عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 73 - (بابُ مَا يُنْهى مِنَ الحَلْقِ
عِنْدَ المُصِيبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى من الْحلق،
وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون
مَصْدَرِيَّة.
6921 - قالَ الحَكَمُ بنُ مُوسى احدَّثنا يَحْيى بنُ
حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ جابِرٍ أنَّ
القَاسِمَ بنَ مخَيْمِرَةَ حدَّثَهُ. قَالَ حدَّثني أبُو
بُرْدَةَ بنُ مُوسى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ وَجِعَ
أبُو مُوسى وَجَعا فَغُشِيَ عليهِ وَرَأسُهُ فِي حجْرِ
امْرَأةٍ مِنْ أهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَرُدَّ
عَلَيْهَا شَيْئا فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ أَنا بَرِىءٌ
مِمَّنْ بَرِيءٌ مِنْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرِيءٌ
مِنَ الصَّالِقةِ وَالحالِقَةِ والشَّاقَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والحالقة) ، وَإِنَّمَا
خص الْحلق بِالذكر، وَإِن كَانَ حَدِيث الْبَاب
مُشْتَمِلًا على ثَلَاثَة أَشْيَاء لكَونه أبشعها فِي حق
النِّسَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الحكم، بِفتْحَتَيْنِ:
ابْن مُوسَى أَبُو صَالح الْقَنْطَرِي، بِفَتْح الْقَاف
وَسُكُون النُّون الزَّاهِد، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: يحيى بن حَمْزَة
أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي دمشق، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ
وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن جَابر هُوَ عبد
الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر الْأَزْدِيّ، مَاتَ سنة
أَربع وَخمسين وَمِائَة. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مخيمرة،
بِضَم الْمِيم وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: أَبُو عُرْوَة. الْخَامِس:
أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه: عَامر.
وَقيل: الْحَارِث. السَّادِس: أَبوهُ، أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: أَنه صدر الحَدِيث بقوله:
قَالَ الحكم، بِدُونِ التحديث أَو الْإِخْبَار، وَوَقع فِي
رِوَايَة أبي الْوَقْت: حَدثنَا الحكم، قَالَ بَعضهم: هُوَ
وهم فَإِن الَّذين جمعُوا رجال البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه)
أطبقوا على ترك ذكره فِي شُيُوخه، فَدلَّ على أَن
الصَّوَاب رِوَايَة الْجَمَاعَة بِصِيغَة التَّعْلِيق.
قلت: قيل: روى عَنهُ وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أبي الْوَقْت
وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا ذكر الحكم وَالقَاسِم ابْن
مخيمرة فِيمَن خرج لَهما البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن
التِّين: إِنَّمَا لم يسْندهُ البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لَا
يخرج للقاسم بن مخيمرة، وَزعم بَعضهم أَنه لَا يخرج للْحكم
أَيْضا إلاَّ هَكَذَا غير مُحْتَج بهما. وَفِيه: التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع لِأَن فِي بعض النّسخ:
قَالَ، وَقَالَ الحكم: أَي: قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ
الحكم. وَفِيه: أَن الحكم بغدادي وَيحيى بن حَمْزَة شَامي
بيتلهي من أهل بَيت لهيا، قَرْيَة بِالْقربِ من دمشق،
كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق، وَعبد الرَّحْمَن أَيْضا شَامي،
وَالقَاسِم كُوفِي سكن الشَّام وَأَبُو بردة كُوفِي.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب، وَفِيه: من هُوَ
مَذْكُور باسم جده. وَفِيه: من هُوَ مَذْكُور بكنيته،
مُخْتَلف فِي اسْمه.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى،
فِي كتاب الْإِيمَان فَقَالَ:
(8/92)
حَدثنَا الحكم بن مُوسَى الْقَنْطَرِي،
قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حَمْزَة عَن عبد الرَّحْمَن بن
يزِيد بن جَابر أَن الْقَاسِم بن مخيمرة حَدِيثه، قَالَ:
حَدثنِي أَبُو بردة بن أبي مُوسَى الحَدِيث، وَكَذَا وَصله
ابْن حبَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: أخبرنَا
أَبُو يعلى حَدثنَا الحكم. . إِلَى آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وجع أَبُو مُوسَى) ، بِكَسْر
الْجِيم، أَي: مرض. قَوْله: (وجعا) ، بِفَتْح الْجِيم
أَيْضا مصدر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، ويروى:
(وجعا شَدِيدا) . قَوْله: (فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) ، ويروى
(فَغشيَ عَلَيْهِ) . قَوْله: (وَرَأسه فِي حجر امْرَأَة) ،
الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَالْحجر، بِفَتْح الْحَاء
وَكسرهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جمعه حجور. وَفِي
(الْمُحكم) : حجره وحجره: حضنه، وَفِي رِوَايَة لمُسلم:
(أُغمي على أبي مُوسَى وَأَقْبَلت امْرَأَته أم عبد الله
تصيح برنة. .) وَذكر فِي كتاب النَّسَائِيّ إمرأة أبي
مُوسَى هِيَ: أم عبد الله بنت أبي دومة، وَذكر عمر بن شبة
فِي (تَارِيخ الْبَصْرَة) أَن اسْمهَا: صَفِيَّة بنت دمون،
وَأَنَّهَا وَالِدَة أبي بردة بن مُوسَى، وَأَن ذَلِك وَقع
حَيْثُ كَانَ أَبُو مُوسَى أَمِيرا على الْبَصْرَة من قبل
عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:
(إِنِّي بَرِيء) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَنا بَرِيء)
، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (مِمَّن بَرِيء
مِنْهُ مُحَمَّد) ، ويروى: (مِمَّن بَرِيء مِنْهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وأصل الْبَرَاءَة:
الِانْفِصَال، وَهُوَ يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ ظَاهره،
وَهُوَ الْبَرَاءَة من فَاعل ذَلِك الْفِعْل، وَقَالَ
الْمُهلب بَرِيء مِنْهُ، أَي: أَنه لم يرض بِفِعْلِهِ
فَهُوَ مِنْهُ بَرِيء فِي وَقت ذَلِك الْفِعْل، لَا أَنه
بَرِيء من الْإِسْلَام. قَوْله: (من الصالقة) ، الصالقة
والسالقة لُغَتَانِ هِيَ الَّتِي ترفع صَوتهَا عِنْد
الْمُصِيبَة. وَفِي (الْمُحكم) : الصلقة والصلق والصلق:
الصياح، والولولة، وَقد صلقوا وأصلقوا، وَصَوت صلاق ومصلاق
شَدِيد. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: الصلق ضرب الْوَجْه.
قَوْله: (والحالقة) الَّتِي: تحلق شعرهَا. قَوْله:
(والشاقة) الَّتِي: تشق ثِيَابهَا عِنْد الْمُصِيبَة.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق أبي صَخْرَة: (أَنا
بَرِيء مِمَّن حلق وسلق وخرق) . أَي: حلق شعره، وسلق
صَوته، أَي: رَفعه، وخرق ثَوْبه. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
النّدب والنياحة وَلَطم الخد وشق الجيب وخمش الْوَجْه
وَنشر الشّعْر وَالدُّعَاء بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور، كلهَا
محرم بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب، وَوَقع فِي كَلَام بَعضهم
لفظ الْكَرَاهَة؟ قلت: هَذِه كلهَا حرَام عندنَا،
وَالَّذِي يذكرهُ بِالْكَرَاهَةِ فمراده كَرَاهَة
التَّحْرِيم.
83 - (بابٌ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لَيْسَ منا من ضرب الخدود.
7921 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ
عنْ عَبْدِ الله بنِ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ
الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ
الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى
الجَاهِلِيَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من ضرب الخدود) ،
وَحَدِيث الْبَاب مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَترْجم
هُنَا بالجزء الأول، كَمَا ترْجم فِي الْبَاب الَّذِي قبله
ببابين بالجزء الثَّانِي من هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه،
وَقد ذكرنَا هُنَاكَ وَجهه. وَقد أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي
نعيم عَن سُفْيَان إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن
مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن
سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش إِلَى
آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
93 - (بابُ مَا يُنْهى مِنَ الوَيْلِ وَدَعْوَى
الجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ المُصِيبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي من الويل، وَكلمَة:
مَا، مَصْدَرِيَّة، وَالْوَيْل أَن يَقُول عِنْد
الْمُصِيبَة: وَا ويلاه، هَذِه التَّرْجَمَة مَعَ
حَدِيثهَا لَيست بموجوده عِنْد الْكشميهني، وَثبتت عِنْد
البَاقِينَ.
8921 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ
حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُرَّةَ عنْ
مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ
مِنَّا منْ ضَرَبَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا
بِدَعْوى الجَاهِلِيَّةِ.
(8/93)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ودعا
بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) ، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت أخرج
هَذَا الحَدِيث فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَترْجم فِي كل
مَوضِع بِجُزْء من أَجزَاء الحَدِيث الْمَذْكُور
الثَّلَاثَة مَعَ مُغَايرَة فِي السَّنَد، لِأَن شَيْخه
فِي الأول: أَبُو نعيم، وَفِي الثَّانِي: مُحَمَّد بن
بشار، وَفِي الثَّالِث: عمر بن حَفْص، وَالْكل عَن عبد
الله بن مَسْعُود. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث ذكر
النَّهْي من الويل؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: دَعْوَى
الْجَاهِلِيَّة مستلزمة للويل، وَلَفظ: لَيْسَ منا،
للنَّهْي. وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى
مَا ورد فِي بعض طرقه، فَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد
ابْن مَاجَه، وَصَححهُ ابْن حبَان: (إِن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الخامشة وَجههَا والشاقة جيبها
والداعية بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور) . انْتهى. قلت: الَّذِي
قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الْأَوْجه لِأَن ذكر
التَّرْجَمَة لحَدِيث لَيْسَ بمذكور فِي كِتَابه وَلَا
يعرف أَيْضا هَل هُوَ اطلع عَلَيْهِ أم لَا بعيد عَن
السداد.
04 - (بابُ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ
الحُزْنُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من جلس. كلمة: من،
مَوْصُولَة، أَي: الَّذِي جلس عِنْد حُلُول الْمُصِيبَة.
قَوْله: (يعرف) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَى
قَوْله: (الْحزن) ، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على
الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (جلس) ، وَالضَّمِير
الَّذِي فِي: (فِيهِ) يرجع إِلَى قَوْله: (من) وَلم يُصَرح
البُخَارِيّ بِحكم هَذِه الْمَسْأَلَة، وَلَكِن يفهم من
فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن إِظْهَار الْحزن يدل
على إِبَاحَته وَلَا يمْنَع من ذَلِك إلاَّ إِذا كَانَ
مَعَه شَيْء من اللِّسَان أَو الْيَد.
9921 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الوَهَّابِ، قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى. قَالَ
أخبرَتْنِي عَمْرَةُ قالَتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا جاءَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَتْلُ ابنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ
رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ وَأنَا أنْظُرُ
مِنْ صائِرِ البَابِ شَقِّ البَابِ فأتَاهُ رَجُلٌ فقالَ
إنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فأمَرَهُ أنْ
يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ
يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ فأتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ
وَالله غَلَبْنَنَا يَا رسولَ الله فَزَعمَتْ أنَّهُ قَالَ
فاحْثُ فِي أفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ فَقُلْتُ أرْغَمَ
الله أنْفَكَ لَمْ تَفْعَلْ مَا أمَرَكَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ تَترُكْ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مِنَ العَنَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جلس يعرف فِيهِ الْحزن)
، والترجمة قِطْعَة من الحَدِيث، غير أَنه زَاد فِيهِ:
(عِنْد الْمُصِيبَة) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد
الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد
الْأنْصَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن
حَوْشَب وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم
فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن ابْن أبي
عَمْرو وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن أبي الطَّاهِر
عَن ابْن وهب وَعَن أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي،
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن ابْن
وهب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما جَاءَ النَّبِي) انتصاب:
النَّبِي، بِأَنَّهُ مفعول. وَقَوله: (قتل ابْن حَارِثَة)
بِالرَّفْع فَاعله، وَابْن حَارِثَة: هُوَ زيد بن حَارِثَة
بن شرَاحِيل بن كَعْب بن عبد الْعزي بن امرىء الْقَيْس
الْكَلْبِيّ الْقُضَاعِي، مولى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ أَن أمه ذهبت تزور أَهلهَا
فَأَغَارَ عَلَيْهِم خيل من بني الْقَيْس، فَاشْتَرَاهُ
حَكِيم بن حزَام لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة بنت خويلد فَوَهَبته
من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ وُجد أَبوهُ
فَاخْتَارَ الْمقَام عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَأعْتقهُ وتبناه فَكَانَ يُقَال: زيد بن مُحَمَّد،
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحِبهُ حبا
شَدِيدا. وَقَالَ السُّهيْلي: باعوا زيدا بسوق حُبَاشَة،
وَهُوَ من أسواق الْعَرَب، وَزيد يَوْمئِذٍ ابْن
ثَمَانِيَة أَعْوَام وَأعْتقهُ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وزوجه مولاته أم أَيمن وَاسْمهَا بركَة،
فَولدت لَهُ أُسَامَة بن زيد، وَعَن عَائِشَة كَانَت
تَقول: مَا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيد
بن حَارِثَة فِي سَرِيَّة إلاَّ أمره عَلَيْهِم، وَلَو
بَقِي بعده لاستخلفه. رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ،
وَابْن أبي شيبَة: جيد قوي على شَرط الصَّحِيح وَهُوَ
غَرِيب جدا. قَوْله: (وجعفر) ، هُوَ ابْن أبي طَالب عَم
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ أكبر من أَخِيه
عَليّ بِعشر سِنِين، أسلم جَعْفَر قَدِيما وَهَاجَر إِلَى
الْحَبَشَة وَقد أخبر عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِأَنَّهُ شَهِيد، فَهُوَ مِمَّن
(8/94)
يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ. قَوْله: (وَابْن
رَوَاحَة) ، هُوَ عبد الله بن رَوَاحَة بن ثَعْلَبَة بن
امريء الْقَيْس بن عمر، وَأَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال أَبُو
رَوَاحَة، أسلم قَدِيما وَشهد الْعقبَة وبدرا وأحدا
وَالْخَنْدَق وَالْحُدَيْبِيَة وخيبر، وَقد شهد لَهُ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالشَّهَادَةِ
فَهُوَ مِمَّن يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ، وقصة قَتلهمْ: أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أرسلهم فِي نَحْو
من ثَلَاثَة آلَاف إِلَى أَرض البلقاء من أَطْرَاف الشَّام
فِي جماد الأولى من سنة ثَمَان، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم زيدا
وَقَالَ: إِن أُصِيب زيد فجعفر على النَّاس، فَإِن أُصِيب
جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة على النَّاس، فَخَرجُوا
وَخرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يشيعهم
فَمَضَوْا حَتَّى نزلُوا معَان من أَرض البلقاء،
فَبَلغهُمْ أَن هِرقل قد نزل مآب من أَرض البلقاء فِي
مائَة ألف من الرّوم، وانضم إِلَيْهِم من لخم وجذام والقين
وبهراء ويلي مائَة ألف، وانحاز الْمُسلمُونَ إِلَى قَرْيَة
يُقَال لَهَا: مُؤْتَة، بِضَم الْمِيم وبالهمز، وَقيل:
بِلَا همز، ثمَّ تلاقوا فَاقْتَتلُوا، فقاتل زيد براية
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قتل،
فَأَخذهَا جَعْفَر فقاتل حَتَّى قتل، وَأَخذهَا عبد الله
بن رَوَاحَة. قَالَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعي الثَّلَاثَة
وَعَيناهُ تَذْرِفَانِ، ثمَّ قَالَ: أَخذ الرَّايَة سيف من
سيوف الله تَعَالَى حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم، وَهُوَ
خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن
خَالِد: لقد انْقَطَعت فِي يَدي يَوْم مُؤْتَة تِسْعَة
أسياق فَمَا بَقِي فِي يَدي إلاَّ صفيحة يَمَانِية،
وَسَيَجِيءُ ذَلِك كُله فِي الْكتاب، وَجَمِيع من قتل من
الْمُسلمين يَوْمئِذٍ اثْنَي عشر رجلا، وَهَذَا أَمر
عَظِيم جدا أَن يُقَاتل جيشان متعاديان فِي الدّين
أَحدهمَا الفئة الَّتِي تقَاتل فِي سَبِيل الله تَعَالَى
عدتهَا ثَلَاثَة آلَاف، وَأُخْرَى كَافِرَة عدتهَا
مِائَتَا ألف مائَة ألف من الرّوم وَمِائَة ألف من
نَصَارَى الْعَرَب. قَوْله: (جلس) جَوَاب: لما، وَزَاد
أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته: (جلس فِي الْمَسْجِد) .
قَوْله: (يعرف فِيهِ الْحزن) جملَة حَالية. قَالَ
الطَّيِّبِيّ: كَأَنَّهُ كظم الْحزن كظما فَظهر مِنْهُ مَا
لَا بُد لجبلة البشرية مِنْهُ. قَوْله: (وَأَنا أنظر) ،
جملَة حَالية أَيْضا، وقائلها عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (من صائر الْبَاب) ، بالصَّاد
الْمُهْملَة والهمزة بعد الْألف وَفِي آخِره رَاء، وَقد
فسره فِي الحَدِيث بقوله: (شقّ الْبَاب) ، وَهُوَ بِفَتْح
الشين الْمُعْجَمَة أَي: الْموضع الَّذِي ينظر مِنْهُ،
وَلم يرد بِكَسْر الشين أَي: النَّاحِيَة لِأَنَّهَا لَيست
بمرادة هُنَا، قَالَه ابْن التِّين. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
بِفَتْح الشين وَكسرهَا. وَقَالَ الْمَازِني: كَذَا وَقع
فِي (الصَّحِيحَيْنِ) هُنَا: صائر الْبَاب، وَالصَّوَاب:
صيراي، بِكَسْر الصَّاد وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف،
وَهُوَ الشق. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ والخطابي: صائر
وصير بِمَعْنى وَاحِد. فَإِن قلت: هَذَا التَّفْسِير
مِمَّن؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون من عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن
يكون مِمَّن بعْدهَا، وَلَكِن الظَّاهِر هُوَ الأول.
قَوْله: (فَأَتَاهُ رجل) أَي: أَتَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رجل، وَلم يُوقف على اسْمه، وَيحْتَمل أَن
عَائِشَة لم تصرح باسمه لانحرافها عَلَيْهِ. قَوْله: (إِن
نسَاء جَعْفَر) أَي: امْرَأَته أَسمَاء بنت عُمَيْس
الخثعمية وَمن حضر عِنْدهَا من أقاربها وأقارب جَعْفَر،
وَخبر: إِن، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن نسَاء جَعْفَر
يبْكين، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَقد حذفت رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا خبر: إِن، من القَوْل المحكي عَن جَعْفَر
بِدلَالَة الْحَال، يَعْنِي قَالَ ذَلِك الرجل: إِن نسَاء
جَعْفَر فعلن كَذَا وَكَذَا، مِمَّا حظره الشَّرْع من
الْبكاء الشنيع والنياحة الفظيعة إِلَى غير ذَلِك. قَوْله:
(وَذكر بكاءهن) ، حَال من الْمُسْتَتر فِي: قَالَ. قَوْله:
(لم يطعنه) حِكَايَة لِمَعْنى قَول الرجل أَي: فَذهب
ونهاهن ثمَّ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ: نَهَيْتُهُنَّ فَلم يطعنني، يدل عَلَيْهِ قَوْله
فِي الْمرة الثَّالِثَة: (وَالله غلبننا) ، قَوْله: (ثمَّ
أَتَاهُ الثَّانِيَة لم يطعنه) أَي: أَتَى النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمرة الثَّانِيَة فَقَالَ:
إنَّهُنَّ لم يطعنه. وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة:
فَذكر أَنَّهُنَّ لم يطعنه. قَوْله: (الثَّالِثَة) أَي:
الْمرة الثَّالِثَة. قَوْله: (وَالله غلبننا) بِلَفْظ جمع
الْمُؤَنَّث الغائبة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (غلبتنا)
، بِلَفْظ الْمُفْرد الْمُؤَنَّث الغائبة. قَوْله:
(فَزَعَمت) أَي: عَائِشَة، وَهُوَ مقول عمْرَة، وَمعنى:
زعمت: قَالَت. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي ظَنَنْت قلت:
الزَّعْم يُطلق على القَوْل الْمُحَقق وعَلى الْكَذِب
والمشكوك فِيهِ، وَينزل فِي كل مَوضِع على مَا يَلِيق بِهِ
قَوْله: (فأحث) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة، أَمر من:
حثا يحثو، وبكسرها أَيْضا من حثى يحثي. قَوْله:
(التُّرَاب) مفعول: (أحث) ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى تَأتي:
(من التُّرَاب) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا يدل على
أَنَّهُنَّ رفعن أصواتهن بالبكاء، فَلَمَّا لم ينتهين أمره
أَن يسد أفواههن بِالتُّرَابِ، وَخص الأفواه بذلك
لِأَنَّهَا مَحل النوح. انْتهى. وَقَالَ عِيَاض: هُوَ
بِمَعْنى التَّعْجِيز، أَي: أَنَّهُنَّ لَا يسكتن إلاَّ
بسد أفواههن، وَلَا تسدها إلاَّ بِأَن تملأ بِالتُّرَابِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَنَّهُنَّ لم يطعن الناهي
لكَونه لم يُصَرح لَهُنَّ بِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نهاهن، فحملن ذَلِك على أَنه مرشد إِلَى
الْمصلحَة من قبل نَفسه، أَو علِمْنَ لَكِن غلب
عَلَيْهِنَّ شدَّة الْحزن لحرارة الْمُصِيبَة. قلت: هَذَا
الَّذِي قَالَه حسن، وَهُوَ اللَّائِق فِي حق الصحابيات،
لِأَنَّهُ يبعد أَن يتمادين بعد تكْرَار نهيهن على محرم،
وَيُقَال
(8/95)
إِن كَانَ بكاؤهن مُجَردا يكون النَّهْي
عَنهُ للتنزيه خشيَة أَن يسترسلن فِيهِ فيفضي بِهن إِلَى
الْأَمر الْمحرم لضعف صبرهن، وَلَا يكون النَّهْي
للتَّحْرِيم، فَلِذَا أصررن عَلَيْهِ متأولات. وَقيل:
كَانَ بكاؤهن بنياح وَلذَا تَأَكد النَّهْي، وَلَو كَانَ
مُجَرّد دمع الْعين لم ينْه عَنهُ لِأَنَّهُ رَحْمَة
وَلَيْسَ بِحرَام. قلت: إِن كَانَ الْأَمر كَمَا ذكر يحمل
حالهن على أَن الرجل لم يسند النَّهْي إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلهَذَا لم يطعنه. قَوْله:
(فَقلت) ، مقول عَائِشَة. قَوْله: (أرْغم الله أَنْفك)
بالراء والغين الْمُعْجَمَة أَي: ألصق الله أَنْفك
بالرغام، بِفَتْح الرَّاء، وَهُوَ التُّرَاب. دعت عَلَيْهِ
حَيْثُ لم يفعل مَا أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِهِ، وَهُوَ أَن ينهاهن وَحَيْثُ لم يتْركهُ على
مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحزن بإخبارك ببكائهن وإصررهن
عَلَيْهِ وتكرارك ذَلِك. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت:
هُوَ فعل مَا أمره بِهِ ولكنهن لم يطعنه؟ قلت: حَيْثُ لم
يَتَرَتَّب على فعله الِامْتِثَال، فَكَأَنَّهُ لم
يَفْعَله، أَو هُوَ لم يفعل الحثو. وَقَالَ بَعضهم:
لَفْظَة: لم يعبر بهَا عَن الْمَاضِي، وَقَوْلها ذَلِك
وَقع قبل أَن يتَوَجَّه، فَمن أَيْن علمت أَنه لم يفعل؟
فَالظَّاهِر أَنَّهَا قَامَت عِنْدهَا قرينَة بِأَنَّهُ
لَا يفعل، فعبرت عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي مُبَالغَة فِي
نفي ذَلِك عَنهُ. انْتهى. قلت: لَا يُقَال: لَفْظَة: لم،
يعبر بهَا عَن الْمَاضِي، وَإِنَّمَا يُقَال: حرف: لم، حرف
جزم لنفي الْمُضَارع، وَقَلبه مَاضِيا، وَهَذَا هُوَ
الَّذِي قَالَه أهل الْعَرَبيَّة. وَقَوله: فعبرت عَنهُ
بِلَفْظ الْمَاضِي، لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ غير مَاض بل
هُوَ مضارع وَلَكِن صَار مَعْنَاهُ معنى الْمَاضِي
بِدُخُول: لم، عَلَيْهِ. قَوْله: (من العناء) ، بِفَتْح
الْعين المهمة بعْدهَا النُّون وبالمد وَهُوَ: الْمَشَقَّة
والتعب. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (من العي) ، بِكَسْر
الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. قيل:
وَقع فِي رِوَايَة العذري من الغي، بِفَتْح الْغَيْن
الْمُعْجَمَة: ضد الرشد. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَلَا
وَجه لَهُ هُنَا، ورد عَلَيْهِ بِأَن لَهُ وَجها، وَلَكِن
الأول أليق لموافقته لرِوَايَة العناء الَّتِي هِيَ
رِوَايَة الْأَكْثَرين {وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ
أَنَّك قَاصِر لَا تقوم بِمَا أمرت بِهِ، من الْإِنْكَار
لنقصك وتقصيرك وَلَا تخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بقصورك عَن ذَلِك حَتَّى يُرْسل غَيْرك فيستريح من
العناء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْجُلُوس
للعزاء بسكينة ووقار. وَفِيه: الْحَث على الصَّبْر،
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِن قَالَ الْقَائِل: إِن أَحْوَال
النَّاس فِي الصَّبْر مُتَفَاوِتَة فَمنهمْ من يظْهر حزنه
على الْمُصِيبَة فِي وَجهه بالتغيير لَهُ، وَفِي
عَيْنَيْهِ بانحدار الدُّمُوع وَلَا ينْطق بِشَيْء من
القَوْل، وَمِنْهُم من يجمع ذَلِك كُله، وَيزِيد عَلَيْهِ
إِظْهَاره فِي مطعمه وملبسه، وَمِنْهُم من يكون حَاله فِي
الْمُصِيبَة وَقبلهَا سَوَاء فَأَيهمْ الْمُسْتَحق لاسم
الصَّبْر، قد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ بَعضهم:
الْمُسْتَحق لاسم الصَّبْر هُوَ الَّذِي يكون فِي حَاله
مثلهَا قبلهَا، وَلَا يظْهر عَلَيْهِ حزن فِي جارحة وَلَا
لِسَان، كَمَا زعمت الصُّوفِيَّة، أَن الْوَلِيّ لَا تتمّ
لَهُ الْولَايَة إلاَّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِالْقدرِ،
وَلَا يحزن على شَيْء، وَالنَّاس فِي هَذَا الْحَال
مُخْتَلفُونَ، فَمنهمْ من فِي قلبه الْجلد وَقلة المبالاة
بالمصائب، وَمِنْهُم من هُوَ بِخِلَاف ذَلِك، فَالَّذِي
يكون طبعه الْجزع وَيملك نَفسه ويستشعر الصَّبْر أعظم أجرا
من الَّذِي يتجلد طباعه. قَالَ الطَّبَرِيّ: كَمَا رُوِيَ
عَن ابْن مَسْعُود أَنه نعى أَخُوهُ عتبَة. قَالَ: لقد
كَانَ من أعز النَّاس عَليّ وَمَا يسرني أَنه بَين
أظْهركُم الْيَوْم حَيا. قَالُوا: وَكَيف هُوَ من أعز
النَّاس عَلَيْك؟ قَالَ: إِنِّي لأوجر فِيهِ أحب إِلَيّ من
أَن يُؤجر فِي. وَقَالَ ثَابت: إِن الصَّلْت بن أَشْيَم
مَاتَ أَخُوهُ، فجَاء رجل وَهُوَ يطعم، فَقَالَ: يَا أَبَا
الصَّهْبَاء إِن أَخَاك مَاتَ} قَالَ: هَلُمَّ فَكل قد نعي
إِلَيْنَا، فَكل. قَالَ: وَالله مَا سبقني إِلَيْك أحد
مِمَّن نعاه، قَالَ: يَقُول الله عز وَجل: {إِنَّك ميت
وَإِنَّهُم ميتون} (الزمر: 03) . وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ
شُرَيْح، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يدْفن جنائزه
لَيْلًا، فيغتنم ذَلِك فيأتيه الرجل حِين يصبح فيسأله عَن
الْمَرِيض، فَيَقُول: هَذَا لله الشُّكْر وَأَرْجُو أَن
يكون مستريحا. وَكَانَ ابْن سِيرِين يكون عِنْد
الْمُصِيبَة كَمَا هُوَ قبلهَا يتحدث ويضحك إلاَّ يَوْم
مَاتَت حَفْصَة فَإِنَّهُ جعل يكشر، وإنت تعرف فِي وَجهه،
وَسُئِلَ ربيعَة: مَا مُنْتَهى الصَّبْر؟ قَالَ: أَن تكون
يَوْم تصيبه الْمُصِيبَة مثله قبل أَن تصيبه وَأما جزع
الْقلب وحزن النَّفس ودمع الْعين فَإِن ذَلِك لَا يخرج
العَبْد من مَعَاني الصابرين إِذا لم يتجاوزه إِلَى مَا
لَا يجوز لَهُ فعل، لِأَن نفوس بني آدم مجبولة على الْجزع
من المصائب، وَقد مدح الله تَعَالَى الصابرين وَوَعدهمْ
جزيل الثَّوَاب عَلَيْهِ، وتغيير الأجساد عَن هيآتها
ونقلها عَن طبعها الَّذِي جبلت عَلَيْهِ، لَا يقدر
عَلَيْهِ إِلَّا الَّذِي أَنْشَأَهَا. وروى المَقْبُري عَن
أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، قَالَ: (قَالَ الله تَعَالَى:
إِذا ابْتليت عَبدِي الْمُؤمن فَلم يشكني إِلَى عواده
أنشطه من عقاله وبدلته لَحْمًا خيرا من لَحْمه ودما خيرا
من دَمه، ويستأنف الْعَمَل) . وَفِيه: دَلِيل على أَن
الْمنْهِي عَن الْمُنكر إِن لم ينْتَه عُوقِبَ وأدب إِن
أمكن. وَفِيه: جَوَاز نظر النِّسَاء المحتجبات إِلَى
الرِّجَال الْأَجَانِب. وَفِيه: جَوَاز التميين لتأكيد
الْخَبَر.
(8/96)
0031 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ قَالَ
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ قَالَ حدَّثنا عاصِمٌ
الأَحْوَلُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ
قَنَتَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهْرا حِينَ
قُتِلَ القُرَّاءُ فَمَا رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حَزِنَ حُزْنا قَطُّ أشَدَّ مِنْهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمَا رَأَيْت رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، وَعَمْرو،
بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ الفلاس الصَّيْرَفِي،
والْحَدِيث تقدم فِي أَبْوَاب الْوتر فِي: بَاب الْقُنُوت
قبل الرُّكُوع وَبعده، أخرجه عَن مُسَدّد عَن عبد
الْوَاحِد عَن عَاصِم قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن
الْقُنُوت ... الحَدِيث، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
14 - (بابُ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ
المُصِيبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم يظْهر حزنه عِنْد حُلُول
الْمُصِيبَة، وَهَذَا الْبَاب عكس الْبَاب السَّابِق،
لِأَن فِيهِ من أظهر حزنه، وَفِي هَذَا من لم يظْهر، وَفِي
كل مِنْهُمَا لم يُصَرح بالحكم، أما ذَاك فقد بَينا وَجهه،
وَأما هَذَا فَفِيهِ ترك مَا أُبِيح لَهُ من إطهار الْحزن
الَّذِي لَا إسخاط فِيهِ لله تَعَالَى، وَفِيه قهر النَّفس
بِالصبرِ الَّذِي هُوَ خير، لقَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن
صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين} (النَّحْل: 621) .
وَقَالَ محَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ الجَزَعُ
القَوْلُ السَّيِّءُ والظَّنُّ السَّيِّءُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمُقَابلَة، وَهِي ذكر
الشَّيْء وَمَا يضاده مَعَه، وَذَلِكَ أَن ترك إِظْهَار
الْحزن من القَوْل الْحسن وَالظَّن الْحسن، وإظهاره مَعَ
الْجزع الَّذِي يُؤَدِّيه إِلَى مَا حظره الشَّرْع قَول
سيىء وَظن سيء، وَمُحَمّد بن كَعْب بن سليم الْقرظِيّ،
بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء بعْدهَا ظاء مُعْجمَة
الْمَدِينِيّ، حَلِيف الْأَوْس، سمع زيد بن أَرقم وَغَيره.
قَالَ قُتَيْبَة: بَلغنِي أَنه ولد فِي حَيَاة النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: توفّي
بِالْمَدِينَةِ سنة سبع عشرَة وَمِائَة وَهُوَ ابْن ثَمَان
وَتِسْعين سنة، وَمعنى القَوْل السيء مَا يبْعَث الْحزن
غَالِبا، وَالظَّن السيء الاستبعاد لحُصُول مَا وعد بِهِ
من الثَّوَاب على الصَّبْر، أَو الْيَأْس من تَفْوِيض مَا
هُوَ خير لَهُ من الْفَائِت.
وَقَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنَّمَا أشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إلَى الله
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن يَعْقُوب بن إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم خَلِيل الله، عَلَيْهِم الصَّلَاة وأزكى
السَّلَام، لما ابْتُلِيَ صَبر وَلم يشك إِلَى أحد وَلَا
بَث حزنه إلاَّ إِلَى الله، فطابق التَّرْجَمَة من هَذِه
الْحَيْثِيَّة، والبث: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة شدَّة الْحزن.
1031 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ الحَكَمِ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ قَالَ أخبرنَا إسْحَاقُ بنُ
عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ
مَالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ اشْتَكَى ابْنٌ
لأِبي طَلْحَةَ قَالَ فَماتَ وَأبُو طَلْحَةَ خارِجٌ
فَلَمَّا رَأتْ امْرَأتُهُ أنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأتْ
شَيْئا وَنَحَّتْهُ فِي جانِبِ البَيْتِ فَلَمَّا جاءَ
أبُو طَلْحَةَ قَالَ كَيْفَ الغُلاَمُ قالَتْ قَدْ
هَدَأَتْ نَفْسُهُ وَأرْجُو أنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ
وظَنَّ أبُو طَلْحَةَ أنَّهَا صادِقَةٌ قَالَ فباتَ
فَلَمَّا أصْبَحَ اغْتَسَلَ فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ
أعْلَمَتْهُ أنَّهُ قَدْ مَاتَ فَصَلَّى مَعَ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ أخْبَرَ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِمَا كانَ مِنْهُمَا فَقَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّ الله أنْ يُبَارِكَ
لَكُمَا فِي لَيْلتِكُمَا. قَالَ سُفْيَانُ فَقَالَ رَجُلٌ
مِنَ الأَنْصَارِ فَرَأيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أوْلاَدٍ
كُلَّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ.
(الحَدِيث 1031 طرفه فِي: 0745) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن امْرَأَة أبي
طَلْحَة لما مَاتَ ابْنهَا لم تظهر الْحزن بل أظهرت
الْفَرح وَالسُّرُور،
(8/97)
حَتَّى جَامعهَا أَبُو طَلْحَة فِي تِلْكَ
اللَّيْلَة، فَلَمَّا أصبح واغتسل وَأَرَادَ الْخُرُوج من
عِنْدهَا أعلمته بذلك.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الحكم،
بِفتْحَتَيْنِ: الْعَبْدي، مر فِي: بَاب التَّهَجُّد.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: إِسْحَاق بن
عبد الله بن أبي طَلْحَة الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن
مَالك، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع:
أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي موض وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار
بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، قَالَ أَبُو نعيم: هَذَا
الحَدِيث مِمَّا تفرد بِهِ البُخَارِيّ عَن بشر بن الحكم،
وَأخرجه مُسلم من طرق عَن ثَابت عَن أنس. وَأخرجه
البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا من طَرِيق أنس بن سِيرِين
وَمُحَمّد بن سعد من طَرِيق حميد الطَّوِيل، كِلَاهُمَا
عَن أنس. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الله بن
عبد الله بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ أَخُو إِسْحَاق
الْمَذْكُور عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله (اشْتَكَى ابْن لأبي طَلْحَة) أَي
مرض وَلَيْسَ المُرَاد أَنه صدرت مِنْهُ الشكوى لَكِن لما
كَانَ الإصل أَن الْمَرِيض يحصل مِنْهُ ذَلِك اسْتعْمل فِي
كل مرض لكل مَرِيض وَالِابْن الْمَذْكُور وَهُوَ أَبُو
عُمَيْر صَاحب النغير قَالَه ابْن حبَان والخطيب فِي
آخَرين وَأَبُو طَلْحَة زيد بن سهل الإنصاري وَامْرَأَته
هِيَ أم أنس بن مَالك قَوْله (خَارج) أَي خَارج الْبَيْت
وَكَانَ يكون عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
أَوَاخِر النَّهَار وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ
كَانَ لأبي طَلْحَة ولد فَتوفي فَأرْسلت أم سليم أنسا
يَدْعُو أَبَا طَلْحَة وأمرته أَن لَا يُخبرهُ بوفاة ابْنه
وَكَانَ أَبُو طَلْحَة صَائِما قَوْله (هيأت شَيْئا) أَي
أعدت طَعَاما وأصلحته وَقيل هيأت شَيْئا من حَالهَا وتزينت
لزَوجهَا تعرضا للجماع وَقيل هيأت أَمر الصَّبِي بأنغسلته
وكفنته على مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُود
الطَّيَالِسِيّ عَن مشايخه عَن صَالح (فهيأت الصَّبِي)
وَفِي رِوَايَة حميد عِنْد ابْن سعد (فَتوفي الْغُلَام
فهيأت أم سعيد أمره) وَفِي رِوَايَة عمَارَة بن زَاذَان
عَن ثَابت (فَهَلَك الصَّبِي فَقَامَتْ أم سليم فغسلته
وكفنته وحنطته وسجت عَلَيْهِ ثوبا قَوْله: (ونحته) ،
بِفَتْح النُّون والحاء الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة: أَي
جعلته فِي جَانب الْبَيْت. وَقيل: بعدته، وَفِي رِوَايَة
جَعْفَر عَن ثَابت: (فَجَعَلته فِي مخدعها) . قَوْله: (قد
هدأت نَفسه) بِالْهَمْز أَي: سكنت نَفسه بِسُكُون الْفَاء،
وَالْمعْنَى: أَن نَفسه كَانَت قلقة منزعجة بِعَارِض
الْمَرَض، فسكنت بِالْمَوْتِ، وَظن أَبُو طَلْحَة أَن
مرادها: سكنت بِالنَّوْمِ لوُجُود الْعَافِيَة، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر: (هدأ نَفسه) ، بِفَتْح الْفَاء أَي: سكن
لِأَن الْمَرِيض يكون نَفسه عَالِيا فَإِذا زَالَ مَرضه
سكن، وَكَذَا إِذا مَاتَ. وَوَقع فِي رِوَايَة أنس بن
سِيرِين: (هُوَ أسكن مَا كَانَ) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة
جَعْفَر عَن ثَابت، وَفِي رِوَايَة معمر عَن ثَابت:
(أَمْسَى هادئا) . وَفِي رِوَايَة حميد: (بِخَير مَا
كَانَ) ، وَالْكل مُتَقَارب الْمعَانِي. قَوْلهَا:
(وَأَرْجُو أَن يكون قد استراح) ، من حسن المعاريض، وَهُوَ
مَا احْتمل لَهُ مَعْنيانِ: فَإِنَّهَا أخْبرت بِكَلَام لم
تكذب فِيهِ، وَلَكِن ورت بِهِ عَن الْمَعْنى الَّذِي كَانَ
يحزنها، أَلا يرى أَن نَفسه قد هدأ، كَمَا قَالَت
بِالْمَوْتِ وَانْقِطَاع النَّفس، وأوهمته أَنه استراح من
قلقه، وَإِنَّمَا استراح من نصب الدُّنْيَا وهمها. وَقَالَ
ابْن بطال، رَحمَه الله تَعَالَى: هدأ نَفسه من معاريض
الْكَلَام، وأرادت بِسُكُون النَّفس: الْمَوْت، وَظن أَبُو
طَلْحَة، رَحمَه الله تَعَالَى، أَنَّهَا تُرِيدُ بِهِ
سُكُون نَفسه من الْمَرَض وَزَوَال الْعلَّة وتبدلها
بالعافية، وَإِنَّهَا صَادِقَة فِيمَا خيل إِلَيْهِ فِي
ظَاهر قَوْلهَا، وَبَارك الله لَهَا بدعائه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فرزقا تِسْعَة أَوْلَاد من الْقُرَّاء
الصلحاء، وَذَلِكَ بصبرهما فِيمَا نالها ومراعاتها
زَوجهَا. قَوْله: (وَظن أَبُو طَلْحَة أَنَّهَا صَادِقَة)
أَي: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فهمه من كَلَامهَا، وإلاَّ
فَهِيَ صَادِقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَرَادَت.
قَوْله: (فَبَاتَ) ، أَي: بَات أَبُو طَلْحَة مَعَ
امْرَأَته الْمَذْكُورَة، وَهَذِه كِنَايَة عَن الْجِمَاع،
وَلِهَذَا لما أصبح اغْتسل لِأَن الْغسْل غَالِبا لَا يكون
إلاَّ من الْجِمَاع، وَقد وَقع التَّصْرِيح بذلك فِي
رِوَايَة أنس بن سِيرِين: (فقربت إِلَيْهِ الْعشَاء فتعشى
ثمَّ أصَاب مِنْهَا) . وَفِي رِوَايَة حَمَّاد عَن ثَابت:
(ثمَّ تطيبت) ، زَاد جَعْفَر عَن ثَابت: (فتعرضت لَهُ
حَتَّى وَقع بهَا) ، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان عَن ثَابت:
(ثمَّ تصنعت لَهُ أحسن مَا كَانَت تتصنع قبل ذَلِك، فَوَقع
بهَا) . وَفِي رِوَايَة عبد الله بن عبد الله: (ثمَّ تعرضت
لَهُ فَأصَاب مِنْهَا) . قَوْله: (فَلَمَّا أَرَادَ أَن
يخرج) أَي: فَلَمَّا أَرَادَ أَبُو طَلْحَة أَن يخرج من
الْبَيْت (أعلمته) أَي: أعلمت أَبَا طَلْحَة بِأَنَّهُ:
أَي بِأَن الصَّبِي قد مَاتَ، وَفِيه زِيَادَة لمُسلم
قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن حَاتِم بن مَيْمُون حَدثنَا
بهز حَدثنَا سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت (عَن
(8/98)
أنس قَالَ: مَاتَ ابْن لأبي طَلْحَة من أم
سليم، فَقَالَت لأَهْلهَا: لَا تحدثُوا أَبَا طَلْحَة
بِابْنِهِ حَتَّى أكون أَنا أحدثه. قَالَ: فجَاء فقربت
إِلَيْهِ عشَاء فَأكل وَشرب، قَالَ: ثمَّ تصنعت لَهُ أحسن
مَا كَانَت تصنع قبل ذَلِك، فَوَقع بهَا، فَلَمَّا رَأَتْ
أَنه قد شبع وَأصَاب مِنْهَا قَالَت: يَا أَبَا طَلْحَة!
أَرَأَيْت أَن قومآ أعاروا عاريتهم أهل بَيت فطلبوا
عاريتهم ألهم أَن يمنعوهم؟ قَالَ: لَا، قَالَت: احتسب
ابْنك. قَالَ: فَغَضب، وَقَالَ: تركتيني ثمَّ تلطخت ثمَّ
اخبرتيني بِابْني؟ فَانْطَلق حَتَّى أَتَى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَارك الله لَكمَا
فِي غابر ليلتكما، قَالَ: فَحملت) الحَدِيث بِطُولِهِ.
وَفِي رِوَايَة عبد الله؛ (فَقَالَت: يَا أَبَا طَلْحَة
أَرَأَيْت قوما أعاروا مَتَاعهمْ ثمَّ بدا لَهُم فِيهِ
فَأَخَذُوهُ فكأنهم وجدوا فِي أنفسهم) زَاد حَمَّاد فِي
رِوَايَته عَن ثَابت: (فَأَبَوا أَن يردوها، فَقَالَ أَبُو
طَلْحَة: لَيْسَ لَهُم ذَلِك، إِن الْعَارِية مُؤَدَّاة
إِلَى أَهلهَا. ثمَّ اتفقَا، فَقَالَت: إِن الله أعارنا
فلَانا ثمَّ أَخذه منا) . زَاد حَمَّاد: (فَاسْتَرْجع) .
قَوْله: (لَعَلَّ الله أَن يُبَارك لَهما فِي ليلتهما)
كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره
(يُبَارك لَكمَا فِي ليلتكما) وَفِي رِوَايَة عبد الله بن
عبد الله: (فَجَاءَت بِعَبْد الله بن أبي طَلْحَة) .
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة
الْمَذْكُور فِي السَّنَد. قَوْله: (فَقَالَ رجل من
الْأَنْصَار) هُوَ عَبَايَة بن رِفَاعَة، وَهُوَ فِي
رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) وَغَيره من
طَرِيق سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة قَالَ:
(كَانَت أم أنس تحب أَبَا طَلْحَة) ، فَذكر الْقِصَّة
شَبيهَة بسياق ثَابت عَن أنس، وَقَالَ فِي آخِره: (فَولدت
لَهُ غُلَاما، قَالَ عَبَايَة: فَلَقَد رَأَيْت لذَلِك
الْغُلَام سبع بَنِينَ كلهم قد ختم الْقُرْآن) ، قَالَ
بَعضهم: أفادت هَذِه الرِّوَايَة أَن فِي رِوَايَة
سُفْيَان تجوزا فِي قَوْله لَهما، لِأَن ظَاهره أَنه من
ولدهما بِغَيْر وَاسِطَة، وَإِنَّمَا المُرَاد من أَوْلَاد
ولدهما الْمَدْعُو لَهُ بِالْبركَةِ، وَهُوَ عبد الله بن
أبي طَلْحَة. قلت: لَا نسلم التَّجَوُّز فِي رِوَايَة
سُفْيَان لِأَنَّهُ مَا صرح فِي قَوْله: قَالَ رجل من
الْأَنْصَار: فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد قرأوا
الْقُرْآن، وَلم يقل: رَأَيْت مِنْهُمَا، أَو لَهما
تِسْعَة أَوْلَاد. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(يُبَارك لَهما) لَا يسْتَلْزم أَن يكون التِّسْعَة
مِنْهُمَا. فَإِن قلت: قد وَقع فِي رِوَايَة عَبَايَة:
(سبع بَنِينَ) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: (تِسْعَة
أَوْلَاد) ؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد بالسبعة من ختم
الْقُرْآن كُله، وبالتسعة من قَرَأَ معظمه. فَإِن قلت: ذكر
ابْن سعد وَغَيره من أهل الْعلم بالأنساب أَن لَهُ من
الْوَلَد: إِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل وَعبد الله وَيَعْقُوب
وَعمر وَالقَاسِم وَعمارَة وَإِبْرَاهِيم وَعُمَيْر وَزيد
وَمُحَمّد، وَأَرْبع من الْبَنَات؟ قلت: قَول عَبَايَة:
رَأَيْت سَبْعَة، أَو تِسْعَة فِي رِوَايَة سُفْيَان، لَا
يُنَافِي الزِّيَادَة لِأَنَّهُ مَا أخبر إلاَّ عَمَّن
رَآهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: عدم إِظْهَار الْحزن
عِنْد الْمُصِيبَة، وَهُوَ فقه الْبَاب، كَمَا فعلت أم
سليم فَإِنَّهَا اخْتَارَتْ الصَّبْر وقهرت نَفسهَا.
وَفِيه: منقبة عَظِيمَة لأم سليم بصبرها ورضائها بِقَضَاء
الله تَعَالَى. وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بالشدة وَترك
الرُّخْصَة لمن قدر عَلَيْهَا، وَأَن ذَلِك مِمَّا ينَال
بِهِ العَبْد رفيع الدَّرَجَات وجزيل الْأجر. وَفِيه: أَن
الْمَرْأَة تتزين لزَوجهَا تعرضا للجماع. وَفِيه: أَن من
ترك شَيْئا لله تَعَالَى وآثر مَا ندب إِلَيْهِ وحض
عَلَيْهِ من جميل الصَّبْر أَنه يعوض خيرا مِمَّا فَاتَهُ،
أَلا ترى قَوْله: (فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد
قرأوا الْقُرْآن) ؟ وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة المعاريض
الموهمة إِذا دعت الضَّرُورَة إِلَيْهَا، وَشرط جَوَازهَا
أَن لَا تبطل حَقًا لمُسلم. وَفِيه: إِجَابَة دَعْوَة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
24 - (بابُ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)
يجوز فِي: بَاب، التَّنْوِين، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى
الصَّبْر، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ ارْتِفَاع بَاب على أَنه
خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بَاب، وَلَفظ الصَّبْر
عِنْد إِضَافَة الْبَاب إِلَيْهِ يكون مجرورا
بِالْإِضَافَة، وَعند كَون الْبَاب منونا يكون لفظ
الصَّبْر مَرْفُوعا على الِابْتِدَاء وَخَبره قَوْله:
عِنْد الصدمة الأولى.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ نِعْمَ
العِدْلاَنِ ونِعْمَ العِلاَوَةُ الَّذِينَ إذَا
أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ (الْبَقَرَة:
651، 751) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الله تَعَالَى أخبر
عَن الصابرين الَّذين يَقُولُونَ عِنْد الْمُصِيبَة:
{إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة:
651، 751) . وَأخْبر
(8/99)
أَنهم هم الَّذين {عَلَيْهِم صلوَات من
رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) . وَأخْبر أَنهم: {هم
المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَإِنَّمَا استحقوا هَذِه
الْفَضَائِل الجزيلة بصبرهم المبشر عَلَيْهِ بِهَذِهِ
الْبشَارَة، وَهُوَ الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى، وَهُوَ
الصَّبْر الْمَحْمُود الَّذِي يكون عِنْد مفاجأة
الْمُصِيبَة فَإِنَّهُ إِذا طَالَتْ الْأَيَّام عَلَيْهَا
وَقع السلو وَصَارَ الصَّبْر حِينَئِذٍ طبعا. قَوْله: (نعم
العدلان) بِكَسْر الْعين أَي المثلان، وَقَالَ الْمُهلب:
العدلان الصَّلَوَات وَالرَّحْمَة والعلاوة: {أُولَئِكَ هم
المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَقيل: {إِنَّا لله
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة: 651) .
والعلاوة الَّتِي يُثَاب عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْن التِّين:
قَالَ أَبُو الْحسن: الْعدْل الْوَاحِد قَول الْمُصَاب:
{إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة:
651) . وَالْعدْل الثَّانِي الصَّلَوَات الَّتِي هِيَ
عَلَيْهِنَّ من الله تَعَالَى، والعلاوة {وَأُولَئِكَ هم
المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَهُوَ ثَنَاء من الله
تَعَالَى عَلَيْهِم. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّمَا هُوَ
مثل ضربه للجزاء، فالعدلان عدلا الْبَعِير أَو الدَّابَّة،
والعلاوة الغرارة الَّتِي تُوضَع فِي وسط العدلين
مَمْلُوءَة، يَقُول: وكما حملت هَذِه الرَّاحِلَة وسقاءها
فَإِنَّهَا لم يبْق مَوضِع يحمل عَلَيْهِ، فَكَذَلِك أعْطى
هَذَا الْأجر وافرا، وعَلى قَول الدَّاودِيّ يكون العدلان
والعلاوة. {أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات} (الْبَقَرَة: 751)
. إِلَى {المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَقَالَ ابْن
قرقول: الْعدْل هُنَا نصف الْحمل على أحد شقي الدَّابَّة،
وَالْحمل عَدْلَانِ، والعلاوة مَا جعل بَينهمَا. وَقيل:
مَا علق على الْبَعِير، ضرب ذَلِك مثلا بقوله: {صلوَات من
رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) . قَالَ: فالصلوات
عدل، وَالرَّحْمَة عدل. {وَأُولَئِكَ هم المهتدون}
(الْبَقَرَة: 751) . العلاوة. وَقَالَ الْفراء: الْعدْل،
بِالْفَتْح: مَا عدل الشَّيْء من غير جنسه، وبالكسر:
الْمثل، والعلاوة، بِالْكَسْرِ، مَا علقت على الْبَعِير
بعد تَمام الوقر. نَحْو السقاء وَغَيره. قَوْله: (نعم) ،
كلمة مدح، والعدلان فَاعله، (وَنعم العلاوة) عطف عَلَيْهِ.
وَقَوله: (الَّذين) هُوَ الْمَخْصُوص بالمدح. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالعدلين القَوْل
وجزاؤه، أَي قَوْله الْكَلِمَتَيْنِ وَنَوع الثَّوَاب،
وهما متلازمان فِي أَن الْعدْل الأول مركب من
كَلِمَتَيْنِ، وَالثَّانِي من النَّوْعَيْنِ من الثَّوَاب،
وَمعنى الصَّلَاة من الله الْمَغْفِرَة، ثمَّ هَذَا
الْأَثر الْمُعَلق وَصله الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من
طَرِيق جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن سعيد بن
الْمسيب عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. كَمَا سَاقه
البُخَارِيّ، وَزَاد {أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم
وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) . نعم العدلان. {وَأُولَئِكَ
هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . نعم العلاوة. وَهَكَذَا
أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم.
وقَوْلُهُ تَعَالى: {واسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ
وَالصَّلاَةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ علَى
الخَاشِعِينَ} (الْبَقَرَة: 54) .
وَقَوله، مجرور لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: بَاب الصَّبْر،
وَالتَّقْدِير: وَبَاب قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا
... } (الْبَقَرَة: 54) . الْآيَة، وَيجوز أَن يكون
مَرْفُوعا عطفا على قَوْله: (الصَّبْر عِنْد الصدمة
الأولى) ، على تَقْدِير قطع الْإِضَافَة فِي لفظ: بَاب،
كَمَا ذكرنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَجه ذكر هَذِه الْآيَة
الْكَرِيمَة هُنَا هُوَ أَنه: لما كَانَ الْمعبر من
الصَّبْر هُوَ الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى الَّذِي
ذكرنَا مَعْنَاهُ أَتَى الصابر بصبر مقرون بِالصَّلَاةِ،
وَلِهَذَا (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
حزبه أَمر صلَّى) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي (تَفْسِيره) بِإِسْنَاد حسن عَن ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَنه نعى
إِلَيْهِ أَخُوهُ قثم، وَهُوَ فِي سفر، فَاسْتَرْجع ثمَّ
تنحى عَن الطَّرِيق فَأَنَاخَ فصلى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ
فيهمَا الْجُلُوس، ثمَّ قَامَ وَهُوَ يَقُول:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة ... } (الْبَقَرَة:
54) . الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى الْآيَة:
اسْتَعِينُوا على مَا يستقبلكم من أَنْوَاع البلايا
بِالصبرِ وَالصَّلَاة، وَقيل: فِي أَمر الْآخِرَة، وَقيل:
فِي ترك الرياسة. وَالصَّبْر الْحَبْس، لِأَن الصابر
حَابِس نَفسه على مَا تكرههُ، وسمى الصَّوْم صبرا لحبس
النَّفس فِيهِ عَن الطَّعَام وَغَيره، وَنهى صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل شَيْء من الدَّوَابّ صبرا وَهُوَ
أَن يحبس حَيا. وَقيل: المُرَاد بِالصبرِ فِي هَذِه
الْآيَة الصَّوْم، قَالَه مُجَاهِد. قَوْله: {وَإِنَّهَا}
أَي: وَإِن الصَّلَاة، وَلم يقل: وإنهما، مَعَ أَن
الْمَذْكُور: الصَّبْر وَالصَّلَاة، فَقيل: لِأَنَّهُ رد
الضَّمِير إِلَى مَا هُوَ الأهم والأغلب، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا
يُنْفِقُونَهَا} (التَّوْبَة: 43) . رد الضَّمِير إِلَى
الْفضة لِأَنَّهَا أَعم وأغلب. فَإِن قلت: مَا وَجه
الِاسْتِعَانَة بِالصَّلَاةِ؟ قلت: لما كَانَ فِيهَا
تِلَاوَة الْقُرْآن وَالدُّعَاء والخضوع لله تَعَالَى
كَانَ ذَلِك مَعُونَة على مَا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس من
حب الرياسة والأنفة من الانقياد إِلَى الطَّاعَة. قَوْله:
{لكبيرة} أَي: شَدِيدَة ثَقيلَة على الْكَافرين إلاَّ على
الخاشعين لَيست بكبيرة، والخاشع الَّذِي يرى أثر الذل
والخضوع عَلَيْهِ، والخشوع فِي اللُّغَة: السّكُون. قَالَ:
خَشَعت الْأَصْوَات للرحمن، وَقيل: الْخُشُوع فِي الصَّوْت
وَالْبَصَر، والخضوع فِي الْبدن. فَإِن قلت: قد علمت أَن
العَبْد مَنْهِيّ عَن الهجر وتسخط قَضَاء الرب فِي كل
حَال، فَمَا وَجه خُصُوص نزُول النائبة بِالصبرِ فِي حَال
حدوثها؟ قلت: لِأَن النَّفس عِنْد هجوم الْحَادِثَة تتحرك
على الْخُشُوع لَيْسَ فِي غَيرهَا مثله، وَذَلِكَ يضعف على
ضبط النَّفس فِيهَا لكثير من النَّاس، بل يصير كل جازع بعد
ذَلِك إِلَى السلو ونسيان الْمُصِيبَة وَالْأَخْذ بقهر
الصابر النَّفس،
(8/100)
وغلبته هَواهَا عِنْد صدمته يكون إيثارا لأمر الله
تَعَالَى على هوى نَفسه، ومنجزا لوعده، بل السالي عَن
مصائبه لَا يسْتَحق الصَّبْر على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ
آثر السلو على الْجزع وَاخْتَارَهُ، وَإِنَّمَا الصَّبْر
على الْحَقِيقَة من صَبر نَفسه وحبسها عَن شهواتها وقهرها
عَن الْحزن والجزع والبكاء الَّذِي فِيهِ رَاحَة النَّفس
وإطفاء لنار الْحزن، فَإِذا قَابل سُورَة الْحزن وهجومه
بِالصبرِ الْجَمِيل، وَتحقّق أَنه لَا خُرُوج لَهُ عَن
قَضَائِهِ وَأَنه يرجع إِلَيْهِ بعد الْمَوْت، اسْتحق
حِينَئِذٍ جزيل الْأجر وعد من الصابرين الَّذين وعدهم الله
بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة.
2031 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا
غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ ثَابِتٍ. قَالَ
سَمِعْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ
الأولى.
التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَقد مر الحَدِيث مطولا
فِي: بَاب زِيَارَة الْقُبُور، أخرجه عَن آدم عَن شُعْبَة.
. إِلَى آخِره، وَلَفظه هُنَاكَ: (إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد
الصدمة الأولى) ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وغندر،
بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر،
وَقد تكَرر ذكره. |