عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 81 - (كتابُ تَقْصِيرِ الصَّلاةِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب التَّقْصِير فِي الصَّلَاة، هَكَذَا
وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي،
وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: أَبْوَاب تَقْصِير
الصَّلَاة، وَلم تثبت فِي روايتهما الْبَسْمَلَة، وَثبتت
فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي بعض النّسخ: كتاب
التَّقْصِير، وَالتَّقْصِير مصدر من قصَّر بِالتَّشْدِيدِ،
يُقَال: قصرت الصَّلَاة بِفتْحَتَيْنِ قصرا وقصرتها
بِالتَّشْدِيدِ تقصيرا، وأقصرتها إقصارا، وَالْأول أشهر
فِي الِاسْتِعْمَال وأفصح، وَهُوَ لُغَة الْقُرْآن.
1 - (بابُ مَا جاءَ فِي التَّقْصيرِ وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى
يَقْصُرَ)
أَي: هَذَا بَاب حكم تَقْصِير الصَّلَاة أَي: جعل
الرّبَاعِيّة على رَكْعَتَيْنِ، وَالْإِجْمَاع على أَن لَا
تَقْصِير فِي الْمغرب وَالصُّبْح. قَوْله: (وَكم يُقيم
حَتَّى يقصر) ، إعلم أَن الشُّرَّاح تصرفوا فِي هَذَا
التَّرْكِيب بالرطب واليابس، وَحل هَذَا مَوْقُوف على
معرفَة لَفْظَة: كم، وَلَفْظَة: حَتَّى، وَلَفْظَة: يُقيم،
ليفهم مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يكون حَدِيث الْبَاب مطابقا
لَهُ، وإلاّ يحصل الْخلف بَينهمَا، فَتكون التَّرْجَمَة
فِي نَاحيَة وَحَدِيث الْبَاب فِي نَاحيَة فَنَقُول:
لَفْظَة: كم، هُنَا استفهامية بِمَعْنى: أَي عدد؟ وَلَا
يكون تَمْيِيزه إلاّ مُفردا، خلافًا للكوفيين، وَيكون
مَنْصُوبًا وَلَا يجوز جَرّه مُطلقًا كَمَا عرف فِي
مَوْضِعه، وَلَفْظَة: حَتَّى هُنَا، للتَّعْلِيل
لِأَنَّهَا تَأتي فِي كَلَام الْعَرَب لأحد ثَلَاثَة
معَان: لانْتِهَاء الْغَايَة وَهُوَ الْغَالِب،
وَالتَّعْلِيل، وَبِمَعْنى: إلاّ فِي الِاسْتِثْنَاء،
وَهَذَا أقلهَا، وَلَفْظَة: يُقيم، مَعْنَاهَا: يمْكث،
وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ ضد السّفر بِالْمَعْنَى
الشَّرْعِيّ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون معنى قَوْله:
(وَكم يُقيم حَتَّى يقصر؟) وَكم يَوْمًا يمْكث الْمُسَافِر
لأجل قصر الصَّلَاة، وَجَوَابه مثلا: تِسْعَة عشر يَوْمًا،
كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب، فَإِن فِيهِ: (أَقَامَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِسْعَة عشر يَوْمًا يقصر) ،
فَنحْن إِذا سافرنا تِسْعَة عشر يَوْمًا قَصرنَا، وَإِن
زِدْنَا أتممنا، فَيكون مكث الْمُسَافِر فِي سَفَره
تِسْعَة عشر يَوْمًا سَببا لجَوَاز قصر الصَّلَاة، فَإِذا
زَاد على ذَلِك لَا يجوز لَهُ الْقصر، لِأَن الْمُسَبّب
يَنْتَفِي بِانْتِفَاء السَّبَب، فَإِذا عرفت هَذَا عرفت
أَن الْكرْمَانِي تكلّف فِي حل هَذَا التَّرْكِيب حَيْثُ
قَالَ أَولا: لَا يَصح كَون الْإِقَامَة سَببا للقصر،
وَلَا الْقصر غَايَة للإقامة، ثمَّ قَالَ: عدد الْأَيَّام
سَبَب، أَي: سَبَب معرفَة لجَوَاز الْقصر أَي الْإِقَامَة
إِلَى تِسْعَة عشر يَوْمًا سَبَب لجوازه لَا الزِّيَادَة
عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا ترى تعسف جدا، وَكَذَا بَعضهم
تصرف فِيهِ تَصَرُّفَات عَجِيبَة. مِنْهَا: مَا نقل عَن
غَيره بِأَن الْمَعْنى: وَكم إِقَامَته المغياة بِالْقصرِ،
وَهَذَا التَّقْدِير لَا يَصح أصلا، لِأَن: كم،
الاستفهامية على هَذَا تَلْتَبِس بالخبرية، ثمَّ قَوْله:
من عِنْده، وَحَاصِله كم يُقيم مقصرا، غير صَحِيح، لِأَن
هَذَا الَّذِي قَالَه غير حَاصِل، ذَاك الَّذِي نَقله على
أَن فِيهِ إِلْغَاء معنى: حَتَّى. وَمِنْهَا: مَا نَقله
عَن غَيره أَيْضا بقوله، وَقيل: المُرَاد كم يقصر حَتَّى
يُقيم، أَي: حَتَّى يُسمى مُقيما فَانْقَلَبَ اللَّفْظ،
وَهَذَا أَيْضا غير صَحِيح، لِأَن المُرَاد مِنْهُ لَيْسَ
كَذَلِك، لِأَنَّهُ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيب، على
أَن فِيهِ نِسْبَة التَّرْكِيب إِلَى الْخَطَأ. وَمِنْهَا:
مَا قَالَه من عِنْده، وَهُوَ قَوْله: أَو حَتَّى هُنَا
بِمَعْنى: حِين، أَي: كم يُقيم حِين يقصر، وَهَذَا أَيْضا
غير صَحِيح لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن أحد من أهل اللِّسَان
إِن حَتَّى تَجِيء بِمَعْنى حِين.
0801 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو
عَوَانَةَ عنْ عَاصِم وَحُصَيْنٍ عنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أقامَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ
فَنَحْنُ إذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا وَإنْ
زِدْنَا أتْمَمْنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْوَجْه الَّذِي
قَرَّرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: أَبُو عوَانَة اسْمه الوضاح الْيَشْكُرِي.
الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول، مر فِي كتاب
الْوضُوء، الرَّابِع: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح
الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن
السّلمِيّ. الْخَامِس: عِكْرِمَة. السَّادِس: عبد الله بن
عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين.
(7/114)
وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي. وَالثَّانِي
واسطي وَالثَّالِث بَصرِي وَالرَّابِع كُوفِي. وَالْخَامِس
مدنِي. وَفِيه: وَاحِد بكنيته وَثَلَاثَة بِلَا نِسْبَة،
وَفِيه: أَبُو عَاصِم يروي عَن اثْنَيْنِ. وَفِيه:
ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم عَاصِم وحصين وَعِكْرِمَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي: عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله وَعَن
أَحْمد بن يُونُس عَن ابْن شهَاب كِلَاهُمَا عَن عَاصِم
وَحده. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد
بن الْعَلَاء وَعُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة.
وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن عبد الْملك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَقَامَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، كَانَت إِقَامَته بِمَكَّة، على مَا
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من وَجه آخر عَن
عَاصِم. قَوْله: (تِسْعَة عشر) أَي: يَوْمًا بليلته.
قَوْله: (يقصر) جملَة حَالية. قَوْله: (تِسْعَة عشر) أَي:
يَوْمًا. قَوْله: (قَصرنَا) أَي: الصَّلَاة الرّبَاعِيّة.
قَوْله: (وَإِن زِدْنَا) أَي: على تِسْعَة عشر يَوْمًا
(أتممنا) الصَّلَاة أَرْبعا.
ذكر الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة فِي مُدَّة إِقَامَته صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة، وَالْجمع بَينهَا، فَفِي
حَدِيث أنس رَوَاهُ السِّتَّة أَنه أَقَامَ بهَا عشرا،
وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور أَنه قَامَ بهَا
تِسْعَة عشر يَوْمًا بِتَقْدِيم التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق على السِّين وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُود من حَدِيث
ابْن عَبَّاس سَبْعَة عشر يَوْمًا، بِتَقْدِيم السِّين على
الْبَاء الْمُوَحدَة، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَفِي رِوَايَة
لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: خَمْسَة عشر
يَوْمًا. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَفِي حَدِيث
عمرَان بن حُصَيْن أخرجه أَبُو دَاوُد: ثَمَانِي عشرَة
لَيْلَة، وَالْجمع بَينهَا: أَن حَدِيث أنس فِي خجة
الْوَدَاع. وَلم تكن إِقَامَته للعشرة بِنَفس مَكَّة،
وَإِنَّمَا المُرَاد إِقَامَته بهَا مَعَ إِقَامَته بمنى
إِلَى حِين رُجُوعه، فَإِنَّهُ دَخلهَا صبح رَابِعَة،
كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) فِي حَدِيث جَابر: (فَأَقَامَ
بهَا ثَلَاثَة أَيَّام) ، غير يومي الدُّخُول وَالْخُرُوج
مِنْهَا إِلَى منى يَوْم الثَّامِن، فَأَقَامَ بمنى
ثَلَاثَة أَيَّام الرَّمْي الثَّلَاثَة وأخرها الثَّالِث
عشر، وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس وَعمْرَان بن حُصَيْن
فَالْمُرَاد بهما: دُخُوله فِي فتح مَكَّة، وَقد جمع
بَينهمَا الْبَيْهَقِيّ بِأَن من روى: تِسْعَة عشر عد يومي
الدُّخُول وَالْخُرُوج. وَمن روى سَبْعَة عشر تَركهمَا،
وَمن روى ثَمَانِيَة عشر عد أَحدهمَا، وَأما رِوَايَة
خَمْسَة عشر، فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) :
إِنَّهَا ضَعِيفَة مُرْسلَة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن
رواتها ثِقَات، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من
طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن عبد
الله عَن ابْن عَبَّاس، فَإِن قَالَ النَّوَوِيّ:
تَضْعِيفه لأجل إِبْنِ اسحاق فإبن إِسْحَاق لم ينْفَرد
بِهِ، بل رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عرَاك بن مَالك
عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، وَهَذَا
إِسْنَاد جيد، وَمن حفظ زِيَادَة على ذَلِك قبل مِنْهُ
لِأَنَّهُ زِيَادَة ثِقَة، وَالله تَعَالَى أعلم.
ذكر الِاخْتِلَاف عَن عِكْرِمَة: روى عَنهُ عَاصِم وحصين
عَن ابْن عَبَّاس: تِسْعَة أشهر كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب،
وَكَذَا أخرجه ابْن مَاجَه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
بِلَفْظ: (سَافر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سفرا
فصلى تِسْعَة عشر يَوْمًا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ،
وَرَوَاهُ عباد ابْن مَنْصُور (عَن عِكْرِمَة قَالَ:
أَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْفَتْح
تسع عشرَة لَيْلَة يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ،
أخرجه الْبَيْهَقِيّ، وَاخْتلف على عَاصِم عَن عِكْرِمَة
فَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك وَابْن شهَاب وَأَبُو عوَانَة
فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تسع عشرَة، وَرَوَاهُ خلف بن
هِشَام وَحَفْص بن غياث، فَقَالَا: سبع عشرَة، وَاخْتلف
على أبي مُعَاوِيَة عَن عَاصِم، وَأكْثر الرِّوَايَات
عَنهُ تسع عشرَة رَوَاهَا عَنهُ أَبُو خَيْثَمَة وَغَيره،
وَرَوَاهُ عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة،
فَقَالَ: سبع عشرَة. وَاخْتلف على أبي عوَانَة، فَرَوَاهُ
جماعات عَنهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ: تسع عشرَة، وَرَوَاهُ
لوين عَن أبي عوَانَة عَنْهُمَا، فَقَالَ: سبع عشرَة،
وَرَوَاهُ الْمُعَلَّى بن أَسد عَن أبي عوَانَة عَن
عَاصِم، فَقَالَ: سبع عشرَة، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَصَح
الرِّوَايَات عِنْدِي: تسع عشرَة، وَهِي الَّتِي أوردهَا
البُخَارِيّ، وَعبد الله ابْن الْمُبَارك أحفظ من رَوَاهُ
عَن عَاصِم، وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن الْأَصْبَهَانِيّ
عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أَقَامَ سبع عشرَة بِمَكَّة يقصر) .
ذكر اخْتِلَاف الْأَقْوَال: فِي الْمدَّة الَّتِي إِذا نوى
الْمُسَافِر الْإِقَامَة فِيهَا لزمَه الْإِتْمَام، وَهُوَ
على اثْنَيْنِ وَعشْرين قولا: الأول: ذكر ابْن حزم عَن
سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: إِذا وضعت رجلك بِأَرْض
فَأَتمَّ، وَهُوَ فِي (المُصَنّف) : عَن عَائِشَة وطاووس
بِسَنَد صَحِيح، قَالَ: وَحدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن
دَاوُد عَن أبي الْعَالِيَة، قَالَ: (إِذا اطْمَأَن صلى
أَرْبعا) ، يَعْنِي: نزل. وَعَن ابْن عَبَّاس بِسَنَد
صَحِيح مثله. الثَّانِي: إِقَامَة يَوْم وَلَيْلَة،
حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن ربيعَة. الثَّالِث: ثَلَاثَة
أَيَّام، قَالَه ابْن الْمسيب، فِي مثله. الرَّابِع:
(7/115)
أَرْبَعَة أَيَّام، رُوِيَ عَن الشَّافِعِي
وَأحمد، وروى مَالك عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي أَنه سمع
سعيد بن الْمسيب قَالَ: من أجمع على إِقَامَة أَربع لَيَال
وَهُوَ مُسَافر أتم الصَّلَاة، قَالَ مَالك: وَذَلِكَ أحب
مَا سَمِعت إِلَيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يحْسب يَوْم
ظعنه وَلَا يَوْم نُزُوله. وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن
الشَّافِعِي: أَرْبَعَة أَيَّام ولحظة. الْخَامِس: أَكثر
من أَرْبَعَة أَيَّام، ذكره ابْن رشد فِي الْقَوَاعِد عَن
أَحْمد وَدَاوُد. السَّادِس: أَن يَنْوِي إِقَامَة
اثْنَيْنِ وَعشْرين صَلَاة، قَالَ ابْن قدامَة فِي
(الْمُغنِي) : هُوَ مَذْهَب أَحْمد. السَّابِع: عشرَة
أَيَّام، رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب: من حَدِيث
مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن عَنهُ، وَالْحسن بن صَالح
وَأحمد بن عَليّ بن حُسَيْن، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة.
الثَّامِن: اثْنَي عشر يَوْمًا، قَالَ أَبُو عمر: روى
مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ
يَقُول: أفل، صَلَاة الْمُسَافِر، مَا لم يجمع مكثا إثنتي
عشرَة لَيْلَة، قَالَ: وروى عَن الْأَوْزَاعِيّ مثله، ذكره
التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) . التَّاسِع: ثَلَاثَة عشر
يَوْمًا. قَالَ أَبُو عمر: رُوِيَ ذَلِك عَن
الْأَوْزَاعِيّ. الْعَاشِر: خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ
قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن
سعد، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن الْمسيب بِسَنَد
صَحِيح، قَالَ: وَحدثنَا عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد: كَانَ
ابْن عمر إِذا أجمع على إِقَامَة خمس عشرَة يَوْمًا صلى
أَرْبعا. الْحَادِي عشر: سِتَّة عشر يَوْمًا، وَرُوِيَ عَن
اللَّيْث أَيْضا. الثَّانِي عشر: سَبْعَة عشر يَوْمًا،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي أَيْضا. الثَّالِث عشر:
ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي أَيْضا.
الرَّابِع عشر: تِسْعَة عشر يَوْمًا، قَالَه إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم، فِيمَا ذكره الطوسي عَنهُ. الْخَامِس عشر:
عشرُون يَوْمًا، قَالَه ابْن حزم. السَّادِس عشر: يقصر
حَتَّى يَأْتِي مصرا من الْأَمْصَار، قَالَ أَبُو عمر:
قَالَه الْحسن بن أبي الْحسن: قَالَ: وَلَا أعلم أحدا
قَالَه غَيره. السَّابِع عشر: إِحْدَى وَعِشْرُونَ صَلَاة،
ذكره ابْن الْمُنْذر عَن الإِمَام أَحْمد. الثَّامِن عشر:
يقصر مُطلقًا، ذكره أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ. التَّاسِع
عشر: قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة عَن
سماك بن سَلمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِن قُمْت فِي
بلد خَمْسَة أشهر فقصر الصَّلَاة. الْعشْرُونَ: قَالَ
أَبُو بكر: حَدثنَا مسعر وسُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت
عَن عبد الرَّحْمَن قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ سعد بن مَالك
شَهْرَيْن بعمان يقصر الصَّلَاة، وَنحن نتم، فَقُلْنَا
لَهُ، فَقَالَ نَحن أعلم. وَالْحَادِي وَالْعشْرُونَ،
قَالَ: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة حَدثنَا أَبُو
التياح عَن أبي الْمنْهَال، رجل من غَزَّة. قلت لِابْنِ
عَبَّاس: إِنِّي أقيم بِالْمَدِينَةِ حولا لَا أَشد على
سفر. قَالَ: صلِّ رَكْعَتَيْنِ. الثَّانِي وَالْعشْرُونَ:
عِنْد أبي بكر بِسَنَد صَحِيح قَالَ سعيد بن جُبَير، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا أَرَادَ أَن يُقيم أَكثر من
خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم الصَّلَاة.
ذكر بَيَان مَشْرُوعِيَّة الْقصر وَبَيَان سَببه: ذكر
الضَّحَّاك فِي تَفْسِيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صلى فِي حِدة الْإِسْلَام الظّهْر رَكْعَتَيْنِ
وَالْعصر رَكْعَتَيْنِ وَالْمغْرب ثَلَاثًا وَالْعشَاء
رَكْعَتَيْنِ والغداء رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا نزلت آيَة
الْقبْلَة تحول للكعبة وَكَانَ قد صلى هَذِه الصَّلَوَات
نَحْو بَيت الْمُقَدّس، فوجهه جِبْرِيل، عَلَيْهِ
السَّلَام، بَعْدَمَا صلى رَكْعَتَيْنِ من الظّهْر نَحْو
الْكَعْبَة، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِأَن صلِّ رَكْعَتَيْنِ،
وَأمره أَن يُصَلِّي الْعَصْر أَرْبعا وَالْعشَاء أَرْبعا،
والغداة رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ: يَا مُحَمَّد أما
الْفَرِيضَة الأولى فَهِيَ للمسافرين من أمتك، والغزاة،
وروى الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا الْمثنى حَدثنَا إِسْحَاق
حَدثنَا عبد الله بن هَاشم أخبرنَا سيف عَن أبي روق عَن
أبي أَيُّوب (عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: سَأَلَ قوم من التُّجَّار رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا يَا رَسُول الله: إِنَّا
نضرب فِي الأَرْض فَكيف نصلي؟ فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح
أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101) . ثمَّ
انْقَطع الْوَحْي، فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك بحول غزا
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى الظّهْر، فَقَالَ
الْمُشْركُونَ: لقد أمكنكم مُحَمَّد وَأَصْحَابه من
ظُهُورهمْ، هلا شددتم عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى
بَين الصَّلَاتَيْنِ: {إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم
الَّذين كفرُوا} (النِّسَاء: 101) . وَحدثنَا ابْن بشار
حَدثنَا معَاذ بن هِشَام حَدثنِي أبي عَن قَتَادَة (عَن
سُلَيْمَان الْيَشْكُرِي أَنه سَأَلَ جَابر بن عبد الله
عَن إقْصَار الصَّلَاة أَي يَوْم أنزل أَو: أَي يَوْم
هُوَ؟ فَقَالَ: انطلقنا نتلقى عيرًا لقريش آتِيَة من
الشَّام، حَتَّى إِذا كُنَّا بِنَخْل، فَنزلت آيَة الْقصر)
. وَفِي (شرح الْمسند) لِابْنِ الْأَثِير: كَانَ قصر
الصَّلَاة فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَفِي
(تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) قَالَ ابْن عَبَّاس: أول صَلَاة
قصرت صَلَاة الْعَصْر، قصرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعسفان فِي غَزْوَة ذِي أَنْمَار.
1801 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوارِثِ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ أبي إسْحَاقَ قَالَ
(7/116)
سَمِعْتُ أنسا يقُولُ خَرَجْنَا مَعَ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ المَدِينَةِ إلَى
مَكَّةَ فكانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى
رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ قُلْتُ أقَمْتُمْ بِمَكَّةَ
شَيْئا قَالَ أقَمْنَا بِهَا عَشْرا.
(الحَدِيث 1801 طرفه فِي: 7924) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين: عبد الله بن عمر الْمنْقري المقعد. الثَّانِي:
عبد الْوَارِث بن سعيد أَبُو عُبَيْدَة. الثَّالِث: يحيى
بن أبي إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ، مَاتَ سنة سِتّ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون.
وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي الْمَغَازِي عَن أبي نعيم وَقبيصَة، كِلَاهُمَا عَن
سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
يحيى بن يحيى وَعَن أبي كريب وَعَن عبيد الله بن معَاذ
وَعَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن نمير. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَمُسلم بن
إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن وهيب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
قُتَيْبَة وَعَن حميد بن مسْعدَة وَفِي الْحَج عَن زِيَاد
بن أَيُّوب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن نصر بن
عَليّ الْجَهْضَمِي وَعبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرجنَا من الْمَدِينَة) ، وَفِي
رِوَايَة شُعْبَة عَن يحيى بن إِسْحَاق عِنْد مُسلم:
(إِلَى الْحَج) ، قَوْله: (من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة) ،
دخل مَكَّة يَوْم الْأَحَد صَبِيحَة رَابِعَة ذِي
الْحجَّة، وَبَات بالمحصب لَيْلَة الْأَرْبَعَاء وَفِي
تِلْكَ اللَّيْلَة اعْتَمَرت عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، وَخرج من مَكَّة صبيحتها وَهُوَ
الرَّابِع عشر. قَوْله: (فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ) ، أَي: الظّهْر وَالْعصر وَالْعشَاء
وَالْفَجْر إلاّ الْمغرب، فَإِنَّهُ يُصليهَا ثَلَاثًا على
حَالهَا، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عَليّ بن عَاصِم
عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق عَن أنس: إلاّ الْمغرب. قَوْله:
(قلت) ، قَائِله يحيى. قَوْله: (أقمتم بِمَكَّة شَيْئا) ؟
همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ محذوفة أَي: أقمتم. قَوْله:
(عشرا) أَي: عشرَة أَيَّام، وَإِنَّمَا حذفت التَّاء من
الْعشْر مَعَ أَن الْيَوْم مُذَكّر لِأَن الْمُمَيز إِذا
لم يكن مَذْكُورا جَازَ فِي الْعدَد التَّذْكِير والتأنيث.
قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنه أَقَامَ بِمَكَّة وحواليها لَا
فِي مَكَّة فَقَط، إِذْ كَانَ ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع،
وَلِهَذَا قُلْنَا: إِن حَدِيث أنس لَا يُعَارض حَدِيث
ابْن عَبَّاس، لِأَن حَدِيث ابْن عَبَّاس كَانَ فِي فتح
مَكَّة، وَخرج من مَكَّة صبيح الرَّابِع عشر فَتكون مُدَّة
إِقَامَته بِمَكَّة وحواليها عشرَة أَيَّام بلياليها،
كَمَا قَالَ أنس، وَتَكون مُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة
أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء لِأَنَّهُ خرج مِنْهَا فِي
الْيَوْم الثَّامِن، فصلى الظّهْر بمنى. وَقَالَ ابْن
رشيد: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن يبين أَن حَدِيث أنس دَاخل
فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، لِأَن إِقَامَته عشرَة دَاخِلَة
فِي إِقَامَته تسع عشرَة، وَأَرَادَ من ذَلِك أَن الْأَخْذ
بِالزَّائِدِ مُتَعَيّن، وَلَا يتهيأ لَهُ ذَلِك
لاخْتِلَاف القضيتين، وَإِنَّمَا يَجِيء مَا قَالَه لَو
كَانَت القضيتان متحدتين. فَافْهَم.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهِ الشَّافِعِي، رَحمَه
الله، أَن الْمُسَافِر إِذا أَقَامَ ببلدة أَرْبَعَة
أَيَّام قصر، لِأَن إِقَامَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِمَكَّة كَانَت أَرْبَعَة أَيَّام، كَمَا ذكرنَا.
وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ
الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ: الْأَصَح أَن المُرَاد
بالأربعة غير يَوْم الدُّخُول وَيَوْم الْخُرُوج، وَعَن
الشَّافِعِي فِي قَوْله: إِذا أَقَامَ أَكثر من أَرْبَعَة
أَيَّام كَانَ مُقيما وَإِن لم ينْو الْإِقَامَة وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ: مَا قَالَه الشَّافِعِي خلاف الْإِجْمَاع
لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن أحد قبله بِأَن يصير مُقيما بنية
أَرْبَعَة أَيَّام، وَعند أَصْحَابنَا: إِن نوى أقل من
خَمْسَة عشر يَوْمًا قصر صلَاته، لِأَن الْمدَّة خَمْسَة
عشر يَوْمًا كمدة الطُّهْر، لما روى (عَن ابْن عَبَّاس
وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَا: إِذا
قدمت بَلْدَة وَأَنت مُسَافر وَفِي نَفسك أَن تقيم خَمْسَة
عشر يَوْمًا فأكمل الصَّلَاة بهَا، وَإِن كنت لَا تَدْرِي
مَتى تظعن فأقصرها) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، وروى ابْن أبي
شيبَة فِي (مُصَنفه) : (حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا عمر بن ذَر
عَن مُجَاهِد أَن ابْن عمر كَانَ إِذا أجمع على إِقَامَة
خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم الصَّلَاة) وروى هشيم عَن دَاوُد
بن أبي هِنْد عَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: إِذا أَقَامَ
الْمُسَافِر خمس عشرَة لَيْلَة أتم الصَّلَاة وَمَا كَانَ
دون ذَلِك فليقصر. ثمَّ إعلم أَنا قُلْنَا: إِنَّمَا يصير
مُقيما بنية الْإِقَامَة إِذا سَار ثَلَاثَة أَيَّام،
فَأَما إِذا لم يسر ثَلَاثَة أَيَّام فعزم على الرُّجُوع
أَو نوى الْإِقَامَة يصير مُقيما، وَإِن كَانَ فِي
الْمَفَازَة، كَذَا ذكره فَخر الْإِسْلَام وَفِي
(الْمُجْتَبى) : لَا يبطل السّفر إلاّ بنية الْإِقَامَة
أَو دُخُول الوطن أَو الرُّجُوع إِلَيْهِ قبل الثَّلَاث،
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأَظْهر. وَنِيَّة
الْإِقَامَة إِنَّمَا تُؤثر بِخمْس شَرَائِط. أَحدهَا: ترك
السّير حَتَّى لَو نوى الْإِقَامَة وَهُوَ يسير لم يَصح.
وَثَانِيها: صَلَاحِية الْموضع
(7/117)
حَتَّى لَو نوى الْإِقَامَة فِي بر أَو
بَحر أَو جَزِيرَة لم يَصح اتِّحَاد الْموضع. رَابِعهَا:
الْمدَّة. خَامِسهَا: الِاسْتِقْلَال بِالرَّأْيِ. حَتَّى
لَو نوى من كَانَ تبعا لغيره كالجندي وَالزَّوْجَة
وَالرَّقِيق والأجير والتلميذ مَعَ استاذه والغريم
الْمُفلس مَعَ صَاحب الدّين لَا تصح نِيَّته إلاّ إِذا نوى
متبوعه، وَلَو نوى الْمَتْبُوع الْإِقَامَة وَلم يعلم بهَا
التَّابِع فَهُوَ مُسَافر، كَالْوَكِيلِ إِذا عزل، وَهُوَ
الْأَصَح، وَعَن بعض أَصْحَابنَا: يصيرون مقيمين ويعيدون
مَا أَدّوا فِي مُدَّة عدم الْعلم.
2 - (بابُ الصَّلاةِ بِمِنىً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة بمنى، يَعْنِي: فِي
أَيَّام الرَّمْي، وَإِنَّمَا لم يذكر حكم الْمَسْأَلَة بل
قَالَ: بَاب الصَّلَاة بمنى على الْإِطْلَاق لقُوَّة
الْخلاف فِيهَا، وَإِنَّمَا خص منى بِالذكر لِأَنَّهَا
الْمحل الَّذِي وَقع فِي ذَلِك قَدِيما، وَمنى يذكر
وَيُؤَنث بِحَسب قصد الْموضع والبقعة. قيل: فَإِذا ذكّر
صرف وَكتب بِالْألف، وَإِذا أنّث لم يصرف وَكتب
بِالْيَاءِ، وَذكر الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت منى،
لِأَنَّهَا مني بهَا الْكَبْش الَّذِي فدى بِهِ
إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من:
الْمنية. وَيُقَال: إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لما أَتَى آدم بمنى قَالَ لَهُ: تمن. قَالَ
الْبكْرِيّ: هُوَ جبل بِمَكَّة مَعْرُوف. وَقَالَ أَبُو
عَليّ الْفَارِسِي: لامه يَاء، من منيت الشَّيْء إِذا
قدرته. وَقَالَ الْفراء: الْأَغْلَب عَلَيْهِ التَّذْكِير.
وَقَالَ الْحَازِمِي: إِن منى صقع قرب مَكَّة، وَهُوَ
أَيْضا هضبة قرب قَرْيَة من ديار غَنِي بن أعصر، وَقد
امتنى الْقَوْم إِذا أَتَوا منى، قَالَه يُونُس. وَقَالَ
ابْن الْأَعرَابِي: أمني الْقَوْم.
2801 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ
عُبَيْدِ الله قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قالَ صلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وَأبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ ومَعَ عُثْمَانَ صَدْرا مِنْ إمَارَتِهِ ثُمَّ
أتَمَّهَا.
(الحَدِيث 2801 طرفه فِي: 5561) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين الْإِطْلَاق
الَّذِي فِيهَا، فَإِن الْإِطْلَاق فِيهَا يتَنَاوَل
الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ ويتناولها أَرْبعا أَيْضا،
فَصَارَت الْمُطَابقَة من جِهَة التَّفْصِيل بعد
الْإِجْمَال، أَو من جِهَة التَّقْيِيد بعد الْإِطْلَاق،
وَلَكِن حكم الْمَسْأَلَة كَمَا يَنْبَغِي لَا يفهم
مِنْهُ، وَهُوَ أَن الْمُقِيم بمنى هَل يقصر أَو يتم،
فَلذَلِك لم يذكر حكمهَا فِي التَّرْجَمَة، وسنبينها إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد
الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى وَعبيد الله ابْن سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد.
قَوْله: (بمنى) فِي رِوَايَة مُسلم عَن سَالم عَن أَبِيه:
(بمنى وَغَيره) ، قَوْله: (صَدرا) أَي: أول خِلَافَته
وَهِي سِتّ سِنِين أَو ثَمَان سِنِين على خلاف فِيهِ.
قَوْله: (من إمارته) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَهِي خِلَافَته.
قَوْله: (ثمَّ أتمهَا) أَي: بعد ذَلِك، لِأَن الْقصر
والإتمام جائزان، وَرَأى تَرْجِيح طرف الْإِتْمَام لِأَن
فِيهِ زِيَادَة مشقة، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة عَن
عبيد الله عِنْد مُسلم: (ثمَّ إِن عُثْمَان صلى أَرْبعا
فَكَانَ ابْن عمر إِذا صلى مَعَ الإِمَام صلى أَرْبعا،
وَإِذا صلى وَحده صلى رَكْعَتَيْنِ) . وَفِي رِوَايَة
لمُسلم عَن حَفْص بن عَاصِم (عَن ابْن عمر، قَالَ: صلى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى صَلَاة
الْمُسَافِر، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان ثَمَان سِنِين
أَو سِتّ سِنِين) . وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي
(مُسْنده) عَن زَمعَة عَن سَالم (عَن ابْن عمر، قَالَ: صلى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى صَلَاة السّفر
رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى أَبُو بكر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى
بعده عمر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى بعده عُثْمَان
رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ إِن عُثْمَان أتم بعد) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: اتّفق الْعلمَاء
على أَن الْحَاج القادم مَكَّة يقصر الصَّلَاة بهَا
وبمنىً، وبسائر الْمشَاهد لِأَنَّهُ عِنْدهم فِي سفر،
لِأَن مَكَّة لَيست دَار أَرْبَعَة إِلَّا لأَهْلهَا أَو
لمن أَرَادَ الْإِقَامَة بهَا، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قد
فرض عَلَيْهِم ترك الْمقَام بهَا، فَلذَلِك لم ينْو رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِقَامَة بهَا وَلَا
بمنى، قَالَ: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي صَلَاة الْمَكِّيّ
بمنى، فَقَالَ مَالك: يتم بِمَكَّة وَيقصر بمنى،
وَكَذَلِكَ أهل منى، يتمون بمنى ويقصرون بِمَكَّة، وعرفات.
قَالَ: وَهَذِه الْمَوَاضِع مَخْصُوصَة بذلك لِأَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قصر بِعَرَفَة لم
يُمَيّز من وَرَاءه، وَلَا قَالَ لأهل مَكَّة: أَتموا،
وَهَذَا مَوضِع بَيَان. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ أَن
الْمَكِّيّ يقصر بمنى ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وطاووس،
وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق، وَقَالُوا: إِن
الْقصر سنة الْموضع، وَإِنَّمَا يتم بمنى وعرفات من
(7/118)
كَانَ مُقيما فِيهَا. وَقَالَ أَكثر أهل
الْعلم، مِنْهُم عَطاء وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري والكوفيون
وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو
ثَوْر: لَا يقصر الصَّلَاة أهل مَكَّة بمنى وعرفات
لانْتِفَاء مَسَافَة الْقصر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
وَلَيْسَ الْحَج مُوجبا للقصر لِأَن أهل منى وعرفات إِذا
كَانُوا حجاجا أَتموا، وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَلقا بالموضع،
وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق بِالسَّفرِ، وَأهل مَكَّة مقيمون
هُنَاكَ لَا يقصرون، وَلما كَانَ الْمُقِيم لَا يقصر لَو
خرج إِلَى منى كَذَلِك الْحَاج.
ذكر الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة: اخْتلف
الْعلمَاء فِيهَا، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه
والكوفيون: الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة
ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن بسير الْإِبِل ومشي
الْأَقْدَام. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يَوْمَانِ وَأكْثر
الثَّالِث، وَهِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة
وَرِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد وَلم يُرِيدُوا
بِهِ السّير لَيْلًا وَنَهَارًا لأَنهم جعلُوا النَّهَار
للسير وَاللَّيْل للاستراحة، وَلَو سلك طَرِيقا هِيَ
مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَأمكنهُ أَن يصل إِلَيْهَا فِي
يَوْم من طَرِيق أُخْرَى قصر، ثمَّ قدرُوا ذَلِك بالفراسخ،
فَقيل: أحد وَعِشْرُونَ فرسخا، وَقيل: ثَمَانِيَة عشر،
وَعَلِيهِ الفتوي، وَقيل: خَمْسَة عشر فرسخا، وَإِلَى
ثَلَاثَة أَيَّام ذهب عُثْمَان بن عَفَّان وَابْن مَسْعُود
وسُويد بن غَفلَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري
وَابْن حييّ وَأَبُو قلَابَة وَشريك بن عبد الله وَسَعِيد
بن جُبَير وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَهُوَ رِوَايَة عَن عبد
الله بن عمر. وَعَن مَالك: لَا يقصر فِي أقل من ثَمَانِيَة
وَأَرْبَعين ميلًا بالهاشمي، وَذَلِكَ سِتَّة عشر فرسخا،
وَهُوَ قَول أَحْمد، والفرسخ ثَلَاثَة أَمْيَال، والميل
سِتَّة آلَاف ذِرَاع، والذراع أَربع وَعِشْرُونَ إصبعا
مُعْتَرضَة معتدلة، والأصبع سِتّ شعيرات معترضات معتدلات،
وَذَلِكَ يَوْمَانِ، وَهُوَ أَرْبَعَة برد، هَذَا هُوَ
الْمَشْهُور عَنهُ. كَأَنَّهُ احْتج بِمَا رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد
عَن أَبِيه وَعَطَاء بن أبي رَبَاح (عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا
أهل مَكَّة لَا تقصرُوا الصَّلَاة فِي أدنى من أَرْبَعَة
برد من مَكَّة إِلَى عسفان) . وَعبد الْوَهَّاب ضَعِيف،
وَمِنْهُم من يكذبهُ، وَعنهُ أَيْضا: خَمْسَة
وَأَرْبَعُونَ ميلًا، وَللشَّافِعِيّ: سَبْعَة نُصُوص فِي
الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة: ثَمَانِيَة
وَأَرْبَعُونَ ميلًا، سِتَّة وَأَرْبَعُونَ، أَكثر من
أَرْبَعِينَ، أَرْبَعُونَ، يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ، يَوْم
وَلَيْلَة، وَهَذَا الآخر قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيّ.
قَالَ أَبُو عمر: قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: عَامَّة
الْفُقَهَاء يَقُولُونَ بِهِ. قَالَ أَبُو عَمْرو عَن
دَاوُد: يقصر فِي طَوِيل السّفر وقصيره، زَاد ابْن حَامِد:
حَتَّى لَو خرج إِلَى بُسْتَان لَهُ خَارج الْبَلَد قصر،
وَزعم أَبُو مُحَمَّد أَنه لَا يقصر عِنْدهم فِي أقل من
ميل، وَرُوِيَ الْميل أَيْضا عَن ابْن عمر، رُوِيَ عَنهُ
أَنه قَالَ: لَو خرجت ميلًا لقصرت. وَعنهُ: إِنِّي لأسافر
السَّاعَة من النَّهَار فأقصر، وَعنهُ: ثَلَاثَة أَمْيَال،
وَعَن ابْن مَسْعُود: أَرْبَعَة أَمْيَال، وَفِي
(المُصَنّف) : حَدثنَا هشيم عَن أبي هَارُون (عَن أبي سعيد
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا سَافر
فرسخا قصر الصَّلَاة) . وَحدثنَا هشيم عَن جُوَيْبِر عَن
الضَّحَّاك (عَن النزال أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، خرج إِلَى النحيلة، فصلى بهَا الظّهْر وَالْعصر
رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ رَجَعَ من يَوْمه. قَالَ: أردْت أَن
أعلمكُم سنة نَبِيكُم) . وَكَانَ حُذَيْفَة يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ فِيمَا بَين الْكُوفَة والمدائن، وَعَن ابْن
عَبَّاس: تقصر الصَّلَاة فِي مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة.
وَعَن ابْن عمر وسُويد بن غَفلَة وَعمر بن الْخطاب:
ثَلَاثَة أَمْيَال. . وَعَن أنس (كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج مسيرَة ثَلَاثَة أَمْيَال أَو
ثَلَاثَة فراسخ. شُعْبَة الشاك قصر) ، رَوَاهُ مُسلم.
قَالَ أَبُو عمر: هَذَا عَن يحيى بن يزِيد الْهنائِي،
قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن قصر الصَّلَاة، فَقَالَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج ...
إِلَى آخِره، وَيحيى شيخ بَصرِي لَيْسَ لمثله أَن يروي مثل
هَذَا الَّذِي خَالف فِيهِ جُمْهُور الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَلَا هُوَ مِمَّن يوثق بِهِ فِي مثل ضبط
هَذَا الْأَمر، وَقد يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ سفرا
بَعيدا، ثمَّ أَرَادَ ابْتِدَاء قصر الصَّلَاة إِذا خرج
وَمَشى ثَلَاثَة أَمْيَال، فيتفق حُضُور صَلَاة فيقصر.
وَعَن الْحسن: يقصر لمسيرة لَيْلَتَيْنِ. وَعند أبي
الشعشاء: سِتَّة أَمْيَال. وَعند مُسلم (عَن جُبَير بن
نفير، قَالَ: خرجت مَعَ شُرَحْبِيل بن السمط إِلَى قَرْيَة
على رَأس سَبْعَة عشرَة أَو ثَمَانِيَة عشر ميلًا، فصلى
رَكْعَتَيْنِ، فَقلت لَهُ، فَقَالَ: رَأَيْت عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، صلى بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ،
فَقلت لَهُ، فرفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
ذكر السَّبَب فِي إتْمَام عُثْمَان الصَّلَاة بمنى
للْعُلَمَاء فِي ذَلِك أَقْوَال: مِنْهَا: أَنه أتمهَا
بمنى خَاصَّة. قَالَ أَبُو عمر، قَالَ قوم: أَخذ بالمباح
فِي ذَلِك، إِذْ للْمُسَافِر أَن يقصر وَيتم، كَمَا لَهُ
أَن يَصُوم وَيفْطر، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا صلى
بمنى أَرْبعا لِأَن الْأَعْرَاب كَانُوا كثيرين فِي ذَلِك
الْعَام، فأحبب أَن يُخْبِرهُمْ بِأَن الصَّلَاة أَربع،
وروى معمر عَن الزُّهْرِيّ أَن عُثْمَان صلى بمنى أَرْبعا
لِأَنَّهُ أجمع الْإِقَامَة بعد الْحَج، وروى يُونُس
عَنهُ: لما اتخذ عُثْمَان الْأَمْوَال بِالطَّائِف،
وَأَرَادَ أَن يُقيم بهَا صلى أَرْبعا، وروى مُغيرَة عَن
إِبْرَاهِيم، قَالَ: صلى أَرْبعا لِأَنَّهُ كَانَ اتخذها
وطنا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَذَلِكَ مَدْخُول لِأَنَّهُ
لَو كَانَ إِتْمَامه لهَذَا الْمَعْنى لما خَفِي ذَلِك
(7/119)
على سَائِر الصَّحَابَة وَلما أَنْكَرُوا
عَلَيْهِ ترك السّنة، وَلما صلى ابْن مَسْعُود فِي منزله،
وَقَالَ ابْن بطال: الْوُجُوه الَّتِي ذكرت عَن
الزُّهْرِيّ كلهَا لَيست بِشَيْء. أما الْوَجْه الأول فقد
قَالَ الطَّحَاوِيّ: الْأَعْرَاب كَانُوا بِأَحْكَام
الصَّلَاة أَجْهَل فِي زمن الشَّارِع فَلم يتم بهم لتِلْك
الْعلَّة، وَلم يكن عُثْمَان ليخاف عَلَيْهِم مَا لم يخفه
الشَّارِع، لِأَنَّهُ بهم رؤوف رَحِيم، أَلا ترى أَن
الْجُمُعَة لما كَانَ فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ لم يعدل
عَنْهَا، وَكَانَ يحضرها الغوغاء والوفود، وَقد تجوزوا أَن
صَلَاة الْجُمُعَة فِي كل يَوْم رَكْعَتَانِ؟ وَأما
الْوَجْه الثَّانِي: فَلِأَن الْمُهَاجِرين فرض عَلَيْهِم
ترك الْمقَام بِمَكَّة، وَصَحَّ عَن عُثْمَان أَنه كَانَ
لَا يودع النِّسَاء إلاّ على ظهر الرَّوَاحِل، ويسرع
الْخُرُوج من مَكَّة خشيَة أَن يرجع فِي هجرته الَّتِي
هَاجر لله تَعَالَى، وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يمْتَنع
ذَلِك إِذا كَانَ لَهُ أَمر أوجب ذَلِك الضَّرُورَة، وَقد
قَالَ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) فِيمَن يُقيم بمنى ليخف
النَّاس: يتم، فِي أحد قوليه. وَأما الْوَجْه الثَّالِث
فَفِيهِ بُعد، إِذْ لم يقل أحد إِن الْمُسَافِر إِذا مر
بِمَا يملكهُ من الأَرْض وَلم يكن لَهُ فِيهَا أهل أَن
حكمه حكم الْمُقِيم، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ عُثْمَان أتم
لِأَن أَهله كَانُوا مَعَه بِمَكَّة، وَيرد هَذَا أَن
الشَّارِع كَانَ يُسَافر بزوجاته وَكن مَعَه بِمَكَّة،
وَمَعَ ذَلِك كَانَ يقصر. فَإِن قلت: روى عبد الله ابْن
الْحَارِث بن أبي ذئاب عَن أَبِيه، وَقد عمل الْحَارِث
لعمر بن الْخطاب، قَالَ: صلى بِنَا عُثْمَان أَرْبعا،
فَلَمَّا سلم أقبل على النَّاس فَقَالَ: إِنِّي تأهلت
بِمَكَّة، وَقد سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: من تأهل ببلدة فَهُوَ من أَهلهَا، فَليصل
أَرْبعا، وَعَزاهُ ابْن التِّين إِلَى رِوَايَة ابْن شخير:
أَن عُثْمَان صلى بمنى أَرْبعا، فأنكروا عَلَيْهِ،
فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، إِنِّي لما قدمت تأهلت بهَا،
إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: إِذا تأهل الرجل ببلدة فَليصل بهَا صَلَاة
الْمُقِيم. قلت: هَذَا مُنْقَطع أخرجه الْبَيْهَقِيّ من
حَدِيث عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ ضَعِيف عَن ابْن
أبي ذئاب عَن أَبِيه قَالَ: صلى عُثْمَان، وَقَالَ ابْن
حزم: إِن عُثْمَان كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَحَيْثُ
كَانَ فِي بلد فَهُوَ عمله، وَللْإِمَام تَأْثِير فِي حكم
الْإِتْمَام كَمَا لَهُ تَأْثِير فِي إِقَامَة الْجُمُعَة
إِذا مر بِقوم أَنه يجمع بهم الْجُمُعَة، غير أَن عُثْمَان
سَار مَعَ الشَّارِع إِلَى مَكَّة وَغَيرهَا، وَكَانَ مَعَ
ذَلِك يقصر، ورد بِأَن الشَّارِع كَانَ أولى بذلك، وَمَعَ
ذَلِك لم يَفْعَله، وَصَحَّ عَنهُ أَنه كَانَ يُصَلِّي فِي
السّفر رَكْعَتَيْنِ إِلَى أَن قَبضه الله تَعَالَى.
وَقَالَ ابْن بطال: وَالْوَجْه الصَّحِيح فِي ذَلِك،
وَالله أعلم، أَن عُثْمَان وَعَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، إِنَّمَا أتما فِي السّفر
لِأَنَّهُمَا اعتقدا فِي قصره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
أَنه لما خير بَين الْقصر والإتمام اخْتَار الْأَيْسَر من
ذَلِك على أمته، وَقد قَالَت عَائِشَة: مَا خير رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمريْن إلاّ اخْتَار
إيسرهما مَا لم يكن إِثْمًا، فَأخذت هِيَ وَعُثْمَان فِي
أَنفسهمَا بالشدة وتركا الرُّخْصَة، إِذْ كَانَ ذَلِك
مُبَاحا لَهما فِي حكم التَّخْيِير فِيمَا أذن الله
تَعَالَى فِيهِ، وَيدل على ذَلِك إِنْكَار ابْن مَسْعُود
الْإِتْمَام على عُثْمَان، ثمَّ صلى خَلفه وَأتم، فكُلم
فِي ذَلِك فَقَالَ: الْخلاف شَرّ. [/ شَرّ
3801 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ
أنبَأنَا أبُو إسْحَاقَ قَالَ سَمَعْتُ حارثَةَ بنَ وَهَبٍ
قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
آمَنَ مَا كانَ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ.
(الحَدِيث 3081 طرفه فِي: 6561) .
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي
ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد
هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: أَبُو
إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. الرَّابِع:
حَارِثَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة: ابْن وهب الْخُزَاعِيّ
أَخُو عبيد الله بن عمر بن الْخطاب لأمه، وأمهما بنت
عُثْمَان بن مَظْعُون، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الإنباء فِي مَوضِع وَاحِد وَهُوَ
بِمَعْنى الْإِخْبَار والتحديث. وَفِيه: السماع. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه
مَذْكُور بكنيته وَهُوَ بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَأَبُو
إِسْحَاق كُوفِي، وَهُوَ أَيْضا مَذْكُور بكنيته. وَفِيه:
لفظ الإنباء وَلم يذكر فِيمَا قبل هَذَا اللَّفْظ. وَفِيه:
أَن حَارِثَة ابْن وهب مَذْكُور فِي موضِعين لَيْسَ إلاّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْحَج عَن آدم عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَعَن أَحْمد بن
يُونُس، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن عبد الله بن
مُحَمَّد النُّفَيْلِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة
بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَمِعت حَارِثَة بن وهب) وَفِي
رِوَايَة البرقاني فِي (مستخرجه) (رجلا من خُزَاعَة) ،
أخرجه
(7/120)
من طَرِيق أبي الْوَلِيد شيخ البُخَارِيّ
فِيهِ قَوْله: (آمن) أفعل التَّفْضِيل من الْأَمْن.
قَوْله: (مَا كَانَ) فِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي:
(مَا كَانَت) ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وَمَعْنَاهُ:
الْجمع لِأَن مَا أضيف إِلَيْهِ أفعل يكون جمعا،
وَالْمعْنَى: صلى بِنَا وَالْحَال أَن أَكثر أكواننا فِي
سَائِر الْأَوْقَات أَمن. وَلَفظ مُسلم: (عَن حَارِثَة بن
وهب قَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بمنى، آمن مَا كَانَ النَّاس وَأَكْثَره، رَكْعَتَيْنِ) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: (صليت خلف رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بمنى وَالنَّاس أَكثر مَا كَانُوا فصلى
رَكْعَتَيْنِ) . قَوْله: (بمنى) الْبَاء فِيهِ ظرفية
تتَعَلَّق بقوله: (صلى) . قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) ، مفعول:
(صلى) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: مَذْهَب الْجُمْهُور أَنه يجوز
الْقصر من غير خوف لدلَالَة حَدِيث حَارِثَة على ذَلِك،
لِأَن مَعْنَاهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصر من غير
خوف. وَفِيه: رد على من زعم أَن الْقصر مُخْتَصّ بالخوف
أَو الْحَرْب، ذكر أَبُو جَعْفَر فِي (تَفْسِيره)
بِإِسْنَادِهِ (عَن عَائِشَة، تَقول فِي السّفر: أَتموا
صَلَاتكُمْ، فَقَالُوا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَت:
إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي حَرْب،
وَكَانَ يخَاف، فَهَل تخافون أَنْتُم؟) وَفِي لفظ: (كَانَت
تصلي فِي السّفر أَرْبعا) . وَاحْتج هَؤُلَاءِ الزاعمون
أَيْضا بقوله تَعَالَى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض
فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن
خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} (النِّسَاء: 101)
. وَأجِيب بِأَن الشَّرْط فِي الْآيَة خرج مخرج الْغَالِب،
وَقيل: هُوَ من الْأَشْيَاء الَّتِي شرع الحكم فِيهَا
بِسَبَب ثمَّ زَالَ السَّبَب وَبَقِي الحكم، كالرمل فِي
الطّواف، وَقد أوضح هَذَا مَا فِي (صَحِيح مُسلم) (عَن
يعلى بن أُميَّة، قَالَ: قلت لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من
الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا}
(النِّسَاء: 101) . فقد أَمن النَّاس، فَقَالَ عمر: عجبت
مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: صَدَقَة تصدق الله
بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته) . وَفِي (تَارِيخ
أَصْبَهَان) لأبي نعيم: حَدثنَا سُلَيْمَان حَدثنَا
مُحَمَّد بن سهل الرباطي حَدثنَا سهل بن عُثْمَان عَن شريك
عَن قيس بن وهب عَن أبي الكنود، (سَأَلت ابْن عمر عَن
صَلَاة السّفر، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ نزلت من السَّمَاء،
فَإِن شِئْتُم فردوها) وَأما الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ
أَبُو جَعْفَر فَإِن حَدِيث حَارِثَة بن وهب يردهُ،
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: فِيهِ: أَي فِي حَدِيث الْبَاب:
تَعْظِيم شَأْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَيْثُ أطلق مَا قَيده الله تَعَالَى، ووسع على عباده
تَعَالَى، وَنسب فعله إِلَى الله عز وَجل.
4801 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ
عنِ الأعْمَشِ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ قَالَ سَمِعْتُ
عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ يَزِيدَ يقُولُ صَلَّى بِنَا
عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِمِنىً
أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ فِي ذالِكَ لِعَبْدِ الله بنِ
مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فاسْتَرْجَعَ ثُمَّ
قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وصَلَّيْتُ مَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وصَلَّيْتُ مَعَ
عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِمِنىً
رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أرْبَعِ رَكَعَاتٍ
ركْعَتَانِ مُتَقَبلِّتَانِ.
(الحَدِيث 4801 طرفه فِي: 7561) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من الْوَجْه الَّذِي
ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: قُتَيْبَة، وَقد تكَرر
ذكره، الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد من الزِّيَادَة
الْعَبْدي أَبُو عُبَيْدَة. الثَّالِث: سُلَيْمَان
الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لَا
التَّيْمِيّ. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن يزِيد من
الزِّيَادَة النَّخعِيّ الْأسود بن يزِيد، مَاتَ سنة
ثَلَاث وَتِسْعين. السَّادِس: عُثْمَان بن عَفَّان.
السَّابِع: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه بلخي وَعبد الْوَاحِد بَصرِي والبقية
كوفيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْحَج عَن قبيصَة عَن سُفْيَان، وَأخرجه مُسلم
فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْوَاحِد وَعَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير وَعَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن حشرم. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الْحَج عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن عَليّ بن حشرم بِهِ، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان
وَعَن قُتَيْبَة وَلم يذكر فعل عُثْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (صلى بِنَا عُثْمَان) ، كَانَ
ذَلِك بعد رُجُوعه من أَعمال الْحَج فِي حَال إِقَامَته
بمنى للرمي. قَوْله: (فَقيل
(7/121)
فِي ذَلِك) ، هَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ،
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (فَقيل ذَلِك) ، أَي: فِيمَا ذكر
من صَلَاة عُثْمَان أَربع رَكْعَات. قَوْله: (فَاسْتَرْجع)
أَي قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون،
كَرَاهَة مُخَالفَته الْأَفْضَل. قَوْله: (وَمَعَ عمر
رَكْعَتَيْنِ) زَاد الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش: (ثمَّ
تَفَرَّقت بكم الطّرق) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْحَج من
طَرِيقه. قَوْله: (فليت حظي من أَربع رَكْعَات
رَكْعَتَانِ) ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ
(رَكْعَات) . قَوْله: (حظي) أَي: نَصِيبي، وَكلمَة: من
فِي: (من أَربع) للبدل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أرضيتم
بالحيوة الدُّنْيَا من الْآخِرَة} (التَّوْبَة: 83) .
وَقَالَ الدَّاودِيّ مَعْنَاهُ: إِن صليت أَرْبعا وتكلفتها
فليتها تتقبل كَمَا تتقبل الركعتان.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ بَعضهم: هَذَا الحَدِيث يدل
على أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يرى الْإِتْمَام جَائِزا
وإلاّ لما كَانَ لَهُ حَظّ من الْأَرْبَع وَلَا من
غَيرهَا، فَإِنَّهَا تكون فَاسِدَة كلهَا، وَإِنَّمَا
اسْترْجع لما وَقع عَنهُ من مُخَالفَته الأولى،
وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد أَن ابْن مَسْعُود،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى أَرْبعا، فَقيل لَهُ: عبت
على عُثْمَان ثمَّ صليت أَرْبعا؟ فَقَالَ: الْخلاف شَرّ.
وَرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ إِنِّي لأكْره الْخلاف،
وَلأَحْمَد من حَدِيث أبي ذَر مثل الأول، وَهَذَا يدل على
أَنه لم يكن يعْتَقد أَن الْقصر وَاجِب، كَمَا قَالَ
الْحَنَفِيَّة، وَوَافَقَهُمْ القَاضِي إِسْمَاعِيل من
الْمَالِكِيَّة وَأحمد. وَقَالَ ابْن قدامَة: الْمَشْهُور
عَن أَحْمد أَنه على الِاخْتِيَار، وَالْقصر عِنْده أفضل،
وَهُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. قلت:
هَذَا الْقَائِل تكلم بِمَا يُوَافق غَرَضه، أما قَوْله
هَذَا يدل على أَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، كَانَ يرى الْإِتْمَام جَائِزا، فَيردهُ مَا قَالَه
الدَّاودِيّ: إِن ابْن مَسْعُود كَانَ يرى الْقصر فرضا،
ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) وَغَيره، وَيُؤَيِّدهُ مَا
قَالَه عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
الصَّلَاة فِي السّفر رَكْعَتَانِ لَا يَصح غَيرهمَا،
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن قَامَ إِلَى الثَّالِثَة
فَإِنَّهُ يلغيها وَيسْجد سَجْدَتي السَّهْو. وَقَالَ
الْحسن بن حَيّ: إِذا صلى أَرْبعا مُتَعَمدا أَعَادَهَا،
وَكَذَا قَالَ ابْن أبي سُلَيْمَان، وَأما قَوْله:
وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد أَن ابْن مَسْعُود صلى
أَرْبعا، فَإِنَّهُ أجَاب عَن هَذَا بقوله: الْخلاف شَرّ،
فَلَو لم يكن الْقصر عِنْده وَاجِبا لما اسْترْجع، وَلما
أنكر بقوله: (صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بمنى رَكْعَتَيْنِ) إِلَى آخر الحَدِيث، وَأما
قَوْله الْمَشْهُور عَن أَحْمد: إِنَّه على الِاخْتِيَار،
فيعارضه مَا قَالَه الْأَثْرَم. قلت لِأَحْمَد: للرجل أَن
يُصَلِّي أَرْبعا فِي السّفر؟ قَالَ: لَا مَا يُعجبنِي.
وَحكى ابْن الْمُنْذر فِي (الْأَشْرَاف) : أَن أَحْمد
قَالَ: أَنا أحب الْعَافِيَة عَن هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ الْبَغَوِيّ: هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ
الْخطابِيّ: الأولى الْقصر، ليخرج عَن الْخلاف. وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: الْعَمَل على مَا
فعله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر
وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ الْقصر،
وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن سَحْنُون وَرِوَايَة عَن مَالك
وَأحمد، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَحَمَّاد، وَهُوَ
الْمَنْقُول عَن عمر وَعلي وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِهَذَا يرد على
هَذَا الْقَائِل فِي قَوْله: وَهُوَ قَول جُمْهُور
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل:
وَاحْتج الشَّافِعِي على عدم الْوُجُوب بِأَن الْمُسَافِر
إِذا دخل فِي صَلَاة الْمُقِيم صلى أَرْبعا باتفاقهم،
وَلَو كَانَ فَرْضه الْقصر لم يأتم مُسَافر بمقيم،
وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن صَلَاة الْمُسَافِر كَانَت
أَرْبعا عِنْد اقتدائه بالمقيم لالتزامه الْمُتَابَعَة،
فيتغير فَرْضه للتبعية وَلَا يتَغَيَّر فِي
الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ
فرضا لَا بُد من إِتْيَانه كُله، وَلَيْسَ لَهُ خِيَار فِي
تَركه. وإيراد ابْن بطال بِأَنا وجدنَا وَاجِبا يتَخَيَّر
بَين الْإِتْيَان بِجَمِيعِهِ أَو بِبَعْضِه، وَهُوَ
لإِقَامَة بمنى غير وَارِد، لِأَن الْإِقَامَة بمنى
اخْتِيَاره وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحن فِيهِ، لَا يُقَال:
إِن اقْتِدَاء الْمُسَافِر بالمقيم بِاخْتِيَارِهِ، لأَنا
نقُول: نعم بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِن عِنْد الِاقْتِدَاء
يَزُول اخْتِيَاره لضَرُورَة الْتِزَام التّبعِيَّة.
فَافْهَم. فَإِذا احْتج الْخصم بقوله تَعَالَى: {فَلَيْسَ
عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء:
101) . بِأَن لَفْظَة: {لَا جنَاح} يدل على الْإِبَاحَة
لَا على الْوُجُوب، فَدلَّ على أَن الْقصر مُبَاح، أجبنا
عَنهُ: بِأَن المُرَاد من الْقصر الْمَذْكُور هُوَ الْقصر
فِي الْأَوْصَاف من ترك الْقيام إِلَى الْقعُود، أَو ترك
الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَى الْإِيمَاء لخوف الْعَدو،
بِدَلِيل أَنه علق ذَلِك بالخوف، إِذْ قصر الأَصْل غير
مُتَعَلق بالخوف بِالْإِجْمَاع، بل مُتَعَلق بِالسَّفرِ،
وَعِنْدنَا قصر الْأَوْصَاف عِنْد الْخَوْف مُبَاح لَا
وَاجِب، مَعَ أَن رفع الْجنَاح فِي النَّص لدفع توهم
النُّقْصَان فِي صلَاتهم بِسَبَب دوامهم على الْإِتْمَام
فِي الْحَضَر، وَذَلِكَ مَظَنَّة توهم النُّقْصَان، فَرفع
ذَلِك عَنْهُم، وَإِن احْتج بِمَا رَوَاهُ مُسلم
وَالْأَرْبَعَة (عَن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: قلت لعمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. .) الحَدِيث، وَقد مضى عَن
قريب وَوجه التَّعَلُّق بِهِ أَنه علق الْقصر بِالْقبُولِ
وَسَماهُ صَدَقَة، والمتصدق عَلَيْهِ مُخَيّر فِي
(7/122)
قبُول الصَّدَقَة، فَلَا يلْزمه الْقبُول
حتما، أجبنا عَنهُ بِأَنَّهُ دَلِيل لنا، لِأَنَّهُ أَمر
بِالْقبُولِ وَالْأَمر للْوُجُوب، وَلِأَن هَذِه صَدَقَة
وَاجِبَة فِي الذِّمَّة فَلَيْسَ لَهُ حكم المَال، فَيكون
إِسْقَاطًا مَحْضا، وَلَا يرْتَد بِالرَّدِّ كالصدقة
بِالْقصاصِ وَالطَّلَاق وَالْعتاق، يكون إِسْقَاطًا لَا
يرْتَد بِالرَّدِّ، فَكَذَا هَذَا.
وَلنَا أَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة (قَالَت: فرضت
الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر
وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر) ، رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَمُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: (فرض الله
الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع
رَكْعَات وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْف
رَكْعَة) ، رَوَاهُ مُسلم، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ:
(افْترض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ
فِي السّفر كَمَا افْترض فِي الْحَضَر أَرْبعا. وَمِنْهَا:
حَدِيث عمر قَالَ: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ وَصَلَاة
الضُّحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ
وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان
مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَمِنْهَا:
حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَتَانَا وَنحن صلال يعلمنَا، فَكَانَ
فِيمَا علمنَا أَن الله، عز وَجل، أمرنَا أَن نصلي
رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر. .) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (المتمم الصَّلَاة فِي السّفر
كالمقصر فِي الْحَضَر) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي
(سنَنه) .
3 - (بابٌ كَمْ أقَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي حَجَّتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كم من يَوْم أَقَامَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجه.
5801 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حَدثنَا أيُّوبُ عنْ أبي العَالِيَةِ
البَرَّاءِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ
قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأصْحَابُهُ
لِصُبْحٍ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالحَجِّ فَأمَرَهُمْ أنْ
يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلاّ منْ مَعَهُ الهَدْيُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير تَامَّة، وَإِنَّمَا فِي
الحَدِيث بَيَان قدومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برابعة ذِي
الْحجَّة، وَلَيْسَ فِيهِ: كم من يَوْم أَقَامَ النَّبِي،
وَلكنه من الْمَعْلُوم أَن حجه هُوَ حجَّة الْوَدَاع،
وَكَانَ فِي مَكَّة وحواليها إِلَى الرَّابِع عشر من ذِي
الْحجَّة، فَهَذِهِ الْإِقَامَة عشرَة أَيَّام، كَمَا فِي
حَدِيث أنس الَّذِي مضى فِي أول الْأَبْوَاب، وَبينا ذَلِك
مستقصىً.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
أَبُو سَلمَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: وهيب بن خَالِد
أَبُو بكر، وَقد مر فِي: بَاب من أجَاب الْفتيا فِي
الْعلم. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع:
أَبُو الْعَالِيَة اسْمه زِيَاد بِكَسْر الزَّاي
وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن فَيْرُوز، وَقيل
غير ذَلِك، وَهُوَ غير أبي الْعَالِيَة الريَاحي، واسْمه
رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، وَكِلَاهُمَا بصريان
تابعيان يرويان عَن ابْن عَبَّاس: ويتميز أَبُو
الْعَالِيَة زِيَاد بالبراء، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَتَشْديد الرَّاء، وَكَانَ يبري النبل، وَقيل: الْقصب.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلم
بصريون. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بِالتَّصْغِيرِ وَالْآخر
بِلَا نِسْبَة وَالْآخر بالكنية وَالنِّسْبَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن نصر بن
عَليّ وَعَن إبراهم بن دِينَار وَعَن أبي دَاوُد
الْمُبَارك وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن هَارُون بن
عبد الله وَعَن عبد بن حميد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن معمر البحراني.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الصُّبْح رَابِعَة) أَي: الْيَوْم
الرَّابِع من ذِي الْحجَّة. قَوْله: (يلبون بِالْحَجِّ)
جملَة حَالية أَي: محرمين، وَذكر التَّلْبِيَة وَإِرَادَة
الْإِحْرَام من طَرِيق الْكِنَايَة. قَوْله: (أَن يجعلوها)
أَي: يجْعَلُوا حجتهم عمْرَة، وَلَيْسَ هَذَا بإضمار قبل
الذّكر، لِأَن قَوْله: بِالْحَجِّ، يدل على أَن الْحجَّة
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إعدلوا هُوَ أقرب للتقوى}
(الْمَائِدَة: 8) . أَي الْعدْل. قَوْله: (هدي) بِفَتْح
الْهَاء وَسُكُون الدَّال وخفة الْيَاء، وبكسر الدَّال
وَتَشْديد الْيَاء، هُوَ مَا يهدى إِلَى الْحرم من النعم
تقربا إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا اسْتثْنى صَاحب
الْهَدْي لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ التَّحَلُّل حَتَّى يبلغ
الْهَدْي مَحَله.
(7/123)
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قد مضى فِي حَدِيث
أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن مقَامه بِمَكَّة فِي
حجَّته كَانَ عشرَة أَيَّام، وَبَين فِي هَذَا الحَدِيث
أَنه قدم مَكَّة رَابِعَة ذِي الْحجَّة، وَكَانَ يَوْم
الْأَحَد، فصلى الصُّبْح بِذِي طوى واستهل ذُو الْحجَّة
فِي ذَلِك الْعَام لَيْلَة الْخَمِيس، فَأَقَامَ بِمَكَّة
يَوْم الْأَحَد إِلَى لَيْلَة الْخَمِيس ثمَّ نَهَضَ ضحوة
يَوْم الْخَمِيس إِلَى منى، فَأَقَامَ بهَا بَاقِي نَهَاره
وَلَيْلَة الْجُمُعَة، ثمَّ نَهَضَ يَوْم الْجُمُعَة إِلَى
عَرَفَات أَي: بعد الزَّوَال، وخطب بنمرة بِقرب عَرَفَات،
وَبَقِي بهَا إِلَى الْغُرُوب، ثمَّ أَفَاضَ لَيْلَة السبت
إِلَى الْمزْدَلِفَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن صلى
الصُّبْح، ثمَّ أَفَاضَ مِنْهَا إِلَى طُلُوع الشَّمْس
يَوْم السبت وَهُوَ يَوْم الْأَضْحَى والنفر إِلَى منى،
فَرمى جَمْرَة الْعقبَة ضحوة ثمَّ نَهَضَ إِلَى مَكَّة
ذَلِك الْيَوْم، فَطَافَ بِالْبَيْتِ قبل الزَّوَال، ثمَّ
رَجَعَ فِي يَوْمه إِلَى منى فَأَقَامَ بهَا بَاقِي يَوْم
السبت والأحد والاثنين وَالثُّلَاثَاء، ثمَّ أَفَاضَ بعد
ظهر الثُّلَاثَاء، وهور آخر أَيَّام التَّشْرِيق إِلَى
المحصب، فصلى بِهِ الظّهْر وَبَات فِيهِ لَيْلَة
الْأَرْبَعَاء وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة أعمر عَائِشَة من
التَّنْعِيم، ثمَّ طَاف طواف الْوَدَاع سحرًا قبل صَلَاة
الصُّبْح من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَهُوَ صَبِيحَة رَابِع
عشرَة، وَأقَام عشرَة أَيَّام كَمَا ذكر فِي حَدِيث أنس،
ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْمَدِينَة، فَكَانَ خُرُوجه من
الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة لأَرْبَع بَقينَ من ذِي
الْقعدَة، وَصلى الظّهْر بِذِي الحليفة وَأحرم بأثرها،
وَهَذَا كُله مستنبط من قَوْله: (قدم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه لصبح رَابِعَة من ذِي
الْحجَّة. .) وَمن الحَدِيث الَّذِي جَاءَ أَن يَوْم
عَرَفَة كَانَ يَوْم جُمُعَة، وَفِيه نزلت: {الْيَوْم
أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن أَحْمد وَدَاوُد
وَأَصْحَابه على جَوَاز فسخ الْحَج فِي الْعمرَة، وَهُوَ
مَذْهَب ابْن عَبَّاس أَيْضا لِأَنَّهُ روى أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم أَن يجْعَلُوا حجتهم عمْرَة إلاّ من
كَانَ سَاق الْهَدْي، وَلَا يجوز ذَلِك عِنْد جُمْهُور
الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم. قَالَ ابْن عبد الْبر:
مَا أعلم من الصَّحَابَة من يُجِيز ذَلِك إِلَّا ابْن
عَبَّاس، وَتَابعه أَحْمد وَدَاوُد، وَأجَاب الْجُمْهُور:
أَن ذَلِك خص بِهِ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَأَنه لَا يجوز الْيَوْم، وَالدَّلِيل على أَن
ذَلِك خَاص للصحابة الَّذين حجُّوا مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيرهم مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد:
حَدثنَا النُّفَيْلِي، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن
مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبرنِي ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن
(عَن الْحَارِث ابْن بِلَال بن الْحَارِث عَن أَبِيه،
قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله فسخ الْحَج لنا خَاصَّة أَو
لمن بَعدنَا؟ قَالَ: بل لكم خَاصَّة) . وَأخرجه ابْن
مَاجَه والطَّحَاوِي أَيْضا، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا:
حَدثنَا ابْن أبي عمرَان قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن أبي
إِسْرَائِيل، قَالَ: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن يحيى بن
سعيد الْأنْصَارِيّ عَن المرقع بن صَيْفِي (عَن أبي ذَر،
قَالَ: إِنَّمَا كَانَ فسخ الْحَج للركب الَّذِي كَانُوا
مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَأخرج
الطَّحَاوِيّ هَذَا من سبع طرق، وَأخرجه ابْن حزم من
طَرِيق المرقع، وَقَالَ: المرقع مَجْهُول، وَقد خَالفه
ابْن عَبَّاس وَأَبُو مُوسَى فَلم يريَا ذَلِك خَاصَّة،
وَلَا يجوز أَن يُقَال فِي سنة ثَابِتَة: إِنَّهَا خَاصَّة
لقوم دون قوم إلاّ بِنَصّ قُرْآن أَو سنة صَحِيحَة،
قُلْنَا: هَذَا مَرْدُود بِأَن سَائِر الصَّحَابَة مَا
وافقوه على هَذَا، والمرقع مَعْرُوف غير مَجْهُول، وَقد
روى عَنهُ مثل يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَيُونُس بن أبي
إِسْحَاق ومُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن ذكْوَان،
وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَاحْتج بِهِ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَعَن أَحْمد: حَدِيث أبي
ذَر من أَن فسخ الْحَج فِي الْعمرَة خَاصَّة للصحابة
صَحِيح، والمرقع، بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء وَتَشْديد
الْقَاف الْمَكْسُورَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة.
تابَعَهُ عَطَاءٌ عنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أَي: تَابع أَبُو الْعَالِيَة عَطاء بن أبي رَبَاح فِي
رِوَايَته عَن جَابر بن عبد الله، وَأخرج البُخَارِيّ
هَذِه الْمُتَابَعَة مُسندَة فِي بَاب التَّمَتُّع
والإقران والإفراد فِي كتاب الْحَج، وَسَيَأْتِي بَيَانه،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
4 - (بابٌ فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلاةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كم مُدَّة يقصر الْإِنْسَان
الصَّلَاة فِيهَا إِذا قصد الْوُصُول إِلَيْهَا بِحَيْثُ
لَا يجوز لَهُ الْقصر إِذا كَانَ قَصده أقل من تِلْكَ
الْمدَّة؟ وَلَفْظَة: كم، استفهامية، ومميزها هُوَ الَّذِي
قدرناه. قَوْله: (يقصر الصَّلَاة) يجوز فِي: يقصر، أَن
يكون على بِنَاء الْفَاعِل، وَأَن يكون على بِنَاء
الْمَفْعُول، فعلى الأول لفظ الصَّلَاة مَنْصُوب، وعَلى
الثَّانِي مَرْفُوع.
وسَمَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّفَرَ يَوْما
ولَيْلَةً
(7/124)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اخْتِيَاره أَن
أقل الْمسَافَة الَّتِي يجوز فِيهَا الْقصر يَوْم
وَلَيْلَة، حَاصله أَن من خرج من منزله وَقصد موضعا إِن
كَانَ بَينه وَبَين مقْصده ذَلِك مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة
يجوز لَهُ أَن يقصر صلَاته الرّبَاعِيّة، وَإِن كَانَ أقل
من ذَلِك لَا يجوز، وَهَذِه الْعبارَة رِوَايَة أبي ذَر،
وَفِي رِوَايَة غَيره: وسمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَوْمًا وَلَيْلَة سفرا، وَإِطْلَاق السّفر على
يَوْم وَلَيْلَة تجوز، وَكَذَا إِطْلَاق يَوْم وَلَيْلَة
على السّفر، وَهَذَا أنسب. يُقَال: سميت فلَانا زيدا، وَقد
ذكر فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة أَحَادِيث: إثنان مِنْهَا
عَن ابْن عمر وَالْآخر عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي حَدِيث
أبي هُرَيْرَة: أقل مُدَّة السّفر الَّتِي لَا يحل
للْمَرْأَة أَن تُسَافِر فِيهَا بِدُونِ زوج أَو محرم
يَوْم وَلَيْلَة كَمَا يَأْتِي ذكره. وَأَشَارَ إِلَى
هَذَا بقوله: (وسمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
السّفر يَوْمًا وَلَيْلَة) . وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن
فِي بعض طرقه: ثَلَاثَة أَيَّام، كَمَا فِي حَدِيث ابْن
عمر، وَفِي بَعْضهَا: يَوْم وَلَيْلَة، وَفِي بَعْضهَا:
يَوْم، وَفِي بَعْضهَا: لَيْلَة، وَفِي بَعْضهَا: بريد.
قلت: لَيْسَ فِيهِ تعقب لِأَن المحكي فِي هَذَا الْبَاب
نَحْو من عشْرين قولا، وَقد ذكرنَا فِي هَذَا الْبَاب
الصَّلَاة بمنى، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أقل
الْمسَافَة الَّتِي اخْتَارَهَا من هَذِه الْأَقْوَال،
يَوْم وَلَيْلَة، وَلَا يُقَال الْمَذْكُور فِي بَعْضهَا
يَوْم فَقَط بِدُونِ لَيْلَة، لأَنا نقُول: إِذا ذكر
الْيَوْم مُطلقًا يُرَاد بِهِ الْكَامِل، وَهُوَ الْيَوْم
بليلته، وَكَذَا إِذا أطلقت اللَّيْلَة بِدُونِ ذكر
الْيَوْم.
وكانَ ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم يَقْصُرَانِ ويُفْطِرانِ فِي أرْبَعَةِ بُرُدٍ
وَهْيَ سِتَّةَ عشَرَ فَرْسَخا
هَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ:
أخبرنَا ابْن حَامِد الْحَافِظ أخبرنَا زَاهِر بن أَحْمد
حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا يُوسُف بن
سعيد بن مُسلم حَدثنَا حجاج حَدثنِي لَيْث حَدثنَا يزِيد
بن أبي حبيب (عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَن ابْن عمر
وَابْن عَبَّاس كَانَا يصليان رَكْعَتَيْنِ ويفطران فِي
أَرْبَعَة برد، فَمَا فَوق ذَلِك) . قَالَ أَبُو عمر:
هَذَا عَن ابْن عَبَّاس مَعْرُوف من نقل الثِّقَات
مُتَّصِل الْإِسْنَاد عَنهُ من وُجُوه. مِنْهَا مَا
رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَنهُ،
وَقَالَ ابْن أبي شيبَة أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عمر
وَأَخْبرنِي عَطاء عَنهُ، وَحدثنَا وَكِيع حَدثنَا هِشَام
بن الْغَاز عَن ربيعَة الجرشِي عَن عَطاء عَنهُ، وَقد
اخْتلف عَن ابْن عمر فِي تَحْدِيد ذَلِك اخْتِلَافا كثيرا،
فروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن نَافِع أَن ابْن
عمر كَانَ أدنى مَا يقصر الصَّلَاة فِيهِ مَال لَهُ
بِخَيْبَر، وَبَين الْمَدِينَة وخيبر سِتَّة وَتسْعُونَ
ميلًا، وروى وَكِيع من وَجه آخر عَن ابْن عمر أَنه قَالَ:
يقصر من الْمَدِينَة إِلَى السويداء، وَبَينهمَا إثنان
وَسَبْعُونَ ميلًا، وروى عبد الرَّزَّاق عَن مَالك عَن
ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه: أَنه سَافر إِلَى ريم
فقصر الصَّلَاة. قَالَ عبد الرَّزَّاق: وَهِي على
ثَلَاثِينَ ميلًا من الْمَدِينَة، وروى ابْن أبي شيبَة عَن
وَكِيع عَن مسعر عَن محَارب: سَمِعت ابْن عمر يَقُول:
إِنِّي لأسافر السَّاعَة من النَّهَار فأقصر. وَقَالَ
الثَّوْريّ: سَمِعت جبلة بن سحيم، سَمِعت ابْن عمر يَقُول:
لَو خرجت ميلًا لقصرت الصَّلَاة، وَإسْنَاد كل من هَذِه
الْآثَار صَحِيح، وَقد اخْتلف فِي ذَلِك على ابْن عمر،
وَأَصَح مَا رُوِيَ عَنهُ مَا رَوَاهُ ابْنه سَالم
وَنَافِع أَنه: كَانَ لَا يقصر إلاّ فِي الْيَوْم التَّام
أَرْبَعَة برد، وَفِي (الْمُوَطَّأ) عَن ابْن شهَاب عَن
مَالك عَن سَالم عَن أَبِيه: أَنه كَانَ يقصر فِي مسيرَة
الْيَوْم التَّام، وَقَالَ بَعضهم: على هَذَا فِي تمسك
الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث ابْن عمر، على أَن: أقل مَسَافَة
الْقصر ثَلَاثَة أَيَّام إِشْكَال، لَا سِيمَا على قاعدتهم
بِأَن الِاعْتِبَار بِمَا رأى الصَّحَابِيّ لَا بِمَا روى.
قلت: لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال، لِأَن هَذَا لَا يشبه أَن
يكون رَأيا، إِنَّمَا يشبه أَن يكون توقيفا على أَن
أَصْحَابنَا أَيْضا اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب إختلافا
كثيرا، فَالَّذِي ذكره صَاحب (الْهِدَايَة) : السّفر
الَّذِي تَتَغَيَّر بِهِ الْأَحْكَام أَن يقْصد
الْإِنْسَان مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها بسير
الْإِبِل ومشي الْأَقْدَام، وَقدر أَبُو يُوسُف بيومين
وَأكْثر الثَّالِث، وَهُوَ رِوَايَة الْحسن عَن أبي
حنيفَة، وَرِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد، وَقَالَ
المرغيناني وَعَامة الْمَشَايِخ: قدروها بالفراسخ، فَقيل:
أحد وَعِشْرُونَ فرسخا، وَقيل: ثَمَانِيَة عشر فرسخا.
قَالَ المرغيناني: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى. وَقيل خَمْسَة
عشر فرسخا. وَمَا ذكره صَاحب (الْهِدَايَة) هُوَ مَذْهَب
عُثْمَان وَابْن مَسْعُود وسُويد بن غَفلَة وَفِي
(التَّمْهِيد) : وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وَأَبُو قلَابَة
وَشريك بن عبد الله وَابْن جُبَير وَابْن سِيرِين
وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَالْحسن بن حَيّ،
وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الصَّلَاة بمنى.
قَوْله: (وَهُوَ سِتَّة عشر فرسخا) من كَلَام البُخَارِيّ
أَي: الْبرد سِتَّة عشر فرسخا، وَالْبرد، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: جمع بريد، وَقَالَ ابْن سَيّده: الْبَرِيد
فرسخان. وَقيل: مَا بَين كل منزلين بريد، وَقَالَ صَاحب
(الْجَامِع) : الْبَرِيد أَمْيَال مَعْرُوفَة، يُقَال:
هُوَ أَرْبَعَة فراسخ. والفراسخ ثَلَاثَة أَمْيَال. وَفِي
(الواعي) : الْبَرِيد سكَّة من السكَك، كل اثْنَي عشر
ميلًا بريد، وَكَذَا
(7/125)
ذكره فِي (الصِّحَاح) وَغَيره. وَفِي
(الجمهرة) : الْبَرِيد مَعْرُوف عَرَبِيّ، والفرسخ، قَالَ
ابْن سَيّده: هُوَ ثَلَاثَة أَمْيَال أَو سِتَّة، سمي بذلك
لِأَن صَاحبه إِذا مَشى وَقعد واستراح، كَأَنَّهُ سكن،
والفرسخ: السّكُون. وَفِي (الْجَامِع) : قيل: إِنَّمَا سمي
فرسخا من السعَة. وَقيل: الْمَكَان إِذا لم يكن فِيهِ
فُرْجَة فَهُوَ فَرسَخ. وَقيل: الفرسخ الطَّوِيل. وَفِي
(مجمع الغرائب) : فراسخ اللَّيْل وَالنَّهَار ساعاتهما
وأوقاتهما. وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ فَارسي مُعرب، والميل
من الأَرْض مَعْرُوف، وَهُوَ قدر مد الْبَصَر، وَقيل:
لَيْسَ لَهُ حد مَعْلُوم، وَقيل: هُوَ ثَلَاثَة آلَاف
ذِرَاع، وَعَن يَعْقُوب: مُنْتَهى مد الْبَصَر، وَيُقَال:
الْميل عشر غلوات، والغلوة طلق الْفرس، وَهُوَ مِائَتَا
ذِرَاع وَفِي (الْمغرب) للمطرزي الغلوة ثَلَاثمِائَة
ذِرَاع إِلَى أَرْبَعمِائَة. وَقيل: هُوَ قدر رمية سهم.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أصح مَا فِي الْميل أَنه ثَلَاثَة
آلَاف ذِرَاع وَخَمْسمِائة. وَقيل: أَرْبَعَة آلَاف
ذِرَاع، وَقيل: ألف خطْوَة بخطوة الْجمل. وَقيل: هُوَ أَن
ينظر إِلَى الشَّخْص فَلَا يعلم أهوَ آتٍ أَو ذَاهِب أَو
رجل هُوَ أَو امْرَأَة. وَقَالَ عِيَاض: وَقيل: إثنا عشر
ألف قدم، وَعَن الْحَرْبِيّ قَالَ أَبُو نصر: هُوَ قِطْعَة
من الأَرْض مَا بَين العلمين.
6801 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ
قَالَ قُلْتُ ل أِبِي أُسَامَةَ حدَّثَكُمْ عُبَيْدُ الله
عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ
تُسَافِرِ المَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ إلاَّ مَعَ ذِي
مَحْرَمٍ.
(الحَدِيث 6801 طرفه فِي: 7801) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين الْإِبْهَام
الَّذِي فِي التَّرْجَمَة ففسره أَولا بقوله: (وسمى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّفر يَوْمًا
وَلَيْلَة) . وَثَانِيا بقوله: (وَكَانَ ابْن عمر. .)
إِلَى آخِره، وثالثا بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن
ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لِأَن إِبْهَام
التَّرْجَمَة وإطلاقه يتَنَاوَل الْكل.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق، قَالَ أَبُو
عَليّ الجياني: حَيْثُ قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا
إِسْحَاق، فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه. وَإِمَّا ابْن نصر
السَّعْدِيّ. وَإِمَّا ابْن مَنْصُور الكوسج لِأَن
الثَّلَاثَة أخرج عَنْهُم البُخَارِيّ عَن أبي أُسَامَة.
قَالَ الْكرْمَانِي: إِسْحَاق هُوَ الْحَنْظَلِي. قلت:
هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد بن إِبْرَاهِيم،
يعرف بِابْن رَاهَوَيْه الْحَنْظَلِي الْمروزِي،
وَالصَّوَاب مَعَه، لِأَنَّهُ سَاق هَذَا الحَدِيث فِي
مُسْنده بِهَذِهِ الْعبارَة. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة
حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَقد مر غير مرّة.
الثَّالِث: عبيد الله بن عمر الْعمريّ، وَقد مر عَن قريب.
الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله
ابْن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، وَفِيه: قَالَ
وَقلت. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي وَأَبُو أُسَامَة كُوفِي
وَعبيد الله وَنَافِع مدنيان. وَفِيه: دَلِيل لمن قَالَ:
إِنَّه لَا يشْتَرط فِي صِحَة النَّاقِل قَول الشَّيْخ:
نعم، فِي جَوَاب من قَالَ لَهُ: حَدثكُمْ فلَان، بِكَذَا،
قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَن مُسْند إِسْحَاق فِي آخِره
وَأقر بِهِ أَبُو أُسَامَة وَقَالَ: نعم. قلت: فِيهِ نظر،
لِأَن هَذَا الْمُسْتَدلّ إِنَّمَا اسْتدلَّ بِظَاهِر
عبارَة البُخَارِيّ الَّتِي تساعده فِيهِ على مَا لَا
يخفى. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بِغَيْر نِسْبَة،
وَيحْتَمل وَجه ذَلِك أَنه روى هَذَا الحَدِيث من
هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة الْمُسَمّى كل مِنْهُم بِإسْحَاق
وَلم ينْسبهُ ليتناول الثَّلَاثَة، لِأَنَّهُ أخرج عَن
الثَّلَاثَة عَن أبي أُسَامَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة
وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان
عَن نَافِع مسيرَة ثَلَاث لَيَال، والتوفيق بَين
الرِّوَايَتَيْنِ أَن المُرَاد: ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها
وَثَلَاث لَيَال بأيامها.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة
وَأَصْحَابه وفقهاء أَصْحَاب الحَدِيث على أَن الْمحرم
شَرط فِي وجوب الْحَج على الْمَرْأَة إِذا كَانَت بَينهَا
وَبَين مَكَّة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها، وَبِه
قَالَ النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْري
وَالْأَعْمَش. فَإِن قلت: الْحَج لم يدْخل فِي السّفر
الَّذِي نهى عَنهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأَنه مَحْمُول على الْأَسْفَار غير الْوَاجِبَة، وَالْحج
فرض، فَلَا يدْخل فِي هَذَا النَّهْي؟ قلت: النَّهْي عَام
فِي كل سفر، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَمُسلم. فَقَالَ مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة
وَزُهَيْر بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان، قَالَ أَبُو
بكر: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا
عَمْرو بن دنار (عَن أبي معبد قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس
يَقُول: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب:
لَا يخلون رجل بِامْرَأَة إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم، وَلَا
تُسَافِر الْمَرْأَة إلاّ مَعَ ذِي محرم، فَقَامَ رجل
فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن امْرَأَتي حَاجَة، وَإِنِّي
اكتتبت فِي غَزْوَة كَذَا وَكَذَا، قَالَ: انْطلق فحج مَعَ
امْرَأَتك) . وَلَفظ البُخَارِيّ يَجِيء فِي مَوْضِعه، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي
أَيْضا، وَلَفظ الطَّحَاوِيّ: (أردْت أَن أحج بامرأتي،
فَقَالَ
(7/126)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(أحجج مَعَ امْرَأَتك) . فَدلَّ ذَلِك على أَنَّهَا لَا
يَنْبَغِي لَهَا أَن تحج إلاّ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِك
لقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا
حَاجَتهَا إِلَيْك لِأَنَّهَا تخرج مَعَ الْمُسلمين،
وَأَنت فَامْضِ لوجهك فِيمَا اكتتبت، فَفِي ترك النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْمُرهُ بذلك وَأمره أَن
يحجّ مَعهَا دَلِيل على أَنَّهَا لَا يصلح لَهَا الْحَج
إلاّ بِهِ. وروى ابْن حزم حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا فِي
(الْمحلى) بِسَنَدِهِ، كَمَا مر، غير أَن فِي لَفظه:
(إِنِّي نذرت أَن أخرج فِي جَيش كَذَا) ، عوض قَوْله:
(إِنِّي اكتتبت فِي غَزْوَة كَذَا) . ثمَّ قَالَ: وَلم يقل
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تخرج إِلَى الْحَج إلاّ
مَعَك، وَلَا نهاها عَن الْحَج، بل ألزمهُ ترك نَذره فِي
الْجِهَاد وألزمه الْحَج مَعهَا، فالفرض فِي ذَلِك
عَلَيْهِ لَا عَلَيْهَا. قلت: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك توجيها
لمذهبه فِي أَن الْمَرْأَة تحج من غير زوج ومحرم، فَإِن
كَانَ لَهَا زوج فَفرض عَلَيْهِ أَن يحجّ مَعهَا وَلَيْسَ
كَمَا فهمه، بل الحَدِيث فِي نفس الْأَمر حجَّة عَلَيْهِ،
لِأَنَّهُ لما قَالَ لَهُ: (فَاخْرُج مَعهَا) ، وَأمر
بِالْخرُوجِ مَعهَا فَدلَّ على عدم جَوَاز سفرها إلاّ بِهِ
أَو بِمحرم، وَإِنَّمَا ألزمهُ بترك نَذره لتَعلق جَوَاز
سفرها بِهِ. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن
الزَّوْج أَو الْمحرم إِذا امْتنع عَن الْخُرُوج مَعهَا
فِي الْحَج أَنه يجْبر على ذَلِك، وَمَعَ هَذَا فَأنْتم
تَقولُونَ: إِذا امْتنع الزَّوْج أَو الْمحرم لَا يجْبر
عَلَيْهِ. قلت: فَلْيَكُن كَذَلِك فَلَا يضرنا هَذَا،
وَإِنَّمَا قصدنا إِثْبَات شَرْطِيَّة الزَّوْج أَو
الْمحرم مَعَ الْمَرْأَة إِذا أَرَادَت الْحَج، على أَن
هَذَا الْأَمر لَيْسَ بِأَمْر إِلْزَام، وَإِنَّمَا نبه
بذلك على أَن الْمَرْأَة لَا تُسَافِر إلاّ بزوجها، وَمذهب
الشَّافِعِي وَمَالك أَن الْمَرْأَة تُسَافِر لِلْحَجِّ
الْفَرْض بِلَا زوج وَلَا محرم، وَإِن كَانَ بَينهَا
وَبَين مَكَّة سفرا وَلم يكن وخصَّا النَّهْي الْوَارِد
عَن ذَلِك بالأسفار غير الْوَاجِبَة، وَمذهب عَطاء
وَسَعِيد بن كيسَان وَطَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة: أَنه
يجوز سفر الْمَرْأَة فِيمَا دون الْبَرِيد، فَإِذا كَانَ
بريدا فَصَاعِدا فَلَيْسَ لَهَا أَن تُسَافِر إلاّ بِمحرم،
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ،
قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكرَة قَالَ: حَدثنَا أَبُو عمر
الضَّرِير عَن حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: حَدثنَا سُهَيْل
بن أبي صَالح عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر
امْرَأَة بريدا، إلاّ مَعَ زوج أَو ذِي محرم) . وَأخرجه
الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة
بريدا إلاّ مَعَ ذِي محرم) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد نَحوه.
وَذهب الشّعبِيّ وطاووس وَقوم من الظَّاهِرِيَّة إِلَى أَن
الْمَرْأَة لَا يجوز لَهَا أَن تُسَافِر مُطلقًا سَوَاء
كَانَ السّفر قَرِيبا أَو بَعيدا، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو
محرم لَهَا، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ. قَالَ حَدثنَا روح بن الْفرج، قَالَ:
حَدثنَا حَامِد بن يحيى، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان بن
عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا ابْن عجلَان عَن سعيد بن أبي
سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة
إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: اتّفقت
الْآثَار الَّتِي فِيهَا مُدَّة الثَّلَاث كلهَا عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَحْرِيم السّفر
ثَلَاثَة أَيَّام على الْمَرْأَة بِغَيْر محرم، وَاخْتلف
فِيمَا دون الثَّلَاث، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا
النَّهْي عَن السّفر بِلَا محرم مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام
فَصَاعِدا ثَابتا بِهَذِهِ الْآثَار كلهَا، وَكَانَ توقيته
ثَلَاثَة أَيَّام فِي ذَلِك إِبَاحَة السّفر دون الثَّلَاث
لَهَا بِغَيْر محرم، وَلَوْلَا ذَلِك لما كَانَ لذكره
الثَّلَاث معنى، ولنهى نهيا مُطلقًا. وَلم يتَكَلَّم
بِكَلَام يكون فصلا، وَلَكِن ذكر الثَّلَاث ليعلم أَن مَا
دونهَا بِخِلَافِهَا، ثمَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي منعهَا من
السّفر دون الثَّلَاث من الْيَوْم واليومين والبريد، فَكل
وَاحِد من تِلْكَ الْآثَار، وَمن الْأَثر الْمَرْوِيّ فِي
الثَّلَاث مَتى كَانَ بعد الَّذِي خَالفه شَيْخه إِن كَانَ
على سفر الْيَوْم بِلَا محرم بعد النَّهْي عَن سفر
الثَّلَاث بِلَا محرم فَهُوَ نَاسخ، وَإِن كَانَ خبر
الثَّلَاث هُوَ الْمُتَأَخر عَنهُ فَهُوَ نَاسخ، فقد ثَبت
أَن أحد الْمعَانِي دون الثَّلَاث ناسخة للثلاث، أَو
الثَّلَاث ناسخة لَهَا، فَلم يخل خبر الثَّلَاث من أحد
وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون هُوَ الْمُتَقَدّم، أَو يكون
هُوَ الْمُتَأَخر، فَإِن كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم فقد
أَبَاحَ السّفر بِأَقَلّ من ثَلَاث بِلَا محرم، ثمَّ جَاءَ
بعده النَّهْي عَن سفر مَا هُوَ دون الثَّلَاث بِغَيْر
محرم، فَحرم مَا حرم الحَدِيث الأول وَزَاد عَلَيْهِ
حُرْمَة أُخْرَى وَهِي مَا بَينه وَبَين الثَّلَاث،
فَوَجَبَ اسْتِعْمَال الثَّلَاث على مَا أوجبه الْأَثر
الْمَذْكُور فِيهِ، وَإِن كَانَ هُوَ الْمُتَأَخر وَغَيره
الْمُتَقَدّم فَهُوَ نَاسخ لما تقدمه، وَالَّذِي تقدمه غير
وَاجِب الْعَمَل بِهِ، فَحَدِيث الثَّلَاث وَاجِب
اسْتِعْمَاله على الْأَحْوَال كلهَا، وَمَا خَالفه فقد يجب
اسْتِعْمَاله إِن كَانَ هُوَ الْمُتَأَخر، وَلَا يجب إِن
كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم، فَالَّذِي قد وَجب علينا
اسْتِعْمَاله وَالْأَخْذ بِهِ فِي كلا الْوَجْهَيْنِ أولى
مِمَّا يجب اسْتِعْمَاله فِي حَال وَتَركه فِي حَال.
انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقَوله فِي الرِّوَايَة
الْوَاحِدَة عَن أبي سعيد: ثَلَاث لَيَال، وَفِي
الْأُخْرَى: يَوْمَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى: أَكثر من
ثَلَاث، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: ثَلَاث، وَفِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: مسيرَة لَيْلَة، وَفِي الْأُخْرَى عَنهُ: يَوْم
وَلَيْلَة، وَفِي الْأُخْرَى عَنهُ: ثَلَاث، وَهَذَا كُله
لَيْسَ يتنافر وَلَا يخْتَلف،
(7/127)
فَيكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منع من
ثَلَاث وَمن يَوْمَيْنِ وَمن يَوْم أَو يَوْم وَلَيْلَة،
وهوأقلها، وَقد يكون قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا
فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة ونوازل مُتَفَرِّقَة، فَحدث كل من
سَمعهَا بِمَا بلغه مِنْهَا وَشَاهده، وَإِن حدث بهَا
وَاحِد فَحدث بهَا مَرَّات على اخْتِلَاف مَا سَمعهَا،
وبحسب اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات اخْتلف الْفُقَهَاء
فِي تَقْصِير الْمُسَافِر وَأَقل السّفر. فَإِن قلت:
حَدِيث الْبَاب الَّذِي رَوَاهُ عمر الَّذِي فِيهِ تعْيين
ثَلَاثَة أَيَّام، وَأَنه مَمْنُوع إلاّ بِذِي محرم، وَقد
رُوِيَ عَنهُ من قَوْله خلاف ذَلِك، قَالَ الطَّحَاوِيّ:
حَدثنَا عَليّ بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا عبد الله
بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا بكر بن مُضر عَن عَمْرو بن
الْحَارِث (عَن بكير أَن نَافِعًا حَدثهُ أَنه: كَانَ
يُسَافر مَعَ ابْن عمر مواليات لَهُ لَيْسَ مَعَهُنَّ ذُو
محرم) . قلت: قد يجوز أَن يكون سفرهن بِغَيْر محرم هُوَ
السفرالذي لم يدْخل فِيهَا نهي عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (مواليات) ، بِضَم الْمِيم، أَي: نسَاء
مواليات من الْمُوَالَاة، وَعقد الْمُوَالَاة أَن يسْلك
رجل على يَد آخر فيواليه، فَيَقُول: أَنْت مولَايَ ترثني
إِذا مت وتعقل عني إِذا جنيت، فَهَذَا عقد صَحِيح. وَكَذَا
لَو أسلم على يَد رجل ووالى غَيره. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَت
تُسَافِر بِغَيْر محرم، فَأخذ بِهِ جمَاعَة وجوزوا سفرها
بِغَيْر محرم. قلت: كَانَ النَّاس لعَائِشَة محرما
لِأَنَّهَا أم الْمُؤمنِينَ، فَمَعَ أَيهمْ سَافَرت فقد
سَافَرت بِمحرم، وَلَيْسَ النَّاس لغَيْرهَا من النِّسَاء
كَذَلِك، وَهَذَا الْجَواب من أبي حنيفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
7801 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ
عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ لاَ تُسَافِرُ المَرْأةُ إلاّ معَ ذِي مَحْرَمٍ.
(أنظر الحَدِيث 6801) .
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن عمر عَن مُسَدّد عَن يحيى
الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع إِلَى
آخِره. قَوْله: (إِلَّا مَعهَا ذُو محرم) رِوَايَة
الْأصيلِيّ وَأبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (إلاّ مَعَ
ذِي محرم) ، وَالْمحرم، بِفَتْح الْمِيم: من لَا يحل لَهُ
نِكَاحهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي سعيد عِنْد مُسلم
وَأبي دَاوُد: (إلاّ وَمَعَهَا أَبوهَا وأخوها أَو زَوجهَا
أَو ابْنهَا أَو ذُو محرم مِنْهَا) . وَاخْتلف فِي
الْمحرم، فَيجوز لَهَا المسافرة مَعَ محرمها بِالنّسَبِ:
كأبيها وأخيها وَابْن اختها وَابْن أَخِيهَا وخالها وعمها،
وَمَعَ محرمها بِالرّضَاعِ كأخيها من الرَّضَاع وَابْن
أَخِيهَا وَابْن اختها مِنْهُ، وَنَحْوهم، وَمَعَ محرمها
من الْمُصَاهَرَة كَأبي زَوجهَا وَابْن زَوجهَا، وَلَا
كَرَاهَة فِي شَيْء من ذَلِك إلاّ أَن مَالِكًا كره سفرها
مَعَ ابْن زَوجهَا لفساد النَّاس بعد الْعَصْر الأول،
وَكَذَلِكَ يجوز لهَؤُلَاء الْخلْوَة بهَا وَالنَّظَر
إِلَيْهَا من غير حَاجَة، وَلَكِن لَا يحل النّظر
بِشَهْوَة.
تابَعَهُ أحْمَدُ عنِ ابنِ المُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ الله
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع عبيد الله أَحْمد حَيْثُ رَوَاهُ عَن عبد الله
بن الْمُبَارك عَن عبيد الله الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن
عمر، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، أَي:
مَرْفُوعا نَحوه، وَذكر البُخَارِيّ مُتَابَعَته إِيَّاه
دفعا لمن قَالَ: إِنَّه مَوْقُوف، وَفِي (علل
الدَّارَقُطْنِيّ) قَالَ يحيى بن سعيد الْقطَّان: مَا
أنْكرت على عبيد الله بن عمر إلاّ هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ: رَوَاهُ عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن
عمر مَوْقُوفا. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : رَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة فِي (مُسْنده) عَن ابْن نمير وَعَن أبي أُسَامَة
عَن عبيد الله، فَذكره مَرْفُوعا، قَالَ: رَأَيْت حَاشِيَة
بِخَط قديم جدا: هَذَا الحَدِيث غلط، غلط، فِيهِ عبيد الله
عَن نَافِع، وَلم يُنكر عَلَيْهِ الْقطَّان غَيره. قَالَ:
وَفِيه نظر لجلالة عبيد الله، وَلِأَن يحيى نَفسه رَوَاهُ
عَنهُ فَلَو كَانَ مُنْكرا مَا رَوَاهُ عَنهُ وَإِذا
رَوَاهُ عَنهُ فَلَا يحدث، ثمَّ قَالَ: وَقد وجدنَا لِعبيد
الله مُتَابعًا على رَفعه، رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه)
عَن مُحَمَّد بن رَافع: حَدثنَا ابْن أبي فديك عَن
الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن نَافِع، فَذكره بِلَفْظ: (لَا
يحل لأمرأة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر تُسَافِر
مسيرَة ثَلَاث لَيَال إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم) . وَأما
أَحْمد الْمَذْكُور فَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ أَحْمد بن
مُحَمَّد بن مُوسَى الْمروزِي، يكنى أَبَا الْعَبَّاس،
ويلقب بمردويه. قلت: هَكَذَا ذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله
أَنه أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى مرْدَوَيْه، وَزعم
الدَّارَقُطْنِيّ أَنه: أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت
شبويه، وَقَالَ أَحْمد بن عدي: لَا يعرف. قيل: إِنَّه
أَحْمد بن حَنْبَل، وَهُوَ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ لم يسمع
عَن عبد الله بن الْمُبَارك.
8801 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حَدثنَا ابنُ أبي ذِئْبٍ قَالَ
حدَّثنا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عنْ أبيهِ
(7/128)
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ
أنْ تسَافِرَ مَسِيرَةَ يَومٍ ولَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا
حُرْمَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا ذَكرْنَاهُ فِي أول حَدِيث
الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وآدَم ابْن
إِيَاس من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَابْن أبي ذِئْب هُوَ
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن
أبي ذِئْب، وَاسم أبي ذِئْب: هِشَام العامري الْمدنِي،
وَسَعِيد ابْن أبي سعيد الْمدنِي، وكنيته أَبُو سعيد،
وَأَبوهُ سعيد واسْمه: كيسَان المَقْبُري، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى مَقْبرَة بِالْمَدِينَةِ كَانَ
أَبُو سعيد مجاورا لَهَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج، وَقَالَ: حَدثنِي
زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ) : حَدثنَا يحيى ابْن سعيد عَن
ابْن أبي ذِئْب، قَالَ: حَدثنَا سعيد بن أبي سعيد عَن
أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم
الآخر تُسَافِر مسيرَة يَوْم إلاّ مَعَ ذِي محرم) .
ذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ فِي الْمَتْن والسند: أما
الِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن: فَإِن رِوَايَة البُخَارِيّ:
(مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مسيرَة
يَوْم) ، والتوفيق بَينهمَا بِأَن يُقَال: المُرَاد
بِيَوْم فِي رِوَايَة مُسلم هُوَ الْيَوْم بليلته. وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ: (أَن تُسَافِر) وَفِي رِوَايَة
مُسلم: (تُسَافِر) بِدُونِ ذكر: أَن، وَهَذَا لَيْسَ
باخْتلَاف على الْحَقِيقَة، لِأَن: أَن، مقدرَة فِي
رِوَايَة مُسلم، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (لَيْسَ
مَعهَا حُرْمَة) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إلاّ مَعَ ذِي
محرم) ، وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي الصُّورَة وَفِي
الْمَعْنى كِلَاهُمَا سَوَاء.
وَأما الِاخْتِلَاف فِي السَّنَد: فَإِن البُخَارِيّ
وَمُسلمًا اتفقَا فِي هَذِه الرِّوَايَة عَن سعيد
المَقْبُري عَن أَبِيه، وروى مُسلم أَيْضا بِدُونِ ذكر
أَبِيه، فَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ:
حَدثنَا لَيْث عَن سعيد بن أبي سعيد عَن أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا
يحل لامْرَأَة مسلمة أَن تُسَافِر مسيرَة لَيْلَة إلاَّ
وَمَعَهَا رجل ذُو حُرْمَة مِنْهَا) . وَكَذَلِكَ اخْتلف
فِيهِ على مَالك، فَفِي رِوَايَة مُسلم عِنْد ذكر أَبِيه،
حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ: قَرَأت على
مَالك عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي
هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر
تُسَافِر مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة إلاَّ مَعَ ذِي محرم
مِنْهَا) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أخبرنَا عبد الله بن
مسلمة والنفيلي عَن مَالك، قَالَ: وَحدثنَا الْحسن بن
عَليّ، قَالَ: حَدثنَا بشر بن عمر، قَالَ: حَدثنِي مَالك
عَن سعيد بن أبي سعيد، قَالَ الْحسن فِي حَدِيثه عَن
أَبِيه: ثمَّ اتَّفقُوا على أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن
بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تُسَافِر يَوْمًا
وَلَيْلَة) . قَالَ أَبُو دَاوُد: لم يذكر النُّفَيْلِي
والقعنبي عَن أَبِيه. وَقَالَ أَبُو دَاوُد، رَوَاهُ ابْن
وهب وَعُثْمَان بن عمر عَن مَالك، كَمَا قَالَ القعْنبِي،
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الغرائب) : رَوَاهُ بشر بن
عمر وَإِسْحَاق الْفَروِي عَن مَالك عَن سعيد عَن أَبِيه
عَن أبي هُرَيْرَة، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث
الْوَلِيد بن مُسلم عَن مَالك مثل حَدِيث بشر بن عمر،
وَقَالَ أَبُو عمر: روى شَيبَان عَن يحيى بن أبي كثير عَن
أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (استدراكه) على الشَّيْخَيْنِ:
كَونهمَا أَخْرجَاهُ من حَدِيث أبي ذِئْب عَن سعيد عَن
أَبِيه، وَقَالَ: الصَّوَاب: سعيد عَن أبي هُرَيْرَة من
غير ذكر أَبِيه، وَاحْتج بِأَن مَالِكًا وَيحيى بن أبي
كثير وسهيلاً قَالُوا: عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة،
فَهَذَا الدَّارَقُطْنِيّ رجح رِوَايَة إِسْحَاق عَن
أَبِيه، وَلَكِن فِي رِوَايَة الشَّيْخَيْنِ: عَن أَبِيه،
زِيَادَة من الثِّقَة، وَهِي مَقْبُولَة، وَقد وَافق ابْن
أبي ذِئْب على قَوْله: عَن أَبِيه، اللَّيْث بن سعد فِي
رِوَايَة أبي دَاوُد عَنهُ قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن
سعيد، قَالَ: حَدثنَا سعيد، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن
سعيد بن أبي سعيد عَن أَبِيه أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل
لامْرَأَة مسلمة تُسَافِر مسيرَة لَيْلَة إلاّ وَمَعَهَا
رجل ذُو حُرْمَة مِنْهَا) ، وَاللَّيْث وَابْن أبي ذِئْب
من أثبت النَّاس فِي سعيد، وَذكرنَا عَن مُسلم عَن قريب
بِعَين الْإِسْنَاد والمتن، وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ عَن
أَبِيه، كَذَا رَأَيْته فِي بعض النّسخ، وَفِي بَعْضهَا:
عَن أَبِيه، فَإِن صحت الرِّوَايَتَانِ يكون على اللَّيْث
أَيْضا اخْتِلَاف ينظر فِيهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يحل) ، فعل مضارع وفاعله
قَوْله: (أَن تُسَافِر) ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره:
لَا يحل لامْرَأَة مسافرتها مسيرَة يَوْم. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : الْهَاء فِي: مسيرَة يَوْم، للمرة
الْوَاحِدَة، التَّقْدِير: أَن تُسَافِر مرّة وَاحِدَة
سفرة وَاحِدَة مَخْصُوصَة بِيَوْم وَلَيْلَة، وَتَبعهُ على
هَذَا صَاحب (التَّوْضِيح) وَهَذَا تصرف عَجِيب، وَلَفظ:
(مسيرَة) مصدر ميمي بِمَعْنى: السّير، كالمعيشة بِمَعْنى
الْعَيْش، وَلَيْسَت التَّاء فِيهِ للمرة، وَمَا كل تَاء
تدخل الْمصدر تدل على الْوحدَة. قَوْله: (تؤمن بِاللَّه
وَالْيَوْم
(7/129)
الآخر) ظَاهره أَن هَذَا قيد يخرج
الكافرات، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْبَعْض، وَلَيْسَ
كَذَلِك، بل هُوَ وصف لتأكيد التَّحْرِيم لِأَنَّهُ
تَعْرِيض أَنَّهَا إِذا سَافَرت بِغَيْر محرم
فَإِنَّهَا تخَالف شَرط الْإِيمَان بِاللَّه
وَالْيَوْم الآخر، لِأَن التَّعَرُّض إِلَى وصفهَا
بذلك إِشَارَة إِلَى إِلْزَام الْوُقُوف عِنْدَمَا
نهيت عَنهُ، وَأَن الْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم
الآخر يقْضِي لَهَا بذلك. قَوْله: (لَيْسَ مَعهَا
حُرْمَة) جملَة حَالية، أَي: لَيْسَ مَعهَا رجل ذُو
حُرْمَة مِنْهَا، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم، كَذَلِك،
وَقد مر عَن قريب. وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث
الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث على: أَن الْمَرْأَة لَيْسَ
لَهَا أَن تُسَافِر مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة إلاّ بِذِي
محرم، وَلها أَن تُسَافِر فِي أقل من ذَلِك، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
تابَعَهُ يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ وسُهَيْلٌ ومالِكٌ
عنِ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ
أَي: تَابع ابْن أبي ذِئْب عَن أبي هُرَيْرَة يحيى
وَسُهيْل وَمَالك، فَهَذِهِ الْمُتَابَعَة فِي متن
الحَدِيث لَا فِي الْإِسْنَاد، لأَنهم لم يَقُولُوا
عَن أَبِيه. وَقَالَ الْمُزنِيّ: يَعْنِي تَابعه فِي
قَوْله: (مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة) قلت: أَشَارَ
بِهَذَا إِلَى أَن مُتَابعَة هَؤُلَاءِ ابْن أبي ذِئْب
عَن سعيد فِي لفظ الْمَتْن لَا فِي ذكر سعيد عَن
أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَكِن لم يخْتَلف على
يحيى فِي رِوَايَته عَن أبي سعيد عَن أَبِيه، لِأَن
الطَّحَاوِيّ روى هَذَا الحَدِيث من طَرِيق يحيى،
وَفِيه: عَن أَبِيه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا أَبُو
أُميَّة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: حَدثنَا
شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن عَن يحيى بن أبي كثير عَن
أبي سعيد عَن أَبِيه أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل
لامْرَأَة أَن تُسَافِر يَوْمًا فَمَا فَوْقه ألاَّ
وَمَعَهَا ذُو حُرْمَة) . وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده:
حَدثنَا حسن حَدثنَا شَيبَان عَن يحيى عَن أبي سعيد
أَن أَبَاهُ أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل
لامْرَأَة أَن تُسَافِر يَوْمًا فَمَا فَوْقه إلاَّ
وَمَعَهَا ذُو حُرْمَة) .
وَاخْتلف فِي ذَلِك على سُهَيْل وَمَالك. أما
الِاخْتِلَاف على سُهَيْل فَقَالَ أَبُو دَاوُد:
حَدثنَا يُوسُف بن مُوسَى عَن جرير عَن سُهَيْل عَن
سعيد بن أبي سعيد عَن أبي هُرَيْرَة. . الحَدِيث،
وَفِيه: أَن تُسَافِر بريدا. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ:
حَدثنَا أَبُو بكرَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عمر
الضَّرِير عَن حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: حَدثنَا
سُهَيْل بن أبي صَالح عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري
عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر امْرَأَة بريدا إلاَّ
مَعَ زوج أَو ذِي محرم) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ
أَيْضا نَحوه، فَهَذِهِ لَيْسَ فِيهَا ذكر: عَن
أَبِيه، وروى مُسلم: حَدثنَا أَبُو كَامِل الجحدري،
قَالَ حَدثنَا بشر، يَعْنِي ابْن الْمفضل، قَالَ:
حَدثنَا سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل لامْرَأَة أَن تُسَافِر
ثَلَاثًا إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم عَلَيْهَا) ،
فَهَذَا فِي رِوَايَته أبدل سعيدا بِأبي صَالح،
وَخَالف فِي اللَّفْظ أَيْضا فَقَالَ: (أَن تُسَافِر
ثَلَاثًا) ، وَيحْتَمل أَن يكون الحديثان مَعًا عِنْد
سُهَيْل، وَلذَلِك صحّح ابْن حبَان الطَّرِيقَيْنِ
عَنهُ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة سُهَيْل
مضطربة فِي الْإِسْنَاد والمتن.
وَأما الِاخْتِلَاف على مَالك فقد ذَكرْنَاهُ عَن
قريب، وَقد رَأَيْت الِاخْتِلَاف الظَّاهِر بَين
الْحفاظ فِي ذكر أَبِيه، فَلَعَلَّهُ سمع من أَبِيه
عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ سمع عَن أبي هُرَيْرَة نَفسه،
فَرَوَاهُ تَارَة كَذَا وَتارَة كَذَا، وسماعه عَن أبي
هُرَيْرَة صَحِيح.
5 - (بابٌ يَقْصُرُ إذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الْإِنْسَان يقصر
صلَاته الرّبَاعِيّة إِذا خرج من مَوْضِعه قَاصِدا
سفرا تقصر فِي مثله الصَّلَاة.
وَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَصَرَ وَهْوَ
يَرَى البُيُوتَ فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ هاذِهِ
الكُوفَةُ قَالَ لاَ حَتَّى نَدْخُلَهَا
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْكَلَام فِيهِ على
أَنْوَاع:
الأول: فِي مَعْنَاهُ فَقَوله: (وَخرج عَليّ) أَي: من
الْكُوفَة. لِأَن قَوْله: (هَذِه الْكُوفَة) يدل
عَلَيْهِ. قَوْله: (فقصر) أَي: الصَّلَاة
الرّبَاعِيّة. قَوْله: (وَهُوَ يرى الْبيُوت) جملَة
حَالية أَي: وَالْحَال أَنه يرى بيُوت الْكُوفَة.
قَوْله: (فَلَمَّا رَجَعَ) أَي: من سَفَره هَذَا.
قَوْله: (هَذِه الْكُوفَة) يَعْنِي: هَل نتم
الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا، أَي: لَا نتم حَتَّى ندْخلهَا.
النَّوْع الثَّانِي: إِن هَذَا التَّعْلِيق أخرجه
الْحَاكِم مَوْصُولا من رِوَايَة الثَّوْريّ عَن وقاء
بن إِيَاس (عَن عَليّ بن ربيعَة، قَالَ: خرجنَا مَعَ
على، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فقصرنا الصَّلَاة
وَنحن نرى الْبيُوت، ثمَّ رَجعْنَا فقصرنا الصَّلَاة
وَنحن نرى الْبيُوت) .
(7/130)
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يزِيد بن
هَارُون (عَن وقاء بن إِيَاس: خرجنَا مَعَ عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، متوجهين هَهُنَا،
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام، فصلى رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى إِذا رَجعْنَا ونظرنا إِلَى
الْكُوفَة حضرت الصَّلَاة، قَالُوا: يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ هَذِه الْكُوفَة، أَنْتُم الصَّلَاة؟
قَالَ: لَا، حَتَّى ندْخلهَا) . ووقاء، بِكَسْر
الْوَاو وَبعدهَا قَاف ثمَّ مُدَّة: ابْن إِيَاس،
بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف.
قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ كَلَام. وَقَالَ
أَبُو عمر: رُوِيَ مثل هَذَا عَن عَليّ من وُجُوه
شَتَّى. قلت: روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) :
حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن دَاوُد بن أبي هِنْد
(عَن أبي حَرْب بن أبي الْأسود الديلِي أَن عليا،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرج من الْبَصْرَة فصلى
الظّهْر أَرْبعا، ثمَّ قَالَ: إِنَّا لَو جاوزنا هَذَا
الخص لصلينا رَكْعَتَيْنِ) . وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق
فِي (مُصَنفه) : أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن
دَاوُد بن أبي هِنْد (عَن أبي حَرْب بن أبي الْأسود:
أَن عليا لما خرج من الْبَصْرَة رأى خصا، فَقَالَ:
لَوْلَا هَذَا الخص لصلينا رَكْعَتَيْنِ، فَقلت: وَمَا
الخص؟ قَالَ: بَيت من الْقصب) . قلت: هُوَ بِضَم
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة.
قَالَ أَبُو عمر: روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيره
عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، قَالَ:
(خرجت مَعَ عَليّ بن أبي طَالب إِلَى صفّين، فَلَمَّا
كَانَ بَين الجسر والقنطرة صلى رَكْعَتَيْنِ) ، قَالَ:
وَسَنَده صَحِيح.
النَّوْع الثَّالِث: فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي
هَذَا الْبَاب، فعندنا إِذا فَارق الْمُسَافِر بيُوت
الْمصر يقصر، وَفِي (الْمَبْسُوط) : يقصر حِين يخلف
عمرَان الْمصر، وَفِي (الذَّخِيرَة) : إِن كَانَت
لَهَا محلّة منتبذة من الْمصر وَكَانَت قبل ذَلِك
مُتَّصِلَة بهَا فَإِنَّهُ لَا يقصر مَا لم يجاوزها،
ويخلف دورها بِخِلَاف الْقرْيَة الَّتِي تكون بِفنَاء
الْمصر، فَإِنَّهُ يقصر وَإِن لم يحاوزها. وَفِي
(التُّحْفَة) : الْمُقِيم إِذا نوى السّفر وَمَشى أَو
ركب لَا يصير مُسَافِرًا مَا لم يخرج من عمرَان
الْمصر، لِأَن بنية الْعَمَل لَا يصير عَاملا مَا لم
يعْمل، لِأَن الصَّائِم إِذا نوى الْفطر لايصير
مُفطرا. وَفِي (الْمُحِيط) : وَالصَّحِيح أَنه تعْتَبر
مُجَاوزَة عمرَان الْمصر إلاّ إِذا كَانَ ثمَّة
قَرْيَة أَو قرى مُتَّصِلَة بربض الْمصر، فَحِينَئِذٍ
تعْتَبر مُجَاوزَة الْقرى. وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي
الْبَلَد يشْتَرط مُجَاوزَة السُّور لَا مُجَاوزَة
الْأَبْنِيَة الْمُتَّصِلَة بالسور خَارِجَة، وَحكى
الرَّافِعِيّ وجَهَا: أَن الْمُعْتَبر مُجَاوزَة
الدّور، وَرجح الرَّافِعِيّ هَذَا الْوَجْه فِي
(الْمُجَرّد) ، وَالْأول فِي الشَّرْح وَإِن لم يكن
فِي جِهَة خُرُوجه سور، أَو كَانَ فِي قَرْيَة يشْتَرط
مُفَارقَة الْعمرَان. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ
قدامَة: لَيْسَ لمن نوى السّفر الْقصر حَتَّى يخرج من
بيُوت مصره أَو قريته، ويخلفها وَرَاء ظَهره. قَالَ:
وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد
وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ
ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ من أهل الْعلم
على هَذَا، وَعَن عَطاء وَسليمَان بن مُوسَى:
إنَّهُمَا كَانَا يبيحان الْقصر فِي الْبَلَد لمن نوى
السّفر، وَعَن الْحَارِث بن أبي ربيعَة: إِنَّه
أَرَادَ سفرا فصلى بِالْجَمَاعَة فِي منزله
رَكْعَتَيْنِ، وَفِيهِمْ الْأسود بن يزِيد وَغير
وَاحِد من أَصْحَاب عبد الله، وَعَن عَطاء أَنه قَالَ:
إِذا دخل عَلَيْهِ وَقت صَلَاة بعد خُرُوجه من منزله
قبل أَن يُفَارق بيُوت الْمصر يُبَاح لَهُ الْقصر،
وَقَالَ مُجَاهِد: إِذا ابْتَدَأَ السّفر بِالنَّهَارِ
لَا يقصر حَتَّى يدْخل اللَّيْل، وَإِذا ابْتَدَأَ
بِاللَّيْلِ لَا يقصر حَتَّى يدْخل النَّهَار.
9801 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ وإبْرَاهِيمَ بنِ
مَيْسَرَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ
صَلَّيْتُ الظهْرَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِالمَدِينَةِ أرْبَعا وَالعَصْرَ بِذِي
الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن أنسا يخبر فِي
حَدِيثه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصر
صلَاته بَعْدَمَا خرج من الْمَدِينَة، والترجمة
هَكَذَا. والمناسبة بَينه وَبَين أثر عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَذْكُور من حَيْثُ إِن أثر
عَليّ يدل على أَن الْقصر يشرع بِفِرَاق الْحَضَر،
وَحَدِيث أنس كَذَلِك، لِأَنَّهُ يدل على أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قصر حَتَّى فَارق
الْمَدِينَة، وَكَانَ قصره فِي ذِي الحليفة، لِأَنَّهُ
كَانَ أول منزل نزله وَلم تحضر قبله صَلَاة، وَلَا
يَصح اسْتِدْلَال من اسْتدلَّ بِهِ على إِبَاحَة
الْقصر فِي السّفر الْقصير لكَون بَين الْمَدِينَة
وَذي الحليفة سِتَّة أَمْيَال، لِأَن ذَا الحليفة لم
تكن مُنْتَهى سفر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَإِنَّمَا خرج إِلَيْهَا يُرِيد مَكَّة، فاتفق
نُزُوله بهَا وَكَانَت صَلَاة الْعَصْر أول صَلَاة
حضرت بهَا فقصرها، وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن
رَجَعَ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم
النُّون: الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: سُفْيَان
الثَّوْريّ، نَص عَلَيْهِ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) .
الثَّالِث: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، بِلَفْظ اسْم
الْفَاعِل من الانكدار، ابْن عبد الله الْقرشِي
التَّيْمِيّ الْمدنِي، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة،
قَالَه الْوَاقِدِيّ. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن
ميسرَة ضد الميمنة الطَّائِفِي الْمَكِّيّ. الْخَامِس:
أنس بن مَالك.
ذكر لطائف
(7/131)
إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: تابعيان يرويان عَن
صَحَابِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي وَشَيخ شيحه
كَذَلِك وَالثَّالِث مدنِي وَالرَّابِع مكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر فِي
الْحَج أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد ابْن هِشَام
بن يُوسُف. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن
أَحْمد بن حَنْبَل، وَهنا أخرجه البُخَارِيّ: عَن
إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن أنس. وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّلَاة أَيْضا عَن سعيد بن مَنْصُور. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَكَذَلِكَ أخرجه
النَّسَائِيّ لَكِن ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَرْبعا) أَي: أَربع
رَكْعَات، هَذَا الَّذِي على هَذِه الصُّورَة رِوَايَة
الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (صليت الظّهْر مَعَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ
أَرْبعا وبذي الحليفة رَكْعَتَيْنِ) . قَالَ ابْن حزم،
وَالْمرَاد بِرَكْعَتَيْنِ: هِيَ الْعَصْر، كَمَا
جَاءَ مُبينًا فِي رِوَايَة أُخْرَى. قَالَ: وَكَانَ
ذَلِك يَوْم الْخَمِيس لست لَيَال بَقينَ من ذِي
الْقعدَة. وَابْن سعيد يَقُول: يَوْم السبت لخمس
لَيَال بَقينَ من ذِي الْقعدَة. وَفِي (صَحِيح مُسلم)
: لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَذَلِكَ لسِتَّة عشر
لِلْحَجِّ. قَوْله: (وَالْعصر) بِالنّصب أَي: صَلَاة
الْعَصْر. قَوْله: (بِذِي الحليفة) ، ذُو الحليفة مَاء
لبني جشم، قَالَ عِيَاض: على سَبْعَة أَمْيَال من
الْمَدِينَة. قَالَ ابْن قرقول: سِتَّة، وَقَالَ
الْبكْرِيّ: هِيَ تَصْغِير حلفة، وَهِي مِيقَات أهل
الْمَدِينَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَفِي (التَّوْضِيح) : أورد
الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث مستدلاً على أَن من
أَرَادَ سفرا وَصلى قبل خُرُوجه فَإِنَّهُ يتم، كَمَا
فعله الشَّارِع فِي الظّهْر بِالْمَدِينَةِ، وَقد نوى
السّفر، ثمَّ صلى الْعَصْر بِذِي الحليفة
رَكْعَتَيْنِ، وَالْحَاصِل أَن من نوى السّفر فَلَا
يقصر حَتَّى يُفَارق بيُوت مصره، وَقد ذكرنَا الْخلاف
فِيهِ عَن قريب مستقصىً. وَفِيه: حجَّة على من يَقُول:
يقصر إِذا أَرَادَ السّفر، وَلَو فِي بَيته، وعَلى
مُجَاهِد فِي قَوْله: لَا يقصر حَتَّى يدْخل اللَّيْل.
0901 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ
حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتِ
الصَّلاةُ أوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَانِ
فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلاَةُ
الحَضَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ فقُلْتُ لِعُرْوَةَ مَا
بالُ عائِشَةَ تُتِمُّ قَالَ تَأوَّلَتْ مَا تَأوَّلَ
عُثْمَانُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
(أنظر الحَدِيث 053 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تَأتي بتوجيهه، وَإِن كَانَ
فِيهِ بعض التعسف، وَهُوَ أَن ذكر السّفر يصدق على
الْمُسَافِر فَيدل على أَنه إِذا خرج من مَوْضِعه يقصر
عِنْد وجود شَرط الْقصر. فَافْهَم.
وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن
عبد الله أَبُو جَعْفَر الْمَعْرُوف بالمسندي،
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ
عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن شَيْخه
بخاري وسُفْيَان مكي وَالزهْرِيّ وَعُرْوَة مدنيان.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة
عَن عَليّ بن خشرم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن سُفْيَان، وَقد مر هَذَا
الحَدِيث فِي أول كتاب الصَّلَاة،. أخرجه عَن عبد الله
بن يُوسُف عَن مَالك عَن صَالح بن كيسَان عَن عُرْوَة
عَن عَائِشَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
ونتكلم فِيهِ بِمَا لم يذكر هُنَاكَ.
قَوْله: (أول) بِالرَّفْع على أَنه بدل من الصَّلَاة،
أَو: مُبْتَدأ ثَان وَخَبره. قَوْله: (رَكْعَتَانِ)
وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَيجوز نصب:
أول، على الظَّرْفِيَّة أَي: فِي أول. فَإِن قلت: فِي
رِوَايَة كَرِيمَة: (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ)
فَأَيْنَ الْخَبَر على هَذَا؟ قلت: على هَذِه
الرِّوَايَة تكون الرَّكْعَتَيْنِ مَنْصُوبًا على
الْحَال، وَقد سد مسد الْخَبَر. قَوْله: (فرضت) قَالَ
أَبُو عمر: كل من رَوَاهُ عَن عَائِشَة قَالَ فِيهِ:
فرضت الصَّلَاة إلاّ مَا حدث بِهِ أَبُو إِسْحَاق
الْحَرْبِيّ، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْحجَّاج
حَدثنَا ابْن الْمُبَارك حَدثنَا ابْن عجلَان عَن
صَالح بن كيسَان عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة قَالَت:
فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ، الحَدِيث. انْتهى
كَلَامه. قلت: فِي مُسْند عبد الله بن وهب بِسَنَد
صَحِيح، (عَن عُرْوَة عَنْهَا: فرض الله الصَّلَاة
حِين فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ. .) الحَدِيث. وَعند
السراج، بِسَنَد صَحِيح:
(7/132)
(فرض الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أول مَا فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ) (ح)
وَفِي لفظ: (كَانَ أول مَا افْترض على رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب) ، وَسَنَده صَحِيح.
وَعند الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد
عَن عَامر (عَن عَائِشَة، قَالَت: افْترض الله
الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِمَكَّة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلاّ الْمغرب،
فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة زَاد إِلَى كل
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلاّ صَلَاة الْغَدَاة) .
وَقَالَ الدولابي: نزل إتْمَام صَلَاة الْمُقِيم فِي
الظّهْر يَوْم الثُّلَاثَاء إثنتي عشرَة لَيْلَة خلت
من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِشَهْر، وأقرت صَلَاة السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ
الْمُهلب: إلاّ الْمغرب فرضت وَحدهَا ثَلَاثًا، وَمَا
عَداهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ
الْأصيلِيّ: أول مَا فرضت الصَّلَاة أَرْبعا على
هيئتها الْيَوْم، وَأنكر قَول من قَالَ: فرضت
رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: لَا يقبل فِي هَذَا خبر
الْآحَاد. وَأنكر حَدِيث عَائِشَة. وَقَالَ أَبُو عمر
بن عبد الْبر: رَوَاهُ مَالك عَن صَالح بن كيسَان عَن
عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح
الْإِسْنَاد عِنْد جمَاعَة أهل النَّقْل، لَا يخْتَلف
أهل الحَدِيث فِي صِحَة إِسْنَاده إلاّ أَن
الْأَوْزَاعِيّ قَالَ فِيهِ: عَن الزُّهْرِيّ عَن
عُرْوَة عَن عَائِشَة وَهِشَام بن عُرْوَة عَن عُرْوَة
عَن عَائِشَة،. وَلم يروه مَالك عَن ابْن شهَاب وَلَا
عَن هِشَام إلاّ أَن شَيخا يُسمى مُحَمَّد بن يحيى بن
عباد بن هانىء رَوَاهُ عَن مَالك وَابْن أخي
الزُّهْرِيّ جَمِيعًا عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن
عَائِشَة، وَهَذَا لَا يَصح عَن مَالك، وَالصَّحِيح
فِي إِسْنَاده عَن مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) وطرقه عَن
عَائِشَة متواترة، وَهُوَ عَنْهَا صَحِيح لَيْسَ فِي
إِسْنَاده مقَال.
إلاّ أَن أهل الْعلم اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ. فَذهب
جمَاعَة مِنْهُم إِلَى ظَاهره وعمومه وَمَا يُوجِبهُ
لَفظه، فأوجبوا الْقصر فِي السّفر فرضا. وَقَالُوا:
لَا يجوز لأحد أَن يُصَلِّي فِي السّفر إلاّ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الرباعيات، وَحَدِيث
عَائِشَة وَاضح فِي أَن الرَّكْعَتَيْنِ للْمُسَافِر
فرض، لِأَن الْفَرْض الْوَاجِب لَا يجوز خِلَافه،
وَلَا الزِّيَادَة عَلَيْهِ ألاَ ترى أَن الْمُصَلِّي
فِي الْحَضَر لَا يجوز لَهُ أَن يزِيد فِي صَلَاة من
الْخمس، وَلَو زَاد لفسدت، فَكَذَلِك الْمُسَافِر لَا
يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي السّفر أَرْبعا، لِأَن
فَرْضه فِيهِ رَكْعَتَانِ. وَمِمَّنْ ذهب إِلَى هَذَا
عمر بن عبد الْعَزِيز، إِن صَحَّ عَنهُ. وَعنهُ:
الصَّلَاة فِي السّفر رَكْعَتَانِ لَا يَصح غَيرهمَا،
ذكره ابْن حزم محتجا بِهِ، وَحَمَّاد بن أبي
سُلَيْمَان، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه،
وَقَول بعض أَصْحَاب مَالك، وروى عَن مَالك أَيْضا
وَهُوَ الْمَشْهُور عَنهُ، أَنه قَالَ: من أتم فِي
السّفر أعَاد فِي الْوَقْت، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث
عمر بن الْخطاب: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ تَمام غير
قصر على لِسَان نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ،
رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح، وَبِمَا رَوَاهُ
ابْن عَبَّاس عِنْد مُسلم: (إِن الله فرض الصَّلَاة
على نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَضَر
أَرْبعا وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ) . وَفِي
(التَّمْهِيد) من حَدِيث أبي قلَابَة: (عَن رجل من بني
عَامر أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ لَهُ: إِن الله تَعَالَى وضع عَن الْمُسَافِر
الصَّوْم وَشطر الصَّلَاة) ، وَعَن أنس بن مَالك
الْقشيرِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله،
وَعند ابْن حزم صَحِيحا عَن ابْن عمر، قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة السّفر
رَكْعَتَانِ من ترك السّنة كفر) ، وَعَن ابْن عَبَّاس:
من صلى فِي السّفر أَرْبعا كمن صلى فِي الْحَضَر
رَكْعَتَيْنِ، وَفِي (مُسْند السراج) بِسَنَد جيد: عَن
عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي يرفعهُ: (إِن الله تَعَالَى
وضع عَن الْمُسَافِر الصّيام وَنصف الصَّلَاة) ،
وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَجَابِر
وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَالثَّوْري، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن قَامَ
إِلَى الثَّالِثَة ألغاها وَسجد للسَّهْو. وَقَالَ
الْحسن بن حَيّ: إِذا صلى أَرْبعا مُتَعَمدا
أَعَادَهَا إِذا كَانَ ذَلِك مِنْهُ الشَّيْء
الْيَسِير، فَإِن طَال ذَلِك مِنْهُ وَكثر فِي سَفَره
لم يعد، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: من صلى أَرْبعا
عمدا بئس مَا صنع، وقضيت عَنهُ. ثمَّ قَالَ: لَا أَبَا
لَك، أَتَرَى أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم تركوها لِأَنَّهَا ثقلت عَلَيْهِم؟ وَقَالَ
الْأَثْرَم: قلت لِأَحْمَد: الرجل يُصَلِّي أَرْبعا
فِي السّفر؟ قَالَ: لَا، مَا يُعجبنِي. وَقَالَ
الْبَغَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا قَول أَكثر
الْعلمَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ: الأولى الْقصر ليخرج
من الْخلاف. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل على مَا
فعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث
دَلِيل صَرِيح للحنفية فِي وجوب الْقصر؟ قلت: لَا
دلَالَة لَهُم فِيهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ الحَدِيث
مجْرى على ظَاهِرَة لما جَازَ لعَائِشَة إِتْمَامهَا،
ثمَّ إِنَّه خبر وَاحِد لَا يُعَارض لفظ الْقُرْآن
وَهُوَ: {أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101)
. الصَّرِيح فِي أَنَّهَا كَانَت فِي الأَصْل زَائِدَة
عَلَيْهِ، إِذْ الْقصر مَعْنَاهُ التنقيص، ثمَّ إِن
الحَدِيث عَام مَخْصُوص بالمغرب وبالصبح، وحجية
الْعَام الْمُخَصّص مُخْتَلف فِيهَا، ثمَّ إِن راوية
الحَدِيث عَائِشَة قد خَالَفت رِوَايَتهَا، وَإِذا
خَالف الرَّاوِي رِوَايَته لَا يجب الْعَمَل بروايته
عِنْدهم قلت: لَا نسلم أَنه لَا دلَالَة لنا فِيهِ
لِأَنَّهُ ينبىء بِأَن صَلَاة الْمُسَافِر الَّتِي
هِيَ الركعتان فرضت فِي الأَصْل هَكَذَا،
وَالزِّيَادَة عَلَيْهِمَا طارئة، وَلم تَسْتَقِر
الزِّيَادَة إلاّ فِي الْحَضَر، وَبقيت صَلَاة
الْمُسَافِر فرضا على أَصْلهَا، وَهُوَ الركعتان،
فَكَمَا لَا تجوز الزِّيَادَة فِي الْحَضَر
بِالْإِجْمَاع، فَكَذَا الْمُسَافِر لَا تجوز لَهُ
(7/133)
الزِّيَادَة، وَلَفظ: فرضت، وَإِن كَانَ
على صِيغَة الْمَجْهُول، لَكِن يدل على أَن الله هُوَ
الَّذِي فرض، كَمَا مر صَرِيحًا فِي الْأَحَادِيث
الْمَذْكُورَة آنِفا. وَقَوله: لِأَنَّهُ لَو كَانَ
الحَدِيث مجْرى على ظَاهره لما جَازَ لعَائِشَة
إِتْمَامهَا، جَوَابه فِي نفس الحَدِيث، وَهُوَ قَول
عُرْوَة: تأولت مَا تَأَول عُثْمَان، لِأَن
الزُّهْرِيّ لما روى هَذَا الحَدِيث عَن عُرْوَة عَن
عَائِشَة ظهر لَهُ أَن الرَّكْعَتَيْنِ هُوَ الْفَرْض
فِي حق الْمُسَافِر، لَكِن أشكل عَلَيْهِ إتْمَام
عَائِشَة من حَيْثُ إِنَّهَا أخْبرت بفرضية
الرَّكْعَتَيْنِ فِي حق الْمُسَافِر، ثمَّ إِنَّهَا
كَيفَ أتمت؟ فَسَأَلَ عُرْوَة بقوله: مَا بَال
عَائِشَة تتمّ؟ فَأجَاب عُرْوَة بقوله: (تأولت مَا
تَأَول عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد
ذكرنَا الْوُجُوه الَّتِي ذكرت فِي تَأَول عُثْمَان،
وَقد ذكر بَعضهم الْوُجُوه الْمَذْكُورَة، ثمَّ قَالَ:
وَالْمَنْقُول فِي ذَلِك أَن سَبَب إتْمَام عُثْمَان
أَنه كَانَ يرى الْقصر مُخْتَصًّا بِمن كَانَ شاخصا
سائرا، وَأما من أَقَامَ فِي مَكَان فِي أثْنَاء
سَفَره فَلهُ حكم الْمُقِيم فَيتم، وَالْحجّة فِيهِ
مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن عَن عباد بن عبد
الله ابْن الزبير، قَالَ: لما قدم علينا مُعَاوِيَة
حَاجا صلى بِنَا الظّهْر رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّة، ثمَّ
انْصَرف إِلَى دَار الندوة، فَدخل عَلَيْهِ مَرْوَان
وَعَمْرو بن عُثْمَان فَقَالَا: لقد عبت أَمر ابْن عمك
لِأَنَّهُ كَانَ قد أتم الصَّلَاة، قَالَ: وَكَانَ
عُثْمَان حَيْثُ أتم الصَّلَاة إِذا قدم مَكَّة
يُصَلِّي بهَا الظّهْر وَالْعصر وَالْعشَاء أَرْبعا
أَرْبعا ثمَّ إِذا خرج إِلَى منى وعرفة قصر الصَّلَاة،
فَإِذا فرغ من الْحَج وَأقَام بمنى أتم الصَّلَاة
انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره يُؤَيّد مَا
ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من وجوب الْقصر، لِأَنَّهُ قَالَ:
كَانَ يرى الْقصر مُخْتَصًّا بِمن كَانَ شاخصا سائرا،
وَظَاهره أَنه كَانَ يرى الْقصر وَاجِبا للْمُسَافِر،
وَكَانَ يرى حكم الْمُقِيم لمن أَقَامَ، وَنحن أَيْضا
نرى ذَلِك، غير أَن الْمُسَافِر مَتى يكون مُقيما
فِيهِ: فِيهِ خلاف قد ذَكرْنَاهُ، فَلَا يضرنا هَذَا
الْخلاف، ودعوانا فِي وجوب الْقصر فِي حق الْمُسَافِر،
ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل ادّعى أَن إِسْنَاد حَدِيث
أَحْمد حسن، وَلم يذكر رُوَاته حَتَّى ينظر فيهم،
وَقَول الْكرْمَانِي: ثمَّ إِنَّه خبر وَاحِد لَا
يُعَارض لفظ الْقُرْآن. . إِلَى آخِره، قُلْنَا: لَا
نسلم ذَلِك على الْوَجْه الَّذِي ذكرْتُمْ، لِأَن نفي
الْجنَاح فِي الْقصر إِنَّمَا هُوَ فِي الزِّيَادَة
على الرَّكْعَتَيْنِ، لِأَن الصَّلَاة فرضت بِمَكَّة:
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وزيدت عَلَيْهِمَا:
رَكْعَتَانِ فِي الْمَدِينَة، وَالْآيَة مَدَنِيَّة
نزلت فِي إِبَاحَة الْقصر للضاربين فِي الأَرْض وهم:
المسافرون، فَدلَّ على أَن إِبَاحَة الْقصر فِي
الزِّيَادَة لَا فِي الأَصْل، لِأَن الْإِجْمَاع
مُنْعَقد على أَن الْمُسَافِر لَا يُصَلِّي فِي سَفَره
أقل من رَكْعَتَيْنِ إلاّ مَا شَذَّ، قَول من قَالَ:
إِن الْمُسَافِر يُصَلِّي رَكْعَة عِنْد الْخَوْف،
فَلَا يعْتد بِهَذَا القَوْل، على أَنا نقُول أَيْضا:
جَاءَ فِي الحَدِيث الْمَشْهُور أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر بِأَهْل مَكَّة فِي حجَّة
الْوَدَاع رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أَمر مناديا يُنَادي:
يَا أهل مَكَّة أَتموا صَلَاتكُمْ فَإنَّا قوم سفر.
وَلَو كَانَ فرض الْمُسَافِر أَرْبعا لم يحرمهم
فَضِيلَة الْجَمَاعَة مَعَه، وَعند مُسلم فِي
رِوَايَة: (صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى
صَلَاة الْمُسَافِر، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان
ثَمَانِي سِنِين، أَو قَالَ سِتّ سِنِين) . وَفِي
رِوَايَة لَهُ: (صلى فِي السّفر) ، وَلم يقل: بمنى،
وَفِي رِوَايَة لَهُ: صَحِبت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي السّفر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ
حَتَّى قَبضه الله، وصحبت أَبَا بكر فَلم يزدْ على
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه الله، وصحبت عمر فَلم يزدْ
على رَكْعَتَيْنِ، وصحبت عُثْمَان، فَلم يزدْ على
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه الله) . وَهَكَذَا لفظ
رِوَايَة أبي دَاوُد. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه:
(صَحِبت عُثْمَان فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى
قَبضه الله تَعَالَى) .
فَإِن قلت: روى النَّسَائِيّ من رِوَايَة الْعَلَاء بن
زُهَيْر عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود (عَن
عَائِشَة أَنَّهَا، اعْتَمَرت مَعَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة
حَتَّى إِذا قدمت مَكَّة قَالَت: يَا رَسُول الله
بِأبي أَنْت وَأمي: قصرت فأتممت، وَأَفْطَرت فَصمت،
قَالَ: أَحْسَنت يَا عَائِشَة، وَمَا عَابَ عَليّ) .
انْتهى. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح
مَوْصُول، فَهَذَا يدل على أَن الْقصر غير وَاجِب،
إِذْ لَو كَانَ وَاجِبا لأنكر النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على عَائِشَة فِي إِتْمَامهَا. قلت:
قد اخْتلف فِيهِ على الْعَلَاء بن زُهَيْر، فَرَوَاهُ
أَبُو نعيم عَنهُ هَكَذَا، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن
يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن الْعَلَاء بن زُهَيْر عَن
عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن عَائِشَة، فعلى هَذَا
الْإِسْنَاد غير مَوْصُول. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي
(الْخُلَاصَة) : هَذِه اللَّفْظَة مشكلة، فَإِن
الْمَعْرُوف أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم
يعْتَمر إلاّ أَربع عمر، كُلهنَّ فِي ذِي الْقعدَة.
فَإِن قلت: روى الْبَزَّار من رِوَايَة الْمُغيرَة بن
زِيَاد عَن عَائِشَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، كَانَ يُسَافر فَيتم الصَّلَاة وَيقصر،
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد
صَحِيح، وَوَافَقَهُ الْبَيْهَقِيّ على صِحَة
إِسْنَاده. قلت: كَيفَ يحكم بِصِحَّتِهِ وَقد قَالَ
أَحْمد: الْمُغيرَة بن زِيَاد مُنكر الحَدِيث
أَحَادِيثه مَنَاكِير؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو
زرْعَة: شيخ لَا يحْتَج بحَديثه؟ وَأدْخلهُ
البُخَارِيّ فِي كتاب الضُّعَفَاء، وَعَادَة
الْبَيْهَقِيّ التَّصْحِيح عِنْد الِاحْتِجَاج لإمامه
والتضعيف عِنْد الِاحْتِجَاج لغيره.
وَقَول الْكرْمَانِي: ثمَّ إِن الحَدِيث عَام مَخْصُوص
بالمغرب وَالصُّبْح غير سديد، لِأَن المُرَاد من
قَوْلهَا: فرضت الصَّلَاة، هِيَ الصَّلَاة
الْمَعْهُودَة
(7/134)
فِي الشَّرْع، وَهِي الصَّلَوَات الْخمس،
ومسماها مَعْلُوم، فَكيف يصدق عَلَيْهِ حد الْعَام
وَهُوَ مَا يَنْتَظِم جمعا من المسميات؟ وَكَيف
يَقُول: مَخْصُوص بالمغرب وَالصُّبْح، وَهُوَ غير
صَحِيح؟ لِأَن الْخُصُوص إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ
الْعَام، فَكيف يخرج الْمغرب الَّتِي هِيَ ثَلَاث
رَكْعَات من أصل الْفَرْض الَّذِي هُوَ رَكْعَتَانِ؟
وَأما الصُّبْح فعلى الأَصْل فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ
صُورَة الْإِخْرَاج؟ وَقَوله: وحجية الْعَام
الْمُخَصّص مُخْتَلف فِيهَا، غير وَارِد علينا لأَنا
لم نقر لَا بِالْعُمُومِ وَلَا بالخصوص، فَكيف يرد
علينا مَا قَالَه؟ وَلَئِن سلمنَا الْعُمُوم فَلَا
نسلم الْخُصُوص على الْوَجْه الَّذِي ذكره، وَلَئِن
سلمنَا الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَلَا نسلم ترك
الِاحْتِجَاج بِالْعَام الْمَخْصُوص مُطلقًا؟ وَقَوله:
ثمَّ إِن راوية الحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا. . إِلَى آخِره، غير وَارِد علينا
لأَنا لَا نقُول: إِن عَائِشَة خَالَفت مَا روته، بل
نقُول: إِنَّهَا أولت، كَمَا قَالَ عُرْوَة، وَمِمَّا
يُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد
صَحِيح من طَرِيق هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أَبِيه:
(أَنَّهَا كَانَت تصلي فِي السّفر أَرْبعا، فَقلت
لَهَا: لَو صليت رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَت: يَابْنَ
أُخْتِي لَا تشق عَليّ) ، فَهَذَا يدل على أَنَّهَا
تأولت الْقصر وَلم تنكره، وتأويلها إِيَّاه لَا
يُنَافِي وُجُوبه فِي نفس الْأَمر، مَعَ أَن
الْإِنْكَار لم ينْقل عَنْهَا صَرِيحًا.
وَبعد كل ذَلِك، فَنحْن مَا اكتفينا فِي الِاحْتِجَاج
فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ بِهَذَا الحَدِيث وَحده،
وَلنَا فِي ذَلِك دَلَائِل أُخْرَى قد ذَكرنَاهَا
فِيمَا مضى، وَقَالَ أَبُو عمر وَغَيره: اضْطَرَبَتْ
الْآثَار عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
فِي هَذَا الْبَاب قلت: فَلذَلِك مَا اكْتفى اصحابنا
فِي الِاحْتِجَاج، وَمِمَّا يُؤَيّد مَا ذهب إِلَيْهِ
أَصْحَابنَا مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه)
: عَن معمر عَن قَتَادَة عَن مُورق الْعجلِيّ، قَالَ:
(سُئِلَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن
الصَّلَاة فِي السّفر؟ فَقَالَ: رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ، من خَالف السّنة كفر) . وَرَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ أَيْضا: حَدثنَا أَبُو بكرَة، قَالَ:
حَدثنَا روح، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: حَدثنَا
أَبُو التياح (عَن مُورق، قَالَ: سَأَلَ صَفْوَان بن
مُحرز ابْن عمر عَن الصَّلَاة فِي السّفر؟ فَقَالَ:
أخْشَى أَن تكذب عَليّ: رَكْعَتَانِ من خَالف السّنة
كفر) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا نَحوه من حَدِيث
أبي التياح، وَاسم أبي التياح يزِيد بن حميد الضبعِي.
6 - (بابٌ يُصَلِّي المَغُرِبَ ثَلاَثا فِي السَّفَرِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الْمُسَافِر يُصَلِّي
صَلَاة الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات كَمَا فِي الْحَضَر
وَإِنَّهَا لَا يدْخل فِيهَا الْقصر وروى أَحْمد فِي
مُسْنده من طَرِيق ثُمَامَة بن شرَاحِيل قَالَ خرجت
إِلَى ابْن عمر فَقلت مَا صَلَاة الْمُسَافِر قَالَ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب.
1901 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سالِمٌ عنْ عَبْدِ
الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ
رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا
أعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ
المَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وبَيْنَ
العِشَاءِ. قَالَ سالِمٌ وكانَ عَبْدُ الله يَفْعَلُهُ
إذَا أعْجَلَهُ السَّيْرُ..
2901 - وزَادَ اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ
ابنِ شِهَابٍ قَالَ سالِمٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ
والعِشَاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ. قَالَ سالمٌ وَأخَّرَ
ابنُ عُمَرَ المَغْرِبَ وكانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى
امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أبِي عُبَيْدٍ فَقُلْتُ
لَهُ الصَّلاَةَ فَقالَ سِرْ فَقُلْتُ لَهُ الصَّلاَةُ
فقالَ سِرْ حَتَّى سارَ مِيلَيْنِ أوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ
نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ قالَ هَكَذَا رَأيْتُ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي إذَا أعْجَلَهُ
السَّيْرُ. وَقَالَ عبدُ الله رَأيْتُ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أعْجَلَهُ السَّيْرُ يُقِيمُ
المَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلاثا ثُمَّ يُسَلِّمُ
ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ العِشَاءَ
فَيُصَلِّيِهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلاَ
يُسَبِّحُ بَعْدَ العِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ
جَوْفِ اللَّيْلِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يُقيم الْمغرب
فيصليها ثَلَاثًا) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو الْيَمَان
الحكم ابْن نَافِع البهراني. الثَّانِي: شُعَيْب بن
أبي حَمْزَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر.
(7/135)
الْخَامِس: اللَّيْث بن سعد. السَّادِس:
يُونُس بن يزِيد. السَّابِع: عبد الله بن عمر بن
الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان،
وَفِي بعض النّسخ: أخبرنَا. وَفِيه: الْإِخْبَار
أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة
الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَمَانِيَة مَوَاضِع.
وَفِيه: الرُّؤْيَة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه
وَشَيخ شَيْخه حمصيان، وَالزهْرِيّ وَسَالم مدنيان،
وَاللَّيْث مصري وَيُونُس أيلي.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي موضِعين: فِي
تَقْصِير الصَّلَاة عَن أبي الْيَمَان. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عُثْمَان
ابْن سعيد بن كثير وَعَن أَحْمد لِابْنِ مُحَمَّد بن
مُغيرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ إِذا أعجله السّير فِي
السّفر) ، قيد السّفر يخرج مَا إِذا كَانَ خَارج
الْبَلَد فِي بستانه أَو كرمه مثلا. قَوْله: (يُؤَخر
الْمغرب) أَي: يُؤَخر صَلَاة الْمغرب إِلَى وَقت
الْعشَاء. قَوْله: (يَفْعَله) أَي: يفعل تَأْخِير
الْمغرب إِلَى وَقت الْعشَاء إِذا كَانَ يعجله السّير
فِي السّفر. قَوْله: (وَزَاد اللَّيْث) أَي: اللَّيْث
بن سعد، وَقد وصل الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ:
أَخْبرنِي الْقَاسِم ابْن زَكَرِيَّا حَدثنَا ابْن
زَنْجوَيْه وحَدثني أبراهيم بن هانىء حَدثنَا
الرَّمَادِي، حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا اللَّيْث
بِهَذَا، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: رأى البُخَارِيّ
أول الْإِرْسَال من اللَّيْث أقوى من رِوَايَته عَن
أبي صَالح عَن اللَّيْث، وَلم يستخبر أَن يروي عَنهُ.
قلت: هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره فِيهِ نظر، لِأَن
البُخَارِيّ روى عَن أبي صَالح فِي (صَحِيحه) على
الصَّحِيح، وَلكنه يدلسه فَيَقُول: حَدثنَا عبد الله،
وَلَا ينْسبهُ، وَهُوَ هُوَ، نعم قد علق البُخَارِيّ
حَدِيثا فَقَالَ فِيهِ، قَالَ اللَّيْث بن سعد حَدثنِي
جَعْفَر بن ربيعَة، ثمَّ قَالَ فِي آخر الحَدِيث:
حَدثنِي عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث،
فَذكره. وَلَكِن هَذَا عِنْد ابْن حمويه السَّرخسِيّ
دون صَاحِبيهِ، وَقَالَ فِي (تذهيب التَّهْذِيب) :
وَقد صرح ابْن حمويه عَن الْفربرِي عَن البُخَارِيّ
بروايته عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث فِي
حَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَولا تَعْلِيقا، فَلَمَّا
فرغ من الْمَتْن قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن صَالح عَن
اللَّيْث بِهِ. ثمَّ إعلم أَن ظَاهر سِيَاق
البُخَارِيّ يدل على أَن جَمِيع مَا بعد قَوْله: (زَاد
اللَّيْث) ، لَيْسَ دَاخِلا فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن رِوَايَة
شُعَيْب عَنهُ تَأتي بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب فِي:
بَاب هَل يُؤذن أَو يُقيم إِذا جمع بَين الْمغرب
وَالْعشَاء، وَإِنَّمَا الزِّيَادَة فِي قصَّة
صَفِيَّة، وَفعل ابْن عمر خَاصَّة، وَفِي
(التَّصْرِيح) بقوله: (قَالَ عبد الله رَأَيْت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَقَط. قَوْله:
(استصرخ) بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي:
أخبر بِمَوْت زَوجته صَفِيَّة بنت أبي عبيد، هِيَ
أُخْت الْمُخْتَار الثَّقَفِيّ. وَهُوَ من الصُّرَاخ،
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَأَصله الإستغاثة بِصَوْت
مُرْتَفع، وَكَانَ هَذَا بطرِيق مَكَّة بيَّن ذَلِك
فِي كتاب الْجِهَاد من رِوَايَة أسلم مولى عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، على مَا يَجِيء فِي كتاب
الْجِهَاد فِي: بَاب السرعة فِي السّير. قَوْله:
(الصَّلَاة) بِالنّصب على الإغراء، وَيجوز الرّفْع على
الِابْتِدَاء أَي: الصَّلَاة حضرت، وَيجوز الرّفْع على
الخبرية أَي: هَذِه الصَّلَاة، أَي: وَقت الصَّلَاة.
قَوْله: (فَقَالَ: سر) أَي: فَقَالَ عبد الله لسالم:
سر، وَهُوَ أَمر من سَار يسير. قَوْله: (ميلين) قد مضى
أَن الْميل ثلث فَرسَخ، وَهُوَ أَرْبَعَة آلَاف
خطْوَة. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: عبد الله بن عمر.
قَوْله: (يُقيم الْمغرب) من الْإِقَامَة، هَكَذَا فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وللحموي أَيْضا، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (يعتم، بِضَم
الْيَاء وَسُكُون الْعين وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة
من فَوق: أَي يدْخل فِي الْعَتَمَة وَفِي رِوَايَة
كَرِيمَة: (يُؤَخر الْمغرب) . قَوْله: (فيصليها
ثَلَاثًا) أَي: فَيصَلي الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات.
قَوْله: (وقلما يلبث) كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: قل
لبثه. قَوْله: (وَلَا يسبح) أَي: لَا يُصَلِّي من
السبحة، وَهُوَ صَلَاة اللَّيْل.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: الْجمع بَين الْمغرب
وَالْعشَاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ حجَّة
للشَّافِعِيّ فِي جَوَاز الْجمع بَين المغربين
بِتَأْخِير الأولى إِلَى الثَّانِيَة. قُلْنَا: لَيْسَ
المُرَاد مِنْهُ أَن يُصَلِّيهمَا فِي وَقت الْعشَاء،
وَلَكِن المُرَاد أَن يُؤَخر الْمغرب إِلَى آخر
وَقتهَا، ثمَّ يُصليهَا ثمَّ يُصَلِّي الْعشَاء،
وَهُوَ جمع بَينهمَا صُورَة لَا وقتا، وَسَيَجِيءُ
تَحْقِيق الْكَلَام فِي بَابه إِن شَاءَ الله
تَعَالَى. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ عَام فِي جَمِيع
الْأَسْفَار إلاّ سفر الْمعْصِيَة، فَإِنَّهَا رخصَة،
والرخص لَا تناط بِالْمَعَاصِي. قُلْنَا: يُنَافِي
عُمُوم نَص الْقُرْآن فَلَا يجوز، وَسَيَجِيءُ
الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
وَفِيه: تَأْكِيد قيام اللَّيْل لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا يتْركهُ فِي السّفر، فالحضر أولى
بذلك، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي قَوْله: (سر) جَوَاز
تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب. قلت: لَا يجوز
تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن كَانَ
وَقت الْخطاب
(7/136)
وَقت الْحَاجة فَلَا يجوز، وَهَذَا إِذا
وَقع فِي كَلَام الشَّارِع لَيْسَ فِي غَيره على مَا
عرف فِي مَوْضِعه.
وَفِيه: أَن صَلَاة الْمغرب لَا تقصر فِي السّفر،
وترجمة الْبَاب عَلَيْهِ.
وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي ذَلِك
أَحَادِيث: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عبد الله بن عمر
وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الْبَاب. وَمِنْهَا: مَا
رَوَاهُ الْبَزَّار عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، من رِوَايَة الْحَارِث عَنهُ،
قَالَ: (صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صَلَاة الْخَوْف رَكْعَتَيْنِ إلاّ الْمغرب
ثَلَاثًا، وَصليت مَعَه فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ إلاّ
الْمغرب ثَلَاثًا) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد
(عَن عمرَان بن حُصَيْن من رِوَايَة أبي نَضرة أَن
فَتى من أسلم سَأَلَ عمرَان بن حُصَيْن عَن صَلَاة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا
سَافر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ صلى
رَكْعَتَيْنِ إلاّ الْمغرب) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة (عبد
الله ابْن يزِيد عَن خُزَيْمَة بن ثَابت، قَالَ: صلى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجمع الْمغرب
وَالْعشَاء ثَلَاثًا واثنتين بِإِقَامَة وَاحِدَة) .
وَقَالَ ابْن بطال: لم تقصر الْمغرب فِي السّفر عَمَّا
كَانَت عَلَيْهِ فِي أصل الْفَرِيضَة، لِأَنَّهَا وتر
صَلَاة النَّهَار، قَالَ: وَهَذَا تَمام فِي كل سفر،
فَمن ادّعى أَن ذَلِك فِي بعض الْأَسْفَار فَعَلَيهِ
الدَّلِيل. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله:
بَلغنِي إِن الْملك الْكَامِل سَأَلَ الْحَافِظ أَبَا
الْخطاب بن دحْيَة عَن الْمغرب: هَل تقصر فِي السّفر؟
فَأَجَابَهُ بِأَنَّهَا تقصر إِلَى ركعين، فَأنْكر
عَلَيْهِ ذَلِك. فروى حَدِيثا بِسَنَدِهِ فِيهِ قصر
الْمغرب إِلَى رَكْعَتَيْنِ، وَنسب إِلَى أَنه اختلقه،
فَالله أعلم هَل يَصح وُقُوعه فِي ذَلِك؟ وَمَا
أَظُنهُ يَقع فِي مثل هَذَا، إلاَّ أَنه اتهمَ. قَالَ
الضياء الْمَقْدِسِي: لم يُعجبنِي حَاله، كَانَ كثير
الوقيعة فِي الْأَئِمَّة، قَالَ ابْن وَاصل، قَاضِي
حمان. . كَانَ ابْن دحْيَة مَعَ فرط مَعْرفَته
بِالْحَدِيثِ وَحفظه الْكثير لَهُ مُتَّهمًا بالمجازفة
فِي النَّقْل، وَقَالَ ابْن نقطة: كَانَ مَوْصُوفا
بالمعرفة وَالْفضل إلاّ أَنه كَانَ يَدعِي أَشْيَاء
لَا حَقِيقَة لَهَا. وَذكره الذَّهَبِيّ فِي
(الْمِيزَان) فَقَالَ: مُتَّهم فِي نَقله، مَعَ أَنه
كَانَ من أوعية الْعلم، دخل فِيمَا لَا يعنيه. فَإِن
قلت: مَا وَجه تَسْمِيَة صَلَاة الْمغرب بِوتْر
النَّهَار وَهِي صَلَاة ليلية جهرية اتِّفَاقًا؟ قلت:
أُجِيب بِأَنَّهَا لما كَانَت عقيب آخر النَّهَار،
وَندب إِلَى تَعْجِيلهَا عقيب الْغُرُوب أطلق
عَلَيْهَا وتر النَّهَار لقربها مِنْهُ، لتميز عَن
الْوتر الْمَشْرُوع فِي اللَّيْل، وَهَذَا كَقَوْلِه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح:
(شهرا عيد لَا ينقصان: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة) .
وَعِيد الْفطر إِنَّمَا هُوَ من شَوَّال، وَلَكِن لما
كَانَ عقيب رَمَضَان سمي رَمَضَان: شهر عيد لقُرْبه
مِنْهُ.
7 - (بابُ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّوَابِّ
حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة التَّطَوُّع
على الدَّابَّة، وَلَفظ: الدَّابَّة، بِالْإِفْرَادِ
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي
الْوَقْت على الدَّوَابّ، بِصِيغَة الْجمع. فَإِن قلت:
فِي حَدِيثي الْبَاب، وهما حَدِيث عَامر بن ربيعَة
وَحَدِيث عبد الله بن عمر لفظ: الرَّاحِلَة. وَفِي
التَّرْجَمَة لفظ: الدَّابَّة؟ قلت: لفظ الدَّابَّة
أَعم من لفظ الرَّاحِلَة، وَفِي الْبَاب حَدِيث جَابر
أَيْضا، وَلَفظه: (وَهُوَ رَاكب فِي غير الْقبْلَة) ،
وَهَذَا اللَّفْظ يتَنَاوَل الدَّابَّة وَالرَّاحِلَة
فَاخْتَارَ فِي التَّرْجَمَة لفظا أَعم ليتناول
اللَّفْظَيْنِ الْمَذْكُورين، وَهَذَا أوجه من الَّذِي
قَالَه ابْن رشيد، وَأورد فِيهِ الصَّلَاة على
الرَّاحِلَة لتَكون تَرْجَمته بأعم ليلحق الحكم
بِالْقِيَاسِ.
3901 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الأعْلى قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنُ
الزُّهْرِيِّ عنْ عَبْدِ الله بنِ عامِرٍ عنْ أبِيهِ.
قَالَ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الدَّابَّة
تَشْمَل الرَّاحِلَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَقد مر غير مرّة.
الثَّانِي: عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى أَبُو
مُحَمَّد الشَّامي، مر فِي: بَاب الْمُسلم من سلم
الْمُسلمُونَ. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين، ابْن
رَاشد، وَقد مر. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن عَامر رأى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ صَغِير،
مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ. السَّادِس: أَبوهُ عَامر
بن ربيعَة الْعَنزي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة
وَالنُّون وبالزاي: حَلِيف آل عمر بن الْخطاب، كَانَ
من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، وَشهد بَدْرًا، مَاتَ
بعيد مقتل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه:
الرُّؤْيَة. . وَفِيه: أَن شَيْخه مديني وَعبد
الْأَعْلَى بَصرِي وَالزهْرِيّ مدنِي. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَرِوَايَة
الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، قَالَ الذَّهَبِيّ:
لعبد الله ولأبيه صُحْبَة، وَاسْتشْهدَ عبد الله يَوْم
الطَّائِف. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب،
وَلَيْسَ لعامر بن ربيعَة
(7/137)
فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَآخر
فِي الْجَنَائِز، وَآخر علقه فِي الصّيام.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَقْصِير الصَّلَاة
عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ،
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن سَواد
وحرملة بن يحيى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن يُونُس
عَن الزُّهْرِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ: قَوْله: (على
رَاحِلَته) وَهِي: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل،
وَكَذَلِكَ الرحول، وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من
الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، قَالَه
الْجَوْهَرِي. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرَّاحِلَة من
الْإِبِل: الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار والأحمال
وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء، وَالْهَاء فِيهِ
للْمُبَالَغَة. قَوْله: (حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ) أَي:
تَوَجَّهت الدَّابَّة، يَعْنِي: إِلَى قِبَلِ
الْقبْلَة أَو غَيرهَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد عَامَّة أهل الْعلم، لَا
نعلم بَينهم اخْتِلَافا، لَا يرَوْنَ بَأْسا أَن
يُصَلِّي الرجل على رَاحِلَته تَطَوّعا حَيْثُ مَا
كَانَ وَجهه إِلَى الْقبْلَة أَو غَيرهَا قلت: هَذَا
بِالْإِجْمَاع فِي السّفر، وَاخْتلفُوا فِي الْحَضَر:
فجوزه أَبُو يُوسُف وَأَبُو سعيد الْإِصْطَخْرِي من
الشَّافِعِيَّة وَأهل الظَّاهِر، وَعَن بعض
الشَّافِعِيَّة: يجوز التَّنَفُّل على الدَّابَّة فِي
الْحَضَر لَكِن مَعَ اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي جَمِيع
الصَّلَاة، وَفِي وَجه آخر: يجوز للراكب دون
الْمَاشِي، وَاسْتدلَّ أَبُو يُوسُف وَمن ذكرنَا مَعَه
من جَوَاز التَّنَفُّل على الدَّابَّة فِي الْحَضَر
بِعُمُوم حَدِيث الْبَاب، لِأَنَّهُ لم يُصَرح فِيهِ
بِذكر السّفر، وَمنع أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد من ذَلِك
فِي الْحَضَر، واحتجا على ذَلِك بِحَدِيث ابْن عمر
الْآتِي فِي: بَاب الْإِيمَاء على الدَّابَّة، عقيب
هَذَا الْبَاب، لِأَن السّفر فِيهِ مَذْكُور، وَفِي
إِحْدَى رِوَايَات مُسلم: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَهُوَ مقبل من مَكَّة إِلَى
الْمَدِينَة على رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجهه) .
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: أَنه يجوز ذَلِك للراكب دون
الْمَاشِي، لِأَن ذَلِك رخصَة، والرخص لَا يُقَاس
عَلَيْهَا، وَجزم أَصْحَاب الشَّافِعِي ترخيص
الْمَاشِي فِي السّفر بالتنفل إِلَى جِهَة مقْصده إلاّ
أَن مَذْهَبهم اشْتِرَاط اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي
تحرمه وَعند الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَيشْتَرط
كَونهمَا على الأَرْض، وَلَا يشْتَرط استقباله فِي
السَّلَام على الْأَصَح. وَمِمَّا يستنبط من قَوْله:
(على الرَّاحِلَة) : أَن رَاكب السَّفِينَة لَيْسَ
كراكب الدَّابَّة لتمكنه من الِاسْتِقْبَال، وَسَوَاء
كَانَت السَّفِينَة واقفة أَو سائرة. وَقَالَ
الرَّافِعِيّ: وَقيل: يجوز للملاح، وَحَكَاهُ عَن
صَاحب (الْعدة) وَزَاد النَّوَوِيّ فِي (زيادات
الرَّوْضَة) وَفِي (شرح الْمُهَذّب) حكايته عَن
الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره، وَفِي (التَّحْقِيق) للنووي:
الْجَوَاز للملاح فِي حَال تسييرها. وَقَالَ شَيخنَا
زين الدّين، رَحمَه الله: الْمُعْتَبر توجه الرَّاكِب
إِلَى جِهَة مقْصده لَا توجه الدَّابَّة حَتَّى لَو
كَانَت الدَّابَّة متوجهة إِلَى جِهَة مقْصده وركبها
هُوَ مُعْتَرضًا أَو مقلوبا، فَإِنَّهُ لَا يَصح
إِلَّا أَن يكون مَا استقبله هُوَ جِهَة الْقبْلَة،
فَيصح على الصَّحِيح. وَقيل: لَا يَصح لِأَن قبلته
جِهَة مقْصده.
4901 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ
عنْ يَحْيى عنْ محَمَّدَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ
جابِرَ ابنَ عَبْدِ الله أخْبَرَه أنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وهْوَ
رَاكِبٌ فِي غَيْرِ القِبْلَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: لأوّل: أَبُو نعيم الْفضل
بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن
النَّحْوِيّ. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير، وَقد مر
غير مرّة. الرَّابِع: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن
ثَوْبَان، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: العامري
الْمدنِي. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة
الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين،
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن
شَيبَان كُوفِي سكن الْبَصْرَة وَيحيى يماني. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصَّحَابِيّ.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُسلم
بن إِبْرَاهِيم، وَفِي تَقْصِير الصَّلَاة عَن معَاذ
بن فضَالة.
قَوْله: (وَهُوَ رَاكب) وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة:
(على رَاحِلَته نَحْو الْمشرق) ، وَزَاد (وَإِذا
أَرَادَ أَن يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة نزل فَاسْتقْبل
الْقبْلَة) ، وَبَين فِي الْمَغَازِي من طَرِيق
عُثْمَان بن عبد الله بن سراقَة عَن جَابر، أَن ذَلِك
كَانَ فِي غَزْوَة أَنْمَار، وَكَانَت أَرضهم قبل
الْمشرق لمن يخرج من الْمَدِينَة، فَتكون الْقبْلَة
على سَائِر الْمَقَاصِد إِلَيْهِم. وروى التِّرْمِذِيّ
عَن مَحْمُود ابْن غيلَان: حَدثنَا وَكِيع وَيحيى بن
آدم، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي الزبير (عَن
جَابر: قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي حَاجَة فَجئْت وَهُوَ يُصَلِّي على
رَاحِلَته نَحْو الْمشرق، السُّجُود أَخفض من
الرُّكُوع) . وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة
ابْن أبي
(7/138)
ليلى عَن عَطاء أَو عَطِيَّة (عَن أبي
سعيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يُصَلِّي على رَاحِلَته فِي التَّطَوُّع حَيْثُ مَا
تَوَجَّهت بِهِ يومىء إِيمَاء يَجْعَل السُّجُود أَخفض
من الرُّكُوع) .
5901 - حدَّثنا عَبْدُ الأعْلى بنُ حَمَّادٍ قَالَ
حدَّثنا وُهَيْبٍ قَالَ حدَّثنا مُوساى بنُ عُقْبَةَ
عنْ نافَعٍ قَالَ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا يُصَلِّي عَلَى راحِلَتِهِ
وَيُوتِرُ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُ أنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَفْعَلُهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يُصَلِّي على
رَاحِلَته) ، وَقد ذكرنَا أَن لفظ. الدَّابَّة، فِي
التَّرْجَمَة يتَنَاوَل الرَّاحِلَة وَغَيرهَا، وَعبد
الْأَعْلَى ابْن حَمَّاد مر فِي الْغسْل فِي: بَاب
الْجنب يخرج من المغتسل، ووهيب، بِضَم الْوَاو: ابْن
خَالِد الْبَصْرِيّ وَقد مر فِي كتاب الْعلم، ومُوسَى
ابْن عقبَة مر فِي إسباغ الْوضُوء.
قَوْله: (يُصَلِّي على رَاحِلَته) يَعْنِي، فِي
السّفر، وَصرح بِهِ فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي فِي
الْبَاب الَّذِي بعده. قَوْله: (ويوتر على رَاحِلَته)
، وَقد احْتج عَطاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن
الْبَصْرِيّ وَسَالم بن عبد الله وَنَافِع مولى بن عمر
بِهَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله على أَن الْمُسَافِر
يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي الْوتر على رَاحِلَته، وَبِه
قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق، ويروى ذَلِك
عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَكَانَ مَالك يَقُول: لَا يُصَلِّي على
الرَّاحِلَة إلاّ فِي سفر تقصر فِيهِ الصَّلَاة.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ: قصير السّفر
وطويله سَوَاء فِي ذَلِك، يُصَلِّي على رَاحِلَته.
وَقَالَ ابْن حزم: يُوتر الْمَرْء قَائِما وَقَاعِدا
لغير عذر إِن شَاءَ وعَلى دَابَّته، وَقَالَ
أَصْحَابنَا: لَا يجوز الْوتر على الرَّاحِلَة، وَلَا
يجوز إلاّ على الأَرْض كَمَا فِي الْفَرَائِض، وَبِه
قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَعُرْوَة ابْن الزبير
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، ويروى ذَلِك عَن عمر بن
الْخطاب وَابْنه عبد الله فِي رِوَايَة، وَاحْتَجُّوا
فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يزِيد
بن سِنَان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم: قَالَ:
حَدثنَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان عَن نَافِع (عَن
ابْن عمر: أَنه كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته ويوتر
بِالْأَرْضِ، وَيَزْعُم أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك كَانَ يفعل) وَإِسْنَاده
صَحِيح، وَيزِيد بن سِنَان شيخ النَّسَائِيّ أَيْضا،
وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل شيخ البُخَارِيّ، وحَنْظَلَة
روى لَهُ الْجَمَاعَة، فَهَذَا يُعَارض حَدِيث الْبَاب
وَأَمْثَاله، وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى عَن ابْن عمر من
غير هَذَا الْوَجْه من فعله، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ:
حدثما أَبُو بكرَة قَالَ حَدثنَا عُثْمَان بن عمر
وَبكر بن بكار، قَالَا: حَدثنَا عمر بن ذَر (عَن
مُجَاهِد: أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر على
بعيره أَيْنَمَا توجه بِهِ، فَإِذا كَانَ فِي السحر
نزل فأوتر) ، وَإِسْنَاده صَحِيح. وَأخرجه أَحْمد
أَيْضا فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعيد بن جُبَير: (ان
ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته تَطَوّعا،
فَإِذا أَرَادَ أَن يُوتر نزل فأوتر على الأَرْض. .) ،
فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك لَا يبْقى لأهل
الْمقَالة الأولى حجَّة، وَلَا سِيمَا الرَّاوِي، إِذا
فعل بِخِلَاف مَا روى، فَإِنَّهُ يدل على سُقُوط مَا
روى. فَإِن قلت: صَلَاة ابْن عمر الْوتر على الأَرْض
لَا تَسْتَلْزِم عدم جَوَازه عِنْده على الرَّاحِلَة.
لِأَنَّهُ يجوز لَهُ أَن يفعل ذَلِك، وَله أَن يُوتر
على الرَّاحِلَة. قلت: يجوز أَن يكون مَا رَوَاهُ ابْن
عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وتره على
الرَّاحِلَة قبل أَن يحكم أَمر الْوتر ويغلظ شَأْنه،
لِأَنَّهُ كَانَ أَولا كَسَائِر التطوعات، ثمَّ أكد
بعد ذَلِك فنسخ. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَمن هَذِه
الْجِهَة ثَبت نسخ الْوتر على الرَّاحِلَة، وَكَانَ
مَا فعله ابْن عمر من وتره على الرَّاحِلَة قبل علمه
بالنسخ، ثمَّ لما علمه رَجَعَ إِلَيْهِ وَترك الْوتر
على الرَّاحِلَة، وَيجوز أَن يكون الْوتر عِنْده
كالتطوع، فَلهُ أَن يُصَلِّي على الرَّاحِلَة وعَلى
الأَرْض. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا النّسخ؟ قلت:
بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين
مُعَارضا للْآخر بِأَن يكون أَحدهمَا مُوجبا للحظر
وَالْآخر للْإِبَاحَة، وينتفي هَذَا التَّعَارُض
بالمصير إِلَى دلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن النَّص
الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب
للْإِبَاحَة، فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى وأحق.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قيل: فمذهبكم أَنه وَاجِب
على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي:
الْوتر؟ قُلْنَا: وَإِن كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ، فقد
صَحَّ فعله على الرَّاحِلَة، وَلَو كَانَ وَاجِبا على
الْعُمُوم لم يَصح على الرَّاحِلَة كالظهر. فَإِن
قَالُوا: الظّهْر فرض وَالْوتر وَاجِب، وَبَينهمَا
فرق؟ قُلْنَا: هَذَا الْفرق اصْطِلَاح لكم لَا يُسلمهُ
الْجُمْهُور وَلَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْع وَلَا
اللُّغَة، وَلَو سلم لم يحصل غرضكم هَهُنَا. انْتهى.
قلت: الحَدِيث رَوَاهُ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، إِنَّه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (ثَلَاث هن على
فَرَائض وَهن لكم تطوع: الْوتر والنحر وركعتا الْفجْر)
، رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالْحَاكِم فِي
(مُسْتَدْركه) وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ
وَالْبَيْهَقِيّ، وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: (رَكعَتَا
الضُّحَى) بدل: (رَكْعَتي
(7/139)
الْفجْر) وَفِي إِسْنَاده أَبُو جناب
الْكَلْبِيّ، واسْمه: يحيى بن أبي حَيَّة، وَهُوَ
ضَعِيف. وَلما رَوَاهُ الْحَاكِم سكت عَلَيْهِ،
وَلَئِن سلمنَا صِحَّته وخصوصية النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِوُجُوبِهِ فَالْوَاجِب لَا يُؤدى على
الرَّاحِلَة، وَيحْتَمل أَن يكون فعله على الرَّاحِلَة
من بَاب الخصوصية أَيْضا، وَقَوله: لَا يُسلمهُ
الْجُمْهُور، وَكَلَام لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن
الِاصْطِلَاح لَا يُنَازع فِيهِ، وَقَوله: وَلَا
يَقْتَضِيهِ الشَّرْع، أبعد من ذَلِك، لِأَنَّهُ لم
يبين مَا المُرَاد من اقْتِضَاء الشَّرْع، وَعدم
اقتضائه. وَقَوله: وَلَا اللُّغَة، كَلَام واهٍ، لِأَن
اللُّغَة فرقت بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب، فَفِي أَي
كتاب من كتب اللُّغَة الْمُعْتَبرَة نَص على أَن
الْفَرْض وَالْوَاجِب وَاحِد، وَهَذِه مُكَابَرَة
وعناد. وَقَوله: وَلَو سلم لم يحصل غرضكم هَهُنَا،
فَنَقُول لَو اطلع هَذَا على مَا ورد من الْأَحَادِيث
الدَّالَّة على وجوب الْوتر وَمَا ورد من الصَّحَابَة
لما حصل لَهُ غَرَضه من هَذِه المناقشة بِلَا وَجه.
8 - (بابُ الإيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة
بِالْإِيمَاءِ على الدَّابَّة، مُرَاده: أَن من لم
يتَمَكَّن من الرُّكُوع وَالسُّجُود يومىء بهما.
6901 - حدَّثنا مُوساى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ
بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ دِينَارٍ
قَالَ كانَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى
راحِلَتِهِ أيْنَما تَوَجَّهَتْ يُومِىءُ. وذَكَرَ
عَبْدُ الله أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كانَ يَفْعَلُهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مضى هَذَا
الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْوتر فِي: بَاب الْوتر فِي
السّفر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُوسَى ابْن
إِسْمَاعِيل عَن جوَيْرِية بن أَسمَاء عَن نَافِع (عَن
ابْن عمر، قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يُصَلِّي فِي السّفر على رَاحِلَته حَيْثُ
تَوَجَّهت بِهِ يومىء إِيمَاء صَلَاة اللَّيْل إلاّ
الْفَرَائِض، ويوتر على رَاحِلَته) . فَانْظُر
التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الْإِسْنَاد والمتن، وَكَانَ
لمُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور شَيْخَانِ
هُنَاكَ: جوَيْرِية، وَهَهُنَا: عبد الْعَزِيز بن
مُسلم أَبُو زيد الْقَسْمَلِي الْمروزِي: سكن
الْبَصْرَة، مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة.
قَوْله: (كَانَ يَفْعَله) أَي: كَانَ يفعل الْإِيمَاء
الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (يومىء) .
9 - (بابٌ يَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبِةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن رَاكب الداية ينزل
عَنْهَا لأجل صَلَاة الْفَرْض.
7901 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ
الله بنِ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ أنَّ عامِرَ بنَ
رَبِيعَةَ أخْبَرَهُ قالَ رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُومِىءُ
بِرَأسِهِ قِبَلَ أيَّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ ولَمْ يَكُنْ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْنَعُ ذالِكَ
فِي الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ.
(أنظر الحَدِيث 3901 وطرفه) .
8901 - وقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُنُسُ عنِ ابنِ
شِهَابٍ قَالَ قَالَ سَالِمٌ كانَ عَبْدُ الله
يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ
مُسَافِرٌ مَا يُبَالِي حَيْثُ كانَ وَجْهُهِ. قَالَ
ابنُ عُمَرِ وَكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أيَّ
وَجْهٍ تَوَجَّهَ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أنَّهُ
لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا المَكْتُوبَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلم يكن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع ذَلِك فِي
الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) ، وَفِي قَوْله: (غير أَنه
لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَة) وَهَذَا
الحَدِيث قد تقدم قبل بَابَيْنِ فِي: بَاب يُصَلِّي
الْمغرب ثَلَاثًا فِي السّفر، فَانْظُر التَّفَاوُت
بَينهمَا فِي السَّنَد والمتن.
وَعقيل، بِضَم الْعين: هُوَ ابْن خَالِد الْأَيْلِي،
وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي.
قَوْله: (وَهُوَ على الرَّاحِلَة) جملَة حَالية
وَكَذَلِكَ، قَوْله: (يسبح) ، حَال من النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْنَاهُ: يُصَلِّي صَلَاة
النَّفْل. وَقَالَ بَعضهم: التَّسْبِيح حَقِيقَة فِي
قَوْله: سبخان الله، فَإِذا أطلق على الصَّلَاة فَهُوَ
من بَاب إِطْلَاق إسم الْبَعْض على الْكل. قلت: لَيْسَ
الْأَمر كَذَلِك
(7/140)
وَإِنَّمَا التَّسْبِيح فِي الْحَقِيقَة التَّنْزِيه
من النقائص، ثمَّ يُطلق على غَيره من أَنْوَاع الذّكر
مجَازًا: كالتحميد والتمجيد، وَغَيرهمَا، وَقد يُطلق
على صَلَاة التَّطَوُّع فَيُقَال: سبْحَة، وَهُوَ من
أَنْوَاع الْمجَاز من قبيل إِطْلَاق الْجُزْء على
الْكل، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: أَو لِأَن
الْمُصَلِّي منزه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بإخلاص
الْعِبَادَة، وَالتَّسْبِيح التَّنْزِيه، فَيكون من
بَاب الْمُلَازمَة. قلت: لَيْت شعري مَا مُرَاده من
الْمُلَازمَة، فَإِن كَانَت اصطلاحية فَهِيَ تستدعي
اللَّازِم والملزوم، فَمَا اللَّازِم هُنَا وَمَا
الْمَلْزُوم؟ وَإِن أَرَادَ غير ذَلِك فَعَلَيهِ
بَيَانه، وَهَذَا الْوَجْه أَيْضا يَقْتَضِي أَن لَا
يخْتَص بالنافلة، وَالْحَال أَن إِطْلَاق هَذَا
مَخْصُوص بالنافلة حَيْثُ قَالَ: وَأما اخْتِصَاص
ذَلِك بالنافلة فَهُوَ عرف شَرْعِي، وتحرير ذَلِك مَا
قَالَه ابْن الْأَثِير: وَإِنَّمَا خصت النَّافِلَة
بالسبحة وَإِن شاركتها الْفَرِيضَة فِي معنى
التَّسْبِيح، لِأَن التسبيحات فِي الْفَرَائِض نوافل،
فَقيل لصَلَاة النَّافِلَة: سبْحَة لِأَنَّهَا
نَافِلَة كالتسبيحات والأذكار فِي أَنَّهَا غير
وَاجِبَة. قَوْله: (قبل) أَي: وَجه، بِكَسْر الْقَاف
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: مُقَابل أَي جِهَة.
قَوْله: (وَقَالَ اللَّيْث) قد ذكرنَا فِي بَاب
يُصَلِّي فِي السّفر، أَن الْإِسْمَاعِيلِيّ وَصله.
9901 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ عنْ يَحْيى عنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ
الرَّحْمانِ ابنِ ثَوْبَانَ قَالَ حدَّثني جابِرُ بنُ
عَبْدِ الله أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ المَشْرِقِ
فإذَا أرَادَ أنْ يُصَلِّيَ المَكْتُوبَةَ نَزَلَ
فاسْتَقْبَلَ االقِبْلَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث تقدم فِي:
بَاب صَلَاة التَّطَوُّع على الدَّابَّة، عَن قريب
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن شَيبَان
عَن يحيى إِلَى آخِره. وَهَهُنَا: عَن معَاذ، بِضَم
الْمِيم: ابْن فضَالة أَبُو زيد الزهْرَانِي، وَهُوَ
من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن هِشَام الدستوَائي عَن
يحيى بن أبي كثير. . إِلَى آخِره.
قَوْله: (نَحْو الْمشرق) وَفِي رِوَايَة جَابر
السالفة: (وَهُوَ رَاكب فِي غير الْقبْلَة) ،
وَبِهَذَا أَخذ جَمَاهِير الْعلمَاء، فَهَذَا وَنَحْوه
من الْأَحَادِيث يخصص قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا
كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 441 و
051) . وَيبين أَن قَوْله تَعَالَى: {فأينما تُولوا
فثم وَجه الله} (الْبَقَرَة: 511) . فِي النَّافِلَة
لِأَن الله تَعَالَى من لطفه وَكَرمه جعل بَاب
النَّفْل أوسع، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أقاويل
الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب، وَقَالَ بَعضهم:
وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن الْوتر غير وَاجِب عَلَيْهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإيقاعه إِيَّاه على
الرَّاحِلَة. قلت: قد ذكر عَن قريب (عَن ابْن عَبَّاس
أَنه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: ثَلَاث هن عَليّ فَرَائض وَهُوَ لكم
تطوع: الْوتر والنحر وركعتا الْفجْر) . وَقد ذكرنَا
أَن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي
مَا هُوَ فرض على الرَّاحِلَة إِذا شَاءَ.
|