عمدة القاري شرح صحيح البخاري

41 - (كتابُ الوتْرِ)

1 - (أبْوَابُ الوِتْرِ)

أَي: هَذِه أَبْوَاب الْوتر: أَي: فِي بَيَان أَحْكَامهَا، هَكَذَا هُوَ عِنْد الْمُسْتَمْلِي، وَعند البَاقِينَ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْوتر، وَسَقَطت الْبَسْمَلَة عِنْد ابْن شيبويه والأصيلية وكريمة، وَفِي بعض النّسخ: كتاب الْوتر. والمناسبة بَين أَبْوَاب الْوتر وأبواب الْعِيد كَون كل وَاحِد من صَلَاة الْعِيدَيْنِ وَالْوتر وَاجِبا ثبوتهما بِالسنةِ. وَالْوتر بِالْكَسْرِ الْفَرد، وَالْوتر بِالْفَتْح الدخل، هَذِه لُغَة أهل الْعَالِيَة. وَأما لُغَة أهل الْحجاز فبالضد مِنْهُم، وَأما تَمِيم فبالكسر فيهمَا، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ غير عَاصِم {وَالشَّفْع وَالْوتر} (الْفجْر: 3) . بِكَسْر الْوَاو، وَقَالَ يُونُس فِي كتاب (اللُّغَات) : وترت الصَّلَاة، مثل: أوترتها.

099 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ وعَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رَجُلاً سألَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإذَا خشِيَ أحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (توتر لَهُ مَا قد صلى) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك عَن نَافِع وَعبد الله بن دِينَار، وَكِلَاهُمَا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن رجلا) ، وَقع فِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) هُوَ: ابْن عمر، لَكِن يُعَكر عَلَيْهِ رِوَايَة عبد الله بن شَقِيق: (عَن ابْن عمر أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَأَنا بَينه وَبَين السَّائِل) ، فَذكر الحَدِيث، وَذكر مُحَمَّد بن نصر فِي كتاب (أَحْكَام الْوتر) من رِوَايَة عَطِيَّة: عَن ابْن عمر أَن أَعْرَابِيًا سَأَلَ؟ قلت: إِذا حمل الْأَمر على تعدد السَّائِل لَا اعْتِرَاض فِيهِ، وَيجوز أَن يكون ابْن عمر عبر عَن السَّائِل تَارَة برجلاً، وَتارَة بأعرابيا، وَيجوز أَن يكون هُوَ السَّائِل مَعَ سُؤال الرجل. قَوْله: (عَن صَلَاة اللَّيْل) أَي: عَن عَددهَا، لِأَن جَوَابه بقوله: (مثنى) يدل على ذَلِك، لِأَن من شَأْن الْجَواب أَن يكون مطابقا للسؤال. قَوْله: (مثنى) مَرْفُوع بِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ، وَهُوَ قَوْله: (صَلَاة اللَّيْل) وَهُوَ بِدُونِ التَّنْوِين لِأَنَّهُ غير منصرف لتكرر الْعدْل فِيهِ، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَقَالَ غَيره: للعدل وَالْوَصْف، والتكرير للتَّأْكِيد لِأَنَّهُ فِي معنى: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، أَربع مَرَّات، وَقد فسره ابْن عمر رَاوِي الحَدِيث، فَقَالَ مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: سَمِعت عقبَة بن حُرَيْث قَالَ: (سَمِعت ابْن عمر يحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، فَإِذا رَأَيْت الصُّبْح يدركك فأوتر بِوَاحِدَة

(7/2)


فَقيل لِابْنِ عمر: مَا معنى مثنى مثنى؟ قَالَ: تسلم فِي كل رَكْعَتَيْنِ) ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ رد على من زعم من الْحَنَفِيَّة أَن معنى: اثْنَيْنِ، أَن يتَشَهَّد بَين كل رَكْعَتَيْنِ، لِأَن رَاوِي الحَدِيث أعلم بالمراد بِهِ، وَمَا فسره هُوَ الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الرّبَاعِيّة مثلا، أَنَّهَا: مثنى. قلت: زعم هَذَا الْحَنَفِيّ بِمَا ذكر لَا يسْتَلْزم نفي السَّلَام، ومقصوده أَن لَا بُد من التَّشَهُّد بَين كل رَكْعَتَيْنِ، وَأما أَنه يسلم أَو لَا يسلم فَهُوَ بحث آخر. وَيجوز أَن يُقَال فِي الرّبَاعِيّة: مثنى مثنى، بِالنّظرِ إِلَى أَن كل رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا مثنى، مَعَ قطع النّظر عَن السَّلَام، قَوْله: (فَإِذا خشِي أحدكُم الصُّبْح) أَي: فَوَات صَلَاة الصُّبْح. قَوْله: (توتر لَهُ) على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَى مَا فِيمَا قد صلى، وَالْمعْنَى: تصير بِهِ تِلْكَ الرَّكْعَة الْوَاحِدَة وترا. وَبِه احْتج الشَّافِعِي، على أَن الإيتار بِرَكْعَة وَاحِدَة جَائِز، وسنتكلم فِيهِ مَبْسُوطا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه الأول: احْتج بِهِ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: أَن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، وَهُوَ أَن يسلم فِي آخر كل رَكْعَتَيْنِ، وَأما صَلَاة النَّهَار فأربع عِنْدهمَا، وَعند أبي حنيفَة: أَربع فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، وَعند الشَّافِعِي فيهمَا. مثنى مثنى، وَاحْتج بِمَا رَوَاهُ الْأَرْبَعَة من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وَبِمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ أَصْبَهَان) : عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) . وَلأبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي اللَّيْل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث زُرَارَة بن أوفى، (عَن عَائِشَة أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوف اللَّيْل، فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الْعشَاء فِي جمَاعَة، ثمَّ يرجع إِلَى أَهله فيركع أَربع رَكْعَات، ثمَّ يأوي إِلَى فرَاشه) الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: فِي سَماع زُرَارَة عَن عَائِشَة نظر، ثمَّ أخرجه عَن زُرَارَة عَن سعيد بن هِشَام عَن عَائِشَة، قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة هِيَ المحفوظة عِنْدِي. وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) : عَن عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْعشَاء ركع أَربع رَكْعَات وأوتر بِسَجْدَة، ثمَّ نَام حَتَّى يُصَلِّي بعْدهَا صلَاته من اللَّيْل) . فَإِن قلت: أخرج مُسلم عَن عبد الله بن شَقِيق، (عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِي بَيْتِي. .) الحَدِيث، وَفِيه: (وَيُصلي بِالنَّاسِ الْعشَاء ثمَّ يدْخل بَيْتِي وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ) ، فَهَذَا مُخَالف لحديثها الْمُتَقَدّم. قلت: قد وَقع عَن عَائِشَة اخْتِلَاف كثير فِي أعداد الرَّكْعَات فِي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللَّيْل، فَهَذَا إِمَّا من الروَاة عَنْهَا، وَإِمَّا مِنْهَا بِاعْتِبَار أَنَّهَا أخْبرت عَن حالات، مِنْهَا مَا هُوَ الْأَغْلَب من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْهَا مَا هُوَ نَادِر، وَمِنْهَا مَا هُوَ بِحَسب اتساع الْوَقْت وضيقه، وَلأبي حنيفَة فِي النَّهَار مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث معَاذَة أَنَّهَا سَأَلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كم كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَت: أَربع رَكْعَات يزِيد مَا شَاءَ) . وَفِي رِوَايَة: (وَيزِيد مَا شَاءَ) ، وروى أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من حَدِيث عمْرَة (عَن عَائِشَة قَالَت: سَمِعت أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة تَقول: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي الضُّحَى أَربع رَكْعَات لَا يفصل بَينهُنَّ بِكَلَام) . (وَالْجَوَاب) : من حَدِيث الْأَرْبَعَة الَّذِي فِيهِ ذكر النَّهَار إِن التِّرْمِذِيّ لما رَوَاهُ سكت عَنهُ إلاّ أَنه قَالَ: اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِيهِ، فرفعه بَعضهم، وَوَقفه بَعضهم، وَرَوَاهُ الثِّقَات عَن عبد الله بن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر فِيهِ صَلَاة النَّهَار، وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ. وَقَالَ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) : إِسْنَاده جيد إلاّ أَن جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن عمر خالفوا الْأَزْدِيّ فِيهِ، فَلم يذكرُوا فِيهِ النَّهَار، مِنْهُم: سَالم وَنَافِع وطاووس، والْحَدِيث فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جمَاعَة عَن ابْن عمر، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّهَار، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) غير مَحْفُوظ، وَإِنَّمَا تعرف صَلَاة النَّهَار عَن يعلى بن عَطاء عَن عَليّ الْبَارِقي عَن ابْن عمر، وَقد خَالفه نَافِع وَهُوَ أحفظ مِنْهُ فَذكر إِن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى وَالنَّهَار أَرْبعا. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: سُئِلَ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ عَن حَدِيث الْبَارِقي هَذَا: أصحيح هُوَ؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذِه زِيَادَة من ثِقَة فَهِيَ مَقْبُولَة. قلت: لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا لخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَقَالَ يحيى: كَانَ شُعْبَة يَنْفِي هَذَا الحَدِيث، وَرُبمَا لم يرفعهُ، وروى إِبْرَاهِيم الحنيني عَن مَالك والنمري عَن نَافِع عَن ابْن عمر، يرفعهُ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة الحنيني خطأ، وَلم يُتَابِعه عَن مَالك أحد.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن الشَّافِعِي احْتج بِهِ على أَن الإيتار بِرَكْعَة وَاحِدَة جَائِز، وَاحْتج أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،

(7/3)


قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل عشر رَكْعَات ويوتر بِسَجْدَة وَيسْجد بسجدتي الْفجْر، فَذَلِك ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح الإيتار بِوَاحِدَة وَلَا تكون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة صَلَاة قطّ، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ترد عَلَيْهِ قلت: مَعْنَاهُ يُوتر بِسَجْدَة أَي: بِرَكْعَة وَرَكْعَتَيْنِ قبله فَيصير وتره ثَلَاثًا ونفله ثمانيا، والركعتان للفجر، وَلأبي حنيفَة أَيْضا أَحَادِيث صَحِيحَة ترد عَلَيْهِ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسلم فِي رَكْعَتي الْوتر) ، وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ فِي (مُسْتَدْركه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر بِثَلَاث لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ) . وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَن الْأَعْمَش عَن مَالك بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن ابْن يزِيد النَّخعِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وتر اللَّيْل ثَلَاث كوتر النَّهَار صَلَاة الْمغرب) . فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يروه عَن الْأَعْمَش مَرْفُوعا غير يحيى بن زَكَرِيَّا وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الثَّوْريّ وَعبد الله بن نمير وَغَيرهمَا عَن الْأَعْمَش فوقفوه. قلت: لَا يضرنا كَونه مَوْقُوفا على مَا عرف، مَعَ أَن الدَّارَقُطْنِيّ أخرج عَن عَائِشَة أَيْضا نَحوه مَرْفُوعا. وَأخرج النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة عَن الفضيل بن عِيَاض عَن هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن ابْن عمر، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة الْمغرب وتر صَلَاة النَّهَار فأوتروا صَلَاة اللَّيْل) . وَهَذَا السَّنَد على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وروى الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا روح بن الْفرج حَدثنَا يحيى بن عبد الله بن بكير حَدثنَا بكر بن مُضر عَن جَعْفَر بن ربيعَة (عَن عقبَة بن مُسلم، قَالَ: سَأَلت عبد الله بن عمر عَن الْوتر، فَقَالَ: أتعرف وتر النَّهَار؟ فَقلت: نعم صَلَاة الْمغرب، قَالَ: صدقت وأحسنت) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَعَلِيهِ يحمل حَدِيث ابْن عمر (أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَلَاة اللَّيْل) إِلَى آخر حَدِيث الْبَاب، قَالَ: مَعْنَاهُ: صل رَكْعَة فِي ثِنْتَيْنِ قبلهَا وتتفق بذلك الْأَخْبَار. حَدثنَا أَبُو بكرَة حَدثنَا أَبُو دَاوُد حَدثنَا أَبُو خَالِد: سَأَلت أَبَا الْعَالِيَة عَن الْوتر. فَقَالَ: علمنَا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْوتر مثل صَلَاة الْمغرب، هَذَا وتر اللَّيْل، وَهَذَا وتر النَّهَار. وروى الطَّحَاوِيّ عَن أنس قَالَ: الْوتر ثَلَاث رَكْعَات. وروى أَيْضا عَن الْمسور بن مخرمَة، قَالَ: دفنا أَبَا بكر لَيْلًا فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لم أوتر، فَقَامَ وصففنا وَرَاءه فصلى بِنَا ثَلَاث رَكْعَات لم يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا حَفْص بن عمر عَن الْحسن، قَالَ: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْوتر ثَلَاثَة لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ. وَقَالَ الْكَرْخِي: أجمع الْمُسلمُونَ ... إِلَى آخِره، نَحوه، ثمَّ قَالَ: وأوتر سعد بن أبي وَقاص بِرَكْعَة فَأنْكر عَلَيْهِ ابْن مَسْعُود، وَقَالَ: مَا هَذِه البتيراء الَّتِي لَا نعرفها على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَعَن عبد الله بن قيس، قَالَ: (قلت لعَائِشَة: بكم كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر؟ قَالَت: كَانَ يُوتر بِأَرْبَع وَثَلَاث، وست وَثَلَاث وثمان وَثَلَاث، وَعشر وَثَلَاث، وَلم يكن يُوتر بِأَقَلّ من سبع وَلَا بِأَكْثَرَ من عشرَة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فقد نصت على الْوتر بِثَلَاثَة وَلم تذكر الْوتر بِوَاحِدَة، فَدلَّ على أَنه لَا اعْتِبَار للركعة البتيراء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ أَصْحَابنَا: لم يقل أحد من الْعلمَاء: إِن الرَّكْعَة الْوَاحِدَة لَا يَصح الإيتار بهَا إلاّ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَمن تابعهما قلت: عجبا للنووي كَيفَ ينْقل هَذَا النَّقْل الْخَطَأ وَلَا يردهُ مَعَ علمه بخطئه، وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ أَن الإيتار بِثَلَاث، وَلَا تجزى الرَّكْعَة الْوَاحِدَة. وروى الطَّحَاوِيّ: عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه أثبت الْوتر بِالْمَدِينَةِ بقول الْفُقَهَاء: ثَلَاث لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ، واتفاق الْفُقَهَاء بِالْمَدِينَةِ على اشْتِرَاط الثَّلَاث بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة يبين لَك خطأ نقل النَّاقِل اخْتِصَاص ذَلِك بِأبي حنيفَة وَالثَّوْري وأصحابهما. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا خشيت الصُّبْح فأوتر بِرَكْعَة؟) قلت: مَعْنَاهُ مُتَّصِلَة بِمَا قبلهَا، وَلذَلِك قَالَ: (توتر لَك مَا قبلهَا) ، وَمن يقْتَصر على رَكْعَة وَاحِدَة كَيفَ توتر لَهُ مَا قبلهَا وَلَيْسَ قبلهَا شَيْء؟ فَإِن قلت: رُوِيَ أَنه قَالَ: (من شَاءَ أوتر بِرَكْعَة، وَمن شَاءَ أوتر بِثَلَاث أَو بِخمْس) قلت: هُوَ هُوَ مَحْمُول على أَنه كَانَ قبل استقرارها، لِأَن الصَّلَاة المستقرة لَا يُخَيّر فِي أعداد ركعاتها، وَكَذَا قَول عَائِشَة: (كَانَ يسلم بَين كل رَكْعَتَيْنِ ويوتر بِوَاحِدَة) ، يُعَارضهُ مَا روى ابْن مَاجَه عَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنه كَانَ يُوتر بِسبع أَو بِخمْس لَا يفصل بَينهُنَّ بِتَسْلِيم وَلَا كَلَام، فَيحمل على أَنه كَانَ قبل اسْتِقْرَار الْوتر، وَمِمَّا يدل على مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ حَدِيث النَّهْي عَن البتيراء: أَن يُصَلِّي الرجل وَاحِدَة يُوتر بهَا. أخرجه ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) عَن أبي سعيد: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن البتيراء، وَمِمَّنْ قَالَ: يُوتر بِثَلَاث لَا يفصل بَينهُنَّ: عمر وعَلى وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَأبي بن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَأنس وَأَبُو أُمَامَة

(7/4)


وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة وَأهل الْكُوفَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: ذهب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم إِلَيْهِ. وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح (عَن ابي بن كَعْب: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَقل هُوَ الله أحد وَلَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ) . وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحَارِث: (عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُوتر بِثَلَاث) .
الْوَجْه الثَّالِث: فِي وَقت الْوتر، وَوَقته وَقت الْعشَاء، فَإِذا خرج وقته لَا يسْقط عَنهُ بل يَقْضِيه. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : جُمْهُور الْعلمَاء على أَن وَقت الْوتر يخرج بِطُلُوع الْفجْر، وَقيل: إِنَّه يَمْتَد بعد الْفجْر إِلَى أَن يصلى الْفجْر. قَالَ ابْن بزيزة: ومشهور مَذْهَب مَالك أَن يصليه بعد طُلُوع الْفجْر مَا لم يصل الصُّبْح، والشاذ من مذْهبه إِنَّه لَا يُصَلِّي بعد طُلُوع الْفجْر. قَالَ: وبالمشهور من مذْهبه قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَمن السّلف: ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعبادَة بن الصَّامِت وَحُذَيْفَة وَأَبُو الدَّرْدَاء وَعَائِشَة. وَقَالَ طَاوُوس: يُصَلِّي الْوتر بعد صَلَاة الصُّبْح، وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن وَاللَّيْث: يُصَلِّي وَلَو طلعت الشَّمْس، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: يُوتر من الْقَابِلَة، وَفِي (المُصَنّف) : عَن الْحسن قَالَ: لَا وتر بعد الْغَدَاة، وَفِي لفظ: (إِذا طلعت الشَّمْس فَلَا وتر) ، وَقَالَ الشّعبِيّ: من صلى الْغَدَاة وَلم يُوتر فَلَا وتر عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَه مَكْحُول وَسَعِيد بن جُبَير.

199 - وعَنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ كانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ والرَّكْعَتَيْنِ فِي الوِتْرِ حَتَّى يَأمُرَ بِبَعْضِ حاجَتِهِ.
قَالَ بَعضهم: وَهُوَ مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلّق، وَلَو كَانَ مُسْندًا لم يفرقه، وَإِنَّمَا فرقه لأمرين: أَحدهمَا: أَنه كَانَ سمع كلا مِنْهُمَا مفترقا عَن الآخر. وَالْآخر: أَنه أَرَادَ الْفرق بَين الحَدِيث والأثر، وَهَذَا مَا رَوَاهُ مَالك عَن نَافِع أَن ابْن عمر ... إِلَى آخِره، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن أبي وهب عَن مَالك، وَأخرجه أَيْضا عَن صَالح بن عبد الرَّحْمَن عَن سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا هشيم عَن مَنْصُور (عَن بكر بن عبد الله، قَالَ: صلى عمر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: يَا غُلَام أرحل لنا، ثمَّ قَامَ فأوتر بِرَكْعَة) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَفِي هَذِه الْآثَار أَنه كَانَ يُوتر بِثَلَاث، وَلَكِن يفصل بَين الْوَاحِدَة والاثنتين. فَإِن قلت: هَذَا يُؤَيّد مَذْهَب من قَالَ: إِن الْوتر رَكْعَة وَاحِدَة. قُلْنَا: إِن ابْن عمر لما سَأَلَهُ عقبَة بن مُسلم عَن الْوتر فَقَالَ: أتعرف وتر النَّهَار؟ فَقَالَ: نعم، صَلَاة الْمغرب. قَالَ: صدقت، أَو أَحْسَنت، فَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن الْوتر كَانَ عِنْد ابْن عمر ثَلَاث رَكْعَات كَصَلَاة الْمغرب، فَالَّذِي روى عَنهُ مِمَّا ذكرنَا فعله، وَهَذَا قَوْله وَالْأَخْذ بالْقَوْل أولى لِأَنَّهُ أقوى، وَقد قُلْنَا: إِن الْحسن الْبَصْرِيّ حكى إِجْمَاع الْمُسلمين على الثَّلَاث بِدُونِ الْفَصْل.

299 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ مَخْرَمَةَ بنِ سُلَيْمَانَ عنْ كُرَيْبٍ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ باتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَهْيَ خالَتُهُ فاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الوِسَادَةِ واضْطَجَعَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أوْ قَرِيبا مِنْهُ فاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آياتٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألَى شَنٍّ مُعَلقَةٍ فَتَوَضَّأَ فأحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قامَ يُصَلِّي فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ فَقُمْتُ إلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى رَأسِي وَأخَذَ بِأذُنِي يَفْتِلُهَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جاءَهُ المُؤَذِّنُ فقامَ فَصلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ..
إِنَّمَا ذكر هَذَا الحَدِيث هَهُنَا بعد أَن ذكره فِي عدَّة مَوَاضِع فِي: الْعلم وَالطَّهَارَة وَالْأَمَانَة والمساجد وَغَيرهَا، لِأَن فِيهِ تعلقا بالوتر، وَهُوَ قَوْله: (ثمَّ أوتر) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، ولنذكر هَهُنَا مَا لم نذكرهُ. قَوْله: (أَنه بَات عِنْد مَيْمُونَة) ، وَزَاد شريك بن أبي نمر: (عَن كريب عِنْد مُسلم فرقبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَيفَ يُصَلِّي) . وَزَاد أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه)

(7/5)


من هَذَا الْوَجْه: بِاللَّيْلِ، وَلمُسلم من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (بَعَثَنِي الْعَبَّاس إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) وَزَاد النَّسَائِيّ من طَرِيق حبيب بن أبي ثَابت (عَن كريب: فِي إبل أعطَاهُ إِيَّاهَا من الصَّدَقَة) . وَلأبي عوَانَة من طَرِيق عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه: (أَن الْعَبَّاس بَعثه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَاجَة فَوَجَدَهُ جَالِسا فِي الْمَسْجِد، فَلم استطع أَن ُأكَلِّمهُ، فَلَمَّا صلى الْمغرب قَامَ فَرَكَعَ حَتَّى أذن الْمُؤَذّن بِصَلَاة الْعشَاء) ، وَلابْن خُزَيْمَة من طَرِيق طَلْحَة بن نَافِع عَنهُ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعد الْعَبَّاس ذودا من الْإِبِل، فَبَعَثَنِي إِلَيْهِ بعد الْعشَاء وَكَانَ فِي بَيت مَيْمُونَة) . فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف مَا قبله؟ قلت: يحْتَمل على أَنه لما لم يكلمهُ فِي الْمَسْجِد أَعَادَهُ إِلَيْهِ بعد الْعشَاء. ولمحمد بن نصر فِي (كتاب قيام اللَّيْل) من طَرِيق مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن نويفع، (عَن كريب من الزِّيَادَة، فَقَالَ لي: يَا بني، بت اللَّيْلَة عندنَا) . وَفِي رِوَايَة حبيب بن أبي ثَابت: (فَقلت: لَا أَنَام حَتَّى أنظر إِلَى مَا يصنع) ، أَي فِي صَلَاة اللَّيْل، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن مخرمَة (فَقلت لميمونة: إِذا قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأيقظيني) . قَوْله: (فِي عرض الوسادة) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْمَذْكُورَة: (وسَادَة من أَدَم حشوها لِيف) ، وَفِي رِوَايَة طَلْحَة ابْن نَافِع الْمَذْكُور: (ثمَّ دخل مَعَ امْرَأَته فِي فراشها) ، وَزَاد: (أَنَّهَا كَانَت ليلتئذ حَائِضًا) ، وَفِي رِوَايَة شريك بن أبي نمر عَن كريب فِي (التَّفْسِير) : (فَتحدث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَهله سَاعَة) . وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الوسادة المخدة وَالْجمع الوسائد، وَفِي (الْمطَالع: وَقد قَالُوا: إساد ووساد، والوساد مَا يتوسد إِلَيْهِ للنوم. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد: وَالظَّاهِر أَنه لم يكن عِنْدهمَا فرَاش غَيره، فَلذَلِك باتوا جَمِيعًا فِيهِ. وَالْعرض، بِفَتْح الْعين ضد الطول، وَفِي (الْمطَالع) : وَبَعْضهمْ يضمها وَالْفَتْح أشهر، وَهُوَ النَّاحِيَة والجانب. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَهِي الْفراش وَشبهه. قَالَ: وَكَانَ وَالله أعلم مُضْطَجعا عِنْد رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو عِنْد رَأسه. قَوْله: (حَتَّى انتصف اللَّيْل أَو قَرِيبا مِنْهُ) وَجزم شريك بن أبي نمر فِي رِوَايَته الْمَذْكُورَة: بِثلث اللَّيْل الْأَخير. فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينهمَا؟ قلت: يحمل على أَن الاستيقاظ وَقع مرَّتَيْنِ، فَفِي الأول: نظر إِلَى السَّمَاء ثمَّ تَلا الْآيَات ثمَّ عَاد لمضجعه فَنَامَ، وَفِي الثَّانِيَة: أعَاد ذَلِك ثمَّ تَوَضَّأ وَصلى، وَفِي رِوَايَة الثَّوْريّ: عَن سَلمَة بن كهيل عَن كريب فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (فَقَامَ من اللَّيْل فَأتى حَاجته ثمَّ غسل وَجهه وَيَديه ثمَّ قَامَ فَأتى الْقرْبَة. .) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَسْرُوق عَن سَلمَة عِنْد مُسلم: (ثمَّ قَامَ قومة أُخْرَى) ، وَعِنْده من رِوَايَة شُعْبَة عَن سَلمَة: (فَبَال) ، بدل: (فَأتى حَاجته) . فَإِن قلت: قَرِيبا مَنْصُوب بِمَاذَا؟ قلت: بعامل مُقَدّر نَحْو: صَار اللَّيْل قَرِيبا من الانتصاف. قَوْله: (من آل عمرَان) أَي: من خاتمتها وَهِي {إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} (آل عمرَان: 091) . إى آخرهَا. قَوْله: (ثمَّ قَامَ إِلَى شن، زَاد مُحَمَّد بن الْوَلِيد: (ثمَّ استفرغ من الشن فِي إِنَاء ثمَّ تَوَضَّأ) . قَوْله: (معلقَة) إِنَّمَا أنثها بِاعْتِبَار أَن الشن فِي معنى الْقرْبَة. قَوْله: (فَأحْسن الْوضُوء) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد وَطَلْحَة بن نَافِع جَمِيعًا: (فأسبغ الْوضُوء) ، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار عَن كريب: (فَتَوَضَّأ وضُوءًا خَفِيفا) ، وَلمُسلم من طَرِيق عِيَاض عَن مخرمَة: (فأسبغ الْوضُوء وَلم يمس من المَاء إلاّ قَلِيلا، وَزَاد فِيهَا: (فَتَسَوَّكَ) ، وَفِي رِوَايَة شريك عَن كريب: (فاستن) . قَوْله: (ثمَّ قَامَ يُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد: (ثمَّ أَخذ بردا لَهُ حضرميا فتوشحه، ثمَّ دخل الْبَيْت فَقَامَ يُصَلِّي) . قَوْله: (فَأخذ بأذني) زَاد مُحَمَّد بن الْوَلِيد فِي رِوَايَته: (فَعرفت أَنه إِنَّمَا صنع ذَلِك ليؤنسني بِيَدِهِ فِي ظلمَة اللَّيْل) . وَفِي رِوَايَة الضَّحَّاك بن عُثْمَان: (فَجعلت إِذا أغفيت أَخذ بشحمة أُذُنِي) . قَوْله: (فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة هَذَا الْبَاب ذكر الرَّكْعَتَيْنِ سِتّ مَرَّات، ثمَّ قَالَ: (ثمَّ أوتر) ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنه صلى ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، وَصرح بذلك فِي رِوَايَة سَلمَة الْآتِيَة فِي الدَّعْوَات، حَيْثُ قَالَ: (فتتامت) ، وَلمُسلم: (فتكاملت صلَاته ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . وَظَاهر هَذَا أَنه فصل بَين كل رَكْعَتَيْنِ، وَوَقع التَّصْرِيح بذلك فِي رِوَايَة طَلْحَة بن نَافِع حَيْثُ قَالَ فِيهَا: (يسلم بَين كل رَكْعَتَيْنِ) ، وَلمُسلم من رِوَايَة عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس التَّصْرِيح بِالْفَصْلِ أَيْضا، وَقد ورد عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة بروايات مُخْتَلفَة، وَكَذَلِكَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِذا جمعت مَعَاني هَذِه الْأَحَادِيث تذل على أَن وتره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ثَلَاث رَكْعَات. قَوْله: (ثمَّ اضْطجع حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذّن فَقَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ) ، قَالَ القَاضِي: فِيهِ أَن الِاضْطِجَاع كَانَ قبل رَكْعَتي الْفجْر، وَفِيه رد على الشَّافِعِي فِي قَوْله: إِنَّه كَانَ بعد رَكْعَتي الْفجْر، وَذهب مَالك وَالْجُمْهُور إِلَى أَنه بِدعَة. قَوْله: (ثمَّ خرج) أَي: إِلَى الْمَسْجِد فصلى الصُّبْح بِالْجَمَاعَة.

(7/6)


399 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني ابنُ وَهَبٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرٌ وأنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ ابنَ القَاسِمِ حدَّثَهُ عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فإِذَا أرَدْتَ أنْ تَنْصَرِفَ فارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا صَلَّيْتَ..
قد مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي بَاب مَا جَاءَ فِي الْوتر: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع وَعبد الله بن دِينَار كِلَاهُمَا عَن ابْن عمر، وَهَهُنَا أخرجه عَن يحيى بن سُلَيْمَان أبي سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي نزيل مصر، وَهُوَ من أَفْرَاده، يرْوى عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَالَ القاسِمُ: ورَأيْنَا أُنَاسًا مُنْذُ أدْرَكْنَا يُوتِرُونَ بِثَلاثٍ وَإنْ كُلاًّ لَوَاسِعٌ أرْجُو أنْ لاَ يَكُونَ بِشَيءٍ منْهُ بَأْسٌ

الْقَاسِم: هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمَذْكُور آنِفا فِي الحَدِيث. قَالَ بَعضهم: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور كَذَلِك أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) وَوهم من زعم أَنه مُعَلّق. قلت: الصَّوَاب مَعَ من ادّعى التَّعْلِيق لِأَنَّهُ فَصله عَمَّا قبله، فَجعله ابْتِدَاء كَلَام، وَلَا يلْزم من اسْتِخْرَاج أبي نعيم إِيَّاه مَوْصُولا أَن يكون هَذَا مَوْصُولا. قَوْله: (مُنْذُ أدركنا) أَي: مُنْذُ زمَان بلوغنا الْعقل والحلم. قَوْله: (يوترون بِثَلَاث) ، أَي: بِثَلَاث رَكْعَات. قَوْله: (وَإِن كلا) أَي: وَإِن كل وَاحِد من الرَّكْعَة وَالثَّلَاث وَاسع، يَعْنِي: لَا حرج فِي فعل أَيهمَا شَاءَ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: من الرَّكْعَة وَالثَّلَاث وَالْخمس والسبع وَالتسع والإحدى عشرَة لجائز. قلت: الْكَلَام فِي الْوتر الَّذِي هُوَ رَكْعَة وَاحِدَة أم ثَلَاث رَكْعَات وَمَا فَوق الثَّلَاث من الأوتار لَيْسَ فِيهِ خلاف، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَن الْقَاسِم فهم من قَوْله: (فاركع رَكْعَة) أَي: مُنْفَرِدَة مُنْفَصِلَة، وَدلّ ذَلِك على أَنه لَا فرق عِنْده بَين الْوَصْل والفصل فِي الْوتر. قلت: الْقَاسِم صَاحب لِسَان وَفهم وَعلم، كَيفَ ينْسب إِلَيْهِ مَا لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ؟ فَإِن قَوْله: (فاركع رَكْعَة) يَعْنِي: رَكْعَة وَاحِدَة، وَهُوَ أَعم من أَن تكون مُتَّصِلَة أَو مُنْفَصِلَة، وَلَكِن قَوْله: (توتر لَك مَا صليت) ، يدل على أَنه يوصلها بالركعتين اللَّتَيْنِ قبلهَا حَتَّى يكون مَا صلاه وترا ثَلَاث رَكْعَات، لِأَن المُرَاد من قَوْله: (مَا صليت) ، هُوَ الَّذِي صلاه قبل هَذِه الرَّكْعَة، وَلَا يكون هَذَا وترا إلاَّ إِذا انضمت إِلَيْهِ هَذِه الرَّكْعَة الْوَاحِدَة من غير فصل، فَإِذا فصل لَا يكون الْوتر إلاّ هَذِه الرَّكْعَة وَهِي وَاحِدَة، والواحدة بتيراء، وَقد نهى عَنْهَا على مَا ذكرنَا فِيمَا مضى.

499 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ إخْبَرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّي إحْدَى عَشْرَةَ ركْعَةً كانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ تَعْنِي بِاللَّيْلِ فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذالِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَة قَبْلَ أنْ يَرْفَعَ رَأسَهُ ويرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يأتِيهِ المُؤذِّنُ لِلصَّلاَةِ..

هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب طول السُّجُود فِي قيام اللَّيْل، بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن بعينهما، وَأَبُو الْيَمَان الحكم ابْن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم. قَوْله: (كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عشرَة رَكْعَة) ، وَرُوِيَ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، خلاف مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، ثمَّ يُصَلِّي إِذا سمع النداء رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) أخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ عَن يُونُس بن عبد على عَن ابْن وهب عَن مَالك نَحوه، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَا: حَدثنَا أبان عَن يحيى عَن أبي سَلمَة (عَن عَائِشَة عَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ

(7/7)


يُصَلِّي من اللَّيْل ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، كَانَ يُصَلِّي ثَمَانِي رَكْعَات ويوتر بِرَكْعَة، ثمَّ يُصَلِّي. قَالَ مُسلم: بعد الْوتر رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَاعد، فَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع قَامَ فَرَكَعَ، وَيُصلي بَين أَذَان الْفجْر وَالْإِقَامَة رَكْعَتَيْنِ) . وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة، قَالَت: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل عشر رَكْعَات ويوتر بِسَجْدَة، وَيسْجد سَجْدَتي الْفجْر، فَذَلِك ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . وَأخرج أَيْضا من حَدِيث الْأسود بن يزِيد: (أَنه دخل على عَائِشَة فَسَأَلَهَا عَن صَلَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاللَّيْلِ فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاث عشرَة رَكْعَة من اللَّيْل، ثمَّ إِنَّه يُصَلِّي إِحْدَى عشرَة رَكْعَة وَيتْرك رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قبض حِين قبض وَهُوَ يُصَلِّي من اللَّيْل تسع رَكْعَات آخر صلَاته من اللَّيْل الْوتر) . وروى أَيْضا من حَدِيث سعد بن هِشَام فِي حَدِيث طَوِيل: أَنه سَأَلَ عَائِشَة قَالَ: (قلت حدثيني عَن قيام اللَّيْل! فَأخْبرت بِهِ ثمَّ قَالَ: حدثيني عَن وتر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: كَانَ يُوتر بثمان رَكْعَات لَا يجلس إلاّ فِي الثَّامِنَة والتاسعة، وَلَا يسلم إلاّ فِي التَّاسِعَة، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس، فَتلك إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، يَا بني، فَلَمَّا أسن وَأخذ اللَّحْم أوتر بِسبع رَكْعَات لم يجلس إلاّ فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة، وَلم يسلم إلاّ فِي السَّابِعَة، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس، فَتلك تسع رَكْعَات يَا بني) . إعلم أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أطلقت على جَمِيع صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي اللَّيْل الَّتِي كَانَ فِيهَا الْوتر: وترا، فجملتها إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، وَهَذَا كَانَ قبل أَن يبدن وَيَأْخُذ اللَّحْم، فَلَمَّا بدن وَأخذ اللَّحْم أوتر بِسبع رَكْعَات، وَهَهُنَا أَيْضا أطلقت على الْجَمِيع: وترا، وَالْوتر مِنْهَا ثَلَاث رَكْعَات، أَربع قبله من النَّفْل وَبعده رَكْعَتَانِ، فالجميع تسع رَكْعَات. فَإِن قلت: قد صرحت فِي الصُّورَة الأولى بقولِهَا: (لَا يجلس إلاّ فِي الثَّامِنَة وَلَا يسلم إلاّ فِي التَّاسِعَة) ، وصرحت فِي الصُّورَة الثَّانِيَة بقولِهَا: (لم يجلس إلاّ فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة، وَلم يسلم إلاّ فِي السَّابِعَة) . قلت: هَذَا اقْتِصَار مِنْهَا على بَيَان جُلُوس الْوتر وَسَلَامه، لِأَن السَّائِل إِنَّمَا سَأَلَ عَن حَقِيقَة الْوتر وَلم يسْأَل عَن غَيره، فأجابت مبينَة بِمَا فِي الْوتر من الْجُلُوس على الثَّانِيَة بِدُونِ سَلام، وَالْجُلُوس أَيْضا على الثَّالِثَة بِسَلام وَهَذَا عين مَذْهَب أبي حنيفَة، وَسكت عَن جُلُوس الرَّكْعَات الَّتِي قبلهَا وَعَن السَّلَام فِيهَا، كَمَا أَن السُّؤَال لم يَقع عَنْهَا، فجوابها قد طابق سُؤال السَّائِل، غير أَنَّهَا أطلقت على الْجَمِيع: وترا فِي الصُّورَتَيْنِ لكَون الْوتر فِيهَا، وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ مَا روى الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث يحيى بن أَيُّوب عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن (عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُوتر بعدهمَا: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَيقْرَأ فِي الْوتر: قل هُوَ الله أحد، وَقل أعوذ بِرَبّ الفلق، وَقل أعوذ بِرَبّ النَّاس) . وَأخرج من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يقْرَأ فِي الْوتر فِي الرَّكْعَة الأولى: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَة: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَة: قل هُوَ الله أحد) . وَقد وَقع الِاخْتِلَاف فِي أعداد رَكْعَات صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاللَّيْلِ من سبع وتسع وَإِحْدَى عشرَة وَثَلَاث عشرَة إِلَى سبع عشرَة رَكْعَة، وَقدر عدد رَكْعَات الْفَرْض فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: كل وَاحِد من الروَاة مثل عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَزيد بن خَالِد وَغَيرهم أخبر بِمَا شَاهده، وَأما الِاخْتِلَاف عَن عَائِشَة فَقيل: هُوَ من الروَاة عَنْهَا، وَقيل: هُوَ مِنْهَا: وَيحْتَمل أَنَّهَا أخْبرت عَن حالات: مِنْهَا: مَا هُوَ الْأَغْلَب من فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْهَا: مَا هُوَ نَادِر: وَمِنْهَا: مَا هُوَ اتّفق من اتساع الْوَقْت وضيقه على مَا ذَكرْنَاهُ.

2 - (بابُ ساعاتِ الوِتْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَاعَات الْوتر، أَي: أوقاته.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ أوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ

مطابقته هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قبل النّوم سَاعَة من سَاعَات الْوتر، وساعات الْوتر هُوَ اللَّيْل كُله، غير أَن أَوله من مغيب الشَّفق على الِاخْتِلَاف، وَلَكِن لَا يجوز تَقْدِيمه على صَلَاة الْعشَاء. وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث أوردهُ البُخَارِيّ من طَرِيق أبي عُثْمَان عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (وَأَن أوتر قبل أَن نَام) . وَوجه أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالوتر لأبي هُرَيْرَة قبل النّوم خشيَة أَن يستولي عَلَيْهِ النّوم، فَأمره بِالْأَخْذِ بالثقة، وَبِهَذَا وَردت الْأَخْبَار عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا: حَدِيث

(7/8)


عَائِشَة: (من خَافَ أَن لَا يَسْتَيْقِظ آخر اللَّيْل فليوتر أول اللَّيْل، وَمن علم أَن يَسْتَيْقِظ آخر اللَّيْل فَإِن صلَاته آخر اللَّيْل محضورة، وَذَلِكَ أفضل) .

599 - حدَّثنا أبُو النعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ سِيرِينَ قَالَ قُلْتُ لابنِ عُمَرَ أرَأيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الغَدَاةِ نُطِيلُ فِيهِمَا القِرَاءَةَ فَقَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ ويُصَلِّي الرَّكّعَتِيْنِ قَبّلَ صَلاَةَ الغَدَاةِ وَكَانَ الأذَانَ بِأُذُنَيْهِ قَالَ حَمَّادٌ أيْ سُرْعَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يُصَلِّي من اللَّيْل) ، فَإِن قَوْله: (من اللَّيْل) مَجْمُوع اللَّيْل لِأَنَّهُ مُبْهَم يصلح لجَمِيع أَجزَاء اللَّيْل حَيْثُ لم يعين بَعْضًا مِنْهُ، وَهُوَ سَاعَات الْوتر، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: لَيْسَ للوتر وَقت معِين لَا يجوز فِي غَيره، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوتر كل اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي: الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث: أنس بن سِيرِين أَخُو مُحَمَّد بن سِيرِين أَبُو حَمْزَة، مَاتَ بعد أَخِيه مُحَمَّد، وَمَات مُحَمَّد سنة عشر وَمِائَة. الرَّابِع: عب الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بكنيته.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن خلف بن هِشَام وَأبي كَامِل الجحدري عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أَحْمد بن عَبدة عَن حَمَّاد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أريت؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام مَعْنَاهُ: أَخْبرنِي. قَوْله: (نطيل) ، بنُون الْجمع من: أَطَالَ يُطِيل إِذا طول، وَهَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أطيل) ، بِهَمْزَة الْمُتَكَلّم وَحده. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (أطيل) بِلَفْظ مَجْهُول الْمَاضِي ومعروف الْمُضَارع. قلت: لَا أَدْرِي مَجْهُول الْمَاضِي رِوَايَة أم لَا؟ قَوْله: (وَكَانَ) ، بتَشْديد النُّون. قَوْله: (بأذنيه) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الذَّال وَضمّهَا تَثْنِيَة أذن، ويروى: (بِإِذْنِهِ) بِالْإِفْرَادِ وَقَوله: (وَكَأن الْأَذَان بأذنه) عبارَة عَن سرعته بركعتي الْفجْر، وَالْمرَاد من الْأَذَان الْإِقَامَة، وَالْحَاصِل أَنه: كَانَ يُخَفف الْقِرَاءَة فِي رَكْعَتي الْفجْر مثل من كَانَ يسمع إِقَامَة الصَّلَاة ويسرع خشيَة فَوَات الْوَقْت عَنهُ. وَقَالَ الْمُهلب: وَكَأن الْأَذَان بِإِذْنِهِ يُرِيد الْإِقَامَة من أجل التغليس بِالصَّلَاةِ. قَوْله: قَالَ حَمَّاد) ، وَهُوَ ابْن زيد الرَّاوِي. قيل: وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور قلت: وَفِيه نظر. قَوْله: (بِسُرْعَة) بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت وَابْن شبويه، وَفِي رِوَايَة غَيرهم (سرعَة) بِغَيْر الْبَاء وَهُوَ تَفْسِير من الرَّاوِي لقَوْله: (كَأَن الْأَذَان بأذنيه) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: أَن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي على أَن الْوتر رَكْعَة وَاحِدَة، وَقد ذكرنَا الْجَواب عَنهُ مستقصىً فِي الْبَاب الَّذِي قبله. الثَّالِث: فِيهِ الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ قبل صَلَاة الصُّبْح. الرَّابِع: تَخْفيف الْقِرَاءَة فيهمَا.

699 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني مُسْلِمٌ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ كُلَّ اللَّيْلِ أوْتَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على أَن كل اللَّيْل سَاعَات الْوتر، وأولها من بعد صَلَاة الْعشَاء، وَآخِرهَا إِلَى طُلُوع الْفجْر الصَّادِق. وَقد روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث خَارِجَة: أَن وقته مَا بَين الْعشَاء وطلوع الْفجْر، وَاسْتَغْرَبَهُ التِّرْمِذِيّ.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عمر بن حَفْص النَّخعِيّ الْكُوفِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة أَبُو عَمْرو النَّخعِيّ الْكُوفِي، قاضيها. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: مُسلم بن صبيح أَبُو الضُّحَى الْكُوفِي. الْخَامِس: مَسْرُوق بن عبد الرَّحْمَن، وَيُقَال: ابْن الأجدع، وَهُوَ لقب عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

(7/9)


ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض وهم: الْأَعْمَش وَمُسلم ومسروق.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن يُونُس عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن الْأَعْمَش بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كل اللَّيْل) ، يجوز فِي: كل، الرّفْع وَالنّصب. أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَالْجُمْلَة بعده خَبره، وَأما النصب فعلى الظَّرْفِيَّة لقَوْله: (أوتر) ، وَالْمرَاد مِنْهُ أَنه أوتر فِي جَمِيع اللَّيْل أَو فِي جَمِيع سَاعَات اللَّيْل، يَعْنِي: إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ جزئيات اللَّيْل أَو أجزاؤه. وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن مَسْرُوق، (عَن عَائِشَة قَالَت: من كل اللَّيْل قد أوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وانْتهى وتره إِلَى السحر) . وَله عَن عَائِشَة: (من كل اللَّيْل، قد أوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من أول اللَّيْل وأوسطه وَآخره، فَانْتهى وتره إِلَى السحر) ، وَله فِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَت: (كل اللَّيْل قد أوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْتهى وتره إِلَى آخر اللَّيْل) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن مَسْرُوق قَالَ: قلت لعَائِشَة: مَتى كَانَ يُوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَت: كل ذَلِك قد فعل: أوتر أول اللَّيْل وأوسطه وَآخره، وَلَكِن انْتهى وتره حِين مَاتَ إِلَى السحر) . انْتهى. قلت: قد يكون أوتر من أَوله لشكوى حصلت، وَفِي وَسطه لاستيقاظه إِذْ ذَاك وَآخره غَايَة لَهُ، وَمعنى قَوْله: وانْتهى وتره إِلَى السحر أَي: كَانَ آخر أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخر الْوتر إِلَى آخر اللَّيْل، وَيُقَال: فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول اللَّيْل وأوسطه، بَيَان للْجُوَاز، وتأخيره إِلَى آخر اللَّيْل تَنْبِيه على الْأَفْضَل لمن يَثِق بالانتباه، وَكَانَ بعض السّلف يوترون أول اللَّيْل، مِنْهُم: أَبُو بكر وَعُثْمَان وَأَبُو هُرَيْرَة وَرَافِع بن خديج، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبَعْضهمْ يوترون آخر اللَّيْل مِنْهُم: عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهم من التَّابِعين، وَأما أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة بالوتر قبل النّوم فَهُوَ اخْتِيَار مِنْهُ لَهُ حِين خشِي عَلَيْهِ من اسْتِيلَاء النّوم، فَأمره بِالْأَخْذِ بالثقة، وَالتَّرْغِيب فِي الْوتر فِي آخر اللَّيْل هُوَ لمن قوي عَلَيْهِ، وَلم تكن عَادَته أَن تغلبه عَيناهُ، وَعند ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث أبي قَتَادَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأبي بكر، مَتى توتر؟ قَالَ: قبل أَن أَنَام. وَقَالَ لعمر: مَتى توتر؟ فَقَالَ: أَنَام ثمَّ أوتر. فَقَالَ لأبي بكر أخذت بالحزم أَو بالوثيقة، وَقَالَ لعمر: أخذت بِالْقُوَّةِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن هِشَام حَدثنَا الديري عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَخْبرنِي ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب: (أَن أَبَا بكر وَعمر تذاكرا الْوتر عِنْد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ أَبُو بكر: أما أَنا فَإِنِّي أَنَام على وتر فَإِن استيقظت صليت شفعا حَتَّى الصَّباح. وَقَالَ عمر: لَكِن أَنَام على شفع ثمَّ أوتر فِي السحر. فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر: حذر هَذَا، ولعمر: قوي هَذَا) . وَفِي فَوَائِد سمويه من حَدِيث ابْن عقيل (عَن جَابر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأبي بكر: أَي حِين توتر؟ قَالَ: أول اللَّيْل بعد الْعَتَمَة) . وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي أول وَقت الْوتر، وَآخره فِي الْبَاب الَّذِي قبله.

3 - (بابُ إيقَاظِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْلَهُ بالوِتْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إيقاظ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والإيقاظ مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَقَوله: (أَهله) بِالنّصب مَفْعُوله، قَوْله: (بالوتر) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (للوتر) ، بِاللَّامِ.

799 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حدَّثني أبي عنْ عائِشَةَ قَالتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَأَنا رَاقِدَةٌ مُعْترِضَةً عَلَى فِرَاشِهِ فإذَا أرَادَ أنْ يُوتِرَ أيْقَظَنِي فأوْتَرْتُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَفَائِدَة وضع هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن الْمُسْتَحبّ لكل أحد أَن يوقظ امْرَأَته لأجل صَلَاة الْوتر إِذا نَامَتْ قبل الإيتار. وَفِيه تَأْكِيد لأمر الْوتر والامتثال لقَوْله تَعَالَى: {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ} (طه: 231) . وَفِيه مَشْرُوعِيَّة الْوتر فِي حق النِّسَاء.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام، وَقد ذكر

(7/10)


البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن جَمِيعًا فِي: بَاب الصَّلَاة خلف النَّائِم، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فأوترت) الْفَاء فِيهِ تسمى: فَاء الفصيحة، فتقديره: فَقُمْت وتوضأت فأوترت.

4 - (بابٌ لِيَجْعَلَ آخِرَ صلاَتِهِ وِتْرا)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته ليجعل إِلَى آخِره أَي: ليجعل الْمُصَلِّي آخر صلَاته بِاللَّيْلِ صَلَاة الْوتر.

899 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة مَأْخُوذَة مِنْهُ. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله ابْن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَفِي رِوَايَته بعد قَوْله: (وترا، فَإِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَأْمر بذلك) .
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ حكمان: الأول: اسْتِحْبَاب تَأْخِير الْوتر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. وَالثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على وجوب الْوتر.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: إِن الْعلمَاء كَافَّة قَالَت: إِنَّه سنة، حَتَّى أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَحده: هُوَ وَاجِب وَلَيْسَ بِفَرْض. وَقَالَ أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه: الْوتر سنة مُؤَكدَة لَيْسَ بِفَرْض وَلَا وَاجِب، وَبِه قَالَت الإئمة كلهَا إلاّ أَبَا حنيفَة. وَقَالَ بَعضهم: وَقد اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث بعض من قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَتعقب بِأَن صَلَاة اللَّيْل لَيست وَاجِبَة ... إِلَى آخِره، وَبِأَن الأَصْل عدم الْوُجُوب حَتَّى يقوم دَلِيله. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا مَا يشبه هَذَا. قلت: هَذَا كُله من آثَار التعصب، فَكيف يَقُول القَاضِي أَبُو الطّيب وَأَبُو حَامِد، وهما إمامان مشهوران، بِهَذَا الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيح وَلَا قريب من الصِّحَّة؟ وَأَبُو حنيفَة لم ينْفَرد بذلك، هَذَا القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ ذكر عَن سَحْنُون وَأصبغ بن الْفرج وُجُوبه، وَحكى ابْن حزم أَن مَالِكًا قَالَ: من تَركه أُدِّبَ، وَكَانَت جرحه فِي شَهَادَته، وَحَكَاهُ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) عَن أَحْمد، وَفِي (المُصَنّف) عَن مُجَاهِد بِسَنَد صَحِيح: هُوَ وَاجِب وَلم يكْتب، وَعَن ابْن عمر بِسَنَد صَحِيح: مَا أحب أَنِّي تركت الْوتر وَأَن لي حمر النعم، وَحكى ابْن بطال وُجُوبه عَن أهل الْقُرْآن عَن ابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعَن يُوسُف بب خَالِد السَّمْتِي شيخ الشَّافِعِي وُجُوبه، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود وَالضَّحَّاك. انْتهى.
فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، كَيفَ يجوز لأبي الطّيب وَلأبي حَامِد أَن يدعيا هَذِه الدَّعْوَى الْبَاطِلَة؟ فَهَذَا يدل على عدم اطلاعهما، فِيمَا ذكرنَا، فجهل الشَّخْص بالشَّيْء لَا يَنْفِي علم غَيره بِهِ.
وَقَول من ادّعى التعقب بِأَن: صَلَاة اللَّيْل لَيست بواجبة. . إِلَى آخِره، قَول واهٍ لِأَن الدَّلَائِل قَامَت على وجوب الْوتر. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّالقَانِي حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى عَن عبيد الله بن عبد الله الْعَتكِي (عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَهَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلِهَذَا أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَصَححهُ. فَإِن قلت: فِي إِسْنَاده أَبُو الْمُنِيب عبيد الله بن عبد الله، وَقد تكلم فِيهِ البُخَارِيّ وَغَيره. قلت: قَالَ الْحَاكِم: وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: هُوَ صَالح الحَدِيث، وَأنكر على البُخَارِيّ إِدْخَاله فِي الضُّعَفَاء، فَهَذَا ابْن معِين إِمَام هَذَا الشَّأْن وَكفى بِهِ حجَّة فِي توثيقه إِيَّاه. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ: قد دلّت الْأَخْبَار الصَّحِيحَة على أَنه لم يرد بِالْحَقِّ الْوُجُوب الَّذِي لَا يسع غَيره. مِنْهَا: خبر عبَادَة بن الصَّامِت لما بلغه أَن أَبَا مُحَمَّد، رجلا من الْأَنْصَار، يَقُول: (الْوتر حق، فَقَالَ: كذب أَبُو مُحَمَّد، ثمَّ روى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي عدد الصَّلَوَات الْخمس. وَمِنْهَا: خبر طَلْحَة بن عبيد الله فِي سُؤال الْأَعرَابِي. وَمِنْهَا: خبر أنس بن مَالك فِي فرض الصَّلَوَات لَيْلَة الْإِسْرَاء قلت: سُبْحَانَ الله مَا أقرب هَذَا الْكَلَام، إِلَى السُّقُوط، فَمِنْهُ يشم أثر التعصب، وَكَيف لَا يكون وَاجِبا والشارع يَقُول الْوتر حق، أَي: وَاجِب ثَابت، وَالدَّلِيل على هَذَا الْمَعْنى. قَوْله: (فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا؟) وَهَذَا وَعِيد شَدِيد، وَلَا يُقَال مثل هَذَا إلاّ فِي حق تَارِك فرض أَو وَاجِب، وَلَا سِيمَا وَقد تَأَكد ذَلِك بالتكرار ثَلَاث مَرَّات، وَمثل هَذَا الْكَلَام بِهَذِهِ التأكيدات لم يَأْتِ فِي حق السنين، فَسقط بذلك مَا قَالَه الْخطابِيّ

(7/11)


وَسقط أَيْضا قَوْله: الأَصْل عدم الْوُجُوب حَتَّى يقوم دَلِيله، فَهَذَا الْقَائِل وقف على دَلِيله وَلَكِن اتبع هَوَاهُ لغيره، فَالْحق أَحَق أَن يتبع، وَالْجَوَاب عَن خبر عبَادَة أَنه إِنَّمَا كذب الرجل فِي قَوْله كوجوب الصَّلَاة، وَلم يقل أحد: أَن الْوتر وَاجِب كوجوب الصَّلَاة. فَإِن قلت: قَالَ النَّجْم النَّسَفِيّ صَاحب الْمَنْظُومَة.
(وَالْوتر فرض وبدا بِذكرِهِ ... فِي فجره فَسَاد فرض فجره)

قلت: مَعْنَاهُ: فرض عملا، سنة سَببا وَاجِب علما. وَأما خبر طَلْحَة بن عبيد الله فَكَأَنَّهُ قبل وجوب الْوتر بِدَلِيل أَنه لم يذكر فِيهِ الْحَج، فَدلَّ على أَنه مُتَقَدم على وجوب الْحَج، وَلَفْظَة: (زادكم صَلَاة) مشعرة بتأخر وجوب الْوتر، وَأما خبر أنس فَلَا نزاع فِيهِ أَنه كَانَ قبل الْوُجُوب، وَمن الدَّلِيل على وُجُوبه مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أخبرنَا عِيسَى عَن زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا أهل الْقُرْآن أوتروا فَإِن الله وتر يحب الْوتر) ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن وَقَوله: (أوتروا) أَمر، وَهُوَ للْوُجُوب. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ: تَخْصِيصه أهل الْقُرْآن بِالْأَمر فِيهِ يدل على أَن الْوتر غير وَاجِب، وَلَو كَانَ وَاجِبا لَكَانَ عَاما، وَأهل الْقُرْآن فِي عرف النَّاس هم الْقُرَّاء والحفاظ دون الْعَوام. قلت: أهل الْقُرْآن بِحَسب اللُّغَة يتَنَاوَل كل من مَعَه شَيْء من الْقُرْآن وَلَو كَانَ آيَة، فَيدْخل فِيهِ الْحفاظ وَغَيرهم، على أَن الْقُرْآن كَانَ فِي زَمَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مفرقا بَين الصَّحَابَة: وَبِهَذَا التَّأْوِيل الْفَاسِد لَا يبطل مُقْتَضى الْأَمر الدَّال على الْوُجُوب، وَلَا سِيمَا تَأَكد الْأَمر بالوتر بمحبة الله إِيَّاه بقوله: (فَإِن الله وتر يحب الْوتر) .
وَمِنْهَا: مَا أخرجه الطَّحَاوِيّ قَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة وَاللَّيْث عَن يزِيد ابْن أبي حبيب عَن عبد الله بن رَاشد عَن عبد الله بن أبي مرّة: عَن خَارِجَة بن حذافة الْعَدوي، أَنه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِن الله قد أمدكم بِصَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم، مَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر الْوتر الْوتر، مرَّتَيْنِ) وَهَذَا سَنَد صَحِيح. فَإِن قلت: كَيفَ تَقول: صَحِيح، وَفِيه ابْن لَهِيعَة وَفِيه مقَال؟ قلت: ذكر ابْن لَهِيعَة فِي هَذَا وَعدم ذكره سَوَاء، والعمدة على اللَّيْث بن سعد، وَلِهَذَا أخرجه التِّرْمِذِيّ وَلم يذكر ابْن لَهِيعَة، فَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث بن سعد عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عبد الله بن رَاشد الزرقي (عَن خَارِجَة بن حذافة، قَالَ: خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (إِن الله أمدكم بِصَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم: الْوتر، جعله الله لكم فِيمَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى أَن يطلع الْفجْر) . وَقَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث خَارِجَة بن حذافة حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إلاّ من حَدِيث يزِيد بن أبي حبيب، وَقد وهم بعض الْمُحدثين فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ عبد الله بن رَاشد الزرقي: وَهُوَ وهم. وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ لِتَفَرُّد التَّابِعِيّ من الصَّحَابِيّ قلت: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن خَارجه تفرد عَنهُ ابْن أبي مرّة، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أَبَا عبيد الله مُحَمَّد بن الرّبيع الجيزي فِي (كتاب الصَّحَابَة) تأليفه، روى عَنهُ أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن جُبَير، قَالَ: وَلم يرو عَنهُ غير أهل مصر، وَقَالَ أَبُو زيد فِي (كتاب الْأَسْرَار) : هُوَ حَدِيث مَشْهُور، وَلما أخرجه أَبُو دَاوُد سكت عَنهُ، وَمن عَادَته إِذا سكت عَن حَدِيث أخرجه يدل على صِحَّته عِنْده وَرضَاهُ بِهِ، فَإِن قلت: أعل ابْن الْجَوْزِيّ فِي التَّحْقِيق هَذَا الحَدِيث بِعَبْد الله بن رَاشد، وَنقل عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه ضعفه، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا نَعْرِف لإسناد هَذَا الحَدِيث سَماع بَعضهم من بعض. قلت: عبد الله بن رَاشد وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ أخرج حَدِيثه هَذَا وَلم يتَعَرَّض إِلَيْهِ بِشَيْء، وَإِنَّمَا تعرض للْحَدِيث الَّذِي أخرجه عَن ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا مُحَمَّد بن خلف حَدثنَا أَبُو يحيى الْحمانِي عبد الحميد حَدثنَا النَّضر أَبُو عمر عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَيْهِم يرى الْبشر وَالسُّرُور فِي وَجهه، فَقَالَ: إِن الله أمدكم بِصَلَاة وَهِي الْوتر) . النَّضر أَبُو عمر الخراز ضَعِيف، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا يُقَوي حَدِيث خَارِجَة الْمَذْكُور ويزيده قُوَّة فِي صِحَّته. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ. قَوْله: (أمدكم بِصَلَاة) ، يدل على أَنَّهَا غير لَازِمَة لَهُم، وَلَو كَانَت وَاجِبَة لخرج الْكَلَام فِيهِ على صِيغَة لفظ الْإِلْزَام، فَيَقُول: ألزمكم، أَو: فرض عَلَيْكُم أَو نَحْو ذَلِك وَقد روى أَيْضا فِي الحَدِيث: (إِن الله قد زادكم صَلَاة لم تَكُونُوا تصلونها قبل ذَلِك على تِلْكَ الصُّورَة والهيئة وَهِي الْوتر) . قلت: لَا نسلم أَن قَوْله: (أمدكم بِصَلَاة) ، يدل على أَنَّهَا غير لَازِمَة، بل يدل على أَنَّهَا لَازِمَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نسب ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، فَلَا يكون ذَلِك إلاّ وَاجِبا. وَتَعْيِين الْعبارَة لَيْسَ بِشَرْط فِي الْوُجُوب قَوْله: وَمَعْنَاهُ

(7/12)


الزِّيَادَة فِي النَّوَافِل غير صَحِيح، لِأَن الزِّيَادَة عَن الله تَعَالَى لَا تكون نفلا، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا كَانَ من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَرْط عدم الْمُوَاظبَة.
وَمِنْهَا حَدِيث أبي بصرة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، واسْمه: حميل بن بصرة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم، وَقيل: جميل، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الْمِيم، قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا يَصح. قَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمقري حَدثنَا ابْن لَهِيعَة أَن أَبَا تَمِيم عبد الله بن مَالك الجيشاني أخبرهُ أَنه سمع عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول: أَخْبرنِي رجل من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِن الله قد زادكم صَلَاة فصلوها فِيمَا بَين الْعشَاء إِلَى صَلَاة الصُّبْح: الْوتر، أَلا وَإنَّهُ أَبُو بصرة الْغِفَارِيّ، قَالَ أَبُو تَمِيم: فَكنت أَنا وَأَبُو ذَر قَاعِدين. .) الحَدِيث، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير: نَحوه، وَعبد الله بن لَهِيعَة ثِقَة عِنْد أَحْمد والطَّحَاوِي.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عمر وَأخرجه أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله زادكم صَلَاة فحافظوا عَلَيْهَا وَهِي الْوتر) ، فَقَالَ عَمْرو بن شُعَيْب: نرى أَن يُعَاد الْوتر وَلَو بعد شهر.
وَمِنْهَا حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه أَبُو دَاوُود وَقد ذَكرْنَاهُ وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنهُ وَقد ذَكرْنَاهُ.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة أخرجه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب الْأَسْرَار) أَنَّهَا قَالَت: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أوتروا يَا أهل الْقُرْآن، فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من نَام عَن وتر أَو نَسيَه فليصله إِذا أصبح أَو ذكره) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وَنقل تَصْحِيحه ابْن الْحصار أَيْضا عَن شَيْخه، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن الله وتر يحب الْوتر فأوتروا يَا أهل الْقُرْآن، فَقَالَ أَعْرَابِي: مَا تَقول؟ فَقَالَ: لَيْسَ لَك ولأصحابك) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث معَاذ بن جبل أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة عبيد الله بن زحر عَن عبد الرحمن بن رَافع التنوخي قَاضِي أفريقية أَن معَاذ بن جبل قدم الشَّام وَأهل الشَّام لَا يوترون، فَقَالَ: وواجب ذَلِك عَلَيْهِم؟ قَالَ: نعم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (زادني رَبِّي، عز وَجل، صَلَاة وَهِي الْوتر فِيمَا بَين الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر) . قلت: عبيد الله بن زحر ضَعِيف جدا، وَمُعَاوِيَة لم يتأمر فِي حَيَاة معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بَرزَة أخرجه أَبُو عمر فِي (الاستذكار) عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) : بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْوتر حق وَاجِب) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث سُلَيْمَان بن صرد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استاكوا وتنظفوا وأوتروا فَإِن الله وتر يحب الْوتر) . وَفِي سَنَده إِسْمَاعِيل بن عَمْرو، وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَضَعفه الدَّارَقُطْنِيّ. حَدِيث عقبَة بن عَامر وَعَمْرو بن الْعَاصِ فأخرجهما الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِمَا عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله زادكم صَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم: الْوتر، وَهِي فِيمَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله ابْن أبي أوفى أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) من رِوَايَة أَحْمد بن مُصعب: حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى حَدثنَا أَبُو حنيفَة عَن أبي يَعْفُور عَن عبد الله بن أبي أوفى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِن الله زادكم صَلَاة وَهِي الْوتر) .

5 - (بابُ الوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوتر على الدَّابَّة، وَلم يلْزم بِبَيَان حكمه اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَالْمرَاد من الدَّابَّة هُنَا دَابَّة يركب عَلَيْهَا.

999 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ أبي بَكْرِ بنِ عُمَرَ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَبْدِ الله ابنِ عُمَرَ بن الخَطَّابِ عنْ سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ أنَّهُ قَالَ كُنْتُ أسيرُ مَعَ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ سَعِيدٌ فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نزَلْتُ فأوْتَرْتُ ثُمَّ لَحِقْتُهِ فقالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ أيْنَ كُنْتَ

(7/13)


فَقُلْتُ خَشِيتُ الصُّبْحَ فنَزَلْتُ فأوْتَرْتُ فَقَالَ عَبْدُ الله ألَيْسَ لَكَ فِي رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَقُلْتُ بَلَى وَالله قَالَ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُوتِرُ عَلَى البَعِيرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (كَانَ يُوتر على الْبَعِير) ، وَهُوَ بَين حكم التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا كَانَت مُبْهمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي إويس، وَاسم أبي أويس عبد الله وَهُوَ ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: أَبُو بكر بن عمر، لَا يعرف اسْمه، وَقَالَ ابْن حبَان: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ لَا يُسمى. الرَّابِع: سعيد بن يسَار ضد الْيَمين أَبُو الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الأولى، من عُلَمَاء الْمَدِينَة، مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَة. الْخَامِس: عبد الله ابْن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن أَبَا بكر لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَكَذَلِكَ فِي (صَحِيح مُسلم) وَفِيه: أَن أَبَا بكر قيل فِيهِ إِنَّه ابْن عَبَّاس بن عبد الرَّحْمَن بِإِسْقَاط عمر بَينهمَا، وَالصَّحِيح إثْبَاته.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أَحْمد بن سِنَان عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خشيت الصُّبْح) ، أَي: طلوعه. قَوْله: (أُسوة) بِكَسْر الْهمزَة وَضمّهَا، مَعْنَاهُ: الِاقْتِدَاء. قَوْله: (حَسَنَة) بِالرَّفْع صفة للأسوة. قَوْله: (بلَى وَالله) تَأْكِيد لِلْأَمْرِ الَّذِي أَرَادَهُ. قَوْله: (على الْبَعِير) الْبَعِير: الْجمل الْبَاذِل، وَقيل: الْجذع، وَقد تكون للْأُنْثَى. وَحكي عَن بعض الْعَرَب: شربت من لبن بَعِيري، وصرعتني بعير لي. وَفِي (الْجَامِع) : الْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان يجمع الْمُذكر والمؤنث من النَّاس إِذا رَأَيْت جملا على الْبعد قلت: هَذَا بعير، فَإِذا استثبته قلت: جمل أَو نَاقَة. وَتجمع على أَبْعِرَة وأباعرة. وأباعير وبعران وبعران فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بالدابة، وَفِي الحَدِيث لفظ: الْبَعِير قلت: ترْجم بهَا تَنْبِيها على أَن لَا فرق بَينهَا وَبَين الْبَعِير فِي الحكم، وَالْجَامِع بَينهمَا أَن الْفَرْض لَا يجزىء على وَاحِدَة مِنْهُمَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ عَطاء وَابْن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَسَالم بن عبد الله وَنَافِع مولى ابْن عمر وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: على أَن للْمُسَافِر أَن يُصَلِّي الْوتر على دَابَّته. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن عجلَان عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه صلى على رَاحِلَته فأوتر عَلَيْهَا، وَقَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر على رَاحِلَته، ويروى ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَكَانَ مَالك يَقُول: لَا يُصَلِّي على الرَّاحِلَة إِلَّا فِي سفر يقصر فِيهِ الصَّلَاة، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ: قصير السّفر وطويله فِي ذَلِك سَوَاء، يُصَلِّي على رَاحِلَته. وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : ويوتر الْمَرْء قَائِما وَقَاعِدا لغير عذر إِن شَاءَ، وعَلى دَابَّته. وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: عَن عُرْوَة بن الزبير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يجوز الْوتر إلاّ على الأَرْض، كَمَا فِي الْفَرَائِض، ويروى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله فِي رِوَايَة ذكرهَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) . وَقَالَ الثَّوْريّ: صل الْفَرْض وَالْوتر بِالْأَرْضِ، وَإِن أوترت على راحلتك فَلَا بَأْس، وَاحْتج أهل الْمقَالة الثَّانِيَة بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يزِيد بن سِنَان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم، قَالَ: حَدثنَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته ويوتر بِالْأَرْضِ، وَيَزْعُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك كَانَ يفعل) . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَهُوَ خلاف حَدِيث الْبَاب، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن أبي بكرَة، بكار القَاضِي، عَن عُثْمَان بن عمر وَبكر بن بكار، كِلَاهُمَا عَن عمر بن ذَر (عَن مُجَاهِد: أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر على بعيره أَيْنَمَا توجه بِهِ، فَإِذا كَانَ فِي السّفر نزل فأوتر) . رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا هشيم، قَالَ: حَدثنَا حُصَيْن (عَن مُجَاهِد، قَالَ: صَحِبت ابْن عمر من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَكَانَ يُصَلِّي على دَابَّته حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ، فَإِذا كَانَت الْفَرِيضَة نزل فصلى) . وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعيد بن جُبَير (أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته تَطَوّعا، فَإِذا أَرَادَ أَن يُوتر نزل فأوتر على الأَرْض) . وَحَدِيث حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان يدل على شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا فعل ابْن عمر إِنَّه كَانَ يُوتر بِالْأَرْضِ، وَالْآخر أَنه روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يفعل كَذَلِك، وَحَدِيث الْبَاب كَذَلِك يدل على الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورين فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال للطائفتين بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين غير أَن لأهل الْمقَالة الثَّانِيَة أَن يَقُولُوا: إِن ابْن عمر

(7/14)


يحْتَمل أَنه كَانَ لَا يرى بِوُجُوب الْوتر، وَكَانَ الْوتر عِنْده كَسَائِر التطوعات، فَيجوز فعله على الدَّابَّة وعَلى الأَرْض، لِأَن صلَاته إِيَّاه على الأَرْض لَا يَنْفِي أَن يكون لَهُ أَن يُصَلِّي على الرَّاحِلَة. وَأما إيتاره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الرَّاحِلَة فَيجوز أَن يكون ذَلِك قبل أَن يلفظ امْر الْوتر ثمَّ أحكم من بعد وَلم يرخص فِي تَركه، فالتحق بالواجبات فِي هَذَا الْأَمر بالأحاديث الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي الْبَاب السَّابِق، وَوجه النّظر وَالْقِيَاس أَيْضا يَقْتَضِي عدم جَوَازه على الرَّاحِلَة، بَيَان ذَلِك أَن الأَصْل الْمُتَّفق عدم جَوَاز صَلَاة الرجل وتره على الأَرْض قَاعِدا، وَهُوَ يقدر على الْقيام، فالنظر على ذَلِك أَن لَا يصليه فِي السّفر على رَاحِلَته وَهُوَ يُطيق النُّزُول. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَمن هَذِه الْجِهَة عِنْدِي ثَبت نسخ الْوتر على الرَّاحِلَة. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ فِي ذَلِك وَمَا وَجهه؟ قلت: وَجه ذَلِك أَن يكون بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للْمَنْع وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة، فَإِن التَّعَارُض بَين الْحَدِيثين الْمَذْكُورين ظَاهر، ثمَّ يَنْتَفِي ذَلِك بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون النَّص الْمُوجب للْمَنْع مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة، فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى وأحق. فَإِن قلت: كَيفَ يكون النّسخ بِمَا ذكرت وَقد صَحَّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُوتر على رَاحِلَته بعد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَقُول: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يفعل ذَلِك؟ قلت: قد قُلْنَا: إِنَّه كَانَ يجوز أَن يكون الْوتر عِنْده كالتطوع، فَحِينَئِذٍ يكون لَهُ الْخِيَار فِي الصَّلَاة على الرَّاحِلَة وعَلى الأَرْض كَمَا فِي التَّطَوُّع، على أَن مُجَاهدًا قد روى عَنهُ أَنه كَانَ ينزل للوتر، على مَا ذكرنَا، فعلى هَذَا يجوز أَن يكون مَا فعله من وتره على الرَّاحِلَة قبل علمه بالنسخ، ثمَّ لما علمه رَجَعَ إِلَيْهِ وَترك الْوتر على الرَّاحِلَة، وَبِهَذَا التَّقْرِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ بَطل مَا قَالَه ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أَي: حَدِيث الْبَاب حجَّة على أبي حنيفَة فِي إِيجَابه الْوتر، لِأَنَّهُ لَا خلاف أَنه لَا يجوز أَن يُصَلِّي الْوَاجِب رَاكِبًا فِي غير حَال الْعذر، وَلَو كَانَ الْوتر وَاجِبا مَا صلاه رَاكِبًا، وَكَذَلِكَ بَطل مَا قَالَه الْكرْمَانِي. فَإِن قيل: روى مُجَاهِد أَن ابْن عمر نزل فأوتر قُلْنَا: نزل طلبا للأفضل، لَا أَن ذَلِك كَانَ وَاجِبا، وَبَطل أَيْضا مَا قَالَه بَعضهم: إِن هَذَا الحَدِيث يدل على كَون الْوتر نفلا، فيا للعجب من هَؤُلَاءِ كَيفَ تركُوا الْأَحَادِيث الدَّالَّة على وجوب الْوتر، وَتركُوا الْإِنْصَاف، وسلكوا طَرِيق التعسف لترويج مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من غير برهَان قَاطع.

6 - (بابُ الوِتْرِ فِي السَّفَرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوتر فِي السّفر، قيل: إِنَّه أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من قَالَ: إِن الْوتر لَا يسن فِي السّفر. وَقَالَ ابْن بطال: الْوتر سنة مُؤَكدَة فِي السّفر والحضر، وَهَذَا رد على الضَّحَّاك فِيمَا قَالَ: إِن الْمُسَافِر لَا وتر عَلَيْهِ.

0001 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرَةُ بنُ أسمَاءٍ عنِ ابْن عُمَرَ قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِىءُ إيمَاءً صَلاَةَ اللَّيْل إلاَّ الفَرَائِضَ ويُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويوتر على رَاحِلَته) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: جوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة بِالْجِيم ابْن أَسمَاء، بِفَتْح الْهمزَة وبالمد على وزن: حَمْرَاء، مر فِي كتاب الْغسْل فِي: بَاب الْجنب يتَوَضَّأ. الثَّالِث: نَافِع مولى ابْن عمر. الرَّابِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشَيخ شَيْخه أَيْضا وَالثَّالِث مدنِي، وَهُوَ من الرباعيات، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على رَاحِلَته) الرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل، وَكَذَلِكَ الرحول، وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرَّاحِلَة من الْإِبِل: الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار والأحمال، وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء، وَالْهَاء فِيهَا للْمُبَالَغَة، وَهِي الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر،

(7/15)


فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت. قَوْله: (يومىء) جملَة فعلية مضارعية وَقعت حَالا، (وإيماءً) مَنْصُوب على المصدرية. قَوْله: (صَلَاة اللَّيْل) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: (يُصَلِّي) قَوْله: (إلاّ الْفَرَائِض) اسْتثِْنَاء مُنْقَطع أَي: لَكِن الْفَرَائِض لم تكن تصلى على الرَّاحِلَة، وَلَا يجوز أَن يكون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد اسْتثِْنَاء فَرِيضَة اللَّيْل فَقَط، إِذْ لَا تصلى فَرِيضَة أصلا على الرَّاحِلَة ليلية أَو نهارية. قَوْله: (ويوتر) عطف على قَوْله: (يُصَلِّي) ، أَرَادَ أَنه بعد فَرَاغه من صَلَاة اللَّيْل يُوتر على رَاحِلَته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: احْتج بِهِ قوم على جَوَاز صَلَاة الْوتر على الرَّاحِلَة فِي السّفر، وَمنعه آخَرُونَ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى فِي الْبَاب السَّابِق. الثَّانِي: تجوز صَلَاة النَّفْل على الرَّاحِلَة بِالْإِيمَاءِ فِي السّفر حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ دَابَّته، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَاخْتلفُوا فِي الصَّلَاة على الدَّابَّة فِي السّفر الَّذِي لَا تقصر فِي مثله الصَّلَاة، فَقَالَ جمَاعَة: يُصَلِّي فِي قصير السّفر وطويلة، وَعَن مَالك: لَا يُصَلِّي أحد على دَابَّته فِي سفر لَا تقصر فِي مثله الصَّلَاة. وَقَالَ الْقَدُورِيّ: وَمن كَانَ خَارج الْمصر يتَنَفَّل على دَابَّته. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَالتَّقْيِيد بِخَارِج الْمصر يَنْفِي اشْتِرَاط السّفر، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون سفرا أَو غير سفر، وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أَن جَوَاز التَّطَوُّع على الدَّابَّة، للْمُسَافِر خَاصَّة، وَالصَّحِيح أَن الْمُسَافِر وَغَيره سَوَاء بعد أَن يكون خَارج الْمصر، وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار الْبعد عَن الْمصر، وَالْمَذْكُور فِي الأَصْل مِقْدَار فرسخين أَو ثَلَاثَة، وَقدر بَعضهم بالميل وَمنع الْجَوَاز فِي أقل مِنْهُ، وَعند الشَّافِعِي: يجوز فِي طَوِيل السّفر وقصيره. الثَّالِث: لَا تجوز صَلَاة الْفَرْض على الدَّابَّة بِلَا ضَرُورَة، وَفِي (خُلَاصَة الفتاوي) : أما صَلَاة الْفَرْض على الدَّابَّة بالعذر فجائزة، وَمن الْأَعْذَار: الْمَطَر، عَن مُحَمَّد: إِذا كَانَ الرجل فِي السّفر فأمطرت السَّمَاء فَلم يجد مَكَانا يَابسا ينزل للصَّلَاة فَإِنَّهُ يقف على الدَّابَّة مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَيُصلي بِالْإِيمَاءِ إِذا أمكنه إيقاف الدَّابَّة، فَإِن لم يُمكنهُ يُصَلِّي مستدبر الْقبْلَة، وَهَذَا إِذا كَانَ الطين بِحَال يغيب وَجهه فِيهِ، وإلاّ صلى هُنَاكَ. وَمن الْأَعْذَار: اللص وَالْمَرَض وَكَونه شَيخا كَبِيرا لَا يجد من يركبه إِذا نزل، وَالْخَوْف من السَّبع. وَفِي (الْمُحِيط) : تجوز الصَّلَاة على الدَّابَّة فِي هَذِه الْأَحْوَال وَلَا تلْزمهُ الْإِعَادَة بعد زَوَال الْعذر، وَحكم السّنَن الرَّوَاتِب كَحكم التَّطَوُّع، وَعَن أبي حنيفَة: أَنه ينزل لسنة الْفجْر، وَلِهَذَا لَا يجوز فعلهَا قَاعِدا عِنْده لكَونهَا وَاجِبَة عِنْده فِي رِوَايَة، وَعَن الشَّافِعِي وَأحمد أَنَّهَا آكِد من الْوتر. الرَّابِع: قَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِحَدِيث الْبَاب على أَن الْوتر لَيْسَ بِفَرْض، وعَلى أَنه لَيْسَ من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجوب الْوتر عَلَيْهِ قلت: نَحن أَيْضا نقُول: إِنَّه لَيْسَ بِفَرْض، وَلكنه وَاجِب للدلائل الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَمن لم يفرق بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب فقد صادم اللُّغَة، وَالْمعْنَى اللّغَوِيّ مراعى فِي الْمَعْنى الشَّرْعِيّ، وَقد مر فِي حَدِيث أبي قَتَادَة التَّصْرِيح بِالْوُجُوب، وَفِي (موطأ مَالك) : أَنه بلغه أَن ابْن عمر سُئِلَ عَن الْوتر أواجب هُوَ؟ فَقَالَ عبد الله: قد أوتر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون، وَفِيه دلَالَة ظَاهِرَة على وُجُوبه، إِذْ كَلَامه يدل على أَنه صَار سَبِيلا للْمُسلمين، فَمن تَركه فقد دخل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} (النِّسَاء: 51) . وَقَول هَذَا الْقَائِل: وعَلى أَنه لَيْسَ من خَصَائِص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وجوب الْوتر عَلَيْهِ، مَعْنَاهُ: وَاسْتدلَّ أَيْضا على أَن الْوتر لَيْسَ من خَصَائِص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قَالَ ابْن عقيل: صَحَّ أَنه كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ، وَقَول الْقَرَافِيّ فِي (الذَّخِيرَة) : الْوتر فِي السّفر لَيْسَ وَاجِبا عَلَيْهِ، وَصلَاته إِيَّاه على الرَّاحِلَة كَانَت فِي السّفر قَول بِغَيْر استناد إِلَى سنة صَحِيحَة وَلَا ضَعِيفَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا نعلم فِي تَخْصِيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْوُجُوب حَدِيثا صَحِيحا. قلت: عدم علمه لَا يسْتَلْزم نفي علم غَيره، وَلَكِن نقُول: الحَدِيث الَّذِي ورد بِهِ من رِوَايَة الْحَاكِم، فِي مُسْنده أَبُو جناب يحيى بن أبي حَيَّة، وَهُوَ ضَعِيف مُدَلّس. قلت: أَبُو جناب، بِفَتْح الْجِيم وَالنُّون وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة، وَأَبُو حَيَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْكَلْبِيّ الْكُوفِي، يروي عَن ابْن عمر، روى عَنهُ ابْنه يحيى بن أبي حَيَّة.

7 - (بابُ القُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعَ وبَعْدَهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقُنُوت قبل الرُّكُوع بعد فَرَاغه من الْقِرَاءَة وَبعد الرُّكُوع أَيْضا، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه ورد فِي الْحَالين جَمِيعًا، كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَيْضا إِلَى مَشْرُوعِيَّة الْقُنُوت، ردا على من قَالَ: إِنَّه بِدعَة، كَابْن عمر. وَفِي (الْمُنْتَقى) لأبي عمر: عَن ابْن عمر وطاووس: الْقُنُوت فِي الْفجْر بِدعَة، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَيحيى بن يحيى الأندلسي.

(7/16)


وَفِي (الْمُوَطَّأ) : عَن ابْن عمر أَنه لَا يقنت فِي شَيْء من الصَّلَوَات، والقنوت ورد لمعان كَثِيرَة، وَالْمرَاد هَهُنَا الدُّعَاء إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا مُقَيّدا بالأذكار الْمَشْهُورَة نَحْو: اللَّهُمَّ اهدنا فِيمَن هديت. .

1001 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ قَالَ سُئِلَ أنَسٌ أقَنَتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصُّبْحِ قالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ قَالَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بعد الرُّكُوع يَسِيرا) ، وَهُوَ الْجُزْء الثَّانِي للتَّرْجَمَة.
وَرِجَاله كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَفِي بعض النّسخ: عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين.
قَوْله: (سُئِلَ أنس) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَن أَيُّوب عِنْد مُسلم (قلت لأنس) . قَوْله: (أقنت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فَقيل لَهُ: أوقنت؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِغَيْر وَاو، وَفِي رِوَايَة الإسماعيل: (هَل قنت؟) . قَوْله: (بعد الرُّكُوع يَسِيرا) قَالَ الْكرْمَانِي أَي: زَمَانا يَسِيرا، أَي: قَلِيلا، وَهُوَ بعد الِاعْتِدَال التَّام. وَقَالَ الطرقي: أَرَادَ يَسِيرا من الزَّمَان لَا يَسِيرا من الْقُنُوت، لِأَن أدنى الْقيام يُسمى قنوتا، فاستحال أَن يُوصف بالحقارة. وَقَالَ بَعضهم: قد بَين عَاصِم فِي رِوَايَته مِقْدَار هَذَا الْيَسِير حَيْثُ قَالَ فِيهَا: إِنَّمَا قنت بعد الرُّكُوع شهرا. قلت: رِوَايَة عَاصِم رَوَاهَا البُخَارِيّ على مَا يَجِيء عَن قريب، وَرَوَاهَا أَيْضا مُسلم فِي (صَحِيحه) : حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَأَبُو كريب قَالَا: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَاصِم (عَن أنس، قَالَ: سَأَلت عَن الْقُنُوت بعد الرُّكُوع أَو قبل الرُّكُوع؟ فَقَالَ: قبل الرُّكُوع. قَالَ: قلت: فَإِن نَاسا يَزْعمُونَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قنت بعد الرُّكُوع؟ فَقَالَ: إِنَّمَا قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على أنَاس قتلوا أُنَاسًا من أَصْحَابه يُقَال لَهُم: الْقُرَّاء) . انْتهى. فَهَذَا صَرِيح بِأَن المُرَاد من قَوْله: (يَسِيرا) يَعْنِي شهرا، وَهُوَ يرد على الْكرْمَانِي فِيمَا قَالَه. ثمَّ إعلم أَن هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن أنس من وُجُوه خلاف ذَلِك، فروى إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَنهُ أَنه قَالَ: (قنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاثِينَ صباحا يَدْعُو على رعل وذكوان وَعصيَّة) . وروى قَتَادَة عَنهُ نَحوا من ذَلِك، وروى عَنهُ حميد: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قنت عشْرين يَوْمًا. وروى عَنهُ عَاصِم: أَنه قنت شهرا وَأَنه قبل الرُّكُوع، وَقد ذَكرْنَاهُ الأن عَن مُسلم، فَهَؤُلَاءِ كلهم أخبروا عَن أنس خلاف مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن سِيرِين عَنهُ، فَلم يجز لأحد أَن يحْتَج فِي حَدِيث أنس بِأحد الْوَجْهَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَنهُ، لِأَن لخصمه أَن يحْتَج عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنهُ مِمَّا يُخَالف ذَلِك. وأصرح من ذَلِك كُله مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أنس فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة (عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قنت شهرا ثمَّ تَركه) . فَقَوله: (ثمَّ تَركه) ، يدل على أَن الْقُنُوت فِي الْفَرَائِض كَانَ ثمَّ نسخ. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ معنى قَوْله: (ثمَّ تَركه) أَي: ترك الدُّعَاء على هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل وَهِي: رعل وذكوان وَعصيَّة، أَو ترك الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات وَأَرْبع وَلم يتْركهُ فِي صَلَاة الصُّبْح. قلت: هَذَا كَلَام متحكم متعصب بِلَا تَوْجِيه وَلَا دَلِيل، فَإِن الضَّمِير فِي: تَركه، يرجع إِلَى الْقُنُوت الَّذِي يدل عَلَيْهِ لفظ قنت، وَهُوَ عَام يتَنَاوَل جَمِيع الْقُنُوت الَّذِي كَانَ فِي الصَّلَوَات، وَتَخْصِيص الْفجْر من بَينهمَا بِلَا دَلِيل من اللَّفْظ يدل عَلَيْهِ بَاطِل، وَقَوله: أَي ترك الدُّعَاء، غير صَحِيح لِأَن الدُّعَاء لم يمض ذكره، وَلَئِن سلمنَا فالدعاء هُوَ عين الْقُنُوت وَمَا ثمَّ شَيْء غَيره، فَيكون قد ترك الْقُنُوت، وَالتّرْك بعد الْعَمَل نسخ، وَقد اخْتلف الْعلمَاء هَل الْقُنُوت قبل الرُّكُوع أَو بعده؟ فمذهب أبي حنيفَة أَنه قبل الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والبراء بن عَازِب وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبيدَة السَّلمَانِي وَحميد الطَّوِيل وَابْن أبي ليلى، وَبِه قَالَ: مَالك وَإِسْحَاق وَابْن الْمُبَارك، وصحيح مَذْهَب الشَّافِعِي: بعد الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَعلي فِي قَول، وَحكى أَيْضا التَّخْيِير. قبل الرُّكُوع وَبعده، عَن أنس وَأَيوب بن أبي تَمِيمَة وَأحمد بن حَنْبَل.

2001 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا عاصِمٌ قَالَ سألْتُ أنَسَ بنَ مالكٍ عنِ القُنُوتِ فَال قَدْ كانَ القُنُوتُ قُلْتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قَالَ فإنَّ فُلانا أَخْبرنِي عَنْكَ أنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرّكُوعِ فَقَالَ كَذَبَ إنَّمَا قَنَتَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرا أُرَاهُ كانَ

(7/17)


بَعَثَ قَوما يُقَالُ لَهُمُ القُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رجُلاً إلَى قَوْمٍ مِنَ المُشْرِكِينَ دُونَ اولَئِكَ وكانَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَهْدٌ فقَنَتَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهْرا يَدْعُو عَلَيْهِمْ..
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة، وَهُوَ فِي قَوْله: (قَالَ: قبله) أَي: قبل الرُّكُوع.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، مر فِي: بَاب {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إلاّ قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 58) . الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. الرَّابِع: أنس ابْن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي تِسْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون، وَهُوَ من الرباعيات.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْجَنَائِز عَن عَمْرو بن عَليّ، وَفِي الْجِزْيَة عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل وَفِي الدَّعْوَات عَن الْحسن بن الرّبيع عَن أبي الْأَحْوَص. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن ابْن أبي عمر عَن ابْن عُيَيْنَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْقُنُوت) مُرَاده من هَذَا السُّؤَال أَن يبين لَهُ مَحل الْقُنُوت، وَلِهَذَا قَالَ: (قلت: قبل الرُّكُوع أَو بعده) أَي: بعد الرُّكُوع، فَظن أنس أَنه كَانَ يسْأَل عَن مَشْرُوعِيَّة الْقُنُوت، فَلذَلِك قَالَ: قد كَانَ الْقُنُوت، يَعْنِي: كَانَ مَشْرُوعا. قَوْله: (قلت: فَإِن فلَانا) ويروى: (قَالَ: فَإِن فلَانا) لم يعلم من هُوَ هَذَا الفلان، قيل: يحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن سِيرِين، لِأَن فِي الحَدِيث السَّابِق: سَأَلَ مُحَمَّد بن سِيرِين أنسا، فَقَالَ: أوقنت قبل الرُّكُوع؟ . قَوْله: (قَالَ: كذب) ، أَي: قَالَ أنس: كذب فلَان. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَمَا قَول الشَّافِعِيَّة حَيْثُ يقنتون بعد الرُّكُوع مُتَمَسِّكِينَ بِحَدِيث أنس الْمَذْكُور؟ وَقد قَالَ الأصوليون: إِذا كذب الأَصْل الْفَرْع لَا يعْمل بذلك الحَدِيث وَلَا يحْتَج بِهِ؟ قلت: لم يكذب أنس مُحَمَّد بن سِيرِين، بل كذب فلَانا الَّذِي ذكره عَاصِم، وَلَعَلَّه غير مُحَمَّد. انْتهى. قلت: قد تعسف الْكرْمَانِي فِي هَذَا التَّصَرُّف، بل معنى قَوْله: (كذب) : أَي: أَخطَأ، وَهِي لُغَة أهل الْحجاز، يطلقون الْكَذِب على مَا هُوَ الْأَعَمّ من الْعمد وَالْخَطَأ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (النِّهَايَة) : وَمِنْه حَدِيث (صَلَاة الْوتر: كذب أَبُو مُحَمَّد) أَي: أَخطَأ، سَمَّاهُ كذبا لِأَنَّهُ يُشبههُ فِي كَونه ضد الصَّوَاب، كَمَا أَن الْكَذِب ضد الصدْق وَإِن افْتَرقَا من حَيْثُ النِّيَّة وَالْقَصْد، لِأَن الْكَاذِب يعلم أَن مَا يَقُوله كذب والمخطىء لَا يعلم، وَهَذَا الرجل لَيْسَ بمخبر، وَإِنَّمَا قَالَه بِاجْتِهَاد أَدَّاهُ إِلَى أَن الْوتر وَاجِب، وَالِاجْتِهَاد لَا يدْخلهُ الْكَذِب، وَإِنَّمَا يدْخلهُ الْخَطَأ، وَأَبُو مُحَمَّد صَحَابِيّ، واسْمه مَسْعُود بن زيد، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: مَسْعُود بن زيد ابْن سبيع اسْم أبي مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْقَائِل بِوُجُوب الْوتر. قَوْله: (إِنَّمَا قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الرُّكُوع شهرا) كلمة: إِنَّمَا، للحصر، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَن قنوته بعد الرُّكُوع كَانَ محصورا على الشَّهْر، وَالْمَفْهُوم مِنْهُ أَنه لم يقنت بعد الرُّكُوع إلاّ شهرا ثمَّ تَركه، وتعسف الْكرْمَانِي لتمشية مذْهبه، وَأخرج الْكَلَام عَن مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ حَيْثُ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنه لم يقنت إلاّ شهرا فِي جَمِيع الصَّلَوَات بعد الرُّكُوع، بل فِي الصُّبْح فَقَط، حَتَّى لَا يلْزم التَّنَاقُض بَين كلاميه، وَيكون جمعا بَينهمَا. انْتهى. قلت: لَا نسلم التَّنَاقُض لِأَن قنوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الرُّكُوع شهرا كَانَ على قوم من الْمُشْركين، على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله، ثمَّ تَركه، وَالتّرْك يدل على النّسخ. قَوْله: (أرَاهُ كَانَ؟) أَي: قَالَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَظن أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ بعث قوما يُقَال لَهُم الْقُرَّاء، وهم طَائِفَة كَانُوا من أوزاع النَّاس، نزلُوا صفة يتعلمون الْقُرْآن، بَعثهمْ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى أهل نجد لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وليقرأوا عَلَيْهِم الْقُرْآن، فَلَمَّا نزلُوا بِئْر مَعُونَة قصدهم عَامر بن الطُّفَيْل فِي أَحيَاء، وهم: رعل وذكوان وَعصيَّة، وقاتلوهم فَقَتَلُوهُمْ وَلم ينج مِنْهُم إلاّ كَعْب بن زيد الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ ذَلِك فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَأغْرب مَكْحُول حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا كَانَت بعد الخَنْدَق، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: فَأَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: بعد أحد بَقِيَّة شَوَّال وَذي الْقعدَة وَذي الْحجَّة وَالْمحرم، ثمَّ بعث أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة فِي صفر على رَأس أَرْبَعَة أشهر من أحد، قَالَ مُوسَى بن عقبَة: وَكَانَ أَمِير الْقَوْم الْمُنْذر بن عَمْرو، وَيُقَال: مرْثَد بن أبي مرْثَد، وَقَالَ ابْن سعد: قدم أَبُو برَاء عَامر بن مَالك بن جَعْفَر الْكلابِي ملاعب الأسنة، وَفِي شعر لبيد: ملاعب الرماح، فأهدى للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يقبل مِنْهُ، وَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام وَلم يسلم وَلم يبعد من

(7/18)


الْإِسْلَام. وَقَالَ: يَا مُحَمَّد لَو بعثت معي رجَالًا من أَصْحَابك إِلَى أهل نجد رَجَوْت أَن يَسْتَجِيبُوا لَك؟ فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنِّي أخْشَى عَلَيْهِم أهل نجد، قَالَ: أَنا لَهُم جَار إِن تعرض لَهُم أحد، فَبعث مَعَهم الْقُرَّاء وهم سَبْعُونَ رجلا. وَفِي مُسْند السراج: أَرْبَعُونَ. وَفِي المعجم: ثَلَاثُونَ، سِتَّة وَعِشْرُونَ من الْأَنْصَار، وَأَرْبَعَة من الْمُهَاجِرين، وَكَانُوا يسمون الْقُرَّاء، يصلونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى إِذا تقَارب الصُّبْح احتطبوا الْحَطب واستعذبوا المَاء فوضعوه على أَبْوَاب حجر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فبعثهم جَمِيعًا وَأمر عَلَيْهِم الْمُنْذر بن عمر وأخا بني سَاعِدَة الْمَعْرُوف: بالمعتق ليَمُوت أَي: يقدم على الْمَوْت، فسارعوا حَتَّى نزلُوا بِئْر مَعُونَة، بالنُّون، فَلَمَّا نزلوها بعثوا حرَام بن ملْحَان بِكِتَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى عَدو الله عَامر بن الطُّفَيْل، فَلَمَّا أَتَاهُ لم ينظر فِي كِتَابه حَتَّى عدا على الرجل فَقتله، ثمَّ اجْتمع عَلَيْهِ قبائل من سليم عصية وذكوان ورعل، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أخذُوا سيوفهم ثمَّ قاتلوهم حَتَّى قتلوا عَن آخِرهم إلاّ كَعْب بن زيد فَإِنَّهُم تَرَكُوهُ وَبِه رَمق، فَعَاشَ حَتَّى قتل يَوْم الخَنْدَق، شَهِيدا، وَكَانَ فِي الْقَوْم عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، فَأخذ أَسِيرًا فَلَمَّا، أخْبرهُم أَنهم من مُضر أَخذه عَامر بن الطُّفَيْل فجز ناصيته وَأعْتقهُ، فَبلغ ذَلِك أَبَا برَاء، فشق عَلَيْهِ ذَلِك، فَحمل ربيعَة بن أبي برَاء على عَامر بن الطُّفَيْل فطعنه بِالرُّمْحِ فَوَقع فِي فَخذه وَوَقع عَن فرسه. قَوْله: (زهاء) ، بِضَم الزاء وَتَخْفِيف الْهَاء وبالمد: أَي: مِقْدَار سبعين رجلا. قَوْله: (دون أُولَئِكَ) يَعْنِي: غير الَّذين دَعَا عَلَيْهِم، وَكَانَ بَين الْمَدْعُو عَلَيْهِم وَبَينه عهد فغدروا وَقتلُوا الْقُرَّاء فَدَعَا عَلَيْهِم. قَوْله: (شهرا) أَي: فِي شهر، فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِي: التَّصْرِيح عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن الْقُنُوت قبل الرُّكُوع، وَأَنه حِين سَأَلَهُ عَاصِم قَالَ: قبل الرُّكُوع، وَأنكر على من نقل عَنهُ أَنه بعد الرُّكُوع وَنسبه إِلَى الْكَذِب، وَقَالَ: لم يقنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الرُّكُوع إلاّ فِي شهر وَاحِد يَدْعُو على قتلة الْقُرَّاء الْمَذْكُورين. فَإِن قلت: حَدِيث أنس الْمَذْكُور فِي الْبَاب فِي مُطلق الصَّلَاة، وَيدل عَلَيْهِ مَا روى عَاصِم أَيْضا، عَن أنس أَنه قَالَ: سَأَلت أنسا عَن الْقُنُوت فِي الصَّلَاة؟ أَي: مُطلق الصَّلَاة، وَالْمرَاد مِنْهُ جَمِيع الصَّلَوَات الْفَرْض، وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: قنت رَسُول الله ت شهرا مُتَتَابِعًا فِي الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَالصُّبْح فِي دبر كل صَلَاة إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ، وَلَيْسَ فِي حَدِيث أنس مَا يدل على أَنه قنت فِي الْوتر. قلت: روى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي ابْن كَعْب: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُوتر فيقنت قبل الرُّكُوع) وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي الْحَوْرَاء، بِالْحَاء الْمُهْملَة: واسْمه ربيعَة بن شَيبَان، قَالَ: (قَالَ الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلِمَات أقولهن فِي الْوتر: اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت، وَعَافنِي فِيمَن عافيت، وتولني فِيمَن توليت، وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت وقني شَرّ مَا قضيت، فَإنَّك تقضي وَلَا يقْضى عَلَيْك، وَإنَّهُ لَا يذل من واليت، تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقُنُوت شَيْئا أحسن من هَذَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة سُوَيْد بن غَفلَة (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر الْوتر) . فَإِن قلت: وَفِي إِسْنَاده عَمْرو بن شمر الْجعْفِيّ، أحد الْكَذَّابين الوضاعين؟ قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يرد هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ وَالله أعلم مَا رَوَاهُ هُوَ فِي الدَّعْوَات، وَبَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام عَن عَليّ بن أبي طَالب: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول فِي آخر وتره: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عُقُوبَتك، وَأَعُوذ بك مِنْك، لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك، أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك) وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وروى النَّسَائِيّ كَمَا روى ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُوتر فيقنت قبل الرُّكُوع، وروى ابْن أبي شيبَة فِي مضفة من حَدِيث ابْن مَسْعُود.
(عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ يقنت فِي الْوتر قبل الرُّكُوع) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، بِلَفْظ: (بت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأنظر كَيفَ يقنت فِي وتره، فقنت قبل الرُّكُوع، ثمَّ بعثت أُمِّي، أم عبد، فَقلت: بَيْتِي مَعَ نِسَائِهِ فانظري كَيفَ يقنت فِي وتره، فأتتني فأخبرتني أَنه قنت قبل الرُّكُوع) . وروى مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى من الْوتر: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَة بقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَة بقل هُوَ الله أحد ويقنت) . قَالَ مُحَمَّد بن نصر، فِي رِوَايَة أُخْرَى زَاد بعد قَوْله: (ويقنت قبل الرُّكُوع. .) والْحَدِيث عِنْد النَّسَائِيّ من طرق وَلَيْسَ

(7/19)


فِي شَيْء من طرقه ذكر الْقُنُوت، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَاخْتلف أهل الْعلم فِي الْقُنُوت فِي الْوتر، فَرَأى عبد الله بن مَسْعُود الْقُنُوت فِي الْوتر فِي السّنة كلهَا، وَاخْتَارَ الْقُنُوت قبل الرُّكُوع، وَهُوَ قَول بعض أهل الْعلم، وَبِه يَقُول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَإِسْحَاق. انْتهى. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (المُصَنّف) من رِوَايَة الْأسود عَنهُ أَنه: كَانَ يخْتَار الْقُنُوت فِي الْوتر فِي السّنة كلهَا قبل الرُّكُوع، وروى أَيْضا من رِوَايَة عَلْقَمَة أَن ابْن مَسْعُود وَأَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يقنتون فِي الْوتر قبل الرُّكُوع، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر عَن ابْن مَسْعُود وَعمر أَيْضا من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي، وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن نصر من رِوَايَة الْأسود عَن عمر، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنْهُمَا وَعَن عَليّ وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والبراء بن عَازِب وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبيدَة السَّلمَانِي وَحميد الطَّوِيل وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وروى السراج: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا مُحَمَّد بن بشر عَن الْعَلَاء بن صَالح حَدثنَا زيد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى أَنه سَأَلَهُ عَن الْقُنُوت فِي الْوتر؟ فَقَالَ: حَدثنَا الْبَراء بن عَازِب قَالَ: سنة مَاضِيَة. وَفِي (المُصَنّف) وَقَالَ إِبْرَاهِيم: كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُنُوت بعد مَا فرغ من الْقِرَاءَة فِي الْوتر، وَكَانَ سعيد بن جُبَير يَفْعَله حَدثنَا وَكِيع عَن هَارُون بن أبي إِبْرَاهِيم عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول فِي قنوت الْوتر: لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات السَّبع وَحدثنَا وَكِيع عَن الْحسن بن صَالح عَن مَنْصُور عَن شيخ يكنى أَبَا مُحَمَّد أَن الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ يَقُول فِي قنوت الْوتر: اللَّهُمَّ إِنَّك ترى وَلَا تُرى، وَأَنت بالمنظر الْأَعْلَى وَأَن إِلَيْك الرجعى، وَأَن لَك الْآخِرَة وَالْأولَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من أَن نذل ونخزى، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ كُله يدل على أَن لَا قنوت فِي شَيْء من الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة، إِنَّمَا الْقُنُوت فِي الْوتر قبل الرُّكُوع.

3001 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زَائِدَةُ عنِ التَّيْمِيِّ عَن أبي مِجْلَزٍ عنْ أنَسٍ قَالَ قَنَتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهْرا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وذَكْوَانَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقُنُوت، كَمَا فِي الحَدِيث السَّابِق، وَهُوَ فِي نفس الْأَمر من ذَلِك الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي. الثَّانِي: زَائِدَة بن قدامَة أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم. وَقيل: بِفَتْحِهَا وَسُكُون الْجِيم وَفتح اللَّام، وَفِي آخِره زَاي: واسْمه لَاحق بن حميد السدُوسِي الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مَنْسُوب إِلَى جده. وَفِيه: أَن أحد الروَاة مَذْكُور بنسبته. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما: سُلَيْمَان ولاحق، وَسليمَان أَيْضا يروي عَن أنس بِلَا وَاسِطَة، وَهنا روى عَنهُ بِوَاسِطَة. وَفِيه: أَن الإثنان الْأَوَّلَانِ من الروَاة كوفيان والإثنان الْآخرَانِ بصريان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد هُوَ ابْن مقَاتل عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى، أربعتهم عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، ثَلَاثَتهمْ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على رعل) ، ورعل ورعلة جَمِيعًا قَبيلَة بِالْيمن، وَقيل: هم من سليم، قَالَه ابْن سَيّده. وَفِي (الصِّحَاح) رعل، بِالْكَسْرِ، وذكوان، قبيلتان من سليم، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: رعل من الرَّعْلَة وَهِي: النَّخْلَة الطَّوِيلَة، وَالْجمع: رعال، وَهُوَ رد لما قَالَه ابْن التِّين، ضبط بِفَتْح الرَّاء، وَالْمَعْرُوف أَنه بِكَسْرِهَا، وَهُوَ فِي ضبط أهل اللُّغَة بِفَتْحِهَا، وَقَالَ الرشاطي: هُوَ رعل بن مَالك بن عَوْف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة بن سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس غيلَان بن مُضر. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي (الْوَلَد) : وَلَا أعلم فِي رعل وَعصيَّة صاحبا لَهُ رِوَايَة صَحِيحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعصيَّة هُوَ: ابْن خفاف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة بن سليم، ذكره أَبُو عَليّ الهجري فِي (نوادره) وذكوان، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْكَاف وَبعد الْألف نون، وَقد ذكرنَا أَنه قَبيلَة من سليم بِضَم السِّين الْمُهْملَة، وَقَالَ الرشاطي: ذكْوَان بن ثَعْلَبَة بن بهثة بن سليم، مِنْهُم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

(7/20)


أَبُو عمر وَصَفوَان بن الْمُعَطل بن وبيصة بن المؤمل بن خزاعي بن محَارب بن هِلَال بن فالج بن ذكْوَان السّلمِيّ الذكواني، كَذَا نسبه ابْن الْكَلْبِيّ، وَعصيَّة بن خفاف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة بن سليم، مِنْهُم: بدر بن عمار بن مَالك بن يقظة بن عصية، وَالنّسب إِلَى عصية: عصوي.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن قنوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي غير الْوتر كَانَ دُعَاء على الْمُشْركين، وَأَنه إِنَّمَا قنت شهرا ثمَّ تَركه.

4001 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ قَالَ كانَ القُنُوتُ فِي المَغْرِبِ والفَجْرِ.
(انْظُر الحَدِيث 897) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الْحَدِيثين السَّابِقين.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وخَالِد هُوَ الْحذاء، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: هُوَ عبد الله بن زيد الْجرْمِي.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون بِغَيْر نِسْبَة وَوَاحِد بكنيته. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي، وَشَيخ شَيْخه واسطي، وَالثَّالِث بَصرِي وَالرَّابِع شَامي.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن أبي الْأسود عَن ابْن علية، وَاحْتج الشَّافِعِي بِهَذَا الحَدِيث فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من الْقُنُوت فِي صَلَاة الْفجْر، وَاحْتج أَيْضا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْبَراء: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح، زَاد ابْن معَاذ: وَصَلَاة الْمغرب. وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مُشْتَمِلًا على الصَّلَاتَيْنِ وَاحْتج أَيْضا بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الرَّاوِي عَن الرّبيع بن أنس (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا) . وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) وَلَفظه: (عَن الرّبيع بن أنس قَالَ: قَالَ رجل لأنس بن مَالك: أقنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب؟ قَالَ: فزجره أنس، وَقَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت فِي صَلَاة الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا) . وَفِي (الْخُلَاصَة) للنووي: صَححهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) . وَقَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : على التَّحْقِيق هَذَا الحَدِيث أَجود أَحَادِيثهم، وَذكر جمَاعَة وثقوا أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ وَله طرق فِي كتاب الْقُنُوت لأبي مُوسَى الْمَدِينِيّ. قَالَ: وَإِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على أَنه مَا زَالَ يقنت فِي النَّوَازِل، أَو على أَنه مَا زَالَ يطول فِي الصَّلَاة، فَإِن الْقُنُوت لفظ مُشْتَرك بَين الطَّاعَة وَالْقِيَام والخشوع وَالسُّكُوت وَغير ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا} (النَّحْل: 21) . وَقَالَ: {أم من هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل} (الزمر: 9) . وَقَالَ: {وَمن يقنت مِنْكُن لله} (الْأَحْزَاب: 13) . وَقَالَ: {يَا مَرْيَم اقنتي} (آل عمرَان: 34) . وَقَالَ: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} (الْبَقَرَة: 832) . وَقَالَ: {كل لَهُ قانتون} (الْبَقَرَة: 611 وَالروم: 62) . وَفِي الحَدِيث: (أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت) ، انْتهى. وَقد ذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَن للقنوت عشرَة معَان. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَقد نظمتها فِي بَيْتَيْنِ بِقَوْلِي:
(وَلَفظ الْقُنُوت اعدد مَعَانِيه تَجدهُ ... مزيدا على عشر مَعَاني مرضية)

(دُعَاء خشوع، وَالْعِبَادَة طَاعَة ... إِقَامَتهَا إقرارنا بالعبودية)

(سكُوت صَلَاة، وَالْقِيَام، وَطوله ... كَذَاك دوَام الطَّاعَة الرابح الْقنية)

وَابْن الْجَوْزِيّ ضعف هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِي (الْعِلَل المتناهية: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، فَإِن أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ اسْمه عِيسَى بن ماهان. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: كَانَ يخلط. وَقَالَ يحيى: كَانَ يخطىء. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: كَانَ يهيم كثيرا. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ ينْفَرد بِالْمَنَاكِيرِ عَن الْمَشَاهِير، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) ، وَسكت عَنهُ، إلاّ أَنه قَالَ: وَهُوَ معَارض بِمَا رُوِيَ عَن أنس، أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قنت شهرا على أَحيَاء من الْعَرَب، ثمَّ تَركه. انْتهى. قلت: ويعارضه أَيْضا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث غَالب بن فرقد الطَّحَّان، قَالَ: كنت عِنْد أنس بن مَالك شَهْرَيْن فَلم يقنت فِي صَلَاة الْغَدَاة، وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي كِتَابه (الْآثَار) : أخبرنَا أَبُو حنيفَة عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: لم ير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَانِتًا فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : أَحَادِيث الشَّافِعِيَّة على أَرْبَعَة أَقسَام، مِنْهَا مَا هُوَ مُطلق، وَأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قنت. وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ، لِأَنَّهُ ثَبت أَنه قنت. وَالثَّانِي: مُقَيّد بِأَنَّهُ قنت فِي صَلَاة الصُّبْح فَيحمل

(7/21)


على فعله شهرا بأدلتنا. وَالثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن الْبَراء بن عَازِب، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ أَحْمد: لَا يرْوى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قنت فِي الْمغرب إلاّ فِي هَذَا الحَدِيث. وَالرَّابِع: مَا هُوَ صَرِيح فِي حجتهم نَحْو مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ، وَقد ذَكرْنَاهُ، انْتهى. قلت: كَيفَ تستدل الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث وهم لَا يرَوْنَ الْقُنُوت فِي الْمغرب، فيعملون بِبَعْض الحَدِيث ويتركون بعضه، وَهَذَا تحكم.
وَقد أورد الْخَطِيب فِي كِتَابه الَّذِي صنفه فِي (الْقُنُوت) أَحَادِيث أظهر فِيهَا تعصبه. فَمِنْهَا: مَا أخرجه عَن دِينَار بن عبد الله خَادِم أنس بن مَالك (عَن أنس، قَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح حَتَّى مَاتَ) . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وسكوته عَن الْقدح فِي هَذَا الحَدِيث واحتجاحه بِهِ وقاحة عَظِيمَة وعصبية بَارِدَة وَقلة دين، لِأَنَّهُ يعلم أَنه بَاطِل. وَقَالَ ابْن حبَان: دِينَار يروي عَن أنس أَشْيَاء مَوْضُوعَة لَا يحل ذكرهَا فِي الْكتب إلاّ على سَبِيل الْقدح فِيهَا، فواعجبا للخطيب، أما سمع فِي الصَّحِيح: (من حدث عني حَدِيثا وَهُوَ يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَذَّابين؟) وَهل مثله إلاّ مثل من أنْفق بهرجا ودلسه فَإِن أَكثر النَّاس لَا يعْرفُونَ الصَّحِيح من السقيم، وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك للنقاد، فَإِذا أورد الحَدِيث مُحدث وَاحْتج بِهِ حَافظ لم يَقع فِي النُّفُوس إلاّ أَنه صَحِيح؟ وَلَكِن عصبيته حَملته على هَذَا، وَمن نظر فِي كِتَابه الَّذِي صنفه فِي (الْقُنُوت) ، وَكتابه الَّذِي صنفه فِي (الْجَهْر بالبسملة) وَمَسْأَلَة العتم، واحتجاجه بالأحاديث الَّتِي يعلم بُطْلَانهَا، اطلع على فرط عصبيته وَقلة دينه، ثمَّ ذكر لَهُ أَحَادِيث أُخْرَى كلهَا عَن أنس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يقنت فِي الصُّبْح حَتَّى مَاتَ، وَطعن فِي أسانيدها.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ حكم الْقُنُوت فِي الْمغرب؟ قلت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَارَة يقنت فِي جَمِيع الصَّلَوَات وَتارَة فِي طرفِي النَّهَار، لزِيَادَة شرف وقتهما حرصا على إِجَابَة الدُّعَاء حَتَّى نزل: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (آل عمرَان: 821) . فَترك إلاّ فِي الصُّبْح، كَمَا روى أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يقنت فِي الصُّبْح حَتَّى فَارق الدُّنْيَا. انْتهى. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا الْمقدمِي حَدثنَا أَبُو معشر حَدثنَا أَبُو حَمْزَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: (قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على عصبَة وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت، وَكَانَ ابْن مَسْعُود لَا يقنت فِي صلَاته) . ثمَّ قَالَ: فَهَذَا ابْن مَسْعُود يخبر أَن قنوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ إِنَّمَا كَانَ من أجل من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَنه قد كَانَ ترك ذَلِك، فَصَارَ الْقُنُوت مَنْسُوخا فَلم يكن هُوَ من بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت، وَكَانَ أحد من روى أَيْضا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن عمر، ثمَّ أخْبرهُم أَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك حِين أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (آل عمرَان: 821) . الْآيَة، فَصَارَ ذَلِك عَن ابْن عمر مَنْسُوخا أَيْضا، فَلم يكن هُوَ يقنت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُنكر على من كَانَ يقنت، وَكَانَ أحد من روى عَنهُ الْقُنُوت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فَأخْبر فِي حَدِيثه بِأَن مَا كَانَ يقنت بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُعَاء على من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك بقوله: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (آل عمرَان: 821) . الْآيَة، فَفِي ذَلِك أَيْضا وجوب ترك الْقُنُوت فِي الْفجْر. انْتهى. فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَمن أَيْن للكرماني حَيْثُ يَقُول: إلاّ فِي الصُّبْح؟ والْحَدِيث الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ على ذَلِك لَا يفِيدهُ؟ لأَنا قد ذكرنَا أَن الْقُنُوت يَأْتِي لمعان كَثِيرَة مِنْهَا: الطول فِي الصَّلَاة، وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت) . فَإِن قلت: قد ثَبت عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يقنت فِي الصُّبْح بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف تكون الْآيَة ناسخة لجملة الْقُنُوت؟ وَكَذَا أنكر الْبَيْهَقِيّ ذَلِك، فَبسط فِيهِ كلَاما فِي (كتاب الْمعرفَة) فَقَالَ: وَأَبُو هُرَيْرَة أسلم فِي غَزْوَة خَيْبَر وَهُوَ بعد نزُول الْآيَة بِكَثِير، لِأَنَّهَا نزلت فِي أحد، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يقنت فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعد وَفَاته؟ قلت: يحْتَمل أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يكن علم نزُول هَذِه الْآيَة، فَكَانَ يعْمل على مَا علم من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقنوته إِلَى أَن مَاتَ، لِأَن الْحجَّة لم تثبت عِنْده بِخِلَاف ذَلِك، أَلا ترى أَن عبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لما علما بنزول الْآيَة وعلما كَونهَا ناسخة لما كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله تركا الْقُنُوت؟ وَعَن إِبْرَاهِيم بِسَنَد صَحِيح: أَنه لَا يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح، وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون وَالْأسود أَن عمر بن الْخطاب لم يقنت فِي الْفجْر، وَكَانَ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر لَا يقنتان فِيهِ، وَكَذَلِكَ ابْن الزبير وجده أَبُو بكر الصّديق وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِنَّمَا جَاءَ الْقُنُوت فِي الْفجْر من قبل الشَّام، وَعَن ابْن عمر وطاووس: الْقُنُوت فِي الْفجْر بِدعَة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى، وَبِه قَالَت جمَاعَة، وروى التِّرْمِذِيّ (عَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ عَن أَبِيه عمر، قَالَ: صليت خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يقنت، وَخلف أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي فَلم يقنتوا، يَا بني إِنَّه مُحدث) . وَزَاد ابْن مَنْدَه فِي (كتاب الْقُنُوت) : رَوَاهُ جمَاعَة من الثِّقَات عَن أبي مَالك، وَاسم أبي مَالك

(7/22)


الْأَشْجَعِيّ: سعد بن طَارق بن أَشْيَم، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم، والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وروى الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَاس: الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح بِدعَة، وَفِي سَنَده أَبُو ليلى عبد الله بن ميسرَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مَتْرُوك، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة بشر بن حَرْب، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: أَرَأَيْت قيامهم عِنْد فرَاغ القاريء من السُّورَة بِهَذَا الْقُنُوت؟ إِنَّهَا لبدعة مَا فعلهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ بشر بن حَرْب: ضَعِيف. قلت: وَثَّقَهُ أَيُّوب، وَمَشاهُ ابْن عدي، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة وَالْأسود (عَن عبد الله ابْن مَسْعُود، قَالَ: مَا قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَيْء من صلَاته إلاّ فِي الْوتر، وَإنَّهُ كَانَ إِذا حَارب يقنت فِي الصَّلَوَات كُلهنَّ يَدْعُو على الْمُشْركين، وَلَا قنت أَبُو بكر وَلَا عمر وَلَا عُثْمَان حَتَّى مَاتُوا، وَلَا قنت عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى حَارب أهل الشَّام، وَكَانَ يقنت فِي الصَّلَوَات كُلهنَّ، وَكَانَ مُعَاوِيَة يَدْعُو عَلَيْهِ أَيْضا، يَدْعُو كل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: ابْن مَسْعُود لم يدْرك محاربة عَليّ أهل الشَّام، وَلَا موت عُثْمَان، فَإِنَّهُ مَاتَ فِي زمن عُثْمَان. قلت: يحْتَمل أَن يكون قَوْله: وَلَا عُثْمَان إِلَى آخِره من كَلَام إِبْرَاهِيم أَو من عَلْقَمَة أَو من الْأسود، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث أم سَلمَة، قَالَت: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقُنُوت فِي الْفجْر) . وَقد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ قد روى حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَذكر فِيهِ أَن مَا رُوِيَ من الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات مَنْسُوخ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي، وَأَبُو بكر الْبَزَّار، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة شريك عَن أبي حَمْزَة الْأَعْوَر عَن إِبْرَاهِيم (عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله، قَالَ: قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على عصية وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت) . وَقَالَ الْبَزَّار فِي رِوَايَته: (لم يقنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ شهرا وَاحِدًا، لم يقنت قبله وَلَا بعده) . وَقَالَ: لَا نعلم روى هَذَا الْكَلَام عَن أبي حَمْزَة إلاّ شريك. قلت: بل قد رَوَاهُ عَنهُ أَيْضا أَبُو معشر يُوسُف بن يزِيد بِاللَّفْظِ الأول رَوَاهُ أَبُو معِين أَيْضا، وَقَالَ الشَّيْخ زين الدّين: وَأَبُو معشر الْبَراء، وَإِن احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، فقد ضعفه ابْن معِين، وَأَبُو دَاوُد، وَأَبُو حَمْزَة الْأَعْوَر القصاب اسْمه: مَيْمُون، ضَعِيف. انْتهى. قلت: مَا انصف الشَّيْخ هَهُنَا حَيْثُ أَشَارَ بِكَلَامِهِ إِلَى تَضْعِيف الحَدِيث الْمَذْكُور لأجل مذْهبه، فَإِذا ضعف هَذَا الحَدِيث بِأبي معشر الَّذِي احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ لَا يبْقى فِي (الصَّحِيحَيْنِ) حَدِيث مُتَّفق على صِحَّته إلاّ شَيْء يسير، وَكم من حَدِيث فيهمَا ضعف ابْن معِين أحد رُوَاته، وَكَذَلِكَ غير ابْن معِين، وَمَعَ هَذَا لم يلتفتوا إِلَى ذَلِك، فَكَذَلِك هَذَا. وَأَبُو حَمْزَة قد روى عَن التَّابِعين الْكِبَار مثل: الْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَغَيرهم، وروى عَنهُ مثل: الثَّوْريّ والحمادان وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَهُوَ من أقرانه، وروى لَهُ التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ: تكلم فِيهِ من قبل حفظه، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي يكْتب حَدِيثه، وَكَذَلِكَ طعن الشَّيْخ فِي حَدِيث أم سَلمَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَالَ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَضَعفه، لِأَن ابْن مَاجَه رَوَاهُ من رِوَايَة مُحَمَّد بن يعلى عَن عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله بن نَافِع عَن أَبِيه عَن أم سَلمَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَؤُلَاءِ ضعفاء وَلَا يَصح لنافع سَماع من أم سَلمَة. قلت: مُحَمَّد بن يعلى وَثَّقَهُ أَبُو كريب، وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) قَالَ: لَا يرْوى عَن أم سَلمَة إلاّ بِهَذَا الْإِسْنَاد تفرد بِهِ مُحَمَّد بن يعلى، وَأما أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهَا مَاتَت فِي شَوَّال سنة تسع وَخمسين، وَنَافِع مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة، حَكَاهُ النَّسَائِيّ عَن هَارُون بن حَاتِم. وَقَالَ الشَّيْخ أَيْضا: قَالَ أَكثر السّلف وَمن بعدهمْ أَو كثير مِنْهُم اسْتِحْبَاب الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح، سَوَاء نزلت نازلة أم لم تنزل، ثمَّ عد مِنْهُم: أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعليا وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأَبا هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس والبراء بن عَازِب، وعد من التَّابِعين: الْحسن الْبَصْرِيّ وَحميد الطَّوِيل وَالربيع بن خَيْثَم وَزِيَاد بن عُثْمَان وَسَعِيد بن الْمسيب وسُويد بن غَفلَة وطاووسا وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَعبيدَة السَّلمَانِي وَعبيد بن عُمَيْر وَعُرْوَة بن الزبير وَأَبا عُثْمَان النَّهْدِيّ، وعد من الْأَئِمَّة: مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، فَقِيه أهل الشَّام، وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَدَاوُد. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي ابْن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَعبد الله بن الزبير وَأَبا مَالك الْأَشْجَعِيّ لم يَكُونُوا يقنتون وَلَا رَأَوْا الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات، وَقد ذكرنَا عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس: أَن الْقُنُوت فِي الصُّبْح بِدعَة، وَقد ذكرنَا أَن ابْن عمر كَانَ يُنكر على من يقنت، وَقد ذكرنَا من التَّابِعين الَّذين لَا يرَوْنَ الْقُنُوت: عَمْرو بن مَيْمُون وَالْأسود وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وطاووسا حَتَّى قَالَ طَاوُوس: الْقُنُوت فِي الْفجْر بِدعَة، وَحكي عَن الزُّهْرِيّ أَيْضا، وَمن الْأَئِمَّة الَّذين

(7/23)


لَا يرَوْنَ بِهِ الإِمَام أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَعبد الله بن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق وَاللَّيْث بن سعد. فَإِن قلت: فِيمَا ذكرت إِثْبَات وَنفي، فَإِذا تَعَارضا قدم الْمُثبت على النَّافِي؟ قلت: نَحن لَا نقُول: إِن هَهُنَا تَعَارضا حَتَّى نعمل بالمثبت، بل ندعي النّسخ كَمَا ذكرنَا وَجهه، وَمِمَّنْ قَالَ بالنسخ هَهُنَا الزُّهْرِيّ، وَالله تَعَالَى أعلم.