عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 12 - (كتاب الْخَوْف)
1 - أبْوَابُ صَلاَةِ الخَوْفِ وقَوْلِ الله تَعَالَى:
{وإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ
يَفْتِنَكُمْ الذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكَافِرينَ كانُوا
لَكُمْ عَدُوا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فأقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا
مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأتِ طائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ
يُصَلُّوا فلْيُصَلُّوا مَعَكَ ولْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ
وأسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفَلُونَ
عنْ أسْلِحَتِكُمْ وَأمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ولاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ
كانَ بِكُم أذا مِنْ مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أنْ
تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ وخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ الله
أعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابا مُهِينا} (النِّسَاء: 101 و
102) [/ ح.
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة الْخَوْف،
كَذَا وَقع لَفْظَة أَبْوَاب بِصِيغَة الْجمع فِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ
وكريمة: بَاب، بِالْإِفْرَادِ، وَسقط فِي رِوَايَة
البَاقِينَ. قَوْله: (وَقَول الله) بِالْجَرِّ، عطف على
مَا قبله، وَثبتت الْآيَتَانِ بتمامهما إِلَى قَوْله:
{عذَابا مهينا} فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَفِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ اقْتصر على قَوْله: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي
الأَرْض فيس عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة}
ثمَّ قَالَ: إِلَى قَوْله: {عذَابا مهينا} وَأما فِي
رِوَايَة، أبي ذَر فساق الْآيَة الأولى بِتَمَامِهَا، وَمن
الْآيَة الثَّانِيَة سَاق إِلَى قَوْله: {مَعَك} ثمَّ
قالإلى قَوْله (عذبا مهينا) وَإِنَّمَا ذكر هَاتين
الْآيَتَيْنِ الكريمتين فِي هَذِه التَّرْجَمَة إِشَارَة
إِلَى أَن صَلَاة الْخَوْف فِي هَيْئَة خَارِجَة عَن هيئات
بَقِيَّة الصَّلَوَات، إِنَّمَا ثبتَتْ بِالْكتاب، وَأما
بَيَان صورتهَا على اختلافها فبالسنة.
(6/253)
قَوْله: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض}
الضَّرْب فِي الأَرْض السّفر، وَيُقَال: ضربت فِي الأَرْض
إِذا سَافَرت، وَتَأْتِي هَذِه الْمَادَّة لمعان كَثِيرَة.
قَوْله: {جنَاح} أَي: إِثْم. قَوْله: {أَن تقصرُوا} ظَاهره
التَّخْيِير بَين الْقصر والإتمام، وَأَن الْإِتْمَام
أفضل، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي، وَعَن أبي حنيفَة:
الْقصر فِي السّفر عَزِيمَة غير رخصَة، لَا يجوز غَيره.
وقرىء: إِن تقصرُوا، بِضَم التَّاء من: الإقصار، وَقَرَأَ
الزُّهْرِيّ ان تقصرُوا، بِالتَّشْدِيدِ، وَالْقصر ثَابت
بِنَصّ الْكتاب فِي حَال الْخَوْف خَاصَّة. وَهُوَ قَوْله:
{إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} وَأما فِي
حَال الْأَمْن فبالسنة، وَاحْتج الشَّافِعِي أَيْضا بِمَا
رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة عَن يعلى بن أُميَّة. قَالَ:
قلت لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ
الله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من
الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} فقد أَمن النَّاس، قَالَ: عجبت
مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (صَدَقَة تصدق الله تَعَالَى بهَا
عَلَيْكُم، فاقبلوا صدقته) . فقد علق الْقصر بِالْقبُولِ
وَسَماهُ صَدَقَة والمتصدق عَلَيْهِ مُخَيّر فِي قبُول
الصَّدَقَة، فَلَا يلْزمه الْقبُول حتما.
وَلنَا أَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر، وَزيد فِي صَلَاة
الْحَضَر) . رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَمِنْهَا:
حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: (فرض الله الصَّلَاة على
لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي
السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) . رَوَاهُ
مُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الضُّحَى
رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة
الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ، تَمام غير قصر على لِسَان
نَبِيكُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . رَوَاهُ
النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه)
وَالْجَوَاب عَن حَدِيث يعلى بن أُميَّة أَنه دليلنا
لِأَنَّهُ أَمر بِالْقبُولِ وَالْأَمر للْوُجُوب.
قَوْله: (أَن يَفْتِنكُم) ، المُرَاد من الْفِتْنَة
هَهُنَا الْقِتَال والتعرض لما يكره. قَوْله: (وَإِذا كنت
فيهم) تعلق بِهِ أَبُو يُوسُف وَذهب إِلَى أَن صَلَاة
الْخَوْف غير مَشْرُوعَة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَبِه قَالَ الْحسن بن زِيَادَة والمزني
وَإِبْرَاهِيم بن علية، فعلل الْمُزنِيّ بالنسخ فِي زمَان
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أَخّرهَا يَوْم
الخَنْدَق، وَعلل أَبُو يُوسُف بِأَن الله شَرط كَون
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم لإقامتها، ورد مَا
قَالَه الْمُزنِيّ بِمَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة فِي هَذَا
الْبَاب بعد الخَنْدَق، وَالْخَنْدَق مقدم على
الْمَشْهُور، فَكيف ينْسَخ الْمُتَأَخر؟ ذكره النَّوَوِيّ
وَغَيره، ورد مَا قَالَه أَبُو يُوسُف بِأَن الصَّحَابَة
فَعَلُوهَا بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن سَببهَا
الْخَوْف وَهُوَ مُتَحَقق بعده، كَمَا فِي حَيَاته، ثمَّ
إعلم أَن الْخَوْف لَا يُؤثر فِي نُقْصَان عدد الرَّكْعَات
إلاّ عِنْد ابْن عَبَّاس وَالْحسن الْبَصْرِيّ وطاووس
حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهَا رَكْعَة، وروى مُسلم من حَدِيث
مُجَاهِد، (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: فرض الله الصَّلَاة
على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَرْبعا وَفِي السّفر
رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) . وَأخرجه
الْأَرْبَعَة أَيْضا، وَإِلَيْهِ ذهب أَيْضا عَطاء وطاووس
وَمُجاهد وَالْحكم بن عتيبة وَقَتَادَة وَإِسْحَاق
وَالضَّحَّاك. وَقَالَ ابْن قدامَة: وَالَّذِي قَالَ
مِنْهُم: رَكْعَة، إِنَّمَا جعلهَا عِنْد شدَّة الْقِتَال،
وَرُوِيَ مثله عَن زيد بن ثَابت وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر،
قَالَ جَابر: إِنَّمَا الْقصر رَكْعَة عِنْد الْقِتَال،
وَقَالَ إِسْحَاق: يجْزِيك عَن الشدَّة رَكْعَة تومىء
إِيمَاء فَإِن لم تقدر فسجدة وَاحِدَة، فَإِن لم تقدر
فتكبيرة لِأَنَّهَا ذكر الله تَعَالَى. وَعَن الضَّحَّاك
أَنه قَالَ: رَكْعَة، فَإِن لم تقدر كبر تَكْبِيرَة حَيْثُ
كَانَ وَجهك،. وَقَالَ القَاضِي: لَا تَأْثِير للخوف فِي
عدد الرَّكْعَات، وَهَذَا قَول أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم
ابْن عمر وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَسَائِر أهل
الْعلم من عُلَمَاء الْأَمْصَار لَا يجيزون رَكْعَة.
942 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ سألْتُهُ هَلْ صَلَّى النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي صلاَةَ الخَوْفِ قَالَ أَخْبرنِي
سالِمٌ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا العَدُوَّ
فصَافَفْنَا لَهُمْ فقامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يُصَلِّي لَنَا فقَامَتْ طائِفَةٌ مَعهُ تُصَلِّي
وَأقْبَلَتْ طائِفَةٌ عَلَى العَدُوِّ ورَكَعَ رسولْ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَنْ مَعَهُ وسَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكانَ الطَّائِفَةِ
الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فجَاؤُا فرَكَعَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِهِمْ رَكْعَةً وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ
ثُمَّ سَلَّمَ فقامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فرَكَعَ
لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وسَجدَ سَجْدتَيْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهَا
مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الْخَوْف، والْحَدِيث فِيهِ كَذَلِك
مَعَ بَيَان صفتهَا.
ذكر
(6/254)
رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو
الْيَمَان الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي
حَمْزَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر. الْخَامِس: أَبوهُ
عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة
الْإِفْرَاد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن الْأَوَّلين من الروَاة حمصيان والإثنين
بعدهمَا مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْيَمَان. وَأخرجه مُسلم
أَيْضا عَن عبد ابْن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد بن عبد
الْملك عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك عَن
يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه
النَّسَائِيّ عَن كثير ابْن عبيد عَن بَقِيَّة عَن شُعَيْب
عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه. وَأخرجه
النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عبد الْأَعْلَى بن وَاصل عَن يحيى
بن آدم عَن سُفْيَان عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن
ابْن عمر، وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن جَابر وَحُذَيْفَة وَزيد بن
ثَابت وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود سهل
ابْن أبي حثْمَة وَأبي عَيَّاش الزرقي، واسْمه زيد بن
صَامت وَأبي بكرَة. قلت: وَفِيه أَيْضا عَن على وَعَائِشَة
وخوات بن جُبَير وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. فَحَدِيث
جَابر عِنْد مُسلم مَوْصُولا، وَعند البُخَارِيّ مُعَلّقا
فِي الْمَغَازِي. وَحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد أبي دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث زيد بن ثَابت عِنْد
النَّسَائِيّ. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد البُخَارِيّ
وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد البُخَارِيّ
فِي التَّفْسِير وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة. وَحَدِيث
ابْن مَسْعُود عِنْد أبي دَاوُد. وَحَدِيث سهل بن أبي
حثْمَة عِنْد التِّرْمِذِيّ. وَحَدِيث أبي عَيَّاش عِنْد
أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث أبي بكرَة عِنْد أبي
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث عَليّ عِنْد الْبَزَّار.
وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد أبي دَاوُد. وَحَدِيث خَوات بن
جُبَير عِنْد ابْن مَنْدَه فِي (معرفَة الصَّحَابَة)
وَحَدِيث أَبُو مُوسَى عِنْد ابْن الْبر فِي (التَّمْهِيد)
[/ ح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلته) السَّائِل هُوَ:
شُعَيْب، أَي: سَأَلت الزُّهْرِيّ. قَوْله: (هَل صلى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) وَفِي رِوَايَة
السراج: عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن أبي الْيَمَان شيخ
البُخَارِيّ: (سَأَلته هَل صلى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْخَوْف وَكَيف صلاهَا إِن كَانَ
صلاهَا؟ قَوْله: (قبل نجد) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح
الْبَاء، أَي: جِهَة نجد، والنجد كل مَا ارْتَفع من
تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهَذِه
الْغَزْوَة هِيَ غَزْوَة ذَات الرّقاع. وَقَالَ ابْن
أسْحَاق: أَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالْمَدِينَةِ بعد غَزْوَة بني النَّضِير شَهْري ربيع
وَبَعض جُمَادَى، ثمَّ غزا نجدا يُرِيد بني محَارب وَبني
ثَعْلَبَة من غطفان، وَاسْتعْمل على الْمَدِينَة أَبَا
ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ ابْن هِشَام:
وَيُقَال: عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَسَار حَتَّى نزل نجدا وَهِي
غَزْوَة ذَات الرّقاع، قلت: ذكرهَا فِي السّنة الرَّابِعَة
من الْهِجْرَة، وَكَانَت فِيهَا غَزْوَة بني النَّضِير
أَيْضا، وَهِي الَّتِي أنزل الله تَعَالَى فِيهَا سُورَة
الْحَشْر، وَحكى البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة
أَنه قَالَ: كَانَت غَزْوَة بني النَّضِير أَيْضا بعد بدر
بِسِتَّة أشهر قبل أحد، وَكَانَت غَزْوَة أحد فِي شَوَّال
سنة ثَلَاث.
وَاخْتلفُوا فِي أَي سنة نزل بَيَان صَلَاة الْخَوْف؟
فَقَالَ الْجُمْهُور: إِن أول مَا صليت فِي غَزْوَة ذَات
الرّقاع، قَالَه مُحَمَّد بن سعد وَغَيره. وَاخْتلف أهل
السّير فِي أَي سنة كَانَت؟ فَقيل: سنة أَربع، وَقيل: سنة
خمس، وَقيل: سنة سِتّ، وَقيل: سنة سبع، فَقَالَ مُحَمَّد
بن إِسْحَاق كَانَت أول مَا صليت قبل بدر الْموعد، وَذكر
ابْن إِسْحَاق وَابْن عبد الْبر أَن بدر الْموعد كَانَت
فِي شعْبَان من سنة أَربع. وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق:
وَكَانَت ذَات الرّقاع فِي جمادي الأولى، وَكَذَا قَالَ
أَبُو عمر ابْن عبد الْبر: إِنَّهَا فِي جُمَادَى الأولى
سنة أَربع. فَإِن قلت: قَالَ الْغَزالِيّ فِي (الْوَسِيط)
وَتَبعهُ عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ: إِن غَزْوَة ذَات الرّقاع
آخر الْغَزَوَات. قلت: هَذَا غير صَحِيح، وَقد أنكر
عَلَيْهِ ابْن الصّلاح فِي (مُشكل الْوَسِيط) وَقَالَ:
لَيست آخرهَا وَلَا من أواخرها، وَإِنَّمَا آخر غَزَوَاته:
تَبُوك، وَهُوَ كَمَا ذكره أهل السّير، وَإِن أَرَادَ
أَنَّهَا آخر غزَاة صلى فِيهَا صَلَاة الْخَوْف فَلَيْسَ
بِصَحِيح أَيْضا، فقد صلى مَعَه صَلَاة الْخَوْف أَبُو
بكرَة، وَإِنَّمَا نزل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي غَزْوَة الطَّائِف، تدلى ببكرة فكنى بهَا،
وَلَيْسَ بعد غَزْوَة الطَّائِف إلاّ غَزْوَة تَبُوك،
وَلِهَذَا قَالَ ابْن حزم: إِن صفة صَلَاة الْخَوْف فِي
حَدِيث أبي بكرَة أفضل صَلَاة الْخَوْف، لِأَنَّهَا آخر
فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا.
قَوْله: (فوازينا الْعَدو) أَي: قابلنا من الموازاة، وَهِي
الْمُقَابلَة والمحاذاة وَأَصله من الإزاء: بِالْهَمْزَةِ،
فِي أَوله يُقَال: هُوَ بإزائه: أَي: بحذائه، وَقد آزيته
إِذا حاذيته. وَلَا تقل: وازيته، قَالَه الْجَوْهَرِي.
قلت: فعلى هَذَا أصل. قَوْله: (فوازينا) أَي: فآزينا
(6/255)
قلبت الْهمزَة واوا كَمَا أَن الوار تقلب
همزَة فِي مَوَاضِع مِنْهَا: أواقي أَصله وواقي. قَوْله:
(فصاففناهم) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي:
(فصاففنا لَهُم) ، ويروى: (فصففناهم) . قَوْله: (يُصَلِّي
لنا) ، أَي: لأجلنا أَو يُصَلِّي بِنَا. قَوْله: (رَكْعَة
وسجدتين) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج
عَن الزُّهْرِيّ: مثل نصف صَلَاة الصُّبْح، وَهَذِه
الزِّيَادَة تدل على أَن الصَّلَاة الْمَذْكُورَة كَانَت
غير الصُّبْح: فَتكون ربَاعِية، وَسَيَأْتِي فِي
الْمَغَازِي مَا يدل على أَنَّهَا كَانَت صَلَاة الْعَصْر،
وَصرح فِي رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث جَابر بالعصر، وَفِي
حَدِيث أبي بكرَة بِالظّهْرِ. قَوْله: (ثمَّ انصرفوا
مَكَان الطَّائِفَة الَّتِي لم تصل) أَي: فَقَامُوا فِي
مكانهم، وَصرح فِيهِ فِي رِوَايَة بَقِيَّة عَن شُعَيْب
عَن الزُّهْرِيّ عَن النَّسَائِيّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: هَذَا الحَدِيث حجَّة
لِأَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّة فِي صَلَاة الْخَوْف،
وَحَدِيث ابْن مَسْعُود أَيْضا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد:
حَدثنَا عمرَان بن ميسرَة حَدثنَا ابْن فُضَيْل حَدثنَا
خصيف عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ (صلى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْخَوْف فَقَامُوا صفا خلف رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصف مُسْتَقْبل الْعَدو،
فصلى بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَة ثمَّ
جَاءَ الْآخرُونَ فَقَامُوا مقامهم فَاسْتقْبل هَؤُلَاءِ
الْعَدو فصلى بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
رَكْعَة ثمَّ سلم فَقَامَ هَؤُلَاءِ فصلوا الأنفسهم
رَكْعَة ثمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مقَام أُولَئِكَ مستقبلي
الْعَدو، وَرجع أُولَئِكَ إِلَى مقامهم فصلوا
لأَنْفُسِهِمْ رَكْعَة ثمَّ سلمُوا) وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَقَالَ: أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع
من أَبِيه، وخصيف لَيْسَ بِالْقَوِيّ. قلت: أَبُو
عُبَيْدَة أخرج لَهُ البُخَارِيّ محتجا بِهِ فِي غير
مَوضِع، وروى لَهُ مُسلم، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ
أَبُو عُبَيْدَة يَوْم مَاتَ أَبوهُ ابْن سبع سِنِين
مُمَيّزا، وَابْن سبع سِنِين يحْتَمل السماع وَالْحِفْظ،
وَلِهَذَا يُؤمر الصَّبِي ابْن سبع سِنِين بِالصَّلَاةِ
تخلقا وتأدبا، وخصيف، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَثَّقَهُ
أَبُو زرْعَة وَالْعجلِي وَابْن معِين وَابْن سعد، وَقَالَ
النَّسَائِيّ: صَالح، وَجعل الْمَازرِيّ حَدِيث ابْن عمر
قَول الشَّافِعِي وَأَشْهَب، وَحَدِيث جَابر قَول أبي
حنيفَة، وَهُوَ سَهْو فيهمَا، بل أَخذ أَبُو حنيفَة
وَأَصْحَابه وَأَشْهَب بِرِوَايَة ابْن عمر،
وَالشَّافِعِيّ بِرِوَايَة سهل بن أبي حثْمَة، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَلَو فعل مثل رِوَايَة ابْن عمر فَفِي
صِحَّته قَولَانِ، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور صِحَّته.
قَالَ: وَقَول الْغَزالِيّ قَالَه بعض أَصْحَابنَا، بعيد
وَغلط فِي شَيْئَيْنِ أَحدهمَا: نسبته إِلَى بعض
الْأَصْحَاب، بل نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي (الْجَدِيد)
وَفِي (الرسَالَة) وَفِي الثَّانِي: تَضْعِيفه انْتهى.
قلت: هم يَقُولُونَ: قَالَ الشَّافِعِي: إِذا صَحَّ
الحَدِيث فَهُوَ مذهبي، وَأي شَيْء يكون أصح من حَدِيث
ابْن عمر وَقد خرجته الْجَمَاعَة؟ وَقَالَ الْقَدُورِيّ
فِي (شرح مُخْتَصر الْكَرْخِي) وَأَبُو نصر الْبَغْدَادِيّ
فِي (شرح مُخْتَصر الْقَدُورِيّ) : الْكل جَائِز،
وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الأولى.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: صَلَاة الْخَوْف أَنْوَاع
صلاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَيَّام
مُخْتَلفَة وأشكال متباينة يتحَرَّى فِي كلهَا مَا هُوَ
أحوط للصَّلَاة وأبلغ فِي الخراسة، فَهِيَ على اخْتِلَاف
صورها متفقة الْمَعْنى. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي
(التَّمْهِيد) : رُوِيَ فِي صَلَاة الْخَوْف عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُجُوه كَثِيرَة فَذكر مِنْهَا
سِتَّة أوجه: الأول: مَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر،
قَالَ بِهِ من الْأَئِمَّة الْأَوْزَاعِيّ وَأَشْهَب. قلت:
قَالَ بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه على مَا ذكرنَا.
الثَّانِي: حَدِيث صَالح بن خَوات عَن سهل بن أبي حثْمَة،
قَالَ بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر.
الثَّالِث: حَدِيث ابْن مَسْعُود قَالَ بِهِ أَبُو حنيفَة
وَأَصْحَابه إلاّ أَبَا يُوسُف. الرَّابِع: حَدِيث أبي
عَيَّاش الزرقي، قَالَ بِهِ ابْن أبي ليلى وَالثَّوْري.
الْخَامِس: حَدِيث حُذَيْفَة قَالَ بِهِ الثَّوْريّ فِي
(مجيزه) وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة
مِنْهُم: حُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت
وَجَابِر بن عبد الله. السَّادِس: حَدِيث أبي بكرَة أَنه
صلى بِكُل طَائِفَة رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ الْحسن
الْبَصْرِيّ يُفْتِي بِهِ، وَقد حكى الْمُزنِيّ عَن
الشَّافِعِي: أَنه لَو صلى فِي الْخَوْف بطَائفَة
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم فصلى بالطائفة الْأُخْرَى
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم كَانَ جَائِزا. قَالَ: وَهَكَذَا
صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَطن نخل، قَالَ
ابْن عبد الْبر: وَرُوِيَ أَن صلَاته هَكَذَا كَانَت يَوْم
ذَات الرّقاع، وَذكر أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) لصَلَاة
الْخَوْف ثَمَانِيَة صور، وَذكرهَا ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) تِسْعَة أَنْوَاع، وَذكر القَاضِي عِيَاض فِي
(الْإِكْمَال) لصَلَاة الْخَوْف ثَلَاثَة عشر وَجها، وَذكر
الثَّوْريّ أَنَّهَا تبلغ سِتَّة عشر وَجها، وَلم يبين
شَيْئا من ذَلِك. وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ زين الدّين
فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : قد جمعت طرق الْأَحَادِيث
الْوَارِدَة فِي صَلَاة الْخَوْف فبلغت سَبْعَة عشر وَجها،
وبيّنها، لَكِن يُمكن التَّدَاخُل فِي بَعْضهَا. وَحكى
ابْن الْقصار الْمَالِكِي: أَن
(6/256)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاهَا
عشر مَرَّات، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: صلاهَا أَرْبعا
وَعشْرين مرّة وبيّن القَاضِي عِيَاض تِلْكَ المواطن،
فَقَالَ: وَفِي حَدِيث ابْن أبي حثْمَة وَأبي هُرَيْرَة
وَجَابِر أَنه صلاهَا فِي يَوْم ذَات الرّقاع سنة خمس من
الْهِجْرَة، وَفِي حَدِيث أبي عَيَّاش الزرقي أَنه صلاهَا
بعسفان وَيَوْم بني سليم، وَفِي حَدِيث جَابر فِي غزَاة
جُهَيْنَة وَفِي غزَاة بني محَارب بِنَخْل، وروى أَنه
صلاهَا فِي غَزْوَة نجد يَوْم ذَات الرّقاع، وَهِي غَزْوَة
نجد وغزوة غطفان. وَقَالَ الْحَاكِم فِي (الإكليل) حِين
ذكر غَزْوَة ذَات الرّقاع: وَقد تسمى هَذِه الْغَزْوَة
غَزْوَة محَارب، وَيُقَال: غَزْوَة خصفة، وَيُقَال:
غَزْوَة ثَعْلَبَة، وَيُقَال: غطفان، وَالَّذِي صَحَّ أَنه
صلى بهَا صَلَاة الْخَوْف من الْغَزَوَات: ذَات الرّقاع
وَذُو قرد وَعُسْفَان وغزوة الطَّائِف، وَلَيْسَ بعد
غَزْوَة الطَّائِف إلاّ تَبُوك وَلَيْسَ فِيهَا لِقَاء
الْعَدو، وَالظَّاهِر أَن غَزْوَة نجد مَرَّتَانِ،
وَالَّذِي شَهِدَهَا أَبُو مُوسَى وَأَبُو هُرَيْرَة هِيَ
غَزْوَة نجد الثَّانِيَة لصِحَّة حديثيهما فِي شهودها.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من حَدِيث الْبَاب من قَوْله:
(طَائِفَة) أَنه لَا فرق بَين أَن تكون إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَكثر من الْأُخْرَى عددا أَو تساوى
عددهما، لِأَن الطَّائِفَة تطلق على الْقَلِيل وَالْكثير
حَتَّى على الْوَاحِد، فَلَو كَانُوا ثَلَاثَة وَوَقع
عَلَيْهِم الْخَوْف جَازَ لأَحَدهم أَن يُصَلِّي بِوَاحِد
ويحرس وَاحِد، ثمَّ يُصَلِّي الآخر، وَهُوَ أقل مَا
يتَصَوَّر فِي صَلَاة الْخَوْف جمَاعَة، على القَوْل:
بِأَن أقل الْجَمَاعَة ثَلَاثَة، لَكِن الشَّافِعِي قَالَ:
أكره أَن تكون كل طَائِفَة أقل من ثَلَاثَة، لِأَنَّهُ
أعَاد عَلَيْهِم ضمير الْجمع بقوله: (أسلحتهم) ، ذكره
النَّوَوِيّ.
وَمن ذَلِك أَنهم كَانُوا مسافرين، فَلَو كَانُوا مقيمين
فحكمهم حكم الْمُسَافِرين عِنْد الْخَوْف، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ،
وَعنهُ: لَا تجوز صَلَاة الْخَوْف فِي الْحَضَر. وَقَالَ
أَصْحَابه: تجوز خلافًا لِابْنِ الْمَاجشون، فَإِنَّهُ
قَالَ: لَا تجوز، وَنقل النَّوَوِيّ عَن مَالك عدم
الْجَوَاز فِي الْحَضَر على الْإِطْلَاق غير صَحِيح، لِأَن
الْمَشْهُور عَنهُ الْجَوَاز.
2 - (بابُ صَلاَةِ الخَوْفِ رِجَالاً ورُكْبَانا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة الْخَوْف حَال كَون
الْمُصَلِّين رجَالًا وركبانا، فالرجال جمع: راجل،
والركبان جمع: رَاكب، وَذَلِكَ عِنْد الِاخْتِلَاط وَشدَّة
الْخَوْف، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن
الصَّلَاة لَا تسْقط عِنْد الْعَجز عَن النُّزُول عَن
الدَّابَّة فَإِنَّهُم يصلونَ ركبانا فُرَادَى يومئون
بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود إِلَى أَي جِهَة شاؤا. وَفِي
(الذَّخِيرَة) : إِذا اشْتَدَّ الْخَوْف صلوا رجَالًا
قيَاما على أَقْدَامهم أَو ركبانا مستقبلي الْقبْلَة وَغير
مستقبليها. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) :
لَا يجوز ترك اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِيهَا عِنْد أبي
حنيفَة وَهَذَا غير صَحِيح، وَلَا تجوز بِجَمَاعَة عِنْد
أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَابْن أبي لَيْلَة، وَعَن
مُحَمَّد: تجوز، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَإِذا لم
يقدروا على الصَّلَاة على مَا وَصفنَا أخروها وَلَا يصلونَ
صَلَاة غير مَشْرُوعَة، وَعَن مُجَاهِد وطاووس وَالْحسن
وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك: يصلونَ رَكْعَة وَاحِدَة لَا
بإيماء، وَعَن الضَّحَّاك: فَإِن لم يقدروا يكبرُونَ
تكبيرتين حَيْثُ كَانَت وُجُوههم، وَقَالَ إِسْحَاق: إِن
لم يقدروا على الرَّكْعَة فسجدة وَاحِدَة، وإلاّ فتكبيرة
وَاحِدَة.
رَاجِلٌ قائِمٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن رجَالًا
فِي التَّرْجَمَة جمع: راجل، لَا جمع: رجل. وَالثَّانِي:
أَن الراجل بِمَعْنى الْمَاشِي، كَمَا فِي سُورَة الْحَج
{يأتوك رجَالًا} (الْحَج: 27) .
943 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيى بنِ سعِيدٍ القُرَشِيُّ
قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ عنْ مُوسى
بنِ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ نَحْوا مِنْ
قَوْلِ مُجَاهِدٍ إذَا اخْتَلَطُوا قِياما. وزَادَ ابنُ
عُمَرَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإنْ
كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ فَلْيُصلُّوا قِياما
ورُكْبَانا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن يحيى بن سعيد بن
أبان بن سعيد بن الْعَاصِ الْقرشِي، يكنى أَبَا عُثْمَان
الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ فِي النّصْف من ذِي الْقعدَة سنة
تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبوهُ يحيى بن
سعيد الْمَذْكُور، قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنِي سعيد بن
يحيى أَنه قَالَ: مَاتَ أبي فِي النّصْف من شعْبَان سنة
أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: مُوسَى بن عقبَة بن أبي
عَيَّاش، مولى الزبير بن الْعَوام، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ
وَمِائَة. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس:
عبد بن عمر السابعمجاهد بن جُبَير.
(6/257)
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع وَهِي قَوْله: حَدثنِي أبي، ويروى بِصِيغَة الْجمع
أَيْضا. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بغدادي وَأَبوهُ
كُوفِي وَابْن جريج وَمُجاهد مكيان ومُوسَى وَنَافِع
مدنيان. وَفِيه: أَن أحد الروَاة مَنْسُوب إِلَى جده.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة
وَالنَّسَائِيّ عَن عبد الْأَعْلَى بن وَاصل، كِلَاهُمَا
عَن يحيى بن آدم عَن سُفْيَان عَن مُوسَى بن عقبَة، فَذكر
صَلَاة الْخَوْف نَحْو سِيَاق الزُّهْرِيّ عَن سَالم،
وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ ابْن عمر، فَإِذا كَانَ الْخَوْف
أَكثر من ذَلِك فَليصل رَاكِبًا أَو قَائِما يومىء
إِيمَاء، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من طَرِيق دَاوُد بن
عبد الرَّحْمَن عَن مُوسَى بن عقبَة مَوْقُوفا، كُله،
لَكِن قَالَ فِي آخِره: وَأخْبرنَا نَافِع أَن عبد الله بن
عمر كَانَ يخبر بِهَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَاقْتضى ذَلِك رَفعه كُله، وَرَوَاهُ مَالك فِي
(الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع كَذَلِك، لَكِن قَالَ فِي آخِره:
قَالَ نَافِع: لَا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذَلِك إلاّ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد فِي آخِره:
مستقبلي الْقبْلَة أَو غير مستقبليها.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن نَافِع عَن ابْن عمر نَحوا من
قَول مُجَاهِد) أَي: روى نَافِع عَن ابْن عمر مثل قَول
مُجَاهِد، وَقَول مُجَاهِد هُوَ قَوْله: إِذا اختلطوا،
بيّن ذَلِك الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة حجاج بن
مُحَمَّد عَن ابْن مُحَمَّد عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن
كثير عَن مُجَاهِد: إِذا اختلطوا فَإِنَّمَا الأشارة
بِالرَّأْسِ هُوَ الذّكر، وَإِشَارَة الرَّأْس، وكل وَاحِد
من قَول ابْن عمر وَقَول مُجَاهِد مَوْقُوف، أما رِوَايَة
نَافِع عَن ابْن عمر فَإِنَّهَا مَوْقُوفَة على ابْن عمر،
وَأما قَول مُجَاهِد فَإِنَّهُ مَوْقُوف على نَفسه،
لِأَنَّهُ لم يروه عَن ابْن عمر، وَلَا عَن غَيره، وَقَالَ
ابْن بطال: أما صَلَاة الْخَوْف رجَالًا وركبانا فَلَا
تكون إلاّ إِذا اشْتَدَّ الْخَوْف واختلطوا فِي الْقِتَال،
وَهَذِه الصَّلَاة تسمى: بِصَلَاة المسايفة، وَمِمَّنْ
قَالَ بذلك ابْن عمر، وَإِن كَانَ خوفًا شَدِيدا صلوا
قيَاما على أَقْدَامهم أَو ركبانا مستقبلي الْقبْلَة أَو
غير مستقبليها، وَهُوَ قَول مُجَاهِد: روى ابْن جريج عَن
مُجَاهِد قَالَ: إِذا اختلطوا فَإِنَّمَا هُوَ الذّكر
وَالْإِشَارَة بِالرَّأْسِ، فمذهب مُجَاهِد أَنه يجْزِيه
الأيماء عِنْد شدَّة الْقِتَال كمذهب ابْن عمر، وَقَول
البُخَارِيّ: وَزَاد ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (وَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فليصلوا
قيَاما وركبانا) أَرَادَ بِهِ أَن ابْن عمر رَوَاهُ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ من رَأْيه،
وَإِنَّمَا هُوَ مُسْند، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي
هَذَا الْمقَام، وَلَيْسَ أحد من الشُّرَّاح غير ابْن بطال
أعْطى لهَذَا الحَدِيث حَقه. قَوْله: (إِذا اختلطوا
قيَاما) أَي: قَائِمين، وانتصابه على الْحَال، وَذُو
الْحَال مَحْذُوف تَقْدِيره: يصلونَ قيَاما، وَالْمرَاد من
الِاخْتِلَاط: اخْتِلَاط الْمُسلمين بالعدو. قَوْله:
(وَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك) أَي: وَإِن كَانَ الْعَدو
أَكثر عِنْد اشتداد الْخَوْف. وَقَوله: (من ذَلِك) أَي: من
الْخَوْف الَّذِي لَا يُمكن مَعَه الْقيام فِي مَوضِع
وَلَا إِقَامَة صف فليصلوا حِينَئِذٍ قيَاما وركبانا.
وانتصابهما على الْحَال، وَمعنى: ركبانا أَي: على رواحلهم،
لِأَن فرض النُّزُول سقط. وَقَالَ الطخاوي: ذهب قوم إِلَى
أَن الرَّاكِب لَا يُصَلِّي الْفَرِيضَة على دَابَّته
وَإِن كَانَ فِي حَال لَا يُمكنهُ فِيهَا النُّزُول، لِأَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل يَوْم الخَنْدَق
رَاكِبًا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا، وَهُوَ
مَا رُوِيَ عَن حُذَيْفَة قَالَ: (سَمِعت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَوْم الخَنْدَق: شغلونا عَن
صَلَاة الْعَصْر، قَالَ: وَلم يصلها يَوْمئِذٍ حَتَّى غربت
الشَّمْس، مَلأ الله قُبُورهم نَارا وَقُلُوبهمْ نَارا
وَبُيُوتهمْ نَارا) . هَذَا لفظ الطَّحَاوِيّ. قلت:
وَأَرَادَ الطَّحَاوِيّ بالقوم: ابْن أبي ليلى وَالْحكم بن
عتيبة وَالْحسن بن حَيّ، وَقَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك
آخَرُونَ، وَأَرَادَ بهم: الثَّوْريّ وَأَبا حنيفَة وَأَبا
يُوسُف ومحمدا وَزفر ومالكا وَأحمد، فَإِنَّهُم قَالُوا:
إِن كَانَ الرَّاكِب فِي الْحَرْب يُقَاتل لَا يُصَلِّي
وَإِن كَانَ رَاكِبًا لَا يُقَاتل وَلَا يُمكنهُ النُّزُول
يُصَلِّي، وَعند الشَّافِعِي: يجوز لَهُ أَن يُقَاتل
وَهُوَ يُصَلِّي من غير تتَابع الضربات والطعنات، ثمَّ
قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يصل يَوْمئِذٍ لِأَنَّهُ لم يكن أَمر
حِينَئِذٍ أَن يُصَلِّي رَاكِبًا، دلّ على ذَلِك حَدِيث
أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ: حبسنا يَوْم الخَنْدَق
حَتَّى كَانَ بعد الْمغرب بهوي من اللَّيْل حَتَّى كفينا،
وَذَلِكَ قَول الله عز وَجل: {وَكفى الله الْمُؤمنِينَ
الْقِتَال وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا} (الْأَحْزَاب:
25) . قَالَ: فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِلَالًا فَأَقَامَ الظّهْر فَأحْسن صلَاتهَا كَمَا كَانَ
يُصليهَا فِي وَقتهَا، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْعَصْر
فَصلاهَا كَذَلِك، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْمغرب فَصلاهَا
كَذَلِك، وَذَلِكَ قبل أَن ينزل الله عز وَجل فِي صَلَاة
الْخَوْف: {فرجالاً أَو ركبانا} (الْبَقَرَة: 239) .
فَأخْبر أَبُو سعيد أَن تَركهم للصَّلَاة يَوْمئِذٍ ركبانا
إِنَّمَا كَانَ قبل أَن يُبَاح لَهُم ذَلِك، ثمَّ أُبِيح
لَهُم بِهَذِهِ الْآيَة.
(6/258)
3 - (بابٌ يحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضا فِي
صَلاةِ الخَوْفِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: يحرس بعض الْمُصَلِّين بَعْضًا
فِي صَلَاة الْخَوْف. قَالَ ابْن بطال: وَمحل هَذِه
الصُّورَة إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة فَلَا
يفترقون بِخِلَاف الصُّورَة الْمَاضِيَة فِي حَدِيث ابْن
عمر، قَالَ الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ بِخِلَاف الْقُرْآن
لجَوَاز إِن يكون قَوْله تَعَالَى: {ولتأت طَائِفَة
أُخْرَى} (النِّسَاء: 102) . إِذا كَانَ الْعَدو فِي غير
الْقبْلَة، وَذَلِكَ ببيانه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
ثمَّ بيّن كَيْفيَّة الصَّلَاة إِذا كَانَ الْعَدو فِي
جِهَة الْقبْلَة.
67 - (حَدثنَا حَيْوَة بن شُرَيْح قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد
بن حَرْب عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ قَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - وَقَامَ النَّاس مَعَه فَكبر وَكَبرُوا مَعَه وَركع
وَركع نَاس مِنْهُم ثمَّ سجد وسجدوا مَعَه ثمَّ قَامَ
للثَّانِيَة فَقَامَ الَّذين سجدوا وحرسوا إخْوَانهمْ
وَأَتَتْ الطَّائِفَة الْأُخْرَى فركعوا وسجدوا مَعَ
وَالنَّاس كلهم فِي صَلَاة وَلَكِن يحرس بَعضهم بَعْضًا)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " حرسوا إخْوَانهمْ ".
(ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول حَيْوَة بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْوَاو
وَفِي آخِره هَاء ابْن شُرَيْح بِضَم الشين الْمُعْجَمَة
وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
حاء مُهْملَة أَبُو الْعَبَّاس الْحِمصِي الْحَضْرَمِيّ
وَهُوَ حَيْوَة الْأَصْغَر مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي مُحَمَّد بن حَرْب ضد الصُّلْح
الْخَولَانِيّ الْحِمصِي الْمَعْرُوف بالأبرش مَاتَ سنة
اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث مُحَمَّد بن
الْوَلِيد الزبيدِيّ يكنى أَبَا الْهُذيْل الشَّامي
الْحِمصِي والزبيدي بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الدَّال
الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى زبيد وَهُوَ مُنَبّه بن صَعب
وَهَذَا هُوَ زبيد الْأَكْبَر. الرَّابِع مُحَمَّد بن
مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عبيد الله بِضَم
الْعين ابْن عبد الله بِالتَّكْبِيرِ ابْن عتبَة بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن مَسْعُود الهزلي أَبُو عبد
الله الْمدنِي الْفَقِيه الْأَعْمَى أحد الْفُقَهَاء
السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين.
السَّادِس عبد الله بن عَبَّاس (ذكر لطائف إِسْنَاده)
فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه
عَن الزبيدِيّ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا
الزبيدِيّ وَفِيه أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة حمصيون
والاثنان بعدهمْ مدنيان وَفِيه الِاثْنَان مِنْهُم مذكوران
بِالنِّسْبَةِ وَفِيه أحدهم اسْمه مصغر. والْحَدِيث أخرجه
النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عَمْرو بن عُثْمَان
عَن مُحَمَّد بن حَرْب عَن الزبيدِيّ عَنهُ بِهِ. (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " وَركع نَاس مِنْهُم " زَاد الْكشميهني
" مَعَه " قَوْله " ثمَّ قَامَ للثَّانِيَة " أَي للركعة
الثَّانِيَة وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ
والإسماعيلي " ثمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَة الثَّانِيَة
فَتَأَخر الَّذين سجدوا مَعَه " قَوْله " وَأَتَتْ
الطَّائِفَة الْأُخْرَى " أَي الَّذين لم يركعوا وَلم
يسجدوا مَعَه فِي الرَّكْعَة الأولى قَوْله " فركعوا
وسجدوا " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي "
فركعوا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - " قَوْله " كلهم فِي صَلَاة " زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ
" يكبرُونَ " وَلم يَقع فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ هَذِه
هَل أكملوا الرَّكْعَة الثَّانِيَة أم لَا وَقد رَوَاهُ
النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي بكر بن أبي الجهم عَن شَيْخه
عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة فَزَاد فِي آخِره وَلم
يقضوا وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي اقتصارهم على كل رَكْعَة
رَكْعَة (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) هَذَا الحَدِيث فِي
صُورَة مَا إِذا كَانَ الْعَدو بَينه وَبَين الْقبْلَة
فيصف النَّاس صفّين فيركع بالصف الَّذِي يَلِيهِ وَيسْجد
مَعَه والصف الثَّانِي قَائِم يحرس فَإِذا قَامَ من
سُجُوده إِلَى الرَّكْعَة الثَّانِيَة تقدم الصَّفّ
الثَّانِي وَتَأَخر الأول فَرَكَعَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهم وأكمل الرَّكْعَة وهم كلهم فِي
صَلَاة وَقد رُوِيَ الحَدِيث من طَرِيق آخر " عَن ابْن
عَبَّاس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى
بهم صَلَاة الْخَوْف بِذِي قرد وَالْمُشْرِكُونَ بَينه
وَبَين الْقبْلَة " وَقد روى نَحوه أَبُو عَيَّاش الزرقي
وَجَابِر بن عبد الله مَرْفُوعا وَبِه قَالَ ابْن
(6/259)
عَبَّاس إِذا كَانَ الْعَدو فِي الْقبْلَة
أَن يُصَلِّي على هَذِه الصّفة وَهُوَ مَذْهَب ابْن أبي
ليلى وَحكى ابْن الْقصار عَن الشَّافِعِي نَحوه وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ ذهب أَبُو يُوسُف إِلَى أَن الْعَدو إِذا
كَانَ فِي الْقبْلَة فَالصَّلَاة هَكَذَا وَإِذا فِي
غَيرهَا فَالصَّلَاة كَمَا روى ابْن عمر وَغَيره قَالَ
وَبِهَذَا تتفق الْأَحَادِيث قَالَ وَلَيْسَ هَذَا
بِخِلَاف التَّنْزِيل لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قَوْله
(ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم يصلوا فليصلوا مَعَك) إِذا
كَانَ الْعَدو فِي غير الْقبْلَة ثمَّ أُوحِي إِلَيْهِ بعد
ذَلِك كَيفَ حكم الصَّلَاة إِذا كَانُوا فِي الْقبْلَة
فَفعل الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا كَمَا جَاءَ الخبران وَترك
مَالك وَأَبُو حنيفَة الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث
لمُخَالفَته لِلْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله {ولتأت طَائِفَة
أُخْرَى} الْآيَة وَالْقُرْآن يدل على مَا جَاءَت بِهِ
الرِّوَايَات فِي صَلَاة الْخَوْف عَن ابْن عمر وَغَيره من
دُخُول الطَّائِفَة الثَّانِيَة فِي الرَّكْعَة
الثَّانِيَة وَلم يَكُونُوا صلوا قبل ذَلِك وَقَالَ أَشهب
وَسَحْنُون إِذا كَانَ الْعَدو فِي الْقبْلَة لَا أحب أَن
يصلى بالجيش أجمع لِأَنَّهُ يتَعَرَّض أَن يفتنه الْعَدو
ويشغلوه وَيصلى بطائفتين شبه صَلَاة الْخَوْف وَالله
تَعَالَى أعلم -
4 - (بابُ الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الحُصُونِ
وَلِقَاءِ العَدُوِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة عِنْد مناهضة
الْحُصُون. يُقَال: ناهضته أَي: قاومته، وتناهض الْقَوْم
فِي الْحَرْب: إِذا نَهَضَ كل فريق إِلَى صَاحبه، وثلاثيه
من بَاب: فعل يفعل بِالْفَتْح فيهم، يُقَال: نَهَضَ ينْهض
نهضا ونهوضا ونهوا أَي: قَامَ، وأنهضته أَنا فانتهض
واستنهضته لأمر كَذَا، إِذا أَمرته بالنهوض. والحصون جمع:
حصن، بِكَسْر الْحَاء، وَقد فسر الْجَوْهَرِي: القلعة
بالحصن، حَيْثُ قَالَ: القلعة الْحصن على الْجَبَل،
وَالظَّاهِر أَن بَينهمَا فرق بِاعْتِبَار الْعرف، فَإِن
القلعة تكون أكبر من الْحصن، وَتَكون على الْجَبَل والسهل،
والحصن غَالِبا يكون على الْجَبَل وألطف من القلعة. وأصل
معنى الْحصن: الْمَنْع، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يمْنَع من
فِيهِ مِمَّن يَقْصِدهُ. قَوْله: (ولقاء الْعَدو) أَي:
وَالصَّلَاة عِنْد لِقَاء الْعَدو، واللقاء: الملاقاة،
وَهَذَا الْعَطف من عطف الْعَام على الْخَاص.
وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ إنْ كانَ تَهَيَّأ الفَتْحَ ولَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صلَّوْا إيمَاءً كْلُّ
امْرِىءٍ لِنَفْسِهِ فإنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإيمَاءِ
أخَّرَ الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ القِتَالُ أوْ
يأمَنُوا فَيُصَلُّوًّ رَكْعَتَيْنِ فإنْ لَمْ يَقْدِرُوا
صَلُّوْا رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ فَإنْ لَمْ يَقْدِرُوا
فَلاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ ويُؤَخِّرُوها حَتَّى
يَأْمَنُوا
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَذْهَب عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ أَنه إِن كَانَ تهَيَّأ الْفَتْح، أَي:
تمكن فتح الْحصن. وَالْحَال أَنهم لم يقدروا على
الصَّلَاة، أَي: على إِتْمَامهَا أفعالاً وأركانا. وَفِي
رِوَايَة الْقَابِسِيّ: إِن كَانَ بهَا الْفَتْح،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وهاء الضَّمِير، قيل: إِنَّه
تَصْحِيف. قَوْله: (صلوا إِيمَاء) أَي: صلوا مومئين
إِيمَاء. قَوْله: (كل امرىء لنَفسِهِ) أَي: كل شخص
يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ مُنْفَردا بِدُونِ الْجَمَاعَة.
قَوْله: (لنَفسِهِ) أَي: لأجل نَفسه دون غَيره بِأَن لَا
يكون أماما لغيره. قَوْله: (فَإِن لم يقدروا على
الْإِيمَاء) أَي: بِسَبَب اشْتِغَال الْقلب والجوارح،
لِأَن الْحَرْب إِذا اشْتَدَّ غَايَة الاشتداد لَا يبْقى
قلب الْمقَاتل وجوارحه إلاّ عِنْد الْقِتَال، ويتعذر
عَلَيْهِ الْإِيمَاء. وَقيل: يحْتَمل أَن الْأَوْزَاعِيّ
كَانَ يرى اسْتِقْبَال الْقبْلَة شرطا فِي الْإِيمَاء،
فيعجز عَن الْإِيمَاء إِلَى جِهَة الْقبْلَة. فَإِن قلت:
كَيفَ يتَعَذَّر الْإِيمَاء مَعَ حُصُول الْعقل؟ قلت:
عِنْد وُقُوع الدهشة يُغلب الْعقل فَلَا يعْمل عمله.
قَوْله: (أَو يأمنوا) اسْتشْكل فِيهِ ابْن رشيد بِأَنَّهُ
جعل الْأَمْن قسيم الانكشاف، وَبِه يحصل الْأَمْن فَكيف
يكون قسيمه؟ وَأجَاب الْكرْمَانِي عَن هَذَا فَقَالَ: قد
ينْكَشف وَلَا يحصل الْأَمْن لخوف المعاودة، وَقد يَأْمَن
لزِيَادَة الْقُوَّة وإيصال المدد مثلا، وَلم يكن منكشفا
بعد. قَوْله: (فَإِن لم يقدروا) يَعْنِي: على صَلَاة
رَكْعَتَيْنِ صلوا رَكْعَة وسجدتين، فَإِن لم يقدروا على
صَلَاة رَكْعَة وسجدتين يؤخرون الصَّلَاة، فَلَا يجزيهم
التَّكْبِير. وَقَالَ الثَّوْريّ: يجزيهم التَّكْبِير،
وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَطاء وَسَعِيد بن جُبَير
وَأبي البخْترِي فِي آخَرين، قَالُوا: إِذا التقى الزحفان
وَحَضَرت الصَّلَاة فَقَالُوا: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد
لله وَلَا إِلَه إلاّ الله وَالله أكبر، فَتلك صلَاتهم
بِلَا إِعَادَة. وَعَن مُجَاهِد وَالْحكم: إِذا كَانَ
عِنْد الطراد والمسايفة يجزىء أَن تكون صَلَاة الرجل
تَكْبِيرا، فَإِن لم يُمكن إلاّ تَكْبِيرَة أَجْزَأته
ايْنَ كَانَ وَجهه. وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: تجزىء
عِنْد المسايفة رَكْعَة وَاحِدَة يومىء بهَا إِيمَاء فَإِن
لم يقدر فسجدة، فَإِن لم يقدر فتكبيرة. قَوْله: (حَتَّى
يأمنوا) أَي: حَتَّى يحصل لَهُم الْأَمْن التَّام، وَحجَّة
الْأَوْزَاعِيّ فِيمَا قَالَه حَدِيث جَابر، رَضِي الله
تَعَالَى
(6/260)
عَنهُ: إِن لم يقدر على الْإِيمَاء أخر
الصَّلَاة حَتَّى يُصليهَا كَامِلَة، وَلَا يجزىء عَنْهَا
تَسْبِيح وَلَا تهليل، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قد أَخّرهَا يَوْم الخَنْدَق. وَهَذَا اسْتِدْلَال ضَعِيف،
لِأَن آيَة صَلَاة الْخَوْف لم تكن نزلت قبل ذَلِك.
وبِهِ قالَ مَكْحُولٌ
أَي: بقول الْأَوْزَاعِيّ قَالَ مَكْحُول أَبُو عبد الله
الدِّمَشْقِي فَقِيه أهل الشَّام التَّابِعِيّ، ولد
مَكْحُول بكابل لِأَنَّهُ من سبيه، فَرفع إِلَى سعيد بن
الْعَاصِ فوهب لأِمرأة من هُذَيْل فأعتقته، وَقيل غير
ذَلِك. وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: مَاتَ سنة سِتّ عشرَة
وَمِائَة. قَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة، وروى لَهُ
البُخَارِيّ فِي (كتاب الْأَدَب) و (الْقِرَاءَة خلف
الإِمَام) وروى لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَوْله: وَبِه قَالَ مَكْحُول، يحْتَمل أَن
يكون من تَتِمَّة كَلَام الْأَوْزَاعِيّ، وَأَن يكون
تَعْلِيقا من البُخَارِيّ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه تَعْلِيق
وَصله عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) عَنهُ من غير طَرِيق
الْأَوْزَاعِيّ بِلَفْظ: إِذا لم يقدر الْقَوْم على أَن
يصلوا على الأَرْض صلوا على ظهر الدَّوَابّ رَكْعَتَيْنِ،
فَإِن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فَإِن لم يقدروا أخروا
الصَّلَاة حَتَّى يأمنوا فيصلوا بِالْأَرْضِ.
وَقَالَ أنَسٌ حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ
تُسْتَرَ عِنْدَ إضَاءَةِ الفَجْرِ واشْتَدَّ اشْتِعَالُ
القِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ
نُصَلِّ إلاّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاها
مَعَ أبِي مُوسى فَفُتِحَ لَنَا. وقالَ أنَسٌ وَمَا
يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد وَابْن أبي شيبَة من
طَرِيق قَتَادَة عَنهُ، وَقَالَ خَليفَة بن خياط فِي
(تَارِيخه) : حَدثنَا ابْن زُرَيْع عَن سعيد عَن قَتَادَة
عَن أنس قَالَ: لم نصل يَوْمئِذٍ الْغَدَاة حَتَّى انتصف
النَّهَار. قَالَ خَليفَة: وَذَلِكَ فِي سنة عشْرين.
قَوْله: (تستر) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الثَّانِيَة
وَفِي آخِره رَاء: وَهِي مَدِينَة مَشْهُورَة من كور
الأهوار بخورستان، وَهِي بِلِسَان الْعَامَّة: ششتر،
بشينين أولاهما مَضْمُومَة وَالثَّانيَِة سَاكِنة وَفتح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. إعلم أَن تستر فتحت
مرَّتَيْنِ الأولى: صلحا، وَالثَّانيَِة عنْوَة. قَالَ
ابْن جرير: كَانَ ذَلِك فِي سنة سبع عشرَة فِي قَول سيف،
وَقَالَ غَيره: سنة سِتّ عشرَة، وَقيل: فِي سنة تسع عشرَة.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: لما فرغ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
من فتح السوس صَار إِلَى تستر فَنزل عَلَيْهَا وَبهَا
يَوْمئِذٍ الهرمزان، وَفتحت على يَدَيْهِ، ومسك الهرمزان
وَأرْسل بِهِ إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. قَوْله: (فَلم يقدروا على الصَّلَاة) إِمَّا للعجز
عَن النُّزُول أَو عَن الإيما، وَجزم الْأصيلِيّ بِأَن
سَببه أَنهم لم يَجدوا إِلَى الْوضُوء سَبِيلا من شدَّة
الْقِتَال. قَوْله: (إِلَّا بعد ارْتِفَاع النَّهَار)
وَفِي رِوَايَة عمر بن أبي شيبَة: (حَتَّى انتصف
النَّهَار) . قَوْله: (مَا يسرني بِتِلْكَ الصَّلَاة)
الْبَاء فِيهَا للمقابلة والبدلية، أَي: بدل تِلْكَ
الصَّلَاة ومقابلتها. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: من
تِلْكَ الصَّلَاة. قَوْله: (الدُّنْيَا) فَاعل: (مَا
يسرني) ، وَقيل: مَعْنَاهُ لَو كَانَت فِي وَقتهَا كَانَت
أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَفِي رِوَايَة
خَليفَة: (الدُّنْيَا كلهَا) بدل: (الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا) .
945 - حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا وَكِيعٌ عنْ عَلِيِّ
بنِ المُبَارَكِ عنْ يَحْيَى بنِ أبِي كَثِيرٍ عنْ أبِي
سَلَمَةَ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ جاءَ عُمَرُ
يَوْمَ الخَنْدَقِ فجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ
ويَقُولُ يَا رسُولَ الله مَا صَلَّيْتُ العَصْرَ حَتَّى
كادَت الشَّمْسُ أنْ تَغِيبَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا وَالله مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ
قالَ فنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتوَضَّأَ وصَلَّى العَصْرَ
بَعْدما غَابَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى المغْرِبَ
بَعْدَهَا. .
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة. وَهُوَ قَوْله:
(ولقاء الْعَدو) ، وَكَانَ الحكم فِيهِ من جملَة
الْأَحْكَام الَّتِي ذَكرنَاهَا تَأْخِير الصَّلَاة إِلَى
وَقت الْأَمْن. وَفِي هَذَا الحَدِيث أَيْضا: أخرت
الصَّلَاة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن
عمر وَغَيرهمَا: حَتَّى نزلُوا إِلَى بطحان، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: وادٍ بِالْمَدِينَةِ، فصلواها فِيهِ. وَصرح
هَهُنَا بِأَن الْفَائِتَة هِيَ صَلَاة الْعَصْر، وَفِي
(الْمُوَطَّأ) : الظّهْر وَالْعصر. وَفِي النَّسَائِيّ:
الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء. وَفِي
التِّرْمِذِيّ: أَربع صلوَات. وَقد اسْتَوْفَيْنَا
الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث
(6/261)
من سَائِر الْوُجُوه فِي: بَاب من صلى
بِالنَّاسِ جمَاعَة بعد ذهَاب الْوَقْت، لِأَنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام عَن يحيى عَن أبي
سَلمَة عَن جَابر، وَهَهُنَا أخرجه: عَن يحيى بن جَعْفَر،
والنسخ مُخْتَلفَة فِيهِ فَفِي أَكثر الرِّوَايَات:
حَدثنَا يحيى حَدثنَا وَكِيع، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي
ذَر: يحيى بن مُوسَى، وَوَقع فِي نُسْخَة صَحِيحَة بعلامة
الْمُسْتَمْلِي: يحيى بن جَعْفَر، وَوَقع فِي بعض النّسخ:
يحيى ابْن مُوسَى بن جَعْفَر، وَهُوَ غلط. وَالنُّسْخَة
الْمُعْتَمد عَلَيْهَا: يحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو
زَكَرِيَّا البُخَارِيّ يحيى البيكندي، مَاتَ سنة ثَلَاث
وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ، وَأما يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم
فَهُوَ الملقب: بخت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ أَيْضا من
مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَهُوَ أَيْضا من أَفْرَاده، وروى
عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع وَالْحج ومواضع، وَقَالَ:
مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي سَبَب تَأْخِير الصَّلَاة يَوْم
الخَنْدَق، فَقَالَ بَعضهم: اخْتلفُوا هَل كَانَ نِسْيَانا
أَو عمدا، وعَلى الثَّانِي: هَل كَانَ للشغل بِالْقِتَالِ
أَو لتعذر الطَّهَارَة؟ أَو قبل نزُول آيَة الْخَوْف؟
انْتهى. قلت: الْأَحْسَن فِي ذَلِك مَعَ مُرَاعَاة
الْأَدَب هُوَ الَّذِي قَالَه الطَّحَاوِيّ: وَقد يجوز أَن
يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل يَوْمئِذٍ
يَعْنِي: يَوْم الخَنْدَق لِأَنَّهُ كَانَ يُقَاتل،
فالقتال عمل وَالصَّلَاة لَا يكون فِيهَا عمل، وَقد يجوز
أَن يكون: لم يصل يَوْمئِذٍ لِأَنَّهُ لم يكن أَمر
حِينَئِذٍ أَن يُصَلِّي رَاكِبًا. وَأما الْقِتَال فِي
الصَّلَاة فَإِنَّهُ يبطل الصَّلَاة عندنَا، وَقَالَ مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يبطل، وَالله تَعَالَى أعلم.
5 - (بابُ صَلاَةِ الطَّالِبِ والمَطْلُوبِ رَاكبا
وَإيمَاءً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الطَّالِب وَصَلَاة
الْمَطْلُوب. قَوْله: (رَاكِبًا) حَال. قَوْله:
(وَقَائِمًا) عطف عَلَيْهِ، وَفِي بعض النّسخ: أَو
قَائِما، من الْقيام بِالْقَافِ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ
وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (رَاكِبًا وإيماء) أَي: حَال
كَونه موميا.
وقالَ الوَلِيدُ ذَكَرْتُ لِلأوزَاعِيِّ صَلاَةَ
شُرَحْبِيلَ بنِ السِّمْطِ وأصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ
الدَّابَّةِ فَقَالَ كذالِكَ الأمْرُ عِنْدَنَا إذَا
تُخُوِّفَ الفَوْتَ واحْتَجَّ الوَلِيدُ بِقَوْلِ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ
إلاّ فِي بَنِي قرَيْظَةَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن شُرَحْبِيل وَمن مَعَه
كَانُوا ركبانا، وَالْإِجْمَاع على أَن الْمَطْلُوب لَا
يُصَلِّي إلاّ رَاكِبًا، فَكَانُوا مطلوبين راكبين، وَلَو
كَانُوا طَالِبين أَيْضا فالمطابقة حَاصِلَة، والوليد،
بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ ابْن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي
الدِّمَشْقِي يكنى أَبَا الْعَبَّاس،، وَقَالَ كَاتب
الْوَاقِدِيّ: حج سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. ثمَّ
انْصَرف فَمَاتَ فِي الطَّرِيق قبل أَن يصل إِلَى دمشق،
وَالْأَوْزَاعِيّ: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو،
وشرحبيل، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون
الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن
السمط، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْمِيم، على
وزن: الْكَتف، قَالَه الغساني. وَقَالَ ابْن الْأَثِير:
بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْمِيم: ابْن الْأسود بن جبلة
بن عدي بن ربيعَة بن مُعَاوِيَة الأكرمين بن الْحَارِث بن
مُعَاوِيَة بن ثَوْر بن مرتع بن كِنْدَة الْكِنْدِيّ أَبُو
يزِيد، وَيُقَال: أَبُو السمط الشَّامي، مُخْتَلف فِي
صحبته، ذكره فِي (الْكَمَال) من التَّابِعين. وَقَالَ:
وَيُقَال: لَهُ صُحْبَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَيُقَال: لَا صُحْبَة لَهُ، وَذكره مُحَمَّد بن سعد فِي
الطَّبَقَة الرَّابِعَة: وَقَالَ: جاهلي إسلامي، وَفد
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأسلم، وَقد شهد
الْقَادِسِيَّة وَولي حمص، وَهُوَ الَّذِي افتتحها
وَقسمهَا منَازِل، وَقَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، وَقَالَ
أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْبَغْدَادِيّ صَاحب
(تَارِيخ الحمصيين) : توفّي بسلمية سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ،
وَيُقَال: سنة أَرْبَعِينَ، وَيُقَال: مَاتَ بصفين،
وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ فِي غير هَذَا الْموضع،
وَهُوَ تَعْلِيق رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَابْن عبد الْبر
من وَجه آخر: (عَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: قَالَ شُرَحْبِيل
بن السمط لأَصْحَابه: لَا تصلوا الصُّبْح إلاّ على ظهر،
فَنزل الأشتر يَعْنِي: النَّخعِيّ فصلى على الأَرْض،
فَقَالَ شُرَحْبِيل: مُخَالف خَالف الله بِهِ) . وروى ابْن
أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا ابْن عون (عَن رَجَاء بن
حَيْوَة الْكِنْدِيّ، قَالَ: كَانَ ثَابت بن السمط أَو
السمط بن ثَابت فِي مسير فِي خوف، فَحَضَرت الصَّلَاة
فصلوا ركبانا، فَنزل الأشتر، فَقَالَ مَاله؟ فَقَالُوا:
نزل يُصَلِّي. قَالَ: مَاله خَالف؟ خُولِفَ بِهِ) انْتهى.
وَذكر ابْن حبَان أَن ثَابت بن السمط أَخُو شُرَحْبِيل بن
السمط، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيُشبه أَن يَكُونَا كَانَا
فِي ذَلِك الْجَيْش فنسب إِلَى كل مِنْهُمَا، وَقد ذكر
شُرَحْبِيل جمَاعَة فِي الصَّحَابَة، وثابتا فِي
التَّابِعين، وَقَالَ ابْن بطال: طلبت قصَّة شُرَحْبِيل بن
السمط بِتَمَامِهَا
(6/262)
لأتبيّن هَل كَانُوا طَالِبين أم لَا؟
فَذكر الْفَزارِيّ فِي (السّنَن) عَن ابْن عون: (عَن
رَجَاء عَن ثَابت بن السمط أَو السمط بن ثَابت قَالَ:
كَانُوا فِي السّفر فِي خوف فصلوا ركبانا، فَالْتَفت
فَرَأى الأشتر قد نزل للصَّلَاة، فَقَالَ: خَالف خُولِفَ
بِهِ، فجرح الأشتر فِي الْفِتْنَة) . قَالَ: فَبَان
بِهَذَا الْخَبَر أَنهم كَانُوا حِين صلوا ركبانا لِأَن
الْإِجْمَاع حَاصِل على أَن الْمَطْلُوب لَا يُصَلِّي إلاّ
رَاكِبًا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الطَّالِب فَقَالَ
ابْن التِّين: صَلَاة ابْن السمط ظَاهرهَا إِنَّهَا كَانَت
فِي الْوَقْت، وَهُوَ من قَوْله تَعَالَى: {رجَالًا أَو
ركبانا} (الْبَقَرَة: 239) [/ ح.
قَوْله: (كَذَلِك الْأَمر) أَي: أَدَاء الصَّلَاة على ظهر
الدَّابَّة بِالْإِيمَاءِ، وَهُوَ الشان وَالْحكم عِنْد
خوف فَوَات الْوَقْت أَو فَوَات الْعَدو أَو فَوَات
النَّفس. قَوْله: (وَاحْتج الْوَلِيد) أَي: الْوَلِيد
الْمَذْكُور، وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أَن الْوَلِيد قوى
مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ فِي مَسْأَلَة الطَّالِب بِهَذِهِ
الْقِصَّة. قلت: لَا يفهم من احتجاج الْوَلِيد
بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَة مَا ذهب إِلَيْهِ الْأَوْزَاعِيّ
صَرِيحًا وَإِنَّمَا وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ بطرِيق
الْأَوْلَوِيَّة، لِأَن الَّذين أخروا الصَّلَاة حَتَّى
وصلوا إِلَى بني قُرَيْظَة لم يعنفهم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَعَ كَونهم فوتوا الْوَقْت، فَصَلَاة من
لَا يفوت الْوَقْت بِالْإِيمَاءِ أَو كَيفَ مَا تمكن، أولى
من تَأْخِير الصَّلَاة حَتَّى يخرج وَقتهَا. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: احتجاج الْوَلِيد بِحَدِيث بني قُرَيْظَة
لَيْسَ فِيهِ حجَّة، لِأَنَّهُ قبل نزُول صَلَاة الْخَوْف
قَالَ: وَقيل: إِنَّمَا صلى شُرَحْبِيل على ظهر الدَّابَّة
لِأَنَّهُ طمع فِي فتح الْحصن، فصلى إِيمَاء ثمَّ فَتحه.
وَقَالَ ابْن بطال: وَأما اسْتِدْلَال الْوَلِيد بِقصَّة
بني قُرَيْظَة على صَلَاة الطَّالِب رَاكِبًا، فَلَو وجد
فِي بعض طرق الحَدِيث أَن الَّذين صلوا فِي الطَّرِيق صلوا
ركبانا لَكَانَ بَينا، وَلما لم يُوجد ذَلِك احْتمل أَن
يُقَال: إِنَّه يسْتَدلّ بِأَنَّهُ كَمَا سَاغَ للَّذين
صلوا فِي بني قُرَيْظَة مَعَ ترك الْوَقْت، وَهُوَ فرض،
كَذَلِك سَاغَ للطَّالِب أَن يُصَلِّي فِي الْوَقْت
رَاكِبًا بِالْإِيمَاءِ، وَيكون تَركه للرُّكُوع
وَالسُّجُود كَتَرْكِ الْوَقْت وَيُقَال: لَا حجَّة فِي
حَدِيث بني قُرَيْظَة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّمَا أَرَادَ سرعَة سيرهم، وَلم يَجْعَل لَهُم
بني قُرَيْظَة موضعا للصَّلَاة، ومذاهب الْفُقَهَاء فِي
هَذَا الْبَاب، فَعِنْدَ أبي حنيفَة: إِذا كَانَ الرجل
مَطْلُوبا فَلَا بَأْس بِصَلَاتِهِ سائرا، وَإِن كَانَ
طَالبا فَلَا. وَقَالَ مَالك وَجَمَاعَة من أَصْحَابه: هما
سَوَاء، كل وَاحِد مِنْهُمَا يُصَلِّي على دَابَّته.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين كَقَوْل
أبي حنيفَة، وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحسن وَالثَّوْري
وَأحمد وَأبي ثَوْر وَعَن الشَّافِعِي: إِن خَافَ
الطَّالِب فَوت الْمَطْلُوب أَوْمَأ وإلاّ فَلَا.
69 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء قَالَ
حَدثنَا جوَيْرِية عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لنا لما
رَجَعَ من الْأَحْزَاب لَا يصلين أحد الْعَصْر إِلَّا فِي
بني قُرَيْظَة فَأدْرك بَعضهم الْعَصْر فِي الطَّرِيق
فَقَالَ بَعضهم لَا نصلي حَتَّى نأتيها. وَقَالَ بَعضهم بل
نصلي لم يرد منا ذَلِك فَذكر للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يعنف وَاحِدًا مِنْهُم)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه يدل على أَن
الْمَطْلُوب إِذا صلى فِي الْوَقْت بِالْإِيمَاءِ جَازَ
كَمَا أَن الَّذين صلوا فِي بني قُرَيْظَة مَعَ ترك
الْوَقْت جَازَ لَهُم ذَلِك وَلِهَذَا لم يعنفهم النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعلى هَذَا
فالجواز فِي الْمَطْلُوب أقوى (فَإِن قلت) فِيهِ ترك
الرُّكُوع وَالسُّجُود وهما فرضان (قلت) كَذَلِك فِي
صلَاتهم فِي بني قُرَيْظَة ترك الْوَقْت وَالْوَقْت فرض
وَلما ذكر البُخَارِيّ احتجاج الْوَلِيد بِحَدِيث قصَّة
بني قُرَيْظَة ذكره مُسْندًا عَقِيبه ليعلم صِحَة الحَدِيث
عِنْده وَصِحَّة الِاسْتِدْلَال بِهِ فَافْهَم. (ذكر
رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد بن
أَسمَاء بن عبيد بن مُخَارق الضبعِي الْبَصْرِيّ ابْن أخي
جوَيْرِية الْمَذْكُور وَهُوَ مصغر جَارِيَة بِالْجِيم
ابْن أَسمَاء روى عَنهُ مُسلم أَيْضا مَاتَ سنة إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي جوَيْرِية بن
أَسمَاء يكنى أَبَا مِخْرَاق الْبَصْرِيّ. الثَّالِث
نَافِع مولى ابْن عمر. الرَّابِع عبد الله بن عمر. (ذكر
لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن النّصْف الأول من الروَاة
بصريان وَالنّصف الثَّانِي مدنيان وَفِيه رِوَايَة الرجل
عَن عَمه وَفِيه اسْم أحد الروَاة بِالتَّصْغِيرِ
وَالْحَال أَن أصل وَضعه للْأُنْثَى. والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي وَأخرجه مُسلم أَيْضا
فِي الْمَغَازِي عَن شيخ البُخَارِيّ عَن جوَيْرِية بِهِ
(ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " من الْأَحْزَاب " هِيَ غَزْوَة
الخَنْدَق وَقد أنزل الله فِيهَا سُورَة الْأَحْزَاب
وَكَانَت فِي شَوَّال
(6/263)
سنة خمس من الْهِجْرَة نَص على ذَلِك ابْن
إِسْحَاق وَعُرْوَة بن الزبير وَقَتَادَة وَقَالَ مُوسَى
بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ ثمَّ كَانَت
الْأَحْزَاب فِي شَوَّال سنة أَربع وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك
بن أنس فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد عَن مُوسَى بن دَاوُد عَنهُ
وَالْجُمْهُور على قَول ابْن إِسْحَق وَسميت بالأحزاب
لِأَن الْكفَّار تألفوا من قبائل الْعَرَب وهم عشرَة آلَاف
نفس وَكَانُوا ثَلَاثَة عَسَاكِر وَجَنَاح الْأَمر إِلَى
أبي سُفْيَان وَسميت أَيْضا بغزوة الخَنْدَق لِأَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما سمع
بهم وَمَا جمعُوا لَهُ من الْأَمر ضرب الخَنْدَق على
الْمَدِينَة قَالَ ابْن هِشَام يُقَال أَن الَّذِي أَشَارَ
بِهِ سلمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ الطَّبَرِيّ
والسهيلي أول من حفر الْخَنَادِق منوجهر بن أيرج وَكَانَ
فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَذكر ابْن
إِسْحَق لما انْصَرف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الخَنْدَق رَاجعا إِلَى
الْمَدِينَة والمسلمون قد وضعُوا السِّلَاح فَلَمَّا كَانَ
الظّهْر أَتَى جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
قَالَ لَهُ مَا وضعت الْمَلَائِكَة السِّلَاح بعد وَإِن
الله يَأْمُرك أَن تسير إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِنِّي
عَائِد إِلَيْهِم فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا فَأذن فِي النَّاس من
كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا يصلين الْعَصْر إِلَّا فِي
بني قُرَيْظَة قَالَ ابْن سعد ثمَّ سَار إِلَيْهِم وهم
ثَلَاثَة آلَاف وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء لتسْع بَقينَ
من ذِي الْقعدَة عقيب الخَنْدَق قَوْله " لَا يصلين "
بالنُّون الثَّقِيلَة الْمُؤَكّدَة قَوْله " فِي بني
قُرَيْظَة " بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفتح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره
هَاء وهم فرقة من الْيَهُود وَقُرَيْظَة وَالنضير والنحام
وَعَمْرو وَهُوَ هدل بَين الْخَزْرَج بن الصَّرِيح بن
نومان بن السمط يَنْتَهِي إِلَى إِسْرَائِيل بن إِسْحَق بن
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ ابْن
دُرَيْد الْقرظ ضرب من الشّجر يدبغ بِهِ يُقَال أَدِيم
مقروظ وتصغيره قُرَيْظَة وَبِه سمي الْبَطن من الْيَهُود
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ التَّنْصِيص على الْعَصْر
وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ الْعَصْر وَفِي
صَحِيح مُسلم التَّنْصِيص على الظّهْر وَكَذَا فِي
رِوَايَة ابْن حبَان ومستخرج أبي نعيم قبل التَّوْفِيق
بَين الرِّوَايَتَيْنِ إِن هَذَا الْأَمر كَانَ بعد دُخُول
وَقت الظّهْر وَقد صلى الظّهْر بَعضهم دون بعض فَقيل
للَّذين لم يصلوا الظّهْر لَا تصلوا الظّهْر إِلَّا فِي
بني قُرَيْظَة وللذين صلوها بِالْمَدِينَةِ لَا تصلوا
الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة وَقيل يحْتَمل أَنه
قَالَ للْجَمِيع لَا تصلوا الْعَصْر وَلَا الظّهْر إِلَّا
فِي بني قُرَيْظَة وَقيل يحْتَمل أَنه قيل للَّذين
ذَهَبُوا أَولا لَا تصلوا الظّهْر إِلَّا فِي بني
قُرَيْظَة وللذين ذَهَبُوا بعدهمْ لَا تصلوا الْعَصْر
إِلَّا بهَا قَوْله " فَأدْرك بَعضهم " الضَّمِير فِيهِ
يرجع إِلَى لفظ أحد وَفِي بَعضهم الثَّانِي وَالثَّالِث
إِلَى الْبَعْض قَوْله " لم يرد منا " على صِيغَة
الْمَجْهُول من الْمُضَارع أَي المُرَاد من قَوْله " لَا
يصلين أحد " لَازمه وَهُوَ الاستعجال فِي الذّهاب إِلَى
بني قُرَيْظَة لَا حَقِيقَة ترك الصَّلَاة أصلا وَلم
يُعِنْهُمْ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - على مُخَالفَة النَّهْي لأَنهم فَهموا مِنْهُ
الْكِنَايَة عَن العجلة وَلَا التاركين للصَّلَاة المؤخرين
عَن أول وَقتهَا لحملهم النَّهْي على ظَاهره (ذكر مَا
يُسْتَفَاد مِنْهُ) من ذَلِك مَا استنبط مِنْهُ ابْن حبَان
معنى حسنا حَيْثُ قَالَ لَو كَانَ تَأْخِير الْمَرْء
للصَّلَاة عَن وَقتهَا إِلَى أَن يدْخل وَقت الصَّلَاة
الْأُخْرَى يلْزمه بذلك اسْم الْكفْر لما أَمر الْمُصْطَفى
بذلك. وَمِنْه مَا قَالَه السُّهيْلي فِيهِ دَلِيل على أَن
كل مُخْتَلفين فِي الْفُرُوع من الْمُجْتَهدين مُصِيب إِذْ
لَا يَسْتَحِيل أَن يكون الشَّيْء صَوَابا فِي حق إِنْسَان
خطأ فِي حق غَيره فَيكون من اجْتهد فِي مَسْأَلَة فأداه
اجْتِهَاده إِلَى الْحل مصيبا فِي حلهَا وَكَذَا
الْحُرْمَة وَإِنَّمَا الْمحَال أَن يحكم فِي النَّازِلَة
بحكمين متضادين فِي حق شخص وَاحِد وَإِنَّمَا عسر فهم
هَذَا الأَصْل على طائفتين الظَّاهِرِيَّة والمعتزلة أما
الظَّاهِرِيَّة فَإِنَّهُم عَلقُوا الْأَحْكَام بالنصوص
فاستحال عِنْدهم أَن يكون النَّص يَأْتِي بحظر وَإِبَاحَة
مَعًا إِلَّا على وَجه النّسخ وَأما الْمُعْتَزلَة
فَإِنَّهُم عَلقُوا الْأَحْكَام بتقبيح الْعقل وتحسينه
فَصَارَ حسن الْفِعْل عِنْدهم أَو قبحه صفة عين فاستحال
عِنْدهم أَن يَتَّصِف فعل بالْحسنِ فِي حق زيد والقبح فِي
حق عَمْرو كَمَا يَسْتَحِيل ذَلِك فِي الألوان وَغَيرهَا
من الصِّفَات الْقَائِمَة بالذوات وَأما مَا عدا هَاتين
الطَّائِفَتَيْنِ فَلَيْسَ الْحَظْر عِنْدهم وَالْإِبَاحَة
بِصِفَات أَعْيَان وَإِنَّمَا هِيَ صِفَات أَحْكَام وَزعم
الْخطابِيّ أَن قَول الْقَائِل فِي هَذَا كل مُجْتَهد
مُصِيب لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ ظَاهر خطاب خص
بِنَوْع من الدَّلِيل أَلا ترَاهُ قَالَ بل نصلي لم يرد
منا ذَلِك يُرِيد أَن طَاعَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا أمره بِهِ من إِقَامَة
الصَّلَاة فِي بني قُرَيْظَة لَا يُوجب تَأْخِيرهَا عَن
وَقتهَا على عُمُوم الْأَحْوَال وَإِنَّمَا هُوَ كَأَنَّهُ
قَالَ صلوا فِي بني قُرَيْظَة إِلَّا أَن يدرككم وَقتهَا
قبل أَن تصلوا إِلَيْهَا وَكَذَا الطَّائِفَة الْأُخْرَى
فِي تأخيرهم الصَّلَاة كَأَنَّهُ قيل لَهُم صلوا الصَّلَاة
فِي أول وَقتهَا إِلَّا أَن يكون لكم عذر فأخروها إِلَى
آخر وَقتهَا وَقَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى لَا
احتجاج فِيهِ
(6/264)
على إِصَابَة كل مُجْتَهد لِأَنَّهُ لم
يُصَرح بِإِصَابَة الطَّائِفَتَيْنِ بل بِإِصَابَة ترك
تعنيفهما وَلَا خلاف فِي ترك تعنيف الْمُجْتَهد وَإِن
أَخطَأ إِذا بذل وَسعه وَأما اخْتلَافهمْ فسببه أَن
الْأَدِلَّة تَعَارَضَت فَإِن الصَّلَاة مَأْمُور بهَا فِي
الْوَقْت وَالْمَفْهُوم من " لَا يصلين " الْمُبَادرَة
بالذهاب إِلَيْهِم فَأخذ بَعضهم بذلك فصلوا حِين خَافُوا
فَوت الْوَقْت وَالْآخرُونَ بِالْآخرِ فأخروها وَيُقَال
اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْمُبَادرَة بِالصَّلَاةِ
عِنْد ضيق وَقتهَا وتأخيرها سَببه أَن أَدِلَّة الشَّرْع
تَعَارَضَت عِنْدهم فَإِن الصَّلَاة مَأْمُور بهَا فِي
الْوَقْت مَعَ أَن الْمَفْهُوم من قَوْله " لَا يصلين أحد
إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " الْمُبَادرَة بالذهاب إِلَيْهِ
وَأَن لَا يشْتَغل عَنهُ بِشَيْء لَا أَن تَأْخِير
الصَّلَاة مَقْصُود فِي نَفسه من حَيْثُ أَنه تَأْخِير
فَأخذ بعض الصَّحَابَة بِهَذَا الْمَفْهُوم نظرا إِلَى
الْمَعْنى لَا إِلَى اللَّفْظ فصلوا حِين خَافُوا فَوَات
الْوَقْت وَأخذ آخَرُونَ بِظَاهِر اللَّفْظ وَحَقِيقَته
وَلم يعنف الشَّارِع وَاحِدًا مِنْهُمَا لأَنهم مجتهدون
فَفِيهِ دَلِيل لمن يَقُول بِالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاس
ومراعاة الْمَعْنى وَلمن يَقُول بِالظَّاهِرِ أَيْضا (قلت)
هَذَا القَوْل مثل مَا قَالَ النَّوَوِيّ مَعَ بعض
زِيَادَة فِيهِ وَقَالَ الدَّاودِيّ فِيهِ أَن المتؤول
إِذا لم يبعد فِي التَّأْوِيل لَيْسَ بمخطىء وَأَن
السُّكُوت على فعل أَمر كالقول بإجازته -
6 - (بابُ التَّكْبِيرِ والغَلَسِ بِالصُّبْحِ والصَّلاَةِ
عِنْدَ الإغَارَةِ والحَرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّكْبِير من كبر يكبر
تَكْبِيرا، وَهُوَ قَول: الله أكبر، هَكَذَا هُوَ فِي
مُعظم الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: التبكير،
بِتَقْدِيم الْبَاء الْمُوَحدَة من: بكر يبكر تبكيرا إِذا
أسْرع وبادر، و: الْغَلَس، بِفتْحَتَيْنِ: الظلمَة آخر
اللَّيْل، وَالْمرَاد مِنْهُ التغليس بِصَلَاة الصُّبْح.
قَوْله: (عِنْد الإغارة) يتَعَلَّق بِالتَّكْبِيرِ، وَمَا
عطف عَلَيْهِ، والإغارة، بِكَسْر الْهمزَة فِي الأَصْل:
الْإِسْرَاع فِي الْعَدو، وَيُقَال: أغار يُغير إغارة،
وَكَذَلِكَ الْغَارة، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا: الهجوم على
الْعَدو على وَجه الْغَفْلَة، فَهُوَ من الأجوف الواوي.
فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة ذكر هَذَا الْبَاب فِي كتاب
صَلَاة الْخَوْف؟ قلت: قيل: أَشَارَ بذلك إِلَى أَن صَلَاة
الْخَوْف لَا يشْتَرط فِيهَا التَّأْخِير إِلَى آخر
الْوَقْت، كَمَا شَرطه من شَرطه فِي صَلَاة شدَّة الْخَوْف
عِنْد التحام الْقِتَال، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون
للْإِشَارَة إِلَى تعْيين الْمُبَادرَة إِلَى الصَّلَاة
فِي أول وَقتهَا. قلت: هَذَا وَجه بعيد لَا يخفى ذَلِك،
لِأَن مَحل ذَلِك فِي كتاب الصَّلَاة.
947 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ عَبْدِ
العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ البُنَانِيِّ عَن أنَسِ
بنِ مالَكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ الله
أكْبَرُ خَرِبتْ خَيْبَرُ إنَّا إِذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ
قَوْمٍ فسَاءَ صَبَاحُ المُنْذِرِينَ فَخَرَجُوا يسْعَوْنَ
فِي السِّكَكِ ويقُولُونَ مُحَمَّدٌ والخَمِيسُ قَالَ
والخمِيسُ الجَيْشُ فظَهَرَ علَيْهِمْ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فقَتَلَ المُقَاتِلَةَ وسَبَى الذرَارِيَّ
فصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الكَلْبِيِّ وصارَتْ
لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا وجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا فقالَ عَبْدُ
العَزِيزِ لِثَابِتٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أأنْتَ سَأَلْتَ
أنَسا مَا أمْهَرَهَا قَالَ أمْهَرَهَا نَفْسَهَا
فتَبَسَّمَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صلى الصُّبْح بِغَلَس
ثمَّ ركب فَقَالَ الله أكبر) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
فِي: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ، بأطول مِنْهُ، وَأتم عَن
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم. وتكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ.
قَوْله: (بِغَلَس) أَي: فِي أول الْوَقْت. وَقيل: التغليس
بالصبح سنة سفرا أَو حضرا، وَكَانَ من عَادَته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك. قلت: إِنَّمَا غلس هُنَا لأجل
مبادرته إِلَى الرّكُوب، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة
صَحِيحَة بِالْأَمر بالإسفار. قَوْله: (فَقَالَ: الله
أكبر) فِيهِ: أَن التَّكْبِير عِنْد الإشراف على المدن
والقرى سنة، وَكَذَا عِنْد مَا يسر بِهِ من ذَلِك عِنْد
رُؤْيَة الْهلَال، وَكَذَا رفع الصَّوْت بِهِ إِظْهَارًا
لعلو دين الله تَعَالَى، وَظُهُور أمره. قَوْله: (خربَتْ
خَيْبَر) ، يحْتَمل الْإِنْشَاء وَالْخَبَر، وَفِيه
التفاؤل، وبخرابه سَعَادَة الْمُسلمين فَهُوَ من الفأل
الْحسن لَا من الطَّيرَة. قَوْله: (بِسَاحَة قوم) قَالَ
ابْن التِّين: الساحة الْموضع، وَقيل: ساحة الدَّار.
قَوْله: (فسَاء صباح الْمُنْذرين) أَي: أَصَابَهُم السوء
من الْقَتْل على الْكفْر
(6/265)
والاسترقاق. قَوْله: (يسعون) جملَة حَالية. قَوْله: (فِي
السكَك) ، بِكَسْر السِّين: جمع سكَّة. وَهِي الزقاق.
قَوْله: (وَالْخَمِيس) سمي الْجَيْش خميسا لانقسامه إِلَى
خَمْسَة أَقسَام: الميمنة والميسرة وَالْقلب والمقدمة
والساقة. قَوْله: (الْمُقَاتلَة) أَي: النُّفُوس
الْمُقَاتلَة، وهم الرِّجَال. والذراري: جمع الذُّرِّيَّة
وَهِي الْوَلَد، وَيجوز فِيهَا تَخْفيف الْيَاء وتشديدها،
كَمَا فِي العواري وكل جمع مثله. قَوْله: (فَصَارَت
صَفِيَّة لدحية الْكَلْبِيّ، وَصَارَت لرَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) ظَاهره أَنَّهَا صَارَت لَهما
جَمِيعًا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل صَارَت أَولا لدحية ثمَّ
صَارَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعلى هَذَا:
الْوَاو، فِي: وَصَارَت، بِمَعْنى: ثمَّ، أَي: ثمَّ صَارَت
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو تكون بِمَعْنى:
الْفَاء، والحروف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَيجوز أَن
يكون هُنَا مُقَدّر للقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ،
تَقْدِيره: فَصَارَت صَفِيَّة أَولا لدحية وَبعده صَارَت
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَيْفِيَّة
الصيرورتين قد مَضَت فِي ذَلِك الْبَاب. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: النِّسَاء لَيست داخلات تَحت لفظ
الذَّرَارِي، فَكيف قَالَ: فَصَارَت صَفِيَّة لدحية؟ ثمَّ
أجَاب: بِأَن المُرَاد بِالذَّرَارِيِّ غير الْمُقَاتلَة
بِدَلِيل أَنه قسيمه. قَوْله: (وَجعل صَدَاقهَا عتقهَا)
لِأَنَّهَا كَانَت بنت ملك، وَلم يكن مهرهَا إلاّ كثيرا،
وَلم يكن بِيَدِهِ مَا يرضيها فَجعل صَدَاقهَا عتقهَا،
لِأَن عتقهَا عِنْدهَا كَانَ أعز من الْأَمْوَال
الْكَثِيرَة. قَوْله: (فَقَالَ عبد الْعَزِيز) ، هُوَ عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب الْمَذْكُور. قَوْله: (لِثَابِت)
هُوَ الْبنانِيّ. قَوْله: (أَأَنْت؟) بهمزتين: أولاهما
للاستفهام، وَفَائِدَة هَذَا السُّؤَال مَعَ علمه ذَلِك
بقوله: (وَجعل صَدَاقهَا عتقهَا) للتَّأْكِيد، أَو كَانَ
استفسره بعد الرِّوَايَة ليصدق رِوَايَته. قَوْله: (مَا
أمهرها) قَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: مهرت الْمَرْأَة
وأمهرتها إِذا جعلت لَهَا مهْرا، وَإِذا سقت إِلَيْهَا
مهْرا، وَهُوَ: الصَدَاق: وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين
الْحلَبِي فِي (شَرحه) : صَوَابه مهرهَا يَعْنِي بِحَذْف
الْألف، وبخط الْحَافِظ الدمياطي، مثل مَا قَالَه ابْن
الْأَثِير، وَأنكر أَبُو حَاتِم: أمهرت، إِلَّا فِي لُغَة
ضَعِيفَة، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ، وَصَححهُ أَبُو زيد،
وَقيل: مهرت، ثلاثي أفْصح وأعرب. |