عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 32 - (كِتَابُ الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْجَنَائِز، كَذَا
وَقع للأصيلي وَأبي الْوَقْت، وَوَقع لكريمة: بَاب
الْجَنَائِز وَكَذَا وَقع لأبي ذَر وَلَكِن بِحَذْف
لَفْظَة بَاب، والجنائز جمع: جَنَازَة، وَهِي بِفَتْح
الْجِيم اسْم للْمَيت الْمَحْمُول، وبكسرها اسْم للنعش
الَّذِي يحمل عَلَيْهِ الْمَيِّت، وَيُقَال عكس ذَلِك،
حَكَاهُ صَاحب (الْمطَالع) واشتقاقها من: جنز، إِذا ستر،
ذكره ابْن فَارس وَغَيره، ومضارعه يجنز، بِكَسْر النُّون.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْجِنَازَة وَاحِدَة الْجَنَائِز،
والعامة تَقول: الْجِنَازَة، بِالْفَتْح، وَالْمعْنَى
للْمَيت على السرير، فَإِذا لم يكن عَلَيْهِ الْمَيِّت
فَهُوَ سَرِير. ونعش، قيل: أورد المُصَنّف كتاب
الْجَنَائِز بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة لِأَن الَّذِي
يفعل بِالْمَيتِ من غسل وتكفين وَغير ذَلِك أهمه الصَّلَاة
عَلَيْهِ لما فِيهَا من فَائِدَة الدُّعَاء بالنجاة من
الْعَذَاب وَلَا سِيمَا عَذَاب الْقَبْر الَّذِي يدْفن
فِيهِ انْتهى. قلت: للْإنْسَان حالتان: حَالَة الْحَيَاة
وَحَالَة الْمَمَات، وَيتَعَلَّق بِكُل مِنْهُمَا أَحْكَام
الْعِبَادَات وَأَحْكَام الْمُعَامَلَات، فَمن
الْعِبَادَات الصَّلَاة الْمُتَعَلّقَة بِالْإِحْيَاءِ،
وَلما فرغ من بَيَان ذَلِك شرع فِي بَيَان الصَّلَاة
الْمُتَعَلّقَة بالموتى.
1 - ومَنْ كانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إلاهَ إلاَّ الله
هَذَا من التَّرْجَمَة، وَفِي غَالب النّسخ: بَاب من كَانَ
آخر كَلَامه: لَا إِلَه إِلَّا الله، أَي: هَذَا بَاب فِي
بَيَان حَال من كَانَ آخر كَلَامه عِنْد خُرُوجه من
الدُّنْيَا: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَلم يذكر جَوَاب: من،
وَهُوَ فِي الحَدِيث مَذْكُور، وَهُوَ لفظ: دخل الْجنَّة،
وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مَالك بن عبد الْوَاحِد
المسمعي عَن الضَّحَّاك بن مخلد عَن عبد الحميد بن جَعْفَر
عَن صَالح بن أبي عريب عَن كثير بن مرّة الْحَضْرَمِيّ عَن
معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ آخر
كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة) . وَقَالَ
الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد، وروى أَبُو بكر بن أبي
شيبَة بِإِسْنَادِهِ عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إعلم أَن من شهد
أَن لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة) . وَفِي (مُسْند
مُسَدّد) : (عَن معَاذ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: يَا معَاذ! قَالَ: لبيْك يَا رَسُول الله،
قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: بشر النَّاس أَنه من قَالَ: لَا
إِلَه إلاَّ الله، دخل الْجنَّة) . وروى أَبُو يعلى فِي
(مُسْنده) : (عَن أبي حَرْب بن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ
قَالَ: أشهد على أبي أَنه قَالَ: أَمرنِي رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنادي: أَنه من شهد أَن لَا إِلَه
إلاَّ الله دخل الْجنَّة) . وَقَالَ الْكرْمَانِي قَوْله:
(لَا إِلَه إلاَّ الله) أَي: هَذِه الْكَلِمَة، وَالْمرَاد
هِيَ وضميمتها: مُحَمَّد رَسُول الله. قلت: ظَاهر الحَدِيث
فِي حق الْمُشرك فَإِنَّهُ إِذا قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ
الله، يحكم بِإِسْلَامِهِ فَإِذا اسْتمرّ على ذَلِك إِلَى
أَن مَاتَ دخل الْجنَّة. وَأما الموحد من الَّذين
يُنكرُونَ نبوة سيدنَا مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَو يَدعِي أَنه مَبْعُوث للْعَرَب
خَاصَّة، فَإِنَّهُ لَا يحكم بِإِسْلَامِهِ بِمُجَرَّد
قَوْله: لَا إِلَه إلاَّ الله، فَلَا بُد من ضميمة
(8/2)
مُحَمَّد رَسُول الله، على أَن جُمْهُور
عُلَمَائِنَا شرطُوا فِي صِحَة إِسْلَامه، بعد التَّلَفُّظ
بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَن يَقُول: تبرأت عَن كل دين سوى دين
الْإِسْلَام، وَمُرَاد البُخَارِيّ من هَذِه التَّرْجَمَة
أَن من قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ الله، من أهل الشّرك وَمَات
لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا فَإِنَّهُ يدْخل الْجنَّة،
وَالدَّلِيل على ذَلِك حَدِيث الْبَاب على مَا نذْكر مَا
قَالُوا فِيهِ، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون مُرَاد
البُخَارِيّ الْإِشَارَة إِلَى من قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ
الله عِنْد الْمَوْت مخلصا كَانَ ذَلِك مسْقطًا لما تقدم
لَهُ، وَالْإِخْلَاص يسْتَلْزم التَّوْبَة والندم، وَيكون
النُّطْق علما على ذَلِك قلت: يلْزم مِمَّا قَالَه أَن من
قَالَ لَا إلاه إِلَّا الله وَاسْتمرّ عَلَيْهِ وَلكنه
عِنْد الْمَوْت لم يذكرهُ وَلم يدْخل تَحت هَذَا الْوَعْد
الصَّادِق وَالشّرط أَن يَقُول: لَا إِلَه إلاَّ الله
وَاسْتمرّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يدْخل الْجنَّة، وَإِن لم
يذكرهُ عِنْد الْمَوْت، لِأَنَّهُ لَا فرق بَين
الْإِسْلَام النطقي وَبَين الْحكمِي المستصحب، وَأما أَنه
إِذا عمل أعمالاً سَيِّئَة فَهُوَ فِي سَعَة رَحْمَة الله
تَعَالَى مَعَ مَشِيئَته. فَإِن قلت: لِمَ حذف البُخَارِيّ
جَوَاب: من، من التَّرْجَمَة مَعَ أَن لفظ الحَدِيث: (من
كَانَ آخر كَلَامه: لَا إِلَه إلاَّ الله دخل الْجنَّة) ؟
قلت: قيل: مُرَاعَاة لتأويل وهب بن مُنَبّه لِأَنَّهُ لما
قيل لَهُ: أَلَيْسَ لَا إِلَه إلاَّ الله مِفْتَاح
الْجنَّة؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِن لَيْسَ مِفْتَاح إلاَّ
وَله أَسْنَان ... إِلَى آخِره، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ
بِهَذَا إِلَى أَنه لَا بُد لَهُ من الطَّاعَات، وَأَن
بِمُجَرَّد القَوْل بِهِ بِدُونِ الطَّاعَات لَا يدْخل
الْجنَّة، فَظن هَذَا الْقَائِل أَن رَأْي البُخَارِيّ فِي
هَذَا مثل رَأْي وهب، فَلذَلِك حذف لفظ: دخل الْجنَّة،
الَّذِي هُوَ جَوَاب من قلت: الَّذِي يظْهر أَن حذفه
إِنَّمَا كَانَ اكْتِفَاء بِمَا ذكر فِي حَدِيث الْبَاب،
فَإِنَّهُ صرح بِأَن من مَاتَ وَلم يُشْرك بِاللَّه شَيْئا
فَإِنَّهُ يدْخل الْجنَّة وَإِن ارْتكب الذنبين العظيمين
الْمَذْكُورين فِيهِ، مَعَ أَن الدَّاودِيّ قَالَ: قَول
وهب مَحْمُول على التَّشْدِيد، أَو لَعَلَّه لم يبلغهُ
حَدِيث أبي ذَر، وَهُوَ حَدِيث الْبَاب.
وَقِيلَ لِوَهِبِ بنِ مُنَبِّهٍ: ألَيْسَ لَا إلَهَ إلاَّ
الله مِفْتَاحُ الجَنَّةِ؟ قَالَ بَلَى وَلاكِنْ لَيْسَ
مِفْتَاحٌ إلاَّ لَهُ أسْنَانٌ فَإنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ
لَهُ أسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإلاَّ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ
وهب بن مُنَبّه مر فِي كتاب الْعلم، وَهَذَا القَوْل وَقع
فِي حَدِيث مَرْفُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ذكره الْبَيْهَقِيّ: (عَن معَاذ ابْن جبل، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ لَهُ حِين بَعثه إِلَى الْيمن: (إِنَّك ستأتي
أهل كتاب يَسْأَلُونَك عَن مِفْتَاح الْجنَّة، فَقل:
شَهَادَة أَن لَا إِلَه إلاَّ الله، وَلَكِن مِفْتَاح
بِلَا أَسْنَان، فَإِن جِئْت بمفتاح لَهُ أَسْنَان فتح لَك
وَإِلَّا لم يفتح لَك) . وَذكر أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي
فِي كِتَابه (أَحْوَال الْمُوَحِّدين) أَن أَسْنَان هَذَا
الْمِفْتَاح هِيَ الطَّاعَات الْوَاجِبَة من الْقيام
بِطَاعَة الله تَعَالَى وتأديتها، والمفارقة لمعاصي الله
تَعَالَى ومجانبتها. قلت: قد ذكرنَا أَحَادِيث فِيمَا مضى
تدل على أَن قَائِل: لَا إِلَه إلاَّ الله يدْخل الْجنَّة،
وَلَيْسَت مُقَيّدَة بِشَيْء. غَايَة مَا فِي الْبَاب
جَاءَ فِي حَدِيث آخر: أَن هَذِه الْكَلِمَة مِفْتَاح
الْجنَّة، وَالظَّاهِر أَن قيد الْمِفْتَاح بالأسنان مدرج
فِي الحَدِيث، وَذكر الْمِفْتَاح لَيْسَ على الْحَقِيقَة،
وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَة عَن التَّمَكُّن من الدُّخُول
عِنْد هَذَا القَوْل، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ
الْمِفْتَاح الْحَقِيقِيّ الَّذِي لَهُ أَسْنَان وَلَا
يفتح إِلَّا بهَا، وَإِذا قُلْنَا: المُرَاد من
الْأَسْنَان الطَّاعَات يلْزم من ذَلِك أَن من قَالَ: لَا
إلاه أَلا الله، وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن من مَاتَ
وَلم يعْمل بِطَاعَة أَنه لَا يدْخل الْجنَّة، وَهُوَ
مَذْهَب الرافضة والإباضية وَأكْثر الْخَوَارِج،
فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن أَصْحَاب الْكَبَائِر
والمذنبين من الْمُؤمنِينَ يخلدُونَ فِي النَّار
بِذُنُوبِهِمْ، وَالْقُرْآن نَاطِق بتكذيبهم، قَالَ الله
تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر
مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} (النِّسَاء: 84) . وَحَدِيث
الْبَاب أَيْضا يكذبهم وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث
عُثْمَان مَرْفُوعا (من مَاتَ وَهُوَ يعلم أَن لَا إِلَه
إلاَّ الله دخل الْجنَّة) .
7321 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُونٍ قَالَ حدَّثنا وَاصِلٌ الأحْدَبُ
عنِ المَعْرُورِ بنِ سُوَيْدٍ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فأخْبَرَني أوْ قالَ
بَشرَني أنَّهُ منْ ماتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ
بِاللَّه شَيْئا دَخَلَ الجنَّةَ قُلْتُ وَإنْ زَنَى وإنْ
سَرَقَ قالَ وإنْ زَنى وَإنْ سَرَقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث يدل على أَن
من مَاتَ وَلم يُشْرك بِاللَّه شَيْئا فَإِنَّهُ يدْخل
الْجنَّة، وَهُوَ معنى
(8/3)
قَوْله فِي التَّرْجَمَة: من كَانَ آخر
كَلَامه لَا إِلَه إلاَّ الله، فَإِن ترك الْإِشْرَاك هُوَ
التَّوْحِيد، وَالْقَوْل: بِلَا إِلَه إلاَّ الله هُوَ
التَّوْحِيد بِعَيْنِه.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
أَبُو سَلمَة الْمنْقري يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي، وَقد
مر غير مرّة. الثَّانِي: مهْدي، بِفَتْح الْمِيم: ابْن
مَيْمُون المعولي الْأَزْدِيّ، مر فِي: بَاب إِذا لم يتم
السُّجُود. الثَّالِث: وَاصل، اسْم فَاعل من الْوُصُول:
ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد تقدم فِي: بَاب الْمعاصِي من
أَمر الْجَاهِلِيَّة فِي كتاب الْإِيمَان. الرَّابِع:
الْمَعْرُور، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة
وبالراء المكررة: ابْن سُوَيْد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة
وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
دَال مُهْملَة، وَقد تقدم أَيْضا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
الْخَامِس: أَبُو ذَر، اسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة، وَقد
تكَرر ذكره.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه ومهديا
بصريان، وواصل ومعرور كوفيان. وَفِيه: وَاصل مَذْكُور
بِلَا نِسْبَة، وَقد ذكر بلقبه الأحدب ضد الأقعس.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن
شُعْبَة، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي مُوسَى
وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن بنْدَار بِهِ
وَعَن مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن عبد
الله بن بكر عَن مهْدي بن مَيْمُون. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان، قَالَ: حَدثنَا
أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: أخبرنَا شُعْبَة عَن حبيب بن أبي
ثَابت وَعبد الْعَزِيز بن رفيع وَالْأَعْمَش، كلهم سمعُوا
زيد بن وهب (عَن أبي ذَر: أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فبشرني أَنه من مَاتَ لَا يُشْرك
بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة. قلت: وَإِن زني وَإِن سرق؟
قَالَ: نعم) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن
صَحِيح، وَفِي الْبَاب عَن أبي الدَّرْدَاء قلت: روى
حَدِيث أبي الدَّرْدَاء مُسَدّد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا
يحيى حَدثنَا نعيم بن حَكِيم حَدثنِي أَبُو مَرْيَم سَمِعت
أَبَا الدَّرْدَاء يحدث عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: (مَا من رجل يشْهد أَن لَا إِلَه إلاَّ الله
وَمَات لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا إِلَّا دخل الْجنَّة
أَو: لم يدْخل النَّار. قلت: وَإِن زنى وَإِن سرق؟ قَالَ:
وَإِن زنى وَإِن سرق، وَرَغمَ أنف أبي الدَّرْدَاء) .
وَرَوَاهُ أَبُو يعلى: حَدثنَا أَبُو عبد الله الْمقري
حَدثنَا يحيى ... فَذكره، وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي
(مُسْنده) قلت: يحيى هُوَ الْقطَّان، ونعيم بن حَكِيم
وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَالْعجلِي وَذكره ابْن حبَان فِي
الثِّقَات، وَأَبُو مَرْيَم الثَّقَفِيّ: قَاضِي
الْبَصْرَة ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَتَانِي آتٍ من رَبِّي) ،
وَالْمرَاد بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَفَسرهُ بِهِ فِي التَّوْحِيد: من طَرِيق
شُعْبَة وَكَانَ هَذَا فِي رُؤْيا مَنَام، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي اللبَاس من طَرِيق
أبي الْأسود عَن أبي ذَر، قَالَ: (أتيت النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَعَلِيهِ ثوب أَبيض وَهُوَ نَائِم ثمَّ
انتبه وَقد اسْتَيْقَظَ) وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من
طَرِيق مهْدي فِي أول قصَّة: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مسير لَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي
بعض اللَّيْل تنحى، فَلبث طَويلا ثمَّ أَتَانَا. .) فَذكر
الحَدِيث. قَوْله: (وَإِن زنى وَإِن سرق؟) حرف
الِاسْتِفْهَام فِيهِ مُقَدّر، وَتَقْدِيره: أَدخل
الْجنَّة وَإِن سرق وَإِن زنى؟ قَالَ الْكرْمَانِي:
وَالشّرط حَال. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الْجَواب
اسْتِفْهَام، فَلَزِمَ مِنْهُ أَن من لم يسرق وَلم يزن لم
يدْخل الْجنَّة، إِذْ انْتِفَاء الشَّرْط يسْتَلْزم
انْتِفَاء الْمَشْرُوط. قلت: هُوَ من بَاب: (نعم العَبْد
صُهَيْب لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ) ، وَالْحكم فِي
الْمَسْكُوت عَنهُ ثَابت بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (من
أمتِي) يَشْمَل أمة الْإِجَابَة وَأمة الدعْوَة. قَوْله:
(لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
فِي اللبَاس بِلَفْظ: (مَا من عبد قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ
الله ثمَّ مَاتَ على ذَلِك. .) الحَدِيث، وَنفي الشّرك
يسْتَلْزم إِثْبَات التَّوْحِيد، وَالشَّاهِد لَهُ حَدِيث
عبد الله بن مَسْعُود: (من مَاتَ يُشْرك بِاللَّه شَيْئا
دخل النَّار) ، على مَا يَجِيء عَن قريب. قَوْله: (فَقلت)
الْقَائِل هُوَ أَبُو ذَر، وَلَيْسَ هُوَ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد يتَبَادَر الذِّهْن إِلَى أَنه
هُوَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ كَذَلِك
لِأَنَّهُ فِي رِوَايَة: (قَالَ أَبُو ذَر: يَا رَسُول
الله وَإِن سرق وَإِن زنى؟ ثَلَاث مَرَّات، وَفِي
الرَّابِعَة قَالَ: على رغم أنف أبي ذَر) ، وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : وَيجمع بَين اللَّفْظَيْنِ بِأَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه مستوضحا،
وَأَبُو ذَر قَالَه مستبعدا، لِأَن فِي ذهنه قَوْله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي
وَهُوَ مُؤمن) ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا ذكر من
الْكَبَائِر نَوْعَيْنِ لِأَن
(8/4)
الذَّنب إِمَّا حق الله تَعَالَى،
وَأَشَارَ بِالزِّنَا إِلَيْهِ، وَإِمَّا حق الْعباد،
وَأَشَارَ بِالسَّرقَةِ إِلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: حجَّة لأهل السّنة أَن
أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا يقطع لَهُم بالنَّار وَأَنَّهُمْ
إِن دخلوها خَرجُوا مِنْهَا، وَقَالَ ابْن بطال: من مَاتَ
على اعْتِقَاد لَا إِلَه إلاَّ الله، وَإِن بَعُدَ قَوْله
لَهَا عَن مَوته إِذا لم يقل بعْدهَا خلَافهَا حَتَّى
مَاتَ، فَإِنَّهُ يدْخل الْجنَّة. وَيُقَال: وَجه هَذَا
الحَدِيث عِنْد بعض أهل الْعلم أَن أهل التَّوْحِيد
سيدخلون الْجنَّة وَإِن عذبُوا فِي النَّار بِذُنُوبِهِمْ
فَإِنَّهُم لَا يخلدُونَ فِي النَّار. وَقيل: حَدِيث أبي
ذَر من أَحَادِيث الرَّجَاء الَّتِي أفْضى الاتكال
عَلَيْهَا لبَعض الجهلة إِلَى الْإِقْدَام على الموبقات،
وَلَيْسَ هُوَ على ظَاهره، فَإِن الْقَوَاعِد اسْتَقَرَّتْ
على أَن حُقُوق الْآدَمِيّين لَا تسْقط بِمُجَرَّد
الْمَوْت على الْإِيمَان، وَلَكِن لَا يلْزم من عدم
سُقُوطهَا أَن لَا يتكفل الله بهَا عَمَّن يُرِيد أَن
يدْخلهُ الْجنَّة، وَمن ثمَّ رد رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على أبي ذَر استبعاده، وَيحْتَمل أَن يكون
المُرَاد بقوله: (دخل الْجنَّة) أَي: صَار إِلَيْهَا
إِمَّا ابْتِدَاء من أول الْحَال، وَإِمَّا بعد أَن يَقع
مَا يَقع من الْعَذَاب.
8321 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ
حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا شَقِيقٌ عنْ عَبْدَ الله
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَنْ ماتَ يُشْرِكُ بِاللَّه شَيْئا دَخَلَ
النَّارَ وقُلْتُ أنَا مَنْ ماتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّه
شَيْئا دَخَلَ الجنَّةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الَّذِي يَمُوت
مُشْركًا يدْخل النَّار، وَيفهم مِنْهُ أَن الَّذِي يَمُوت
وَلَا يُشْرك بِاللَّه يدْخل الْجنَّة، فَلذَلِك قَالَ
ابْن مَسْعُود: (قلت أَنا. .) إِلَى آخِره، وَالَّذِي لَا
يُشْرك بِاللَّه هُوَ الْقَائِل: لَا إِلَه إلاَّ الله،
فَوَقع التطابق بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث من هَذِه
الْحَيْثِيَّة، وَبِهَذَا يرد على من يَقُول: لَيْسَ
الحَدِيث مُوَافقا للتبويب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عمر بن حَفْص
النَّخعِيّ. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق.
الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: شَقِيق بن
سَلمَة. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الاب.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصَّحَابِيّ، وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَش روى حَدِيثا عَن
أنس بن مَالك فِي دُخُول الْخَلَاء، وَإِمَّا فِي رُؤْيَته
إِيَّاه فَلَا نزاع فِيهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة،
وَفِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد. وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه
ووكيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد
بن عبد الْأَعْلَى وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن النَّضر بن شُمَيْل.
ذكر مَعْنَاهُ: وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ قَوْله: (من مَاتَ
يُشْرك بِاللَّه) ، وَفِي رِوَايَة أبي حَمْزَة عَن
الْأَعْمَش فِي تَفْسِير الْبَقَرَة: (من مَاتَ وَهُوَ
يَدْعُو من دون الله ندا) . وَفِي أَوله: (قَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلمة، وَأَنا أُخْرَى، قَالَ: من
مَاتَ يَجْعَل لله ندا دخل النَّار، وَقلت: من مَاتَ لَا
يَجْعَل لله ندا دخل الْجنَّة) . وَفِي رِوَايَة وَكِيع
وَابْن نمير لمُسلم بِالْعَكْسِ: (من مَاتَ لَا يُشْرك
بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة، وَقلت أَنا: من مَاتَ
يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل النَّار) . وَقَالَ فِي
(التَّلْوِيح) : وَهَذَا يرد قَول من قَالَ: إِن ابْن
مَسْعُود سمع أحد الْحكمَيْنِ فَرَوَاهُ وَضم إِلَيْهِ
الحكم الآخر قِيَاسا على الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة،
وَالَّذِي يظْهر أَنه نسي مرّة، وَهِي الرِّوَايَة الأولى،
وَحفظ مرّة وَهِي الْأُخْرَى، فرواهما مرفوعين كَمَا فعله
غَيره من الصَّحَابَة، وَقَالَ بَعضهم: لم تخْتَلف
الرِّوَايَات فِي (الصَّحِيحَيْنِ) فِي أَن الْمَرْفُوع
الْوَعيد وَالْمَوْقُوف الْوَعْد، وَزعم الْحميدِي فِي
(جمعه) وَتَبعهُ مغلطاي فِي (شَرحه) وَمن أَخذ عَنهُ: أَن
رِوَايَة مُسلم من طَرِيق وَكِيع وَابْن نمير بِالْعَكْسِ،
وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَكَانَ سَبَب الْوَهم فِي
ذَلِك مَا وَقع عِنْد أبي عوَانَة والإسماعيلي من طَرِيق
وَكِيع بِالْعَكْسِ، لَكِن بيَّن الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن
الْمَحْفُوظ عَن وَكِيع كَمَا فِي البُخَارِيّ. قلت: كَيفَ
يكون وهما وَقد وَقع عِنْد مُسلم بِالْعَكْسِ؟ وَوجه ذَلِك
مَا ذَكرْنَاهُ، وَقد قَالَ النَّوَوِيّ: الْجيد أَن
يُقَال: سمع ابْن مَسْعُود اللَّفْظَيْنِ من النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنه فِي وَقت حفظ أَحدهمَا وتيقنه
وَلم يحفظ الآخر، فَرفع الْمَحْفُوظ وَضم الآخر إِلَيْهِ.
وَفِي وَقت بِالْعَكْسِ، فَهَذَا جمع بَين روايتي ابْن
مَسْعُود وموافقة
(8/5)
لرِوَايَة غَيره فِي رفع اللَّفْظَيْنِ.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: من أَيْن علم ابْن مَسْعُود هَذَا
الحكم؟ قلت: من حَيْثُ إِن انْتِفَاء السَّبَب يُوجب
انْتِفَاء الْمُسَبّب، فَإِذا انْتَفَى الشّرك انْتَفَى
دُخُول النَّار، وَإِذا انْتَفَى دُخُول النَّار يلْزم
دُخُول الْجنَّة، إِذْ لَا ثَالِث لَهما، أَو مِمَّا قَالَ
الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ}
(النِّسَاء: 84) . الْآيَة وَنَحْوه.
2 - (بابُ الأمْرِ بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة أَمر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِاتِّبَاع الْجَنَائِز، وَإِنَّمَا
لم يبين حكم هَذَا الْأَمر لِأَن قَوْله: (أمرنَا) ، أَعم
من أَن يكون للْوُجُوب أَو للنَّدْب، وَيَجِيء الْكَلَام
فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
9321 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ
الأشْعَثِ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بنَ سُوَيْدٍ بنِ
مُقْرِنٍ عنِ البَرَاءِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ
أمرَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبْعٍ
ونَهَانَا عنْ سَبْعٍ أمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ
وَعِيَادَةِ المَرِيضِ وَإجَابَةِ الدَّاعِي وَنَصْرِ
المَظْلُومِ وَإبْرَارِ القَسَمِ وَرَدِّ السَّلاَمِ
وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ ونَهَانَا عنْ آنِيَةِ الفِضَّةِ
وَخَاتَمِ الذَّهَبِ والحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ والقَسيِّ
وَالإسْتَبْرَقِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أمرنَا بِاتِّبَاع
الْجَنَائِز) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام
بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الْأَشْعَث،
بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح
الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة: ابْن سليم
بن الْأسود الْمحَاربي، وسليم يكنى أَبَا الشعْثَاء، مَاتَ
سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، مر فِي: بَاب التَّيَمُّن فِي
الْوضُوء. الرَّابِع: مُعَاوِيَة بن سُوَيْد، بِضَم
السِّين الْمُهْملَة: ابْن مقرن، بِضَم الْمِيم وَفتح
الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره نون.
الْخَامِس: الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه بَصرِي وَشعْبَة واسطي والأشعث وَمُعَاوِيَة
كوفيان. وَفِيه: أحدهم مكنى وَاثْنَانِ مذكوران مجردين عَن
النِّسْبَة وَآخر مَذْكُور باسم أَبِيه وجده. وَفِيه: عَن
الْبَراء بن عَازِب فَسَمعته يَقُول. . فَذكر الحَدِيث.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي عشرَة مَوَاضِع: هُنَا عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي
الْمَظَالِم عَن سعيد ابْن الرّبيع، وَفِي اللبَاس عَن آدم
وَعَن قبيصَة وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَفِي الطِّبّ عَن
حَفْص بن عمر، وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن حَرْب،
وَفِي النذور عَن بنْدَار وَعَن قبيصَة، وَفِي النِّكَاح
عَن الْحسن بن الرّبيع، وَفِي الاسْتِئْذَان عَن
قُتَيْبَة، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن يحيى بن يحيى وَأحمد
بن يُونُس وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَعَن أبي بكر
ابْن أبي شيبَة وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن أبي
كريب وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَعَن عبد الله بن معَاذ
وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد الرَّحْمَن بن
بشر، وَعَن إِسْحَاق عَن يحيى وَعَمْرو بن مُحَمَّد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن بنْدَار عَن
غنْدر، وَفِي اللبَاس عَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن سُلَيْمَان بن مَنْصُور
وهناد بن السّري، وَفِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن أبي
مُوسَى وَبُنْدَار، وَفِي الزِّينَة عَن مَحْمُود بن
غيلَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن عَليّ
بن مُحَمَّد مُخْتَصرا، وَفِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِسبع) : بسبعة أَشْيَاء. قَوْله:
(بِاتِّبَاع الْجَنَائِز) : الِاتِّبَاع افتعال من اتبعت
الْقَوْم إِذا مشيت خَلفهم، أَو مروا بك فمضيت مَعَهم،
وَكَذَلِكَ تبِعت الْقَوْم بِالْكَسْرِ تبعا وتباعة،
وَاتِّبَاع الْجِنَازَة: الْمُضِيّ مَعهَا. قَوْله:
(وعيادة الْمَرِيض) من عدت الْمَرِيض أعوده عِيَادَة إِذا
زرته وَسَأَلت عَن حَاله، وَعَاد إِلَى فلَان يعود عودة
وعودا إِذا رَجَعَ، وَفِي الْمثل: الْعود أَحْمد، وأصل
عِيَادَة: عوادة، قلبت الْوَاو يَاء لكسرة مَا قبلهَا طلبا
للخفة. قَوْله: (وَإجَابَة الدَّاعِي) الْإِجَابَة مصدر،
وَالِاسْم الجابة بِمَنْزِلَة الطَّاعَة، تَقول مِنْهُ:
أَجَابَهُ وَأجَاب عَن سُؤَاله، والاستجابة بِمَعْنى
الْإِجَابَة، وأصل إِجَابَة أجوابا، حذفت الْوَاو وعوضت
عَنْهَا التَّاء لِأَن أَصله أجوف واوي، وَمِنْه الْجَواب،
والداعي من: دَعَا يَدْعُو دَعْوَة، والدعوة بِالْفَتْح
إِلَى الطَّعَام، وبالكسر
(8/6)
فِي النّسَب، وبالضم فِي الْحَرْب. يُقَال:
دَعَوْت الله لَهُ وَعَلِيهِ دُعَاء و: الدعْوَة الْمرة
الْوَاحِدَة، وأصل: دُعَاء دَعَا وإلاَّ أَن الْوَاو لما
جَاءَت بعد الْألف همزت. قَوْله: (وإبرار الْقسم) ،
الإبرار، بِكَسْر الْهمزَة إفعال من الْبر، خلاف الْحِنْث،
يُقَال: أبر الْقسم إِذا صدقه، ويروى: (إبرار الْمقسم) ،
بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَكسر السِّين، قيل: هُوَ
تَصْدِيق من أقسم عَلَيْك، وَهُوَ أَن يفعل مَا سَأَلَهُ
الملتمس. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يُقَال: الْمقسم
الْحَالِف، وَيكون الْمَعْنى أَنه: لَو حلف أحد على أَمر
يسْتَقْبل وَأَنت تقدر على تَصْدِيق يَمِينه كَمَا لَو
أقسم أَن لَا يفارقك حَتَّى تفعل كَذَا وَأَنت تَسْتَطِيع
فعله فافعل كَيْلا يَحْنَث فِي يَمِينه. قَوْله: (وتشميت
الْعَاطِس) تشميت الْعَاطِس دُعَاء، وكل دَاع لأحد بِخَير
فَهُوَ مشمت، وَيُقَال أَيْضا بِالسِّين الْمُهْملَة،
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: التشميت بالشين وَالسِّين:
الدُّعَاء بِالْخَيرِ وَالْبركَة، والمعجمة أعلاهما،
يُقَال: شمت فلَانا وشمت عَلَيْهِ تشميتا، فَهُوَ مشمت،
واشتقاقه من الشوامت، وَهِي القوائم، كَأَنَّهُ دُعَاء
للعاطس بالثبات على طَاعَة الله، عز وَجل، وَقيل:
مَعْنَاهُ: أبعدك الله عَن الشماتة وجنبك مَا يشمت بِهِ
عَلَيْك، والشماتة فَرح الْعَدو ببلية تنزل بِمن يعاديه،
يُقَال: شمت بِهِ يشمت فَهُوَ شامت وأشمته غَيره. قَوْله:
(ونهانا عَن سبع: آنِية الْفضة) أَي: نَهَانَا عَن سَبْعَة
أَشْيَاء، وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي المنهيات إلاَّ
سِتَّة، قَالَ بَعضهم: إِمَّا سَهْو من المُصَنّف أَو من
شَيْخه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَبُو الْوَلِيد اختصر
الحَدِيث أَو نَسيَه؟ قلت: حمل التّرْك على النَّاسِخ أولى
من نسبته إِلَى البُخَارِيّ أَو شَيْخه، وَمَعَ هَذَا ذكر
البُخَارِيّ فِي: بَاب خَوَاتِيم الذَّهَب، عَن آدم عَن
شُعْبَة. . إِلَى آخِره. وَذكر السَّابِع، وَهُوَ: المثيرة
الْحَمْرَاء، وَسَنذكر مَا قيل فِيهَا فِي مَوْضِعه، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (آنِية الْفضة) يجوز فِيهِ
الرّفْع والجر، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف أَي: أَحدهَا آنِية الْفضة، وَأما الْجَرّ فعلى
أَنه بدل من: سبع. قَوْله: (وَالْحَرِير) ، يتَنَاوَل
الثَّلَاثَة الَّتِي بعده فَيكون وَجه عطفها عَلَيْهِ
لبَيَان الاهتمام بِحكم ذكر الْخَاص بعد الْعَام، أَو لدفع
وهم أَن تَخْصِيصه باسم مُسْتَقل لَا يُنَافِي، دُخُوله
تَحت حكم الْعَام، أَو الْإِشْعَار بِأَن هَذِه
الثَّلَاثَة غير الْحَرِير، نظرا إِلَى الْعرف. وَكَونهَا
ذَوَات أَسمَاء مُخْتَلفَة يكون مقتضيا لاخْتِلَاف
مسمياتها. قَوْله: (وَخَاتم الذَّهَب) ، الْخَاتم والخاتم
بِكَسْر التَّاء وَفتحهَا، والخيتام والخاتام كُله
بِمَعْنى، وَالْجمع: الخواتيم. قَوْله: (والديباج) ،
بِكَسْر الدَّال: فَارسي مُعرب، وَقَالَ ابْن الْأَثِير:
الديباج الثِّيَاب المتخذة من الإبريسم، وَقد تفتح داله.
وَيجمع على: دباييج ودبابيج بِالْيَاءِ وبالباء، لِأَن
أَصله: دباج. قَوْله: (والقسي) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسر
السِّين الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة. قَالَ ابْن الْأَثِير:
هُوَ ثِيَاب من كتَّان مخلوط بحرير يُؤْتى بهَا من مصر،
نسبت إِلَى قَرْيَة على سَاحل الْبَحْر قَرِيبا مِمَّن
تنيس يُقَال لَهَا: القس، بِفَتْح الْقَاف، وَبَعض أهل
الحَدِيث يكسرها، وَقيل: أصل القسي القزي، بالزاي،
مَنْسُوب إِلَى القز، وَهُوَ ضرب من الإبريسم، وأبدل من
الزَّاي سينا. وَقيل: هُوَ مَنْسُوب إِلَى القس وَهُوَ
الصقيع لبياضه. قلت: القس وتنيس وفرما كَانَت مدنا على
سَاحل بَحر دمياط غلب عَلَيْهَا الْبَحْر فاندثرت،
فَكَانَت يخرج مِنْهَا ثِيَاب مفتخرة ويتاجر بهَا فِي
الْبِلَاد. قَوْله: (والاستبرق) بِكَسْر الْهمزَة: ثخين
الديباج على الْأَشْهر. وَقيل: رَقِيقه، وَقَالَ
النَّسَفِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيلبسُونَ من سندس
واستبرق} (الدُّخان: 35) . السندس مَا رق من الْحَرِير،
والديباج والاستبرق مَا غلظ مِنْهُ، وَهُوَ تعريب إستبرك،
وَإِذا عرب خرج من أَن يكون عجميا، لِأَن معنى التعريب أَن
يَجْعَل عَرَبيا بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وتغيير عَن منهاجه
وإجرائه على أوجه الْإِعْرَاب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على أوجه:
الأول: فِي اتِّبَاع الْجَنَائِز وَالْمَشْي مَعهَا إِلَى
حِين دَفنهَا بعد الصَّلَاة عَلَيْهَا. أما الصَّلَاة
فَهِيَ من فروض الْكِفَايَة عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء،
وَقَالَ إصبغ: الصَّلَاة على الْمَيِّت سنة، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: اتِّبَاع الْجَنَائِز حملهَا بعض النَّاس عَن
بعض. قَالَ: وَهُوَ وَاجِب على ذِي الْقَرَابَة الْحَاضِر
وَالْجَار، وَيَرَاهُ للتأكد لَا الْوُجُوب الْحَقِيقِيّ.
ثمَّ الِاتِّبَاع على ثَلَاثَة أَقسَام: أَن يُصَلِّي
فَقَط، فَلهُ قِيرَاط. الثَّانِي: أَن يذهب فَيشْهد
دَفنهَا، فَلهُ قيراطان. وَثَالِثهَا: أَن يلقنه. قلت:
التَّلْقِين عندنَا عِنْد الإحتضار، وَقد عرف فِي
الْفُرُوع، وَكَذَا الْمَشْي عندنَا خلف الْجِنَازَة أفضل،
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَالْمَشْي عندنَا أمامها بقربها
أفضل من الإتباع، وَبِه قَالَ أَحْمد، لِأَنَّهُ شَفِيع.
وَعند الْمَالِكِيَّة ثَلَاثَة أَقْوَال، ومشهور مذهبم
كمذهبنا. قلت: احتجت الشَّافِعِيَّة فِيمَا ذَهَبُوا
إِلَيْهِ بِحَدِيث أخرجه الْأَرْبَعَة: عَن عبد الله بن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَالَ أَبُو
دَاوُد: حَدثنَا القعْنبِي حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة
عَن الزُّهْرِيّ (عَن سَالم عَن أَبِيه قَالَ: رَأَيْت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر
يَمْشُونَ أَمَام الْجِنَازَة) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
حَدثنَا قُتَيْبَة وَأحمد بن منيع وَإِسْحَاق بن مَنْصُور
ومحمود بن غيلَان، قَالُوا: حَدثنَا سُفْيَان بن
(8/7)
عُيَيْنَة. . إِلَى آخِره نَحوه، وَقَالَ
النَّسَائِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن
حجر وقتيبة بن سعيد عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ (عَن
سَالم عَن أَبِيه أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. .) إِلَى آخِره نَحوه، وَقَالَ ابْن مَاجَه:
حَدثنَا عَليّ بن مُحَمَّد وَهِشَام بن عمار وَسَهل ابْن
أبي سهل قَالُوا: حَدثنَا سُفْيَان. . إِلَى آخِره نَحْو
رِوَايَة أبي دَاوُد، وَبِه قَالَ الْقَاسِم وَسَالم بن
عبد الله وَالزهْرِيّ وَشُرَيْح وخارجة بن زيد وَعبيد الله
بن عبد الله بن عتبَة وعلقمة وَالْأسود وَعَطَاء، وَمَالك
وَأحمد، ويحكى ذَلِك عَن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعبد
الله بن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَالْحسن بن عَليّ وَابْن
الزبير وَأبي قَتَادَة وَأبي أسيد.
ذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وسُويد بن غَفلَة ومسروق وَأَبُو قلَابَة
وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق وَأهل
الظَّاهِر إِلَى أَن الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل، ويروى
ذَلِك عَن عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود
وَأبي الدَّرْدَاء وَأبي أُمَامَة وَعمر بن الْعَاصِ،
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ: حَدثنَا
هَارُون بن عبد الله حَدثنَا عبد الصَّمد وَحدثنَا ابْن
الْمثنى حَدثنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا حَرْب
يَعْنِي: ابْن شَدَّاد حَدثنِي يحيى حَدثنِي نَاب بن
عُمَيْر حَدثنِي رجل من أهل الْمَدِينَة عَن أَبِيه عَن
أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (لَا تتبع الْجِنَازَة بِصَوْت وَلَا نَار) ،
وَزَاد هَارُون: (وَلَا يمشي بَين يَديهَا) ، وَاحْتَجُّوا
أَيْضا بِحَدِيث سهل بن سعد: (أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يمشي خلف الْجِنَازَة) . رَوَاهُ
ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَبِحَدِيث أبي أُمَامَة قَالَ:
(سَأَلَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل أم
أمامها؟ فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ إِن فضل الْمَاضِي
خلفهَا على الْمَاشِي أمامها كفضل الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة
على التَّطَوُّع، فَقَالَ لَهُ أَبُو سعيد: أبرأيك تَقول
أم بِشَيْء سمعته من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
فَغَضب، وَقَالَ: لَا وَالله، بل سمعته غير مرّة وَلَا
اثْنَتَيْنِ وَلَا ثَلَاث حَتَّى سبعا. فَقَالَ أَبُو
سعيد: إِنِّي رَأَيْت أَبَا بكر وَعمر يمشيان أمامها؟
فَقَالَ عَليّ: يغْفر الله لَهما، لقد سمعا ذَلِك من
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا سمعته وإنهما
وَالله لخير هَذِه الْأمة ولكنهما كرها أَن يجْتَمع
النَّاس ويتضايقوا فأحبا أَن يسهلا على النَّاس) . رَوَاهُ
عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) وروى عبد الرَّزَّاق أَيْضا:
أخبرنَا معمر (عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه قَالَ: مَا
مَشى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى مَاتَ
إلاَّ خلف الْجِنَازَة) . وروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا
عِيسَى بن يُونُس عَن ثَوْر عَن شُرَيْح عَن مَسْرُوق،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن
لكل أمة قرباناا، وَإِن قرْبَان هَذِه الْأمة موتاها،
فاجعلوا مَوْتَاكُم بَين أَيْدِيكُم) . وروى
الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبيد الله بن كَعْب بن مَالك،
قَالَ: (جَاءَ ثَابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن أمه توفيت وَهِي
نَصْرَانِيَّة وَهُوَ يحب أَن يحضرها، فَقَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إركب دابتك وسر أمامها فَإنَّك
إِذا كنت أمامها لم تكن مَعهَا) . وروى ابْن أبي شيبَة:
حَدثنَا عبد الله أخبرنَا إِسْرَائِيل عَن عبيد الله بن
الْمُخْتَار عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة حَدثنَا أَبُو كريب
أَو أَبُو حَرْب (عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن
أَبَاهُ قَالَ لَهُ: كن خلف الْجِنَازَة فَإِن مقدمها
للْمَلَائكَة ومؤخرها لبني آدم) . فَإِن قَالُوا: فِي
حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَجْهُولَانِ، وَفِي حَدِيث سهل بن
سعد، قَالَ ابْن قطان: لَا يعرف من هُوَ، وَفِيه: يحيى بن
سعيد الْحِمصِي، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء وَفِي
حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مطرح بن يزِيد،
ضعفه ابْن معِين، وَفِيه: عبيد الله بن زجر، قَالَ ابْن
حبَان: مُنكر الحَدِيث جدا، وَأثر طَاوُوس مُرْسل، وَفِي
حَدِيث كَعْب بن مَالك: أَبُو معشر، ضعفه
الدَّارَقُطْنِيّ. قُلْنَا: إِذا سلمنَا ضعف الْأَحَادِيث
الَّتِي تكلم فِيهَا فَإِنَّهَا تتقوى وتشتد فتصلح
للاحتجاج، مَعَ أَن لنا حَدِيثا فِيهِ رَوَاهُ البُخَارِيّ
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اتبع جَنَازَة مُسلم إِيمَانًا
واحتسابا وَكَانَ مَعهَا حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا ويفرغ
من دَفنهَا فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر بقيراطين) ، والاتباع
لَا يكون إلاَّ إِذا مَشى خلفهَا. فَدلَّ ذَلِك على أَن
الْجِنَازَة متبوعة. وَقد جَاءَ هَذَا اللَّفْظ صَرِيحًا
فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن ابْن مَسْعُود
مَرْفُوعا: (الْجِنَازَة متبوعة وَلَا تتبع، وَلَيْسَ
مَعهَا من تقدمها) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن
مَاجَه وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو يعلى وَابْن أبي شيبَة.
وَأما أثر طَاوُوس فَإِنَّهُ، وَإِن كَانَ مُرْسلا فَهُوَ
حجَّة عندنَا، وحديثهم الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، وَهُوَ
حَدِيث ابْن عمر، قد اخْتلف فِيهِ أَئِمَّة الحَدِيث
بِحَسب الصِّحَّة والضعف، وَقد رُوِيَ مُتَّصِلا ومرسلاً،
فَذهب ابْن الْمُبَارك إِلَى تَرْجِيح الرِّوَايَة
الْمُرْسلَة على الْمُتَّصِلَة مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
وَغَيره عَنهُ، وَقَالَ النَّسَائِيّ بعد تَخْرِيجه
للرواية الْمُتَّصِلَة: هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب مُرْسل.
وَقد طول شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله، فِي هَذَا
الْموضع نصْرَة لمذهبه، وَمَعَ هَذَا كُله فقد قَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَأهل الحَدِيث كلهم يرَوْنَ أَن الحَدِيث
الْمُرْسل فِي ذَلِك أصح. فَإِن قلت:
(8/8)
روى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
الْمثنى حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر حَدثنَا يُونُس بن يزِيد
عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس بن مَالك: (أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يمشي أَمَام الْجِنَازَة وَأَبُو بكر
وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم) قلت:
قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا
الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا خطأ، فِيهِ مُحَمَّد بن بكر،
وَإِنَّمَا يروي هَذَا يُونُس عَن الزُّهْرِيّ: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر
كَانُوا يَمْشُونَ أَمَام الْجِنَازَة، فَإِذا صَحَّ
الْأَمر على ذَلِك فَلَا يبْقى لَهُم حجَّة فِيهِ، لِأَن
الْمُرْسل لَيْسَ بِحجَّة عِنْدهم.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي عِيَادَة الْمَرِيض، هِيَ سنة.
وَقيل: وَاجِبَة، بِظَاهِر حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْآتِي،
وَقد رُوِيَ فِي ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم، وهم: أَبُو مُوسَى وثوبان وَأَبُو
هُرَيْرَة وَعلي بن أبي طَالب وَأَبُو أُمَامَة وَجَابِر
بن عبد الله وَجَابِر ابْن عتِيك وَأَبُو مَسْعُود وَأَبُو
سعيد وَعبد الله بن عمر وَأنس وَأُسَامَة بن زيد وَزيد بن
أَرقم وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو
وَأَبُو أَيُّوب وَعُثْمَان وكعت بن مَالك وَعبد الله بن
أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده
وَعمر بن الْخطاب وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح
وَالْمُسَيب بن حزن وسلمان وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ
وعَوْف بن مَالك وَأَبُو الدَّرْدَاء وَصَفوَان بن عَسَّال
ومعاذ بن جبل وَجبير بن مطعم وَعَائِشَة وَفَاطِمَة
الْخُزَاعِيَّة وَأم سليم وَأم الْعَلَاء. فَحَدِيث: أبي
مُوسَى عِنْد البُخَارِيّ: (عودوا الْمَرِيض وأطعموا
الجائع وفكوا العاني) . وَحَدِيث ثَوْبَان عِنْد مُسلم:
(إِن الْمُسلم إِذا عَاد أَخَاهُ الْمُسلم لم يزل فِي خرفة
الْجنَّة حَتَّى يرجع، قيل: يَا رَسُول الله! وَمَا خرفة
الْجنَّة؟ قَالَ: جناها) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد
البُخَارِيّ يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَحَدِيث
عَليّ بن أبي طَالب عِنْد التِّرْمِذِيّ: (مَا من مُسلم
يعود مُسلما إلاَّ يبْعَث الله سبعين ألف ملك يصلونَ
عَلَيْهِ، أَي: سَاعَة من النَّهَار كَانَت، حَتَّى
يُمْسِي، وَأي سَاعَة من اللَّيْل كَانَت حَتَّى يصبح) .
وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد أَحْمد: (من تَمام عِيَادَة
الْمَرِيض أَن يضع أحدكُم يَده على جَبهته أَو يَده ويسأله
كَيفَ هُوَ؟) . وَحَدِيث جَابر بن عبد الله عِنْد أَحْمد
أَيْضا: (من عَاد مَرِيضا لم يزل يَخُوض فِي الرَّحْمَة
حَتَّى يجلس فَإِذا جلس اغتمس فِيهَا) . وَحَدِيث جَابر بن
عتِيك عِنْد أبي دَاوُد: (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَاد عبد الله بن ثَابت. .) الحَدِيث
مطولا. وَحَدِيث أبي مَسْعُود عِنْد الْحَاكِم: (للْمُسلمِ
على الْمُسلم أَربع خلال: يشمته إِذا عطس، ويجيبه إِذا
دَعَاهُ، ويشهده إِذا مَاتَ، ويعوده إِذا مرض) . وَحَدِيث
أبي سعيد عِنْد ابْن حبَان: (عودوا الْمَرِيض وَاتبعُوا
الْجَنَائِز) . وَحَدِيث عبد الله بن عمر عِنْد مُسلم: (من
يعود مِنْكُم سعد بن عبَادَة؟ فَقَامَ، وقمنا مَعَه وَنحن
بضعَة عشرَة) . وَحَدِيث أنس عِنْد البُخَارِيّ (عَاد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَاما يَهُودِيّا
كَانَ يَخْدمه) . وَحَدِيث أُسَامَة ابْن زيد عِنْد
الْحَاكِم قَالَ: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يعود عبد الله بن أبيَّ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ
فِيهِ) . وَحَدِيث زيد ابْن أَرقم (عادني رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم من وجع كَانَ بعيني) وَقَالَ
الْحَاكِم: صَحِيح على شَرطهمَا. وَحَدِيث سعد ابْن أبي
وَقاص عِنْد الْحَاكِم، قَالَ: (اشتكيت بِمَكَّة
فَجَاءَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودنِي،
وَوضع يَده على جبهتي) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد
الْحَاكِم أَيْضا: (من عَاد أَخَاهُ الْمُسلم فَقعدَ عِنْد
رَأسه. .) الحَدِيث، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط
البُخَارِيّ. وَحَدِيث ابْن عَمْرو عِنْده أَيْضا: (إِذا
عَاد أحدكُم مَرِيضا فَلْيقل: اللَّهُمَّ إشف عَبدك) ،
وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم. وَحَدِيث أبي أَيُّوب
عِنْد ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: (عَاد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا من الْأَنْصَار، فأكب عَلَيْهِ
يسْأَله قَالَ: يَا رَسُول الله مَا غمضت مُنْذُ سبع
لَيَال، وَلَا أحد يحضرني؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أَي أخي إصبر تخرج من ذنوبك كَمَا دخلت
فِيهَا) وَحَدِيث عُثْمَان عِنْد قَالَ: دخل عَليّ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعودنِي وَأَنا مَرِيض،
فَقَالَ: أُعِيذك بِاللَّه الْأَحَد الصَّمد) الحَدِيث،
وَسَنَده جيد. وَحَدِيث كَعْب بن مَالك عِنْد
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) : (من عَاد مَرِيضا خَاضَ
فِي الرَّحْمَة فَإِذا جلس استنقع فِيهَا) . وَحَدِيث عبد
الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه
عَن جده عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا: (من عَاد مَرِيضا
فَلَا يزَال فِي الرَّحْمَة حَتَّى إِذا قعد عِنْده استنقع
فِيهَا، ثمَّ إِذا خرج من عِنْده فَلَا يزَال يَخُوض
فِيهَا حَتَّى يروح من حَيْثُ خرج) . وَحَدِيث عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد ابْن
مرْدَوَيْه: (قَالَ: يَا رَسُول الله؟ مَا لنا من الْأجر
فِي عِيَادَة الْمَرِيض؟ فَقَالَ: أَن العَبْد إِذا عَاد
الْمَرِيض خَاضَ فِي الرَّحْمَة إِلَى حقوه) . وَحَدِيث
أبي
(8/9)
عُبَيْدَة بن الْجراح، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عَاد مَرِيضا
أَو أماط أَذَى من الطَّرِيق فحسنته بِعشر أَمْثَالهَا) .
وَحَدِيث الْمسيب بن حزن. وَحَدِيث سلمَان عِنْد
الطَّبَرَانِيّ قَالَ: (دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يعودنِي فَلَمَّا أَرَادَ أَن يخرج قَالَ:
يَا سلمَان كشف الله ضرك وَغفر ذَنْبك وعافاك فِي دينك
وجسدك إِلَى أَجلك. وَحَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ
عِنْد الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) : (جَاءَنِي رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودنِي من وجع اشْتَدَّ
بِي. .) . وَحَدِيث عَوْف بن مَالك عِنْد الطَّبَرَانِيّ
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: عودوا
الْمَرِيض وَاتبعُوا الْجِنَازَة) . وَحَدِيث أبي
الدَّرْدَاء عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا: (أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن الرجل إِذا خرج
يعود أَخَاهُ مُؤمنا خَاضَ فِي الرَّحْمَة إِلَى
حقْوَيْهِ، فَإِذا جلس عِنْد الْمَرِيض فَاسْتَوَى جَالِسا
غمرته الرَّحْمَة) . وَحَدِيث صَفْوَان بن عَسَّال عِنْد
الطَّبَرَانِيّ أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من زار أَخَاهُ الْمُؤمن خَاضَ فِي
الرَّحْمَة حَتَّى يرجع، وَمن زار أَخَاهُ الْمُؤمن خَاضَ
فِي رياض الْجنَّة حَتَّى يرجع) . وَحَدِيث معَاذ بن جبل
عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من فعل وَاحِدَة مِنْهُنَّ
كَانَ ضَامِنا على الله تَعَالَى، من عَاد مَرِيضا أَو خرج
مَعَ جَنَازَة أَو خرج غازيا أَو دخل على إِمَامه يُرِيد
تعزيزه وتوقيره، أَو قعد فِي بَيته فَسلم النَّاس مِنْهُ
وَسلم من النَّاس) . وَحَدِيث جُبَير بن مطعم عِنْده
أَيْضا قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عَاد سعيد بن الْعَاصِ، فَرَأَيْت رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يكمده بِخرقَة) . وَحَدِيث عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْد سيف فِي (كتاب
الرِّدَّة) قَالَت: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (العيادة سنة عودوا غبا، فَإِن أُغمي على مَرِيض
فحتى يفِيق) . وَحَدِيث فَاطِمَة الْخُزَاعِيَّة عِنْد
ابْن أبي الدُّنْيَا قَالَت: (عَاد رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، امْرَأَة من الْأَنْصَار فَقَالَ: كَيفَ
تجدك؟ قَالَت: بِخَير يَا رَسُول الله. .) الحَدِيث.
وَحَدِيث أم سليم عِنْد ابْن أبي الدُّنْيَا أَيْضا فِي
(كتاب المرضى وَالْكَفَّارَات) قَالَت: (مَرضت فعادني
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا أم
سليم أتعرفين النَّار والْحَدِيث وخبث الْحَدِيد؟ قلت: نعم
يَا رَسُول الله. قَالَ: فأبشري يَا أم سليم، فَإنَّك إِن
تخلصي من وجعك هَذَا تخلصي مِنْهُ كَمَا يخلص الْحَدِيد من
النَّار من خبثه) . وَحَدِيث أم الْعَلَاء عِنْد أبي
دَاوُد قَالَت: (عادني رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَأَنا مَرِيضَة) الحَدِيث.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي إِجَابَة الدَّاعِي، وَسَيَأْتِي
فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (إِن من حق الْمُسلم على
الْمُسلم أَن يجِيبه إِذا دَعَاهُ) ، وَفِي (التَّوْضِيح)
: إِن كَانَت إِجَابَة الدَّاعِي إِلَى نِكَاح فجمهور
الْعلمَاء على الْوُجُوب، قَالُوا: وَالْأكل وَاجِب على
الصَّائِم، وَعِنْدنَا مُسْتَحبّ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ:
إِذا دَعَا الْمُسلم الْمُسلم إِلَى الضِّيَافَة والمعاونة
وَجب عَلَيْهِ طَاعَته إِذا لم يكن ثمَّ يتَضَرَّر
بِدِينِهِ من الملاهي ومفارش الْحَرِير. وَقَالَ الْفَقِيه
أَبُو اللَّيْث: إِذا دعيت إِلَى وَلِيمَة فَإِن لم يكن
مَاله حَرَامًا وَلم يكن فِيهَا فسق فَلَا بَأْس بالإجابة،
وَإِن كَانَ مَاله حَرَامًا فَلَا يُجيب، وَكَذَلِكَ إِذا
كَانَ فَاسِقًا مُعْلنا فَلَا يجِيبه ليعلم أَنَّك غير
رَاض بِفِسْقِهِ، وَإِذا أتيت وَلِيمَة فِيهَا مُنكر عَن
ذَلِك فَإِن لم ينْتَهوا عَن ذَلِك فَارْجِع لِأَنَّك إِن
جالستهم ظنُّوا أَنَّك راضٍ بفعلهم، وَرُوِيَ عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من تشبه بِقوم
فَهُوَ مِنْهُم) ، وَقَالَ بَعضهم: إِجَابَة الدعْوَة
وَاجِبَة لَا يسع تَركهَا، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من لم يجب
الدعْوَة فقد عصى أَبَا الْقَاسِم) . وَقَالَ عَامَّة
الْعلمَاء: لَيست بواجبة وَلكنهَا سنة، وَالْأَفْضَل أَن
يُجيب إِذا كَانَت وَلِيمَة يدعى فِيهَا الْغَنِيّ
وَالْفَقِير، وَإِذا دعيت إِلَى وَلِيمَة وَأَنت صَائِم
فَأخْبرهُ بذلك، فَإِن قَالَ: لَا بُد لَك من الْحُضُور
فأجبه، فَإِذا دخلت الْمنزل فَإِن كَانَ صومك تَطَوّعا
وَتعلم أَنه لَا يشق عَلَيْهِ ذَلِك لَا تفطر، وَإِن علمت
أَنه يشق عَلَيْهِ امتناعك من الطَّعَام فَإِن شِئْت
فَأفْطر واقض يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِن شِئْت فَلَا تفطر،
والإفطار أفضل لِأَن فِيهِ إِدْخَال السرُور على الْمُؤمن.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي نصر الْمَظْلُوم، وَهُوَ فرض على
من قدر عَلَيْهِ، ويطاع أمره، وَعَن أنس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أنْصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما،
فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله أنصره إِن كَانَ مَظْلُوما،
أَفَرَأَيْت إِن كَانَ ظَالِما كَيفَ أنصره؟ قَالَ: تحجزه
أَو تَمنعهُ عَن الظُّلم فَإِن ذَلِك نَصره) . رَوَاهُ
البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن
جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(8/10)
قَالَ: ولينصر الرجل أَخَاهُ ظَالِما أَو
مَظْلُوما، إِن كَانَ ظَالِما فلينهه فَإِنَّهُ لَهُ
نصْرَة، وَإِن كَانَ مَظْلُوما فلينصره) . وَعَن سهل ابْن
معَاذ بن أنس الْجُهَنِيّ عَن أَبِيه عَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (قَالَ من حمى مُؤمنا عَن مُنَافِق،
إراه قَالَ: بعث الله ملكا يحمي لَحْمه يَوْم الْقِيَامَة
من نَار جَهَنَّم) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: وَعِزَّتِي
وَجَلَالِي لأنتقمن من الظَّالِم فِي عاجله وآجله،
ولأنتقمن من رأى مَظْلُوما فَقدر أَن ينصره فَلم يفعل) .
رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ بن حبَان فِي (كتاب التوبيخ) .
الْوَجْه الْخَامِس: فِي إبرار الْقسم، وَهُوَ خَاص فِيمَا
يحل وَهُوَ من مَكَارِم الْأَخْلَاق، فَإِن ترَتّب على
تَركه مصلحَة فَلَا، وَلِهَذَا قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قصَّة
تَعْبِير الرُّؤْيَا: (لَا تقسم، حِين قَالَ: أَقْسَمت
عَلَيْك يَا رَسُول الله لتخبرني بِالَّذِي أصبت) .
الْوَجْه السَّادِس: فِي رد السَّلَام، هُوَ فرض على
الْكِفَايَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : رد السَّلَام فرض على
الْكِفَايَة عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَعند
الْكُوفِيّين فرض عين كل وَاحِد من الْجَمَاعَة. وَقَالَ
صَاحب (المعونة) : الِابْتِدَاء بِالسَّلَامِ سنة ورده
آكِد من ابْتِدَائه، وَأقله: السَّلَام عَلَيْكُم. قلت:
قَالَ أَصْحَابنَا: رد السَّلَام فَرِيضَة على كل من سمع
السَّلَام، إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ،
وَالتَّسْلِيم سنة وَالرَّدّ فَرِيضَة، وثواب الْمُسلم
أَكثر، وَلَا يَصح الرَّد حَتَّى يسمعهُ الْمُسلم إلاَّ
أَن يكون أَصمّ فَيَنْبَغِي أَن يرد عَلَيْهِ بتحريك
شَفَتَيْه، وَكَذَلِكَ: تشميت الْعَاطِس، وَلَو سلم على
جمَاعَة وَفِيهِمْ صبي فَرد الصَّبِي إِن كَانَ لَا يعقل
لَا يَصح، وَإِن كَانَ يعقل هَل يَصح؟ فِيهِ اخْتِلَاف،
وَيجب على الْمَرْأَة رد سَلام الرجل وَلَا ترفع صَوتهَا
لِأَن صَوتهَا عَورَة، وَإِن سلمت عَلَيْهِ فَإِن كَانَت
عجوزا رد عَلَيْهَا، وَإِن كَانَت شَابة رد فِي نَفسه،
وعَلى هَذَا التَّفْصِيل تشميت الرجل الْمَرْأَة
وَبِالْعَكْسِ، وَلَا يجب رد سَلام السَّائِل، وَلَا
يَنْبَغِي أَن يسلم على من يقْرَأ الْقُرْآن، فَإِن سلم
عَلَيْهِ يجب الرَّد عَلَيْهِ.
الْوَجْه السَّابِع: فِي تشميت الْعَاطِس، وَهُوَ أَن
يَقُول: يَرْحَمك الله، إِذا حمد الْعَاطِس، وَيرد
الْعَاطِس بقوله: يهديكم الله وَيصْلح بالكم، وَرُوِيَ عَن
الْأَوْزَاعِيّ أَن رجلا عطس بِحَضْرَتِهِ فَلم يحمد،
فَقَالَ لَهُ: كَيفَ يَقُول إِذا عطست؟ قَالَ: الْحَمد
لله، فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمك الله، وَجَوَابه كِفَايَة،
خلافًا لبَعض الْمَالِكِيَّة. قَالَ مَالك: وَمن عطس فِي
الصَّلَاة حمد فِي نَفسه، وَخَالفهُ سَحْنُون فَقَالَ:
وَلَا فِي نَفسه. وَقد ذكرنَا حكمه الْآن، وَهَذَا الَّذِي
ذَكرْنَاهُ حكم السَّبْعَة الَّتِي أَمر بهَا النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأما السَّبْعَة الَّتِي نَهَانَا عَنْهَا: فأولها: آنِية
الْفضة، وَالنَّهْي فِيهِ تَحْرِيم، وَكَذَلِكَ الْآنِية
الذَّهَب بل هِيَ أَشد، قَالَ أَصْحَابنَا: لَا يجوز
اسْتِعْمَاله آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة للرِّجَال
وَالنِّسَاء لما فِي حَدِيث حُذَيْفَة عِنْد الْجَمَاعَة:
(وَلَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا
تَأْكُلُوا فِي صحافها. .) الحَدِيث. قَالُوا: وعَلى
هَذَا: المجمرة والملعقة والمدهن والميل والمكحلة والمرآة
وَنَحْو ذَلِك، فيستوي فِي ذَلِك الرِّجَال وَالنِّسَاء
لعُمُوم النَّهْي، وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع، وَيجوز الشّرْب
فِي الْإِنَاء المفضض وَالْجُلُوس على السرير المفضض إِذا
كَانَ يَتَّقِي مَوضِع الْفضة، أَي: يَتَّقِي فَمه ذَلِك،
وَقيل: يَتَّقِي أَخذه بِالْيَدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُف:
يكره. وَقَول مُحَمَّد مُضْطَرب، وَيجوز التجمل بالأواني
من الذَّهَب وَالْفِضَّة بِشَرْط أَن لَا يُرِيد بِهِ
التفاخر وَالتَّكَاثُر، لِأَن فِيهِ إِظْهَار نعم الله
تَعَالَى.
الثَّانِي: خَاتم الذَّهَب فَإِنَّهُ حرَام على الرِّجَال،
والْحَدِيث يدل عَلَيْهِ، وَمن النَّاس من أَبَاحَ
التَّخَتُّم بِالذَّهَب لما روى الطَّحَاوِيّ فِي (شرح
الْآثَار) بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُحَمَّد بن مَالك، قَالَ:
رَأَيْت على الْبَراء خَاتمًا من ذهب، فَقيل لَهُ:
فَقَالَ: قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فألبسنيه. وَقَالَ: (إلبس مَا كساك الله، عز وَجل،
وَرَسُوله) . وَالْجَوَاب عَنهُ أَن التَّرْجِيح للْمحرمِ
وَمَا رُوِيَ من ذَلِك كَانَ قبل النَّهْي، وَأما
التَّخَتُّم بِالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يجوز لما رُوِيَ (عَن
أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتخذ خَاتمًا
من فضَّة لَهُ فص حبشِي وَنقش عَلَيْهِ: مُحَمَّد رَسُول
الله) ، رَوَاهُ الْجَمَاعَة، وَالسّنة أَن يكون قدر
مِثْقَال فَمَا دونه، والتختم سنة لمن يحْتَاج إِلَيْهِ
كالسلطان وَالْقَاضِي وَمن فِي مَعْنَاهُمَا، وَمن لَا
حَاجَة لَهُ إِلَيْهِ فَتَركه أفضل.
الثَّالِث: الْحَرِير وَهُوَ حرَام على الرِّجَال دون
النِّسَاء لما روى أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَخذ حَرِيرًا فَجعله فِي يَمِينه، وَأخذ
ذَهَبا فَجعله فِي شِمَاله، ثمَّ قَالَ: إِن هذَيْن حرَام
على ذُكُور أمتِي) ، زَاد ابْن مَاجَه: (حل لإناثهم) ،
وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم رووا حل
الْحَرِير للنِّسَاء، وهم: عمر، فَحَدِيثه عِنْد
الْبَزَّار وَأَبُو مُوسَى
(8/11)
الْأَشْعَرِيّ، فَحَدِيثه عِنْد
التِّرْمِذِيّ، وَعبد الله بن عَمْرو فَحَدِيثه عِنْد
إِسْحَاق وَالْبَزَّار وَأبي يعلى. وَعبد الله بن عَبَّاس
فَحَدِيثه عَن الْبَزَّار، وَزيد بن أَرقم فَحَدِيثه عِنْد
ابْن أبي شيبَة وواثلة بن الْأَسْقَع فَحَدِيثه عِنْد
الطَّبَرَانِيّ، وَعقبَة بن العامر الْجُهَنِيّ فَحَدِيثه
عِنْد أبي سعيد بن يُونُس، فأحاديثهم خصت أَحَادِيث
التَّحْرِيم على الْإِطْلَاق، وَقَالَ بَعضهم: حرَام على
النِّسَاء وَالرِّجَال لعُمُوم النَّهْي.
الرَّابِع: الديباح.
وَالْخَامِس: القسي.
السَّادِس: الاستبرق، وكل هَذَا دَاخل فِي الْحَرِير، وَقد
ذكرنَا أَن وَاحِدَة قد سَقَطت من المنهيات وَهِي: الميثرة
الْحَمْرَاء، وسنذكرها فِي موضعهَا، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى، وَقد سَأَلَ الْكرْمَانِي هَهُنَا بِمَا حَاصله:
أَن الْأَمر فِي الْمَأْمُور بِهِ فِي بعضه للنَّدْب،
وَفِي النَّهْي كَذَلِك بعضه للْحُرْمَة وَبَعضه
لغَيْرهَا، فَهُوَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي معنييه
الْحَقِيقِيّ والمجازي، وَذَلِكَ مُمْتَنع، وَأجَاب بِمَا
حَاصله: أَن ذَلِك غير مُمْتَنع عِنْد الشَّافِعِي وَعند
غَيره بِعُمُوم الْمجَاز، وَسَأَلَ أَيْضا بِأَن بعض هَذِه
الْأَحْكَام عَام للرِّجَال وَالنِّسَاء: كآنية الْفضة،
وَبَعضهَا خَاص كَحُرْمَةِ خَاتم الذَّهَب للرِّجَال،
وَلَفظ الحَدِيث يَقْتَضِي التَّسَاوِي. وَأجَاب بِأَن
التَّفْصِيل عُلِمَ من غير هَذَا الحَدِيث.
0421 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ أبِي
سَلَمَةَ عنِ الأوزَاعِيِّ قَالَ أخبرَنِي ابنُ شِهَابٍ
قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ حَقُّ المُسْلِمِ
عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ وَعِيَادَةُ
المَرِيضِ وَاتِّبَاع الجَنَائِزِ وَإجَابَةُ الدَّعْوَةِ
وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَاتِّبَاع
الْجَنَائِز) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد قَالَ
الكلاباذي، روى البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن أبي سَلمَة
غير مَنْسُوب فِي (كتاب الْجَنَائِز) : يُقَال إِنَّه
مُحَمَّد بن يحيى الذهلي. وَقَالَ فِي (أَسمَاء رجال
الصَّحِيحَيْنِ) : مُحَمَّد بن يحيى ابْن عبد الله بن
خَالِد بن فَارس بن ذِئْب، أَبُو عبد الله الذهلي
النَّيْسَابُورِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الصَّوْم
والطب والجنائز وَالْعِتْق وَغير مَوضِع فِي قريب من
ثَلَاثِينَ موضعا، وَلم يقل: حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى
الذهلي مُصَرحًا، وَيَقُول: حَدثنَا مُحَمَّد وَلَا يزِيد
عَلَيْهِ، وَيَقُول: مُحَمَّد بن عبد الله ينْسبهُ إِلَى
جده، وَيَقُول: مُحَمَّد بن خَالِد ينْسبهُ إِلَى جد
أَبِيه، وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن البُخَارِيّ لما دخل
نيسابور شغب عَلَيْهِ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فِي
مَسْأَلَة خلق اللَّفْظ وَكَانَ قد سمع مِنْهُ فَلم يتْرك
الرِّوَايَة عَنهُ وَلم يُصَرح باسمه مَاتَ مُحَمَّد بن
يحيى بعد البُخَارِيّ بِيَسِير تَقْدِيره سنة سبع وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَمْرو بن أبي سَلمَة، بِفَتْح
اللَّام: أَبُو حَفْص التنيسِي، مَاتَ سنة ثِنْتَيْ عشرَة
وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سعيد بن الْمسيب. السَّادِس:
أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار
بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه:
أَن شَيْخه مَذْكُور بِلَا نِسْبَة وَوَاحِد مَذْكُور
بنسبته وَالْآخر مَذْكُور باسم جده. قيل: عَمْرو بن أبي
سَلمَة ضعفه ابْن معِين وَغَيره، فَكيف حَال حَدِيثه عِنْد
البُخَارِيّ؟ وَأجِيب: بِأَن تَضْعِيفه كَانَ بِسَبَب أَن
فِي حَدِيثه عَن الْأَوْزَاعِيّ مناولة وإجازة فَلذَلِك
عنعن، فَدلَّ على أَنه لم يسمعهُ. وَأجِيب: نصْرَة
للْبُخَارِيّ: بِأَنَّهُ اعْتمد على المناولة وَاحْتج
بهَا. وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهَا ويحتج بهَا، وَمَعَ هَذَا
لم يكْتب بذلك، وَقد قواه بالمتابعة على مَا نذكرها عَن
قريب. وَفِيه: أَن شَيْخه نيسابوري، وَعَمْرو بن أبي
سَلمَة تنيسي سكن بهَا وَمَات بهَا وَأَصله من دمشق،
وَالْأَوْزَاعِيّ شَامي، وَابْن شهَاب وَابْن الْمسيب
مدنيان.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة
عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن
الْأَوْزَاعِيّ نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حق الْمُسلم على الْمُسلم) ،
وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا
معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس
يجب للْمُسلمِ على أَخِيه: رد السَّلَام وتشميت الْعَاطِس
وَإجَابَة الدعْوَة وعيادة الْمَرِيض وَاتِّبَاع
الْجَنَائِز) . قَالَ عبد الرَّزَّاق: كَانَ معمر يُرْسل
هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ
(8/12)
فأسنده مرّة عَن ابْن الْمسيب عَن أبي
هُرَيْرَة، حَدثنِي يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَابْن حجر
قَالُوا: حَدثنَا إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن جَعْفَر عَن
الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (حق الْمُسلم على
الْمُسلم سِتّ قيل: مَا هن يَا رَسُول الله؟ قَالَ: إِذا
لَقيته فَسلم عَلَيْهِ، وَإِذا دعَاك فأجبه. وَإِذا
استنصحك فانصح لَهُ، فَإِذا عطس فَحَمدَ الله فشمته.
وَإِذا مرض فعده، وَإِذا مَاتَ فَاتبعهُ) . والْعَلَاء
هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (حق الْمُسلم) ، قَالَ
الْكرْمَانِي: هَذَا اللَّفْظ أَعم من الْوَاجِب على
الْكِفَايَة وعَلى الْعين، وَمن الْمَنْدُوب، وَقَالَ ابْن
بطال: أَي: حق الْحُرْمَة والصحبة. وَفِي (التَّوْضِيح) :
الْحق فِيهِ بِمَعْنى حق حرمته عَلَيْهِ وَجَمِيل صحبته
لَهُ، لَا أَنه من الْوَاجِب، وَنَظِيره: (حق الْمُسلم أَن
يغْتَسل كل جُمُعَة) . وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد من الْحق
هُنَا الْوُجُوب خلافًا لقَوْل ابْن بطال. قلت: المُرَاد
هُوَ الْوُجُوب على الْكِفَايَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ:
هَذِه كلهَا من حق الْإِسْلَام، يَسْتَوِي فِيهَا جَمِيع
الْمُسلمين برهم وفاجرهم، غير أَنه يخص الْبر بالبشاشة
والمصافحة دون الْفَاجِر الْمظهر للفجور، وَقد مر
الْكَلَام فِي بَقِيَّة الحَدِيث عَن قريب.
تابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ
أَي: تَابع عَمْرو بن أبي سَلمَة عبد الرَّزَّاق بن هما،
قَالَ: أخبرنَا معمر بن رَاشد، وَهَذِه الْمُتَابَعَة
ذكرهَا مُسلم، رَحمَه الله، وَقد ذَكرنَاهَا الْآن.
وَرَوَاهُ سَلاَمَةُ عنْ عُقَيْلٍ أَي: روى الحَدِيث
الْمَذْكُور سَلامَة، بتَخْفِيف اللَّام: ابْن خَالِد بن
عقيل الْأَيْلِي توفّي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة،
وَهُوَ ابْن أخي عقيل، بِضَم الْعين: إِبْنِ خَالِد بن
عقيل، ذكر البُخَارِيّ أَنه سمع من عقيل بن خَالِد، وَذكر
غير وَاحِد أَن حَدِيثه عَنهُ كتاب وَلم يسمع مِنْهُ،
وَسُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن سَلامَة فَقَالَ: ضَعِيف مُنكر
الحَدِيث.
3 - (بابُ الدُّخُولِ عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ المَوْتِ
إذَا أُدْرِجَ فِي أكفَانِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الدُّخُول على
الْمَيِّت إِذا أدرج أَي: إِذا لف فِي أَكْفَانه.
2421 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرَنا عَبْدُ
الله قَالَ أَخْبرنِي مَعْمَرٌ ويُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَة أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أخبَرَتْهُ قالَتْ أقْبَلَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ
حتَّى نَزَلَ فدَخَلَ المَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمِ
النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا فتَيَمَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَهْوَ مُسَجَّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عنْ
وَجْهِهِ ثُمَّ أكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى
فقَالَ بِأبِي أنْتَ يَا نَبِيَّ الله لاَ يَجْمَعُ الله
عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أمَّا المَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَ
الله علَيْكَ فَقَدْ مُتُّهَا. قَالَ أبُو سَلَمَةَ
فَأَخْبرنِي ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا
أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ خَرَجَ
وَعُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ
فَقَالَ اجْلِسْ فَأبَى فَقَالَ إجْلِسْ فأبَى فتَشَهَّدَ
أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَمَالَ إلَيْهِ
النَّاسُ وتَرَكُوا عُمَرَ فقالَ أمَّا بَعْدُ فَمَنْ كانَ
مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدا فإنَّ مُحَمَّدا قَدْ ماتَ
وَمَنْ كانَ يَعْبُدُ الله فَإنَّ الله حيٌّ لَا يَمُوتُ.
قَالَ الله تَعَالَى وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ إِلَى
الشَّاكِرِينَ وَالله لَكَأنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا
يَعْلَمُونَ أنَّ الله أنزَلَ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا
أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَتَلَقَّاهَا
مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إلاَّ يَتْلُوهَا.
. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، قيل: لَا نسلم الظُّهُور،
لِأَن التَّرْجَمَة فِي الدُّخُول على الْمَيِّت إِذا أدرج
فِي الْكَفَن، وَمتْن الحَدِيث وَهُوَ مسجى يبرد حبرَة،
وَلم يكن حِينَئِذٍ غسل، فضلا عَن أَن يكون مدرجا فِي
الْكَفَن. وَأجِيب: بِأَن كشف الْمَيِّت بعد تسجيته
(8/13)
مساوٍ لحاله بعد تكفينه، وَذَلِكَ لِأَن
مِنْهُم من منع عَن الِاطِّلَاع على الْمَيِّت إلاَّ
الْغَاسِل، وَمن يَلِيهِ، لِأَن الْمَوْت سَبَب لتغير
محَاسِن الْحَيّ، لِأَنَّهُ يكون كريها فِي المنظر،
فَلذَلِك أَمر بتغميضه وتسجيته، وَأَشَارَ البُخَارِيّ
إِلَى جَوَاز ذَلِك بالترجمة الْمَذْكُورَة، وَلما كَانَ
حَاله بعد التسجية مثل حَاله بعد التَّكْفِين وَقع التطابق
بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد
أَبُو مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي، مَاتَ سنة
أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن
الْمُبَارك. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين، ابْن
رَاشد. الرَّابِع: يُونُس ابْن يزِيد. الْخَامِس: مُحَمَّد
بن مُسلم الزُّهْرِيّ. السَّادِس: أَبُو سَلمَة عبد الله
بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من
أَفْرَاده وَهُوَ وَعبد الله مروزيان وَمعمر بَصرِي
وَيُونُس أيلي وَالزهْرِيّ وَأَبُو سَلمَة مدنيان. وَفِيه:
أَرْبَعَة مِنْهُم بِلَا نِسْبَة، وَوَاحِد بالكنية.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث عَن
عقيل وَفِي فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن
إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْجَنَائِز عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي
مُعَاوِيَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بالسنح) ، بِضَم السِّين
الْمُهْملَة وَالنُّون والحاء الْمُهْملَة، وَهُوَ منَازِل
بني الْحَارِث بن الْخَزْرَج، بَينهمَا وَبَين منزل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ميل، وَزعم صَاحب
(الْمطَالع) أَن أَبَا ذَر كَانَ يَقُوله بِإِسْكَان
النُّون. قَوْله: (فتميم) ، أَي: قصد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَهُوَ مسجى) ، جملَة إسمية
وَقعت حَالا. ومسجى إسم مفعول من سجى يسجي تسجية. يُقَال:
سجيت الْمَيِّت تسجية إِذا مددت عَلَيْهِ ثوبا، وَمعنى
مسجىً: هُنَا مغطىً. قَوْله: (ببر حبرَة) ، بِالْوَصْفِ
وَالْإِضَافَة، وَالْبرد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الرَّاء: وَهُوَ نوع من الثِّيَاب مَعْرُوف،
وَالْجمع: أبراد وبرود، والبردة والشملة المخططة وحبرة على
وزن عنبة ثوب يماني يكون من قطن أَو كتاب مخطط، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: هُوَ ثوب أَخْضَر. قَوْله: (ثمَّ أكب
عَلَيْهِ) ، هَذَا اللَّفْظ من النَّوَادِر حَيْثُ هُوَ
لَازم، وثلاثيه كب مُتَعَدٍّ عكس مَا هُوَ الْمَشْهُور فِي
الْقَوَاعِد التصريفية. قَوْله: (فَقبله) أَي: بَين
عَيْنَيْهِ وَقد ترْجم عَلَيْهِ النَّسَائِيّ وَأوردهُ
صَرِيحًا حَيْثُ قَالَ: تَقْبِيل الْمَيِّت وَأَيْنَ يقبل
مِنْهُ؟ قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح،
قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن
ابْن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن أَبَا بكر قبل
بَين عَيْني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ميت)
. قَوْله: (بِأبي أَنْت) أَي: أَنْت مفدىً بِأبي، فالباء
مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف فَيكون مَرْفُوعا لِأَنَّهُ يكون
مُبْتَدأ وخبرا. وَقيل: فعل، فَيكون مَا بعده مَنْصُوبًا
تَقْدِيره: فديتك بِأبي. قَوْله: (لَا يجمع الله عَلَيْك
موتتين) ، قَالَ الدَّاودِيّ: لم يجمع الله عَلَيْك شدَّة
بعد الْمَوْت لِأَن الله تَعَالَى قد عصمك من أهوال
الْقِيَامَة. قَالَ: وَقيل: لَا يَمُوت موتَة أُخْرَى فِي
قَبره كَمَا يحيى غَيره فِي الْقَبْر فَيسْأَل ثمَّ يقبض،
وَقَالَ ابْن التِّين: أَرَادَ بذلك مَوته وَمَوْت
شَرِيعَته، يدل عَلَيْهِ. قَوْله: (من كَانَ يعبد
مُحَمَّدًا) . وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ردا لمن قَالَ:
إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يمت وسيبعث
وَيقطع أَيدي رجال وأرجلهم. قيل: إِنَّه معَارض لقَوْله
تَعَالَى: {امتّنا اثْنَتَيْنِ واحيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ}
(غَافِر: 11) . وَأجِيب: بِأَن الأولى الْخلقَة من
التُّرَاب وَمن نُطْفَة لِأَنَّهُمَا موَات، وَالثَّانيَِة
الَّتِي بِمَوْت الْخلق، وَإِحْدَى الحياتين فِي
الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى بعد الْمَوْت فِي الْآخِرَة.
وَعَن الضَّحَّاك: أَن الأولى الْمَوْت فِي الدُّنْيَا،
وَالثَّانيَِة الْمَوْت فِي الْقَبْر بعد الْفِتْنَة
والمسالة، وَاحْتج بِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَال للنطفة
وَالتُّرَاب ميت، وَإِنَّمَا الْمَيِّت من تقدّمت لَهُ
حَيَاة، ورد عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم
الأَرْض الْميتَة أحييناها} (يس: 33) . لم يتَقَدَّم لَهَا
حَيَاة قطّ، وَإِنَّمَا خلقهَا الله جمادا ومواتا، وَهَذَا
من سَعَة كَلَام الْعَرَب. قَوْله: (الَّتِي كتب الله)
أَي: قدر الله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (الَّتِي كتبت)
، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: قدرت. قَوْله: (مِنْهَا) ،
بِضَم الْمِيم وَكسرهَا، من: مَاتَ يَمُوت، وَمَات يمات،
وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الموتة. قَوْله: (وَعمر يكلم
النَّاس) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فَمَا يسمع بشر)
، يسمع على صِيغَة الْمَجْهُول تَقْدِيره: مَا يسمع بشر
يَتْلُو شَيْئا إلاَّ هَذِه الْآيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ اسْتِحْبَاب تسجية
الْمَيِّت. وَفِيه: جَوَاز تَقْبِيل الْمَيِّت لفعل أبي
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَأن
(8/14)
أَبَا بكر فِي تقبيله النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يَفْعَله إلاَّ قدوة بِهِ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما روى التِّرْمِذِيّ مصححا: (أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على عُثْمَان بن
مَظْعُون وَهُوَ ميت فأكب عَلَيْهِ وَقَبله ثمَّ بَكَى
حَتَّى رَأَيْت الدُّمُوع تسيل على وجنتيه وَفِي
(التَّمْهِيد) لما توفّي عُثْمَان كشف النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الثَّوْب عَن وَجهه وَبكى بكاء طَويلا
وَقبل بَين عَيْنَيْهِ، فَلَمَّا رفع على السرير قَالَ:
طُوبَى لَك يَا عُثْمَان، لم تلبسك الدُّنْيَا وَلم
تلبسها) . وَفِيه: جَوَاز الْبكاء على الْمَيِّت من غير
نوح. وَفِيه: أَن الصدِّيق أعلم من عمر، وَهَذِه إِحْدَى
الْمسَائِل الَّتِي ظهر فِيهَا ثاقب علمه، وَفضل
مَعْرفَته، ورجاحة رَأْيه، وبارع فهمه، وَحسن إسراعه
بِالْقُرْآنِ، وثبات نَفسه، وَكَذَلِكَ مكانته عِنْد
الإمرة لَا يُسَاوِيه فِيهَا أحد إلاَّ يرى أَنه حِين تشهد
بَدَأَ بالْكلَام مَال إِلَيْهِ النَّاس وَتركُوا عمر وَلم
يكن ذَلِك إلاَّ لعَظيم مَنْزِلَته فِي النُّفُوس على عمر
وسمو مَحَله عِنْدهم، وَقد أقرّ بذلك عمر حِين مَاتَ
الصّديق، فَقَالَ: وَالله مَا أحب أَن ألْقى الله بِمثل
عمل أحد إلاَّ بِمثل عمل أبي بكر، ولوددت أَنِّي شَعْرَة
فِي صَدره، وَذكر الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:
إِنِّي وَالله لأمشي مَعَ عمر فِي خِلَافَته وَبِيَدِهِ
الدرة وَهُوَ يحدث نَفسه وَيضْرب قدمه بدرته مَا مَعَه
غَيْرِي، إِذْ قَالَ لي: يَا ابْن عَبَّاس، هَل تَدْرِي
مَا حَملَنِي على مَقَالَتي الَّتِي قلت حِين مَاتَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: لَا أَدْرِي وَالله
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: فَإِنَّهُ مَا حَملَنِي
على ذَلِك إلاَّ قَوْله عز وَجل: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} إِلَى قَوْله: {شَهِيدا}
(الْبَقَرَة: 341) . فوَاللَّه إِن كنت لأَظُن أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَيبقى فِي أمته حَتَّى
يشْهد عَلَيْهَا بأجزاء أَعمالهَا. وَفِيه: حجَّة مَالك
فِي قَوْله فِي الصَّحَابَة: مخطىء ومصيب فِي التَّأْوِيل.
وَفِيه اهتمام عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
بِأَمْر الشَّرِيعَة وَإِنَّهَا لم يشغلها ذَلِك عَن
حفظهَا مَا كَانَ من أَمر النَّاس فِي ذَلِك اليوموفيه:
غيبَة الصدّيق عَن وَفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم بالسنح، وَكَانَ
متزوجا هُنَاكَ. وَفِيه: الدُّخُول على الْمَيِّت بِغَيْر
اسْتِئْذَان، وَيجوز أَن يكون عِنْد عَائِشَة غَيرهَا
فَصَارَ كالمحفل لَا يحْتَاج الدَّاخِل إِلَى إِذن،
وَرُوِيَ أَنه اسْتَأْذن فَلَمَّا دخل أذن للنَّاس.
وَفِيه: قَول أبي بكر لعمر: إجلس، فَأبى إِنَّمَا ذَلِك
لما دخل عمر من الدهشة والحزن، وَقد قَالَت أم سَلمَة: مَا
صدقت بِمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى
سَمِعت وَقع الكرازين. قَالَ الْهَرَوِيّ: هِيَ الفئوس،
وَقيل: تُرِيدُ وَقع الْمساحِي تحثو التُّرَاب عَلَيْهِ،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، ظن أَن أَجله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لم يَأْتِ وَأَن الله تَعَالَى منَّ على الْعباد بطول
حَيَاته، وَيحْتَمل أَن يكون أنسي قَوْله تَعَالَى:
{إِنَّك ميت} (الزمر: 03) . وَقَوله: {وَمَا مُحَمَّد
إلاَّ رَسُول} إِلَى: {أفائن مَاتَ} (آل عمرَان: 441) .
وَكَانَ يَقُول مَعَ ذَلِك: ذهب مُحَمَّد لميعاد ربه،
كَمَا ذهب مُوسَى لمناجاة ربه، وَكَانَ فِي ذَلِك ردعا
لِلْمُنَافِقين وَالْيَهُود حِين اجْتمع النَّاس. وَأما
أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَأى إِظْهَار
الْأَمر تجلدا، وَلما تَلا الْآيَة كَانَت تعزيا وتصبرا.
وَفِيه: جَوَاز التفدية بِالْآبَاءِ والأمهات. وَفِيه: ترك
تَقْلِيد الْمَفْضُول عِنْد وجود الْفَاضِل.
3421 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي
خارِجَةُ ابنُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ أنَّ أُمَّ العَلاَءِ
امْرَأةً مِنَ الأنْصَارِ بايَعَتِ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرَتْهُ أنَّهُ اقتُسِمَ
المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بنُ
مَظْعُونٍ فأنْزَلْنَاهُ فِي أبْيَاتِنَا فَوَجِعَ
وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ
وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أثْوَابِهِ دَخَلَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْتُ رَحْمَةُ الله عليْكَ أبَا
السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لقدْ أكْرَمَكَ الله
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَا يُدْرِيكِ
أنَّ الله أكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأبِي أنْتَ يَا رسولَ الله
فَمَنْ يُكْرِمُهُ الله؟ فَقَالَ أمَّا هُوَ فَقَدْ
جَاءَهُ اليَقِينُ وَالله إنِّي لأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ
وَالله مَا أدْرِي وَأنَا رسولُ الله مَا يفْعَلُ بِي
قالَتْ فَوالله لاَ اُزْكِي أحدا بَعْدَهُ أبَدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (دخل رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي على عُثْمَان بعد أَن غسل
وكفن، وَهَذِه الْمُطَابقَة أظهر من مُطَابقَة الحَدِيث
السَّابِق للتَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن عبد الله بن بكير
أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي. الثَّانِي: اللَّيْث بن
سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: خَارِجَة اسْم فَاعل من الْخُرُوج ابْن زيد بن
ثَابت الْأنْصَارِيّ أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة
بِالْمَدِينَةِ، مَاتَ سنة مائَة. السَّادِس: أم الْعَلَاء
بنت الْحَارِث
(8/15)
ابْن ثَابت بن خَارِجَة الْأَنْصَارِيَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي
موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور باسم جده وَأَنه
وَشَيْخه مصريان وعقيلي أيلي وَابْن شهَاب وخارجة مدنيان.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصحابية. وَفِيه: أم الْعَلَاء ذكر فِي (تَهْذِيب
الْكَمَال) وَيُقَال: إِن أم الْعَلَاء زَوْجَة زيد بن
ثَابت وَأم أَبِيه خَارِجَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ
التِّرْمِذِيّ: هِيَ أم خَارِجَة، ثمَّ قَالَ: وَلَا يخفى
أَن ذكر خَارِجَة مُبْهمَة لَا يَخْلُو عَن غَرَض أَو
أغراض.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الشَّهَادَات، وَفِي التَّفْسِير عَن أبي
الْيَمَان، وَفِي الْهِجْرَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل،
وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن عَبْدَانِ، وَفِي
التَّعْبِير والجنائز أَيْضا عَن سعيد بن عقيل، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الرُّؤْيَا عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد
الله بن الْمُبَارك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أم الْعَلَاء) ، مَنْصُوب بِأَن
وَخَبره. قَوْله: (أخْبرته) قَوْله: (امْرَأَة من
الْأَنْصَار) عطف بَيَان وَيجوز أَن يرفع على أَن يكون خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ امْرَأَة من الْأَنْصَار.
قَوْله: (بَايَعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ،
جملَة فِي مَحل الرّفْع أَو النصب على أَنَّهَا صفة
لامْرَأَة على الْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (أَنه) الضَّمِير
فِيهِ للشأن. قَوْله: (اقتسم الْمُهَاجِرُونَ قرعَة) اقتسم
على صِيغَة الْمَجْهُول. و: الْمُهَاجِرُونَ، مفعول نَاب
عَن الْفَاعِل، و: قرعَة، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي:
بِقرْعَة، وَالْمعْنَى: اقتسم الْأَنْصَار الْمُهَاجِرين
بِالْقُرْعَةِ فِي نزولهم عَلَيْهِم وسكناهم فِي
مَنَازِلهمْ، لِأَن الْمُهَاجِرين لما دخلُوا الْمَدِينَة
لم يكن مَعَهم شَيْء من أَمْوَالهم فَدَخَلُوهَا فُقَرَاء،
وَكَانَ بَنو مَظْعُون ثَلَاثَة: عُثْمَان وَعبد الله
وَقُدَامَة بدريون أخوال ابْن عمر. قَوْله: (فطار لنا
عُثْمَان) يَعْنِي: وَقع فِي الْقرعَة فِي سهم الْأَنْصَار
الَّذين أم الْعَلَاء مِنْهُم، ويروى: (فَصَارَ لنا) ،
فَإِن ثبتَتْ هَذِه الرِّوَايَة فمعناها صَحِيح. قَوْله:
(وَجَعه) ، نصب على الْمصدر. قَوْله: (أَبَا السَّائِب) ،
بِالسِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، منادى
حذف حرف ندائه، وَالتَّقْدِير: يَا أَبَا السَّائِب،
وَهُوَ كنية عُثْمَان بن مَظْعُون، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي
كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب الْقرعَة فِي المشكلات: أَن
عُثْمَان بن مَظْعُون طَار لَهُ سَهْمه فِي السُّكْنَى
حِين أقرعت الْأَنْصَار سُكْنى الْمُهَاجِرين. قَالَت: أم
الْعَلَاء: فسكن عندنَا عُثْمَان بن مَظْعُون، فاشتكى
فمرضناه حَتَّى إِذا توفّي وجعلناه فِي ثِيَابه دخل علينا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: رَحْمَة
الله عَلَيْك أَبَا السَّائِب. وَفِي كتاب الْهِجْرَة
وَالتَّعْبِير: (قَالَت أم الْعَلَاء: فأحزنني ذَلِك
فَنمت، فأوريت لَهُ عينا تجْرِي، فَجئْت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرته فَقَالَ: ذَاك عمله
يجْرِي لَهُ) . قَوْله: (فشهادتي عَلَيْك) ، جملَة من
الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وَمثل هَذَا التَّرْكِيب
يسْتَعْمل عرفا وَيُرَاد بِهِ معنى الْقسم، كَأَنَّهَا
قَالَت: أقسم بِاللَّه لقد أكرمك الله. قَالَ
الْكرْمَانِي: (شهادتي) مُبْتَدأ، (وَعَلَيْك) صلته،
وَالْقسم مُقَدّر، وَالْجُمْلَة القسمية خبر الْمُبْتَدَأ،
وَتَقْدِيره: شهادتي عَلَيْك قولي وَالله لقد أكرمك الله.
ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: هَذِه الشَّهَادَة لَهُ لَا
عَلَيْهِ؟ قلت: الْمَقْصُود مِنْهَا معنى الاستعلاء فَقَط
بِدُونِ مُلَاحظَة الْمضرَّة وَالْمَنْفَعَة. قَوْله:
(وَمَا يدْريك؟) بِكَسْر الْكَاف أَي: من أَيْن علمت أَن
الله أكْرمه؟ أَي: عُثْمَان؟ قَوْله: (بِأبي أَنْت) أَي:
مفدى أَنْت بِأبي، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب: قَوْله:
(فَمن يُكرمهُ الله) أَي: هُوَ مُؤمن خَالص مُطِيع فَإِذا
لم يكن هُوَ من الْمُكرمين من عِنْد الله فَمن يُكرمهُ؟
قَوْله: (أما هُوَ) أَي: عُثْمَان وَكلمَة: أما، تَقْتَضِي
القسيم، وقسميهما هُنَا مُقَدّر تَقْدِيره: وَأما غَيره
فخاتمة أمره غير مَعْلُومَة، أهوَ مِمَّا يُرْجَى لَهُ
الْخَيْر عِنْد الْيَقِين أَي الْمَوْت أم لَا؟ قَوْله:
(وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَا يفعل بِي)
كلمة: مَا، مَوْصُولَة أَو استفهامية. قَالَ الدَّاودِيّ:
مَا يفعل بِي وهم، وَالصَّوَاب: مَا يفعل بِهِ، أَي:
بعثمان، لِأَنَّهُ لَا يعلم من ذَلِك إِلَّا مَا يُوحى
إِلَيْهِ. وَقيل: قَوْله: (مَا يفعل بِي) ، يحْتَمل أَن
يكون قبل إِعْلَامه بالغفران لَهُ، أَو يكون الْمَعْنى:
مَا يفعل بِي فِي أَمر الدُّنْيَا مِمَّا يصيبهم فِيهَا.
فَإِن قلت: عُثْمَان هَذَا أسلم بعد ثَلَاثَة عشر رجلا،
وَهَاجَر الهجرتين، وَشهد بَدْرًا، وَهُوَ أول من مَاتَ من
الْمُهَاجِرين بِالْمَدِينَةِ، وَقد أخبر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن أهل بدر غفر الله لَهُم. قلت:
قد قيل: بِأَن ذَلِك قبل أَن يخبر أَن أهل بدر من أهل
الْجنَّة. فَإِن قلت: هَذَا أَيْضا يُعَارض قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (مَا زَالَت الْمَلَائِكَة تظله بأجنحتها
حَتَّى رفعتموه) . قلت: لَا تعَارض فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينْطق عَن الْهوى، فَأنْكر
على أم الْعَلَاء قطعهَا على عُثْمَان إِذْ لم تعلم هِيَ
من أمره شَيْئا. وَفِي حَدِيث جَابر، قَالَ: مَا علمه
إلاَّ بطرِيق الْوَحْي إِذْ لَا يقطع على مثل هَذَا إلاَّ
بِوَحْي، حَاصله أَن مَا قَالَه النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِخْبَار من لَا ينْطق عَن الْهوى،
وَذَلِكَ كَلَام أم الْعَلَاء وليسا بالسواء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل على أَنه لَا
يجْزم لأحد بِالْجنَّةِ إلاَّ مَا نَص عَلَيْهِ الشَّارِع:
كالعشرة المبشرة وأمثالهم
(8/16)
سِيمَا وَالْإِخْلَاص أَمر قلبِي لَا
اطلَاع لنا عَلَيْهِ. وَفِيه: مواساة الْفُقَرَاء الَّذين
لَيْسَ لَهُم مَال وَلَا منزل ببذل المَال وَإِبَاحَة
الْمنزل. وَفِيه: إِبَاحَة الدُّخُول على الْمَيِّت بعد
التَّكْفِين. وَفِيه: جَوَاز الْقرعَة. وَفِيه: الدُّعَاء
للْمَيت.
حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ
مِثْلَهُ
سعيد هَذَا هُوَ سعيد بن كثير بن عفير، بِضَم الْعين
الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
بعْدهَا رَاء: أَبُو عُثْمَان الْمصْرِيّ، يروي عَن
اللَّيْث بن سعد عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ بِمثلِهِ، أَي:
مثل الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأخرج من هَذَا الطَّرِيق فِي
التَّعْبِير على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وقالَ نافِعُ بنُ يَزيدَ عنْ عُقَيْلٍ مَا يُفْعَلُ بِهِ
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن الْمَحْفُوظ فِي
رِوَايَة اللَّيْث مَا يفعل بِهِ، وَقد مر أَنه الصَّوَاب
دون مَا يفعل بِي، وأكتفي بِهَذَا الْقدر إِشَارَة إِلَى
أَن بَاقِي الحَدِيث لم يخْتَلف فِيهِ، وَنَافِع بن يزِيد
أَبُو يزِيد مولى شُرَحْبِيل بن حَسَنَة الْقرشِي
الْمصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَوصل
الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا التَّعْلِيق عَن الْقَاسِم بن
زَكَرِيَّا: حَدثنَا الْحسن بن عبد الْعَزِيز الجروي
حَدثنَا عبد الله بن يحيى المغافري حَدثنَا نَافِع بن
يزِيد عَن عقيل بِهِ.
وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بنُ دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ
ذكر البُخَارِيّ مُتَابعَة شُعَيْب فِي كتاب الشَّهَادَات،
قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي خَارِجَة ابْن زيد
الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الحَدِيث،
ومتابعة عَمْرو بن دِينَار وَصلهَا ابْن أبي عمر فِي
(مُسْنده) عَن ابْن عُيَيْنَة عَنهُ، ومتابعة معمر بن
رَاشد ذكرهَا البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير فِي: بَاب
الْعين الْجَارِيَة: حَدثنَا عَبْدَانِ أخبرنَا عبد الله
أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن خَارِجَة بن زيد بن
ثَابت عَن أم الْعَلَاء. . إِلَى آخِره.
4421 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ المُنْكَدِرِ قَالَ
سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قُتِلَ أبي جَعَلْتُ أكْشِفُ
الثَّوْبَ عنْ وَجْهِهِ أبْكِي ويَنْهَوْنِي عَنْهُ
والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَنْهَانِي
فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فاطِمةُ تَبْكِي فقالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْكِينَ أوْ لاَ تَبْكِينَ مَا
زَالَتِ المَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا حَتَّى
رَفَعْتُمُوهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جعلت أكشف الثَّوْب عَن
وَجهه) ، وَالثَّوْب أَعم من أَن يكون الثَّوْب الَّذِي
سجوه بِهِ أَو من الْكَفَن.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وغندر، بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي
الْوَلِيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن عَمْرو
بن يزِيد وَفِي المناقب عَن أبي كريب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما قتل أبي) ، وَكَانَ قتل
أَبِيه عبد الله يَوْم أحد، وَكَانَ الْمُشْركُونَ مثلُوا
بِهِ، جدعوا أَنفه وَأُذُنَيْهِ، وَكَانَت غَزْوَة أحد فِي
سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة فِي شَوَّال. قَوْله: (أبْكِي)
جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (وينهوني) ، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (وينهونني) على الأَصْل. قَوْله: (عَمَّتي
فَاطِمَة) ، عمَّة جَابر هِيَ شَقِيقَة أَبِيه عبد الله بن
عَمْرو. قَوْله: (تبكين أَو لَا تبكين) ، كلمة: أَو، لَيست
هِيَ للشَّكّ من الرَّاوِي، بل هِيَ من كَلَام الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للتسوية بَين الْبكاء وَعَدَمه،
أَي: فوَاللَّه إِن الْمَلَائِكَة تظله سَوَاء تبكين أم
لَا. وَفِي (التَّلْوِيح) فِي مَوضِع آخر: (لِمَ تبْكي)
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَذَا صحت الرِّوَايَة بِلِمَ،
الَّتِي للاستفهام وَفِي مُسلم: (تبْكي) بِغَيْر نون
لِأَنَّهُ اسْتِفْهَام لمخاطب عَن فعل غَائِبَة. قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: وَلَو خاطبها بالاستفهام خطاب الْحَاضِرَة
قَالَ: لِمَ تبكين، بالنُّون. وَفِي رِوَايَة: (تبكيه أَو
لَا تبكيه) . وَهُوَ إِخْبَار عَن غَائِبَة، وَلَو كَانَ
خطاب الْحَاضِرَة لقَالَ: تبكينه أَو لَا تبكينه، بنُون
فعل الْوَاحِدَة الْحَاضِرَة، ثمَّ معنى هَذَا: أَن عبد
الله مكرم عِنْد الْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام. قَوْله: (تبكين. .) إِلَى آخِره،
(8/17)
يعزيها بذلك ويخبرها بِمَا صَار إِلَيْهِ
من الْفضل. قَوْله: (حَتَّى رفعتموه) ، أَي: من مغسلة،
لِأَنَّهُ نسب الْفِعْل إِلَى أَصله قَالَه الدَّاودِيّ،
وإظلاله بأجنحتها لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ وتزاحمهم على
الْمُبَادرَة بصعود روحه، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وتبشيره بِمَا أعد الله لَهُ من الْكَرَامَة، أَو أَنهم
أظلوه من الْحر لِئَلَّا يتَغَيَّر أَو لِأَنَّهُ من
السَّبْعَة الَّذين يظلهم الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ
إلاَّ ظله، وروى بَقِي بن مخلد (عَن جَابر: لَقِيَنِي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَلا
أُبَشِّرك أَن الله أَحَي أَبَاك وَكلمَة كفاحا وَمَا كلم
أحدا قطّ إلاَّ من وَرَاء حجاب؟ .
وَفِيه: فَضِيلَة عَظِيمَة لم تسمع لغيره من الشُّهَدَاء
فِي دَار الدُّنْيَا. وَفِيه: جَوَاز الْبكاء على
الْمَيِّت كَمَا مضى، وَنهى أهل الْمَيِّت بَعضهم بَعْضًا
عَن الْبكاء للرفق بالباكي.
تابَعَهُ ابنُ جُرَيْجَ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ المُنْكَدِرِ
سَمِعَ جابِرا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
يَعْنِي: تَابع شُعْبَة عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن
جريج ذكر هَذِه الْمُتَابَعَة لينفي مَا وَقع فِي نُسْخَة
ابْن ماهان فِي (صَحِيح مُسلم) عَن عبد الْكَرِيم عَن
مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن عَن جَابر جعل بدل مُحَمَّد
بن الْمُنْكَدر، فَبين البُخَارِيّ أَن الصَّوَاب: ابْن
الْمُنْكَدر، كَمَا رَوَاهُ شُعْبَة، وشده بِرِوَايَة ابْن
جريج، وَوصل مُسلم هَذِه الْمُتَابَعَة: حَدثنَا عبد بن
حميد حَدثنَا روح بن عبَادَة حَدثنَا ابْن جريج عَن
مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر.
وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من خَمْسَة طرق. الأول: من
طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر
(عَن جَابر يَقُول: لما كَانَ يَوْم أحد جِيءَ بِأبي مسجى،
وَقد مثل بِهِ) الحَدِيث. الثَّانِي: من طَرِيق شُعْبَة
عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر. الثَّالِث: من
طَرِيق ابْن جريج عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر.
الرَّابِع: من طَرِيق معمر عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر.
الْخَامِس: من طَرِيق مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن
جَابر، وَهَذَا فِي نُسْخَة ابْن ماهان.
4 - (بابٌ الرَّجُلِ يَنْعَى إلَى أهْلِ المَيِّتِ
بِنَفْسِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الرجل ينعي إِلَى أهل
الْمَيِّت، فَقَوله: بَاب، منون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف
كَمَا قَدرنَا. وَقَوله: الرجل، مَرْفُوع على أَنه
مُبْتَدأ. وَقَوله: (ينعى) ، خَبره وَمعنى: ينعى إِلَى أهل
الْمَيِّت، يظْهر خبر مَوته إِلَيْهِم، يُقَال: نعاه ينعاه
نعيا ونعيانا، وَهُوَ من بَاب: فعل يفعل، بِفَتْح الْعين
فيهمَا، وَفِي (الْمُحكم) : النعي الدُّعَاء بِمَوْت
الْمَيِّت والإشعار بِهِ. وَفِي (الصِّحَاح) : النعي خبر
الْمَوْت، وَكَذَلِكَ النعي على فعيل وَفِي (الواعي) :
النعي على فعيل هُوَ نِدَاء الناعي، والنعي: أَيْضا هُوَ
الرجل الَّذِي ينعى، والنعي: الرجل الْمَيِّت، والنعي)
الْفِعْل، وَالضَّمِير فِي: بِنَفسِهِ، يرجع إِلَى
الْمَيِّت أَي: بِنَفس الْمَيِّت، وَهَذِه التَّرْجَمَة
بِهَذِهِ الصّفة هِيَ الْمَشْهُورَة فِي أَكثر
الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِحَذْف الْبَاء
فِي: بِنَفسِهِ، أَي: ينعي نفس الْمَيِّت إِلَى أَهله،
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ سقط ذكر الْأَهْل، وَلَيْسَ
لَهَا وَجه. وَقَالَ الْمُهلب: الصَّوَاب أَن يَقُول: بَاب
الرجل ينعى إِلَى النَّاس الْمَيِّت بِنَفسِهِ، وَإِلَيْهِ
مَال ابْن بطال، فَقَالَ: فِي التَّرْجَمَة خلل، ومقصود
البُخَارِيّ: بَاب الرجل ينعى إِلَى النَّاس الْمَيِّت
بِنَفسِهِ، وَيكون الْمَيِّت نصبا مفعول: ينعى، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: لَا خلل فِيهِ لجَوَاز حذف الْمَفْعُول
عِنْد الْقَرِينَة، وَقَالَ بَعضهم نصْرَة للْبُخَارِيّ:
التَّعْبِير بالأهل لَا خلل فِيهِ، لِأَن مُرَاده بِهِ مَا
هُوَ أَعم من الْقَرَابَة أَو أخوة الدّين، وَهُوَ أولى من
التَّعْبِير بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ يخرج من لَيْسَ لَهُ
بِهِ أَهْلِيَّة كالكفار. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْأَهْل
لَا يسْتَعْمل فِي أخوة الدّين، وَقد تكلم جمَاعَة فِي
هَذَا الْموضع بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، وَفِيمَا
ذَكرْنَاهُ كِفَايَة فَافْهَم.
5421 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ
شِهَابٍ عَن سَعِيدِ ابنِ المُسَيِّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي
ماتَ فِيهِ خَرَجَ إلَى المُصَلَّى فصَفَّ بِهِمْ وكَبَّرَ
أرْبَعا.
(5421.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ النّظر إِلَى مُجَرّد
النعي، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: من كَانَ فِي
الْمَدِينَة أَهلا للنجاشي حَتَّى تصح التَّرْجَمَة؟ قلت:
الْمُؤْمِنُونَ أَهله من حَيْثُ أخوة الْإِسْلَام. قلت: قد
ذكرنَا أَن الْأَهْل لَا يسْتَعْمل فِي أخوة الدّين أللهم
إلاَّ إِذا ارْتكب الْمجَاز فِيهِ، وَرِجَال هَذَا
الحَدِيث قد تكَرر واجدا وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أويس عبد
الله الأصبحي الْمدنِي إِبْنِ أُخْت مَالك ابْن أنس،
وَابْن شهَاب وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
(8/18)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُسَدّد عَن يزِيد
بن زُرَيْع. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن
منيع مُخْتَصرا على التَّكْبِير. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ
عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة. وَأخرجه مُسلم فِي
الْجَنَائِز عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن القعْنبِي وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة
وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك، ستتهم
عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نعى النَّجَاشِيّ) أَي: أخبر
بِمَوْتِهِ، وَالنَّجَاشِي، بِفَتْح النُّون وَكسرهَا:
كلمة للحبش تسمى بهَا مُلُوكهَا، والمتأخرون يلقبونه
الأبجري. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ بالنبطية، ذكره ابْن
سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: هُوَ بِكَسْر النُّون،
يجوز أَن يكون من نجش أوقد كَأَنَّهُ يطريه، ويوقد فِيهِ،
قَالَه قطرب. وَفِي (الفصيح) : النَّجَاشِيّ، بِالْفَتْح،
وَفِي (الْعلم الْمَشْهُور) لأبي الْخطاب مشدد الْيَاء،
قَالُوا: وَالصَّوَاب تخفيفها، وَفِي (الْمثنى) لِابْنِ
عديس: النَّجَاشِيّ، بِالْفَتْح وَالْكَسْر: الْمُسْتَخْرج
للشَّيْء. وَفِي (سيرة ابْن إِسْحَاق) . اسْمه: أَصْحَمَة،
وَمَعْنَاهُ، عَطِيَّة. وَقَالَ أَبُو الْفرج: أَصْحَمَة
بن أبجري، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد وَفتح
الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ: وَقع فِي (مُسْند ابْن
أبي شيبَة) فِي هَذَا الحَدِيث تَسْمِيَته: صحمة، بِفَتْح
الصَّاد وَإِسْكَان الْحَاء. قَالَ: هَكَذَا قَالَ لنا
يزِيد بن هَارُون، وَإِنَّمَا هُوَ صمحة، بِتَقْدِيم
الْمِيم على الْحَاء. قَالَ: وَهَذَانِ شَاذان. وَفِي
(التَّلْوِيح) : أَخْبرنِي غير وَاحِد من نبلاء الْحَبَشَة
أَنهم لَا ينطقون بِالْحَاء على صرافتها، وَإِنَّمَا
يَقُولُونَ فِي اسْم الْملك: أَصْمِخَة، بِتَقْدِيم
الْمِيم على الْخَاء الْمُعْجَمَة. وَذكر السُّهيْلي أَن
اسْم أَبِيه: يجْرِي، بِغَيْر همزَة، وَذكر مقَاتل بن
سُلَيْمَان فِي كِتَابه (نَوَادِر التَّفْسِير) : إسمه
مَكْحُول بن صصه، وَفِي كتاب (الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد:
لما رَجَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ أرسل النَّجَاشِيّ سنة سبع فِي
الْمحرم عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، فَأخذ كتاب النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضعه على عَيْنَيْهِ، وَنزل
عَن سَرِيره فَجَلَسَ على الأَرْض تواضعا، ثمَّ أسلم،
وَكتب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك،
وَأَنه أسلم على يَدي جَعْفَر ابْن أبي طَالب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَتُوفِّي فِي رَجَب سنة تسع منصرفة من
تَبُوك. فَإِن قلت: وَقع فِي (صَحِيح مُسلم) : كتب صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّجَاشِيّ، وَهُوَ غير
النَّجَاشِيّ الَّذِي صلى عَلَيْهِ؟ قلت: قيل: كَأَنَّهُ
وهم من بعض الروَاة، أَو أَنه عبر بِبَعْض مُلُوك
الْحَبَشَة عَن الْملك الْكَبِير، أَو يحمل على أَنه لما
توفّي قَامَ مقَامه آخر فَكتب إِلَيْهِ. قَوْله: (خرج
إِلَى الْمصلى) ، ذكر السُّهيْلي من حَدِيث سَلمَة بن
الْأَكْوَع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى عَلَيْهِ
بِالبَقِيعِ.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: فِيهِ إِبَاحَة النعي، وَهُوَ أَن يُنَادى فِي
النَّاس أَن فلَانا مَاتَ ليشهدوا جنَازَته، وَقَالَ بعض
أهل الْعلم: لَا بَأْس أَن يعلم الرجل قرَابَته وإخواته،
وَعَن إِبْرَاهِيم: لَا بَأْس أَن يعلم قرَابَته. وَقَالَ
شَيخنَا زين الدّين: إِعْلَام أهل الْمَيِّت وقرابته
وأصدقائه استحسنه الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ من
أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَذكر صَاحب (الْحَاوِي) من
أَصْحَابنَا وَجْهَيْن فِي اسْتِحْبَاب الْإِنْذَار
بِالْمَيتِ وإشاعة مَوته بالنداء والإعلام، فاستحب ذَلِك
بَعضهم للغريب والقريب لما فِيهِ من كَثْرَة الْمُصَلِّين
عَلَيْهِ والداعين لَهُ، وَقَالَ بَعضهم: يسْتَحبّ ذَلِك
للغريب وَلَا يسْتَحبّ لغيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
وَالْمُخْتَار اسْتِحْبَابه مُطلقًا إِذا كَانَ مُجَرّد
إِعْلَام. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَالَ صَاحب الْبَيَان)
من أَصْحَابنَا: يكره نعي الْمَيِّت، وَهُوَ أَن يُنَادى
عَلَيْهِ فِي النَّاس أَن فلَانا قد مَاتَ ليشهدوا
جنَازَته، وَفِي وَجه حَكَاهُ الصيدلاني: لَا يكره. وَفِي
(حلية الرَّوْيَانِيّ) من أَصْحَابنَا: الإختيار إِن
يُنَادى بِهِ ليكْثر المصلون. وَقَالَ ابْن الصّباغ: قَالَ
أَصْحَابنَا: يكره النداء عَلَيْهِ، وَلَا بَأْس أَن يعلم
أصدقاءه، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا
بَأْس بِهِ، وَنَقله الْعَبدَرِي عَن مَالك أَيْضا، وَنقل
ابْن التِّين عَن مَالك كَرَاهَة الْإِنْذَار بالجنائز على
أَبْوَاب الْمَسَاجِد والأسواق لِأَنَّهُ من النعي. قَالَ
عَلْقَمَة بن قيس: الْإِنْذَار بالجنائز من النعي وَهُوَ
من أَمر الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ
النَّهْي أَيْضا عَن ابْن عمر وَأبي سعيد وَسَعِيد بن
الْمسيب وعلقمة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالربيع بن
خَيْثَم. قلت: وَأبي وَائِل وَأبي ميسرَة وَعلي بن
الْحُسَيْن وسُويد بن غَفلَة ومطرف بن عبد الله وَنصر بن
عمرَان أبي جَمْرَة، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث
حُذَيْفَة أَنه قَالَ: إِذا مت فَلَا تؤذنوا بِي أحدا
فَإِنِّي أَخَاف أَن يكون نعيا، وَإِنِّي سَمِعت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينْهَى عَن النعي، وَقَالَ:
هَذَا حَدِيث حسن، وروى أَيْضا من حَدِيث عبد الله عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إيَّاكُمْ
والنعي، فَإِن النعي من أَمر الْجَاهِلِيَّة) . وَقَالَ:
حَدِيث غَرِيب. والمجوزون احْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب،
وَرُبمَا ورد فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، نعى للنَّاس زيدا وجعفرا. وَفِي الصَّحِيح
أَيْضا
(8/19)
قَول فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، حِين توفّي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وأبتاه، من ربه مَا أدناه، وأبتاه إِلَى جِبْرِيل ننعاه،
وَفِي الصَّحِيح أَيْضا فِي قصَّة الرجل الَّذِي مَاتَ
وَدفن لَيْلًا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(أَفلا كُنْتُم آذنتموني؟) فَهَذِهِ الْأَحَادِيث دَالَّة
على جَوَاز النعي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن النعي
الْمنْهِي عَنهُ إِنَّمَا هُوَ نعي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ:
وَكَانَت عَادَتهم إِذا مَاتَ مِنْهُم شرِيف بعثوا
رَاكِبًا إِلَى الْقَبَائِل يَقُول: نعا يَا فلَان، أَو:
يَا نعاء الْعَرَب، أَي: هَلَكت الْعَرَب بِهَلَاك فلَان.
وَيكون مَعَ النعي ضجيج وبكاء، وَأما إِعْلَام أهل
الْمَيِّت وأصدقائه وقرابته فمستحب على مَا ذَكرْنَاهُ
آنِفا. وَاعْترض بِأَن حَدِيث النَّجَاشِيّ لم يكن نعيا،
إِنَّمَا كَانَ مُجَرّد إِخْبَار بِمَوْتِهِ، فَسمى نعيا
لشبهه بِهِ فِي كَونه إعلاما، وَكَذَا القَوْل فِي جَعْفَر
بن أبي طَالب وَأَصْحَابه، ورد بِأَن الأَصْل الْحَقِيقَة
على أَن حَدِيث النَّجَاشِيّ أصح من حَدِيث حُذَيْفَة
وَعبد الله. فَإِن قلت: قَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا نعي
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّجَاشِيّ وَصلى
عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْد بعض النَّاس على غير
الْإِسْلَام فَأَرَادَ إعلامهم بِصِحَّة إِسْلَامه (قلت)
نعيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعفراً وَأَصْحَابه يرد
ذَلِك، وَحمل بَعضهم النَّهْي على نعي الْجَاهِلِيَّة
الْمُشْتَمل على ذكر المفاخر وَشبههَا.
الْوَجْه الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا يُصَلِّي
على الْجِنَازَة فِي الْمَسْجِد، لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِمَوْتِهِ فِي الْمَسْجِد ثمَّ خرج
بِالْمُسْلِمين إِلَى الْمصلى، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة،
أَنه لَا يصلى على ميت فِي مَسْجِد جمَاعَة، وَبِه قَالَ
مَالك وَابْن أبي ذِئْب، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر: لَا بَأْس بهَا إِذا لم يخف
تلويثه، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ (أَن سعد بن أبي وَقاص،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما توفّي أمرت عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِإِدْخَال جنَازَته
الْمَسْجِد حَتَّى صلى عَلَيْهَا أَزوَاج النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَت: هَل عَابَ النَّاس
علينا مَا فعلنَا؟ فَقيل لَهَا: نعم، فَقَالَت: مَا أسْرع
مَا نسوا، مَا صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
على جَنَازَة سُهَيْل بن الْبَيْضَاء إلاَّ فِي
الْمَسْجِد) . رَوَاهُ مُسلم، وَاحْتج أَصْحَابنَا من
حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن صَالح مولى التومة عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من صلى على ميت فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ)
. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظ، وَرَوَاهُ ابْن
مَاجَه وَلَفظه: (فَلَيْسَ لَهُ شَيْء) ، وَقَالَ
الْخَطِيب الْمَحْفُوظ: (فَلَا شَيْء لَهُ، وَرُوِيَ
(فَلَا شَيْء عَلَيْهِ) ، وَرُوِيَ: (فَلَا أجر لَهُ) .
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة: فَلَا أجر لَهُ، خطأ
فَاحش، وَالصَّحِيح: فَلَا شَيْء لَهُ، وَرَوَاهُ ابْن أبي
شيبَة فِي (مُصَنفه) بِلَفْظ: (فَلَا صَلَاة لَهُ) . فَإِن
قلت: روى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) هَذَا الحَدِيث وعده من
مُنكرَات صَالح، ثمَّ أسْند إِلَى شُعْبَة أَنه كَانَ لَا
يروي عَنهُ وَينْهى عَنهُ، وَإِلَى مَالك: لَا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَة، وَإِلَى
النَّسَائِيّ أَنه قَالَ فِيهِ: ضَعِيف، وَقَالَ ابْن
حبَان فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : اخْتَلَط بِآخِرهِ وَلم
يتَمَيَّز حَدِيثه من قديمه فَاسْتحقَّ التّرْك، ثمَّ ذكر
لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّه بَاطِل، وَكَيف
يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد صلى على
سُهَيْل بن الْبَيْضَاء فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: صَالح مُخْتَلف فِي عَدَالَته، كَانَ مَالك
يجرحه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: أُجِيب عَن هَذَا بأجوبة.
أَحدهَا: أَنه ضَعِيف لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ، قَالَ
أَحْمد بن حَنْبَل: هَذَا حَدِيث ضَعِيف تفرد بِهِ صَالح
مولى التومة وَهُوَ ضَعِيف. الثَّانِي: أَن الَّذِي فِي
النّسخ الْمَشْهُورَة المسموعة من سنَن أبي دَاوُد: فَلَا
شَيْء عَلَيْهِ، فَلَا حجَّة فِيهِ. الثَّالِث: أَن
اللَّام فِيهِ بِمَعْنى: على، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن
أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) . أَي: فعلَيْهَا، جمعا
بَين الْأَحَادِيث. قلت: الْجَواب عَمَّا قَالُوهُ من
وُجُوه:
الأول: أَن أَبَا دَاوُد روى بِهَذَا الحَدِيث وَسكت
عَنهُ، فَهَذَا دَلِيل رِضَاهُ بِهِ، وَأَنه صَحِيح
عِنْده. الثَّانِي: أَن يحيى بن معِين الَّذِي هُوَ فيصل
فِي هَذَا الْبَاب قَالَ: صَالح ثِقَة إلاَّ أَنه اخْتَلَط
قبل مَوته، فَمن سمع مِنْهُ قبل ذَلِك فَهُوَ ثَبت حجَّة،
وَمِمَّنْ سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط: ابْن أبي ذِئْب
هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن
الْحَارِث بن أبي ذِئْب. الثَّالِث: قَالَ ابْن عبد الْبر:
مِنْهُم من يقبل عَن صَالح مَا رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي
ذِئْب خَاصَّة. الرَّابِع: أَن غَالب مَا ذكر فِيهِ تحامل
من ذَلِك قَول النَّوَوِيّ: إِن الَّذِي فِي النّسخ
الْمَشْهُورَة المسموعة من سنَن أبي دَاوُد: فَلَا شَيْء
عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يردهُ قَول الْخَطِيب الْمَحْفُوظ:
(فَلَا شَيْء لَهُ) وَقَول السرُوجِي؛ وَفِي الاسرار
(فَلَا صَلَاة لَهُ) وَفِي المرغيناني: (فَلَا أجر لَهُ)
وَلم يذكر ذَلِك فِي كتب الحَدِيث يردهُ مَا ذَكرْنَاهُ من
رِوَايَة ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : (فَلَا صَلَاة
لَهُ) . وَقَالَ الْخَطِيب: (فَلَا أجر لَهُ) فلعدم إطلاعه
فِي هَذَا الْموضع جازف فِيهِ، وَمن تحاملهم جعل: اللَّام،
بِمَعْنى: على، بالتحكم من غير دَلِيل وَلَا دَاع إِلَى
ذَلِك، وَلَا سِيمَا أَن الْمجَاز عِنْدهم ضَرُورِيّ لَا
يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة، فَلَا ضررة
هَهُنَا. وَأقوى مَا يرد كَلَامه هَذَا رِوَايَة ابْن أبي
شيبَة:
(8/20)
(فَلَا صَلَاة لَهُ) ، فَلَا يُمكن لَهُ
أَن يَقُول: اللَّام، بِمَعْنى: على، لفساد الْمَعْنى.
الْخَامِس: أَن قَول ابْن حبَان: هَذَا بَاطِل، جرْأَة
مِنْهُ على تبطيل الصَّوَاب، فَكيف يَقُول هَذَا القَوْل
وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسكت عَنهُ؟ فَأَقل الْأَمر
أَنه عِنْده حسن لِأَنَّهُ رَضِي بِهِ، وحاشاه من أَن يرضى
بِالْبَاطِلِ. السَّادِس: مَا قَالَه الجهبذ النقاد
الإِمَام أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله،
مُلَخصا، وَهِي أَن الرِّوَايَات لما اخْتلفت عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب يحْتَاج
إِلَى الْكَشْف ليعلم الْمُتَأَخر مِنْهَا، فَيجْعَل
نَاسِخا لما تقدم، فَحَدِيث عَائِشَة إِخْبَار عَن فعل
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال الْإِبَاحَة
الَّتِي لم يتقدمها شَيْء، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة
إِخْبَار عَن نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الَّذِي تقدمه الْإِبَاحَة، فَصَارَ نَاسِخا لحَدِيث
عَائِشَة، وإنكار الصَّحَابَة عَلَيْهَا مِمَّا يُؤَكد
ذَلِك. فَإِن قلت: من أَي قبيل يكون هَذَا النّسخ؟ قلت: من
قبيل النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد
النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة، فَفِي
مثل هَذَا يتَعَيَّن الْمصير إِلَى النَّص الْمُوجب للحظر،
لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، والحظر طَار
عَلَيْهَا، فَيكون مُتَأَخِّرًا. فَإِن قلت: فَلم لَا
يَجْعَل بِالْعَكْسِ؟ قلت: لِئَلَّا يلْزم النّسخ
مرَّتَيْنِ، وَهَذَا ظَاهر. فَإِن قلت: لَيْسَ بَين
الْحَدِيثين مُنَافَاة فَلَا تعَارض فَلَا يحْتَاج إِلَى
التَّوْفِيق؟ قلت: ظهر لَك صِحَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة؟
بالوجوه الَّتِي ذَكرنَاهَا فَثَبت التَّعَارُض (فَإِن
قلت) مُسلم أخرج حَدِيث عَائِشَة وَلم يخرج حَدِيث أبي
هُرَيْرَة قلت: لَا يلْزم من ترك مُسلم تَخْرِيجه عدم
صِحَّته، لِأَنَّهُ لم يلْتَزم بِإِخْرَاج كل مَا صَحَّ
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ
البُخَارِيّ، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك وَأَن حَدِيث أبي
هُرَيْرَة لَا يَخْلُو من كَلَام، فَكَذَلِك حَدِيث
عَائِشَة لَا يَخْلُو عَن كَلَام، لِأَن جمَاعَة من
الْحفاظ مثل الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره عابوا على مُسلم
تَخْرِيجه إِيَّاه مُسْندًا، لِأَن الصَّحِيح أَنه مُرْسل
كَمَا رَوَاهُ مَالك والماجشون عَن أبي النَّضر عَن
عَائِشَة مُرْسلا، والمرسل لَيْسَ بِحجَّة عِنْدهم. وَقد
أول بعض أَصْحَابنَا حَدِيث عَائِشَة بِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا صلى فِي الْمَسْجِد بِعُذْر مطر.
وَقيل: بِعُذْر الِاعْتِكَاف، وعَلى كل: تَقْدِير
الصَّلَاة على الْجِنَازَة خَارج الْمَسْجِد أولى وَأفضل،
بل أوجب، لِلْخُرُوجِ عَن الْخلاف، لَا سِيمَا فِي بَاب
الْعِبَادَات. وَلِأَن الْمَسْجِد بني لأَدَاء الصَّلَوَات
المكتوبات فَيكون غَيرهَا فِي خَارج الْمَسْجِد أولى
وَأفضل. فَإِن قلت: قَالُوا: خُرُوج النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، من الْمَسْجِد إِلَى الْمصلى كَانَ
لِكَثْرَة الْمُصَلِّين وللإعلام. قلت: نَحن أَيْضا نقُول
صلَاته فِي الْمَسْجِد كَانَ للمطر أَو للاعتكاف كَمَا
ذكرنَا.
الْوَجْه الثَّالِث فِيهِ: دَلِيل على أَن سنة هَذِه
الصَّلَاة الصَّفّ كَسَائِر الصَّلَوَات، وروى
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مَالك بن هُبَيْرَة، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى عَلَيْهِ
ثَلَاثَة صُفُوف فقد أوجب) ، مَعْنَاهُ: وَجَبت لَهُ
الْجنَّة، أَو وَجَبت لَهُ الْمَغْفِرَة، وروى
النَّسَائِيّ من رِوَايَة الحكم بن فروخ، قَالَ: صلى بِنَا
أَبُو الْمليح على حنازة فظننا أَنه كبر، فَأقبل علينا
بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أقِيمُوا صفوفكم ولتحسن شفاعتكم،
وَقَالَ أَبُو الْمليح: حَدثنِي عبد الله عَن إِحْدَى
أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَهِي مَيْمُونَة زوج النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: أَخْبرنِي النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا من ميت يُصَلِّي عَلَيْهِ
أمة من النَّاس إلاَّ شفعوا فِيهِ، فَسَأَلت أَبَا الْمليح
عَن الْأمة، قَالَ: أَرْبَعُونَ.
الْوَجْه الرَّابِع فِيهِ: حجَّة لمن جوز الصَّلَاة على
الْغَائِب، وَمِنْهُم الشَّافِعِي وَأحمد. قَالَ
النَّوَوِيّ: فَإِن كَانَ الْمَيِّت فِي الْبَلَد
فَالْمَذْهَب أَنه لَا يجوز أَن يصلى عَلَيْهِ حَتَّى يحضر
عِنْده، وَقيل: يجوز، وَفِي الرَّافِعِيّ: يَنْبَغِي أَن
لَا يكون بَين الإِمَام وَالْمَيِّت أَكثر من مِائَتي
ذِرَاع، أَو ثلثمِائة تَقْرِيبًا.
فرع: عِنْدهم: لَو صلى على الْأَمْوَات الَّذين مَاتُوا
فِي قَرْيَة وغسلوا فِي الْبَلَد الْفُلَانِيّ، وَلَا يعرف
عَددهمْ، جَازَ. قَالَه فِي (الْبَحْر) . قَالَ فِي
(التَّوْضِيح) : وَهُوَ صَحِيح، لَكِن لَا يخْتَص بِبَلَد،
وَقَالَ الْخطابِيّ: النَّجَاشِيّ رجل مُسلم قد آمن
برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدقه على ثُبُوته
إلاَّ أَنه كَانَ يكتم إيمَانه، وَالْمُسلم إِذا مَاتَ
وَجب على الْمُسلمين أَن يصلوا عَلَيْهِ، إلاَّ أَنه كَانَ
بَين ظهراني أهل الْكفْر وَلم يكن بِحَضْرَتِهِ من يقوم
بِحقِّهِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَلَزِمَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يفعل ذَلِك، إِذْ هُوَ نبيه
ووليه وأحق النَّاس بِهِ، فَهَذَا وَالله أعلم هُوَ
السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ بِظهْر
الْغَيْب، فعلى هَذَا إِذا مَاتَ الْمُسلم بِبَلَد من
الْبلدَانِ وَقد قضى حَقه من الصَّلَاة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ
لَا يصلى عَلَيْهِ من كَانَ بِبَلَد آخر غَائِبا عَنهُ،
فَإِن علم أَنه لم يصل عَلَيْهِ لعائق أَو مَانع عذر كَانَ
السّنة
(8/21)
أَن يصلى عَلَيْهِ وَلَا يتْرك ذَلِك لبعد
الْمسَافَة، فَإِذا صلوا عَلَيْهِ استقبلوا الْقبْلَة وَلم
يتوجهوا إِلَى بلد الْمَيِّت إِن كَانَ فِي غير جِهَة
الْقبْلَة، وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى كَرَاهَة
الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب، وَزَعَمُوا أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَخْصُوصًا
بِهَذَا الْفِعْل، إِذْ كَانَ فِي حكم الْمشَاهد للنجاشي
لما رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار أَنه قد سويت لَهُ الأَرْض
حَتَّى يبصر مَكَانَهُ، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد، لِأَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا فعل شَيْئا من
أَفعَال الشَّرِيعَة كَانَ علينا اتِّبَاعه والأيتساء
بِهِ، والتخصيص لَا يعلم إلاَّ بِدَلِيل، وَمِمَّا يبين
ذَلِك أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج بِالنَّاسِ
إِلَى الصَّلَاة، فَصف بهم وصلوا مَعَه، فَعلم أَن هَذَا
التَّأْوِيل فَاسد. قلت: هَذَا التشنيع كُله على
الْحَنَفِيَّة من غير تَوْجِيه وَلَا تَحْقِيق، فَنَقُول:
مَا يظْهر لَك فِيهِ دفع كَلَامه، وَهُوَ أَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رفع سَرِيره فَرَآهُ، فَتكون
الصَّلَاة عَلَيْهِ كميت رَآهُ الإِمَام وَلَا يرَاهُ
الْمَأْمُوم. فَإِن قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى نقل يُبينهُ،
وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال. قلت: ورد
مَا يدل على ذَلِك، فروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من
حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِن أَخَاكُم النَّجَاشِيّ توفّي،
فَقومُوا صلوا عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وصفوا خَلفه فَكبر أَرْبعا وهم يظنون أَن
جنَازَته بَين يَدَيْهِ، وَجَوَاب آخر: أَنه من بَاب
الضَّرُورَة، لِأَنَّهُ مَاتَ بِأَرْض لم تقم فِيهَا
عَلَيْهِ فَرِيضَة الصَّلَاة، فَتعين فرض الصَّلَاة
عَلَيْهِ لعدم من يُصَلِّي عَلَيْهِ ثمَّة، وَيدل على
ذَلِك أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصل على
غَائِب غَيره، وَقد مَاتَ من الصَّحَابَة خلق كثير وهم
غائبون عَنهُ، وَسمع بهم فَلم يصل عَلَيْهِم إلاَّ غَائِبا
وَاحِدًا ورد أَنه طويت لَهُ الأَرْض حَتَّى حَضَره
وَهُوَ: مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ، روى حَدِيثه
الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) وَكتاب (مُسْند
الشاميين) : حَدثنَا عَليّ بن سعيد الرَّازِيّ حَدثنَا نوح
بن عُمَيْر بن حوى السكْسكِي حَدثنَا بَقِيَّة بن
الْوَلِيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي (عَن أبي
أُمَامَة، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بتبوك فَنزل عَلَيْهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن
مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ، أَتُحِبُّ أَن تطوى لَك الأَرْض
فَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، فَضرب بجناحه على
الأَرْض وَرفع لَهُ سَرِيره فصلى عَلَيْهِ وَخَلفه صفان من
الْمَلَائِكَة، فِي كل صف سَبْعُونَ ألف ملك، ثمَّ رَجَعَ،
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجبريل،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: بِمَ أدْرك هَذَا؟ قَالَ:
بحبه سُورَة: قل هُوَ الله أحد، وقراءته إِيَّاهَا جاثيا
وذاهبا وَقَائِمًا وَقَاعِدا وعَلى كل حَال) . انْتهى.
فَإِن قلت: قد صلى على اثْنَيْنِ أَيْضا وهما غائبان وهما
زيد بن حَارِثَة وجعفر بن أبي طَالب، ورد عَنهُ أَنه كشف
لَهُ عَنْهُمَا أخرجه الْوَاقِدِيّ فِي كتاب (الْمَغَازِي)
فَقَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن صَالح عَن عَاصِم بن عمر بن
قَتَادَة، وحَدثني عبد الْجَبَّار بن عمَارَة عَن عبد الله
بن أبي بكر، قَالَا: لما التقى النَّاس بمؤتة جلس رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر وكشف لَهُ
مَا بَينه وَبَين الشَّام، فَهُوَ ينظر إِلَى معتركهم،
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَخذ الرَّايَة زيد بن
حَارِثَة فَمضى حَتَّى اسْتشْهد، وَصلى عَلَيْهِ ودعا
لَهُ: وَقَالَ: اسْتَغْفرُوا لَهُ وَقد دخل الْجنَّة
وَهُوَ يسْعَى ثمَّ أَخذ الرَّايَة جَعْفَر بن أبي طَالب
فَمضى حَتَّى اسْتشْهد، فصلى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ودعا لَهُ، وَقَالَ: اسْتَغْفرُوا
لَهُ وَقد دخل الْجنَّة، فَهُوَ يطير فِيهَا بجناحيه
حَيْثُ شَاءَ. قلت: هُوَ مُرْسل من الطَّرِيقَيْنِ
الْمَذْكُورين، والمرسل لَيْسَ بِحجَّة، على أَنهم
يَقُولُونَ: فِي الْوَاقِدِيّ مقَال، وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) فِي معرض التحامل: وَمن ادّعى أَن الأَرْض
طويت لَهُ حَتَّى شَاهده لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَإِن
كَانَت الْقُدْرَة صَالِحَة لذَلِك. قلت: كَأَنَّهُ لم
يطلع على مَا رَوَاهُ ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ، وَقد
ذَكرْنَاهُ الْآن، وَوَقع فِي كَلَام ابْن بطال تَخْصِيص
ذَلِك بالنجاشي، فَقَالَ: بِدَلِيل إطباق الْأمة على ترك
الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ: وَلم أجد لأحد من
الْعلمَاء إجَازَة الصَّلَاة على الْغَائِب إلاَّ مَا ذكره
ابْن زيد عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة فَإِنَّهُ
قَالَ: إِذا استؤذن أَنه غرق أَو قتل أَو أكله السبَاع
وَلم يُوجد مِنْهُ شَيْء صلى عَلَيْهِ، كَمَا فعل
بالنجاشي، وَبِه قَالَ ابْن حبيب، وَقَالَ ابْن عبد الْبر:
أَكثر أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن ذَلِك مَخْصُوص بِهِ،
وَأَجَازَهُ بَعضهم إِذا كَانَ فِي يَوْم الْمَوْت أَو
قريب مِنْهُ، وَفِي (المُصَنّف) عَن الْحسن إِنَّمَا دَعَا
لَهُ وَلم يصل.
الْوَجْه الْخَامِس: فِي أَن التَّكْبِير على الْجِنَازَة
أَرْبَعَة، وَصرح بذلك فِي الحَدِيث وَهُوَ آخر مَا
اسْتَقر عَلَيْهِ أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
ابْن أبي ليلى: يكبر خمْسا، وَإِلَيْهِ ذهب الشِّيعَة.
وَقيل: ثَلَاثًا، قَالَه بعض الْمُتَقَدِّمين، وَقيل:
أَكْثَره سبع وَأقله ثَلَاث، ذكره القَاضِي أَبُو
مُحَمَّد، وَقيل: سِتّ، ذكره ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن أَحْمد: لَا ينقص من
أَربع وَلَا يُزَاد على سبع. وَقَالَ ابْن
(8/22)
مَسْعُود: يكبر مَا كبر إِمَامه، وروى
مُسلم من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. قَالَ: كَانَ
زيد بن أَرقم يكبر على جنائزنا خمْسا، فَسَأَلته، فَقَالَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبرها،
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن
مَاجَه والطَّحَاوِي، وَقَالَ: ذهب قوم إِلَى أَن
التَّكْبِير على الْجَنَائِز خمس، وَأخذُوا بِهَذَا
الحَدِيث. قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: عبد الرَّحْمَن
بن أبي ليلى، وَعِيسَى مولى حُذَيْفَة وَأَصْحَاب معَاذ بن
جبل وَأَبا يُوسُف من أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَإِلَيْهِ
ذهبت الظَّاهِرِيَّة والشيعة. وَفِي (الْمَبْسُوط) وَهِي
رِوَايَة عَن أبي يُوسُف، وَقَالَ الْحَازِمِي: وَمِمَّنْ
رأى التَّكْبِير على الْجِنَازَة خمْسا ابْن مَسْعُود
وَزيد بن أَرقم وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان. وَقَالَ فرقة:
يكبر سبعا، رُوِيَ ذَلِك عَن ذَر بن حُبَيْش. وَقَالَ
فرقة: يكبر ثَلَاثًا روى ذَلِك عَن أنس وَجَابِر بن زيد،
وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ. قلت:
أَرَادَ بهم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَعَطَاء بن أبي
رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وسُويد بن غَفلَة
وَالثَّوْري وَأَبا حنيفَة ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَأَبا مجلز لَاحق بن حميد، ويحكى ذَلِك عَن عمر بن
الْخطاب وَابْنه عبد الله وَزيد بن ثَابت وَجَابِر وَابْن
أبي أوفى وَالْحسن بن عَليّ والبراء بن عَازِب، وَأبي
هُرَيْرَة وَعقبَة بن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
وَلم يذكر التَّسْلِيم هُنَا فِي حَدِيث النَّجَاشِيّ.
وَذكر فِي حَدِيث سعيد ابْن الْمسيب رِوَايَة ابْن حبيب
عَن مطرف عَن مَالك، وَاسْتَغْرَبَهُ ابْن عبد الْبر،
قَالَ: إِلَّا أَنه لَا خلاف عَلمته بَين الْعلمَاء من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ من الْفُقَهَاء
فِي السَّلَام، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا: هَل هِيَ وَاحِدَة
أَو اثْنَتَانِ؟ فالجمهور على تَسْلِيمَة وَاحِدَة، وَهُوَ
أحد قولي الشَّافِعِي، وَقَالَت طَائِفَة: تسليمتان،
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَهُوَ قَول
الشّعبِيّ، وَرِوَايَة عَن إِبْرَاهِيم، وَمِمَّنْ رُوِيَ
عَنهُ وَاحِدَة: عمر وَابْنه عبد الله وَعلي وَابْن
عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَأنس وَابْن أبي أوفى
وواثلة وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَجَابِر بن زيد
وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَمَكْحُول وَإِبْرَاهِيم فِي
رِوَايَة. وَقَالَ الْحَاكِم: صحت الرِّوَايَة فِي
الْوَاحِدَة عَن عَليّ وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر
وَأبي هُرَيْرَة وَابْن أبي أوفى أَنهم كَانُوا يسلمُونَ
تَسْلِيمَة وَاحِدَة، وَقَالَ ابْن التِّين: وَسَأَلَ
أَشهب مَالِكًا: أتكره السَّلَام فِي صَلَاة الْجَنَائِز؟
قَالَ: لَا، وَقد كَانَ ابْن عمر يسلم. قَالَ: فاستناد
مَالك إِلَى فعل ابْن عمر دَلِيل على أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يسلم فِي صلَاته على النَّجَاشِيّ وَلَا
على غَيره.
6421 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ
عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخَذَ الرَّايةَ
زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ
أخَذَهَا عَبْدُ الله بنُ رَوَاحَةَ فأُصِيبَ وَإنَّ
عَيْنَيْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَتَذْرِفَانِ ثُمَّ أخَذَهَا خالِدُ بنُ الوَلِيدِ منْ
غَيْرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (أَخذ الرَّايَة زيد. .) إِلَى آخِره نعى
مِنْهُ إِلَيْهِم، لِأَنَّهُ أخبر بموتهم. غَايَة مَا فِي
الْبَاب أَنه صرح بالنعي فِي الحَدِيث السَّابِق وَهَهُنَا
ذكره بِالْمَعْنَى، وَصرح بالنعي فِي عَلَامَات
النُّبُوَّة حَيْثُ قَالَ: (إِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نعى زيدا وجعفرا. .) الحَدِيث.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَمعمر، بِفَتْح الميمين:
عبد الله بن عَمْرو المقعد، وَعبد الْوَارِث ابْن سعيد
وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي الْجِهَاد
عَن يُوسُف بن يَعْقُوب وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم فرقهما،
وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب
وَفِي فضل خَالِد وَفِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد بن وَاقد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَخذ الرَّايَة زيد) ، وقصته فِي
غَزْوَة مُؤْتَة، وَهِي مَوضِع فِي أَرض البلقاء من
أَطْرَاف الشَّام، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أرسل سَرِيَّة فِي جُمَادَى الأولى من سنة ثَمَان،
وَاسْتعْمل عَلَيْهِم زيد بن حَارِثَة، وَقَالَ: إِن
أُصِيب زيد فجعفر ابْن أبي طَالب على النَّاس، فَإِن
أُصِيب جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة على النَّاس،
فَخَرجُوا وهم ثَلَاثَة آلَاف فتلاقوا مَعَ الْكفَّار
فَاقْتَتلُوا فَقتل زيد بن حَارِثَة ثمَّ أَخذ الرَّايَة
جَعْفَر بن أبي طَالب فقاتل بهَا حَتَّى قتل، ثمَّ أَخذهَا
عبد الله بن رَوَاحَة فقاتل بهَا حَتَّى قتل، ثمَّ أَخذهَا
خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَفتح
الله على يَدَيْهِ. وَعَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نعى زيدا
(8/23)
وجعفرا وَابْن رَوَاحَة للنَّاس قبل أَن
يَأْتِيهم خبر، وَلما أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بخبرهم حَتَّى قَالَ: ثمَّ أَخذ الرَّايَة سيف من
سيوف الله حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم، وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ عَن ابْن عمر: فالتمسنا جَعْفَر بن أبي طَالب
فوجدناه فِي الْقَتْلَى، وَوجدنَا فِي جسده بضعا وَسبعين
من طعنة ورمية، وَعَن خَالِد: لقد انْقَطَعت فِي يَدي
يَوْم مُؤْتَة تِسْعَة أسياف فَمَا بَقِي فِي يديّ إلاَّ
صفيحة يَمَانِية، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَزيد هُوَ ابْن
حَارِثَة بن شرَاحِيل بن كَعْب الْكَلْبِيّ الْقُضَاعِي
مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْتقهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتبناه، وَلم يذكر الله
تَعَالَى أحدا من الصَّحَابَة فِي الْقُرْآن باسمه الْخَاص
إلاَّ زيدا، قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد
مِنْهَا وطرا} (الْأَحْزَاب: 73) . وجعفر ابْن أبي طَالب
الْهَاشِمِي الطيار ذُو الجناحين، وَهُوَ صَاحب الهجرتين،
الْجواد ابْن الْجواد، وَكَانَ أَمِير الْمُهَاجِرين إِلَى
الْحَبَشَة. وَعبد الله بن رَوَاحَة، بِفَتْح الرَّاء
وَتَخْفِيف الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الخزرجي
الْمدنِي، أحد النُّقَبَاء لَيْلَة الْعقبَة. قَوْله:
(لتذرفان) اللَّام للتَّأْكِيد، وتذرفان، بِالذَّالِ
الْمُعْجَمَة من: ذرفت عينه إِذا سَالَ مِنْهَا الدمع.
قَوْله: (من غير إمرة) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْمِيم
وَفتح الرَّاء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل النُّبُوَّة
لِأَنَّهُ أخبر بأصابتهم فِي الْمَدِينَة وهم بمؤتة،
وَكَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه:
جَوَاز الْبكاء على الْمَيِّت. وَفِيه: أَن الرَّحْمَة
الَّتِي تكون فِي الْقلب محمودة. وَفِيه: جَوَاز تولي أَمر
الْقَوْم من غير تَوْلِيَة إِذا خَافَ ضيَاعه وَحُصُول
الْفساد بِتَرْكِهِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: لما نظر خَالِد
بعد مَوْتهمْ وَهُوَ فِي ثغر مخوف وبإزاء عَدو عَددهمْ جم
وبأسهم شَدِيد خَافَ ضيَاع الْأَمر وهلاك من مَعَه من
الْمُسلمين، فتصدى للإمارة عَلَيْهِم وَأخذ الرَّايَة من
غير تأمير وَقَاتل إِلَى أَن فتح الله على الْمُسلمين،
فَرضِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله، إِذْ
وَافق الْحق، وَإِن لم يكن من رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذن وَلَا من الْقَوْم الَّذين مَعَه
بيعَة وتأمير، فَصَارَ هَذَا أصلا فِي الضرورات إِذا وَقعت
من معاظم أَمر الدّين فِي أَنَّهَا لَا تراعى فِيهَا
شَرَائِط أَحْكَامهَا عِنْد عدم الضَّرُورَة، وَكَذَا فِي
حُقُوق آحَاد أَعْيَان النَّاس، مثل أَن يَمُوت رجل بفلاة
وَقد خلف تَرِكَة، فَإِن على من شهده حفظ مَاله وإيصاله
إِلَى أَهله وَإِن لم يوص المتوفي بذلك فَإِن النَّصِيحَة
وَاجِبَة للْمُسلمين. وَفِيه: أَيْضا جَوَاز دُخُول الْخطر
فِي الوكالات وتعليقها بالشرائط.
5 - (بابُ الإذنِ بِالجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِذْن، بِكَسْر الْهمزَة،
وَالْمرَاد الْعلم بهَا، ويروى: بَاب الْأَذَان أَي:
الْإِعْلَام بهَا. وَقيل: بَاب الآذان، بِمد الْهمزَة
وَكسر الذَّال على وزن الْفَاعِل، وَهُوَ الَّذِي يُؤذن
بالجنازة أَي: يعلم بهَا بِأَنَّهَا تهيأت، وَالْفرق بَين
هَذِه التَّرْجَمَة والترجمة الَّتِي قبلهَا أَن الأولى
إِعْلَام وَلَيْسَ لَهُ علم بِالْمَيتِ، وَهَذِه إِعْلَام
من أعلم يتهيء أمره.
وقالَ أبُو رافِعٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا
آذَنْتُمُونِي
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو رَافع الصَّائِغ
اسْمه: نفيع، بِضَم النُّون، وَهُوَ طرف حَدِيث أخرجه فِي:
بَاب كنس الْمَسْجِد والتقاط الْخرق، حَدثنَا سُلَيْمَان
بن حَرْب، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن ثَابت عَن
أبي رَافع (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رجلا أسود، أَو
امْرَأَة سَوْدَاء، كَانَ يقم الْمَسْجِد فَمَاتَ،
فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ
فَقَالُوا: مَاتَ، فَقَالَ: أَفلا كُنْتُم آذنتموني بِهِ؟
دلوني على قَبره أَو على قبرها فَأتى قَبره فصلى
عَلَيْهَا) . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
7421 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا أبُو مُعَاوِيَةَ
عنْ أبِي إسْحَاقَ الشَّيْبَانِي عنِ الشَّعْبِيَّ عنِ
ابنِ عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ ماتَ
إنْسَانٌ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَعُودُهُ فَمَاتَ باللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلاً فلَمَّا
أصْبَحَ أخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا منَعَكُمْ أنْ
تُعْلِمُونِي قالُوا كانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا وكانَتْ
ظُلْمَةٌ أنَّ نَشُقَّ عَلَيْكَ فأتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى
عَليهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا منعكم أَن
تعلموني؟) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام أَو
ابْن الْمثنى
(8/24)
لِأَن كلا مِنْهُمَا روى عَن أبي
مُعَاوِيَة، وَلَكِن جزم أَبُو عَليّ بن السكن فِي
رِوَايَته عَن الْفربرِي أَنه مُحَمَّد بن سَلام.
الثَّانِي: أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ
الْمُعْجَمَة وَالزَّاي: الضَّرِير. الثَّالِث: أَبُو
إِسْحَاق بن أبي سُلَيْمَان فَيْرُوز الشَّيْبَانِيّ،
بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل
الشّعبِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده،
وَهُوَ البيكندي البُخَارِيّ، وَبَقِيَّة الروَاة كوفيون.
وَفِيه: ذكر شَيْخه بِلَا نِسْبَة وإثنان بالكنية وَوَاحِد
بِالنِّسْبَةِ إِلَى شعب بطن من هَمدَان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر، وَفِي
الْجَنَائِز عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَسليمَان بن حَرْب
وحجاج بن منهال، فرقهم أربعتهم عَن شُعْبَة، وَفِيه عَن
مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد وَعَن عُثْمَان
بن أبي شيبَة عَن جرير وَعَن مُحَمَّد وَعَن أبي
مُعَاوِيَة هُنَا وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن يحيى
بن أبي بكير عَن زَائِدَة، خمستهم عَن أبي إِسْحَاق
الشَّيْبَانِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز
عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن الْحسن بن الرّبيع وَأبي
كَامِل الجحدري وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبيد
الله بن معَاذ وَعَن الْحسن بن الرّبيع وَمُحَمّد بن عبد
الله بن نمير وَعَن يحيى ابْن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن
حَاتِم وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَهَارُون بن عبد
الله وَعَن أبي غَسَّان، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
مُحَمَّد ابْن الْعَلَاء، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب
بن إِبْرَاهِيم وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد.
ذكر اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ: وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ:
(فَقَالَ: مَتى دفن؟ فَقَالُوا: البارحة) . وَفِي لفظ
مُسلم: (انْتهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
قبر رطب) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: روى هريم بن سُفْيَان
عَن الشّعبِيّ (فَقَالَ: بعد مَوته بِثَلَاث لَيَال) ،
وروى عَن إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّاء عَن الشَّيْبَانِيّ،
(فَقَالَ: صلى على قَبره بعد مَا دفن بليلتين) ، وَرَوَاهُ
بشر بن آدم وَغَيره عَن أبي عَاصِم عَن سُفْيَان عَن
الشَّيْبَانِيّ: (صلى على قبر بعد شهر) . وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بِهَذَا بشر بن آدم وَخَالفهُ عَن
أبي عَاصِم وَهُوَ الْعَبَّاس بن مُحَمَّد، فَقَالَ: (صلى
على قبر بَعْدَمَا دفن) ، وروى التِّرْمِذِيّ
بِإِسْنَادِهِ عَن سعيد بن الْمسيب: (أَن أم سعد مَاتَت
وَالنَّبِيّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَائِب، فَلَمَّا
قدم صلى عَلَيْهَا وَقد مضى لذَلِك شهر) . وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: (قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: (أَكثر مَا
سمعنَا عَن ابْن الْمسيب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صلى على قبر أم سعد بن عبَادَة بعد شهر) . فَإِن
قلت: قد وَردت الصَّلَاة على الْقَبْر بعد سنة فِيمَا
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من رِوَايَة أبي معبد بن
معبد بن أبي قَتَادَة أَن الْبَراء بن معْرور كَانَ أول من
اسْتقْبل الْقبْلَة وَكَانَ أحد السّبْعين النُّقَبَاء
فَقدم الْمَدِينَة قبل أَن يُهَاجر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَجعل يُصَلِّي نَحْو الْقبْلَة، فَلَمَّا
حَضرته الْوَفَاة أوصى بِثلث مَاله لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يَضَعهُ حَيْثُ يَشَاء، وَقَالَ: وجهوني
إِلَى الْقبْلَة فِي قَبْرِي، فَقدم النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بعد سنة فصلى عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابه،
ورد ثلث مِيرَاثه على وَلَده. قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ
بعد رِوَايَته: كَذَا وجدت فِي كتابي، وَالصَّوَاب: بعد
شهر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَاتَ إِنْسَان كَانَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ) قيل: الْإِنْسَان هَذَا
هُوَ: طَلْحَة بن الْبَراء ابْن عُمَيْر البلوي، حَلِيف
الْأَنْصَار، وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عُرْوَة بن
سعيد الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه (عَن حُصَيْن بن وحوح
الْأنْصَارِيّ: أَن طَلْحَة بن الْبَراء مرض فَأَتَاهُ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ، فَقَالَ: إِنِّي
لَا أرى طَلْحَة إلاَّ قد حدث فِيهِ الْمَوْت، فآذنوني
بِهِ وعجلوا، فَلم يبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بني سَالم بن عَوْف حَتَّى توفّي، وَكَانَ قَالَ لأَهله
لما دخل اللَّيْل: إِذا مت فادفنوني وَلَا تَدْعُو رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْهِ
يهود أَن يصاب بسببي، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حِين أصبح، فجَاء حَتَّى وقف على قَبره فَصف النَّاس
مَعَه ثمَّ رفع يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إلق طَلْحَة
يضْحك إِلَيْك وتضحك إِلَيْهِ) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد
مُخْتَصرا من حَدِيث الْحصين بن وحوح: (أَن طَلْحَة بن
الْبَراء مرض فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يعودهُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أرى طَلْحَة إلاَّ قد حدث بِهِ
الْمَوْت، فآذنوني بِهِ وعجلوا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي
لجيفة مُسلم أَن تحبس بَين ظهراني أَهله. .) وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : إِن هَذَا الْإِنْسَان هُوَ الْمَيِّت
الْمَذْكُور
(8/25)
فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي يقم
الْمَسْجِد. قيل: وَهَذَا وهم، لِأَن الصَّحِيح فِي حَدِيث
أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا امْرَأَة يُقَال لَهَا: أم محجن.
قَوْله: (فَلَمَّا أصبح) أَي: دخل رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي الصَّباح. قَوْله: (وَكَانَ اللَّيْل)
بِرَفْع اللَّيْل، وَكَانَ تَامَّة، وَكَذَا كَانَ فِي:
(كَانَت ظلمَة) . قَوْله: (أَن نشق) ، كلمة أَن
مَصْدَرِيَّة أَي: كرهنا الْمَشَقَّة عَلَيْهِ. وَقَوله:
(وَكَانَت ظلمَة) ، جملَة مُعْتَرضَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: عِيَادَة الْمَرِيض،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً، وَفِيه: جَوَاز دفن
الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث
عَطاء (عَن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
دخل قبرا لَيْلًا فأسرج لَهُ بسراج، فَأخذ من قبل
الْقبْلَة وَقَالَ: رَحِمك الله إِن كنت لأواها تلاءً
لِلْقُرْآنِ، وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا) ، ثمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَرخّص أَكثر أهل الْعلم فِي الدّفن
بِاللَّيْلِ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (المُصَنّف)
بِإِسْنَادِهِ (عَن أبي ذَر، قَالَ: كَانَ رجل يطوف
بِالْبَيْتِ يَقُول: أوه أوه. قَالَ أَبُو ذَر: فَخرجت
لَيْلَة فَإِذا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
الْمَقَابِر يدْفن ذَلِك الرجل وَمَعَهُ مِصْبَاح) .
وَفِيه: الْأذن بالجنازة والإعلام بِهِ، وَقد مر بَيَانه
مَعَ الْخلاف فِيهِ. وَفِيه: تَعْجِيل الْجِنَازَة،
فَإِنَّهُم ظنُّوا أَن ذَلِك آكِد من إيذانه. وَفِيه:
جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر وَفِيه خلاف، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل على هَذَا، أَي: الصَّلَاة على
الْقَبْر عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: لَا يصلى على
الْقَبْر، وَهُوَ قَول مَالك بن أنس، وَقَالَ عبد الله بن
الْمُبَارك: إِذا دفن الْمَيِّت وَلم يصل عَلَيْهِ صلى على
الْقَبْر. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: يصلى على الْقَبْر
إِلَى شهر، وَقَالَ ابْن التِّين: جُمْهُور أَصْحَاب مَالك
على الْجَوَاز خلافًا لأَشْهَب وَسَحْنُون فَإِنَّهُمَا
قَالَا: إِن نسي أَن يُصَلِّي على الْمَيِّت فَلَا
يُصَلِّي على قَبره وليدع لَهُ. وَقَالَ ابْن قَاسم
وَسَائِر أَصْحَابنَا: يصلى على الْقَبْر إِذا فَاتَت
الصَّلَاة على الْمَيِّت، فَإِذا لم تفت وَكَانَ قد صلي
عَلَيْهِ فَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن وهب عَن
مَالك: ذَلِك جَائِز، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَعبد الله
بن وهب وَابْن عبد الحكم وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد
وَسَائِر أَصْحَاب الحَدِيث، وكرهها النَّخعِيّ وَالْحسن،
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ
وَالْحسن بن حَيّ وَاللَّيْث بن سعد، قَالَ ابْن
الْقَاسِم: قلت لمَالِك: فَالْحَدِيث الَّذِي جَاءَ فِي
الصَّلَاة عَلَيْهِ؟ قَالَ: قد جَاءَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ
الْعَمَل، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَإِن دفن
الْمَيِّت وَلم يصل عَلَيْهِ صلي على قَبره، وَلَا يخرج
مِنْهُ وَيُصلي عَلَيْهِ مَا لم يعلم أَنه تفرق، هَكَذَا
فِي (الْمَبْسُوط) ؛ وَإِذا شكّ فِي ذَلِك نَص الْأَصْحَاب
على أَنه لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي
وَأحمد، وَهُوَ قَول عمر وَأبي مُوسَى وَعَائِشَة وَابْن
سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهل يشْتَرط فِي جَوَاز
الصَّلَاة على قَبره كَونه مَدْفُونا بعد الْغسْل؟
فَالصَّحِيح أَنه يشْتَرط، وروى ابْن سَمَّاعَة عَن
مُحَمَّد: أَنه لَا يشْتَرط، وَفِي (الْمُحِيط) : لَو صلى
عَلَيْهِ من لَا ولَايَة لَهُ عَلَيْهِ يُصَلِّي على
قَبره، وَيُصلي عَلَيْهِ قبل أَن يتفسخ، وَالْمُعْتَبر فِي
ذَلِك أكبر الرَّأْي، أَي: غَالب الظَّن، فَإِن كَانَ
غَالب الظَّن أَنه تفسخ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِن
كَانَ غَالب الظَّن أَنه لم يتفسخ يُصَلِّي عَلَيْهِ،
وَإِذا شكّ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَن أبي
يُوسُف: يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام
وَبعدهَا لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وللشافعية سِتَّة أوجه.
أَولهَا: إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام. ثَانِيهَا: إِلَى شهر،
كَقَوْل أَحْمد. ثَالِثهَا: مَا لم يبل جسده. رَابِعهَا:
يُصَلِّي عَلَيْهِ من كَانَ من أهل الصَّلَاة عَلَيْهِ
يَوْم مَوته. خَامِسهَا: يُصَلِّي عَلَيْهِ من كَانَ من
أهل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته. سادسها: يُصَلِّي
عَلَيْهِ أبدا، فعلى هَذَا تجوز الصَّلَاة على قُبُور
الصَّحَابَة وَمن قبلهم الْيَوْم، وَاتَّفَقُوا على
تَضْعِيفه، وَمِمَّنْ صرح بِهِ: الْمَاوَرْدِيّ والمحاملي
والفوراني وَالْبَغوِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزالِيّ. فَإِن قلت: فِي البُخَارِيّ عَن عقبَة بن
عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صلى على قَتْلَى أحد بعد ثَمَان سِنِين. قلت: أجَاب
السَّرخسِيّ فِي (الْمَبْسُوط) وَغَيره: أَن ذَلِك
مَحْمُول على الدُّعَاء، وَلكنه غير سديد، لِأَن
الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة بن عَامر أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته
على الْمَيِّت، وَالْجَوَاب السديد: أَن أَجْسَادهم لم
تبل.
6 - (بابُ فَضْلِ منْ ماتَ لَهُ وَلَدٌ فاحْتَسَبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من مَاتَ لَهُ ولد فاحتسب،
أَي: صَبر رَاضِيا بِقَضَاء الله تَعَالَى راجيا
لِرَحْمَتِهِ وغفرانه، والاحتساب من الْحسب، كالاعتداد من
الْعدَد، وَإِنَّمَا قيل لمن يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجه
الله: احتسبه، لِأَن لَهُ حِينَئِذٍ أَن يعْتد بِعَمَلِهِ،
فَجعل فِي حَال مُبَاشرَة الْفِعْل كَأَنَّهُ مُعْتَد
بِهِ، والاحتساب فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَعند
المكروهات هُوَ البدار إِلَى طلب الْأجر وتحصيله
بِالتَّسْلِيمِ وَالصَّبْر أَو بِاسْتِعْمَال أَنْوَاع
الْبر وَالْقِيَام بهَا على الْوَجْه المرسوم فِيهَا طلبا
للثَّواب المرجو مِنْهَا، وَإِنَّمَا ذكر لفظ الْوَلَد
ليتناول
(8/26)
الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْوَاحد فَمَا
فَوْقه. فَإِن قلت: أَحَادِيث الْبَاب ثَلَاثَة، وفيهَا
التَّقْيِيد بِثَلَاثَة واثنين؟ قلت: فِي بعض طرق الحَدِيث
الْوَارِد فِيهِ ذكر الْوَاحِد كَمَا ستقف عَلَيْهِ فِيمَا
نذكرهُ الْآن، لِأَنَّهُ روى فِي هَذَا الْبَاب عَن
جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم أَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن
مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ
ومعاذ بن جبل وَعتبَة بن عبد وَجَابِر بن عبد الله ومطرف
ابْن الشخير وَأنس بن مَالك وَأَبُو ذَر وَعبادَة بن
الصَّامِت وَأَبُو ثَعْلَبَة وَعقبَة بن عَامر وقرة بن
أياس الْمُزنِيّ وَعلي بن أبي طَالب وَأَبُو أُمَامَة
وَأَبُو مُوسَى والْحَارث بن وقيش وَجَابِر بن سَمُرَة
وَعَمْرو بن عبسة وَمُعَاوِيَة بن حيدة وَعبد الرَّحْمَن
بن بشير وَزُهَيْر بن عَلْقَمَة وَعُثْمَان بن أبي
الْعَاصِ وَعبد الله بن الزبير وَابْن النَّضر السّلمِيّ
وسفينة وحوشب بن طخمة والحسحاس بن بكر وَعبد الله بن عمر
وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَبُرَيْدَة وَأَبُو سَلمَة راعي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بَرزَة
الْأَسْلَمِيّ وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وحبيبة بنت سهل
وَأم سليم وَأم مُبشر وَرجل لم يسم رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم.
فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم
وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث عبد الله بن مَسْعُود عِنْد
التِّرْمِذِيّ عَن ابْنه أبي عُبَيْدَة عَنهُ، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قدم
ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث كَانُوا لَهُ حصنا حصينا.
قَالَ أَبُو ذَر: قدمت اثْنَيْنِ؟ قَالَ: وإثنين. قَالَ
أبي بن كَعْب سيد الْقُرَّاء: قدمت وَاحِدًا؟ قَالَ:
وواحدا، وَلَكِن إِنَّمَا ذَلِك عِنْد الصدمة الأولى) .
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَأَبُو
عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه. وَحَدِيث عبد الله ابْن
عَبَّاس عِنْد التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث سماك بن
الْوَلِيد الْحَنَفِيّ يحدث أَنه سمع ابْن عَبَّاس يحدث
أَنه سمع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول:
(من كَانَ لَهُ فرطان من أمتِي أدخلهُ الله بهما الْجنَّة،
فَقَالَت عَائِشَة: فَمن كَانَ لَهُ فرط من أمتك؟ فَقَالَ:
وَمن كَانَ لَهُ فرط يَا موفقة. قَالَت: فَمن لم يكن لَهُ
فرط من أمتك؟ قَالَ أَنا فرط أمتِي لن يصابوا بمثلي) .
وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَحَدِيث أبي سعيد
عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة
ذكروان عَنهُ على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَحَدِيث معَاذ عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (أوجب ذُو
الثَّلَاثَة. قَالُوا: وَذُو الْإِثْنَيْنِ يَا رَسُول
الله؟ قَالَ: وَذُو الْإِثْنَيْنِ. .) وَرَوَاهُ أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وروى ابْن مَاجَه عَنهُ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (وَالَّذِي
نَفسِي بِيَدِهِ إِن السقط ليجر أمه بسروره إِلَى الْجنَّة
إِذا احتسبته) . وَالسُّرُور بِفتْحَتَيْنِ هُوَ مَا تقطعه
الْقَابِلَة من السُّرَّة. وَحَدِيث عتبَة بن عبد عِنْد
ابْن مَاجَه عَن مَحْمُود بن لبيد عَنهُ، قَالَ: سَمِعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من
مُسلم يَمُوت لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا
الْحِنْث إلاَّ تلقوهُ من أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية،
من أَيهَا شَاءَ دخل) . وَحَدِيث جَابر بن عبد الله عِنْد
الْبَيْهَقِيّ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول (من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة من
الْوَلَد فاحتسبهم عِنْد الله دخل الْجنَّة، قَالَ: قلت:
يَا رَسُول الله وإثنان؟ قَالَ: وإثنان. قَالَ مَحْمُود:
فَقلت لجَابِر، وَالله إِنِّي لأَرَاكُمْ لَو قُلْتُمْ
وَاحِدًا لقَالَ وَاحِدًا. قَالَ: أَنا وَالله أَظن
ذَلِك.) وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا. وَحَدِيث مطرف بن الشخير
عِنْد مُسَدّد فِي (مُسْنده) قَالَ: قَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْأَنْصَار: مَا الرقوب فِيكُم؟
قَالُوا: الَّذِي لَا ولد لَهُ. قَالَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْسَ ذاكم بالرقوب، الرقوب الَّذِي
يقدم على ربه وَلم يقدم أحدا من وَلَده) ، الحَدِيث عِنْد
البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث أبي ذَر عِنْد
النَّسَائِيّ من رِوَايَة الْحسن (عَن صعصعة بن
مُعَاوِيَة، قَالَ: لقِيت أَبَا ذَر، قلت: حَدثنِي. قَالَ:
نعم، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا من
مُسلمين يَمُوت بَينهمَا ثَلَاثَة أَوْلَاد لم يبلغُوا
الْحِنْث إلاَّ غفر الله لَهما بِفضل رَحمته إيَّاهُم) .
وَحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت عِنْد أبي دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (وَالنُّفَسَاء يجرها وَلَدهَا يَوْم الْقِيَامَة
بسرره إِلَى الْجنَّة) . وَحَدِيث أبي ثَعْلَبَة
الْأَشْجَعِيّ عِنْد أَحْمد فِي (مُسْنده)
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) من رِوَايَة
ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن عمر بن نَبهَان عَنهُ،
قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، مَاتَ لي ولدان فِي
الْإِسْلَام، فَقَالَ: من مَاتَ لَهُ ولدان فِي
الْإِسْلَام أدخلهُ الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُمَا) .
وَحَدِيث عقبَة بن عَامر عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) من حَدِيث أبي غثانة المغافري أَنه سمع عقبَة
بن عَامر يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من أثكل ثَلَاثَة من صلبه فاحتسبهم على الله عز
وَجل وَجَبت لَهُ الْجنَّة) ، وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا.
وَحَدِيث قُرَّة بن إِيَاس عِنْد النَّسَائِيّ من حَدِيث
مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه (أَن رجلا أَتَى
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَهُ ابْن لَهُ،
فَقَالَ: أنحبه فَقَالَ أحبك الله كَمَا أحبه، فَمَاتَ
فَفَقدهُ فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالَ: مَا يَسُرك أَن لَا
تَأتي بَابا من أَبْوَاب الْجنَّة إلاَّ وجدته عِنْده
يسْعَى يفتح لَك؟) وَحَدِيث عَليّ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ
فِي الْعِلَل عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، (من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد) ، وروى ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله،
صلى الله
(8/27)
عَلَيْهِ وَسلم: (إِن السقط ليراغم ربه إِن
أَدخل أَبَوَيْهِ النَّار حَتَّى يُقَال لَهُ: أَيهَا
السقط المراغم ربه إرجع فَإِنِّي قد أدخلت أَبَوَيْك
الْجنَّة. قَالَ: فيجرهما بسرره حَتَّى يدخلهما الْجنَّة)
. وَرَوَاهُ أَبُو يعلى أَيْضا. وَحَدِيث أبي أُمَامَة
عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مُؤمنين
يَمُوت لَهما ثَلَاثَة من الْأَوْلَاد لم يبلغُوا الْحلم
إلاَّ أدخلهما الله الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم) .
وَحَدِيث أبي مُوسَى عِنْد البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز.
وَحَدِيث الْحَارِث بن وقيش، وَيُقَال أقيش، عِنْد ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا من مُسلمين يَمُوت لَهما
أَرْبَعَة أفراط إلاَّ أدخلهما الله الْجنَّة، قَالُوا:
يَا رَسُول الله، وَثَلَاثَة؟ قَالَ: وَثَلَاثَة. قَالُوا:
وإثنان؟ قَالَ: وإثنان) . وَحَدِيث جَابر بن سَمُرَة عِنْد
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من دفن ثَلَاثَة من
الْوَلَد فَصَبر عَلَيْهِم واحتسبهم وَجَبت لَهُ الْجنَّة،
فَقَالَت أم أَيمن: أَو اثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: وَمن دفن
اثْنَيْنِ فَصَبر عَلَيْهِمَا واحتسبهما وَجَبت لَهُ
الْجنَّة؟ فَقَالَت أم أَيمن أَو وَاحِدًا؟ قَالَت: فَسكت
أَو أمسك، فَقَالَ: سَمِعت أم أَيمن من دفن وَاحِدًا
فَصَبر واحتسب كَانَت لَهُ الْجنَّة) . وَحَدِيث عَمْرو بن
عبسة عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير) من
رِوَايَة الْوَضِين، الحَدِيث، وَفِيه: سَمِعت رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (مَا من مُؤمن
وَلَا مُؤمنَة يقدم الله لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد من صلبه
لم يبلغُوا الْحِنْث إلاَّ أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل
رَحمته هُوَ وإياهم) . وَحَدِيث مُعَاوِيَة بن حيدة عِنْد
ابْن حبَان فِي الضُّعَفَاء عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (سَوْدَاء ولود خير من حسناء لَا
تَلد، إِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم، حَتَّى إِن السقط
ليظل محبنطيا على بَاب الْجنَّة، فَيُقَال: أَدخل
فَيَقُول: أَنا وأبوي، فَيُقَال أَنْت وأبويك) . وَحَدِيث
عبد الرَّحْمَن بن بشير عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا
الْحِنْث لن يلج النَّار إلاَّ عَابِر سَبِيل) يَعْنِي
الْجَوَاز على الصِّرَاط. وَحَدِيث زُهَيْر بن عَلْقَمَة
عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) قَالَ: (جَاءَت
امْرَأَة من الْأَنْصَار إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي ابْن لَهَا مَاتَ، فَكَانَ الْقَوْم
عنفوها فَقَالَت: يَا رَسُول الله مَاتَ لي ابْنَانِ،
فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد احتظرت من
النَّار احتظارا شَدِيدا) وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا،
رَحمَه الله تَعَالَى. وَحَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ
عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (قد استجن جنَّة حَصِينَة من النَّار
رجل سلف بَين يَدَيْهِ ثَلَاثَة من صلبه فِي الْإِسْلَام)
، وَحَدِيث عبد الله بن الزبير عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي
(الْعِلَل) عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد. .) الحَدِيث.
وَحَدِيث ابْن النَّضر السّلمِيّ عِنْد مَالك فِي
(الْمُوَطَّأ) أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (لَا يَمُوت لأحد من الْمُسلمين ثَلَاثَة من
الْوَلَد فيحتسبهم إلاَّ كَانُوا لَهُ جنَّة من النَّار،
فَقَالَت امْرَأَة عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أَو اثْنَان؟ قَالَ: أَو اثْنَان) . قَالَ ابْن عبد
الْبر: ابْن النَّضر هَذَا مَجْهُول فِي الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَاخْتلف الروَاة (للموطأ) فبعضهم
يَقُول: عَن ابْن النَّضر، وَهُوَ الْأَكْثَر، وَبَعْضهمْ
يَقُول: عَن أبي النَّضر، وَلَا يعرف إلاَّ بِهَذَا
الحَدِيث. وَحَدِيث سفينة عِنْد ابْن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم الْبَغْدَادِيّ فِي كتاب (رِوَايَة الأكابر
عَن الأصاغر) قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (بخ بخ، خمس مَا أثقلهن فِي الْمِيزَان: سُبْحَانَ
الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إلاَّ الله وَالله أكبر،
وفرط صَالح يفرطه) . وَحَدِيث حَوْشَب بن طخمة
الْحِمْيَرِي عِنْد ابْن مَنْدَه فِي كتاب (الصَّحَابَة) ،
وَابْن قَانِع أَيْضا فِي (مُعْجم الصَّحَابَة) عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (من مَاتَ
لَهُ ولد فَصَبر واحتسب قيل لَهُ: ادخل الْجنَّة بِفضل مَا
أَخذنَا مِنْك) . اللَّفْظ لِابْنِ قَانِع، وَهُوَ عِنْد
ابْن مَنْدَه مطول بِلَفْظ آخر. وَحَدِيث الحسحاس ابْن بكر
عِنْد أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ الَّذِي ذيل بِهِ على
الصَّحَابَة لِابْنِ مَنْدَه عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من لَقِي الله بِخمْس عوفي من
النَّار وَأدْخل الْجنَّة: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد
لله، وَلَا إِلَه إلاَّ الله، وَالله أكبر، وَولد يحْتَسب)
. وَحَدِيث عبد الله بن عمر عِنْد الطَّبَرَانِيّ، قَالَ:
(إِن رجلا من الْأَنْصَار كَانَ لَهُ ابْن يروح إِذا رَاح
النَّبِي، فَسَأَلَ نَبِي الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَنهُ فَقَالَ: أَتُحِبُّهُ؟ قَالَ: يَا نَبِي الله، نعم،
فأحبك الله كَمَا أحبه، فَقَالَ إِن الله أَشد لي حبا
مِنْك لَهُ، فَلم يلبث أَن مَاتَ ابْنه ذَاك، فراح إِلَى
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أقبل عَلَيْهِ
بثه، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
أجزعت؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَو لَا ترْضى أَن يكون ابْنك مَعَ ابْني
إِبْرَاهِيم يلاعبه تَحت ظلّ الْعَرْش؟ قَالَ: بلَى يَا
رَسُول الله) . وَحَدِيث الزبير بن الْعَوام عِنْد
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد. .)
الحَدِيث. وَحَدِيث بُرَيْدَة عِنْد الْبَزَّار قَالَ:
(كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَلغهُ أَن
امْرَأَة من الْأَنْصَار مَاتَ ابْن لَهَا. .) الحَدِيث،
وَفِيه: (فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِنَّمَا الرقوب الَّذِي
(8/28)
يعِيش وَلَدهَا، إِنَّه لَا يَمُوت
لامْرَأَة مسلمة أَو امرىء مُسلم نسمَة، أَو قَالَ
ثَلَاثَة من وَلَده، فيحتسبهم إلاَّ وَجَبت لَهُ الْجنَّة،
فَقَالَ عمر: واثنين؟ قَالَ: واثنين) . وَحَدِيث ابْن سلمى
عِنْد النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَنهُ
مَرْفُوعا: (بخ بخ بِخمْس. .) مثل حَدِيث سفينة، وَحَدِيث
أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ عِنْد أَحْمد رَوَاهُ من حَدِيث
الْحَارِث بن وقيش، قَالَ: كُنَّا عِنْد أبي بَرزَة فَحدث
ليلتئذ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مَا
من مُسلمين يَمُوت لَهما أَرْبَعَة أفراط ألاَّ أدخلهما
الله الْجنَّة بِفضل رَحمته، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله
وَثَلَاثَة؟ قَالَ: وَثَلَاثَة، قَالُوا: وإثنان؟ قَالَ:
وإثنان) . وَاسم أبي بَرزَة نَضْلَة بن عبيد على
الصَّحِيح. وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) (من قدم
ثَلَاثَة من الْوَلَد صَابِرًا محتسبا حجبوه عَن النَّار
بِإِذن الله تَعَالَى) . وَحَدِيث حَبِيبَة بنت سهل عِنْد
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث مُحَمَّد بن
سِيرِين عَنْهَا، قَالَت: قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مُسلمين يَمُوت لَهما ثَلَاثَة
أَطْفَال لم يبلغُوا الْحِنْث، إلاَّ أدخلهما الله
الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم) . وَحَدِيث أم سليم عِنْد
ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من حَدِيث عَمْرو
الْأنْصَارِيّ عَن أم سليم ابْنة ملْحَان، وَهِي أم أنس،
أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول:
(مَا من مُسلمين) الحَدِيث، نَحْو حَدِيث حَبِيبَة بنت
سهل. وَحَدِيث أم مُبشر عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَنْهَا، (أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: يَا أم
مُبشر، من كَانَ لَهُ ثَلَاثَة أفراط من وَلَده أدخلهُ
الله الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم، وَكَانَت أم مُبشر
تطبخ طبيخا، فَقَالَت: أَو فرطان؟ فَقَالَ: أَو فرطان) .
وَحَدِيث رجل لم يسم عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه)
(عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ
لامْرَأَة أَتَتْهُ بصبي لَهَا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله
أدع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يبقيه، فقد مضى لي
ثَلَاثَة، فَقَالَ: أمذ أسلمت؟ قَالَت: نعم، قَالَ: جنَّة
حَصِينَة من النَّار) .
وَقَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ {وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
(الْبَقَرَة: 551) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: من مَاتَ، وَفِي
بعض النّسخ: قَالَ الله تَعَالَى: {وَبشر الصابرين} وَوَقع
هَذَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَذكر هَذَا
تَأْكِيدًا لقَوْله: فاحتسب، لِأَن الاحتساب لَا يكون
إلاَّ بِالصبرِ، وَقد بشر الله الصابرين فِي هَذِه الْآيَة
الَّتِي فِي سُورَة الْبَقَرَة ووصفهم بقوله عز وَجل
{وَبشر الصابرين الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة
قَالُوا: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون}
(الْبَقَرَة: 551) . وَلَفظ: الْمُصِيبَة، عَام
فَيتَنَاوَل الْمُصِيبَة بِالْوَلَدِ وَغَيره.
8421 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ
يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا
الحِنْثَ إلاَّ أدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ بِفَضْلِ
رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ.
(الحَدِيث 8421 طرفه فِي: 1831) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَذكر الْوَلَد فِيهَا
يتَنَاوَل الثَّلَاثَة فَمَا فَوْقهَا. فَإِن قلت: ذكر
فِيهَا الاحتساب وَلَيْسَ ذَلِك فِي الحَدِيث؟ قلت: هُوَ
مُرَاد فِيهِ وَإِن لم يذكر صَرِيحًا لِأَن دُخُول
الْجنَّة لَا يكون إِلَّا بالاحتساب فِيهِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين: عبد الله بن عَمْرو. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن
سعيد. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، وَصرح بِهِ
فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: أَنه من الرباعيات.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه جَمِيعًا فِي
الْجَنَائِز عَن يُوسُف ابْن حَمَّاد، وَعند النَّسَائِيّ:
(من احتسب ثَلَاثَة من صلبه دخل الْجنَّة، فَقَامَتْ
امْرَأَة فَقَالَت: أَو اثْنَان؟ قَالَ: وإثنان، قَالَت
الْمَرْأَة: يَا لَيْتَني قلت وَاحِدًا) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا من النَّاس من مُسلم) كلمة:
من، الأولى بَيَانِيَّة وَالثَّانيَِة زَائِدَة، وَهُوَ
اسْم: لما، قَوْله: (ثَلَاثَة) ، أَي: ثَلَاثَة أَوْلَاد،
ويروى: (ثَلَاث) ، لَا يُقَال الْوَلَد مُذَكّر فَلَا بُد
من عَلامَة التَّأْنِيث فِيهِ لأَنا نقُول: إِذا كَانَ
الْمُمَيز محذوفا جَازَ فِي لفظ الْعدَد التَّذْكِير
والتأنيث. قَوْله: (يتوفى) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي:
يَمُوت. قَوْله: (لم يبلغُوا الْحِنْث) ، بِكَسْر الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة،
كَذَا هُوَ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَحكى صَاحب
(الْمطَالع) عَن الدَّاودِيّ أَنه روى: (لم يبلغُوا
(8/29)
الْخبث) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَالْبَاء الْمُوَحدَة أَي: لم يبلغُوا فعل الْمعاصِي.
قَالَ: وَهَذَا لَا يعرف، إِنَّمَا هُوَ الْحِنْث وَهُوَ
الْمَحْفُوظ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي (الْمُنْتَهى) :
بلغ الْغُلَام الْحِنْث أَي: بلغ مبلغا تجْرِي عَلَيْهِ
الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة. وَفِي (الْمُحكم) : الْحِنْث
الْحلم، وَقَالَ الْخَلِيل: بلغ الْغُلَام الْحِنْث أَي:
جرى عَلَيْهِ الْقَلَم، والحنث الذَّنب، قَالَ تَعَالَى:
{وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم} (الْوَاقِعَة:
64) . وَقيل: المُرَاد بلغ إِلَى زمَان يُؤَاخذ
بِيَمِينِهِ إِذا حنث، وَقَالَ الرَّاغِب: عبر بِالْحِنْثِ
عَن الْبلُوغ لما كَانَ الْإِنْسَان يُؤَاخذ بِمَا يرتكبه
فِيهِ، بِخِلَاف مَا قبله قَوْله: (إلاَّ أدخلهُ الْجنَّة)
، هَذَا الِاسْتِثْنَاء وَمَا بعده خبر قَوْله: (وَمَا من
مُسلم) . قَوْله: (بِفضل رَحمته) أَي: بِفضل رَحْمَة الله
للأولاد، وَقيل: إِن الضَّمِير فِي: رَحمته، يرجع إِلَى
الْأَب لكَونه كَانَ يرحمهم فِي الدُّنْيَا فيجازى
بِالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَة، ورد ذَلِك بِأَن الضَّمِير
يرجع إِلَى الله تَعَالَى، بِدَلِيل مَا روى فِي رِوَايَة
ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه، بِفضل رَحْمَة الله
إيَّاهُم. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، من حَدِيث أبي
ذَر: (إلاَّ غفر الله لَهما بِفضل رَحمته) وَكَذَا فِي
حَدِيث الْحَارِث بن وقيش، وَقد مر عَن قريب، وَكَذَا فِي
حَدِيث عَمْرو بن عبسة وَقد مر أَيْضا، فَكَأَن هَذَا
الْقَائِل لم يطلع على الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة، وَتصرف
فِيمَا قَالَه. قَوْله: (إيَّاهُم) ، الضَّمِير يرجع إِلَى
قَوْله: (ثَلَاثَة من الْوَلَد) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
الظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ الْمُسلم الَّذِي توفيت
أَوْلَاده، لَا الْأَوْلَاد، وَإِنَّمَا جمع بِاعْتِبَار
أَنه نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تفِيد الْعُمُوم. قلت:
الظَّاهِر غير ظَاهر لِأَن فِي غير طَرِيق هَذَا الحَدِيث
مَا يدل على أَن الضَّمِير للأولاد، وَذَلِكَ فِي حَدِيث
عَمْرو بن أبي عبسة وَأبي ثَعْلَبَة الْأَشْجَعِيّ، وَقد
مر ذكرهمَا، وَقد تكلّف الْكرْمَانِي فِيمَا قَالَه لعدم
إطلاعه على هَذِه الْأَحَادِيث، وَقد علم أَن الْأَحَادِيث
يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَت فِي
قَضِيَّة وَاحِدَة، فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: خص الصَّغِير لِأَن
الشَّفَقَة عَلَيْهِم أعظم وَالْحب لَهُ أَشد وَالرَّحْمَة
لَهُ أوفر، وعَلى هَذَا فَمن بلغ الْحِنْث لَا يحصل لمن
فَقده مَا ذكر من هَذَا الثَّوَاب، وَإِن كَانَ فِي فقد
الْوَلَد مُطلقًا أجر فِي الْجُمْلَة وعَلى هَذَا كثير من
الْعلمَاء، لِأَن الْبَالِغ يتَصَوَّر مِنْهُ العقوق
الْمُقْتَضِي لعدم الرَّحْمَة، بِخِلَاف الصَّغِير
فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ ذَلِك، لِأَنَّهُ غير
مُخَاطب. وَقيل: بل يدْخل الْكَبِير فِي ذَلِك من طرق
الفحوى لِأَنَّهُ إِذا ثَبت ذَلِك فِي الطِّفْل الَّذِي
هُوَ كلٌّ على أَبَوَيْهِ، فَكيف لَا يثبت فِي الْكَبِير
الَّذِي بلغ مَعَه السَّعْي وَوصل لَهُ مِنْهُ النَّفْع،
وَتوجه إِلَيْهِ الْخطاب بالحقوق؟ قَالَ هَذَا الْقَائِل:
دَلِيل هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِلْغَاء البُخَارِيّ
التَّقْيِيد بذلك فِي التَّرْجَمَة. قيل: يَقُول الأول:
قَوْله: (بِفضل رَحمته إيَّاهُم) لِأَن الرَّحْمَة للصغار
أَكثر لعدم حُصُول الْإِثْم مِنْهُم؟ قلت: رَحْمَة الله
وَاسِعَة تَشْمَل الصَّغِير وَالْكَبِير فَلَا يحْتَاج
إِلَى التَّقْيِيد. فَإِن قلت: هَل يلْتَحق بالصغار من بلغ
مَجْنُونا مثلا وَاسْتمرّ على ذَلِك فَمَاتَ؟ قلت:
الظَّاهِر أَنه يلْحق لعدم الْخطاب. فَإِن قلت: فِي
النَّاس من يكره وَلَده ويتبرأ مِنْهُ، وَلَا سِيمَا إِذا
كَانَ ضيق الْحَال؟ قلت: لما كَانَ الْوَلَد مَظَنَّة
الْمحبَّة نيط بهَا الحكم، وَإِن كَانَ يُوجد التَّخَلُّف
فِي بعض الْأَفْرَاد. فَإِن قلت: هَل يدْخل أَوْلَاد
الْأَوْلَاد فِي هَذَا الحكم؟ قلت: الحَدِيث الَّذِي أخرجه
النَّسَائِيّ من طَرِيق حَفْص بن عبيد الله عَن أنس عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من احتسب
ثَلَاثَة من صلبه دخل الْجنَّة. .) الحَدِيث يدل على أَن
أَوْلَاد الْأَوْلَاد لَا يدْخلُونَ، وَكَذَلِكَ حَدِيث
عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ، (رجل سلف بَين يَدَيْهِ
ثَلَاثَة من صلبه فِي الأسلام) ، وَقد مر عَن قريب،
وَلَكِن الظَّاهِر أَن أَوْلَاد الْأَوْلَاد الذُّكُور
مِنْهُم يدْخلُونَ، وَأَوْلَاد الْبَنَات لَا يدْخلُونَ،
وَفِيه: التَّقْيِيد بِالْإِسْلَامِ ليدل على اخْتِصَاص
ذَلِك الثَّوَاب بِالْمُسلمِ فَإِن قلت: من مَاتَ لَهُ
أَوْلَاد فِي الْكفْر ثمَّ أسلم هَل يدْخل فِيهِ؟ قلت:
حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْأَشْجَعِيّ وَحَدِيث عَمْرو ابْن
عبسة اللَّذين قد ذكرا عَن قريب يدلان على عدم ذَلِك.
وَفِيه: دَلِيل على أَن أَطْفَال الْمُسلمين فِي الْجنَّة.
قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : وَهُوَ إِجْمَاع، وَلَا عِبْرَة
للمجبرة حَيْثُ جعلوهم تَحت الْمَشِيئَة، فَلَا يعْتد
بخلافهم وَلَا بوفاقهم. وَفِي أَطْفَال الْمُشْركين
اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء، فَذهب جمَاعَة إِلَى
التَّوَقُّف فِي أَطْفَال الْمُشْركين أَن يَكُونُوا فِي
جنَّة أَو نَار، مِنْهُم ابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد
وَإِسْحَاق لحَدِيث أبي هُرَيْرَة: (سُئِلَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَطْفَال؟ فَقَالَ: الله
أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) . كَذَا قَالَ: الْأَطْفَال،
وَلم يخص طفْلا من طِفْل. قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي
(مُعْجَمه الْأَوْسَط) : رُوِيَ أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لعَائِشَة فِي أَطْفَال
الْمُشْركين: (إِن شِئْت دَعَوْت الله تَعَالَى أَن يسمعك
تضاغيهم فِي النَّار؟) وَقَالَ سَمُرَة بن جُنْدُب: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَوْلَاد
الْمُشْركين هم خدم أهل الْجنَّة) . وَرُوِيَ عَنهُ أَنه
سُئِلَ عَنْهُم فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين،
فَرجع الْأَمر إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: ألله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين، فَمن سبق علم
(8/30)
الله فِيهِ أَنه لَو كبر آمن هم الَّذين
قَالَ: (هم خدم أهل الْجنَّة) ، وَهُوَ قَول أهل السّنة.
فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا قيس
بن الرّبيع عَن يحيى بن إِسْحَاق عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة
(عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَتَى بصبي من الْأَنْصَار ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَت:
طُوبَى لَهُ عُصْفُور من عصافير الْجنَّة لم يعْمل سوأً
قطّ وَلم يدره {فَقَالَ: يَا عَائِشَة} أوَلاَ تدرين أَن
الله تبَارك خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهَا لَهُم
وهم فِي أصلاب آبَائِهِم، وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا
وهم فِي أصلاب آبَائِهِم؟) وَرُوِيَ (عَن سَلمَة بن يزِيد
الْجعْفِيّ قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله إِن أمنا مَاتَت
فِي الْجَاهِلِيَّة، وَإِنَّهَا وَأَدت أُخْتا لنا لم تبلغ
الْحِنْث فِي الْجَاهِلِيَّة، فَهَل ذَلِك نَافِع
أُخْتنَا؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
أما إِن الوائدة والموءودة فَإِنَّهُمَا فِي النَّار إلاَّ
أَن يدْرك الْإِسْلَام) . وَرُوِيَ بَقِيَّة عَن مُحَمَّد
بن يزِيد الْأَلْهَانِي قَالَ: سَمِعت عبد الله بن قيس،
سَمِعت عَائِشَة (سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن ذَرَارِي الْمُسلمين؟ فَقَالَ: هم من آبَائِهِم، قلت:
بِلَا عمل؟ قَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين؟
وَسَأَلته عَن ذَرَارِي الْمُشْركين؟ فَقَالَ: مَعَ
آبَائِهِم، قلت: بِلَا عمل؟ قَالَ: الله أعلم بِمَا
كَانُوا عاملين) . وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من
حَدِيث أبي عقيل، صَاحب بهية، عَن بهية (عَن عَائِشَة
قَالَت: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
أَطْفَال الْمُشْركين. .) الحَدِيث؟ قلت: قيس بن الرّبيع
وَأَبُو عقيل وَبَقِيَّة مُتَكَلم فيهم، فأحاديثهم ضِعَاف.
وَقَالَ أَبُو عمر: قَوْله: (إِن الله خلق الْجنَّة. .)
إِلَى آخِره سَاقِط ضَعِيف مَرْدُود بِالْإِجْمَاع، وَفِي
إِسْنَاده طَلْحَة بن يحيى وَهُوَ ضَعِيف. قلت: كَيفَ
يُقَال: إِنَّه سَاقِط وَطَلْحَة ضَعِيف والْحَدِيث أخرجه
مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن
طَلْحَة بن يحيى عَن عمته عَائِشَة بنت طَلْحَة (عَن
عَائِشَة، أم الْمُؤمنِينَ، قَالَت: دعِي رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جَنَازَة صبي من الْأَنْصَار،
فَقلت: يَا رَسُول الله! طُوبَى لهَذَا عُصْفُور من عصافير
الْجنَّة، لم يعْمل السوء وَلم يُدْرِكهُ. قَالَ: أَو غير
ذَلِك يَا عَائِشَة إِن الله خلق للجنة أَهلا خلقهمْ لَهَا
وهم فِي أصلاب الرِّجَال، وَخلق للنار أَهلا خلقهمْ لَهَا
وهم فِي أصلاب آبَائِهِم) . وَالْجَوَاب عَنهُ أَن
المُرَاد بِهِ النَّهْي عَن المسارعة إِلَى الْقطع من غير
دَلِيل قَاطع، وَقيل ذَلِك قبل أَن يعلم صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَونهم فِي الْجنَّة، فَلَمَّا علم ذَلِك أثْبته
بِحَدِيث شَفَاعَة الْأَطْفَال، وَيُقَال: على تَقْدِير
الصِّحَّة يُعَارض الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة مَا فِي
الصَّحِيح من حَدِيث سَمُرَة حَدِيث الرُّؤْيَا: (وَأما
الرجل الَّذِي فِي الرَّوْضَة، إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأما الْولدَان حوله فَكل
مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة. قيل: يَا رَسُول الله
وَأَوْلَاد الْمُشْركين؟ قَالَ: وَأَوْلَاد الْمُشْركين) .
وَفِي لفظ: (وَأما الشَّيْخ فِي أصل الشَّجَرَة فإبراهيم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالصبيان حوله أَوْلَاد
النَّاس) . وروى الْحَاكِم عَن أبي هُرَيْرَة على شَرط
الشَّيْخَيْنِ يرفعهُ: (أَوْلَاد الْمُؤمنِينَ فِي جبل فِي
الْجنَّة يكفلهم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، حَتَّى يردهم إِلَى آبَائِهِم يَوْم
الْقِيَامَة) . وَفِي (التَّمْهِيد) حَدِيث مُفَسّر يقْضِي
على مَا رُوِيَ فِي الْأَحَادِيث بِأَن ذَلِك كَانَ فِي
أَحْوَال ثَلَاثَة عَن عَائِشَة: أَن خَدِيجَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن أَوْلَاد الْمُشْركين رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
أَوْلَاد الْمُشْركين؟ فَقَالَ: هم مَعَ آبَائِهِم، ثمَّ
سَأَلته بعد ذَلِك، فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا
عاملين، ثمَّ بَعْدَمَا استحكم الْإِسْلَام وَنزلت: {وَلَا
تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} قَالَ: هم على الْفطْرَة، وَذكر
مُحَمَّد بن سنجر فِي مُسْنده: حَدثنَا هودة حَدثنَا عَوْف
(عَن خنساء بنت مُعَاوِيَة قَالَت: حَدثنِي عمي قَالَ:
قلت: يَا رَسُول الله من فِي الْجنَّة؟ قَالَ النَّبِي:
فِي الْجنَّة، والشهيد فِي الْجنَّة، والمولود فِي
الْجنَّة، والوئيد فِي الْجنَّة) . وَعَن أنس قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سَأَلت رَبِّي فِي
اللاَّهِين، يَعْنِي الْأَطْفَال من ذُرِّيَّة
الْمُشْركين، أَن لَا يعذبهم فأعطانيهم) . وروى الْحجَّاج
بن نصير عَن الْمُبَارك بن فضَالة عَن عَليّ بن زيد عَن
أنس يرفعهُ: (أَوْلَاد الْمُشْركين خدم أهل الْجنَّة) ،
وروى الْحَكِيم فِي (نَوَادِر الْأُصُول) عَن أبي طَالب
الْهَرَوِيّ: حَدثنَا يُوسُف بن عَطِيَّة، حَدثنَا أنس
بِلَفْظ: (كل مَوْلُود من ولد كَافِر أَو مُسلم فَإِنَّهُم
إِنَّمَا يولدون على فطْرَة الْإِسْلَام كلهم) ، وَفِي
حَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد الْمُجَاشِعِي: أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي خطبَته: (إِن الله
تَعَالَى أَمرنِي أَن أعلمكُم، وَقَالَ: إِنِّي خلقت
عبَادي كلهم حنفَاء فَاتَتْهُمْ الشَّيَاطِين
فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم، وأمرتهم أَن يشركوا بِي،
وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم) . وَالْجَوَاب: عَن
حَدِيث سَلمَة بن يزِيد أَنه: وَإِن كَانَ صَحِيحا، وَلكنه
يحْتَمل أَن يكون خرج على جَوَاب السَّائِل فِي غير
مَقْصُوده، فَكَانَت الْإِشَارَة إِلَيْهَا.
9421 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ الأصْبِهَانِيِّ عنْ
ذَكْوَانَ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ
النِّساءَ قُلْنَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلْ
لَنَا يَوْما فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أيُّمَا
(8/31)
امْرَأةٍ ماتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنَ
الوَلَدِ كانُوا حِجَابا مِنَ النَّارِ قالَتِ امْرَأةٌ
واثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ.
(أنظر الحَدِيث 101) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي
الحَدِيث السَّابِق.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم
الْأَزْدِيّ القصاب وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: شُعْبَة
بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن
الْأَصْبَهَانِيّ وَاسم الْأَصْبَهَانِيّ عبد الله ويروى
عبد الرَّحْمَن الْأَصْبَهَانِيّ بِدُونِ لَفْظَة ابْن،
والأصبهاني بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا وبالفاء وبالباء
الْمُوَحدَة أَربع لُغَات قَالَه الْكرْمَانِي. قلت:
بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي لِسَان الْعَجم، وبالفاء فِي
اسْتِعْمَال الْعَرَب. الرَّابِع: ذكْوَان هُوَ أَبُو
صَالح السمان. الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه:
سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ أخبرنَا. وَفِيه: أَن شَيْخه
بَصرِي. وَشعْبَة واسطي وَعبد الرَّحْمَن كُوفِي وَأَصله
من أَصْبَهَان وَكَانَ أَبوهُ يتجر إِلَى أَصْبَهَان فَقيل
لَهُ الْأَصْبَهَانِيّ وذكوان مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي مَوَاضِع قد ذَكرنَاهَا فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب هَل
يَجْعَل للنِّسَاء يَوْم على حِدة فِي الْعلم، وَهُنَاكَ
أخرجه عَن آدم عَن شُعْبَة إِلَى آخِره نَحوه مَعَ
زِيَادَة فِيهِ. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن النِّسَاء قُلْنَ) وَفِي
رِوَايَة مُسلم (أَنَّهُنَّ كن من نسَاء الْأَنْصَار) .
قَوْله: (فوعظهن) ، عطف على مُقَدّر تَقْدِيره، فَجعل
لَهُنَّ يَوْمًا فوعظهن فِيهِ وَمن جملَة مَا قَالَ
لَهُنَّ قَوْله: (أَيّمَا امْرَأَة) قَوْله: (ثَلَاث من
الْوَلَد) فِي رِوَايَة أبي ذَر، هَكَذَا وَفِي رِوَايَة
غيرَة (ثَلَاثَة) وَقد مر تَوْجِيهه عَن قريب. وَقَوله
(ولد) يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى والمفرد وَالْجمع.
قَوْله: (كن) هَكَذَا رِوَايَة الْحَمَوِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي، وَكَأَنَّهُ أنث بِاعْتِبَار النَّفس
أَو النَّسمَة وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا. (كَانُوا) ، وَفِي
رِوَايَة أبي الْوَقْت (كَانُوا لَهَا حِجَابا) وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْقيَاس: كَانُوا، وَلَكِن الْأَطْفَال
كالنساء فِي كَونهم غير عاقلين، أَو المُرَاد كَانَت
النِّسَاء محجوبات. قلت: تشبيههم بِالنسَاء هَكَذَا غير
موجه لِأَن النِّسَاء عاقلات، غير أَن فِي عقولهن قصورا.
قَوْله: (فَقَالَت امْرَأَة) ، هِيَ أم سليم
الْأَنْصَارِيَّة وَالِدَة أنس بن مَالك، رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ عَنْهَا بِإِسْنَاد جيد. (قَالَت: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم وَأَنا
عِنْده: مَا من مُسلمين يَمُوت لَهما ثَلَاثَة لم يبلغُوا
الْحِنْث إِلَّا أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل رَحمته
إيَّاهُم، فَقلت: وإثنان قَالَ: وَاثْنَانِ. وَمِمَّنْ
سَأَلَ عَن ذَلِك أم أَيمن، وَقد تقدم فِي حَدِيث جَابر بن
سَمُرَة، ومنهن أم مُبشر، مضى من حَدِيث جَابر بن عبد
الله، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن عَائِشَة مِنْهُنَّ،
وَحكى ابْن بشكوال أَن أم هانىء سَأَلت عَن ذَلِك. فَإِن
قلت: سؤالهن كَانَ فِي مجْلِس وَاحِد أَو فِي مجَالِس؟
قلت: يحْتَمل كلا مِنْهُمَا. وَقَالَ بَعضهم فِي تعدد
القصةُ بعد. قلت: الْأَقْرَب تعدد الْقِصَّة أَلا ترى أَنه
قد تقدم فِي حَدِيث جَابر بن عبد الله أَنه: مِمَّن سَأَلَ
عَن ذَلِك أَيْضا ... وَقد مضى فِي حَدِيث بُرَيْدَة أَن
عمر سَأَلَ عَن ذَلِك أَيْضا، فَظهر من ذَلِك أَن اتِّحَاد
الْمجْلس فِيهِ بعد ظَاهر، فَافْهَم. قَوْله: (وإثنان) عطف
على ثَلَاثَة وَمثله يُسمى بالْعَطْف التلقيني أَي: قل يَا
رَسُول الله: وَاثْنَانِ، وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى
حِكَايَة عَن إِبْرَاهِيم: {وَمن ذريتي} (إِبْرَاهِيم: 04)
. وَقَالَ بَعضهم: وإثنان، أَي: وَإِذا مَاتَ اثْنَان مَا
الحكم؟ فَقَالَ: وإثنان. أَي: وَإِذا مَاتَ اثْنَان
فَالْحكم كَذَلِك؟ قلت: فِيهِ كَثْرَة الْحَذف المخلة
بالفصاحة، وَفِي رِوَايَة مُسلم من هَذَا الْوَجْه:
واثنين، بِالنّصب أَي: وَمَا أَمر اثْنَيْنِ؟ وَفِي
رِوَايَة سُهَيْل: أَو إثنان؟ أَي: أَو إِن وجد إثنان
فكالثلاثة، وَفِيه التَّسْوِيَة بَين ثَلَاثَة وإثنين.
فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ فِي الْحَال: وإثنان؟ قلت: قَالَ
ابْن بطال: هُوَ مَحْمُول على أَنه أُوحِي إِلَيْهِ بذلك
فِي الْحَال، وَلَا يبعد أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فِي
أسْرع من طرفَة عين، وَيحْتَمل أَن يكون كَانَ الْعلم
عِنْده حَاصِلا لكنه أشْفق عَلَيْهِم أَن يتكلموا، لِأَن
موت الْإِثْنَيْنِ غَالِبا أَكثر من موت الثَّلَاثَة، ثمَّ
لما سُئِلَ عَن ذَلِك لم يكن بُد من الْجَواب.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: مَا قَالَه ابْن التِّين تبعا
للْقَاضِي عِيَاض: أَن مَفْهُوم الْعدَد لَيْسَ بِحجَّة،
لِأَن الصحابية من أهل اللِّسَان وَلم تعتبره إِذْ لَو
اعتبرته لانتفى الحكم عِنْدهَا عَمَّا عدا الثَّلَاثَة،
لَكِنَّهَا جوزت ذَلِك فَسَأَلت، وَقَالَ بَعضهم:
الظَّاهِر أَنَّهَا اعْتبرت مَفْهُوم الْعدَد إِذْ لَو لم
تعتبره لم تسْأَل. قلت: دلَالَة مَفْهُوم الْعدَد بطرِيق
الِاحْتِمَال لَا بطرِيق الْقطع، فَلذَلِك وَقع السُّؤَال
عَن ذَلِك. فَإِن قلت: لم خصت الثَّلَاثَة بِالذكر؟
لِأَنَّهَا أول مَرَاتِب الْكَثْرَة فتعظم الْمُصِيبَة
فيكثر الْأجر، فَإِذا زَاد عَلَيْهَا يخف أمرهَا لكَونهَا
تصير
(8/32)
كالعادة كَمَا قيل:
روعت بالبين حَتَّى مَا اراع بِهِ
كَذَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ، وَقيل: هَذَا مصير مِنْهُ
إِلَى انحصار الْأجر الْمَذْكُور، فِي الثَّلَاثَة ثمَّ
فِي الِاثْنَيْنِ بِخِلَاف الْأَرْبَعَة والخمسة، وَيلْزم
فِي ذَلِك أَن يرْتَفع الْأجر فِي الْأَرْبَعَة مَعَ وجود
الثَّلَاثَة فِيهَا مَعَ تجدّد الْمُصِيبَة، وَالْوَجْه
السديد فِي هَذَا أَن يُقَال: إِن تنَاول الْخَبَر
الْأَرْبَعَة فَمَا فَوْقهَا من بَاب الأولى والأجدر، ألاَ
ترى أَنهم مَا سَأَلُوا عَن الْأَرْبَعَة وَلَا مَا
فَوْقهَا، لِأَنَّهُ كالمعلوم عِنْدهم أَن الْمُصِيبَة
إِذا كثرت كَانَ الْأجر أعظم.
وَقَالَ شَرِيكٌ عنِ ابنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ حدَّثني
أبُو صالِحٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ وَأبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ.
شريك بن عبد الله، وَابْن الاصبهاني هُوَ عبد الرَّحْمَن،
وَقد مضى الْآن، وَأَبُو صَالح ذكْوَان وَقد مضى صَرِيحًا
فِي الحَدِيث السَّابِق، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن
أبي شيبَة عَنهُ، حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن
الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ: أَتَانِي أَبُو صَالح يعزيني عَن
ابْن لي فَأخذ يحدث عَن أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من
امْرَأَة تدفن ثَلَاثَة أفراط إلاَّ كَانُوا لَهَا حِجَابا
من النَّار فَقَالَت امْرَأَة: يَا رَسُول الله قدمت
اثْنَيْنِ؟ قَالَ: ثَلَاثَة، ثمَّ قَالَ: واثنين وإثنين) .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: الفرط من لم يبلغ الْحِنْث، وَقد
قَالَ فِي كتاب الْعلم وَعَن عبد الرَّحْمَن بن
الْأَصْبَهَانِيّ: سَمِعت أَبَا حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة
وَقَالَ: ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث.
1521 - حدَّثنا عَلِيٌّ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ
سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ
أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَمْوتُ لِمُسْلِمٍ
ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إلاَّ
تَحِلَّةَ القَسَمْ.
(الحَدِيث 1521 طرفه فِي: 6566) .
مطابقته للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا فِي الْحَدِيثين
السَّابِقين، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي هُوَ
ابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة
وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي بكر بن أبي
بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد
الله بن يزِيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجَنَائِز عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يَمُوت لمُسلم) ، قيد
الْإِسْلَام شَرط لِأَنَّهُ لَا نجاة للْكَافِرِ بِمَوْت
أَوْلَاده، وَإِنَّمَا ينجو من النَّار بِالْإِيمَان
والسلامة من الْمعاصِي، وَهَذِه اللَّفْظَة فِيهَا عُمُوم
تَشْمَل الرِّجَال وَالنِّسَاء بِخِلَاف الرِّوَايَة
الْمَاضِيَة لأبي هُرَيْرَة فَإِنَّهَا مُقَيّدَة
بِالنسَاء. قَوْله: (فيلج النَّار) من الولوج وَهُوَ
الدُّخُول، يُقَال: ولج يلج ولوجا ولجة أَي: دخل، قَالَ
سِيبَوَيْهٍ: إِنَّمَا جَاءَ مصدره ولوجا وَهُوَ من مصَادر
غير الْمُتَعَدِّي على معنى: ولجت فِيهِ وأولجه أدخلهُ،
قَالَ الله تَعَالَى: {يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج
النَّهَار فِي اللَّيْل} (الْحَج: 16) . أَي: يزِيد من
هَذَا فِي ذَلِك وَمن ذَلِك فِي هَذَا. قَوْله: (إلاَّ
تَحِلَّة الْقسم) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَكسر الْحَاء وَتَشْديد اللَّام، وَهُوَ مصدر حلل
الْيَمين أَي: كفرها. يُقَال: حلل تحليلاً وتحلة وتحلاً
وَهُوَ شَاذ، وَالتَّاء فِيهِ زَائِدَة، وَمعنى: تَحِلَّة،
الْقسم: مَا ينْحل بِهِ الْقسم وَهُوَ الْيَمين تَقول
الْعَرَب: ضربه تحليلاً وضربه تعزيرا إِذا لم يُبَالغ فِي
ضربه، وَهَذَا مثل فِي الْقَلِيل المفرط الْقلَّة وَهُوَ
أَن يُبَاشر من الْفِعْل الَّذِي يقسم عَلَيْهِ
الْمِقْدَار الَّذِي يبر قسمه بِهِ مثل أَن يحلف على
النُّزُول بمَكَان فَلَو وَقع بِهِ وقْعَة خَفِيفَة
أَجْزَأته فَتلك تَحِلَّة قسمه، وَقَالَ أهل اللُّغَة:
يُقَال فعلته تَحِلَّة الْقسم، أَي: قدر مَا حللت بِهِ
يَمِيني، وَلم أبالغ، وَقَالَ الْخطابِيّ: حللت الْقسم
تَحِلَّة أَي: أبررتها، بقوله: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ
واردها} (مَرْيَم: 17) . أَي: لَا يدْخل النَّار ليعاقبه
بهَا، وَلكنه يجوز عَلَيْهَا فَلَا يكون ذَلِك إلاَّ بِقدر
مَا يبر الله بِهِ قسمه، وَالْقسم مُضْمر كَأَنَّهُ قَالَ:
وَإِن مِنْكُم وَالله إلاَّ واردها. وَقَالَ ابْن بطال:
المُرَاد بِهَذِهِ الْكَلِمَة تقليل مكث الشَّيْء، وشبهوه
بتحليل الْقسم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: التَّحْلِيل ضد
التَّحْرِيم، تَقول: حللته تحليلاً وتحلة. وَفِي الحَدِيث:
(إلاَّ تَحِلَّة الْقسم) أَي: قدر مَا يبر الله قسمه فِيهِ
بقوله: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف فِي المُرَاد بِهَذَا
الْقسم، فَقيل: هُوَ معِين، وَقيل: غير معِين، فالجمهور
على الأول. وَقيل: لم يعن بِهِ قسم بِعَيْنِه. وَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ: التقليل لأمر وُرُودهَا، وَهَذَا اللَّفْظ
يسْتَعْمل فِي هَذَا، يُقَال: مَا ينَام فلَان إلاَّ
كتحليل الألية، وَيُقَال: مَا ضربه إلاَّ تحليلاً إِذا لم
يُبَالغ فِي الضَّرْب، أَي: قدرا يُصِيبهُ مِنْهُ
مَكْرُوه. وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: المُرَاد بِهِ
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم:
17) . وَلَيْسَ المُرَاد دُخُولهَا للعقاب، وَلَكِن
للْجُوَاز. كَمَا قَالَه
(8/33)
الْخطابِيّ، وَيدل على ذَلِك مَا رَوَاهُ
عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي آخر هَذَا
الحَدِيث: إلاَّ تَحِلَّة الْقسم، يَعْنِي: الْوُرُود،
وَفِي (سنَن أبي سعيد بن مَنْصُور) : عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة فِي آخِره ثمَّ قَرَأَ سُفْيَان: {وَإِن مِنْكُم
إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . وَمن طَرِيق زَمعَة بن
صَالح عَن الزُّهْرِيّ فِي آخِره، قيل: وَمَا تَحِلَّة
الْقسم؟ قَالَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ
واردها} (مَرْيَم: 17) . وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
كَرِيمَة فِي أصل البُخَارِيّ. قَالَ أَبُو عبد الله:
{وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . وَالْمرَاد:
بأبو عبد الله، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَلم يَقع هَذَا
فِي رِوَايَة غير كَرِيمَة، وَمن أقوى الدَّلِيل على أَن
المُرَاد من الْوُرُود: الْجَوَاز، حَدِيث عبد الرَّحْمَن
بن بشير الْأنْصَارِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي أَوَائِل
الْبَاب، وَهُوَ: (من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم
يبلغُوا الْحِنْث لم يرد النَّار إلاَّ على عَابِر سَبِيل)
، يَعْنِي: الْجَوَاز على الصِّرَاط، وَمَعَ هَذَا اخْتلف
السّلف فِي المُرَاد بالورود فِي الْآيَة، فَقيل: هُوَ
الدُّخُول، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَحْمد
وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا
(الْوُرُود: الدُّخُول، لَا يبْقى بر وَلَا فَاجر إلاَّ
دَخلهَا، فَيكون على الْمُؤمنِينَ بردا وَسلَامًا)
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا وَزَاد: (كَمَا كَانَت
على إِبْرَاهِيم حَتَّى إِن للنار أَو لِجَهَنَّم ضجيج من
بردهمْ، ثمَّ يُنجي الله الَّذين اتَّقوا ويذر الظَّالِمين
فِيهَا جثيا) . وروى التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا عبد
بن حميد، قَالَ: أخبرنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن
إِسْرَائِيل (عَن السّديّ قَالَ: سَأَلت مرّة الْهَمدَانِي
عَن قَول الله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها}
(مَرْيَم: 17) . فَحَدثني أَن عبد الله بن مَسْعُود
حَدثهمْ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: يرد النَّاس النَّار ثمَّ يصدرون عَنْهَا بأعمالهم،
فأولهم كلمح الْبَرْق ثمَّ كَالرِّيحِ ثمَّ كحضر الْفرس
ثمَّ كالراكب فِي رَحْله ثمَّ كشد الرجل ثمَّ كمشيه) ،
هَذَا حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن السّديّ وَلم
يرفعهُ. حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا عبد
الرَّحْمَن عَن شُعْبَة: عَن السّديّ بِمثلِهِ، قَالَ عبد
الرَّحْمَن: قلت لشعبة: إِن إِسْرَائِيل حَدثنِي عَن
السّديّ عَن مرّة عَن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ شُعْبَة وَقد سمعته من السّديّ
مَرْفُوعا وَلَكِنِّي أَدَعهُ عمدا. وَقيل: المُرَاد
بالورود الْمَمَر عَلَيْهَا. وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا
رَوَاهُ الإِمَام أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي، قَالَ:
حَدثنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد مندوست، قَالَ:
حَدثنَا فَارس بن مرْدَوَيْه، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
الْفضل، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم، قَالَ: حَدثنَا
يزِيد بن هَارُون، قَالَ: حَدثنَا الْجريرِي عَن أبي
السَّلِيل عَن غنيم بن قيس (عَن أبي الْعَوام، قَالَ:
قَالَ كَعْب: هَل تَدْرُونَ مَا قَوْله: {وَإِن مِنْكُم
إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . قَالُوا: مَا كُنَّا لنرى
وُرُودهَا إلاَّ دُخُولهَا. قَالَ: لَا، وَلَكِن
وُرُودهَا: أَن يجاء بجهنم كَأَنَّهَا متن إهالة حَتَّى
اسْتَوَت عَلَيْهَا أَقْدَام الْخَلَائق برهم وفاجرهم،
نَادَى مُنَاد: خذي أَصْحَابك وذري أَصْحَابِي، فتجيب
بِكُل ولي لَهَا وَهِي أعلم بهم من الْوَالِد بولده، وينجو
الْمُؤْمِنُونَ ندية ثِيَابهمْ) قَوْله: (كَأَنَّهَا متن
إهالة) أَي: ظهرهَا، والإهالة، بِكَسْر الْهمزَة، كل شَيْء
من الأدهان مِمَّا يؤتدم بِهِ. وَقيل: هُوَ مَا أذيب من
الإلية والشحم. وَقيل: الدسم الجامد. وَقيل: المُرَاد
بالورود الدنو مِنْهَا، وَقيل: الإشراف عَلَيْهَا. وَقيل:
المُرَاد بِهِ مَا يُصِيب الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا من
الْحمى، وَهُوَ محكي عَن مُجَاهِد فَإِنَّهُ قَالَ: الْحمى
حَظّ الْمُؤمن من النَّار، وَقيل: الْوُرُود مُخْتَصّ
بالكفار، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِقِرَاءَة بَعضهم: {وَإِن
مِنْكُم إلاَّ واردها} وَحكي ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس
أَيْضا، وَيكون الْوُرُود على ذَلِك فِي الْكفَّار دون
الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ أَبُو عمر: ظَاهر قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (فَتَمَسهُ النَّار) ، يدل على أَن
المُرَاد بالورود الدُّخُول، لِأَن الْمَسِيس حَقِيقَة فِي
اللُّغَة: المماسة، ثمَّ قَالَ: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس
وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن الْوُرُود
الدُّخُول، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَن جَابر.
انْتهى. وَيدل على صِحَة ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من
حَدِيث أم مُبشر: أَن حَفْصَة قَالَت للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ: (لَا يدْخل أحد شهد
الْحُدَيْبِيَة النَّار: أَلَيْسَ الله يَقُول: {وَإِن
مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . فَقَالَ لَهَا:
أَلَيْسَ الله يَقُول: {ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا}
(مَرْيَم: 27) . الْآيَة، وَيكون على مَذْهَب هَؤُلَاءِ:
ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا بِخُرُوج الْمُتَّقِينَ من
جملَة من يدخلهَا ليعلم فضل النِّعْمَة بِمَا شاهدوا فِيهِ
أهل الْعَذَاب.
ذكر إعرابه: قَوْله: (فيلج النَّار) ، مَنْصُوب بِأَن
الْمقدرَة، تَقْدِيره: فَأن يلج النَّار، لِأَن الْفِعْل
الْمُضَارع الْمَنْفِيّ ينصب بِأَن الْمقدرَة، وَحكى
الطَّيِّبِيّ عَن بَعضهم: إِنَّمَا تنصب الْفَاء الْفِعْل
الْمُضَارع بِتَقْدِير: أَن إِذا كَانَ مَا قبلهَا أَو مَا
بعْدهَا سَبَبِيَّة، وَلَا سَبَبِيَّة هَهُنَا، إِذْ لَا
يجوز أَن يكون موت الْأَوْلَاد وَلَا عَدمه سَببا لولوج
أَبِيهِم النَّار، فالفاء بِمَعْنى الْوَاو الَّتِي
للجمعية، وَتَقْدِيره: لَا يجْتَمع لمُسلم موت ثَلَاثَة من
أَوْلَاده وولوجه النَّار، وَنَظِيره مَا ورد: (مَا من عبد
يَقُول فِي صباح كل يَوْم وَمَسَاء كل لَيْلَة: بِسم الله
الَّذِي لَا يضر مَعَ اسْمه شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي
السَّمَاء وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم، فيضره شَيْء) .
بِالنّصب، وَتَقْدِيره: لَا يجْتَمع قَول عبد هَذِه
الْكَلِمَات فِي هَذِه الْأَوْقَات وضر شَيْء إِيَّاه.
قَالَ الطَّيِّبِيّ: إِن كَانَت الرِّوَايَة على النصب
فَلَا محيد عَن ذَلِك، وَالرَّفْع يدل على أَنه لَا يُوجد
ولوج النَّار عقيب موت الْأَوْلَاد إلاَّ مِقْدَارًا
يَسِيرا، وَمعنى: فَاء التعقيب، كمعنى الْمَاضِي فِي
قَوْله تَعَالَى:
(8/34)
{ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب
النَّار} (ك: 44) . فِي أَن مَا سَيكون بمنزله الْكَائِن،
لِأَن مَا أخبر بِهِ الصَّادِق من الْمُسْتَقْبل كالواقع،
وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا قد تَلقاهُ جمَاعَة عَن
الطَّيِّبِيّ وأقروه عَلَيْهِ، وَفِيه نظر، لِأَن
السَّبَبِيَّة حَاصِلَة بِالنّظرِ إِلَى الِاسْتِثْنَاء،
لِأَن الِاسْتِثْنَاء بعد النَّفْي إِثْبَات، فَكَانَ
الْمَعْنى: أَن تَخْفيف الولوج مسبب عَن موت الْأَوْلَاد،
وَهُوَ ظَاهر، لِأَن الولوج عَام وتخفيفه يَقع بِأُمُور
مِنْهَا موت الْأَوْلَاد بِشَرْطِهِ، وَمَا ادَّعَاهُ أَن
الْفَاء بِمَعْنى الْوَاو الَّتِي للْجمع فِيهِ نظر. قلت:
فِي كل وَاحِد من نظريه نظر، أما الأول: فلأنا لَا نسلم
حُصُول السَّبَبِيَّة بِالنّظرِ إِلَى الِاسْتِثْنَاء،
لِأَن الولوج هَهُنَا لَيْسَ على حَقِيقَته بالِاتِّفَاقِ،
لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْوُرُود، وَقد مر أَن فِي مَعْنَاهُ
أقوالاً. وَقَوله: لِأَن الِاسْتِثْنَاء بعد النَّفْي
إِثْبَات مَحل نزاع، وَقد علم فِي مَوْضِعه. وَإِمَّا
الثَّانِي: فأيضا مَمْنُوع، لِأَن الْحُرُوف يَنُوب
بَعْضهَا عَن بعض، وَلم يمْنَع أحد عَن ذَلِك أَلا ترى أَن
بَعضهم قَالُوا: إِن الِاسْتِثْنَاء بِمَعْنى: الْوَاو،
أَي: لَا تمسه النَّار قَلِيلا وَلَا كثيرا، وَلَا
تَحِلَّة الْقسم، وَقد جوز الْفراء والأخفش وَأَبُو
عُبَيْدَة مَجِيء: إلاَّ بِمَعْنى: الْوَاو، وَجعلُوا
مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم
حجَّة إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} (الْبَقَرَة: 051) .
أَي: وَلَا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم.
7 - (بابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأةِ عِنْدَ القَبْرِ
اصبِرِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز قَول الرجل للْمَرْأَة
عِنْد قبر الْمَيِّت: إصبري، وَالْقَصْد من هَذِه
التَّرْجَمَة جَوَاز مُخَاطبَة الرِّجَال للنِّسَاء بِمَا
فِيهِ موعظة وَأمر بِمَعْرُوف وَنهي عَن مُنكر، وَإِنَّمَا
ذكر بقوله: (قَول الرجل) إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك لَا
يخْتَص بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن
كَانَ فِي الحَدِيث قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأطلق إمرأة ليتناول الشَّابَّة والعجوز، وَعين لفظ:
اصْبِرِي، وَلم يقل لفظ: اتقِي، كَمَا فِي الحَدِيث
لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَاسب فِي ذَلِك الْوَقْت. فَإِن قلت:
لِمَ قَالَ: قَول الرجل، وَلم يقل: وعظ الرجل، وَنَحْوه؟
قلت: لعُمُوم معنى القَوْل وشموله.
2521 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ مرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بامْرَأةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وهْيَ تَبْكِي فَقَالَ اتَّقِي
الله واصْبِرِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واصبري) ، وَرِجَاله قد
ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار
عَن غنْدر، وَفِي الْأَحْكَام أَيْضا عَن إِسْحَاق بن
مَنْصُور عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث. وَأخرجه مُسلم
فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار وَعَن غنْدر عَن أبي مُوسَى
وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن عقبَة بن مكرم وَعَن أَحْمد بن
إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي وَزُهَيْر بن حَرْب عَن عبد
الصَّمد، ستتهم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى نَحوه. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمر بن عَليّ عَن غنْدر.
قَوْله: (وَهِي تبْكي) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله:
(فَقَالَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهَا:
(اتقِي الله واصبري) أَي: لَا تجزعي، فَإِن الْجزع يحبط
الْأجر، واصبري فَإِن الصَّبْر يجزل الْأجر، قَالَ
تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر
حِسَاب} (الزمر: 01) . وَقَالَ ابْن ابْن بطال: أَرَادَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن لَا يجْتَمع
عَلَيْهَا مصيبتان: مُصِيبَة فقد الْوَلَد، ومصيبة فقد
الْأجر الَّذِي يُبطلهُ الْجزع، فَأمرهَا بِالصبرِ الَّذِي
لَا بُد للجازع من الرُّجُوع إِلَيْهِ بعد سُقُوط أجره،
وَقيل: كل مُصِيبَة لم يذهب فَرح ثَوَابهَا ألم حزنها
فَهِيَ الْمُصِيبَة الدائمة، والحزن الْبَاقِي. وَقَالَ
الْحسن: الْحَمد لله الَّذِي أجرنا على مَا لَا بُد لنا
مِنْهُ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز زِيَارَة الْقُبُور
وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.
وَفِيه: دلَالَة على تواضعه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَكَونه لم ينهرها، وَفِيه: النَّهْي عَن الْبكاء بعد
الْمَوْت. وَفِيه: الموعظة للباكي بتقوى الله وَالصَّبْر.
8 - (بابُ غُسْلِ المَيِّتِ وَوَضُوئِهِ بِالمَاءِ
والسِّدْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَيِّت. . إِلَى
آخِره.
وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على أُمُور.
الأول: فِي غسل الْمَيِّت، هَل هُوَ فرض أَو وَاجِب أَو
سنة؟ فَقَالَ أَصْحَابنَا: هُوَ وَاجِب على الْأَحْيَاء
بِالسنةِ وَإِجْمَاع الْأمة. أما السّنة: فَقَوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (للْمُسلمِ على الْمُسلم سِتّ حُقُوق. .)
وَذكر مِنْهَا: إِذا مَاتَ أَن يغسلهُ، وأجمعت الْأمة على
هَذَا. وَفِي (شرح الْوَجِيز) : الْغسْل والتكفين
وَالصَّلَاة فرض
(8/35)
على الْكِفَايَة بِالْإِجْمَاع، وَكَذَا
نقل النَّوَوِيّ الْإِجْمَاع على أَن غسل الْمَيِّت فرض
كِفَايَة، وَقد أنكر بَعضهم على النَّوَوِيّ فِي نَقله
هَذَا فَقَالَ: وَهُوَ ذُهُول شَدِيد، فَإِن الْخلاف
مَشْهُور جدا عِنْد الْمَالِكِيَّة، حَتَّى أَن
الْقُرْطُبِيّ رجح فِي (شرح مُسلم) أَنه سنة، وَلَكِن
الْجُمْهُور على وُجُوبه. انْتهى. قلت: هَذَا ذُهُول أَشد
من هَذَا الْقَائِل حَيْثُ لم ينظر إِلَى معنى الْكَلَام،
فَإِن معنى قَوْله: سنة، أَي: سنة مُؤَكدَة، وَهِي فِي
قُوَّة الْوُجُوب، حَتَّى قَالَ هُوَ: وَقد رد ابْن
الْعَرَبِيّ على من لم يقل بذلك، أَي: بِالْوُجُوب،
وَقَالَ: توارد بِهِ القَوْل وَالْعَمَل وَغسل الطَّاهِر
المطهر فَكيف بِمن سواهُ؟ .
الثَّانِي: فِي أَن أصل وجوب غسل الْمَيِّت مَا رَوَاهُ
عبد الله بن أَحْمد فِي (الْمسند) (أَن آدم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، غسلته الْمَلَائِكَة وكفنوه وحنطوه
وحفروا لَهُ وألحدوا وصلوا عَلَيْهِ، ثمَّ دخلُوا قَبره
فوضعوه فِيهِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ اللَّبن، ثمَّ خَرجُوا
من قَبره، ثمَّ حثوا عَلَيْهِ التُّرَاب، ثمَّ قَالُوا:
يَا بني آدم هَذِه سبيلكم) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
بِمَعْنَاهُ.
الثَّالِث: فِي سَبَب وجوب غسل الْمَيِّت، فَقَالَ بَعضهم:
هُوَ الْحَدث، فَإِن الْمَوْت سَبَب لاسترخاء مفاصله،
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الْجِرْجَانِيّ وَغَيره
من مَشَايِخ الْعرَاق، إِنَّمَا أوجب النَّجَاسَة الْمَوْت
إِذْ الْآدَمِيّ لَهُ دم مسفوح كَسَائِر الْحَيَوَانَات،
وَلِهَذَا يَتَنَجَّس الْبِئْر بِمَوْتِهِ فِيهَا، وَفِي
(الْبَدَائِع) : عَن مُحَمَّد بن الشجاع البَجلِيّ أَن
الْآدَمِيّ لَا ينجس بِالْمَوْتِ كَرَامَة لَهُ، لِأَنَّهُ
لَو تنجس لما حكم بِطَهَارَتِهِ بِالْغسْلِ كَسَائِر
الْحَيَوَانَات الَّتِي حكم بنجاستها بِالْمَوْتِ،
وَسَيَأْتِي قَول ابْن عَبَّاس: إِن الْمُسلم لَا ينجس
حَيا وَلَا مَيتا. وَقَالَ بعض الْحَنَابِلَة: ينجس
بِالْمَوْتِ وَلَا يطهر بِالْغسْلِ ويتنجس الثَّوْب
الَّذِي ينشف بِهِ كَسَائِر الميتات، وَهَذَا بَاطِل بِلَا
شكّ وخرق للْإِجْمَاع
الرَّابِع: فِي وضوء الْمَيِّت، فوضوؤه سنة كَمَا فِي
الِاغْتِسَال فِي حَالَة الْحَيَاة، غير أَنه لَا يمضمض
وَلَا يستنشق عندنَا لِأَنَّهُمَا متعسران. وَقَالَ صَاحب
(الْمُغنِي) : وَلَا يدْخل المَاء فَاه وَلَا مَنْخرَيْهِ
فِي قَول أَكثر أهل الْعلم. وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير
وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأحمد. وَقَالَ الشَّافِعِي:
يمضمض ويستنشق كَمَا يَفْعَله الْحَيّ. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: الْمَضْمَضَة جعل المَاء فِي فِيهِ. قلت:
هَذَا خلاف مَا قَالَه أهل اللُّغَة، فَقَالَ
الْجَوْهَرِي: الْمَضْمَضَة تَحْرِيك المَاء فِي الْفَم،
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ لم يصوب من قَالَ مثل مَا قَالَ
النَّوَوِيّ.
الْخَامِس: فِي المَاء والسدر، فَالْحكم فِيهِ عندنَا أَن
المَاء يغلي بالسدر والأشنان مُبَالغَة فِي التَّنْظِيف،
فَإِن لم يكن السدر أَو الأشنان فالماء القراح، وَذكر فِي
(الْمُحِيط) و (الْمَبْسُوط) : أَنه يغسل أَولا بِالْمَاءِ
القراح، ثمَّ بِالْمَاءِ الَّذِي يطْرَح فِيهِ السدر،
وَفِي الثَّالِثَة يَجْعَل الكافور فِي المَاء وَيغسل
بِهِ، هَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَعند سعيد بن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ
وَالثَّوْري: يغسل فِي الْمرة الأولى وَالثَّانيَِة
بِالْمَاءِ القراح، وَالثَّالِثَة بالسدر. وَقَالَ
الشَّافِعِي: يخْتَص السدر بِالْأولَى، وَبِه قَالَ ابْن
الْخطاب من الْحَنَابِلَة. وَعَن أَحْمد: يسْتَعْمل السدر
فِي الثَّلَاث كلهَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَإِسْحَاق
وَسليمَان بن حَرْب. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَجْعَل السدر
فِي مَاء ويخضخض إِلَى أَن تخرج رغوته ويدلك جسده ثمَّ يصب
عَلَيْهِ المَاء القراح، فَهَذِهِ غسلة، وكرهت
الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْحَنَابِلَة المَاء المسخن، وخيره
مَالك مَا ذكره فِي (الْجَوَاهِر) وَفِي (الْخُتلِي) من
كتب الشَّافِعِيَّة، قيل: المسخن أولى بِكُل حَال وَهُوَ
قَول إِسْحَاق. وَفِي (الدِّرَايَة) : وَعند الشَّافِعِي
وَأحمد المَاء الْبَارِد أفضل إلاَّ أَن يكون عَلَيْهِ وسخ
أَو نَجَاسَة لَا تَزُول إلاَّ بِالْمَاءِ الْحَار أَو
يكون الْبرد شَدِيدا. فَإِن قلت: الْوضُوء مَذْكُور فِي
التَّرْجَمَة وَلم يذكر لَهُ حَدِيثا. قلت: اعْتمد على
الْمَعْهُود من الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة، عَن يُمكن
أَن يُقَال: إِنَّه اعْتمد على مَا ورد فِي بعض طرق حَدِيث
الْبَاب من حَدِيث أم عَطِيَّة: (إبدأن بميامنها ومواضع
الْوضُوء مِنْهَا) . وَقيل: أَرَادَ وضوء الْغَاسِل أَي:
لَا يلْزمه وضوء. قلت: هَذَا بعيد، لِأَن الْغَاسِل لم
يذكر فِيمَا قبله وَلَا يعود الضَّمِير فِي قَوْله:
(ووضوئه) إلاَّ إِلَى الْمَيِّت، وَوجه بَعضهم هَذَا
فَقَالَ: إلاَّ أَن يُقَال: تَقْدِير التَّرْجَمَة: بَاب
غسل الْحَيّ الْمَيِّت، لِأَن الْمَيِّت لَا يتَوَلَّى
ذَلِك بِنَفسِهِ فَيَعُود الضَّمِير على الْمَحْذُوف. قلت:
هَذَا عسف وَإِن كَانَ لَهُ وَجه مَعَ أَن رُجُوع
الضَّمِير إِلَى أقرب الشَّيْئَيْنِ إِلَيْهِ أولى.
وَحَنَّطَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
ابْنا لِسَعِيدِ بنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ وَصَلَّى ولَمْ
يَتَوَضَّأ
مطابقتة للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من موضِعين: الأول: من
قَوْله: (حنط) ، لِأَن التحنيط يسْتَلْزم الْغسْل،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: غسله وحنطه، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله:
بَاب غسل الْمَيِّت، وَالثَّانِي: من قَوْله: (وَلم
يتَوَضَّأ) ، لأَنا قد ذكرنَا أَن الضَّمِير فِي قَوْله:
(ووضوئه) ، يرجع إِلَى الْمَيِّت، وَقَوله: (لم
(8/36)
يتَوَضَّأ) يدل على أَن الْغَاسِل لَيْسَ
عَلَيْهِ وضوء، فَوَقع التطابق من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
وَقَالَ بَعضهم: وَقيل: تعلق هَذَا الْأَثر وَمَا بعده
بالترجمة من جِهَة أَن المُصَنّف يرى أَن الْمُؤمن لَا
ينجس بِالْمَوْتِ وَأَن غسله إِنَّمَا هُوَ للتعبد،
لِأَنَّهُ لَو كَانَ نجسا لم يطهره المَاء والسدر وَلَا
المَاء وَحده، وَلَو كَانَ نجسا مَا مَسّه ابْن عمر، ولغسل
مَا مَسّه من أَعْضَائِهِ. قلت: لَيْسَ بَين هَذَا الْأَثر
وَبَين التَّرْجَمَة تعلق أصلا من هَذِه الْجِهَة
الْبَعِيدَة، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ الْأَوْجه. نعم،
هَذَا الَّذِي ذكره يصلح أَن يكون وَجه التطابق بَين
التَّرْجَمَة وَبَين أثر ابْن عَبَّاس الْآتِي، لِأَن
إِيرَاده أثر ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الْبَاب يدل على أَنه
يرى فِيهِ رَأْي ابْن عَبَّاس، وَيفهم مِنْهُ أَن غسل
الْمَيِّت عِنْده أَمر تعبدي، وَإِن كَانَ قَوْله: بَاب
غسل الْمَيِّت، أَعم من ذَلِك، لَكِن إِيرَاده أثر ابْن
عَبَّاس وَأثر سعد، والْحَدِيث الْمُعَلق يدل على ذَلِك
فَافْهَم.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَكَأَنَّهُ أَشَارَ
إِلَى تَضْعِيف مَا أخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق عَمْرو
بن عُمَيْر عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من غسل
الْمَيِّت فليغتسل وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ) ، رُوَاته
ثِقَات إلاَّ عَمْرو بن عُمَيْر فَلَيْسَ بِمَعْرُوف، وروى
التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان من طَرِيق سُهَيْل بن أبي
صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، نَحوه، وَهُوَ مَعْلُول لِأَن أَبَا صَالح لم
يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: عَن
أَبِيه الصَّوَاب: عَن أبي هُرَيْرَة، مَوْقُوف. وَقَالَ
أَبُو دَاوُد بعد تَخْرِيجه: هَذَا مَنْسُوخ وَلم يبين
ناسخه، وَقَالَ الذهلي فِيمَا حَكَاهُ الْحَاكِم فِي
(تَارِيخه) : لَيْسَ فِيمَن غسل مَيتا فليتغسل حَدِيث
ثَابت. انْتهى. قلت: إيش وَجه إِشَارَة البُخَارِيّ
بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى تَضْعِيف الحَدِيث
الْمَذْكُور؟ فَأَي عبارَة تدل على هَذَا بِدلَالَة من
أَنْوَاع الدلالات، وَهَذَا كَلَام واه.
قلت: أما حَدِيث أبي دَاوُد فقد قَالَ فِي (سنَنه) :
حَدثنَا أَحْمد بن صَالح أخبرنَا ابْن أبي فديك حَدثنِي
ابْن أبي ذِئْب عَن الْقَاسِم ابْن عَبَّاس عَن عَمْرو بن
عُمَيْر عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من غسل الْمَيِّت. .) الحَدِيث،
وَابْن أبي فديك: هُوَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي
فديك، وَابْن أبي ذِئْب: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن
الْمُغيرَة بن الْحَارِث ابْن أبي ذِئْب، وَعَمْرو بن
عُمَيْر، بِفَتْح الْعين فِي الإبن وَضمّهَا فِي الْأَب
قلت: قَوْله: عَمْرو بن عُمَيْر لَيْسَ بِمَعْرُوف،
إِشَارَة إِلَى تَضْعِيف الحَدِيث، فَهَذَا أَبُو دَاوُد
قد روى لَهُ وَسكت عَلَيْهِ فَدلَّ على أَنه قد رَضِي
بِهِ، وَلكنه قَالَ: هَذَا مَنْسُوخ، فَرده هَذَا الحَدِيث
لم يكن إلاَّ من جِهَة كَونه مَنْسُوخا، ثمَّ قَالَ هَذَا
الْقَائِل: وَلم يبين ناسخه قلت: بِتَرْكِهِ بَيَان
النَّاسِخ لَا يلْزم تَضْعِيف الحَدِيث، والنسخ يعلم
بِأُمُور مِنْهَا: ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ
يدل على وجود نَاسخ وَإِن لم يطلع عَلَيْهِ.
وَأما حَدِيث التِّرْمِذِيّ فقد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد
بن عبد الْملك بن أبي الشَّوَارِب حَدثنَا عبد الْعَزِيز
بن الْمُخْتَار عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن
أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (من غسله الْغسْل وَمن حمله الْوضُوء) يَعْنِي
الْمَيِّت، وَقَالَ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث حسن،
وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا، ثمَّ قَالَ:
وَقد اخْتلف أهل الْعلم فِي الَّذِي يغسل الْمَيِّت،
فَقَالَ بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم: إِذا غسل مَيتا فَعَلَيهِ
الْغسْل، وَقَالَ بَعضهم: عَلَيْهِ الْوضُوء، وَقَالَ
مَالك بن أنس: اسْتحبَّ الْغسْل من غسل الْمَيِّت وَلَا
أرى ذَلِك وَاجِبا، وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ
أَحْمد: من غسل مَيتا أَرْجُو أَن لَا يجب عَلَيْهِ
الْغسْل، فَأَما الْوضُوء فَأَقل مَا فِيهِ. وَقَالَ
إِسْحَاق: لَا بُد من الْوضُوء، وَقد رُوِيَ عَن عبد الله
بن الْمُبَارك أَنه قَالَ: لَا يغْتَسل وَلَا يتَوَضَّأ من
غسل الْمَيِّت، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن
عَليّ وَعَائِشَة. قلت: كِلَاهُمَا عِنْد أبي دَاوُد،
وَفِي الْبَاب عَن حُذَيْفَة عِنْد الْبَيْهَقِيّ
بِإِسْنَاد سَاقِط، وَقَالَ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) :
أدْركْت النَّاس على أَن غاسل الْمَيِّت يغْتَسل،
وَاسْتَحْسنهُ ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب، وَقَالَ ابْن
حبيب: لَا غسل عَلَيْهِ وَلَا وضوء، وَفِي (التَّوْضِيح) :
وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: الْجَدِيد هَذَا، وَالْقَدِيم:
الْوُجُوب، وبالغسل قَالَ ابْن الْمسيب وَابْن سِيرِين
وَالزهْرِيّ، قَالَه ابْن الْمُنْذر، وَقَالَ الْخطابِيّ:
لَا أعلم أحدا قَالَ بِوُجُوب الْغسْل مِنْهُ، وَأوجب
أَحْمد وَإِسْحَاق الْوضُوء مِنْهُ.
وَأما التَّعْلِيق الْمَذْكُور فقد وَصله مَالك فِي
(موطئِهِ) عَن نَافِع: أَن ابْن عمر حنط ابْنا لسَعِيد بن
زيد وَحمله ثمَّ دخل الْمَسْجِد فصلى وَلم يتَوَضَّأ، وروى
ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن
أَبِيه: أَن ابْن عمر كفن مَيتا وحنطه وَلم يمس مَاء،
وَعَن أبي الْأَحْوَص عَن عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد بن
جُبَير، قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: اغْتسل من غسل الْمَيِّت؟
قَالَ: لَا. وَحدثنَا عباد بن الْعَوام عَن حجاج عَن
سُلَيْمَان بن ربيع عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: غسلت
أُمِّي ميتَة، فَقَالَت لي: سل، عَليّ غسل؟ فَأتيت ابْن
عمر فَسَأَلته، فَقَالَ: أنجسا غسلت؟ ثمَّ أتيت ابْن
عَبَّاس، فَسَأَلته فَقَالَ مثل ذَلِك: أنجسا غسلت؟
وَحدثنَا عباد عَن حجاج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس وَابْن
عمر أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ على غاسل الْمَيِّت غسل؟
قَوْله: (حنط) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
النُّون أَي: اسْتعْمل الحنوط، وَهُوَ كل شَيْء خلط من
الطّيب
(8/37)
للْمَيت خَاصَّة، قَالَه الْكرْمَانِي
وَتَبعهُ بَعضهم على هَذَا. وَفِي (الصِّحَاح) بالحنوط
ذريرة، وَهُوَ طيب الْمَيِّت. قلت: الحنوط: عطر مركب من
أَنْوَاع الطّيب يَجْعَل على رَأس الْمَيِّت ولحيته ولبقيه
جسده إِن تيَسّر،. وَفِي الحَدِيث: (أَن ثمودا لما
استيقنوا بِالْعَذَابِ تكفنوا بالأنطاع وتحنطوا بِالصبرِ
لِئَلَّا يجيفوا وينتنوا) . وَفِي (الْمُحِيط) : لَا بَأْس
بِسَائِر الطّيب فِي الحنوط غير الزَّعْفَرَان والورس فِي
حق الرِّجَال، وَلَا بَأْس بهما فِي حق النِّسَاء، فَيدْخل
فِيهِ الْمسك، وَأَجَازَهُ أَكثر الْعلمَاء، وَأمر بِهِ
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَاسْتَعْملهُ أنس
وَابْن عمر وَابْن الْمسيب، وَبِه قَالَ: مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَكَرِهَهُ: عَطاء
وَالْحسن وَمُجاهد، وَقَالُوا: إِنَّه ميتَة واستعماله فِي
الحنوط على الْجَبْهَة والراحتين والركبتين والقدمين.
وَفِي (الرَّوْضَة) : وَلَا بَأْس بِجعْل الْمسك فِي
الحنوط وَقَالَ النَّخعِيّ: يوضع الحنوط على الْجَبْهَة
والراحتين والركبتين والقدمين، وَفِي (الْمُفِيد) : وَإِن
لم يفعل فَلَا يضر، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ والقرافي:
يسْتَحبّ فِي الْمرة الثَّالِثَة شَيْء من الكافور.
قَالَا: وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يسْتَحبّ. قلت: نقلهما
ذَلِك عَنهُ خطأ.
قَوْله: (ابْنا لسَعِيد) وَاسم الابْن: عبد الرَّحْمَن،
روى عَن اللَّيْث عَن نَافِع أَنه رأى عبد الله بن عمر حنط
عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن زيد، وَسَعِيد بن زيد هَذَا أحد
الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، أسلم قَدِيما وَمَات
بالعقيق، وَنقل إِلَى الْمَدِينَة فَدفن بهَا سنة إِحْدَى
وَخمسين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
المُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ حَيَّا وَلاَ مَيِّتا
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا فِي أثر ابْن عمر
الَّذِي مضى، وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن عَطاء (عَن ابْن
عَبَّاس أَنه قَالَ: لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُؤمن
لَيْسَ بِنَجس حَيا وَلَا مَيتا) . قَوْله: (لَا تنجسوا
مَوْتَاكُم) أَي: لَا تَقولُوا إِنَّهُم نجس، وَرَوَاهُ
سعيد بن مَنْصُور أَيْضا عَن سُفْيَان نَحوه، وَرَوَاهُ
الْحَاكِم مَرْفُوعا، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم ابْن
عصمَة بن إِبْرَاهِيم الْعدْل حَدثنَا أَبُو مُسلم الْمسيب
بن زُهَيْر الْبَغْدَادِيّ حَدثنَا أَبُو بكر وَعُثْمَان
ابْنا ابْن أبي شيبَة، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان بن
عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء بن أبي رَبَاح
عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله: (لَا تنجسوا
مَوْتَاكُم فَإِن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا)
صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
وقَالَ سَعدٌ لَوْ كانَ نَجِسا مَا مَسِستُهُ
وَجه الْمُطَابقَة مَا ذَكرْنَاهُ، وَوَقع فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ وَأبي الْوَقْت سعيد بِالْيَاءِ وَالْأول أشهر
وَأَصَح، وَهُوَ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة عَن يحيى
بن سعيد الْقطَّان عَن الْجَعْد عَن عَائِشَة قَالَت:
أُوذِنَ سعد بِجنَازَة سعيد بن زيد وَهُوَ بِالبَقِيعِ
فَجَاءَهُ فَغسله وكفنه وحنطه، ثمَّ أَتَى دَاره فصلى
عَلَيْهِ، ثمَّ دَعَا بِمَاء فاغتسل، ثمَّ قَالَ: لم
أَغْتَسِل من غسله وَلَو كَانَ نجسا مَا غسلته أَو مَا
مَسسْته، وَلَكِنِّي أَغْتَسِل من الْحر.
وَفِي هَذَا الْأَثر فَائِدَة حَسَنَة وَهِي: أَن الْعَالم
إِذا عمل عملا يخْشَى أَن يلتبس على من رَآهُ يَنْبَغِي
لَهُ أَن يعلمهُمْ بِحَقِيقَة الْأَمر لِئَلَّا يحملوه على
غير محمله.
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المُؤْمِنُ لاَ
يَنْجُسُ
هَذَا طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة ذكره البُخَارِيّ
مُسْندًا فِي: بَاب الْجنب يمشي، فِي كتاب الْغسْل:
حَدثنَا عَيَّاش، قَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى، قَالَ:
حَدثنَا حميد عَن أبي رَافع (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ:
لَقِيَنِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا
جنب. .) الحَدِيث، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ حميع مَا يتَعَلَّق
بِهِ مستقصىً.
3521 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني
مالِكٌ عنْ أيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عنْ مُحَمَّدِ بنِ
سيرِينَ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَ علَيْنَا رسولُ الله حِينَ
تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاثا أوْ
خَمْسا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ أنْ رَأيْتُنَّ ذالِكَ
بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كافُورا أوْ
شَيْئا مِنْ كافُورٍ فَإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي
فلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فأعْطَانا حِقْوَهُ فَقَالَ
(8/38)
أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ تَعْنِي إزَارَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، وَإِسْمَاعِيل
بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس ابْن أُخْت
مَالك، وَأم عَطِيَّة اسْمهَا: نسيبة، بِضَم النُّون، بنت
كَعْب، وَيُقَال: بنت الْحَارِث الْأَنْصَارِيَّة، وَقد
شهِدت غسل ابْنة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وحكت ذَلِك فأتقنت، وحديثها أصل فِي غسل الْمَيِّت، ومدار
حَدِيثهَا على مُحَمَّد وَحَفْصَة ابْني سِيرِين، حفظت
مِنْهَا حَفْصَة مَا لم يحفظ مُحَمَّد، وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: لَيْسَ فِي أَحَادِيث غسل الْمَيِّت أَعلَى من
حَدِيث أم عَطِيَّة، وَعَلِيهِ عول الْأَئِمَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مدنيان، وَأَيوب وَابْن
سِيرِين بصريان. وَفِيه: عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد وَفِي
رِوَايَة ابْن جريج: عَن أَيُّوب سَمِعت ابْن سِيرِين.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ
هَذَا الحَدِيث من أحد عشر طَرِيقا. الأول: أخرجه فِي
الطَّهَارَة فِي: بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء
وَالْغسْل، عَن مُسَدّد وَقد ذكرنَا هُنَاكَ من أخرجه
غَيره. الثَّانِي: عَن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور فِي هَذَا
الْبَاب. الثَّالِث: عَن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب فِي:
بَاب مَا يسْتَحبّ أَن يغسل وترا. الرَّابِع: عَن عَليّ بن
عبد الله فِي: بَاب مَا يبْدَأ بميامن الْمَيِّت. وَأخرجه
مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن أَيُّوب وَابْن أبي
شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل
وَعَن إِسْمَاعِيل بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن أبي كَامِل الجحدري عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن
أَحْمد بن جنبل عَن إِسْمَاعِيل بِهِ. الْخَامِس: عَن يحيى
بن مُوسَى فِي: بَاب مَوَاضِع الْوضُوء من الْمَيِّت.
السَّادِس: عَن عبد الرَّحْمَن بن حَمَّاد فِي: بَاب هَل
تكفن الْمَرْأَة فِي إِزَار الرجل. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن شُعَيْب بن يُوسُف. السَّابِع: عَن حَامِد بن
عمر فِي: بَاب يَجْعَل الكافور فِي آخِرَة. الثَّامِن: عَن
أَحْمد عَن ابْن وهب فِي: بَاب ينْقض شعر الْمَرْأَة.
التَّاسِع: عَن أَحْمد عَن ابْن وهب أَيْضا فِي: بَاب
كَيفَ الْإِشْعَار للْمَيت. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز
عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن
حَمَّاد بن زيد وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن يحيى بن
يحيى وَعَن يحيى بن أَيُّوب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَعَن مُسَدّد وَمُحَمّد بن
عبيد، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَحَمَّاد بن
زيد فرقهما بِهِ، وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن
عَمْرو بن زُرَارَة وَعَن يُوسُف بن سعيد. وَأخرجه ابْن
مَاجَه عَن ابْن أبي شيبَة عَن الثَّقَفِيّ بِهِ.
الْعَاشِر: عَن قبيصَة عَن سُفْيَان فِي: بَاب هَل يَجْعَل
شعر الْمَرْأَة ثَلَاثَة قُرُون. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. الْحَادِي عشر: عَن
مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد فِي: بَاب يلقى شعر الْمَرْأَة
خلفهَا. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن عَمْرو
النَّاقِد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَن أَحْمد بن
منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمر بن عَليّ عَن يحيى
بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حِين توفيت ابْنة) هِيَ زَيْنَب
زوج أبي الْعَاصِ بن الرّبيع وَالِدَة أُمَامَة هِيَ
الَّتِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يحملهَا فِي الصَّلَاة، فَإِذا سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ
حملهَا، وَزَيْنَب أكبر بَنَات رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَتزَوج بِزَيْنَب: أَبُو الْعَاصِ بن
الرّبيع فَولدت مِنْهُ عليا وأمامة، وَتوفيت زَيْنَب فِي
سنة ثَمَان. قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ قَتَادَة عَن
ابْن حزم: فِي أول سنة ثَمَان، وَلم يَقع فِي رِوَايَات
البُخَارِيّ ابْنَته هَذِه مُسَمَّاة، وَهُوَ مُصَرح بِهِ
فِي لفظ مُسلم (عَن أم عَطِيَّة، قَالَت: لما مَاتَت
زَيْنَب بنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ
لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اغسلنها. .)
الحَدِيث، هَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ الْأَكْثَر وَذكر بعض
أهل السّير أَنَّهَا أم كُلْثُوم زوج عُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَقد ذكره أَبُو دَاوُد أَيْضا، قَالَ:
حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم حَدثنَا أبي عَن أبي إِسْحَاق حَدثنِي نوح بن
حَكِيم الثَّقَفِيّ وَكَانَ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ عَن رجل
من بني عُرْوَة بن مَسْعُود يُقَال لَهُ دَاوُد، وَقد
وَلدته أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ليلى بنت قانف الثقفية، قَالَت:
كنت فِيمَن غسل أم كُلْثُوم ابْنة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد وفاتها، فَكَانَ أول مَا
أَعْطَانَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحقا ثمَّ الدرْع
ثمَّ الْخمار ثمَّ الملحفة، ثمَّ أدرجت بعد فِي الثَّوْب
الآخر. قَالَت: وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جَالس عِنْد الْبَاب مَعَه
(8/39)
كفنها يناولنا ثوبا ثوبا. وَقَالَ
الْمُنْذِرِيّ: فِيهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَفِيه من
لَيْسَ بِمَشْهُور، وَالصَّحِيح أَن هَذِه الْقِصَّة فِي
زَيْنَب، لِأَن أم كُلْثُوم توفيت وَرَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، غَائِب ببدر، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي
كِتَابه: ونوح بن حَكِيم رجل مَجْهُول لم تثبت عَدَالَته،
وَقد غلطوا الْمُنْذِرِيّ فِي قَوْله: أم كُلْثُوم توفيت
وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَائِب ببدر،
لِأَن الَّتِي توفيت حِينَئِذٍ رقية. فَإِن قلت: حكى ابْن
التِّين عَن الدَّاودِيّ الشَّارِح بِأَنَّهُ جزم بِأَن
الْبِنْت الْمَذْكُورَة أم كُلْثُوم زوج عُثْمَان. وَذكر
صَاحب (التَّلْوِيح) : بِأَن التِّرْمِذِيّ زعم أَنَّهَا
أم كُلْثُوم قلت: أما الدَّاودِيّ فَإِنَّهُ لم يذكر
مُسْتَنده، وَأما التِّرْمِذِيّ فَلم يذكر شَيْئا من
ذَلِك. فَإِن قلت: ذكر الدولابي من طَرِيق أبي الرِّجَال
عَن عمْرَة أَن أم عَطِيَّة كَانَت مِمَّن غسل أم كُلْثُوم
بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: لَا يلْزم من
ذَلِك أَن تكون الْبِنْت فِي حَدِيث الْبَاب أم كُلْثُوم،
لِأَن أم عَطِيَّة كَانَت غاسلة الميتات فَيمكن أَن تكون
حضرت لَهما جَمِيعًا.
قَوْله: (ثَلَاثًا أَو خمْسا) وَفِي رِوَايَة هِشَام بن
حسان عَن حَفْصَة: (إغسلنها وترا ثَلَاثًا أَو خمْسا) .
وَكلمَة: أَو. هُنَا للتنويع، وَالنَّص على الثَّلَاث أَو
الْإِشَارَة إِلَى أَن الْمُسْتَحبّ، الإيتار، أَلا يُرى
أَنه نقلهن من الثَّلَاث إِلَى الْخمس دون الْأَرْبَع،
وَقَالَ بَعضهم: أَو، هُنَا للتَّرْتِيب لَا للتَّخْيِير.
قلت: لم ينْقل عَن أحد أَن: أَو، تَجِيء للتَّرْتِيب، وَقد
ذكر النُّحَاة أَن: أَو، تَأتي لاثني عشر معنى، وَلَيْسَ
فِيهَا مَا يدل على أَنَّهَا تَجِيء للتَّرْتِيب،
وَالظَّاهِر أَنه أَخذه من الطَّيِّبِيّ فَإِنَّهُ نقل من
الْمظهر شرح المصابيح) : أَن فِيهِ للتَّرْتِيب دون
التَّخْيِير، إِذْ لَو حصل الِاكْتِفَاء بالغسلة الأولى
اسْتحبَّ التَّثْلِيث، وَكره التجاوز عَنهُ فَإِن حصلت
بِالثَّانِيَةِ أَو بالثالثة اسْتحبَّ التخميس، وَإِلَّا
فالتسبيع، وَالْمَنْع بَاقٍ فِيهِ. وَفِي الطَّيِّبِيّ فِي
نَقله، وَفِي صَاحب الْمظهر شَارِح (المصابيح) . قَوْله:
(أَو أَكثر من ذَلِك) أَي: من الْخمس يَنْتَهِي إِلَى
السَّبع، كَمَا فِي رِوَايَة أَيُّوب عَن حَفْصَة:
ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو سبعا، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب
الَّذِي يَلِيهِ، وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَات أَكثر من
السَّبع إلاَّ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: حَدثنَا حَمَّاد
عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أم عَطِيَّة بِمَعْنى حَدِيث
مَالك، زَاد فِي حَدِيث حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة نَحْو
هَذَا، وزادت فِيهِ: أَو سبعا أَو أَكثر، من ذَلِك إِن
رَأَيْته. وَيُسْتَفَاد من هَذَا اسْتِحْبَاب الإيتار
بِالزِّيَادَةِ على السَّبْعَة لِأَن ذَلِك أبلغ فِي
التَّنْظِيف، وَكره أَحْمد مُجَاوزَة السَّبع، وَقَالَ
ابْن عبد الْبر: لَا أعلم أحدا قَالَ بمجاوزة السَّبع،
وسَاق من طَرِيق قَتَادَة أَن ابْن سِيرِين كَانَ يَأْخُذ
الْغسْل عَن أم عَطِيَّة ثَلَاثًا وإلاَّ فخمسا وإلاَّ
فسبعا. قَالَ: فَرَأَيْنَا أَن الْأَكْثَر من ذَلِك سبع.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الزِّيَادَة على السَّبع سرف،
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: بَلغنِي أَن جَسَد الْمَيِّت
يسترخي بِالْمَاءِ، فَلَا أحب الزِّيَادَة على ذَلِك.
قَوْله: (إِن رأيتن ذَلِك) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: بِكَسْر
الْكَاف خطاب لأم عَطِيَّة وَرَأَيْت بِمَعْنى الرَّأْي
يَعْنِي أَن احتجتن إِلَى أَكثر من ثَلَاث أَو خمس للانقاء
لَا للتشهي فلتفعلن قلت: كسر الْكَاف فِي ذَلِك الثَّانِي
لَا فِي الأول، فَإِن بَعضهم نقل ذَلِك عَن الطَّيِّبِيّ.
وَلكنه غلط فِيهِ، وَذكره فِي ذَلِك الأول، وَلَيْسَ
كَذَلِك على مَا يخفى، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: إِنَّمَا
فوض الرَّأْي إلَيْهِنَّ بِالشّرطِ الْمَذْكُور وَهُوَ
الإيتار. وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم، قَالَ: يحْتَمل
قَوْله: (إِن رأيتن) أَن يرجع إِلَى الْأَعْدَاد
الْمَذْكُورَة، وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: إِن رأيتن
أَن تفعلن ذَلِك وإلاَّ فالاتقاء يَكْفِي. قَوْله: (بِمَاء
وَسدر) ، الْبَاء تتَعَلَّق بقوله: (اغسلنها) قَالَ
الطَّيِّبِيّ نَاقِلا عَن المطهر: قَوْله: (بِمَاء وَسدر)
لَا يَقْتَضِي اسْتِعْمَال السدر فِي جَمِيع الغسلات،
وَالْمُسْتَحب اسْتِعْمَاله فِي الكرة الأولى ليزيل
الأقذار، وَيمْنَع من تسارع الْفساد. وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ: قَوْله: (بِمَاء وَسدر) أصل فِي جَوَاز
التطهر بِالْمَاءِ الْمُضَاف إِذا لم يسلب الْإِطْلَاق.
وَقَالَ ابْن التِّين. قَوْله: (بِمَاء وَسدر) هُوَ السّنة
فِي ذَلِك، والخطمي مثله، فَإِن عدم فَمَا يقوم مقَامه
كالأشنان والنطرون، وَلَا معنى لطرح ورق السدر فِي المَاء،
كَمَا تفعل الْعَامَّة، وأنكرها أَحْمد وَلم يُعجبهُ،
وَمثله من قَالَ: يحك الْمَيِّت بالسدر وَيصب عَلَيْهِ
المَاء فَتحصل طَهَارَته بِالْمَاءِ، وَعَن ابْن سِيرِين،
أَنه كَانَ يَأْخُذ الْغسْل عَن أم عَطِيَّة فَيغسل
بِالْمَاءِ والسدر مرَّتَيْنِ وَالثَّالِثَة بِالْمَاءِ
والكافور. وَمِنْهُم من ذهب إِلَى أَن الغسلات كلهَا
بِالْمَاءِ والسدر، وَهُوَ قَول أَحْمد: وَلما غسلوا
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غسلوه بِمَاء وَسدر
ثَلَاث مَرَّات، فِي كُلهنَّ ذكره أَبُو عمر. قَوْله:
(واجعلن فِي الْآخِرَة) أَي فِي الْمرة الْآخِرَة ويروى
(الْأَخِيرَة) قَوْله: (كافورا) وَالْحكمَة فِيهِ أَن
الْجِسْم يتصلب بِهِ وتنفر الْهَوَام من رَائِحَته، وَفِيه
إكرام الْمَلَائِكَة. وَخَصه صَاحب (الْمَذْهَب) بالثالثة،
والجرجاني بِالثَّانِيَةِ، وهما غَرِيبَانِ. وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : وَانْفَرَدَ أَبُو حنيفَة فَقَالَ: لَا
يسْتَحبّ الكافور
(8/40)
وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. قلت: لم يقل أَبُو حنيفَة هَذَا
أصلا، وَقد بَينا فِيمَا مضى مذْهبه، وَقَالَ أَيْضا:
يسْتَحبّ عندنَا أَن يَجْعَل فِي كل غسلة قَلِيل كافور.
قَوْله: (أَو شَيْئا من كافور) شكّ من الرَّاوِي أَي
اللَّفْظَيْنِ قَالَ. وَقَوله: (شَيْئا) نكرَة فِي سِيَاق
الْإِثْبَات فَيصدق بِكُل شَيْء مِنْهُ، وَهل يقوم الْمسك
مقَام الكافور، قَالَ بَعضهم: إِن نظر إِلَى مُجَرّد
التَّطَيُّب، نعم وَإِلَّا فَلَا. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل
ينظر إِن كَانَ يُوجد فِيهِ مَا ذكره من الْأُمُور فِي
الكافور يَنْبَغِي أَن يقوم وإلاَّ فَلَا إلاَّ عِنْد
الضَّرُورَة، فَيقوم غَيره مقَامه. قَوْله: (آذنني) ،
بتَشْديد النُّون الأولى، قَالَه الْكرْمَانِي، وَلم يبين
وَجهه. قلت: هَذَا أَمر لجَماعَة الْإِنَاث، من: آذن يُؤذن
إِيذَانًا إِذا علم. . قَوْله: (فَلَمَّا فَرغْنَا)
هَكَذَا هُوَ بِصِيغَة الْمَاضِي لجَماعَة
الْمُتَكَلِّمين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَلَمَّا
فرغن) بِصِيغَة الْمَاضِي للْجمع الْمُؤَنَّث. وَقَالَ
بَعضهم: (فَلَمَّا فَرغْنَا) للْأَكْثَر بِصِيغَة الْخطاب
من الْحَاضِر، وللأصيلي: (فَلَمَّا فرغن) بِصِيغَة
الْغَائِب قلت: هَذَا الْقَائِل لم يمس شَيْئا من علم
التصريف وَلَا يخفى فَسَاد تصرفه. قَوْله: (حقوه) ،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفِي
(الْمُحكم) الحقو، والحقو يَعْنِي بِالْفَتْح وَالْكَسْر،
والحقوة والحقا: كُله الْإِزَار، كَأَنَّهُ سمي بِمَا يلاث
عَلَيْهِ، وَالْجمع: أَحَق وأحقاء وحقي وحقاء، وَقد فسره
فِي الْمَتْن بقوله: تَعْنِي إزَاره، يَعْنِي إِزَار
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: الحقو
فِي الأَصْل معقد الْإِزَار واطلق على الْإِزَار مجَازًا
(وَفِي رِوَايَة ابْن عَوْف عَن مُحَمَّد بن سِيرِين
بِلَفْظ فَنزع من حقوه إزَاره) والحقو فِي هَذَا على
حَقِيقَته. قلت: إِن كَانَ أخذا من مَوضِع كَانَ يتَعَيَّن
عَلَيْهِ أَن يبين مأخذه، وَإِن كَانَ هَذَا تَصرفا من
عِنْده فَهُوَ غير صَحِيح، وَلم يقل أحد إِن الحقو فِي
مَوضِع مجَاز وَفِي مَوضِع حَقِيقَة، بل هُوَ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَة لِأَنَّهُ مُشْتَرك بَين
الْمَعْنيين، والمشترك حَقِيقَة فِي الْمَعْنيين
وَالثَّلَاثَة وَأكْثر وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن
الْجَوْهَرِي قَالَ: الحقو: الْإِزَار وَثَلَاثَة أَحَق.
ثمَّ قَالَ: والحقو أَيْضا الخصر ومشد الْإِزَار. قَوْله:
(أشعرنها إِيَّاه) أَمر من الْإِشْعَار وَهُوَ إلباس
الثَّوْب الَّذِي يَلِي بشرة الْإِنْسَان أَي: إجعلن هَذَا
الْإِزَار شعارها، وَسمي: شعارا لِأَنَّهُ يَلِي شعر
الْجَسَد، والدثار مَا فَوق الْجَسَد، وَالْحكمَة فِيهِ
التَّبَرُّك بآثاره الشَّرِيفَة، وَإِنَّمَا أَخّرهُ إِلَى
فراغهن من الْغسْل وَلم يناولهن إِيَّاه أَولا ليَكُون
قريب الْعَهْد من جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الشريف
حَتَّى لَا يكون بَين انْتِقَاله من جسده إِلَى جَسدهَا
فاصل، وَهُوَ أصل فِي التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين،
وَاخْتلف فِي صفة إشعارها إِيَّاه فَقيل يَجْعَل لَهَا
مئزرا، وَقيل: تلفُّ فِيهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب
اسْتِعْمَال السدر والكافور فِي حق الْمَيِّت. وَفِيه:
دَلِيل على جَوَاز اسْتِعْمَال الْمسك وكل مَا شابهه من
الطّيب، وَأَجَازَ الْمسك أَكثر الْعلمَاء، وَأمر عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهِ فِي حنوطه. وَقَالَ: هُوَ
من فضل حنوط النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَاسْتَعْملهُ أنس وَابْن عمر وَسَعِيد بن الْمسيب،
وَكَرِهَهُ عمر وَعَطَاء وَالْحسن وَمُجاهد. وَقَالَ عَطاء
وَالْحسن: أَنه ميتَة، وَفِي اسْتِعْمَال الشَّارِع لَهُ
فِي حنوطه حجَّة عَلَيْهِم. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمسك
حَلَال للرِّجَال وَالنِّسَاء. وَفِيه: مَا يدل على أَن
النِّسَاء أَحَق بِغسْل الْمَرْأَة من الزَّوْج، وَبِه
قَالَ الْحسن وَالثَّوْري وَالشعْبِيّ وَأَبُو حنيفَة،
وَالْجُمْهُور على خِلَافه، وَهُوَ قَول الثَّلَاثَة
وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقد
وصت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زَوجهَا عليا،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بذلك، وَكَانَ بِحَضْرَة
الصَّحَابَة وَلم يُنكر أحد، فَصَارَ إِجْمَاعًا. قلت:
وَفِيه: نظر لِأَن صَاحب (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) و
(الْبَدَائِع) وَآخَرُونَ قَالُوا: إِن ابْن مَسْعُود
سُئِلَ عَن فعل عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي
ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّهَا زَوجته فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة، وعنى بذلك أَن الزَّوْجِيَّة بَاقِيَة
بَينهمَا لم تَنْقَطِع، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَو بقيت
الزَّوْجِيَّة بَينهمَا لما تزوج أُمَامَة بنت زَيْنَب بعد
موت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مَاتَ
عَن أَربع حرائر، وَوَصِيَّة فَاطِمَة عليا بغسلها رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ وَفِي إِسْنَاده عبد
الله بن نَافِع، قَالَ يحيى: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ
النَّسَائِيّ: مَتْرُوك، وَالْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ فِي
(سنَنه الْكَبِير) وَسكت، وَظن أَنه يخفى، وَأما
الْمَرْأَة إِذا غسلت زَوجهَا وَهِي مُعْتَدَّة فَهُوَ
جَائِز لَهُ لِأَنَّهَا فِي الْعدة. وَفِيه: جَوَاز تكفين
الْمَرْأَة فِي ثوب الرجل. |