عمدة القاري شرح صحيح البخاري

51 - (كتابُ الاسْتِسْقَاء)

أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الاسْتِسْقَاء، وَهُوَ طلب السقيا، بِضَم السِّين: وَهُوَ الْمَطَر. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ استفعال من طلب السقيا، أَي: إِنْزَال الْغَيْث على الْبِلَاد والعباد، يُقَال: سقى الله عباده الْغَيْث، وأسقاهم، والإسم السقيا، بِالضَّمِّ، واستسقيت فلَانا طلبت مِنْهُ أَن يسقيك. وَفِي (الْمطَالع) : يُقَال: سقى وأسقى وأسقى بِمَعْنى وَاحِد. وقرىء: {نسقيكم مِمَّا فِي بطونها} (الْمُؤْمِنُونَ: 12) . بِالْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا ذكره الْخَلِيل وَابْن الْقُوطِيَّة: سقى الله الأَرْض وأسقاها. وَقَالَ آخَرُونَ: سقيته ناولته يشرب، وأسقيته جعلت لَهُ سقيا يشرب مِنْهُ، وَالِاسْتِسْقَاء الدُّعَاء لطلب السقيا.

1 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ وخُرُوجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الاسْتِسْقَاءِ)

لما قَالَ أَولا: أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء، شرع يبين هَذِه الْأَبْوَاب بَابا بَابا، فَقَالَ: بَاب الاسْتِسْقَاء أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاسْتِسْقَاء وَخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ، والنسخ هَهُنَا مُخْتَلفَة، فَوَقع للمستملي: بَاب الاسْتِسْقَاء، وَخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدُونِ الْبَسْمَلَة، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني سقط مَا قبل بَاب، وَثبتت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة ابْن شبويه.

5001 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَن عَمِّهِ قَالَ خرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي وحَوَّلَ رِدَاءَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا صيغت من نفس الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: لأوّل: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون وَهُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، قَاضِي الْمَدِينَة. الرَّابِع: عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن تَمِيم بن زيد بن عَاصِم الْأنْصَارِيّ الْمَازِني. الْخَامِس: عَمه عبد الله ابْن زيد بن عَاصِم بن كَعْب بن عمر وَأَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ الْمَازِني.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي وَشَيخ شَيْخه أَيْضا كُوفِي والبقية مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، فَإِن عبد الله بن أبي بكر روى عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فِي الاسْتِسْقَاء عَن آدم وَأبي الْيَمَان وعَلى ابْن عبد الله وَعبد الله بن مُحَمَّد وقتيبة وَإِسْحَاق عَن وهب وَمُحَمّد عَن عبد الْوَهَّاب، وَأخرجه أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن يحيى بن يحيى عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وحرملة بن يحيى، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَعنهُ عَن سُلَيْمَان بن بِلَال بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وَسليمَان بن دَاوُد وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعنهُ عَن الدَّرَاورْدِي بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَمْرو بن عَليّ وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن هِشَام بن عبد الْملك وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت عَن عبد الرَّزَّاق، وأخرجوه أَيْضا خلا ابْن مَاجَه، من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عباد بن تَمِيم. وأخرجوه، خلا التِّرْمِذِيّ، من رِوَايَة أبي بكر بن مُحَمَّد كَمَا ذكرنَا. وَأخرجه أَيْضا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عمَارَة بن غزيَّة عَن عباد بن تَمِيم وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن يحيى بن مُوسَى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عباد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: إِلَى الْمصلى. قَوْله: (يَسْتَسْقِي) جملَة فعلية وَقعت حَالا، وَالتَّقْدِير: خرج

(7/24)


إِلَى الصَّحرَاء حَال كَونه مرِيدا الاسْتِسْقَاء. قَوْله: (وحول رِدَاءَهُ) ، عطف على: (خرج) ، قَالَ الْخطابِيّ: اخْتلفُوا فِي صفة التَّحْوِيل، فَقَالَ الشَّافِعِي: بنكس أَعْلَاهُ أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ، ويتوخى أَن يَجْعَل مَا على شقَّه الْأَيْمن على الشمَال، وَيجْعَل الشمَال على الْيَمين، وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاق، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا كَانَ الرِّدَاء مربعًا يَجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله وَإِن كَانَ طيلسانا مدورا قلبه وَلم ينكسه، وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِن كَانَ مربعًا يَجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله، وَإِن كَانَ مدورا يَجْعَل جَانب الْأَيْمن على الْأَيْسَر والأيسر على الْأَيْمن. وَقَالَ ابْن بزيزة: ذكر أهل الْآثَار أَن رِدَاءَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ طوله أَرْبَعَة أَذْرع وشبرا فِي عرض ذراعين وشبر، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ طوله سِتَّة أَذْرع فِي ثَلَاثَة أَذْرع وشبر، وَإِزَاره من نسج عمان طوله أَرْبَعَة أَذْرع وشبر فِي عرض ذراعين وشبر، كَانَ يَلْبسهُمَا يَوْم الْجُمُعَة والعيد، ثمَّ يطويان. وَالْحكمَة فِي التَّحْوِيل التفاؤل بتحويل الْحَال عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ: حول رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّل الْقَحْط. قَالَ القَاضِي أَبُو بكر: هَذِه أَمارَة بَينه وَبَين ربه لَا على طَرِيق الفأل، فَإِن من شَرط الفأل إِن لَا يكون يقْصد، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: حول رداءك فيتحول حالك. فَإِن قلت: لَعَلَّ رِدَاءَهُ سقط فَرده، وَكَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا قلت: الرَّاوِي الْمشَاهد للْحَال أعرف، وَقد قرنه بِالصَّلَاةِ وَالْخطْبَة وَالدُّعَاء، فَدلَّ أَنه من السّنة، وَيشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) على شَرط مُسلم، من حَدِيث ابْن زيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استسقى وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ أَسْفَلهَا فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا فَثقلَتْ عَلَيْهِ فقلبها عَلَيْهِ الْأَيْمن على الْأَيْسَر والأيسر على الْأَيْمن. قلت: هَذَا يرشح قَول أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ وُجُوه: الأول: أَنه احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة على أَن الاسْتِسْقَاء اسْتِغْفَار وَدُعَاء وَلَيْسَ فِيهِ صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، فَإِن الحَدِيث لم يذكر فِيهِ الصَّلَاة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : فَإِن صلى النَّاس وحدانا جَازَ، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: السّنة أَن يُصَلِّي الإِمَام رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَة كَهَيئَةِ صَلَاة الْعِيد، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَذكر فِي (الْمُحِيط) قَول أبي يُوسُف مَعَ أبي حنيفَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ لم يقل أحد غير أبي حنيفَة هَذَا القَوْل. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ مثل قَول أبي حنيفَة، فروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم أَنه خرج مَعَ الْمُغيرَة بن عبد الله الثَّقَفِيّ يَسْتَسْقِي، قَالَ: فصلى الْمُغيرَة فَرجع إِبْرَاهِيم حَيْثُ رَآهُ يُصَلِّي، وروى ذَلِك أَيْضا عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن عِيسَى بن حَفْص عَن عَاصِم عَن عَطاء بن أبي مَرْوَان الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: خرجنَا مَعَ عمر ابْن الْخطاب يَسْتَسْقِي فَمَا زَاد على الاسْتِغْفَار.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنه يدل على أصل الاسْتِسْقَاء وَأَنه مَشْرُوع.
الثَّالِث: يدل على أَن تَحْويل الرِّدَاء فِيهِ سنة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : تَحْويل الرِّدَاء سنة عِنْد الْجُمْهُور، وَانْفَرَدَ أَبُو حنيفَة وَأنْكرهُ وَوَافَقَهُ ابْن سَلام. من قدماء الْعلمَاء بالأندلس وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. قلت: أَبُو حنيفَة لم يُنكر التَّحْوِيل الْوَارِد فِي الْأَحَادِيث إِنَّمَا أنكر كَونه من السّنة لِأَن تحويله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لأجل التفاؤل لينقلب حَالهم من الجدب إِلَى الخصب، فَلم يكن لبَيَان السّنة، وَمَا ذَكرْنَاهُ من حَدِيث ابْن زيد الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِم يُقَوي مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، وَوقت التَّحْوِيل عندنَا عِنْد مُضِيّ صدر الْخطْبَة، وَبِه قَالَ ابْن الْمَاجشون، وَفِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم: بعد تَمامهَا، وَقيل: بَين الْخطْبَتَيْنِ، وَالْمَشْهُور عَن مَالك: بعد تَمامهَا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَلَا يقلب الْقَوْم أرديتهم عندنَا، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَابْن عبد الْحَكِيم وَابْن وهب وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: الْقَوْم كَالْإِمَامِ، يَعْنِي يقلبون أرديتهم، وَاسْتثنى ابْن الْمَاجشون النِّسَاء، وَفِي هَذَا الْبَاب وُجُوه كَثِيرَة يَأْتِي بَيَان ذَلِك عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

2 - (بابُ دُعاءِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلْهَا عَلَيّهِم سِنِينَ كَسِنِي يوسُفَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقُنُوت على الْكَافرين بقوله: (إجعلها) أَي: اجْعَل تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي تقع فِيهَا الشدَّة، وَهِي الَّتِي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر) ، وَهَذَا الضَّمِير هُوَ الْمَفْعُول الأول لقَوْله: (اجْعَل) ، وَقَوله: (سِنِين) ، بِالنّصب هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي، وسنين جمع: سنة، وَفِيه شذوذان: أَحدهمَا: تَغْيِير مفرده من الفتحة إِلَى الكسرة. وَالْآخر: كَونه جمعا لغير ذَوي الْعُقُول، وَحكمه أَيْضا مُخَالف لسَائِر الجموع فِي أَنه يجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه. الأول: أَن يعرب كإعراب مُسلمين. وَالثَّانِي: أَن تجْعَل نونه متعقب الْإِعْرَاب منونا. وَالثَّالِث: أَن يكون منونا وَغير منون، منصرفا وَغير منصرف.

(7/25)


قَوْله: (كَسِنِي يُوسُف) بِإِضَافَة سِنِين إِلَى يُوسُف، فَلذَلِك سَقَطت نون الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ مَا وَقع فِي زمَان يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْقَحْط فِي السنين السَّبع، كَمَا وَقع فِي الْقُرْآن. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء؟ قلت: للتّنْبِيه على أَنه كَمَا شرع الدُّعَاء فِي الاسْتِسْقَاء للْمُؤْمِنين، كَذَلِك شرع الدُّعَاء بِالْقَحْطِ على الْكَافرين، لِأَن فِيهِ إضعافهم وَهُوَ نفع للْمُسلمين.

6001 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُغِيرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأَعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا رَفَعَ رَأسهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ يقُولُ اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بنَ أبي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْج سَلمَة بن هِشَام أللَّهُمَّ أنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينِ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا كَسِنِي يُوسُفَ وَأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ غِفَارُ غَفَرَ الله لَهَا وأسْلَمُ سالمَهَا الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا صيغت من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِين كَسِنِي يُوسُف) ، وَقد مضى حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا مطولا فِي: بَاب يهوي بِالتَّكْبِيرِ حِين يسْجد، أخرجه البُخَارِيّ، هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأبي سَلمَة: أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يكثر الحَدِيث، وَفِي آخِره قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين يرفع رَأسه يَقُول: سمع الله لمن حَمده رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَيَدْعُو لرجال فيسميهم بِأَسْمَائِهِمْ. فَيَقُول: اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة ابْن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف) . وَأهل الْمشرق يَوْمئِذٍ من مُضر مخالفون لَهُ. انْتهى. وَهَهُنَا أخرج بِزِيَادَة قَوْله: (وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره عَن قُتَيْبَة ابْن سعيد عَن ال مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الزَّاي: الْمدنِي عَن أبي الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج، وَقد فسرنا هُنَاكَ معنى الحَدِيث مُسْتَوفى.
قَوْله: (الْمُسْتَضْعَفِينَ) عَام بعد خَاص، وَالْوَطْأَةُ، بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ: الدوس بالقدم، وسمى بهَا الإهلاك لِأَن من يطَأ على شَيْء بِرجلِهِ فقد استقصى فِي إهلاكه، وَالْمعْنَى: خذهم أخذا شَدِيدا. وَالضَّمِير فِي: (اجْعَلْهَا) ، يرجع إِلَى الْوَطْأَة. قَوْله: (كَسِنِي يُوسُف) وَجه الشّبَه غَايَة الشدَّة، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد} (يُوسُف: 84) . وَقَوله: {تزرعون سبع سِنِين} (يُوسُف: 74) . وسنين جمع سنة بِالْفَتْح وَهُوَ الْقَحْط والجدب قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} (الْأَعْرَاف: 031) . قَوْله: (وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره حَدِيث آخر، وَهُوَ عِنْد البُخَارِيّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، فَكَأَنَّهُ سَمعه هَكَذَا، فَأوردهُ كَمَا سَمعه. وَقد أخرجه أَحْمد كَمَا أخرجه البُخَارِيّ، وروى مُسلم من حَدِيث خَيْثَم بن عرَاك عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أسلم سَالَمَهَا الله، وغفار غفر الله لَهَا، أما إِنِّي لم أقلهَا وَلَكِن قَالَهَا الله) . وروى أَيْضا عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله، وَعصيَّة عَصَتْ الله وَرَسُوله) . وروى أَيْضا عَن خفاف بن أيماء الْغِفَارِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة: (اللَّهُمَّ الْعَن بني لحيان وَرِعْلًا وذكوان وَعصيَّة عصوا الله وَرَسُوله، وغفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله) . وروى عَن جَابر أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أسلم سَالَمَهَا الله وغفار غفر الله لَهَا) . وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن عَليّ ابْن يزِيد عَن الْمُغيرَة بن أبي بَرزَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله) ، وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي نَحوه، وَزَاد فِي آخِره: (مَا أَنا قلته وَلَكِن الله، عز وَجل، قَالَه) وغفار، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وبالراء: أَبُو قَبيلَة من كنَانَة، وَهِي: غفار بن مليك بن ضَمرَة بن بكر بن مَنَاة بن كنَانَة، قَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ من غفر إِذا ستر، مِنْهُم أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ. وَأسلم، بِالْهَمْزَةِ وَاللَّام المفتوحتين قَبيلَة أَيْضا من خُزَاعَة وَهِي: أسلم بن أقْصَى، وَهُوَ خُزَاعَة بن حَارِثَة ابْن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد، مِنْهُم: سَلمَة الْأَكْوَع، وَفِي مدحج: أسلم بن أَوْس الله بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، وَفِي بجيلة: أسلم بطن، هُوَ: أسلم بن عَمْرو بن لؤَي بن رهم بن مُعَاوِيَة بن أسلم بن أخمس بن الْغَوْث بن بجيلة، ذكره ابْن الْكَلْبِيّ.

(7/26)


وَقَالَ ابْن الْأَثِير: (غفار غفر الله لَهَا) ، يحْتَمل أَن يكون دُعَاء لَهَا بالمغفرة، أَو إِخْبَارًا بِأَن الله تَعَالَى قد غفر لَهَا، وَكَذَلِكَ معنى: (أسلم سَالَمَهَا الله) ، يحْتَمل أَن يكون دُعَاء لَهَا إِن يسالمها الله تَعَالَى، وَلَا يَأْمر بحربها، أَو يكون إِخْبَارًا بِأَن الله قد سَالَمَهَا وَمنع من حربها، وَإِنَّمَا خصت هَاتَانِ القبيلتان بِالدُّعَاءِ لِأَن غفارًا أَسْلمُوا قَدِيما، وَأسلم سالموا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: الدُّعَاء بِمَا يشتق من الِاسْم، كَمَا يُقَال لِأَحْمَد: أَحْمد الله عاقبتك، ولعلي أعلاك الله وَهُوَ من جناس الِاشْتِقَاق وَفِيه الدُّعَاء على الظَّالِم بِالْهَلَاكِ وَالدُّعَاء للْمُؤْمِنين بالنجاة وَقَالَ بَعضهم: إِن كَانُوا منتهكين لحُرْمَة الدّين يدعى عَلَيْهِم بِالْهَلَاكِ، وإلاّ يدعى لَهُم بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اهدِ دوسا وأت بهم) . وَرُوِيَ أَن أَبَا بكر وَزَوجته، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَا يدعوان على عبد الرَّحْمَن ابنهما يَوْم بدر بِالْهَلَاكِ إِذا حمل على الْمُسلمين، وَإِذا أدبر يدعوان لَهُ بِالتَّوْبَةِ.
قَالَ ابنُ أبِي الزِّنَادِ عنْ أبِيهِ هاذا كُلهُ فِي الصُّبْحِ

أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان: هَذَا الحَدِيث كُله فِي صَلَاة الصُّبْح، يَعْنِي أَنه روى عَن أَبِيه هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَبين أَن الدُّعَاء الْمَذْكُور كَانَ فِي صَلَاة الصُّبْح، وَيدل على هَذَا قَوْله: (فِي الرَّكْعَة الْآخِرَة من الصُّبْح) ، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي الْعشَاء، وَقيل: فِي الظّهْر وَالْعشَاء، وعَلى كل حَال قد بَينا أَنه مَنْسُوخ.

7001 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كُنَّا عنْدَ عَبْدِ الله فَقَالَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا رَأى مِنَ النَّاسِ إدْبَارا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعا كَسَبْعِ يُوسُفَ فأخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أكَلُوا الجُلُودَ وَالمَيْتَةَ وَالجِيفَ وَيَنْظُرَ أحَدُهُمْ إلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الجُوعِ فأتَاهُ أبُو سُفْيَانَ فقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ الله وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإنَّ قَوْمَكَ قدْ هَلَكُوا فادْعُ الله لَهُمْ قَالَ الله تَعَالَى: {فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (الدُّخان: 01) . إلَى قَوْلِهِ عَائِدُونَ {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . فالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ مَضَتِ الدُّخَانُ والبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وآيةُ الرُّومِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اللَّهُمَّ سبعا كسبع يُوسُف) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة هُوَ عُثْمَان ابْن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن خواستي الْعَبْسِي، مَوْلَاهُم أَبُو الْحسن الْكُوفِي أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة وَالقَاسِم بن أبي شيبَة، وَكَانَ أكبر من أبي بكر، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو عَبَّاس الْكُوفِي. الرَّابِع: أَبُو الضُّحَى، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة، واسْمه: مُسلم بن صبيح، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الْهَمدَانِي الْكُوفِي الْعَطَّار. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي أَبُو عَائِشَة الْكُوفِي. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون مَا خلا جَرِيرًا فَإِنَّهُ رازي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الاسْتِسْقَاء أَيْضا عَن الْحميدِي، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن يحيى عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن يحيى عَن وَكِيع وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان، وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن بشر بن خَالِد، وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن إِسْحَاق عَن جرير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي سعيد الْأَشَج وَعَن عُثْمَان عَن جرير وَعَن يحيى ابْن يحيى وَأبي كريب، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن بشر بن خَالِد بِهِ وَعَن أبي كريب بِهِ وَعَن مَحْمُود بن غيلَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عِنْد عبد الله) يَعْنِي ابْن مَسْعُود. قَوْله: (لما رأى من النَّاس) أَي: قُرَيْش، وَاللَّام للْعهد. قَوْله: (إدبارا) أَي: عَن الْإِسْلَام، وَفِي تَفْسِير الدُّخان: (أَن قُريْشًا لما أبطأوا عَن الْإِسْلَام) . قَوْله: (سبعا) مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر

(7/27)


أَي: اجْعَل سنيهم سبعا، أَو ليكن سبعا، ويروى سبع بِالرَّفْع، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: الْبلَاء الْمَطْلُوب عَلَيْهِم سبع سِنِين، كالسنين السَّبع الَّتِي كَانَت فِي زمن يُوسُف، وَهِي السَّبع الشداد الَّتِي أَصَابَهُم فِيهَا الْقَحْط، أَو يكون الْمَعْنى: الْمَدْعُو عَلَيْهِم قحط كقحط يُوسُف، وَيجوز أَن يكون ارتفاعه على أَنه اسْم كَانَ التَّامَّة، تَقْدِيره: ليكن سبع. وَفِي الْوَجْه الأول: كَانَ، نَاقِصَة. وَجَاء فِي رِوَايَة (لما دَعَا قُريْشًا كذبوه واستعصوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف، قَوْله: (سنة) ، بِالْفَتْح: الْقَحْط والجدب. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} (الْأَعْرَاف: 031) . قَوْله: (حصت كل شَيْء) ، بحاء وصاد مهملتين مُشَدّدَة الصَّاد أَي: استأصلت وأذهبت النَّبَات، فَانْكَشَفَتْ الأَرْض، وَفِي (الْمُحكم) : سنة حصاء: جدبة قَليلَة النَّبَات. وَقيل: هِيَ الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا. قَوْله: (حَتَّى أكلُوا) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي وَعند غَيرهمَا: (حَتَّى أكلنَا) ، وَالْأول أشبه. قَوْله: (والجيف) ، بِكَسْر الْجِيم وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: جمع الجيفة، وَهِي جثة الْمَيِّت وَقد أراح، فَهِيَ أخص من الْمَيِّت لِأَنَّهَا مَا لم تلْحقهُ ذَكَاة. قَوْله: (وَينظر أحدكُم) ، ويروى: (أحدهم) ، وَهُوَ الْأَوْجه. قَوْله: (فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَان) يَعْنِي: صَخْر بن حَرْب، وَدلّ هَذَا على أَن الْقِصَّة كَانَت قبل الْهِجْرَة. قَوْله: (قَالَ الله تَعَالَى: فَارْتَقِبْ) يَعْنِي: لما قَالَ أَبُو سُفْيَان: إِن قَوْمك قد هَلَكُوا فَادع الله لَهُم، قَرَأَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . وَكَذَا فِي: بَاب إِذا استشفع الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين عِنْد الْقَحْط، فَإِن البُخَارِيّ أخرج حَدِيث الْبَاب أَيْضا هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق. قَالَ: أتيت ابْن مَسْعُود. . الحَدِيث. وَفِيه: (فجَاء أَبُو سُفْيَان فَقَالَ: يَا مُحَمَّد تَأمر بصلَة الرَّحِم وَأَن قَوْمك قد هَلَكُوا؟ فَادع الله عز وَجل فَقَرَأَ: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 0) . .
وَأخرج فِي تَفْسِير سُورَة الدُّخان، حَدثنَا يحيى حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى (عَن مَسْرُوق، قَالَ: دخلت على عبد الله، فَقَالَ: إِن من الْعلم أَن تَقول لما لَا تعلم: الله أعلم، إِن الله قَالَ لنَبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر وَمَا أَنا من المتكلفين} (ص: 68) . إِن قُريْشًا لما غلبوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واستعصوا عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف، فَأَخَذتهم سنة أكلُوا فِيهَا الْعِظَام وَالْميتَة من الْجهد، حَتَّى جعل أحدهم يرى مَا بَينه وَبَين السَّمَاء كَهَيئَةِ الدُّخان من الْجُوع، قَالَ: {رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . فَقيل لَهُ: إِن كشفنا عَنْهُم عَادوا، فَدَعَا ربه فكشف عَنْهُم. فعادوا، فانتقم الله مِنْهُم يَوْم بدر، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان} (الدُّخان: 01) . إِلَى قَوْله، جلّ ذكره: {إِنَّا منتقمون} (الدُّخان: 61) . وَأخرج مُسلم (عَن مَسْرُوق قَالَ: جَاءَ إِلَى عبد الله رجل فَقَالَ: تركت فِي الْمَسْجِد رجلا يُفَسر الْقُرْآن بِرَأْيهِ، يُفَسر هَذِه الْآيَة: {يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 21) . قَالَ: يَأْتِي النَّاس دُخان يَوْم الْقِيَامَة فَيَأْخُذ بِأَنْفَاسِهِمْ حَتَّى يَأْخُذهُمْ مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام، فَقَالَ عبد الله؛ من علم علما فَلْيقل بِهِ، وَمن لَا يعلم فَلْيقل: الله أعلم، فَإِن من فقه الرجل إِن يَقُول لما لَا يعلم: الله أعلم، إِنَّمَا كَانَ هَذَا أَن قُريْشًا لما اسْتَعْصَتْ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا عَلَيْهِم بسنين كَسِنِي يُوسُف، فَأَصَابَهُمْ قحط وَجهد حَتَّى جعل الرجل ينظر إِلَى السَّمَاء فَيرى بَينه وَبَينهَا كَهَيئَةِ الدُّخان من الْجهد، حَتَّى أكلُوا الْعِظَام، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله اسْتغْفر الله لمضر فَإِنَّهُم قد هَلَكُوا. فَقَالَ لمضر: إِنَّك لجريء، قَالَ: فَدَعَا الله لَهُم، فَأنْزل الله: {إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون} (الدُّخان: 51) . قَالَ: فَمُطِرُوا، فَلَمَّا أَصَابَهُم الرَّفَاهِيَة، قَالَ: عَادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين يغشى النَّاس هَذَا عَذَاب أَلِيم يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى إِنَّا منتقمون} (الدُّخان: 01، 11) . يَعْنِي: يَوْم بدر. انْتهى. وَقد علمت أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَذَلِكَ أَن أَبَا سُفْيَان لما قَالَ: ادْع الله لَهُم قَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . كَمَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن كثير الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَصرح فِي رِوَايَة مُسلم أَنه لما دَعَا الله لَهَا أنزل الله تَعَالَى: {إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون} (الدُّخان: 51) . فَقبل الله دعاءه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمُطِرُوا، فَلَمَّا أَصَابَهُم الرَّفَاهِيَة عَادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . المعني: فانتظر يَا مُحَمَّد عَذَابهمْ. ومفعول ارتقب، مَحْذُوف وَهُوَ: عَذَابهمْ.
قَوْله: (يغشى النَّاس) صفة للدخان فِي مَحل الْجَرّ يَعْنِي: يشملهم ويلبسهم. وَقيل: {يَوْم تَأتي السَّمَاء} (الدُّخان: 01) . مفعول {فَارْتَقِبْ} (الدُّخان: 01) . قَوْله: {هَذَا عَذَاب أَلِيم} (الدُّخان: 11) . يَعْنِي: يمْلَأ مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، يمْكث أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة، أما الْمُؤمن فَيُصِيبهُ مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام، وَأما الْكَافِر كمنزلة السَّكْرَان يخرج من مَنْخرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدبره. وَقَوله: {هَذَا عَذَاب أَلِيم رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . كل ذَلِك مَنْصُوب الْمحل بِفعل مُضْمر، وَهُوَ: يَقُولُونَ، وَيَقُولُونَ

(7/28)


مَنْصُوب على الْحَال، أَي: قائلين ذَلِك. قَوْله: {إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . موعدة بِالْإِيمَان إِن كشف عَنْهُم الْعَذَاب. قَالَ الله تَعَالَى: {أنَّى لَهُم الذكرى} (الدُّخان: 31) . أَي: من أَيْن لَهُم التَّذَكُّر والاتعاظ بعد نزُول الْبلَاء وحلول الْعَذَاب؟ (و) الْحَال أَنه: {قد جَاءَهُم رَسُول} (الدُّخان: 31) . بِمَا هُوَ أعظم من ذَلِك وَأدْخل فِي وجوب الْأَذْكَار من كشف الدُّخان، وَهُوَ مَا ظهر على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْآيَات الْبَينَات من الْكتاب المعجز وَغَيره من المعجزات، فَلم يذكرُوا، وتولوا عَنهُ وبهتوه بِأَن عداسا، غُلَاما أعجميا لبَعض ثَقِيف، هُوَ الَّذِي علمه، ونسبوه إِلَى الْجُنُون، وَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ توَلّوا عَنهُ وَقَالُوا معلم مَجْنُون} (الدُّخان: 41) . ثمَّ قَالَ: {إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون} (الدُّخان: 51) . إِلَى (كفركم) ثمَّ قَالَ: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . وَهُوَ يَوْم بدر، كَمَا فِي متن حَدِيث الْبَاب، وَعَن الْحسن: البطشة الْكُبْرَى: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: (فقد مَضَت) إِلَى آخِره من كَلَام ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يسْندهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن دحْيَة: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النّظر الصَّحِيح حمل أَمر الدُّخان على قضيتين: إِحْدَاهمَا: وَقعت وَكَانَت، وَالْأُخْرَى: ستقع قلت: فعلى هَذَا هما دخانان: أَحدهمَا: الَّذِي يمْلَأ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَا يجد الْمُؤمن مِنْهُ إِلَّا كالزكمة، وَهُوَ كَهَيئَةِ الدُّخان، وهيئة الدُّخان غير الدُّخان الْحَقِيقِيّ. وَالْآخر: هُوَ الدُّخان الَّذِي يكون عِنْد ظُهُور الْآيَات والعلامات، وَيُقَال: هُوَ من آثَار جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة، وَلَا يمْتَنع إِذا ظَهرت تِلْكَ العلامات أَن يَقُولُوا: {رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . قَوْله: (وَاللزَام) ، اخْتلف فِيهِ، فَذكر ابْن أبي حَاتِم فِي تفسره: أَنه الْقَتْل الَّذِي أَصَابَهُم ببدر، روى ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَمُحَمّد بن كَعْب وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فعلى هَذَا تكون البطشة وَاللزَام وَاحِدًا. وَعَن الْحسن: اللزام يَوْم الْقِيَامَة، وَعنهُ أَنه: الْمَوْت. وَقيل: يكون ذنبكم عذَابا لَازِما لكم. وَفِي (الْمُحكم) : اللزام الْحساب. وَفِي (الصَّحِيح) : عَن مَسْرُوق عَن عبد الله قَالَ: (خمس قد مضين: الدُّخان وَاللزَام وَالروم وَالْبَطْشَة وَالْقَمَر) . قَوْله: (وَآيَة الرّوم) ، وَهُوَ أَن الْمُسلمين حِين اقْتتلَتْ فَارس وَالروم كَانُوا يحبونَ ظُهُور الرّوم على فَارس، لأَنهم أهل كتاب، وكل كفار قُرَيْش يحبونَ ظُهُور فَارس لأَنهم مجوس، وكفار قُرَيْش عَبدة أوثان، فتخاطر أَبُو بكر وَأَبُو جهل فِي ذَلِك، أَي: أخرجَا شَيْئا وَجعلُوا بَينهم مُدَّة بضع سِنِين، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْبضْع قد يكون إِلَى تسع، أَو قَالَ: إِلَى سبع فزده فِي الْمدَّة أَو فِي الخطار) . فَفعل، فَغلبَتْ الرّوم فَقَالَ تَعَالَى: {آلم غلبت الرّوم} (الرّوم: 1 و 2) . يَعْنِي: الْمدَّة الأولى، قبل الْخطاب ثمَّ قَالَ: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} (الرّوم: 3 و 4) . إِلَى قَوْله: {يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله} (الرّوم: 4 و 5) . يَعْنِي: بِغَلَبَة الرّوم فَارِسًا، وَرُبمَا أخذُوا من الخطار، وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ الْقمَار فِي ذَلِك الْوَقْت حَلَالا، وَالله تَعَالَى أعلم.

3 - (بابُ سُؤالِ النَّاسِ الإمامَ الاسْتِسْقَاءَ إذَا قَحَطُوا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سُؤال النَّاس الإِمَام. فَقَوله: (سُؤال النَّاس) ، مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَقَوله: (الإِمَام) ، بِالنّصب مَفْعُوله، و (الاسْتِسْقَاء) بِالنّصب مفعول آخر. فَإِن قلت: الْفِعْل من غير أَفعَال الْقُلُوب لَا يَجِيء لَهُ مفعولان صريحان، بل يَجِيء إِذا كَانَ أَحدهمَا غير صَرِيح، وَكَيف هُوَ هَهُنَا؟ قلت: الَّذِي قلته هُوَ الْأَكْثَر، وَقد يَجِيء مُطلقًا، أَو نقُول: انتصاب الاسْتِسْقَاء بِنَزْع الْخَافِض أَي: عَن الاستسثقاء، يُقَال: سَأَلته الشَّيْء وَسَأَلته عَن الشَّيْء. قَوْله: (إِذا قحطوا) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم، بِفَتْح الْقَاف والحاء، وبلفظ الْمَجْهُول يُقَال: قحط الْمَطَر قحوطا إِذا احْتبسَ. وَحكى الْفراء: قحط بِالْكَسْرِ، وَجَاء: قحط الْقَوْم، على صِيغَة الْمَجْهُول. قحطا وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا معنى الْمَعْرُوف إِذْ الْمَطَر هُوَ المحتبس لَا النَّاس؟ وَأجَاب: بِأَنَّهُ من بَاب الْقلب، أَو إِذا كَانَ هُوَ محتبسا عَنْهُم فهم محتبسون عَنهُ. قيل: لَو أَدخل البُخَارِيّ حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله لَكَانَ أنسب وأوضح. وَأجِيب: بِأَن الَّذِي سَأَلَ قد يكون مُشْركًا، وَقد يكون مُسلما، وَقد يكون من الْفَرِيقَيْنِ، والسائل فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود كَانَ مُشْركًا حِينَئِذٍ، فَنَاسَبَ أَن يذكر فِي الَّذِي بعده من يَشْمَل الْفَرِيقَيْنِ، فَلذَلِك ذكر فِي التَّرْجَمَة مَا يشملهما، وَهُوَ لفظ النَّاس.

8001 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله ابنِ دِينَارٍ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أبي طالِبٍ:
(وَأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ)

(الحَدِيث 8001 طرفه فِي: 9001) .

(7/29)


مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (يستسقى الْغَمَام) لِأَن فَاعله مَحْذُوف، لِأَن تَقْدِيره: يستسقى النَّاس بالغمام، وَاعْترض بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون النَّاس فَاعِلا ليستسقى أَن يَكُونُوا سَأَلُوا الإِمَام أَن يستسقى لَهُم، فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن معنى قَول أبي طَالب هَذَا فِي الْحَقِيقَة توسل إِلَى الله عز وَجل بِنَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ حضر استسقاء عبد الْمطلب وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه، فَيكون استسقاء النَّاس الْغَمَام فِي ذَلِك الْوَقْت ببركة وَجهه الْكَرِيم، وَإِن لم يكن فِي الظَّاهِر أَن أحدا سَأَلَهُ، وَكَانُوا مستشفعين بِهِ، وَهُوَ فِي معنى السُّؤَال عَنهُ. على ان ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَا أَرَادَ مُجَرّد مَا دلّ عَلَيْهِ شعر أبي طَالب، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى قصَّة وَقعت فِي الْإِسْلَام حضرها.
قَوْله: (حَدثنِي عَمْرو بن عَليّ) وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا، بِصِيغَة الْجمع، وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي، وَأَبُو قُتَيْبَة سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن قُتَيْبَة الْخُرَاسَانِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ، وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة قَالَهَا أَبُو طَالب، وَهِي قصيدة طنانة لامية من بَحر الطَّوِيل، وَهِي مائَة بَيت وَعشر أَبْيَات، أَولهَا قَوْله:
(خليلي مَا أُذُنِي لأوّل عاذل ... 70 بصفواء فِي حق وَلَا عِنْد بَاطِل)

وَآخِرهَا قَوْله:
(وَلَا شكّ أَن الله رَافع أمره ... ومعليه فِي الدُّنْيَا وَيَوْم التجادل)

(كَمَا قد رأى فِي الْيَوْم والأمس جده ... ووالده رؤياهم غير آفل)

يذكر فِيهَا أَشْيَاء كَثِيرَة من عَدَاوَة قُرَيْش إِيَّاه بِسَبَب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومدحه نَفسه وَنسبه وَذكر سيادته وحمايته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والتعرض لبني أُميَّة، وَغير ذَلِك، يعرفهَا من يقف عَلَيْهَا. وَقد تمثل عبد الله بن عمر بِالْبَيْتِ الْمَذْكُور، وَمعنى التمثل: إنشاد شعر غَيره. قَوْله: (وأبيض) ، بِفَتْح الضَّاد وَضمّهَا، وَجه الْفَتْح أَن يكون مَعْطُوفًا على قَوْله: (سيدا) فِي الْبَيْت الَّذِي قبله، وَهُوَ قَوْله:
(وَمَا ترك قوم لَا أَبَا لَك سيدا ... 70 يحوط الذمار غير ذرب مؤاكل)

و: الذمار، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَا لزمك حفظه مِمَّا وَرَاءَك، وَتعلق بِهِ قَوْله: (غير ذرب) أَرَادَ بِهِ: ذرب اللِّسَان بِالشَّرِّ، وَأَصله من: ذرب الْمعدة، وَهُوَ فَسَادهَا، والمؤاكل، بِضَم الْمِيم: الَّذِي يستأكل، وَيجوز أَن يكون مَفْتُوحًا فِي مَوضِع الْجَرّ بِرَبّ الْمقدرَة، وَالْوَجْه الأول أوجه، وَوجه الضَّم هُوَ الرّفْع إِن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: وَهُوَ أَبيض. قَوْله: (يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ) جملَة وَقعت صفة لأبيض، ومحلها من الْإِعْرَاب النصب أَو الرّفْع على التَّقْدِيرَيْنِ. قَوْله: (ثمال الْيَتَامَى) كَلَام إضافي يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب على التَّقْدِيرَيْنِ الْمَذْكُورين، والثمال، بِكَسْر الثَّاء الْمُثَلَّثَة: قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ مطعم لِلْيَتَامَى، يُقَال: ثملهم يثملهم إِذا كَانَ يُطعمهُمْ وَفِي (مجمع الغرائب) : يُقَال: هُوَ ثمال قومه إِذا كَانَ يقوم بأمرهم، وَفِي (الْمُحكم) : فلَان ثمال بني فلَان، أَي: عمادهم. وَقَالَ ابْن التِّين: أَي الْمطعم عِنْد الشدَّة. قَوْله: (عصمَة للأرامل) ، كَذَلِك بِالْوَجْهَيْنِ فِي الْإِعْرَاب، والأرامل جمع أرمل، وَهُوَ الَّذِي نفد زَاده، وَقَالَ ابْن سَيّده: رجل أرمل وَامْرَأَة أرملة وَهِي المحتاجة والأرامل والأراملة، كسروه تكسير الْأَسْمَاء لغلبته، وكل جمَاعَة من رجال وَنسَاء أَو رجال دون نسَاء أَو نسَاء دون رجال أرامل بعد أَن يَكُونُوا مُحْتَاجين. وَفِي (الْجَامِع) : قَالُوا: وَلَا يُقَال رجل أرمل لِأَنَّهُ لَا يكَاد يذهب زَاده بذهاب امْرَأَته، إِذْ لم تكن قيِّمة عَلَيْهِ بالمعيشة، بِخِلَاف الْمَرْأَة، وَقد زعم قوم أَنه يُقَال: رجل أرمل إِذا مَاتَت امْرَأَته، قَالَ الحطيئة:
(هذي الأرامل قد قضيت حَاجَتهَا ... 70 فَمن لحَاجَة هَذَا الأرمل الذّكر)

قَالَ السُّهيْلي، رَحمَه الله تَعَالَى. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ أَبُو طَالب: يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ، وَلم يره قطّ استسقى، إِنَّمَا كَانَ ذَاك من بعد الْهِجْرَة؟ وَأجَاب: بِمَا حَاصله: أَن أَبَا طَالب أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي زمن عبد الْمطلب، حَيْثُ استسقى لقريش وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه وَهُوَ غُلَام، قيل: يحْتَمل أَن يكون أَو طَالب مدحه بذلك لما رأى من مخائل ذَلِك فِيهِ، وَإِن لم يُشَاهد وُقُوعه، وَقَالَ ابْن التِّين: إِن فِي شعر أبي طَالب هَذَا دلَالَة على أَنه كَانَ يعرف نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يبْعَث، لما أخبرهُ بِهِ بحيراء وَغَيره من شَأْنه. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن ابْن إِسْحَاق زعم أَن أَبَا طَالب أنشأ هَذَا الشّعْر بعد الْبَعْث. قلت: فِي هَذَا النّظر نظر، لِأَنَّهُ لما علم أَنه نَبِي بأخبار بحيراء وَغَيره أنْشد هَذَا الشّعْر بِنَاء على مَا علمه من ذَلِك قبل أَن يبْعَث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(7/30)


9001 - وقَالَ عُمَرُ بنُ حَمْزَةَ حدَّثنا سالِمٌ عنْ أبِيهِ رُبَّمَا ذكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وأنَا أنْظُرُ إلَى وَجْهِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كلُّ مِيزَابٍ
(وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ)

وَهُوَ قولُ أبِي طالِبٍ.
(أنظر الحَدِيث 8001) .
مُنَاسبَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (يستسقى) لِأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يخبر عَن استسقاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ينظر إِلَى وَجهه الْكَرِيم، وَلم يكن استسقاؤه فِي ذَلِك إلاّ عَن سُؤال عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ البيهي فِي (الدَّلَائِل) قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا بن أبي إِسْحَاق أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن دُحَيْم حَدثنَا جَعْفَر بن عَنْبَسَة حَدثنَا عبَادَة ابْن زِيَاد الْأَزْدِيّ عَن سعيد بن خَيْثَم عَن مُسلم الْملَائي عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَالله لقد أَتَيْنَاك وَمَا لنا بعير يئط، وَلَا صبي يغط، ثمَّ أنْشد:
(أَتَيْنَاك والعذراء يدمى لبانها ... وَقد شغلت أم الصَّبِي عَن الطِّفْل)

(وَألقى بكفيه الصَّبِي استكانة ... من الْجُوع ضعفا مَا يمر وَمَا يحلى)

(وَلَا شَيْء مِمَّا يَأْكُل النَّاس عندنَا ... سوى الحنظل العاهي وَالْعِلْهِز الفسل)

(وَلَيْسَ لنا إلاّ إِلَيْك فرارنا ... وَأَيْنَ فرار النَّاس إلاّ إِلَى الرُّسُل؟)

فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجر رِدَاءَهُ حَتَّى صعد الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فجَاء أهل البطانة يصيحون: الْغَرق الْغَرق، فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ: لله در أبي طَالب لَو كَانَ حَاضرا لقرت عَيناهُ، من ينشدنا شعره؟ فَقَالَ عَليّ: يَا رَسُول الله كَأَنَّك أردْت قَوْله:
(وأبيض يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ)

فَذكر أبياتا مِنْهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أجل، فَقَامَ رجل من بني كنَانَة فَأَنْشد أبياتا:
(لَك الْحَمد وَالْحَمْد مِمَّن شكر ... سقينا بِوَجْه النَّبِي الْمَطَر)

(دَعَا الله خالقه دَعْوَة ... 70 وأشخص مَعهَا إِلَيْهِ الْبَصَر)

(فَلم يَك إِلَّا كالف الردا ... 70 وأسرع حَتَّى رَأينَا الدُّرَر)

فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن يكن شَاعِر أحسن فقد أَحْسَنت) . ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق الَّذِي أوردهُ البُخَارِيّ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ ابْن مَاجَه مَوْصُولا فِي (سنَنه) : حَدثنَا أَحْمد بن الْأَزْهَر عَن ابْن النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم عَن أبي عقيل، يَعْنِي عبيد الله بن عقيل الثَّقَفِيّ، حَدثنَا عمر بن حَمْزَة حَدثنَا سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: رُبمَا ذكرت قَول الشَّاعِر وَأَنا أنظر إِلَى وَجه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمِنْبَر، فَمَا نزل حَتَّى جَيش كل ميزاب بِالْمَدِينَةِ، فَذكر قَول الشَّاعِر:
وأبيض يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ
إِلَى آخِره، وَعمر بن حَمْزَة هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، ابْن أخي سَالم بن عبد الله ابْن عمر، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي (الْأَدَب) أَيْضا، وَتكلم فِيهِ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَقَالَ: كَانَ يخطىء. وَقَالَ ابْن عدي: وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه، وروى لَهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. فَإِن قلت: عمر بن حَمْزَة هَذَا مُتَكَلم فِيهِ، وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن دِينَار مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الموصولة، فَكيف أوردهما البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) ؟ قلت: أُجِيب بِأَن إِحْدَى الطَّرِيقَيْنِ اعتضدت بِالْأُخْرَى، وَهُوَ من أَمْثِلَة أحد قسمي (الصَّحِيح) كَمَا تقرر فِي مَوْضِعه، وَفِيه نظر، لَا يخفى. قَوْله: (وَأَنا أنظر) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (يستسقى) ، جملَة فعلية وَقعت حَالا، كَذَلِك. قَوْله: (حَتَّى يَجِيش) بِالْجِيم والشين الْمُعْجَمَة، من: جاش الْبَحْر إِذا هاج، وجاش الْقدر جيشانا إِذا غلت، وجاش الْوَادي إِذا زهر وامتد جدا، وجاش الشَّيْء إِذا تحرّك، وَهُوَ هُنَا كِنَايَة عَن كَثْرَة الْمَطَر، و (الْمِيزَاب) بِكَسْر الْمِيم وبالزاي مَعْرُوف، وَهُوَ مَا يسيل مِنْهُ المَاء من مَوضِع عَال، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (حَتَّى يَجِيش لَك) ، بِتَقْدِيم اللَّام على الْكَاف، وَهُوَ تَصْحِيف.
قَوْله: (يئط) أَي: يحن، ويصيح، يُرِيد: مَا لنا

(7/31)


بعير أصلا، لِأَن الْبَعِير لَا بُد أَن يئط. قَوْله: (وَلَا صبي يغط) ، من الغطيط، يُقَال: غط يغط غطا وغطيطا إِذا صَاح. قَوْله: (والعذراء) وَهِي الْجَارِيَة الَّتِي لم يَمَسهَا رجل، وَهِي الْبكر. قَوْله: (يدمي لبانها) ، بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ الصَّدْر، وأصل اللبان فِي الْفرس مَوضِع اللَّبن ثمَّ استعير للنَّاس، وَمعنى: يدمي لبانها يَعْنِي يدمي صدرها لامتهانها نَفسهَا فِي الْخدمَة حَيْثُ لَا تَجِد مَا تغطيه من تخدمها من الجدب وَشدَّة الزَّمَان. وَقَوله: (استكانة) أَي: خضوعا، وذلة. قَوْله: (مَا يمر) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء. قَوْله: (وَلَا يحلى) ، بِضَم الْيَاء أَيْضا. وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر اللَّام، وَالْمعْنَى: مَا ينْطق بِخَير وَلَا شَرّ من الْجُوع والضعف، واشتقاق الأول: من المرارة، وَالثَّانِي: من الْحَلَاوَة، فَالْأول كِنَايَة عَن الشَّرّ، وَالثَّانِي: عَن الْخَيْر. قَوْله: (سوى الحنظل العاهي) ، الحنظل: مَعْرُوف، والعاهي: فَاعل من العاهة وَهِي: الآفة. قَوْله: (وَالْعِلْهِز) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَكسر الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: وَهُوَ شَيْء يتخذونه فِي سني المجاعة يخلطون الدَّم بأوبار الْإِبِل ثمَّ يشوونه بالنَّار، ويأكلونه، وَقيل: كَانُوا يخلطون فِيهِ القردان، وَيُقَال: القراد الضخم العلهز، وَقيل: العلهز شَيْء ينْبت بِبِلَاد بني سليم لَهُ أصل كأصل البرذي، قَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث الاسْتِسْقَاء، وَأنْشد الأبيات الْمَذْكُورَة. قَوْله: (الفسل) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ الشَّيْء الرَّدِيء الرذل، يُقَال: فسله وأفسله. قَالَه ابْن الْأَثِير، ويروى بالشين الْمُعْجَمَة، وَقَالَ فِي بَاب الشين: الفشل والفزع وَالْخَوْف والضعف، وَمِنْه حَدِيث الاسْتِسْقَاء:
سوى الحنظل العاهي وَالْعِلْهِز الفشل
أَي: الضَّعِيف يَعْنِي الفشل مدخره، وَأكله فصرف الْوَصْف إِلَى العلهز، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لآكله. قَوْله: (الدُّرَر) ، بِكَسْر الدَّال وَفتح الرَّاء الأولى، جمع درة، بِكَسْر الدَّال وَتَشْديد الرَّاء، يُقَال: للسحاب درة، أَي: صب واندفاق.

0101 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني أبي عَبْدُ الله بنُ المُثَنَّى عنْ ثَمامَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أنَسٍ عنْ أنَسٍ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وإنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فاسْقِنَا قَالَ فيُسْقَوْنَ.
(الحَدِيث 0101 طرفه فِي: 0173) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَول عمر: (إِنَّا كُنَّا نتوسل إِلَيْك بنبينا. .) إِلَى آخِره، بَيَانه أَنهم كَانُوا إِذا استسقوا كَانُوا يستسقون بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَيَاته، وَبعده استسقى عمر بِمن مَعَه بِالْعَبَّاسِ عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجعلوه كَالْإِمَامِ الَّذِي يسْأَل فِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أمس النَّاس بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأقربهم إِلَيْهِ رحما فَأَرَادَ عمر أَن يصلها ليتصل بهَا إِلَى من كَانَ يَأْمر بصلَة الْأَرْحَام، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا إِذا قحطوا استسقوا بِأَهْل بَيت نَبِيّهم، وَزعم ابْن قدامَة أَن ذَلِك كَانَ عَام الرَّمَادَة، وَذكر ابْن سعد وَغَيره أَن عَام الرَّمَادَة كَانَ سنة ثَمَانِي عشرَة، وَكَانَ ابتداؤه مصدر الْحَاج مِنْهَا ودام تِسْعَة أشهر، والرمادة، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْمِيم: سمي الْعَام بهَا لما حصل من شدَّة الجدب، فاغبرت الأَرْض من عدم الْمَطَر، وَذكر سيف فِي (كتاب الرِّدَّة) : (عَن أبي سَلمَة: كَانَ أَبُو بكر الصّديق إِذا بعث جندا إِلَى أهل الرِّدَّة خرج ليشيعهم، وَخرج بِالْعَبَّاسِ مَعَه، قَالَ: يَا عَبَّاس استنصر وَأَنا أُؤْمِن، فَإِنِّي أَرْجُو أَن لَا يخيب دعوتك لِمَكَانِك من نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر الإِمَام أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر فِي (كتاب الاسْتِسْقَاء) من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن حُسَيْن بن عبد الله عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْعَبَّاس قَالَ ذَلِك الْيَوْم: اللَّهُمَّ إِن عنْدك سحابا وَإِن عنْدك مَاء فانشر السَّحَاب ثمَّ أنزل مِنْهُ المَاء، ثمَّ أنزلهُ علينا وَاشْدُدْ بِهِ الأَصْل وأطل بِهِ الْفَرْع وأدر بِهِ الضَّرع، اللَّهُمَّ شفعنا إِلَيْك عَمَّن لَا منطق لَهُ من بهايمنا وأنعامنا. اللَّهُمَّ إسقنا سقيا وَادعَة بَالِغَة طبقًا مجيبا، اللَّهُمَّ لَا نرغب إلاّ إِلَيْك وَحدك، لَا شريك لَك، اللَّهُمَّ إِنَّا نشكوا أُليك سغب كل ساغب وَعدم كل عادم وجوع كل جَائِع وعري كل عَار وَخَوف كل خَائِف. .) وَفِي حَدِيث أبي صَالح: (فَلَمَّا صعد عمر وَمَعَهُ الْعَبَّاس الْمِنْبَر، قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: اللَّهُمَّ إِنَّا توجهنا إِلَيْك بعم نبيك وصنو أَبِيه فاسقنا الْغَيْث وَلَا تجعلنا من القانطين، ثمَّ قَالَ: قل يَا أَبَا الْفضل، فَقَالَ الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ لم ينزل بلَاء إلاّ بذنب، وَلم يكْشف إلاّ بتوبة وَقد توجه بِي الْقَوْم إِلَيْك لمكاني

(7/32)


من نبيك، وَهَذِه أَيْدِينَا إِلَيْك بِالذنُوبِ، ونواصينا بِالتَّوْبَةِ، فاسقنا الْغَيْث. قَالَ: فَأَرختْ السَّمَاء شآبيب مثل الْجبَال حَتَّى أخصبت الأَرْض وعاش النَّاس.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح الزَّعْفَرَانِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله ابْن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ، قَاضِي الْبَصْرَة، مَاتَ سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: أَبوهُ عبد الله بن الْمثنى الْمَذْكُور. الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: تقدم فِي: بَاب من أعَاد. . الحَدِيث. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: رِوَايَة البُخَارِيّ عَن شَيْخه بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالْآخر بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: التحديث أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا يروي عَنهُ أَيْضا كثيرا بِلَا وَاسِطَة، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب وَهِي: رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن الْمثنى، وَيَنْبَغِي أَن يقْرَأ عبد الله بِالرَّفْع فِي قَوْله: (حَدثنَا أبي عبد الله) لِأَنَّهُ يشْتَبه بالكنية، وَهُوَ عطف بَيَان، وَمحل تيقظ. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه، وَهِي: رِوَايَة عبد الله بن الْمثنى عَن عَمه ثُمَامَة بن عبد الله. وَفِيه: أَن عبد الله بن الْمثنى من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَهِي: رِوَايَة ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس عَن أنس جده.
وَهَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ البُخَارِيّ عَن السِّتَّة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قحطوا) ، بِضَم الْقَاف وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة أَي: أَصَابَهُم الْقَحْط. قَوْله: (استسقى بِالْعَبَّاسِ) أَي: متوسلاً بِهِ حَيْثُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا. .) إِلَى آخِره، وَصفَة مَا دَعَا بِهِ الْعَبَّاس قد ذَكرنَاهَا عَن قريب.
وَفِيه من الْفَوَائِد: اسْتِحْبَاب الاستشفاع بِأَهْل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَأهل بَيت النُّبُوَّة. وَفِيه: فضل الْعَبَّاس وَفضل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لتواضعه للْعَبَّاس ومعرفته بِحقِّهِ. قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء والاجتماع لَا يكون إلاّ بِإِذن الإِمَام لما فِي الْخُرُوج والاجتماع من الْآفَات الدَّاخِلَة على السُّلْطَان، وَهَذِه سنَن الْأُمَم السالفة قَالَ تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه} (الْأَعْرَاف: 061) .

4 - (بابُ تحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْويل الرِّدَاء فِي الاسْتِسْقَاء.

1101 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا وَهْبٌ قَالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ عَبَّادِ ابنِ تَمِيمٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ زَيْدٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَسْقَى فَقَلَبَ ردَاءَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَلَا يُقَال: التَّرْجَمَة بِلَفْظ التَّحْوِيل، وَفِي الحَدِيث: (فَقلب رِدَاءَهُ) لِأَن التَّحْوِيل وَالْقلب بِمَعْنى وَاحِد، مَعَ أَن لفظ الحَدِيث فِي الطَّرِيق الأولى. (وحول) ، على أَنه فِي الطَّرِيق الثَّانِيَة فِي رِوَايَة أبي ذَر: (حول) ، بدل (قلب) ، وَقَالَ بَعضهم: ترْجم لمشروعيته خلافًا لمن نَفَاهُ، ثمَّ ترْجم بعد ذَلِك لكيفيته. قلت: علم مشروعيته من الحَدِيث الَّذِي أخرجه فِي أول كتاب الاسْتِسْقَاء، رَوَاهُ عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عباد بن تَمِيم عَن عَمه وَهُوَ عبد الله بن زيد، وَهَهُنَا أخرجه عَن إِسْحَاق عَن وهب عَن مُحَمَّد بن أبي بكر عَن عباد بن تَمِيم عَن عبد الله بن زيد، والْحَدِيث وَاحِد، وَفِي سَنَده مُغَايرَة، وَإِنَّمَا أعَاد هَذَا الحَدِيث لأمور ثَلَاثَة: الأول: أَنه ترْجم لَهُ هَهُنَا فِي تَحْويل الرِّدَاء، وَهُنَاكَ فِي خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاستسقاء. الثَّانِي: ليشيرا إِلَى تغاير السَّنَد وَبَعض الِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن. وَالثَّالِث: صرح هَهُنَا بِعَبْد الله بن زيد وَهُنَاكَ أبهم اسْمه وَلم يذكرهُ إلاّ بِلَفْظ الْعم، وَإِسْحَاق: هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي، وَمُحَمّد: ابْن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، وَهُوَ أَخُو عبد الله بن أبي بكر الْمَذْكُور فِي السَّنَد الأول، وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

2101 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي بَكْرٍ أنَّهُ سَمِعَ

(7/33)


عَبَّادَ بنَ تَمِيمٍ يُحَدِّثُ أباهُ عنْ عَمِّهِ عَبْدِ الله بن زَيْدٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ إلَى المُصَلَّى فاسْتَسْقَى فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وقَلَبَ رِدَاءَهُ وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ..
هَذِه طَريقَة أُخْرَى فِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبله أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر الَّذِي يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ: عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن عباد بن تَمِيم، إِلَى آخِره. قَوْله: (عَن سُفْيَان عَن عبد الله) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي أَعنِي: بِلَفْظ: (عَن عبد الله) وَوَقع فِي رِوَايَة الآخرين، قَالَ: (حَدثنَا سُفْيَان قَالَ عبد الله بن أبي بكر) ، أَي: قَالَ: قَالَ عبد الله، وَجَرت عَادَتهم بِحَذْف إِحْدَاهمَا من الْخط. قَوْله: (يحدث أَبَاهُ) الضَّمِير فِي قَوْله: (أَبَاهُ) يعود على عبد الله بن أبي بكر، لَا على: عباد، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَوضِع: أَبَاهُ، أرَاهُ أَي: أَظُنهُ، ثمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضهَا: أَبَاهُ أَي: أَبَا عبد الله، يَعْنِي: أَبَا بكر وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر فِي شَيْء من الرِّوَايَات الَّتِي اتَّصَلت لنا. انْتهى. قلت: لَا يسْتَلْزم عدم رُؤْيَته لذَلِك عدم رُؤْيَة غَيره، وَالنُّسْخَة الَّتِي اطلع عَلَيْهَا الْكرْمَانِي أوضح وَأظْهر.
وَهَذَا الحَدِيث يشْتَمل على أَحْكَام: الأول: فِيهِ خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّحرَاء للاستسقاء لِأَنَّهُ أبلغ فِي التَّوَاضُع، وأوسع للنَّاس، وَذكر ابْن حبَان: كَانَ خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمصلى للاستسقاء فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ من الْهِجْرَة. الثَّانِي: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الاسْتِسْقَاء. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِقْبَال الْقبْلَة وتحويل الرِّدَاء، وَقد ذكرنَا حكمه مستقصىً. الرَّابِع: فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى رَكْعَتَيْنِ.
وَيحْتَاج فِي بَيَان هَذَا إِلَى أُمُور:
الأول: فِيهِ الدّلَالَة على أَن الْخطْبَة فِيهِ قبل الصَّلَاة، وَصرح يحيى بن سعيد فِي بَاب كَيفَ يحول ظَهره، ثمَّ صلى لنا رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ مُقْتَضى حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَنْهَا، قَالَت: (شكى النَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُحُوط الْمَطَر، فَأمر بمنبر فَوضع لَهُ فِي الْمصلى، ووعد النَّاس يَوْمًا يخرجُون فِيهِ، قَالَت عَائِشَة: فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين بدا حَاجِب الشَّمْس، فَقعدَ على الْمِنْبَر، فَكبر وَحمد الله، ثمَّ قَالَ: إِنَّكُم شكوتم جَدب دِيَاركُمْ واستئخار الْمَطَر عَن إبان زَمَانه عَلَيْكُم، وَقد أَمركُم الله تَعَالَى أَن تَدعُوهُ، ووعدكم أَن الله يستجيب لكم، ثمَّ قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين، الرَّحْمَن الرَّحِيم، مَالك يَوْم الدّين، لَا إِلَه إلاّ الله يفعل مَا يُرِيد، اللَّهُمَّ أَنْت الله لَا إِلَه إلاّ أَنْت الْغَنِيّ وَنحن الْفُقَرَاء، أنزل علينا الْغَيْث، وَاجعَل مَا أنزلت لنا قُوَّة وبلاغا إِلَى حِين، ثمَّ رفع يَدَيْهِ فَلم يزل فِي الرّفْع حَتَّى بدا بَيَاض إبطَيْهِ، ثمَّ حول إِلَى النَّاس ظَهره وقلب أَو حول رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ، ثمَّ أقبل على النَّاس وَنزل فصلى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ الله سَحَابَة فَرعدَت وَبَرقَتْ ثمَّ أمْطرت بِإِذن الله تَعَالَى، فَلم يَأْتِ مَسْجده حَتَّى سَالَتْ السُّيُول، فَلَمَّا رأى سُرْعَتهمْ إِلَى الْكن ضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، فَقَالَ: أشهد أَن الله على كل شَيْء قدير وَإِنِّي عبد الله وَرَسُوله) . وَالْمَفْهُوم من هَذَا الحَدِيث أَن الْخطْبَة قبل الصَّلَاة، وَلَكِن وَقع عِنْد أَحْمد فِي حَدِيث عبد الله بن زيد التَّصْرِيح بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة، وَالْجمع بَينهمَا أَنه مَحْمُول على الْجَوَاز، وَالْمُسْتَحب تَقْدِيم الصَّلَاة لأحاديث أخر.
الْأَمر الثَّانِي: أَن صَلَاة الاسْتِسْقَاء رَكْعَتَانِ، وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس حَدِيثا. وَفِيه: (وَلم يخْطب خطبتكم هَذِه وَلَكِن لم يزل فِي الدُّعَاء والتضرع وَالتَّكْبِير، ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيد) . وَقَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه دلَالَة على أَنه يكبر كَمَا يكبر فِي الْعِيدَيْنِ، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَمَكْحُول وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، وَذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَنه يكبر فيهمَا كَسَائِر الصَّلَوَات تَكْبِيرَة وَاحِدَة للافتتاح، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَأبي ثَوْر وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَقَالَ دَاوُد: إِن شَاءَ كبر كَمَا يكبر فِي الْعِيدَيْنِ، وَإِن شَاءَ كبر تَكْبِيرَة وَاحِدَة للاستفتاح كَسَائِر الصَّلَوَات. وَالْجَوَاب عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن المُرَاد من قَوْله: (كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ) ، يَعْنِي فِي الْعدَد والجهر بِالْقِرَاءَةِ، وَفِي كَون الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْخطْبَة. فَإِن قلت: قد روى الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَالدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) : عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أَبِيه (عَن طَلْحَة، قَالَ: أَرْسلنِي مَرْوَان إِلَى ابْن عَبَّاس اسأله عَن سنة الاسْتِسْقَاء، فَقَالَ: سنة الاسْتِسْقَاء سنة الصَّلَاة فِي الْعِيدَيْنِ إلاّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلب رِدَاءَهُ فَجعل يَمِينه على يسَاره ويساره على يَمِينه، وَصلى رَكْعَتَيْنِ كبر فِي الأولى سبع تَكْبِيرَات، وَقَرَأَ بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَة: هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية، وَكبر فِيهَا خمس تَكْبِيرَات) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد

(7/34)


وَلم يخرجَاهُ. قلت: أُجِيب عَنهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه ضَعِيف، فَإِن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف الحَدِيث لَيْسَ لَهُ حَدِيث مُسْتَقِيم، وَقَالَ ابْن حبَان فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : يروي عَن الثِّقَات المعضلات، وينفرد بالطامات عَن الْأَثْبَات حَتَّى سقط الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقَالَ ابْن قطان فِي كِتَابه: هُوَ أحد ثَلَاثَة أخوة كلهم ضعفاء: مُحَمَّد وَعبد الله وَعمْرَان، بَنو عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وأبوهم عبد الْعَزِيز مَجْهُول الْحَال، فاعتل الحَدِيث بهما. وَالثَّانِي: أَنه معَارض بِحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ (عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استسقى فَخَطب قبل الصَّلَاة، واستقبل الْقبْلَة وحول رِدَاءَهُ، ثمَّ نزل فصلى رَكْعَتَيْنِ لم يكبر فيهمَا إلاّ تَكْبِيرَة) .
الْأَمر الثَّالِث: فِي أَن وَقت صَلَاة الاسْتِسْقَاء كوقت صَلَاة الْعِيدَيْنِ، كَمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقد اخْتلف فِي ذَلِك. فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: إِلَى أَنه يخرج لَهَا كالخروج إِلَى صَلَاة الْعِيدَيْنِ، وَحكى ابْن الْمُنْذر وَابْن عبد الْبر عَن الشَّافِعِي هَذَا، وَنقل ابْن الصّباغ فِي (الشَّامِل) وَصَاحب (جمع الْجَوَامِع) عَن نَص الشَّافِعِي: أَنَّهَا لَا تخْتَص بِوَقْت، وَبِه قطع الْمُتَوَلِي وَالْمَاوَرْدِيّ وَابْن الصّباغ، وَصَححهُ الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر، وَنقل النَّوَوِيّ الْقطع بِهِ عَن الْأَكْثَرين، وَأَنه صَححهُ الْمُحَقِّقُونَ وَأما وَقتهَا كوقت الْعِيد، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِنَّه لم يرو لغير الشَّيْخ أبي عَليّ. قلت: لم ينْفَرد بِهِ الشَّيْخ أَبُو عَليّ، بل قَالَه أَيْضا الشَّيْخ أَبُو حَامِد والمحاملي الْبَغَوِيّ فِي (التَّهْذِيب) [/ ح.
الْأَمر الرَّابِع: فِي أَنه يقْرَأ فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء بعد الْفَاتِحَة مَا يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ، أما سُورَة ق واقتربت، أَو سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى والغاشية، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي اسْتِدْلَالا بِمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور: (فصلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ) . وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ لَا يُخَالف صَلَاة الْعِيد بِشَيْء، ونأمره أَن يقْرَأ فِيهَا مَا يقْرَأ فِي صَلَاة الْعِيد. قَالَ: وَمَا قَرَأَ بِهِ مَعَ أم الْقُرْآن أَجزَأَهُ، وَإِن اقْتصر على أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة أَجزَأَهُ، وَصدر الرَّافِعِيّ كَلَامه بِأَنَّهُ يقْرَأ فِي الأولى ق، وَفِي الثَّانِيَة: اقْتَرَبت، ثمَّ حكى عَن بعض الْأَصْحَاب أَنه يقْرَأ فِي الأولى: ق، وَفِي الثَّانِيَة: إِنَّا أرسلنَا نوحًا. وَعند أَصْحَابنَا: لَيْسَ فِي صَلَاة، أَي صَلَاة كَانَت، قِرَاءَة مُؤَقَّتَة، وَذكر فِي (الْبَدَائِع) و (التُّحْفَة) : الْأَفْضَل أَن يقْرَأ فيهمَا: سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى فِي الأولى، وَفِي الثَّانِيَة: هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية. .
الْأَمر الْخَامِس: أَنه يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء، لما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث (عبد الله بن زيد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي، فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ جهر بِالْقِرَاءَةِ فيهمَا. .) الحَدِيث. وَعَن أبي يُوسُف: أحسن مَا سمعنَا فِيهِ أَن يُصَلِّي الإِمَام رَكْعَتَيْنِ جاهرا بِالْقِرَاءَةِ مُسْتَقْبلا بِوَجْهِهِ قَائِما على الأَرْض دون الْمِنْبَر، مُتكئا على قَوس يخْطب بعد الصَّلَاة خطبتين، وَعَن أبي يُوسُف: خطْبَة وَاحِدَة، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا الدُّعَاء فَلَا يقطعهَا بالجلسة، وَعند مُحَمَّد: يخْطب خطبتين يفصل بَينهمَا بجلسة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
ثمَّ إعلم أَن أَبَا حنيفَة قَالَ: لَيْسَ فِي الاسْتِسْقَاء صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، فَإِن صلى النَّاس وحدانا جَازَ، إِنَّمَا الاسْتِسْقَاء الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار، لقَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} (نوح: 01 و 11) . علق نزُول الْغَيْث بالاستغفار لَا بِالصَّلَاةِ، فَكَأَن الأَصْل فِيهِ الدُّعَاء والتضرع دون الصَّلَاة، وَيشْهد لذَلِك أَحَادِيث: مِنْهَا: الحَدِيث الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ الصَّلَاة. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس، على مَا يَأْتِي فِي الْبَاب الْآتِي. وَمِنْهَا: حَدِيث كَعْب بن مرّة، رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة شُرَحْبِيل بن السمط، أَنه قَالَ لكعب: يَا كَعْب بن مرّة (حدِّثنا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحْذَرْ! قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، استسق الله، عز وَجل، فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إسقنا غيثا مريعا طبقًا عَاجلا غير رائث، نَافِعًا غير ضار، قَالَ: فَاجْتمعُوا حَتَّى أجِيبُوا. قَالَ: فاتوه فشكوا إِلَيْهِ الْمَطَر، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، تهدمت الْبيُوت، فَقَالَ رَسُول الله: اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا. قَالَ: فَجعل السَّحَاب يتقطع يَمِينا وَشمَالًا) . وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة يزِيد الْفَقِير (عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: أَتَت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بواكٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نَافِعًا غير ضار، عَاجلا غير آجل، قَالَ: فأطبقت عَلَيْهِم السَّمَاء) ، انْتهى. قَوْله: (بواك) ، جمع باكية. وَقَالَ الْخطابِيّ: بواكي، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف، قَالَ: مَعْنَاهُ التحامل. قَوْله: (مريعا) ، بِفَتْح

(7/35)


الْمِيم وَكسر الرَّاء: أَي مخصبا ناجعا من: مرع الْوَادي مراعة، ويروى بِضَم الْمِيم من أمرع الْمَكَان إِذا أخصب، ويروى بِالْبَاء الْمُوَحدَة من: أَربع الْغَيْث إِذا أنبت الرّبيع، ويروى بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق أَي: ينْبت لله فِيهِ مَا ترتع فِيهِ الْمَوَاشِي. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن زحر عَن عَليّ بن يزِيد عَن الْقَاسِم (عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد ضحى. فَكبر ثَلَاث تَكْبِيرَات ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا، ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ ارزقنا سمنا ولبنا وشحما وَلَحْمًا، وَمَا نرى فِي السَّمَاء سحابا، فثارت ريح وغيرة ثمَّ اجْتمع سَحَاب فصبت السَّمَاء، فصاح أهل الْأَسْوَاق وثاروا إِلَى سقائف الْمَسْجِد إِلَى بُيُوتهم. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن جَراد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة يعلى قَالَ: (حَدثنَا عبد الله ابْن جَراد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ غيثا مغيثا مريئا توسع بِهِ لِعِبَادِك تغزر بِهِ الضَّرع وتحيي بِهِ الزَّرْع) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عمر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادك وبهائمك وانشر رحمتك واحيي بلدك الْمَيِّت) . وَمِنْهَا: حَدِيث عُمَيْر مولى أبي اللَّحْم رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة ابْن الْهَاد: عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم (عَن عُمَيْر مولى أبي اللَّحْم أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي عِنْد أَحْجَار الزَّيْت) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي الدَّرْدَاء رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ عَنهُ، قَالَ: (قحط الْمَطَر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسألنا نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَسْتَسْقِي لنا فَاسْتَسْقَى. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي لبَابَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) من رِوَايَة عبد الله بن حَرْمَلَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر قَالَ: (استسقى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو لبَابَة بن عبد الْمُنْذر: إِن التَّمْر فِي المرابد يَا رَسُول الله، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إسقنا حَتَّى يقوم أَبُو لبَابَة عُريَانا ويسد مثقب مربده بِإِزَارِهِ، وَمَا نرى فِي السَّمَاء سحابا فأمطرت، فَاجْتمعُوا إِلَى أبي لبَابَة فَقَالُوا: إِنَّهَا لن تقلع حَتَّى تقوم عُريَانا وتسد مثقب مربدك بإزارك، فَفعل فأصحت) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ أَبُو عوَانَة أَنه قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله لقد جئْتُك من عِنْد قوم مَا يتزود لَهُم رَاع وَلَا يخْطر لَهُم فَحل، فَصَعدَ الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ أَبُو عوَانَة أَيْضا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل وَاديا لَا مَاء فِيهِ، وَسَبقه الْمُشْركُونَ إِلَى المَاء، فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين: لَو كَانَ نَبيا لاستسقى لِقَوْمِهِ، فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبسط يَدَيْهِ وَقَالَ: أللهم جللنا سحابا كثيفا قصيفا دلوتا مخلوفا زبرحاء تمطرنا مِنْهُ رذاذا قطقطا سجلاً بعاقا يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام، فَمَا رد يَدَيْهِ من دُعَائِهِ حَتَّى أظلتنا السَّحَاب الَّتِي وصف) . وَعِنْده أَيْضا: عَن عَامر بن خَارِجَة بن سعد عَن جده (أَن قوما شكوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قحط الْمَطَر، فَقَالَ: إجثوا على الركب، ثمَّ قُولُوا: يَا رب يَا رب، قَالَ: فَفَعَلُوا فسقوا حَتَّى أَحبُّوا أَن ينْكَشف عَنْهُم) .
وَمِنْهَا: حَدِيث السفا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة خَالِد بن إلْيَاس عَن أبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي خَيْثَمَة عَن الشِّفَاء بنت خلف (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استسقى يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: إستغفروا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا، وحول رِدَاءَهُ) . وخَالِد بن إلْيَاس ضَعِيف، وَمن حَدِيث الْوَاقِدِيّ عَن مشايخه قَالَ: (قدم وَفد بني مرّة بن قيس وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد فشكو إِلَيْهِ السّنة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ اِسْقِهِمْ الْغَيْث. .) الحَدِيث. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: وَلما قدم وَفد سلامان سنة عشر فشكوا إِلَيْهِ الجدب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيدَيْهِ: اللَّهُمَّ إسقهم الْغَيْث فِي دَارهم. .) الحَدِيث. وَفِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) للبيهقي (عَن أبي وجرة: أَتَى وَفد فَزَارَة بعد تَبُوك فشكوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّنة، فَصَعدَ الْمِنْبَر وَرفع يَدَيْهِ وَكَانَ لَا يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي الاسْتِسْقَاء، قَالَ: فوَاللَّه مَا رَأَوْا الشَّمْس سبتا، فَقَامَ الرجل الَّذِي سَأَلَ الاسْتِسْقَاء. فَقَالَ: يَا رَسُول الله هَلَكت الْأَمْوَال وانقطعت السبل. .) الحَدِيث. وَفِي (سنَن سعيد بن مَنْصُور) بِسَنَد جيد إِلَى الشّعبِيّ قَالَ: (خرج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَسْتَسْقِي فَلم يزدْ على الاسْتِغْفَار، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَاك اسْتَسْقَيْت، فَقَالَ: لقد طلبت الْغَيْث بمجاريح السَّمَاء الَّذِي يسْتَنْزل بِهِ الْمَطَر، ثمَّ قَرَأَ: {اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 3، 25 و 09) . الْآيَة. . وَفِي (مَرَاسِيل أبي دَاوُد) من حَدِيث شريك: (عَن عَطاء بن يسَار أَن رجلا من نجد أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله أجدبنا وهلكنا فَادع الله، فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيث والْآثَار كلهَا تشهد لأبي حنيفَة أَن الاسْتِسْقَاء اسْتِغْفَار وَدُعَاء، وَأجِيب عَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الصَّلَاة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلهَا مرّة وَتركهَا أُخْرَى، وَذَا لَا يدل على السّنة، وَإِنَّمَا يدل على الْجَوَاز.

(7/36)


قَالَ أبُو عَبْدِ الله كانَ ابنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ هُوَ صاحِبُ الأذَانِ ولاكِنَّهُ وَهَمٌ لأنَّ هاذَا عَبْدُ الله بنُ زَيْدِ بنِ عاصِمٍ المَازِنِيُّ الأنْصَارِي

أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (كَانَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة يَقُول هُوَ أَي: رَاوِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء صَاحب الْأَذَان، هَذَا يحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا، وَيحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ سمع ذَلِك من شَيْخه عَليّ بن عبد الله الْمَذْكُور، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ وهم ابْن عُيَيْنَة فِي قَوْله فِي عبد الله بن زيد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث: أَنه صَاحب الْأَذَان، يَعْنِي الَّذِي أرِي النداء، وَهُوَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثَعْلَبَة بن زيد بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج، وراوي حَدِيث الاسْتِسْقَاء هُوَ: عبد الله ابْن عَاصِم بن عَمْرو بن عَوْف بن مبذول بن عَمْرو بن غنم بن مَازِن، وَهُوَ معنى قَوْله: لِأَن هَذَا، أَي: رَاوِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء عبد الله بن زيد بن عَاصِم، وَلم يذكر البُخَارِيّ مُقَابِله حَيْثُ لم يقل: وَذَاكَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه، كَأَنَّهُ اكْتفى بِالَّذِي ذكره، وَقد اتّفق كِلَاهُمَا فِي الِاسْم وَاسم الْأَب وَالنِّسْبَة إِلَى الْأَنْصَار، ثمَّ إِلَى الْخَزْرَج والصحبة وَالرِّوَايَة، وافترقا فِي الْجد والبطن الَّذِي من الْخَزْرَج، لِأَن حفيد عَاصِم بن مَازِن، وحفيد عبد ربه من بلحارث بن الْخَزْرَج. قَوْله: (الْمَازِني الْأنْصَارِيّ) وَفِي بعض النّسخ: عبد الله بن زيد بن عَاصِم مَازِن الْأنْصَارِيّ، وَاحْترز بِهِ عَن مَازِن تَمِيم وَغَيره، والموازن كَثِيرَة: مَازِن فِي قيس غيلَان وَهُوَ مَازِن بن الْمَنْصُور بن الْحَارِث بن حَفْصَة بن قيس غيلَان، وَفِي قيس غيلَان أَيْضا: مَازِن بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور بن قيس غيلَان، ومازن فِي فَزَارَة وَهُوَ: مَازِن بن فَزَارَة، ومازن فِي ضبة وَهُوَ: مَازِن بن كَعْب بن ربيعَة بن ثَعْلَبَة بن سعد بن ضبة. ومازن فِي مدحج وَهُوَ: مَازِن بن ربيعَة بن زيد بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، ومازن فِي الْأَنْصَار وَهُوَ: مَازِن بن النجار بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج، ومازن فِي تَمِيم وَهُوَ: مَازِن بن مَالك بن عَمْرو بن تَمِيم، ومازن فِي شَيبَان وَهُوَ: مَازِن بن ذهل بن ثَعْلَبَة بن شَيبَان، ومازن فِي خذيل وَهُوَ: مَازِن بن مُعَاوِيَة بن تَمِيم بن سعد بن هُذَيْل، ومازن فِي الأزد وَهُوَ: مَازِن بن الأزد. وَقَالَ الرشاطي: مَازِن فِي الْقَبَائِل كثير، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: المازن بيض النَّمْل، وَوَقع فِي (مُسْند الطَّيَالِسِيّ) وَغَيره مثل مَا قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهُوَ غلط.