سعيا، وَالسَّعْي الْكسْب وكل عمل من خير أَو شَرّ سعي. وَقَالَ ابْن التِّين: ذهب مَالك إِلَى أَن الْمَشْي والمضي يسميان سعيا من حَيْثُ كَانَا عملا، وكل من عمل بِيَدِهِ أَو غَيرهَا، فقد سعى، وَأما السَّعْي بِمَعْنى الجري فَهُوَ الْإِسْرَاع، يُقَال: سعى إِلَى كَذَا بِمَعْنى: الْعَدو، والجري، فيتعدى بإلى، وَإِن كَانَ بِمَعْنى الْعَمَل فيتعدى بِاللَّامِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي قَوْله: {وسعى لَهَا سعيها} (الْإِسْرَاء: 19) . أَي: عمل لَهَا وَذهب إِلَيْهَا. فَإِن قلت: هَذَا معدى بِاللَّامِ، وَذَلِكَ بإلى؟ قلت لَا تفَاوت بَينهمَا إلاّ بِإِرَادَة الِاخْتِصَاص والانتهاء. انْتهى كَلَامه. قلت: الْفرق بَين: سعى لَهُ وسعى إِلَيْهِ، بِمَا ذكرنَا، وَهُوَ الَّذِي ذكره أهل اللُّغَة وَإِلَيْهِ أَشَارَ البُخَارِيّ. بقوله: (وَمن قَالَ السَّعْي: الْعَمَل) والذهاب يَعْنِي من فسر السَّعْي بِالْعَمَلِ والذهاب يَقُول بِاللَّامِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وسعى لَهَا سعيها} (الْإِسْرَاء: 19) . أَي: عمل لَهَا، وَلَكِن: بِاللَّامِ، لَا تَأتي إلاّ فِي تَفْسِير السَّعْي بِالْعَمَلِ، وَأما فِي تَفْسِير السَّعْي بالذهاب فَلَا يَأْتِي إلاّ بإلى، ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا} (الْجُمُعَة: 9) . فَمنهمْ من قَالَ: مَعْنَاهُ: فامضوا، وَاحْتَجُّوا بِأَن عمر وَابْن مَسْعُود، 0 مَا، كَانَا يقرآن: فامضوا إِلَى ذكر الله. قَالَا: وَلَو قرأناها فَاسْعَوْا لسعينا حَتَّى يسْقط رداؤنا. وَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لأبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَرَأَ: فَاسْعَوْا، لَا تزَال تقْرَأ الْمَنْسُوخ؟ كَذَا ذكره ابْن الْأَثِير. وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد، قيل لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن أَبَيَا يقْرَأ: فَاسْعَوْا: فامشوا؟ فَقَالَ عمر: أبي أعلمنَا بالمنسوخ. وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج: وَقَرَأَ أبي وَابْن مَسْعُود: فامضوا، وَكَذَا ابْن الزبير فِيمَا ذكره ابْن التِّين، وَمِنْهُم من قَالَ: معنى: فَاسْعَوْا، فاقصدوا. وَفِي تَفْسِير أبي الْقَاسِم الْجَوْزِيّ: فَاسْعَوْا، أَي: فاقصدوا إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة، وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ: فامشوا، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن أبي. وَقَالَ ابْن التِّين: وَلم يذكر أحد من الْمُفَسّرين أَنه الجريء، وَقد ذكرنَا نبذا من ذَلِك فِي أول كتاب الْجُمُعَة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَحْرُمُ البَيْعُ حِينَئِذٍ
أَي: حِين نُودي للصَّلَاة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن حزم من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: (لَا يصلح البيع يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى يُنَادى للصَّلَاة، فَإِذا قضيت الصَّلَاة فاشترِ وبِعْ) . وَقَالَ الزّجاج: البيع فِي وَقت الزَّوَال من يَوْم الْجُمُعَة إِلَى انْقِضَاء الصَّلَاة كالحرام. وَقَالَ الْفراء: إِذا أذن الْمُؤَذّن حرم البيع وَالشِّرَاء، لِأَنَّهُ إِذا أَمر بترك البيع فقد أَمر بترك الشِّرَاء. وَلِأَن المُشْتَرِي وَالْبَائِع يَقع عَلَيْهِمَا البيعان، وَفِي تَفْسِير إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي: عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تحرم التِّجَارَة عِنْد الْأَذَان، وَيحرم الْكَلَام عِنْد الْخطْبَة، وَيحل الْكَلَام بعد الْخطْبَة وَتحل التِّجَارَة بعد الصَّلَاة) . وَعَن قَتَادَة: (إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة حرم البيع وَالشِّرَاء) . وَقَالَ الضَّحَّاك: إِذا زَالَت الشَّمْس، وَعَن عَطاء وَالْحسن مثله، وَعَن أَيُّوب: لأهل الْمَدِينَة سَاعَة يَوْم الْجُمُعَة ينادون: حرم البيع، وَذَلِكَ عِنْد خُرُوج الإِمَام وَفِي (المُصَنّف) : عَن مُسلم ابْن يسَار إِذا علمت أَن النَّهَار قد انتصف يَوْم الْجُمُعَة فَلَا تتبايعن شَيْئا. وَعَن مُجَاهِد: من بَاعَ شَيْئا بعد زَوَال الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة فَإِن بَيْعه مَرْدُود. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) قيل: الْمُعْتَبر فِي وجوب السَّعْي وَحُرْمَة البيع هُوَ الْأَذَان الْأَصْلِيّ الَّذِي كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين يَدي الْمِنْبَر. قلت: هُوَ مَذْهَب الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ الْمُعْتَبر فِي وجوب السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة على الْمُكَلف، وَفِي حُرْمَة البيع وَالشِّرَاء، وَفِي (فَتَاوَى العتابي) : هُوَ الْمُخْتَار، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأكْثر فُقَهَاء الْأَمْصَار، وَنَصّ فِي المرغيناني: أَنه هُوَ

(6/203)


الصَّحِيح. وَقَالَ ابْن عمر: الْأَذَان الأول بِدعَة، ذكره ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ: ثمَّ البيع إِذا وَقع فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر وَالشَّافِعِيّ: يجوز البيع مَعَ الْكَرَاهَة، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ مَالك وَأحمد والظاهرية: يبطل البيع. وَفِي (الْمحلى) : يفْسخ البيع إِلَى أَن تقضى الصَّلَاة، وَلَا يُصَحِّحهُ خُرُوج الْوَقْت، وَلَو كَانَا كَافِرين، وَلَا يُحَرك نِكَاح وَلَا إِجَارَة وَلَا سلم. وَقَالَ مَالك: كَذَلِك فِي البيع الَّذِي فِيهِ سلم، وَكَذَا فِي النِّكَاح وَالْإِجَارَة وَالسّلم، وأباح الْهِبَة وَالْقَرْض وَالصَّدَََقَة. وَعَن الثَّوْريّ: البيع صَحِيح وفاعله عَاص لله تَعَالَى، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَن البيع مفسوخ وَهُوَ قَول أَكثر الْمَالِكِيَّة، وروى عَنهُ ابْن وهب وَعلي بن زِيَاد: بئس مَا صنع، ويستغفر الله تَعَالَى. وَقَالَ عَنهُ: وَلَا أرى الرِّبْح فِيهِ حَرَامًا. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا يفسح مَا عقد من النِّكَاح، وَلَا يفْسخ الْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَالرَّهْن والحمالة. وَقَالَ أصبغ: يفْسخ النِّكَاح. وَقَالَ ابْن التِّين: كل من لزمَه التَّوَجُّه إِلَى الْجُمُعَة يحرم عَلَيْهِ مَا يمنعهُ مِنْهُ من بيع أَو نِكَاح أَو عمل. قَالَ: وَاخْتلف فِي النِّكَاح وَالْإِجَارَة، قَالَ: وَذكر القَاضِي أَبُو مُحَمَّد: أَن الهبات وَالصَّدقَات مثل ذَلِك. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: من انْتقض وضوؤه فَلم يجد مَاء إلاّ بِثمن جَازَ لَهُ أَن يَشْتَرِيهِ ليتوضأ بِهِ، وَلَا يفْسخ شِرَاؤُهُ. قَالَ الشَّافِعِي: فِي (الام) : وَلَو تبَايع رجلَانِ ليسَا من أهل فرض الْجُمُعَة لم يحرم بِحَال وَلَا يكره، وَإِذا بَايع رجلَانِ من أهل فَرضهَا أَو أَحدهمَا من أهل فَرضهَا. فَإِن كَانَ قبل الزَّوَال فَلَا كَرَاهَة، وَإِن كَانَ بعده وَقبل ظُهُور الإِمَام أَو قبل جُلُوسه على الْمِنْبَر أَو قبل شُرُوع الْمُؤَذّن فِي الْأَذَان بَين يَدي الْخَطِيب كره كَرَاهَة تَنْزِيه، وَإِن كَانَ بعد جُلُوسه وشروع الْمُؤَذّن فِيهِ حرم على الْمُتَبَايعين جَمِيعًا، سَوَاء كَانَ من أهل الْفَرْض أَو أَحدهمَا، وَلَا يبطل البيع. وَحُرْمَة البيع وَوُجُوب السَّعْي مختصان بالمخاطبين بِالْجمعَةِ، أما غَيرهم كالنساء فَلَا يثبت فِي حَقه ذَلِك، وَذكر ابْن أبي مُوسَى فِي غير المخاطبين رِوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا
هَذَا التَّعْلِيق عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وَصله عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره الْكَبِير) عَن روح عَن ابْن جريج، قَالَ: قلت لعطاء: هَل من شَيْء يحرم إِذا نُودي بِالْأولِ سوى البيع؟ قَالَ عَطاء: إِذا نُودي بِالْأولِ حرم اللَّهْو وَالْبيع، والصناعات كلهَا بِمَنْزِلَة البيع، والرقاد، وَأَن يَأْتِي الرجل أَهله، وَأَن يكْتب كتابا.
وقالَ إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهْوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أنْ يَشْهَدَ
إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ القريشي الْمدنِي، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَأخرج أَبُو دَاوُد فِي (مراسيله) : حَدثنَا قُتَيْبَة عَن أبي صَفْوَان عَن أبي ذِئْب (عَن صَالح بن أبي كثير أَن ابْن شهَاب خرج لسفر يَوْم الْجُمُعَة من أول النَّهَار، قَالَ: فَقلت لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج لسفر يَوْم الْجُمُعَة من أول النَّهَار) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: عَن الْفضل حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن ابْن شهَاب بِغَيْر وَاسِطَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلف فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ، وَقد روى عَنهُ مثل قَول الْجَمَاعَة. أَي: لَا جُمُعَة على مُسَافر، كَذَا رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: هُوَ كالإجماع من أهل الْعلم على ذَلِك لِأَن الزُّهْرِيّ اخْتلف عَلَيْهِ فِيهِ. وَقيل: يحمل كَلَام الزُّهْرِيّ على حَالين، فَحَيْثُ قَالَ: لَا جُمُعَة على مُسَافر، وَأَرَادَ على طَرِيق الْوُجُوب. وَحَيْثُ قَالَ: فَعَلَيهِ أَن يشْهد، أَرَادَ على طَرِيق الِاسْتِحْبَاب. وَأما رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد عَنهُ فَيمكن أَن تحمل على أَنه إِذا اتّفق حُضُوره فِي مَوضِع تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة فَسمع النداء لَهَا أَنَّهَا تلْزم الْمُسَافِر، وَقَالَ ابْن بطال: وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه لَا جُمُعَة على مُسَافر، حَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عمر وَأنس بن مَالك وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَابْن مَسْعُود وَنَفر من أَصْحَاب عبد الله وَمَكْحُول وَعُرْوَة بن الْمُغيرَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعبد الْملك بن مَرْوَان والشعب وَعمر بن عبد الْعَزِيز. وَلما ذكر ابْن التِّين قَول الزُّهْرِيّ، قَالَ: إِن أَرَادَ وُجُوبهَا فَهُوَ قَول شَاذ، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : أما السّفر لَيْلهَا يَعْنِي: لَيْلَة الْجُمُعَة قبل طُلُوع الْفجْر فَيجوز عندنَا، وَعند الْعلمَاء كَافَّة إلاّ مَا حَكَاهُ الْعَبدَرِي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: لَا يُسَافر بعد دُخُول الْعشَاء من يَوْم الْخَمِيس حَتَّى يُصَلِّي الْجُمُعَة، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل لَا أصل لَهُ. انْتهى. قلت: بل لَهُ أصل صَحِيح، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن عَائِشَة، قَالَت: (إِذا أَدْرَكتك لَيْلَة الْجُمُعَة فَلَا تخرج حَتَّى تصلي

(6/204)


الْجُمُعَة) ، وَأما السّفر قبل الزَّوَال فجوزه عمر بن الْخطاب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَأبي عُبَيْدَة بن الْجراح وَعبد الله بن عمر وَالْحسن وَابْن سِيرِين، وَبِه قَالَ مَالك وَابْن الْمُنْذر. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : الْأَصَح تَحْرِيمه. وَبِه قَالَت عَائِشَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَحسان بن عَطِيَّة ومعاذ بن جبل. وَأما السّفر بعد الزول يَوْم الْجُمُعَة إِذا لم يخف فَوت الرّفْقَة وَلم يصل الْجُمُعَة فِي طَرِيقه فَلَا يجوز عِنْد مَالك وَأحمد، وَجوزهُ أَبُو حنيفَة.

907 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا عَبَابَةُ بنُ رفَاعَةَ قَالَ أدْرَكنِي أبُو عَبْسٍ وَأَنا أذْهَبُ إلَى الجُمُعَةِ فَقَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماهُ فِي سبِيلِ الله حَرَّمَهُ الله عَلى النَّار (الحَدِيث 907 طرفه فِي: 2811) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْجُمُعَة تدخل فِي قَوْله: (فِي سَبِيل الله) ، لِأَن السَّبِيل اسْم جنس مُضَاف فَيُفِيد الْعُمُوم، وَلِأَن أَبَا عبس جعل حكم السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة حكم الْجِهَاد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ، قد تكَرر ذكره. والوليد بن مُسلم قد مر فِي: بَاب وَقت الْمغرب، وَيزِيد، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الزَّاي ابْن أبي مَرْيَم أَبُو عبد الله الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي إِمَام جَامعهَا، مَاتَ سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وعباية، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة المخففة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف مَفْتُوحَة: ابْن رِفَاعَة، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء وَبعد الْألف عين مُهْملَة: ابْن رَافع بن خديج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وبالجيم: الْأنْصَارِيّ، وَأَبُو عبس، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره سين مُهْملَة: واسْمه عبد الرَّحْمَن على الصَّحِيح ابْن جُبَير، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: وَقيل: جَابر بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ الأوسي الْحَارِثِيّ، بَدْرِي مَشْهُور.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الْأَوَّلين من الروَاة مدنيان والآخران دمشقيان. وَفِيه: أَنه لَيْسَ للْبُخَارِيّ فِي الْكتاب من أبي عبس إلاّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد. وَفِيه: أَن يزِيد هَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، لِأَن يزِيد بن أبي مَرْيَم رأى وَاثِلَة بن الْأَسْقَع. ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن الْمُبَارك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد عَن أبي عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجِهَاد أَيْضا كَذَلِك، وَلَفظه: قَالَ يزِيد بن أبي مَرْيَم: لَحِقَنِي عَبَايَة بن رَافع بن خديج وَأَنا ماشٍ إِلَى الْجُمُعَة، فَقَالَ: أبشر فَإِن خطاك هَذِه فِي سَبِيل الله، سَمِعت أَبَا عبس يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اغبرت قدماه فِي سَبِيل الله فَهُوَ حرَام على النَّار) . وَزَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته: (وَهُوَ رَاكب، فَقَالَ: احتسب خطاك هَذِه) . فَذكر الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَن الْقِصَّة الْمَذْكُورَة وَقعت لكل مِنْهُمَا، وَالله أعلم. وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر رَوَاهُ الفلاس عَن أبي نصر التمار عَن كوثر بن حَكِيم عَن نَافِع عَنهُ عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (حرمهَا الله على النَّار) . وَعَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد ابْن الْمقري، وَلَفظه: (مَا اغبرت قدما رجل فِي سَبِيل الله إلاّ حرم الله عَلَيْهِ النَّار) . وَعَن معَاذ يرفعهُ عِنْد ابْن عَسَاكِر، وَلَفظه: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، مَا اغبرت قدما عبد وَلَا وَجهه فِي عمل أفضل عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة بعد الْمَكْتُوبَة من جِهَاد فِي سَبِيل الله) . وَعَن عبَادَة يرفعهُ عِنْد المخلص بِسَنَد جيد: (لَا يجْتَمع غُبَار فِي سَبِيل الله ودخان جَهَنَّم فِي جَوف امرىء مُسلم) . وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، مثله عِنْد أبي نعيم، وَعَن مَالك بن عبد الله النَّخعِيّ مثله عِنْد أَحْمد، وَعَن أبي الدَّرْدَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الطَّبَرَانِيّ: (لَا تلثموا من الْغُبَار فِي سَبِيل الله فَإِنَّهُ مسك الْجنَّة) ، وَعَن أنس عِنْده أَيْضا (الْغُبَار فِي سَبِيل الله إسفار الْوُجُوه يَوْم الْقِيَامَة) . وَعَن أبي أُمَامَة عِنْد ابْن عَسَاكِر: (مَا من رجل يغبر وَجهه فِي سَبِيل الله إلاّ أَمن الله وَجهه من النَّار، وَمَا من رجل يغبر قدماه فِي سَبِيل الله إلاّ أَمن الله قدمه من النَّار يَوْم الْقِيَامَة) ، وَعَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْد الخلعي: (من اغبرت قدماه فِي سَبِيل الله فَلَنْ يلج النَّار أبدا) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَأَنا أذهب) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَكَذَا وَقع عِنْد البُخَارِيّ أَن الْقِصَّة وَقعت لعباية مَعَ أبي عبس

(6/205)


وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة عَليّ بن بَحر وَغَيره عَن الْوَلِيد بن مُسلم أَن الْقِصَّة وَقعت ليزِيد بن أبي مَرْيَم مَعَ عَبَايَة، وَكَذَا أخرجه النَّسَائِيّ كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَذكرنَا التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ. قَوْله: (اغبرت قدماه) أَي: أَصَابَهَا الْغُبَار، وَإِنَّمَا ذكر الْقَدَمَيْنِ وَإِن كَانَ الْغُبَار يعم الْبدن كُله عِنْد ثورانه: لِأَن أَكثر الْمُجَاهدين فِي ذَلِك الزَّمَان كَانُوا مشَاة والأقدام تتغبر على كل حَال سَوَاء كَانَ الْغُبَار قَوِيا أَو ضَعِيفا، وَلِأَن أساس ابْن آدم على الْقَدَمَيْنِ، فَإِذا سلمت القدمان من النَّار سلم سَائِر أَعْضَائِهِ عَنْهَا. وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي ذكر الْوَجْه فِي سَبِيل الله.

908 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِي عنْ سَعِيدٍ وأبِي سلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وأْتُوهَا تَمْشُونَ وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلوا وَمَا فاتكُمْ فأَتِمُّوا. (انْظُر الحَدِيث 636) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ وجود لفظ السَّعْي فِي كل مِنْهُمَا، مَعَ الْإِشَارَة إِلَى أَن بَين لَفْظِي السَّعْي فيهمَا مُغَايرَة، بَيَانه أَن السَّعْي الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} (الْجُمُعَة: 9) . الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة، غير السَّعْي الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث. فِي قَوْله: (فَلَا تأتوها تسعون) ، بَيَان ذَلِك أَن السَّعْي الْمَذْكُور فِي الْآيَة الْمَأْمُور بِهِ مُفَسّر بالمضي والذهاب، وَالسَّعْي الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث مُفَسّر بالعدو، وَحَيْثُ قابله الْمَشْي، بقوله: (واتوها تمشون) ، وَهَذَا الحَدِيث قد ذكر فِي: بَاب (لَا يسْعَى إِلَى الصَّلَاة وليأتها بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار) فِي أَوَاخِر كتاب الْأَذَان بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور هُنَا: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب. وَأخرجه هُنَاكَ أَيْضا من طَرِيق آخر عَن آدم، وَهَهُنَا أخرجه أَيْضا من طَرِيقين الأول: عَن آدم إِلَى آخِره، وَالثَّانِي: عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن الزُّهْرِيّ. وَفِي أَلْفَاظ الحَدِيث بعض تفَاوت، وَقد تكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ.
قَوْله: (تسعون) جملَة حَالية، فالنهي يتَوَجَّه إِلَيْهِ لَا إِلَى الْإِتْيَان. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ نهى عَنهُ وَالْقُرْآن قد أَمر بِهِ حَيْثُ قَالَ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} (الْجُمُعَة: 9) . قلت: المُرَاد بالسعي هُنَا هُوَ الْإِسْرَاع، وَفِي الْقُرْآن: الْقَصْد أَو الذّهاب أَو الْعَمَل. انْتهى. قلت: الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن فِي وَجه الْمُطَابقَة يُغني عَن هَذَا السُّؤَال مَعَ جَوَابه. قَوْله: (السكينَة) ، بِالنّصب يَعْنِي: الزموا السكينَة، وَمَعْنَاهَا: الهنيئة والتأني، وَيجوز بِالرَّفْع على الِابْتِدَاء.

909 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍ ّ قَالَ حدَّثني أبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ المُبَارَكِ عنْ يَحْياى بنِ أبِي كَثِيرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادةَ قَالَ أبُو عَبْدِ الله لَا أعْلَمُهُ إلاّ عنْ أبِيهِ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ. (انْظُر الحَدِيث 637 وطرفه) .

وَجه الْمُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين التَّرْجَمَة قريب من وَجه الْمُطَابقَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث السَّابِق، وَيُؤْخَذ ذَلِك من لفظ السكينَة، وَإِن كَانَ فِيهِ بعض التعسف. وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي أَوَاخِر كتاب الْأَذَان فِي: بَاب مَتى يقوم النَّاس إِذا رَأَوْا الإِمَام عِنْد الْإِقَامَة: عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام، قَالَ: كتب إِلَى يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا تقوموا حَتَّى تروني) ، وَهنا أخرجه: عَن عَمْرو بن عَليّ الفلاس عَن أبي قُتَيْبَة، بِضَم الْقَاف وَفتح الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن قُتَيْبَة الشعيري، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة: الْخُرَاسَانِي سكن الْبَصْرَة، مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ، عَن عَليّ بن الْمُبَارك الْهنائِي، بِضَم الْهَاء وَتَخْفِيف النُّون وبالمد، وَقد تكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) المُرَاد بِهِ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (لَا أعلمهُ) ، هُوَ مقول: قَالَ أَبُو عبد الله، أَي: قَالَ البُخَارِيّ: لَا أعلم رِوَايَة عبد الله هَذَا الحَدِيث عَن أحد

(6/206)


إلاّ عَن أَبِيه. وَقَوله: قَالَ أَبُو عبد الله) فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن عِنْده توقف فِي وَصله لكَونه كتبه من حفظه أَو لغير ذَلِك، وَلأَجل ذَلِك قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا مُنْقَطع لِأَن شَيْخه لم يروه إلاّ مُنْقَطِعًا وَأَن حكم البُخَارِيّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ من أَبِيه، قيل: فِي الأَصْل هُوَ مَوْصُول لَا شكّ فِيهِ لِأَن الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرجه عَن ابْن نَاجِية عَن أبي حَفْص، وَهُوَ عَمْرو بن عَليّ شيخ البُخَارِيّ، فَقَالَ فِيهِ: عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه، وَلم يشك.

19 - (بابٌ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: لَا يفرق أَي الدَّاخِل الْمَسْجِد بَين اثْنَيْنِ يَوْم الْجُمُعَة.

910 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا ابنُ أبِي ذِئْبٍ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ وَدِيعَةَ عنْ سَلْمَانَ الفَارِسيِّ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ثُمَّ ادَّهَنَ أوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ ثُمَّ راحَ فلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ إذَا خَرَجَ الإمَامُ أنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى. (انْظُر الحَدِيث 883) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلم يفرق بَين اثْنَيْنِ) ، والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب الدّهن للْجُمُعَة. أخرجه: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن ابْن أبي ذِئْب إِلَى آخِره، وَقد تكلمنا هُنَاكَ على مَا يتَعَلَّق بِهِ من سَائِر الْوُجُوه، لَكِن لم نمعن فِي الْكَلَام فِي التَّفْرِيق بَين اثْنَيْنِ، ونذكره هَهُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وعبدان، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمروزِي، وَقد تكَرر ذكره، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، وَقد تكَرر ذكره، وَأَبُو سعيد اسْمه كيسَان، وَابْن وَدِيعَة اسْمه عبد الله، ووديعة، بِفَتْح الْوَاو، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَاخْتلفُوا فِي التَّفْرِقَة بَين اثْنَيْنِ وَالْأَشْبَه بتأويله أَن لَا يتخطى رجلَيْنِ أَو يجلس بَينهمَا على ضيق الْموضع، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن أبي هُرَيْرَة: (لِأَن يُصَلِّي أحدكُم بِظهْر الْحرَّة خير لَهُ من أَن يقْعد حَتَّى إِذا قَامَ الإِمَام جَاءَ يتخطى رِقَاب النَّاس) . وَمَعْنَاهُ: أَن المأثم عِنْده فِي التخطي أَكثر من المأثم فِي التَّخَلُّف عَن الْجُمُعَة، كَذَا تَأَوَّلَه القَاضِي أَبُو الْوَلِيد. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: إِن صلَاته بِالْحرَّةِ أحب إِلَيّ من أَن أتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة) . وَعَن سعيد بن الْمسيب مثله، وَقَالَ كَعْب: لِأَن أدع الْجُمُعَة أحب إِلَيّ من أَن أتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة. وَقَالَ سلمَان: إياك والتخطي، واجلس، وَهُوَ قَول عَطاء وَالثَّوْري وَأحمد.
وَقد ورد فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سهل بن معَاذ بن أنس عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة اتخذ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّم) ، وَقَالَ: حَدِيث سهل بن معَاذ عَن أَبِيه حَدِيث غَرِيب. وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر بن عبد الله: (أَن رجلا دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَجعل يتخطى النَّاس فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فقد آذيت وآنيت) . أخرجه ابْن مَاجَه، وَفِي سَنَده: إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ وَهُوَ ضَعِيف. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن بسر، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد من رِوَايَة أبي الزَّاهِرِيَّة، واسْمه: صدير بن كريب، قَالَ: (كُنَّا مَعَ عبد الله بن بسر، صَاحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْجُمُعَة فجَاء رجل يتخطى رِقَاب النَّاس وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فقد آذيت) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد حسن من رِوَايَة عَمْرو ابْن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة. .) الى آخِره، وَفِيه: (وَمن لَغَا وتخطى رِقَاب النَّاس كَانَت لَهُ ظهرا) ، يَعْنِي: لَا تكون لَهُ كَفَّارَة لما بَينهمَا. وَمِنْهَا: حَدِيث الأرقم أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) : عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن الَّذِي يتخطى رِقَاب النَّاس وَيفرق بَين اثْنَيْنِ بعد خُرُوج الإِمَام كالجارِّ قصبه فِي النَّار) ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (المعجم الْكَبِير) ، وَفِي سَنَده هِشَام بن زِيَاد، ضعفه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَمِنْهَا: حَدِيث عُثْمَان بن الْأَزْرَق، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَلَفظه: (من تخطى رِقَاب النَّاس بعد خُرُوج الإِمَام وَفرق بَين اثْنَيْنِ كَانَ

(6/207)


كالجارّ قصبه فِي النَّار) ، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عُثْمَان بن الْأَزْرَق لَهُ صُحْبَة، قَالَه فِي مُعْجم الطَّبَرَانِيّ. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي الدَّرْدَاء أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تَأْكُل مُتكئا، وَلَا تخط رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة) . وَفِي سَنَده عبد الله بن زُرَيْق، قَالَ الْأَزْدِيّ لم يَصح حَدِيثه. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، قَالَ: (بَيْنَمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب إِذْ جَاءَ رجل فتخطى رِقَاب النَّاس. .) الحَدِيث، وَفِيه: (رَأَيْتُك تخطى رِقَاب النَّاس وتؤذيهم، من آذَى مُسلما فقد آذَانِي، وَمن آذَانِي فقد آذَى الله، عز وَجل. قَوْله: (اتخذ جِسْرًا) ، قَالَ شَيخنَا فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : الْمَشْهُور: اتخذ، على بِنَاء الْمَجْهُول بِمَعْنى: يَجْعَل جِسْرًا على طَرِيق جَهَنَّم ليوطأ ويتخطى كَمَا تخطى رِقَاب النَّاس، فَإِن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل، وَيحْتَمل إِن يكون على بِنَاء الْفَاعِل، أَي: اتخذ لنَفسِهِ جِسْرًا يمشي عَلَيْهِ إِلَى جَهَنَّم بِسَبَب ذَلِك. قَوْله: (وآنيت) أَي: أخرت الْمَجِيء وأبطأت. قَوْله: (قصبه) ، الْقصب، بِضَم الْقَاف: المعاء، وَجمعه: أقصاب، وَقيل: الْقصب إسم للأمعاء كلهَا، وَقيل: هُوَ مَا كَانَ أَسْفَل الْبَطن من الأمعاء. قَوْله: (مُتكئا) أَي: حَال كونك مُتكئا.
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي التخطي، فمذهبنا أَنه مَكْرُوه إلاّ أَن يكون قدامه فُرْجَة لَا يُصليهَا إلاّ بالتخطي فَلَا يكره حِينَئِذٍ، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَآخَرُونَ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر بكراهته مُطلقًا عَن سلمَان الْفَارِسِي وَأبي هُرَيْرَة، وَكَعب وبن سعيد بن الْمسيب وَعَطَاء وَأحمد بن حَنْبَل، وَعَن مَالك: كَرَاهَته إِذا جلس على الْمِنْبَر، وَلَا بَأْس بِهِ قبله. وَقَالَ قَتَادَة: يَتَخَطَّاهُمْ إِلَى مَجْلِسه. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يَتَخَطَّاهُمْ إِلَى السعَة وَهَذَا يشبه قَول الْحسن، قَالَ: لَا بَأْس بالتخطي إِذا كَانَ فِي الْمَسْجِد سَعَة، وَقَالَ أَبُو بصرة: يَتَخَطَّاهُمْ بإذنهم. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا يجوز شَيْء من ذَلِك عِنْدِي، لِأَن الْأَذَى يحرم قَلِيله وَكَثِيره، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهُوَ الْمُخْتَار، وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة لَا بَأْس بالتخطي والدنو من الإِمَام إِذا لم يؤذ النَّاس. وَقيل: لَا بَأْس بِهِ إِذا لم يَأْخُذ الإِمَام فِي الْخطْبَة، وَيكرهُ إِن أَخذ. وَقَالَ الْحلْوانِي: الصَّحِيح أَن الدنو من الإِمَام أفضل لَا التباعد مِنْهُ، ثمَّ تَقْيِيد التخطي بِالْكَرَاهَةِ يَوْم الْجُمُعَة هُوَ الْمَذْكُور فِي الْأَحَادِيث، وَكَذَلِكَ قَيده التِّرْمِذِيّ فِي حكايته عَن أهل الْعلم، وَكَذَلِكَ قَيده الشَّافِعِيَّة فِي كتب فقههم فِي أَبْوَاب الْجُمُعَة، وَكَذَا هُوَ عبارَة الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : وأكره تخطي رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة لما فِيهِ من الْأَذَى وَسُوء الْأَدَب. انْتهى. قلت: هَذَا التَّعْلِيل يَشْمَل يَوْم الْجُمُعَة وَغَيره من سَائِر الصَّلَوَات فِي الْمَسَاجِد وَغَيرهَا، وَسَائِر المجامع من حلق الْعلم وَسَمَاع الحَدِيث ومجالس الْوَعْظ، وعَلى هَذَا يحمل التَّقْيِيد بِيَوْم الْجُمُعَة على أَنه خرج مخرج الْغَالِب لاخْتِصَاص الْجُمُعَة بمَكَان الْخطْبَة وَكَثْرَة النَّاس، بِخِلَاف غَيره. وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَآهُ أَبُو مَنْصُور الديلمي فِي (مُسْند الفردوس) من حَدِيث أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تخطى حَلقَة قوم بِغَيْر إذْنهمْ فَهُوَ عَاص) ، وَلكنه ضَعِيف لِأَنَّهُ من رِوَايَة جَعْفَر بن الزبير، فَإِنَّهُ كذبه شُعْبَة وَتَركه للنَّاس.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي كَرَاهَة ذَلِك: هَل هُوَ للتَّحْرِيم أَو لَا؟ فالمتقدمون يطلقون الْكَرَاهَة ويريدون كَرَاهَة التَّحْرِيم وَحكى الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَن نَص الشَّافِعِي التَّصْرِيح بِتَحْرِيمِهِ، وَحكى الرَّافِعِيّ فِي الشَّهَادَات عَن صَاحب (الْعدة) أَنه عده من الصَّغَائِر، ونازعه الرَّافِعِيّ وَقَالَ: إِنَّه من المكروهات، وَقَالَ فِي: بَاب الْجُمُعَة: إِن تَركه من المندوبات، وَصرح النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) بِأَنَّهُ مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه. وَقَالَ فِي (زَوَائِد الرَّوْضَة) : إِن الْمُخْتَار تَحْرِيمه، للأحاديث الصَّحِيحَة. وَاقْتصر أَصْحَاب أَحْمد على الْكَرَاهَة فَقَط، وَقَالَ شَارِح التِّرْمِذِيّ: وَيسْتَثْنى من التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة: الإِمَام أَو من كَانَ بَين يَدَيْهِ فُرْجَة لَا يصل إِلَيْهَا إلاّ بالتخطي، وَأطلق النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) اسْتثِْنَاء الإِمَام وَمن بَين يَدَيْهِ فرجه، وَلم يُقيد الإِمَام بِالضَّرُورَةِ وَلَا الفرجة بِكَوْن التخطي إِلَيْهَا يزِيد على صفّين. وَقيد ذَلِك فِي (شرح الْمُهَذّب) فَقَالَ: فَإِن كَانَ إِمَامًا لم يجد طَرِيقا إِلَى الْمِنْبَر والمحراب إلاّ بالتخطي لم يكره، لِأَنَّهُ ضَرُورَة. وَفِي (الْأُم) : فَإِن كَانَ الزحاام دون الإِمَام لم أكره لَهُ من التخطي مَا أكره للْمَأْمُوم، لِأَنَّهُ مُضْطَر إِلَى أَن يمْضِي إِلَى الْخطْبَة، وَقَالَ فِي (الْأُم) أَيْضا: فَإِن كَانَ دون مدْخل الرجل زحام وأمامه فُرْجَة، وَكَانَ تخطيه إِلَيْهَا بِوَاحِد أَو اثْنَيْنِ رَجَوْت أَن يَسعهُ التخطي، وَإِن كرهته إلاّ أَن لَا يجد السَّبِيل إِلَى مصلى، فِيهِ الْجُمُعَة إلاّ أَن يتخطى، فيسعه التخطي: إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَنقل النَّوَوِيّ عَن الشَّافِعِي فِي (الفروق) : إِنَّه إِذا وصل إِلَيْهَا بتخطي وَاحِد أَو اثْنَيْنِ فَلَا بَأْس بِهِ، فَإِن كَانَ أَكثر من ذَلِك كرهت لَهُ أَن يتخطى، ثمَّ لَا فرق فِي كَرَاهَة التخطي أَو تَحْرِيمه بَين أَن يكون المتخطي من ذَوي الحشمة والأصالة، أَو رجلا صَالحا أَو لَيْسَ فِيهِ وصف مِنْهُمَا. وَنقل صَاحب (الْبَيَان) عَن الْقفال: أَنه لَو كَانَ محتشما أَو مُحْتَرما لم يكره التخطي. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَالْأَصْل عدم

(6/208)


التَّخْصِيص، وَقَالَ الْمُتَوَلِي: إِذا كَانَ لَهُ مَوضِع يألفه وَهُوَ مُعظم فِي نفوس النَّاس لَا يكره لَهُ التخطي قلت: فِيهِ نظر.

20 - (بابٌ لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ أخَاهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ ويَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته لَا يُقيم الرجل. . إِلَى آخِره. قَوْله: (وَيقْعد) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه عطف على: لَا يُقيم، أَي: لَا يُقيم أَخَاهُ وَلَا يقْعد مَكَانَهُ، فَيكون كل مِنْهُمَا مَمْنُوعًا. وَأما النصب فعلى تَقْدِير: وَأَن يقْعد، فَيكون حِينَئِذٍ منعا عَن الْجمع بَين الْإِقَامَة وَالْقعُود، وَيجوز أَن يكون: وَيقْعد، فِي مَحل النصب على الْحَال، فتقديره: وَهُوَ يقْعد، فَيكون مَمْنُوعًا، كَالْأولِ. فَلَو أَقَامَهُ وَلم يقْعد هُوَ فِي مَكَانَهُ لم يكن مرتكبا للنَّهْي، وَلَو أَقَامَهُ وَقعد غَيره فَالْقِيَاس عَلَيْهِ أَن لَا يرتكب النَّهْي. فَإِن قلت: لِمَ قيد التَّرْجَمَة بِيَوْم الْجُمُعَة، مَعَ أَن الحَدِيث الَّذِي أوردهُ فِي الْبَاب مُطلق، والْحَدِيث الَّذِي فِيهِ التَّقْيِيد بِالْجمعَةِ أخرجه مُسلم من طَرِيق أبي الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن جَابر بِلَفْظ: (لَا يقيمن أحدكُم أَخَاهُ يَوْم الْجُمُعَة، ثمَّ يُخَالف إِلَى مَقْعَده فيقعد فِيهِ، وَلَكِن يَقُول: تَفَسَّحُوا) . وَكَانَ الْمُنَاسب للتَّرْجَمَة هَذَا الحَدِيث قلت: إِنَّمَا لم يخرج هَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه، وَلَكِن أَشَارَ بِهَذَا الْقَيْد إِلَى هَذَا الحَدِيث.

911 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا مَخْلَد بنُ يَزِيدَ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قالَ سَمِعْتُ نافِعا يقُولُ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ. قُلْتُ لِنَافَعٍ الجُمُعَةَ وغَيْرَهَا.
قد ذكرنَا أَن حَدِيث الْبَاب مُطلق والترجمة مُقَيّدَة بِيَوْم الْجُمُعَة، وأجبنا عَنهُ. وَأَيْضًا لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة يَوْم ازدحام فَرُبمَا يحْتَاج شخص فِي الْجُلُوس إِلَى مَكَان الْغَيْر، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَة إِلَى التبكير، فَمن بكر لم يحْتَج إِلَى شَيْء من ذَلِك.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف اللَّام: ابْن الْفرج أَبُو عبد الله البُخَارِيّ البيكندي، مَاتَ يَوْم الْأَحَد لتسْع خلون من صفر سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: ذكر أَبِيه وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر. وَفِيه: ذكر أحد الروَاة مَنْسُوبا إِلَى جده وَهُوَ ابْن جريج لِأَنَّهُ هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. وَفِيه: أَن الرَّاوِي الأول بخاري وَالثَّانِي حراني وَالثَّالِث مكي وَالرَّابِع مدنِي، والْحَدِيث أخرجه مُسلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الاسْتِئْذَان عَن يحيى بن حبيب.
ذكر مَعْنَاهُ: قد علم أَن قَول الصَّحَابِيّ: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو قَوْله: أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَن يُقيم) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: نهى عَن إِقَامَة الرجل أَخَاهُ. قَوْله: (مقعدة) ، بِفَتْح الْمِيم: مَوضِع قعوده. قَوْله: (وَيجْلس) بِالنّصب عطفا على قَوْله: (أَن يُقيم) ، أَي: وَأَن يجلس، وَالْمعْنَى: كل وَاحِد مِنْهُمَا مَنْهِيّ عَنهُ، وَلَو صحت الرِّوَايَة بالرواية بِالرَّفْع لَكَانَ الْكل المجموعي مَنْهِيّا عَنهُ. قَوْله: (قلت لنافع: الْجُمُعَة؟) الْقَائِل لنافع هُوَ ابْن جريج، يَعْنِي هَذَا النَّهْي فِي يَوْم الْجُمُعَة خَاصَّة أَو مُطلقًا؟ قَالَ، أَي: نَافِع: الْجُمُعَة وَغَيرهَا، يَعْنِي: النَّهْي عَام فِي حق سَائِر الْأَيَّام فِي مَوَاضِع الصَّلَوَات. وَقَوله: (الْجُمُعَة) مَرْفُوع عى أَنه مُبْتَدأ. وَقَوله: وَغَيرهَا، عطف عَلَيْهِ، وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: الْجُمُعَة وَغَيرهَا متساويان فِي النَّهْي، أَو التَّقْدِير: مَنْهِيّ عَن الْإِقَامَة فيهمَا وَيجوز النصب فيهمَا أَي: فِي الْجُمُعَة وَغَيرهَا، فَيكون النصب بِنَزْع الْخَافِض.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَجه الْكَرَاهَة فِي هَذَا الْبَاب هُوَ أَنه لَا يفعل إلاّ تكبرا واحتقارا للَّذي يقيمه، قَالَ الله تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا} (الْقَصَص: 83) . وَهَذَا من الْفساد، وَأَيْضًا فالإيثار مَمْنُوع فِي الْأَعْمَال الأخروية، وَلِأَن الْمَسْجِد بَيت الله وَالنَّاس فِيهِ سَوَاء فَمن سبق إِلَى مَكَان فَهُوَ أَحَق بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: النَّهْي ظَاهر فِي التَّحْرِيم فَلَا يعدل عَنهُ إلاّ بِدَلِيل

(6/209)


وَذكر ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) فَإِن قدم صاحبا فَجَلَسَ فِي مَوضِع حَتَّى إِذا قَامَ وَأَجْلسهُ مَكَانَهُ جَازَ، فعل ابْن سِيرِين ذَلِك، كَانَ يُرْسل غُلَامه يَوْم الْجُمُعَة فيجلس فِي مَكَان فَإِذا جَاءَ قَامَ الْغُلَام، فَإِن لم يكن لَهُ نَائِب وَجَاء فَقَامَ لَهُ شخص ليجلسه مَكَانَهُ جَازَ، لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ فَإِن انْتقل الْقَائِم إِلَى مَكَان أقرب لسَمَاع الْخطْبَة فَلَا بَأْس، وَإِن انْتقل إِلَى دونه كره، وَلَو آثر شخصا بمكانه لم يجز لغيره أَن يسْبقهُ إِلَيْهِ لِأَن الْحق للجالس آثر بِهِ غَيره فَقَامَ مقَامه فِي اسْتِحْقَاقه، كَمَا لَو حجر مواتا ثمَّ آثر بِهِ غَيره. وَقَالَ ابْن عقيل: يجوز، لِأَن الْقَائِم أسقط حَقه فَبَقيَ على الأَصْل، وَإِن فرش مُصَلَّاهُ فِي مَكَان فَفِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا يجوز رَفعه وَالْجُلُوس فِي مَوْضِعه لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُ، وَلِأَن السَّبق بالأجسام لَا بالمصلى. وَالثَّانِي: لَا يجوز لِأَنَّهُ رُبمَا يُفْضِي إِلَى الْخُصُومَة، وَلِأَنَّهُ سبق إِلَيْهِ فَصَارَ كحجر الْموَات. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب من الشَّافِعِيَّة: تجوز إِقَامَة الرجل من مَكَانَهُ فِي ثَلَاث صور: وَهُوَ أَن يقْعد فِي مَوضِع الإِمَام، أَو فِي طَرِيق يمْنَع النَّاس من الْمُرُور فِيهِ، أَو بَين يَدي الصَّفّ مُسْتَقْبل الْقبْلَة.