عمدة القاري شرح صحيح البخاري

23 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ إذَا كانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ لِقَوْلِ الله تعَالَى: {قُوا أنُفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ نَارا} )

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . إِلَى آخِره، هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا لفظ حَدِيث نذكرهُ عَن قريب مُسْندًا. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا تَقْيِيد من المُصَنّف لمُطلق الحَدِيث، وَحمل مِنْهُ لرِوَايَة ابْن عَبَّاس الْمقيدَة بالبعضية على رِوَايَة ابْن عمر الْمُطلقَة. قلت: لَا نسلم أَن التَّقْيِيد من المُصَنّف، بل هما حديثان أَحدهمَا مُطلق وَالْآخر مُقَيّد، فترجم بِلَفْظ الحَدِيث الْمُقَيد تَنْبِيها على أَن الحَدِيث الْمُطلق مَحْمُول عَلَيْهِ، لِأَن الدَّلَائِل دلّت على تَخْصِيص الْعَذَاب بِبَعْض الْبكاء لَا بكله، لِأَن الْبكاء بِغَيْر نوح مُبَاح، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: (إِذا كَانَ النوج) إِلَى آخِره، لَيْسَ من الحَدِيث الْمَرْفُوع، بل هُوَ من كَلَام البُخَارِيّ، قَالَه استنباطا. قَوْله: (من سنته) ، بِضَم السِّين وَتَشْديد النُّون وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، أَي: من عَادَته وطريقته، وَهَكَذَا هُوَ للأكثرين. وَقَالَ ابْن قرقول: أَي: مِمَّا سنه واعتاده، إِذْ كَانَ من الْعَرَب من يَأْمر بذلك أَهله، وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَه البُخَارِيّ، وَهُوَ أحد التأويلات فِي الحَدِيث. وَضَبطه بَعضهم: بِالْبَاء، الْمُوَحدَة المكررة أَي: من أَجله، وَذكر عَن مُحَمَّد بن نَاصِر أَن الأول تَصْحِيف وَالصَّوَاب الثَّانِي، وَأي سنة للْمَيت؟ وَفِي بعض النّسخ: بَاب إِذا كَانَ النوح من سنَنه، وَضَبطه بالنُّون. قَوْله: (لقَوْل الله تَعَالَى) إِلَى آخِره، وَجه الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ أَن الشَّخْص إِذا كَانَ نائحا وَأَهله يقتدون بِهِ فَهُوَ صَار سَببا لنوح أَهله، فَمَا وقى أَهله من النَّار فَخَالف الْأَمر، ويعذب بذلك قَوْله: (قوا) ، أَمر للْجَمَاعَة من: وقى يقي، وَأَصله أوقيوا، لِأَن الْأَمر من يقي: ق، وَأَصله أوقَ، فحذفت الْوَاو تبعا ليقي، وَأَصله: يوقي حذفت الْوَاو، ولوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، فَصَارَ: يقي على وزن: يعي، وَالْأَمر مِنْهُ: ق، وعَلى الأَصْل: أوق، فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهُ تبعا للمضارع اسْتغنى عَن الْهمزَة، فحذفت فَصَارَ: قِ، على وزن: ع. تَقول: ق، قيا قوا. وَمعنى: قوا إحفظوا لِأَنَّهُ من الْوِقَايَة، وَهُوَ الْحِفْظ.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ

(8/70)


هَذَا حَدِيث ابْن عمر أخرجه فِي: بَاب الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن مَوْصُولا مطولا وَجه إِيرَاد هَذِه الْآيَة فِي معرض الِاسْتِدْلَال هُوَ أَن الْأَمر فِيهَا يَشْمَل سَائِر جِهَات الْوِقَايَة، فالرجل إِذا كَانَ رَاعيا لأَهله وَجَاء مِنْهُ شَرّ وَتَبعهُ أَهله على ذَلِك أَو هُوَ رَآهُمْ يَفْعَلُونَ الشَّرّ وَلم ينههم عَن ذَلِك فَإِنَّهُ يسْأَل عَنهُ لِأَن ذَلِك كَانَ من سنته.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْآيَة والْحَدِيث وَهُوَ مُقَيّد وَالْآيَة مُطلقَة؟ قلت: الْآيَة بظاهرها، وَإِن دلّت على الْعُمُوم، وَلَكِن خص مِنْهَا من لم يكن لَهُ علم بِمَا يَفْعَله أَهله من الشَّرّ، وَمن نَهَاهُم عَنهُ فَلم ينْتَهوا فَلَا مُؤَاخذَة هَهُنَا، وَلِهَذَا قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك: إِذا كَانَ ينهاهم فِي حَيَاته فَفَعَلُوا شَيْئا من ذَلِك بعد وَفَاته لم يكن عَلَيْهِ شَيْء.
فإذَا لَمْ يَكُنْ منْ سُنَّتِهِ فَهْوَ كمَا قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا: {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، الزمر: 7) .

هَذَا قسيم قَوْله: إِذا كَانَ النوح من سنته، يَعْنِي: فَإِذا لم يكن النوح مَعَ الْبكاء من سنته أَي: من عَادَته وطريقته. قَوْله: (كَمَا قَالَت) ، جَوَاب إِذا المتضمن معنى الشَّرْط، فحاصل الْمَعْنى إِذا لم يكن من سنته فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، كَقَوْل عَائِشَة: فالكاف للتشبيه، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: كَقَوْل عَائِشَة مستدلة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461. الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، الزمر: 7) . أَي: وَلَا تحمل نفس حاملة ذَنبا ذَنْب نفس أُخْرَى، حَاصله: لَا تؤاخذ نفس بِغَيْر ذنبها، وأصل: لَا تزر، لَا توزر، لِأَنَّهُ من الْوزر، فحذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء الَّتِي للْغَائِب والكسرة، وحملت عَلَيْهِ بَقِيَّة الْأَمْثِلَة.
وَهْوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ذُنُوبا إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلُ مِنْهُ شَيءٌ

هَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده، أَي: مَا استدلت عَائِشَة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، الزمر: 7) . كَقَوْلِه تَعَالَى: {وان تدع مثقلة} (فاطر: 81) . أَي: وَإِن تدع نفس مثقلة بذنوبها غيرا إِلَى حمل أَوزَارهَا: {لَا يحمل مِنْهُ شَيْء} (فاطر: 81) . وَهَذَا يدل على أَنه لَا غياث يَوْمئِذٍ لمن اسْتَغَاثَ من الْكفَّار، حَتَّى إِن نفسا قد أثقلتها الأوزار لَو دعت إِلَى أَن يخف بعض حملهَا لم تجب وَلم تغث {وَلَو كَانَ ذَا قربى} (فاطر: 81) . أَي: وَإِن كَانَ الْمَدْعُو بعض قرابتها من أَب أَو أم أَو ولد أَو أَخ، والمدعو وَإِن لم يكن لَهُ ذكر يدل عَلَيْهِ. {وَإِن تدع مثقلة} (فاطر: 81) . وَإِنَّمَا لم يذكر الْمَدْعُو ليعم ويشمل كل مدعُو، واستقام إِضْمَار الْعَام وَإِن لم يَصح أَن يكون الْعَام ذَا قربى للمثقلة لِأَنَّهُ من الْعُمُوم الْكَائِن على الْبَدَل.
وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ البُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ

هَذَا عطف على أول التَّرْجَمَة، تَقْدِيره: بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعذب الْمَيِّت ... إِلَى آخِره، وَفِي بَيَان مَا يرخص من الْبكاء بِغَيْر نياحة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو هُوَ عطف على: كَمَا قَالَت، أَي: فَهُوَ كَمَا يرخص فِي عدم الْعَذَاب، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة وَأَن تكون مَصْدَرِيَّة، والترخيص من الْبكاء فِي غير نوح جَاءَ فِي حَدِيث أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا ابْن الْأَصْبَهَانِيّ حَدثنَا شريك عَن عَامر بن سعد، قَالَ: دخلت عرسا وَفِيه قرظة بن كَعْب وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ قَالَ: فَذكر حَدِيثا لَهما قَالَا فِيهِ: إِنَّه قد رخص لنا فِي الْبكاء عِنْد الْمُصِيبَة من غير نوح، وَصَححهُ الْحَاكِم وَلَكِن لَيْسَ إِسْنَاده على شَرط البُخَارِيّ، فَلذَلِك لم يذكرهُ، وَلكنه أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: وَمَا يرخص. . إِلَى آخِره، وقرظه، بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء والظاء المشالة، أَنْصَارِي خزرجي، كَانَ أحد من وَجهه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْكُوفَة ليفقه النَّاس، وَكَانَ على يَدَيْهِ فتح الرّيّ، واستخلفه عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْكُوفَة. وَقَالَ ابْن سعيد وَغَيره: مَاتَ فِي خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْما إِلَّا كانَ عَلَى ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا وَذالِكَ لأِنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ

هَذَا أخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَوْصُولا فِي خلق آدم: حَدثنَا عمر بن حَفْص بن غياث حَدثنَا أبي حَدثنَا الْأَعْمَش. قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق عَن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث وَأخرجه

(8/71)


أَيْضا فِي الدِّيات فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَمن أَحْيَاهَا} (الْمَائِدَة: 22) . عَن قبيصَة عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق إِلَى آخِره، وَفِي الِاعْتِصَام أَيْضا عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن جمَاعَة، وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَالنَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن خشرم، وَفِي الْمُحَاربَة عَن عَمْرو بن عَليّ، وَابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن هِشَام ابْن عمار ثمَّ وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث أَن الْقَاتِل الْمَذْكُور يُشَارك من فعل مثله لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فتح هَذَا الْبَاب وَسوى هَذَا الطَّرِيق، فَكَذَلِك من كَانَ طَرِيقَته النوح على الْمَيِّت يكون قد فتح لأَهله هَذَا الطَّرِيق فَيُؤْخَذ على فعله، ومدار مُرَاد البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة على أَن الشَّخْص لَا يعذب بِفعل غَيره إلاَّ إِذا كَانَ لَهُ فِيهِ تسبب، فَمن قَالَ بِجَوَاز تَعْذِيب شخص يفعل غَيره فمراده هَذَا، وَمن نَفَاهُ فمراده مَا إِذا لم يكن فِيهِ تسبب أصلا.
قَوْله: (لَا تقتل نفس) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (ظلما) نصب على التَّمْيِيز، أَي: من حَيْثُ الظُّلم. قَوْله: (ابْن آدم الأول) ، المُرَاد بِهِ قابيل الَّذِي قتل أَخَاهُ شقيقه هابيل ظلما وحسدا. قَوْله: (كفل) ، بِكَسْر الْكَاف: وَهُوَ النَّصِيب والحظ. وَقَالَ الْخَلِيل: الضَّعِيف، وَهَذَا الحَدِيث من قَوَاعِد الْإِسْلَام مُوَافق لحَدِيث (من سنّ سنة حَسَنَة. .) الحَدِيث، وَغَيره فِي الْخَيْر وَالشَّر. قَوْله: (وَذَلِكَ) أَي: كَون الكفل على ابْن آدم الأول. قَوْله: (بِأَنَّهُ) أَي: بِسَبَب أَن ابْن آدم الأول هُوَ الَّذِي سنّ سنة قتل النَّفس ظلما وحسدا.

4821 - حدَّثنا عَبْدَانُ وَمُحَمَّدٌ قَالَا أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عاصِمُ بنُ سُلَيْمَانَ عنْ أبِي عُثْمَانَ قَالَ حدَّثني أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أرْسَلَتِ ابْنَةُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَيْهِ إنَّ ابْنا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا فأرْسَلَ يُقْرِىءُ السَّلاَمَ ويَقُولُ إنَّ لِلاهِ مَا أخَذَ ولَهُ مَا أعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأجَلٍ مُسَمَّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ فأرْسَلَتْ إلَيْهِ تُقْسِمُ عَليهِ لَيَأتِيَنَّهَا فقامَ ومَعَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ وَابَيُّ بنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بنُ ثَابِت وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أنَّهُ قَالَ كأنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ الله مَا هاذَا فَقَالَ هاذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلهَا الله فِي قُلوبِ عِبَادِهِ وَإنَّمَا يَرْحَمُ الله منْ عِبادِهِ الرُّحَمَاءَ..
هَذَا الحَدِيث مُطَابق لقَوْله: (وَمَا يرخص من الْبكاء فِي غير نوح) فَإِن قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) ، بكاء من غير نوح فَيدل على أَن الْبكاء الَّذِي يكون من غير نوح جَائِز، فَلَا يُؤَاخذ بِهِ الباكي وَلَا الْمَيِّت.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه عبد الله بن عُثْمَان أَبُو عبد الرَّحْمَن. الثَّانِي: مُحَمَّد بن مقَاتل. الثَّالِث: عبد الله ابْن الْمُبَارك. الرَّابِع: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. الْخَامِس: أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مل، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد اللَّام، مر فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة. السَّادِس: أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومولاه، وَأمه أم أَيمن، وأسمها بركَة حاضنة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مروزيون وَعَاصِم وَأَبُو عُثْمَان بصريان. وَفِيه: عَاصِم عَن أبي عُثْمَان، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة فِي أَوَاخِر الطِّبّ عَن عَاصِم: سَمِعت أَبَا عُثْمَان. وَفِيه: عَن أبي عُثْمَان بِلَا نِسْبَة. وَفِي التَّوْحِيد من طَرِيق حَمَّاد عَن عَاصِم: عَن أبي عُثْمَان هُوَ النَّهْدِيّ. وَفِيه: أَن رِوَايَته عَن شيخين أَحدهمَا بلقبه، لِأَن عَبْدَانِ لقب عبد الله، وَالْآخر بِلَا نِسْبَة، وَكَذَلِكَ عبد الله بِلَا نِسْبَة. وَفِيه: أَبُو عُثْمَان مَذْكُور بكنيته.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن حجاج بن منهال، وَفِي النذور عَن حَفْص بن عمر، وَفِي التَّوْحِيد عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد ابْن الْفضل وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مَالك بن إِسْمَاعِيل مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي كَامِل الجحدري وَعَن ابْن نمير وَعَن أبي بكر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن الْوَلِيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك، سبعتهم عَن عَاصِم الْأَحول عَن أبي عُثْمَان بِهِ، فَافْهَم.

(8/72)


ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أرْسلت بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هِيَ: زَيْنَب، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة أبيَّة مُعَاوِيَة عَن عَاصِم الْمَذْكُور فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) وَكَذَا ذكره ابْن بشكوال. قَوْله: (إِن ابْنا لَهَا) أَي: لبِنْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. كتب الدمياطي بِخَطِّهِ فِي الْحَاشِيَة: إِن اسْمه عَليّ بن أبي الْعَاصِ بن الرّبيع، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ لم يَقع مُسَمّى فِي شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث. قلت: فِي نظره نظر لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم اطِّلَاعه على أَن ابْنهَا هُوَ عَليّ فِي طرق هَذَا الحَدِيث أَن لَا يطلع عَلَيْهِ غَيره فِي طَرِيق من الطّرق الَّتِي لم يطلع هُوَ عَلَيْهَا، وَمن أَيْن لَهُ إحاطة جَمِيع طرق هَذَا الحَدِيث أَو غَيره؟ والدمياطي حَافظ متقن وَلَيْسَ ذكر هَذَا من عِنْده لِأَن مثل هَذَا توقيفي فَلَا دخل لِلْعَقْلِ فِيهِ، فَلَو لم يطلع عَلَيْهِ. لم يُصَرح بِهِ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: إِن الزبير بن بكار وَغَيره من أهل الْعلم بالأخبار ذكرُوا أَن عليا الْمَذْكُور عَاشَ حَتَّى ناهز الْحلم، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أردفه على رَاحِلَته يَوْم فتح مَكَّة، وَمثل هَذَا لَا يُقَال فِي حَقه: صبي، عرفا. قلت: بلَى، يُقَال: صبي إِلَى أَن يقرب من الْبلُوغ عرفا، وَأما الصَّبِي فِي اللُّغَة فقد قَالَ ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) : الصَّبِي من لدن يُولد إِلَى أَن يعظم، وَالْجمع أصبية وصبية وصبوان وصبوات وصبيان، قلبوا الْوَاو فِيهَا يَاء للكسرة الَّتِي قبلهَا وَلم يعتدوا بالساكن حاجزا حصينا لضَعْفه بِالسُّكُونِ. قَوْله: (قبض) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: قرب من أَن يقبض، وَيدل على ذَلِك أَن فِي رِوَايَة حَمَّاد: (أرْسلت تَدعُوهُ إِلَى ابْنهَا فِي الْمَوْت) ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (إِن ابْنَتي قد حضرت) . وروى أَبُو دَاوُد عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا شُعْبَة عَن عَاصِم الْأَحول سَمِعت أَبَا عُثْمَان (عَن أُسَامَة بن زيد أَن ابْنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسلت إِلَيْهِ وَإِنَّا مَعَه وَسعد، أَحسب وَأبي أَن ابْني أَو ابْنَتي قد حضر فاشهدنا) الحَدِيث. وَقَوله (أَو ابْنَتي) ، شكّ من الرَّاوِي، وَقَالَ بَعضهم: الصَّوَاب قَول من قَالَ: ابْنَتي، لَا، ابْني، كَمَا ثَبت فِي (مُسْند أَحْمد) : وَلَفظه: أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمامة بنت زَيْنَب وَهِي لأبي الْعَاصِ بن الرّبيع ونفسها تتقعقع كَأَنَّهَا فِي شن) ، وَفِي رِوَايَة بَعضهم: أُمَيْمَة، بِالتَّصْغِيرِ، وَهِي أُمَامَة الْمَذْكُورَة. قلت: أهل الْعلم بالأخبار اتَّفقُوا على أَن أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ من زَيْنَب بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عاشت بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تزَوجهَا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعد وَفَاة فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ثمَّ عاشت عِنْد عَليّ حَتَّى قتل عَنْهَا، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل أيد مَا ادَّعَاهُ من أَن الصَّوَاب قَول من قَالَ: ابْنَتي، لَا: ابْني، بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق الْوَلِيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (اسْتعزَّ بأمامة بنت أبي الْعَاصِ فَبعثت زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ تَقول لَهُ) فَذكر نَحْو حَدِيث أُسَامَة. وَقَوله: (اسْتعزَّ) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الزَّاي، أَي: اشْتَدَّ بهَا الْمَرَض وأشرفت على الْمَوْت. قلت: اتّفق أهل الْعلم بِالنّسَبِ أَن زَيْنَب لم تَلد لأبي الْعَاصِ إلاَّ عليا وأمامة فَقَط، وَاتَّفَقُوا أَيْضا أَن أُمَامَة تَأَخَّرت وفاتها إِلَى التَّارِيخ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، فَدلَّ أَن الصَّوَاب قَول من قَالَ: ابْني، لَا: ابْنَتي، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق عبد الله بن الْمُبَارك عَن سُلَيْمَان الْأَحول عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ. قَوْله: (يقريء السَّلَام) بِضَم الْيَاء، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا. وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَا وَجه لَهُ إلاَّ أَن يُرِيد: يقْرَأ عَلَيْك، وَذكر الزَّمَخْشَرِيّ عَن الْفراء، يُقَال: قَرَأت عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَقْرَأْته السَّلَام. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: لَا يُقَال: أَقرَأته السَّلَام، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: والعامة تَقول: قريت السَّلَام، بِغَيْر همز وَهُوَ خطأ. قَوْله: (إِن لله مَا أَخذ وَله مَا أعْطى) ، أَي: لَهُ الْخلق كُله وَبِيَدِهِ الْأَمر كُله وكل شَيْء عِنْده بِأَجل مُسَمّى، لِأَنَّهُ لما خلق الدواة واللوح والقلم أَمر الْقَلَم أَن يكْتب مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا معقب لحكمه، قيل: قدم ذكر الْأَخْذ على الْإِعْطَاء، وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْوَاقِع لما يَقْتَضِيهِ الْمقَام، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَرَادَ الله أَن يَأْخُذهُ هُوَ الَّذِي كَانَ أعطَاهُ، فَإِن أَخذه أَخذ مَا هُوَ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي الْجزع، لِأَن مستودع الْأَمَانَة لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يجزع إِذا استعيدت مِنْهُ. وَكلمَة: مَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَوْصُولَة، ومفعول: أَخذ وَأعْطى، مَحْذُوف لِأَن الْمَوْصُول لَا بُد لَهُ من صلَة وعائد، ونكتة حذف الْمَفْعُول فيهمَا الدّلَالَة على الْعُمُوم، فَيدْخل فِيهِ أَخذ الْوَلَد وإعطاؤه وَغَيرهمَا، وَيجوز أَن تكون كلمة: مَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: إِن لله الْأَخْذ والإعطاء وَهُوَ أَيْضا أَعم من إِعْطَاء الْوَلَد وَأَخذه. قَوْله: (وكل عِنْده بِأَجل مُسَمّى) أَي: كل وَاحِد من الْأَخْذ والإعطاء عِنْد الله مُقَدّر بِأَجل مُسَمّى، أَي: مَعْلُوم، وَالْأَجَل يُطلق على الْحَد الْأَخير وعَلى مَجْمُوع الْعُمر، وَمعنى: عِنْده، فِي علمه وإحاطته. قَوْله فلتبصر أَمر للْغَائِب الْمُؤَنَّث ولتحتسب أَي تنوي بصبرها طلب الثَّوَاب من رَبهَا ليحسب لَهَا ذَلِك من عَملهَا الصَّالح قَوْله: (فَأرْسلت إِلَيْهِ تقسم) أَي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، و: تقسم، جملَة فعلية وَقعت حَالا، وَوَقع فِي حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَنَّهَا راجعته مرَّتَيْنِ

(8/73)


وَأَنه إِنَّمَا قَامَ فِي ثَالِث مرّة، أما ترك إجَابَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَولا فَيحْتَمل أَنه كَانَ فِي شغل فِي ذَلِك الْوَقْت، أَو كَانَ امْتِنَاعه مُبَالغَة فِي إِظْهَار التَّسْلِيم لرَبه، أَو كَانَ لبَيَان الْجَوَاز فِي أَن من دعِي لمثل ذَلِك لم تجب عَلَيْهِ الْإِجَابَة، بِخِلَاف الْوَلِيمَة مثلا، وَأما إجَابَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد إلحاحها عَلَيْهِ فَكَانَت دفعا لما يَظُنّهُ بعض الجهلة أَنَّهَا نَاقِصَة الْمَكَان عِنْده، أَو أَنه لما رَآهَا عزمت عَلَيْهِ بالقسم حن عَلَيْهَا بإجابته. قَوْله: (فَقَامَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْوَاو فِي: وَمَعَهُ، للْحَال، وَهُوَ خبر لقَوْله: (سعد بن عبَادَة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة: الخزرجي، كَانَ سيدا جوادا ذَا رياسة غيورا، مَاتَ بِالشَّام، وَيُقَال: إِنَّه قَتله الْجِنّ. وَقَالُوا.
(قد قتلنَا سيد الْخَزْرَج سعد بن عبَادَة ... رميناه بِسَهْم فَلم يخط فُؤَاده)

(ومعاذ بن جبل) مر فِي أول كتاب الْإِيمَان، (وَأبي بن كَعْب) مر فِي: بَاب مَا ذكر من ذهَاب مُوسَى، فِي كتاب الْعلم، (وَزيد بن ثَابت) مر فِي: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ، فِي كتاب الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: (فَقَامَ وَقَامَ مَعَه رجال) . وَقد سمى مِنْهُم غير من سمي فِي هَذِه الرِّوَايَة: عبَادَة بن الصَّامِت، وَهُوَ فِي رِوَايَة: عبد الْوَاحِد فِي أَوَائِل التَّوْحِيد، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة أَن أُسَامَة رَاوِي الحَدِيث كَانَ مَعَهم، وَكَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَنه كَانَ مَعَهم، وَوَقع فِي رِوَايَة شُعْبَة فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور (وَأبي أَو أبي) بِالشَّكِّ، فَالْأول: بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء، فعلى هَذَا كَانَ زيد بن حَارِثَة مَعَهم، وَالثَّانِي: بِضَم الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء، وَهُوَ أبي بن كَعْب، وَرِوَايَة البُخَارِيّ ترجح الثَّانِي لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ بِلَفْظ: وَأبي بن كَعْب، وَكَانَ الشَّك من شُعْبَة، لِأَن ذَلِك لم يَقع فِي رِوَايَة غَيره، وَالله أعلم. قَوْله: (فَرفع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّبِي) ، بالراء: من الرّفْع، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: (فَدفع) ، بِالدَّال، وَبَين فِي رِوَايَة شُعْبَة أَنه وضع فِي حجره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَهُنَا حذف كثير، وَالتَّقْدِير: فَذَهَبُوا إِلَى أَن انْتَهوا إِلَى بَيتهَا فَاسْتَأْذنُوا فَأذن لَهُم فَدَخَلُوا، فَرفع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّبِي، وَفِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد: (فَلَمَّا دَخَلنَا ناولوا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّبِي) قَوْله: (وَنَفسه تتقعقع) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، أَي: تضطرب وتتحرك، وَفِي بعض النّسخ: (تقَعْقع) ، فَالْأول من التقعقع من: بَاب التفعلل، وَالثَّانِي: من القعقعة، وَهِي حِكَايَة حَرَكَة يسمع مِنْهَا صَوت، قَالَ الْأَزْهَرِي: يُقَال للجلد الْيَابِس إِذا تخشخش فَحكى صَوت حركاته: قعقع قعقعة، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: القعقعة والعقعقة، والشخشخة والخشخشة، والخفخفة والفخفخة، والشنشنة والنشنشة: كلهَا حَرَكَة القرطاس وَالثَّوْب الْجَدِيد. وَفِي (الصِّحَاح) : القعقعة حِكَايَة صَوت السِّلَاح، وَفِي (نَوَادِر أبي مسحل) أَخَذته الْحمى بقعقعة أَي: برعدة. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: القعقعة صَوت الْحِجَارَة والخطاف والبكرة والمحور. وَفِي (الْمُحكم) : قعقعته، حركته. وَقَالَ شمر: قَالَ خَالِد بن جنبه: معنى قَوْله: (نَفسه تتقعقع) أَي: كلما صَارَت إِلَى حَال لم تلبث أَن تصير إِلَى حَال أُخْرَى تقرب من الْمَوْت لَا تثبت على حَالَة وَاحِدَة. قَوْله: (كَأَنَّهَا شن) ، وَفِي رِوَايَة: (كَأَنَّهَا فِي شن) ، والشن، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون: السقاء الْبَالِي، وَالْجمع: شنان. وَقَالَ ابْن التِّين: وَضَبطه بَعضهم بِكَسْر الشين وَلَيْسَ بِشَيْء، وَجه الرِّوَايَة الأولى: أَنه شبه النَّفس بِنَفس الْجلد، وَهُوَ أبلغ فِي الْإِشَارَة إِلَى شدَّة الضعْف، وَوجه الثَّانِيَة: أَنه شبه الْبدن بِالْجلدِ الْيَابِس الْخلق، وحركة الرّوح فِيهِ كَمَا يطْرَح فِي الْجلد من حَصَاة وَنَحْوهَا. قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) أَي: عينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي نزل مِنْهُمَا الدمع. قَوْله: (فَقَالَ سعد) أَي: سعد بن عبَادَة الْمَذْكُور، وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من طَرِيق عبد الْوَاحِد: (فَقَالَ عبَادَة بن الصَّامِت) ، وَالصَّوَاب مَا فِي الصَّحِيح. قَوْله: (مَا هَذَا؟) أَي: فيضان الْعين، كَأَنَّهُ اسْتغْرب ذَلِك مِنْهُ لِأَنَّهُ يُخَالف مَا عَهده مِنْهُ من مقاومة الْمُصِيبَة بِالصبرِ. قَوْله: (قَالَ: هَذِه) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذِه، أَي الدمعة رَحْمَة، أَي أثر رَحْمَة جعلهَا الله فِي قُلُوب عباده، أَي: رَحْمَة على الْمَقْبُوض تبْعَث على التَّأَمُّل فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا توهمت من الْجزع وَقلة الصَّبْر. وَفِي بعض النّسخ: (قَالَ: إِنَّه رَحْمَة) أَي: إِن فيضان الدمع أثر رَحْمَة. وَفِي لفظ (فِي قُلُوب من شَاءَ من عباده) وَقد صَحَّ أَن الله خلق مائَة رَحْمَة فَأمْسك عِنْده تسعا وَتِسْعين وَجعل فِي عباده رَحْمَة فبها يتراحمون ويتعاطفون وتحن الْأُم على وَلَدهَا، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة جمع تِلْكَ الرَّحْمَة إِلَى التِّسْعَة وَالتسْعين فأظل بهَا الْخلق حَتَّى إِن إِبْلِيس رَأس الْكفْر يطْمع، لما يرى من رَحْمَة الله عز وَجل، قَوْله: (فَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة فِي أَوَاخِر الطِّبّ: (وَلَا يرحم الله من عباده إِلَّا الرُّحَمَاء) . والرحماء جمع: رَحِيم، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة والرحماء بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول: (يرحم الله) ، و: (من عباده) فِي مَحل النصب على الْحَال من: الرُّحَمَاء.

(8/74)


ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز استحضار ذَوي الْفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم. وَفِيه: جَوَاز الْقسم عَلَيْهِم لذَلِك. وَفِيه: جَوَاز الْمَشْي إِلَى التَّعْزِيَة والعيادة بِغَيْر إذْنهمْ بِخِلَاف الْوَلِيمَة. وَفِيه: اسْتِحْبَاب إبرار الْقسم. وَفِيه: أَمر صَاحب الْمُصِيبَة بِالصبرِ قبل وُقُوع الْمَوْت ليَقَع وَهُوَ مستشعر بالرضى مقاوما للحزن بِالصبرِ. وَفِيه: تَقْدِيم السَّلَام على الْكَلَام. وَفِيه: عِيَادَة المرضى، وَلَو كَانَ مفضولاً أَو صَبيا صَغِيرا. وَفِيه: أَن أهل الْفضل لَا يَنْبَغِي أَن يقطع الْيَأْس من فَضلهمْ وَلَو ردوا أول مرّة. وَفِيه: اسْتِفْهَام التَّابِع من إِمَامه عَمَّا يشكل عَلَيْهِ مِمَّا يتعارض ظَاهره. وَفِيه: حسن الْأَدَب فِي السُّؤَال. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي الشَّفَقَة على خلق الله تَعَالَى وَالرَّحْمَة لَهُم. وَفِيه: التَّرْهِيب من قساوة الْقلب وجمود الْعين. وَفِيه: جَوَاز الْبكاء من غير نوح وَنَحْوه، وروى التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي الْأَحْوَص كِلَاهُمَا عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (لما حضرت بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَغِيرَة فَأَخذهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضمّهَا إِلَى صَدره، ثمَّ وضع يَده عَلَيْهَا وَهِي تَئِنُّ، فَبكى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَكَتْ أم أَيمن فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتبكين يَا أم أَيمن، وَرَسُول الله عنْدك؟ فَقَالَ: مَا لي لَا أبْكِي وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يبكي؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لست أبْكِي، وَلكنهَا رَحْمَة. ثمَّ قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُؤمن بِخَير على كل حَال تنْزع نَفسه من بَين جَنْبَيْهِ وَهُوَ يحمد الله تَعَالَى) . وَلابْن عَبَّاس حَدِيث آخر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ رَوَاهُ عَنهُ قَالَ: (بَكت النِّسَاء على رقية فَجعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ينهاهن، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَه يَا عمر! ثمَّ قَالَ: إيَّاكُمْ ونعيق الشَّيْطَان فَإِنَّهُ مهما يكون من الْعين وَمن الْقلب فَمن الرَّحْمَة، وَمَا يكون من اللِّسَان وَالْيَد فَمن الشَّيْطَان قَالَ: وَجعلت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تبْكي على شَفير قبر رقية، فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمسح الدُّمُوع عَن وَجههَا بِالْيَدِ أَو بالثياب) . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) ثمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِن كَانَ غير قوي، فَقَوله فِي الحَدِيث الثَّابِت: (إِن الله لَا يعذب بدمع الْعين) يدل على مَعْنَاهُ، وَيشْهد لَهُ بِالصِّحَّةِ. وروى الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة شريك عَن أبي إِسْحَاق (عَن عَامر ابْن سعد، قَالَ: شهِدت صنيعا فِيهِ أَبُو مَسْعُود وقرظة بن كَعْب وجَوارٍ يغنين، فَقلت: سُبْحَانَ الله هَذَا وَأَنْتُم أَصْحَاب مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأهل بدر؟ فَقَالُوا: رخص لنا فِي الْغناء فِي الْعرس، والبكاء فِي غير نياحة) . وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: (مَاتَ ميت من آل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاجْتمع النِّسَاء يبْكين عَلَيْهِ، فَقَامَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ينهاهن ويطردهن، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دَعْهُنَّ يَا عمر، فَإِن الْعين دامعة وَالْقلب مصاب والعهد قريب) . وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد، قَالَت: (لما توفّي ابْن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِبْرَاهِيم بَكَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ المعزي إِمَّا أَبُو بكر وَإِمَّا عمر أَنْت أَحَق من عظم الله حَقه؟ قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَدْمَع الْعين ويحزن الْقلب وَلَا نقُول مَا يسْخط الرب، لَوْلَا أَنه وعد صَادِق وموعود جَامع وَإِن الآخر تَابع للْأولِ لوجدنا عَلَيْك يَا إِبْرَاهِيم أفضل مِمَّا وجدنَا وَإِنَّا بك لَمَحْزُونُونَ) .

5821 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدثنَا أبُو عامِرٍ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحُ ابنُ سُلَيْمَانَ عنْ هلاَلِ ابنِ عَلِيٍّ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ شَهِدْنَا بِنْتا لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسٌ علَى القَبْرِ فَرَأيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعانِ قَالَ فَقَالَ هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ أَنا. قَالَ فانْزِلْ قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِها.
(5821 طرفه فِي: 2431) .
مطابقته للتَّرْجَمَة، وَهِي قَوْله: (وَمَا يرخص من الْبكاء فِي غير نوح) فِي قَوْله: (فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تدمعان) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد المسندي. الثَّانِي: أَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو الْعَقدي. الثالثت: فليح، بِضَم الْفَاء: ابْن سُلَيْمَان، قَالَ الْوَاقِدِيّ: اسْمه عبد الْملك وفليح لقب غلب عَلَيْهِ. الرَّابِع: هِلَال بن عَليّ بن أُسَامَة العامري. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي

(8/75)


ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن هِلَال، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان الْآتِيَة عَن قريب: حَدثنَا هِلَال. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَنه من أَفْرَاده وَأَبُو عَامر بَصرِي وفليح وهلال مدنيان. وَفِيه: إثنان أَحدهمَا مَذْكُور بكنيته وَالْآخر بلقبه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن سِنَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِنْتا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هِيَ: أم كُلْثُوم، زوج عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن فليح بن سُلَيْمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد. أخرجه ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) فِي تَرْجَمَة أم كُلْثُوم، وَكَذَا ذكره الدولابي والطبري والطَّحَاوِي، وَكَانَت وفاتها سنة تسع، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس فسماها: رقية. أخرجه البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْأَوْسَط) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) قَالَ البُخَارِيّ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ فَإِن رقية مَاتَت وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببدر لم يشهدها. قيل: حَمَّاد وهم فِي تَسْمِيَتهَا فَقَط، وَأغْرب الْخطابِيّ، فَقَالَ: هَذِه الْبِنْت كَانَت لبَعض بَنَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنسبت إِلَيْهِ. قَوْله: (وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَالس) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (على الْقَبْر) ، أَي: على جَانب الْقَبْر وَهُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (تدمعان) ، بِفَتْح الْمِيم، قَالَ ابْن التِّين: الْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَن ماضيه: دمع، بِفَتْح الْمِيم، فَيجوز فِي مستقبله تثليث الْمِيم، وَذكر أَبُو عبيد لُغَة أُخْرَى أَن ماضيه مكسور الْعين فَتعين الْفَتْح فِي الْمُسْتَقْبل. قَوْله: (لم يقارف) ، من المقارفة بِالْقَافِ وَالْفَاء، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ لم يُذنب، وَقيل: لم يُجَامع أَهله، وَحكي عَن الطَّحَاوِيّ أَنه قَالَ: لم يقارف تَصْحِيف، وَالصَّوَاب: لم يقاول، أَي: لم يُنَازع غَيره الْكَلَام، لأَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الحَدِيث بعد الْعشَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِيهِ إِذا فسرت المقارفة بالمجامعة؟ قلت: لَعَلَّهَا هِيَ أَنه لما كَانَ النُّزُول فِي الْقَبْر لمعالجة أَمر النِّسَاء لم يرد أَن يكون النَّازِل فِيهِ قريب الْعَهْد بمخالطة النِّسَاء لتَكون نَفسه مطمئنة سَاكِنة كالناسية للشهوة، وَيُقَال: إِن عُثْمَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بَاشر جَارِيَة لَهُ، فَعلم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك، فَلم يُعجبهُ حَيْثُ شغل عَن الْمَرِيضَة المحتضرة بهَا. وَهِي أم كُلْثُوم زَوجته بنت الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَرَادَ أَنه لَا ينزل فِي قبرها معاتبة عَلَيْهِ، فكنى بِهِ عَنهُ. قَوْله: (قَالَ أَبُو طَلْحَة) ، واسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ الخزرجي، شهد الْمشَاهد وَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لصوت أبي طَلْحَة فِي الْجَيْش خير من مائَة رجل) ، وَقتل يَوْم حنين عشْرين رجلا، وَأخذ أسلابهم وَكَانَ يحثو بَين يَدي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْحَرْب، وَيَقُول: نَفسِي لنَفسك الْفِدَاء، ووجهي لوجهك اللِّقَاء، ثمَّ ينثر كِنَانَته بَين يَدَيْهِ، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرفع رَأسه من خَلفه ليرى مواقع النبل، فَكَانَ يَتَطَاوَل بصدره ليقي بِهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مر فِي: بَاب مَا يذكر فِي الفخد. قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأبي طَلْحَة: (فَانْزِل) قيل: إِنَّمَا عينه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن ذَلِك كَانَ صَنعته. قَالَ بَعضهم، فِيهِ نظر، فَإِن ظَاهر السِّيَاق أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اخْتَارَهُ لذَلِك لكَونه لم يَقع مِنْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة جماع. قلت: فِي نظره نظر لِأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ جمَاعَة، بِدَلِيل قَول أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: شَهِدنَا بِنْتا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعدم وُقُوع الْجِمَاع من أبي طَلْحَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة لَا يسْتَلْزم أَن يكون مُخْتَصًّا بِهِ حَتَّى يخْتَار لذَلِك، بل الظَّاهِر إِنَّمَا اخْتَارَهُ لمباشرته بذلك وخبرته بِهِ، وَفِي (الِاسْتِيعَاب) فِي تَرْجَمته، أم كُلْثُوم: اسْتَأْذن أَبُو طَلْحَة أَن ينزل فِي قبرها فَأذن لَهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْبكاء، كَمَا ترْجم بِهِ بقوله: وَمَا يرخص من الْبكاء فِي غير نوح. وَفِيه: إِدْخَال الرِّجَال الْمَرْأَة فِي قبرها لكَوْنهم أقوى على ذَلِك من النِّسَاء. وَفِيه: إِيثَار الْبعيد الْعَهْد عَن الملاذ فِي مواراة الْمَيِّت، وَلَو كَانَ امْرَأَة، على الْأَب وَالزَّوْج. وَفِيه: جَوَاز الْجُلُوس على جَانب الْقَبْر، وَاسْتدلَّ ابْن التِّين بقوله: (وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَالس على الْقَبْر) ، وَهُوَ قَول مَالك وَزيد بن ثَابت، وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ ابْن مَسْعُود وَعَطَاء: لَا يجلس عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لِأَن يجلس أحدكُم على جَمْرَة فتحرق ثِيَابه فتخلص إِلَى جلده خير لَهُ من أَن يجلس على قبر) ، أخرجه مُسلم، وَظَاهر إراد الْمحَامِلِي وَغَيره أَنه حرَام، وَنَقله النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن الْأَصْحَاب، وَتَأَول مَالك وخارجة بن زيد على الْجُلُوس لقَضَاء الْحَاجة، وَهُوَ بعيد. وَفِي (التَّوْضِيح) : لَا يُوطأ أحدكُم إِلَّا الضَّرُورَة، وَيكرهُ أَيْضا الِاسْتِنَاد إِلَيْهِ احتراما. وَقَالَ: لَو تولى النِّسَاء شَأْنهَا فِي الْقَبْر فَحسن، نَص عَلَيْهِ فِي (الْأُم) .

(8/76)


6821 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَبْدُ الله بنُ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي مُلَيْكَةَ. قَالَ تُوُفِّيَتِ ابنةٌ لِعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهمْ وَإنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أوْ قَالَ جَلَسْتُ إلَى أحَدهِمَا ثُمَّ جاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَعَمْرِو بنِ عُثْمَانَ ألاَ تَنْهى عنِ البُكاءِ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَليهِ. فقالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَدْ كانَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقولُ بَعْضَ ذالِكَ ثمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِنْ مكَّةَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالبَيْدَاءِ إذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ فانْظُرْ مَنْ هَؤُلاَءِ الرَّكْبُ قَالَ فنَظَرْتُ فإذَا صُهَيْبٌ فأخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَرَجَعْتُ إلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فالْحَقْ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَا أخاهْ وَا صَاحِبَاهْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَا صُهَيْبُ أتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أهْلِهِ عليْهِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَلَمَّا ماتَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ ذَكَرْتُ ذالِكَ لِعَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَقالَتْ رَحِمَ الله عُمَرَ وَالله مَا حَدَّثَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الله لَيُعَذِّبُ المُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عليهِ وَلاكِنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الله لَيَزِيدُ الكافِرَ عذَابا بِبُكَاءِ أهْلِهِ عليهِ وقالَتْ حَسْبُكُمُ القُرْآن وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عِنْدَ ذالِكَ وِالله هُوَ أضْحَكُ وَأبْكَى. قَالَ ابنُ أبِي مُلَيْكَةَ وَالله مَا قالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا شَيْئا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن الْمَيِّت يعذب بِبَعْض بكاء أَهله) ، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان، وَقد مر عَن قريب، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعبد الله بن عبيد الله بِالتَّكْبِيرِ فِي الإبن والتصغير فِي الْأَب، وَأَبُو مليكَة اسْمه زُهَيْر وَقد مر غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد وَعَن دَاوُد بن رشيد وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (توفيت بنت لعُثْمَان) ، هِيَ: أم أبان، وَقد صرح بهَا مُسلم، قَالَ: حَدثنَا دَاوُد بن رشيد، قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن علية، قَالَ: حَدثنَا أَيُّوب (عَن عبد الله بن أبي مليكَة، قَالَ: كنت جَالِسا فِي جنب ابْن عمر وَنحن نَنْظُر جَنَازَة أم أبان بنت عُثْمَان وَعِنْده عَمْرو بن عُثْمَان، فجَاء ابْن عَبَّاس يَقُودهُ قَائِد، فَأرَاهُ أخبرهُ بمَكَان ابْن عمر، فجَاء حَتَّى جلس إِلَى جَنْبي، فَكنت بَينهمَا، فَإِذا صَوت من الدَّار، فَقَالَ ابْن عمر: كَأَنَّهُ يعرض على عَمْرو أَن يقوم فينهاهم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله، قَالَ: فأرسلها عبد الله مُرْسلَة، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كُنَّا مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى إِذا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذا هُوَ بِرَجُل نَازل فِي ظلّ شَجَرَة، فَقَالَ لي: اذْهَبْ فَاعْلَم لي من ذَلِك الرجل؟ فَذَهَبت فَإِذا هُوَ صُهَيْب، فَرَجَعت إِلَيْهِ فَقلت: إِنَّك أَمرتنِي بِأَن أعلم لَك من ذَلِك، وَإنَّهُ صُهَيْب. قَالَ: مره فليلحق بِنَا. قَالَ: فَقلت إِن مَعَه أَهله. قَالَ: وَإِن كَانَ مَعَه أَهله، وَرُبمَا قَالَ أَيُّوب مرّة: فليلحق بِنَا، فَلَمَّا قدمنَا لم يلبث أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أُصِيب، فجَاء صُهَيْب يَقُول: وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاه؟ فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ألم تعلم، أَو لم تسمع. أَيُّوب أَو قَالَ: أَو لم تعلم أَو لم تسمع أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِن الْمَيِّت ليعذب بِبَعْض بكاء أَهله؟ قَالَ: فَأَما عبد الله فأرسلها مُرْسلَة، وَأما عمر فَقَالَ: بِبَعْض، فَقُمْت فَدخلت على عَائِشَة فحدثتها بِمَا قَالَ ابْن عمر، فَقَالَت: لَا وَالله مَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قطّ: إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أحد، وَلكنه قَالَ: إِن

(8/77)


الْكَافِر يزِيدهُ الله ببكاء أَهله عذَابا، وَإِن الله هُوَ أضْحك وأبكى، وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى) . قَالَ ابْن أبي مليكَة: حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: لما بلغ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَول عمر وَابْن عمر، قَالَت: إِنَّكُم لتحدثون عَن غير كاذبين وَلَا مكذبين، وَلَكِن السّمع يخطىء، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، قَالَ: ذكر عِنْد عَائِشَة قَول ابْن عمر: إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ، فَقَالَت: رحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن، سمع شَيْئا فَلم يحفظ، إِنَّمَا مرت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَنَازَة يَهُودِيّ وهم يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّكُم تَبْكُونَ وَإنَّهُ ليعذب) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: (ذكر عِنْد عَائِشَة أَن ابْن عمر يرفع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الْمَيِّت يعذب فِي قَبره ببكاء أَهله، فَقَالَت: وَهَل، إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه ليعذب بخطيئته أَو بِذَنبِهِ، وَإِن أَهله ليبكون الْآن) . وَذَلِكَ مثل قَوْله: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَامَ على القليب يَوْم بدر، وَفِيه قَتْلَى بدر من الْمُشْركين، فَقَالَ لَهُم مَا قَالَ: إِنَّهُم ليستمعون مَا أَقُول، وَقد وَهَلَ إِنَّمَا قَالَ: إِنَّهُم ليعلمون أَن مَا كنت أَقُول لَهُم حق، ثمَّ قَرَأت: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} (النَّمْل: 08) . {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} (فاطر: 22) . يَقُول: حِين تبوأوا مَقَاعِدهمْ من النَّار، وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا (عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن أَنَّهَا سَمِعت عَائِشَة، ذكر لَهَا أَن عبد الله بن عمر يَقُول: إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ، فَقَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، أما أَنه لم يكذب وَلكنه نسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على يَهُودِيَّة تبْكي عَلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّهُم ليبكون وَإِنَّهَا لتعذب فِي قبرها) .
فنتكلم أَولا فِي وُجُوه الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة وَالِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْبَاب ثمَّ نفسر بَقِيَّة أَلْفَاظ الحَدِيث، وَلم أر أحدا من شرَّاح هَذَا الْكتاب بيَّن تَحْقِيق مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب، بل أَكْثَرهم سَاق كَلَامه بِلَا تَرْتِيب وَلَا اتِّبَاع متن الحَدِيث، حَتَّى إِن النَّاظر فِيهِ لَا يقدر أَن يقف فِيهِ على كَلَام يشفي عليله، فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: الْكَلَام فِيهِ على أَقسَام:
الأول: قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: (أَن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ) وَالْآخر: أَن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ) ، واللفظان مرفوعان، فَهَل يُقَال: يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد وَيكون عَذَابه ببكاء أَهله عَلَيْهِ فَقَط؟ أَو يكون الحكم للرواية الْعَامَّة وَأَنه يعذب ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ، سَوَاء كَانَ من أَهله أم لَا؟ وَأجِيب: بِأَن الظَّاهِر جَرَيَان حكم الْعُمُوم، وَأَنه لَا يخْتَص ذَلِك بأَهْله، هَذَا كُله بِنَاء على قَول من ذهب إِلَى أَن الْمَيِّت يعذب بالبكاء عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جعلنَا الحكم أَعم من ذَلِك، وَلم نحمل الْمُطلق على الْمُقَيد لِأَنَّهُ لَا فرق فِي الحكم عِنْد الْقَائِلين بِعَذَاب الْمَيِّت بالبكاء أَن يكون الباكي عَلَيْهِ من أَهله أَو من غَيرهم، بِدَلِيل النائحة الَّتِي لَيست من أهل الْمَيِّت، وَمَا ورد فِي عُمُوم النائحة من الْعَذَاب، بل أَهله أعذر فِي الْبكاء عَلَيْهِ لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: (مَاتَ ميت فِي آل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاجْتمع النِّسَاء يبْكين عَلَيْهِ، فَقَامَ عمر ينهاهن ويطردهن، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دَعْهُنَّ يَا عمر، فَإِن الْعين دامعة وَالْقلب مصاب والعهد قريب) . وَهَذَا التَّعْلِيل الَّذِي رخص لأَجله فِي الْبكاء خَاص بِأَهْل الْمَيِّت وَقَوله: (ببكاء أَهله عَلَيْهِ) خرج مخرج الْغَالِب الشَّائِع، إِذْ الْمَعْرُوف أَنه إِنَّمَا يبكي على الْمَيِّت أَهله.
الثَّانِي: هَل لقَوْله: الْحَيّ، مَفْهُوم حَتَّى أَنه لَا يعذب ببكاء غير الْحَيّ؟ وَهل يتَصَوَّر الْبكاء من غير الْحَيّ وَيكون احْتِرَازًا بالحي عَن الجمادات، لقَوْله عز وَجل: {فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض} (الدُّخان: 92) . فمفهومه أَن السَّمَاء وَالْأَرْض يَقع مِنْهُمَا الْبكاء على غَيرهم، وعَلى هَذَا فَيكون هَذَا بكاء على الْمَيِّت وَلَا عَذَاب عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ إِجْمَاعًا. وَقد روى ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من رِوَايَة يزِيد الرقاشِي، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من مُؤمن إلاَّ وَله بَابَانِ فِي السَّمَاء: بَاب يخرج مِنْهُ رزقه، وَبَاب يدْخل فِيهِ كَلَامه وَعَمله، فَإِذا مَاتَ فقداه وبكيا عَلَيْهِ، وتلا هَذِه الْآيَة: {فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا كَانُوا منظرين} (الدُّخان: 92) . وَأما تصور الْبكاء من الْمَيِّت فقد ورد فِي حَدِيث: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن أحدكُم إِذا بَكَى استعبر لَهُ صويحبة، وَالْمرَاد بصويحبة الْمَيِّت، وَمعنى استعبر إِمَّا على بَابه للطلب بِمَعْنى طلب نزُول العبرات، وَإِمَّا بِمَعْنى نزلت العبرات) . وَبَاب الاستفعال يرد على غير بَابه أَيْضا.
الثَّالِث: جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عمر: (الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ) وَفِي بعض طرق حَدِيثه فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : (من نيح عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) ، فَالرِّوَايَة الأولى عَامَّة فِي الْبكاء، وَهَذِه الرِّوَايَة خَاصَّة فِي النِّيَاحَة، فههنا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد، فَتكون الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا مُطلق الْبكاء مَحْمُولَة على الْبكاء بِنوح، وَيُؤَيّد ذَلِك إِجْمَاع الْعلمَاء على حمل ذَلِك على الْبكاء بِنوح، وَلَيْسَ المُرَاد مُجَرّد دمع الْعين، وَمِمَّا يدل على أَنه لَيْسَ المُرَاد عُمُوم الْبكاء. قَوْله: (إِن الْمَيِّت ليعذب بِبَعْض بكاء أَهله عَلَيْهِ) ، فقيده بِبَعْض الْبكاء، فَحمل على مَا فِيهِ نياحة، جمعا بَين

(8/78)


الْأَحَادِيث، وَيدل على عدم إِرَادَة الْعُمُوم من الْبكاء بكاء عمر بن الْخطاب وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ بكاء ابْنه عبد الله بن عمر وهما رَاوِيا الحَدِيث، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: حَضَره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر يَعْنِي: سعد بن معَاذ فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِنِّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وَإِنِّي لفي حُجْرَتي، وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا من رِوَايَة عُثْمَان، قَالَ: أتيت بنعي النُّعْمَان بن مقرن فَوضع يَده على رَأسه وَجعل يبكي، وروى أَيْضا عَن ابْن علية عَن نَافِع، قَالَ: كَانَ ابْن عمر فِي السُّوق فنعى إِلَيْهِ حجر، فَأطلق حبوته وَقَامَ وَعَلِيهِ النحيب.
الرَّابِع: نِسْبَة عَائِشَة عمر وَابْنه عبد الْملك إِلَى الْوَهم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقد اخْتلف فِي محمل الْحَدِيثين، فَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون الْأَمر فِي هَذَا على مَا ذهبت إِلَيْهِ عَائِشَة، لِأَنَّهَا قد رَوَت أَن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ فِي شَأْن يَهُودِيّ، وَالْخَبَر الْمُفَسّر أولى من الْمُجْمل، ثمَّ احتجت بِالْآيَةِ. قَالَ: وَقد يحْتَمل أَن يكون مَا رَوَاهُ ابْن عمر صَحِيحا من غير أَن يكون فِيهِ خلاف لِلْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يوصون أَهْليهمْ بالبكاء وَالنوح عَلَيْهِم، وَكَانَ ذَلِك مَشْهُورا من مذاهبهم، وَهُوَ مَوْجُود فِي أشعارهم كَقَوْل طرفَة بن العَبْد:
(إِذا مت فانعيني بِمَا أَنا أَهله ... وشقي عَليّ الجيب يَا أم معبد)

وَمثل هَذَا كثير فِي أشعارهم، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالميت إِنَّمَا تلْزمهُ الْعقُوبَة فِي ذَلِك بِمَا تقدم فِي ذَلِك من أمره إيَّاهُم بذلك وَقت حَيَاته، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا) . وَقد مَال إِلَى قَول عَائِشَة الشَّافِعِي فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) عَنهُ، فَقَالَ: وَمَا رَوَت عَائِشَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أشبه أَن يكون مَحْفُوظًا عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِدلَالَة الْكتاب ثمَّ السّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 07) . وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} (النَّجْم: 93) . وَقَوله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} (الزلزلة: 7 و 8) . وَقَوله تَعَالَى: {لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى} (طه: 51) . وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجل: هَذَا إبنك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما إِنَّه لَا يجني عَلَيْك وَلَا تجني عَلَيْهِ، فَأعْلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا أعلم الله من أَن جِنَايَة كل امرىء عَلَيْهِ كَمَا عمله لَا لغيره. وَأما قَول من حمل ذَلِك على الْوَصِيَّة بذلك فقد نَقله الْبَيْهَقِيّ عَن الْمُزنِيّ، وَنَقله النَّوَوِيّ عَن الْجُمْهُور أَنهم تأولوا ذَلِك على من وصّى أَن يبكى عَلَيْهِ ويناح بعد مَوته، فنفذت وَصيته. ثمَّ حكى النَّوَوِيّ عَن طَائِفَة أَنه: مَحْمُول على من أوصى بالبكاء وَالنوح، أَو لم يوص بتركهما، قَالَ: وَحَاصِل هَذَا القَوْل إِيجَاب الْوَصِيَّة بتركهما، وَمن أهملهما عذب بتركهما، وَحكى عَن طَائِفَة أَن معنى الْأَحَادِيث أَنهم كَانُوا ينوحون على الْمَيِّت ويندبونه بأَشْيَاء هِيَ محَاسِن فِي زعمهم، وَهِي فِي الشَّرْع قبائح، كَقَوْلِهِم: يَا مرمل النسوان، وموتم الْولدَان، ومخرب الْعمرَان، ومفرق الأخدان. ويروى ذَلِك شجاعة وفخرا. وَحكى عَن طَائِفَة أَن مَعْنَاهُ أَنه يعذب بِسَمَاع بكاء أَهله ويرق لَهُم. قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذهب مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيره. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ أولى الْأَقْوَال، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث فِيهِ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر امْرَأَة عَن الْبكاء على ابْنهَا، وَقَالَ: إِن أحدكُم إِذا بَكَى استعبر لَهُ صويحبه، فيا عباد الله لَا تعذبوا إخْوَانكُمْ) . وَحكى الْخطابِيّ عَن بعض أهل الْعلم: ذهب إِلَى أَنه مَخْصُوص بِبَعْض الْأَمْوَات الَّذين وَجب عَلَيْهِم الْعَذَاب بذنوب اقترفوها، وَجرى من قَضَاء الله سُبْحَانَهُ فيهم أَن يكون عَذَابه وَقت الْبكاء عَلَيْهِم، وَيكون كَقَوْلِهِم: مُطِرْنَا بنوءِ كَذَا، أَي: عِنْد نوء كَذَا. قَالَ: كَذَلِك قَوْله: (إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله) أَي: عِنْد بكائهم عَلَيْهِ لاستحقاقه ذَلِك بِذَنبِهِ، وَيكون ذَلِك حَالا لَا سَببا، لأَنا لَو جَعَلْنَاهُ سَببا كَانَ مُخَالفا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 7) . وَحكى النَّوَوِيّ هَذَا الْمَعْنى عَن عَائِشَة، قيل: وَيدل لذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم عَن عُرْوَة، قَالَ: ذكر عِنْد عَائِشَة أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يرفع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت ليعذب فِي قَبره ببكاء أَهله، فَقَالَت: وَهَلَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه ليعذب بخطيئته أَو بِذَنبِهِ، وَإِن أَهله ليبكون عَلَيْهِ الْآن) . وروى ان ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن ابْن نمير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة بعد قَوْلهَا: وَهَلَ أَبُو عبد الرَّحْمَن إِنَّمَا قَالَ: إِن أهل الْمَيِّت ليبكون عَلَيْهِ وَإنَّهُ ليعذب بجرمه.
وَالْحَاصِل أَن الْعلمَاء ذكرُوا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله) ثَمَانِيَة أَقْوَال، أَصَحهَا وَهُوَ تَأْوِيل الْجُمْهُور على أَنه مَحْمُول على من أوصى بِهِ، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِذا كَانَ النوح من سنته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز التعذيب فِي الدُّنْيَا

(8/79)


بِفعل الْغَيْر لقَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} (الْأَنْفَال: 52) . وَكَذَا فِي البرزخ، وَأما آيَة الوازرة فَإِنَّمَا هِيَ يَوْم الْقِيَامَة فَقَط، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أحسن الْوُجُوه الثَّمَانِية فِي تَوْجِيهه، إِذْ فِي الْبَوَاقِي تكلّف: إِمَّا فِي لفظ الْمَيِّت بِأَن يخصص بِمن كَانَت النِّيَاحَة من سنَنه، أَو بالموصي، أَو بالراضي بهَا، وَإِمَّا فِي: يعذب، بِأَن يُفَسر: بيحزن، وَأما فِي الْبَاء: بِأَن تجْعَل للظرفية الَّتِي هِيَ خلاف الْمُتَبَادر إِلَى الذَّهَب، وَإِمَّا فِي الْبكاء بِأَن يَجْعَل مجَازًا عَن الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة فِيهَا.
قَوْله: (وَإِنِّي لجالس بَينهمَا أَو قَالَ: جَلَست إِلَى أَحدهمَا) ، هَذَا شكّ من ابْن جريج. قَوْله: (ثمَّ حدث) أَي ابْن عَبَّاس. قَوْله: (بِالْبَيْدَاءِ) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي: الْمَفَازَة، وَلَكِن المُرَاد بهَا هَهُنَا مفازة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (إِذا هُوَ بركب) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، والركب: أَصْحَاب الْإِبِل فِي السّفر، وَهُوَ للعشرة فَمَا فَوْقهَا. قَوْله: (سَمُرَة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم: وَهِي شَجَرَة عَظِيمَة من شجر الْعضَاة. قَوْله: (فَإِذا صُهَيْب) ، بِضَم الصَّاد: ابْن سِنَان، بالنونين: كَانَ من النمر، بِفَتْح النُّون: ابْن قاسط، بِالْقَافِ: كَانُوا بِأَرْض الْموصل فأغارت الرّوم على تِلْكَ النَّاحِيَة فسبيته وَهُوَ غُلَام صَغِير، فَنَشَأَ بالروم فَاشْتَرَاهُ عبد الله بن جدعَان، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة: التَّمِيمِي فَأعْتقهُ، ثمَّ أسلم بِمَكَّة وَهُوَ من السَّابِقين الْأَوَّلين الْمُعَذَّبين فِي الله تَعَالَى، وَهَاجَر إِلَى الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ. قَوْله: (فَالْحق) بِلَفْظ الْأَمر من اللحوق. قَوْله: (فَلَمَّا أُصِيب عمر) يَعْنِي بالجراحة الَّتِي جرح بهَا وَالَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب: أَن ذَلِك كَانَ عقيب الْحجَّة الْمَذْكُورَة، وَلَفظه: (فَلَمَّا قدمنَا لم يلبث عمر أَن أُصِيب) ، وَفِي رِوَايَة عمر بن دِينَار: (لم يلبث أَن طعن) . قَوْله: (يبكي) ، جملَة وَقعت حَالا من صُهَيْب، وَكَذَلِكَ يَقُول: حَال، وَيجوز أَن يكون من الْأَحْوَال المترادفة، وَأَن يكون من المتداخلة. قَوْله: (واأخاه) كلمة: وَا، من: واخاه، للندبة وَالْألف فِي آخِره لَيْسَ مِمَّا يلْحق الْأَسْمَاء السِّتَّة لبَيَان الْإِعْرَاب، بل هُوَ مِمَّا يُزَاد فِي آخر الْمَنْدُوب لتطويل مد الصَّوْت، وَالْهَاء لَيست بضمير بل هُوَ هَاء السكت، وَشرط الْمَنْدُوب أَن يكون مَعْرُوفا، فَلَا بُد من القَوْل بِأَن الْأُخوة والصاحبية لَهُ كَانَا معلومين معروفين حَتَّى يَصح وقوعهما للندبة. قَوْله: (أَتَبْكِي عَليّ؟) الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس: فَلَمَّا مَاتَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، هَذَا صَرِيح فِي أَن حَدِيث عَائِشَة من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَنْهَا، وَرِوَايَة مُسلم توهم أَنه من رِوَايَة ابْن أبي مليكَة عَنْهَا. قَوْله: (يرحم الله عمر) ، من الْآدَاب الْحَسَنَة على منوال قَوْله تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} (التَّوْبَة: 34) . فاستغربت من عمر ذَلِك القَوْل، فَجعلت قَوْلهَا: يرحم الله عمر تمهيدا ودفعا لما يوحش من نسبته إِلَى الْخَطَأ. قَوْله: (وَالله مَا حدث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَجه جزم عَائِشَة بذلك أَنَّهَا لَعَلَّهَا سَمِعت صَرِيحًا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتِصَاص الْعَذَاب بالكافر، أَو فهمت الِاخْتِصَاص بالقرائن. قَوْله: (وَلَكِن رَسُول الله) ، يجوز فِيهِ تسكين النُّون وتشديدها. قَوْله: (حسبكم) أَي: كافيكم من الْقُرْآن أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ هَذِه الْآيَة {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 7) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْآيَة عَامَّة لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر، ثمَّ إِن زِيَادَة الْعَذَاب عَذَاب، فَكَمَا أَن أصل الْعَذَاب لَا يكون بِفعل غَيره فَكَذَا زيادتها، فَلَا يتم استدلالها بِالْآيَةِ. فَإِن قلت: الْعَادة فارقة بَين الْكَافِر وَالْمُؤمن، فَإِنَّهُم كَانُوا يوصون بالنياحة بِخِلَاف الْمُؤمنِينَ، فَلفظ الْمَيِّت وَإِن كَانَ مُطلقًا مُقَيّد بالموصي وَهُوَ الْكَافِر عرفا وَعَادَة. قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس عِنْد ذَلِك) أَي: عِنْد انْتِهَاء حَدِيثه عَن عَائِشَة قَالَ: (وَالله أضْحك وأبكى) أَي: إِن الْعبْرَة لَا يملكهَا ابْن آدم وَلَا تسبب لَهُ فِيهَا، فضلا عَن الْمَيِّت، فَكيف يُعَاقب عَلَيْهَا؟ وَقَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ إِن أذن الله فِي الْجَمِيل من الْبكاء فَلَا يعذب على مَا أذن فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ غَرَضه من هَذَا الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام أَن الْكل يخلق الله وإرادته فَالْأولى فِيهِ أَن يُقَال بِظَاهِر الحَدِيث، وَأَن لَهُ أَن يعذبه بِلَا ذَنْب وَيكون الْبكاء عَلَيْهِ عَلامَة لذَلِك، أَو يعذبه بذنب غَيره، سِيمَا وَهُوَ السَّبَب فِي وُقُوع الْغَيْر فِيهِ، وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل، وتخصص آيَة الوازرة بِيَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: غَرَضه تَقْرِير قَول عَائِشَة: أَي: إِن بكاء الْإِنْسَان وضحكه من الله يظهره فِيهِ، فَلَا أثر لَهُ فِي ذَلِك، فَعِنْدَ ذَلِك سكت ابْن عمر وأذعن قيل: سُكُوته لَا يدل على الإذعان، فَلَعَلَّهُ كره المجادلة فِي ذَلِك الْمقَام. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيْسَ سُكُوته لشك طَرَأَ لَهُ بَعْدَمَا صرح بِرَفْع الحَدِيث، وَلَكِن احْتمل عِنْده أَن يكون الحَدِيث قَابلا للتأويل وَلم يتَعَيَّن لَهُ محمل يحملهُ عَلَيْهِ إِذْ ذَاك، أَو كَانَ الْمجْلس لَا يقبل المماراة، وَلم تتَعَيَّن الْحَاجة إِلَى ذَلِك حِينَئِذٍ. قَوْله: (مَا قَالَ ابْن عمر شَيْئا) أَي: بعد ذَلِك، يَعْنِي مَا ردَّ كَلَامه. وَقَالَ الْخطابِيّ: الرِّوَايَة إِذا ثبتَتْ لم يكن إِلَى دَفعهَا سَبِيل بِالظَّنِّ، وَقد رَوَاهُ عمر وَابْنه، وَلَيْسَ فِيمَا حكت عَائِشَة

(8/80)


من الْمُرُور على يَهُودِيَّة مَا يرفع روايتهما، لجَوَاز أَن يكون الخبران صَحِيحَيْنِ مَعًا، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا. وَأما احتجاجها بِالْآيَةِ فَإِنَّهُم كَانُوا يوصون أَهْليهمْ بالنياحة، وَكَانَ ذَلِك مَشْهُورا مِنْهُم، فالميت إِنَّمَا يلْزمه الْعقُوبَة بِمَا تقدم من وَصيته إِلَيْهِم بِهِ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أنْكرت عَائِشَة روايتهما ونسبتهما إِلَى النسْيَان والاشتباه، وأولت الحَدِيث بِأَن مَعْنَاهُ يعذب فِي حَال بكاء أَهله لَا بِسَبَبِهِ، كَحَدِيث الْيَهُودِيَّة.

0921 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ خَلِيلٍ قَالَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ مُسْهَرٍ قَالَ حدَّثنا أبُو إسْحَاقَ وَهْوَ الشَّيْبَانِيُّ عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يقُولُ وَاأخاهْ فَقَالَ عُمَرُ أمَا عَلِمْتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحيِّ.
(أنظر الحَدِيث 7821 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ التّبعِيَّة للْحَدِيث السَّابِق فَإِن فِيهِ: خَاطب عمر صهيبا بقوله: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت ليعذب بِبَعْض بكاء أَهله عَلَيْهِ) ، وَهنا خاطبه بقوله: (أما علمت؟) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن خَلِيل أَبُو عبد الله الخراز، قَالَ البُخَارِيّ: جَاءَنَا نعيه سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر أَبُو الْحسن الْقرشِي. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ، وَاسم أبي سُلَيْمَان: فَيْرُوز. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: اسْمه الْحَارِث، وَيُقَال: عَامر. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بِالْكِنَايَةِ مُفَسّر بِالنِّسْبَةِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن عَليّ بن حجر عَن عَليّ بن مسْهر وَعَن عَليّ ابْن حجر عَن شُعَيْب بن صَفْوَان عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن أبي بردة بِهِ.
قَوْله: (أما علمت؟) صَرِيح فِي أَن الحكم لَيْسَ خَاصّا بالكافر. قَوْله: (ببكاء الْحَيّ) المُرَاد من الْحَيّ من يُقَابل الْمَيِّت، قيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة، وَتَكون اللَّام فِيهِ بدل الضَّمِير، وَالتَّقْدِير: يعذب ببكاء حيه أَي: قبيلته، فيوافق الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (ببكاء أَهله) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم (عَن أبي مُوسَى، قَالَ: لما أُصِيب عمر أقبل صُهَيْب من منزله حَتَّى دخل على عمر، فَقَامَ بحياله يبكي، فَقَالَ لَهُ عمر: على م تبْكي؟ أعلي تبْكي؟ قَالَ: إِنِّي وَالله لعليك أبْكِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: وَالله لقد علمت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من يبكي عَلَيْهِ يعذب، قَالَ: ذكرت ذَلِك لمُوسَى بن طَلْحَة، فَقَالَ: كَانَت عَائِشَة تَقول: إِنَّمَا كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُود) . انْتهى.
وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن صهيبا أحد من سمع هَذَا الحَدِيث من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَأَنَّهُ نَسيَه حَتَّى ذكره بِهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: إِنَّمَا أنكر عمر على صُهَيْب بكاءه لرفع صَوته بقوله: واأخاه، ففهم مِنْهُ أَن إِظْهَاره لذَلِك قبل موت عمر يشْعر باستصحابه ذَلِك بعد وَفَاته أَو زِيَادَته عَلَيْهِ، فَابْتَدَرَهُ بالإنكار لذَلِك، وَقَالَ ابْن بطال: إِن قيل: كَيفَ نهى صهيبا عَن الْبكاء وَأقر نسَاء بني الْمُغيرَة على الْبكاء على خَالِد؟ كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب. فَالْجَوَاب: أَنه خشِي أَن يكون رَفعه لصوته من بَاب مَا نهى عَنهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي قصَّة خَالِد: مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة. قلت: قَوْله: (يعذب ببكاء الْحَيّ) ، لم يرد دمع الْعين لجوازه على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث، وَإِنَّمَا المُرَاد الْبكاء الَّذِي يتبعهُ النّدب وَالنوح، فَإِن ذَلِك إِذا اجْتمع سمي بكاء، لِأَن النّدب على الْمَيِّت كالبكاء عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيل: من قصر الْبكاء ذهب بِهِ إِلَى معنى الْحزن، وَمن مده ذهب بِهِ إِلَى معنى الصَّوْت. قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا مددت أردْت الصَّوْت الَّذِي يكون مَعَ الْبكاء، وَإِذا قصرت أردْت الدُّمُوع. قَالَ أَبُو مَنْصُور الجواليقي: يُقَال للبكاء إِذا تبعه الصَّوْت وَالنَّدْب، بكاء، وَلَا يُقَال للنَّدْب إِذا خلا عَن بكاء: بكاء، فَيكون المُرَاد فِي الحَدِيث الْبكاء الَّذِي يتبعهُ الصَّوْت، لَا مُجَرّد الدمع. وَالله أعلم.

9821 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّهَا سَمِعَتْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(8/81)


قالَتْ إنَّمَا مَرَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْها أهْلُهَا فَقَالَ إنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا.
(أنظر الحَدِيث 8821 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُطَابق للْحَدِيث السَّابِق الَّذِي فِيهِ إِنْكَار عَائِشَة على مَا قَالَ عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حِين سَأَلَهَا ابْن عَبَّاس عَن ذَلِك، وَهَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي الْوَاقِع نفي لما قَالَه عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، (إِن الله ليعذب الْمُؤمن ببكاء أَهله عَلَيْهِ) ، فالتقدير: مَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك وَإِنَّمَا مر على يَهُودِيَّة ... إِلَى آخِره. وَالدَّلِيل على مَا ذكرنَا أَن هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا مِمَّا رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) بِلَفْظ: (ذكر لَهَا يَعْنِي: لعَائِشَة أَن عبد الله بن عمر يَقُول: إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ، فَقَالَت عَائِشَة: يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، أما أَنه لم يكذب، وَلكنه نُسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على يَهُودِيَّة. .) الحَدِيث. وَعبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، مر غير مرّة، وَعمرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة كَذَلِك. .
والْحَدِيث أخرجه مُسلم كَذَلِك عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو عوَانَة من رِوَايَة سُفْيَان (عَن عبد الله بن أبي بكر كَذَلِك، وَزَاد: أَن ابْن عمر، لما مَاتَ رَافع، قَالَ لَهُم: لَا تبكوا عَلَيْهِ فَإِن بكاء الْحَيّ على الْمَيِّت عَذَاب على الْمَيِّت، قَالَت عمْرَة: فَسَأَلت عَائِشَة عَن ذَلِك؟ فَقَالَت: يرحمه الله إِنَّمَا مر) فَذكر الحَدِيث، وَرَافِع هُوَ ابْن خديج بن رَافع بن عدي الأوسي الْحَارِثِيّ أَبُو عبد الله، وَقيل: أَبُو صَالح، استصغر يَوْم بدر وَشهد أحدا وأصابه يَوْمئِذٍ سهم.

33 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى المَيِّتِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من النِّيَاحَة: أَي: كَرَاهَة التَّحْرِيم، وَكلمَة: مَا يجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَأَن تكون مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير على الأول: بَاب فِي بَيَان الَّذِي يكره، وعَلى الثَّانِي: بَاب فِي بَيَان الْكَرَاهَة من النِّيَاحَة، وعَلى الْوَجْهَيْنِ كلمة: من، بَيَانِيَّة. قيل: يحْتَمل أَن تكون تبعيضية، وَالتَّقْدِير: كَرَاهَة بعض النِّيَاحَة، وَكَأن قَائِل هَذَا لمح مَا نَقله ابْن قدامَة عَن أَحْمد فِي رِوَايَته: إِن بعض النِّيَاحَة لَا يحرم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينْه عمَّة جَابر لما ناحت، فَدلَّ على أَن النِّيَاحَة إِنَّمَا تحرم إِذا انضاف إِلَيْهَا فعل من ضرب خد أَو شقّ جيب، ورد بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا نهى عَن النِّيَاحَة بعد هَذِه الْقِصَّة، لِأَنَّهَا كَانَت بِأحد. وَقد قَالَ فِي أحد: لَكِن حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَا بواكي لَهُ، ثمَّ نهى عَن ذَلِك، وتوعد عَلَيْهِ، وبيَّن ذَلِك ابْن مَاجَه: حَدثنَا هَارُون ابْن سعيد الْمصْرِيّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن وهب، قَالَ: أخبرنَا أُسَامَة بن زيد عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بنساء عبد الْأَشْهَل يبْكين هلكاهن يَوْم أحد، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَكِن حَمْزَة لَا بواكي لَهُ، فَجَاءَت نسَاء الْأَنْصَار يبْكين حَمْزَة، فَاسْتَيْقَظَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ويحهن مَا انقلبن بعد، مروهن فلينقلبن وَلَا يبْكين على هَالك بعد الْيَوْم) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا وَالْحَاكِم وَصَححهُ.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنَّ نَقْعٌ أوْ لَقْلَقَةٌ

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ عَن عبد الله بن يُوسُف الْأَصْفَهَانِي: أخبرنَا أَبُو سعيد بن الْأَعرَابِي حَدثنَا سَعْدَان بن نصر حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق، قَالَ: لما مَاتَ خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اجْتمع نسْوَة بني الْمُغيرَة يبْكين عَلَيْهِ، فَقيل لعمر: أرسل إلَيْهِنَّ فإنههن، فَقَالَ عمر: مَا عَلَيْهِنَّ أَن يُهْرِقَن دُمُوعهنَّ على أبي سُلَيْمَان، مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة، وَأَبُو سُلَيْمَان كنية خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَالَ بَعضهم: اتنبيه: كَانَت وَفَاة خَالِد بن الْوَلِيد بِالشَّام سنة إِحْدَى وَعشْرين. قلت: لم يُنَبه أحدا، فَإِن الشَّام اسْم لهَذِهِ الأقاليم الْمَشْهُورَة وحدَّها من الغرب بَحر الرّوم من طرسوس إِلَى رفح الَّتِي فِي أول الجفار بَين مصر وَالشَّام، وَمن الْجنُوب من رفح إِلَى حُدُود تيه بني إِسْرَائِيل إِلَى مَا بَين الشوبك وأيلة إِلَى البلقاء، وَمن الشرق إِلَى مَشَارِق صرخد إِلَى مشارف حلب إِلَى بالس، وَمن الشمَال من بالس مَعَ الْفُرَات إِلَى قلعة نجم إِلَى البئيرة إِلَى قلعة الرّوم إِلَى سمياط إِلَى حصن الرّوم إِلَى بهنسا إِلَى مرعش إِلَى طرسوس إِلَى بَحر الرّوم من حَيْثُ ابتدأنا، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَيفَ يُنَبه النَّاظر؟ وَكَيف يعلم وَفَاة خَالِد فِي أَي صقع من بِلَاد الشَّام كَانَت؟ فَنَقُول: قد اخْتلف أهل السّير وَالْأَخْبَار

(8/82)


فِي مَكَان وَفَاته، قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ خَالِد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي بعض قرى حمص على ميل من حمص فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين، قَالَ صَاحب (الْمرْآة) : هَذَا قَول عَامَّة المؤرخين، وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التلقيح) : قَالَ: لما عزل عمر خَالِدا لم يزل مرابطا بحمص حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ إِسْحَاق بن بشر: قَالَ مُحَمَّد: مَاتَ خَالِد بن الْوَلِيد بِالْمَدِينَةِ، فَخرج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي جنَازَته وَإِذا أمه تندب وَتقول أبياتا أَولهَا هُوَ قَوْلهَا:
(أَنْت خير من ألف ألف من الْقَوْم ... إِذا مَا كنت وُجُوه الرِّجَال)

فَقَالَ عمر: صدثت إِن كَانَ كَذَلِك، وَجَمَاعَة عَن أَنه مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ سيف بن عمر عَن مُبشر عَن سَالم قَالَ: حج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واشتكى خَالِد بعده وَهُوَ خَارج الْمَدِينَة زَائِرًا لأمه، فَقَالَ لَهَا: قدموني إِلَى مُهَاجِرِي، فَقدمت بِهِ الْمَدِينَة ومرضته، فَلَمَّا ثقل وأظل قدوم عمر لقِيه لاقٍ على مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَقد صدر عمر عَن الْحَج، فَقَالَ لَهُ عمر: مَهيم؟ فَقَالَ: خَالِد بن الْوَلِيد ثقل لما بِهِ، فطوى ثَلَاثًا فِي لَيْلَة فأدركه حِين قضى، فرقَّ عَلَيْهِ فَاسْتَرْجع وَجلسَ بِبَابِهِ حَتَّى جهز وبكته البواكي، فَقيل لعمر: أَلا تسمع لهَذِهِ؟ فَقَالَ: وَمَا على نسَاء آل الْوَلِيد أَن يسفحن على خَالِد من دُمُوعهنَّ مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة؟ وَقَالَ الْمُوفق فِي الْأَنْسَاب: عَن مُحَمَّد بن سَلام، قَالَ: لم تبْق امْرَأَة من نسَاء بني الْمُغيرَة إلاَّ وضعت لمتها على قبر خَالِد، أَي: حلقن رَأسهَا وشققن الْجُيُوب ولطمن الخدود وأطعمن الطَّعَام، مَا نهاهن عمر. قَالُوا: فَهَذَا كُله يَقْتَضِي مَوته بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَيْهِ ذهب دُحَيْم أَيْضا. وَقَالَت عَامَّة الْعلمَاء، مِنْهُم: الْوَاقِدِيّ وَأَبُو عبيد وإبرهيم بن الْمُنْذر وَمُحَمّد بن عبد الله وَأَبُو عمر والعصفري ومُوسَى بن أَيُّوب وَأَبُو سُلَيْمَان بن أبي مُحَمَّد، وَآخَرُونَ: إِنَّه مَاتَ بحمص سنة إِحْدَى وَعشْرين، وَزَاد الْوَاقِدِيّ: وَأوصى إِلَى عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلى الرَّأسِ، واللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ

فسر البُخَارِيّ النَّقْع: بِالتُّرَابِ، وَهُوَ بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْقَاف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، وَفسّر اللَّقْلَقَة، باللامين والقافين: بالصوت. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: النَّقْع هَهُنَا الصَّوْت العالي، وَاللَّقْلَقَة حِكَايَة صَوت ترديد النواحة. وَقَالَ ابْن قرقول: النَّقْع الصَّوْت بالبكاء. قَالَ: وَبِهَذَا فسره البُخَارِيّ، فَهَذَا كَمَا رَأَيْت مَا فسر البُخَارِيّ النَّقْع إلاَّ بِالتُّرَابِ. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي رَأَيْت فِي سَائِر نسخ البُخَارِيّ، الَّذِي رَأَيْته، يَعْنِي: فسر النَّقْع بِالتُّرَابِ، وروى سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: النَّقْع الشق أَي: شقّ الْجُيُوب. وَكَذَا قَالَ وَكِيع فِيمَا رَوَاهُ ابْن سعد عَنهُ. وَقَالَ الْكسَائي: هُوَ صَنْعَة الطَّعَام فِي المأتم، وَقَالَ أَبُو عبيد النقيعة: طَعَام الْقدوم من السّفر، وَفِي (الْمُجْمل) : النَّقْع الصُّرَاخ. وَيُقَال: هُوَ النقيع. وَفِي (الصِّحَاح) : النقيع الصُّرَاخ، ونقع الصَّوْت واستنقع أَي: ارْتَفع. وَفِي (الموعب) : نقع الصَّارِخ بِصَوْتِهِ وانقع إِذا تَابعه. وَفِي (الْجَامِع) و (الجمهرة) : الصَّوْت واختلاطه فِي حَرْب أَو غَيرهَا. وَقَالَ الْقَزاز: اللَّقْلَقَة تتَابع ذَلِك، كَمَا تفعل النِّسَاء فِي المأتم وَهُوَ شدَّة الصَّوْت. وَقَالَ ابْن سَيّده عَن ابْن الْأَعرَابِي: تقطيع الصَّوْت، وَقيل: الجلبة.

1921 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ رَبِيعَةَ عنِ المُغِيرَةِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ كَذِبا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: سعيد ابْن عبيد الطَّائِي أَبُو الْهُذيْل. الثَّالِث: عَليّ بن ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء: الْوَالِبِي، بِكَسْر اللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة، يكنى أَبَا الْمُغيرَة. الرَّابِع: الْمُغيرَة بن شُعْبَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: أَن عَليّ بن ربيعَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: أَنه من الرباعيات. وَفِيه: سعيد عَن عَليّ، قَالَ بَعضهم: وَصرح فِي رِوَايَة مُسلم بِسَمَاع سعيد عَن عَليّ وَلَفظه: حَدثنَا. قلت: لم نر فِي مُسلم ذَلِك إلاَّ فِي مقدمته، وَفِي غَيرهَا إِنَّمَا هُوَ بالعنعنة كَمَا هُوَ هَهُنَا.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي

(8/83)


الْجَنَائِز أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن ابْن أبي عمر، وَفِي مُقَدّمَة كِتَابه: عَن مُحَمَّد بن عبد الله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن أَحْمد بن منيع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن كذبا) ، بِفَتْح الْكَاف وَكسر الذَّال، وبكسر الْكَاف وَسُكُون الذَّال، وَكِلَاهُمَا مصدر: كذب يكذب فَهُوَ كَاذِب وَكَذَّاب وكذوب وكيذوبان ومكذبان ومكذبان ومكذبانة وكذبة، مثل: همزَة، وكذبذب مخفف، وَقد يشدد. وَالْكذب خلاف الصدْق، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب من كذب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (على أحد) أَي: غَيْرِي، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْكَذِب على غَيره أَيْضا مَعْصِيّة: {وَمن يعَض الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا} (النِّسَاء: 41) . قلت الْكَذِب عَلَيْهِ كَبِيرَة لِأَنَّهَا على الصَّحِيح مَا توعد الشَّارِع عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، وَهَذَا كَذَلِك، بِخِلَاف الْكَذِب على غَيره فَإِنَّهُ صَغِيرَة، مَعَ أَن الْفرق ظَاهر بَين دُخُول النَّار فِي الْجُمْلَة وَبَين جعل النَّار مسكنا ومثوىً، سِيمَا وَبَاب التفعيل يدل على الْمُبَالغَة، وَلَفظ الْأَمر على الْإِيجَاب، أَو المُرَاد بالمعصية فِي الْآيَة: الْكَبِيرَة أَو الْكفْر بِقَرِينَة الخلود. قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ) أَي: فليتخذ لَهُ مسكنا فِي النَّار. قَوْله: (من ينح عَلَيْهِ) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة: من النوح، وَأَصله يناح سَقَطت الْألف عَلامَة الْجَزْم لِأَن: من، شَرْطِيَّة. وَقَوله: (يعذب) على صِيغَة الْمَجْهُول بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَاب الشَّرْط، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على تَقْدِير: فَهُوَ يعذب، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين. ويروى: (من نيح عَلَيْهِ) بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْيَاء وَفتح الْحَاء: على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من يناح) ، ووجهها أَن تكون: من، مَوْصُولَة. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن عَليّ ابْن عبد الْعَزِيز عَن أبي نعيم بِلَفْظ: (إِذا نيح على الْمَيِّت عذب بالنياحة عَلَيْهِ) . قَوْله: (بِمَا نيح عَلَيْهِ) الْبَاء للسَّبَبِيَّة، و: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: بِسَبَب النوح عَلَيْهِ، وَهُوَ بِكَسْر النُّون عِنْد الْجَمِيع، ويروى: (مَا نيح) ، بِغَيْر الْبَاء. قَالَ بَعضهم: على أَن: مَا، ظرفية. قلت: فِي هَذِه الرِّوَايَة تكون: مَا، للمدة أَي: يعذب مُدَّة النوح عَلَيْهِ، وَلَا يُقَال: مَا، ظرفية، وَيجوز أَن يكون (بِمَا نيح) حَالا، وَمَا، مَوْصُولَة أَي: يعذب ملتبسا بِمَا ندب عَلَيْهِ من الْأَلْفَاظ: يَا جبلاه، يَا كهفاه، وَنَحْوهمَا على سَبِيل التهكم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن النوح حرَام بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ جاهلي، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يشْتَرط على النِّسَاء فِي مبايعتهن على الْإِسْلَام أَن لَا يَنحن، وَالْبَاب دَال على أَن النَّهْي عَن الْبكاء على الْمَيِّت إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَ فِيهِ نوح، وَأَنه جَائِز بِدُونِهِ، فقد أَبَاحَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَهُنَّ الْبكاء بِدُونِهِ، وَشرط الشَّارِع فِي حَدِيث الْمُغيرَة أَنه: (يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ) يدل على أَن الْبكاء بِدُونِهِ لَا عَذَاب فِيهِ.
ذكر الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذ الْبَاب: وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِي الْبَاب عَن خَمْسَة عشر صحابيا فِي لعن فَاعله، والوعيد والتبري، ابْن مَسْعُود، وَأَبُو مُوسَى، وَمَعْقِل بن مقرن، وَأَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس، وَمُعَاوِيَة، وَأَبُو سعيد، وَأَبُو أُمَامَة وَعلي، وَجَابِر، وَقيس بن عَاصِم، وجنادة بن مَالك، وَأم عَطِيَّة، وَأم سَلمَة. وَذكرهمْ بالعد دون بَيَان من استخرج أَحَادِيثهم، فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: أما حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي، وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث أبي مُوسَى عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا على مَا يَأْتِي. وَحَدِيث معقل بن مقرون عِنْد الْكَجِّي فِي (السّنَن الْكَبِير) بِسَنَد صَحِيح عَن عبد الله بن معقل بن مقرن: (لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المرنة والشاقة جيبها واللاطمة وَجههَا) . وَحَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ عِنْد مُسلم من رِوَايَة أبي سَلام: أَن أَبَا مَالك الْأَشْعَرِيّ حَدثهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَربع فِي أمتِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة لَا يتركونهن: الْفَخر فِي الأحساب، والطعن فِي الْأَنْسَاب، وَالِاسْتِسْقَاء بالأنواء، والنياحة. وَقَالَ: النائحة إِذا لم تتب قبل مَوتهَا تُقَام يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال من قطران وَدرع من جرب) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَلَفظه: (النِّيَاحَة من أَمر الْجَاهِلِيَّة، وَأَن النائحة إِذا لم تتب قطع الله لَهَا ثيابًا من قطران وَدِرْعًا من لَهب النَّار) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَربع فِي أمتِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة لَيْسَ يدعهن النَّاس: النِّيَاحَة. .) الحَدِيث، وَتفرد بِهِ التِّرْمِذِيّ. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) بِإِسْنَادِهِ عَنهُ. {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف} (الممتحنة: 21) . قَالَ (مَنعهنَّ أَن يَنحن، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يُمَزِّقْنَ الثِّيَاب، وَيَخْدِشْنَ الْوُجُوه، وَيَقْطَعْنَ الشُّعُور، وَيدعونَ بالثبور وَالثُّبُور الويل. وَحَدِيث مُعَاوِيَة أخرجه ابْن مَاجَه: خطب مُعَاوِيَة بحمص، فَذكر فِي خطبَته أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نهى عَن النوح) .

(8/84)


وَحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه أَبُو دَاوُد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لعن الله النائحة والمستمعة) . وَحَدِيث أبي أُمَامَة أخرجه ابْن مَاجَه: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعن الخامشة وَجههَا والشاقة جيبها والداعية بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور) . وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه (نهى عَن النوح) . وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِنَّمَا نهيت عَن النوح) . وَحَدِيث قيس بن عَاصِم أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: (لَا تنوحوا عَليّ فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينح عَلَيْهِ) . وَحَدِيث جُنَادَة بن مَالك أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاث من فعل الْجَاهِلِيَّة لَا يدعهن أهل الْإِسْلَام: استسقاء بالكواكب، وَطعن فِي النّسَب، والنياحة على الْمَيِّت) . وَحَدِيث أم عَطِيَّة عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث أم سَلمَة أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف} (الممتحنة: 21) . قَالَ: النوح.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن امْرَأَة من المبايعات، وَعَن عمر، وَعَن أنس، وَعَن عَمْرو بن عَوْف، وَابْن عمر، وَعمْرَان ابْن حُصَيْن، وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وسلمان، وَسمرَة وَامْرَأَة أبي مُوسَى. فَحَدِيث امْرَأَة من المبايعات أخرجه أَبُو دَاوُد عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ فِيمَا أَخذ علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَعْرُوف الَّذِي أَخذ علينا أَن لَا نعصيه فِيهِ: أَن لَا نخمش وَجها وَلَا نَدْعُو ويلاً وَلَا نشق جيبا وَأَن لَا ننشر شعرًا) . وَحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث أنس أخرجه النَّسَائِيّ: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَخذ على النِّسَاء حِين بايعهن أَن لَا يَنحن) الحَدِيث. وَحَدِيث عَمْرو بن عَوْف أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) : عَن كثير بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاث من أَعمال الْجَاهِلِيَّة لَا يتركهن النَّاس: الطعْن فِي الْأَنْسَاب، والنياحة، وَقَوْلهمْ: مُطِرْنَا بِنَجْم كَذَا وَكَذَا) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الْبَيْهَقِيّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن النائحة والمستمعة والحالقة والواشمة والمتوشمة، وَقَالَ: لَيْسَ للنِّسَاء فِي اتِّبَاع الْجَنَائِز أجر) . وَحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: (الْمَيِّت يعذب بنياحة أَهله عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رجل: أَرَأَيْت رجلا مَاتَ بخراسان وناح أَهله عَلَيْهِ هَهُنَا أَكَانَ يعذب بنياحة أَهله عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكذبت أَنْت وَحَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَنهُ قَالَ أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي، فَقَالَ: يَا عَبَّاس، ثَلَاث لَا يدعهن قَوْمك: الطعْن فِي النّسَب، والنياحة، والاستمطار بالأنواء) . وَحَدِيث سلمَان أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَنهُ عَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ثَلَاثَة من الْجَاهِلِيَّة: الْفَخر فِي الأحساب، والطعن فِي الْأَنْسَاب والنياحة) . وَحَدِيث سَمُرَة أخرجه الْبَزَّار عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمَيِّت يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ) . وَحَدِيث امْرَأَة أبي مُوسَى عِنْد أبي دَاوُد، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ منا من حلق وَمن سلق وَمن خرق) . قلت: امْرَأَة أبي مُوسَى أم عبد الله، بنت أبي دومة. قَوْله: (من حلق) أَي: شعره عِنْد الْمُصِيبَة إِذا حلت بِهِ. قَوْله: (وَمن سلق) ، أَي: رفع صَوته عِنْد الْمُصِيبَة، وَقيل: أَن تصك الْمَرْأَة وَجههَا، وَأَن تخدشه وَيُقَال: صلق بالصَّاد. قَوْله: (وَمن خرق) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: شقّ ثِيَابه عِنْد الْمُصِيبَة.

2921 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ.
(أنظر الحَدِيث 7821 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان، وَأَبُو عُثْمَان ابْن جبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة المفتوحتين: ابْن أبي رواد ابْن أخي عبد الْعَزِيز بن أبي رواد الْبَصْرِيّ، وَأَبُو رواد اسْمه: ثَابت. قَوْله: (عَن سعيد بن الْمسيب) ويروى: (حَدثنَا سعيد بن الْمسيب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم، أَي:، فِي الْجَنَائِز عَن ابْن الْمثنى، وَعَن ابْن بشار، وَأخرجه النَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن بنْدَار وَمُحَمّد بن الْوَلِيد وَعَن نصر بن عَليّ.
تابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ. وَقَالَ آدَمُ

(8/85)


عنْ شُعْبَةَ المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ

أَي: تَابع عَبْدَانِ عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، قَالَ: حَدثنَا يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع، مصغر زرع، قَالَ: حَدثنَا سعيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة، قَالَ: حَدثنَا قَتَادَة يَعْنِي: عَن سعيد بن الْمسيب، وَقد وَصله أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد كَذَلِك. قَوْله: (وَقَالَ آدم) ، هُوَ ابْن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة، يَعْنِي بِإِسْنَاد حَدِيث الْبَاب، لَكِن بِغَيْر لفظ الْمَتْن وَهُوَ قَوْله: (يعذب ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ) وَتفرد آدم بِهَذَا اللَّفْظ، وَقد رَوَاهُ أَحْمد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر غنْدر وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وحجاج بن مُحَمَّد، كلهم عَن شُعْبَة كَالْأولِ، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: سَمِعت قَتَادَة يحدث عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابْن عمر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (الْمَيِّت يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ) .

43 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ لفظ بَاب وَحده كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَلَيْسَ بمذكور فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة.

3921 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدثنَا ابنُ المُنْكَدِرِ. قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ جِيءَ بِأبِي يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ مُثِّلَ بِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبا فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أنْ أكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قوْمِي ثُمَّ ذَهَبْتُ أكْشفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي فأمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرُفِعَ فَسَمِعَ صَوْتَ صائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هاذِهِ فقَالُوا ابْنَةُ عَمْرٍ وأوْ أخْتُ عَمْرٍ وَقَالَ فَلِمَ تَبْكي أوْ لاَ تَبْكِي فَمَا زَالَتِ المَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ.
لما كَانَ حَدِيث هَذَا الْبَاب الْمُجَرّد على تَقْدِير وجود الْبَاب دَاخِلا فِي الْبَاب الَّذِي قبله، المترجم بِمَا يكره من النِّيَاحَة على الْمَيِّت، طابق ذكره هَهُنَا لدُخُوله فِي تَرْجَمَة ذَلِك الْبَاب، فَإِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من هَذِه؟) لما سمع صَوت صائحة، إِنْكَار فِي نفس الْأَمر، وَإِن لم يُصَرح بِهِ. وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث فِي أَوَائِل بَاب الْجِنَازَة فِي: بَاب الدُّخُول على الْمَيِّت، أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله ... إِلَى آخِره. وَهنا أخرجه عَن عَليّ ابْن عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابِرا.
قَوْله: (قد مثل بِهِ) ، جملَة وَقعت حَالا، وَمثل، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد التَّاء الْمُثَلَّثَة: من التَّمْثِيل، يُقَال: مثل بالقتيل إِذا جدع أَنفه وَأذنه أَو مذاكيره أَو شَيْء من أَطْرَافه، والإسم: الْمثلَة، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء، وَيجوز: مثل، بتَخْفِيف الثَّاء، يُقَال: مثلت بِالْحَيَوَانِ أمثله بِهِ مثلا. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَأما مثل، بِالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ للْمُبَالَغَة. قَوْله: (وَقد سُجِّي) أَي: غطي من، سجى يسجى تسجية، وانتصاب ثوبا بِنَزْع الْخَافِض أَي: بِثَوْب. قَوْله: (أُرِيد) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (ذهبت) ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (اكشف عَنهُ) ، حَال. قَوْله: (فَرفع) على صِيغَة الْمَجْهُول، قَوْله: (صائحة) أَي: امْرَأَة صائحة. قَوْله: (بنت عَمْرو) ، هِيَ عمَّة الْمَقْتُول، وَاسْمهَا: فَاطِمَة بنت عَمْرو، وَعَمْرو جد جَابر لِأَنَّهُ ابْن عبد الله بن عَمْرو بن حرَام ضد حَلَال وَقد صرح فِي: بَاب الدُّخُول على الْمَيِّت، بقوله: (فَجعلت عَمَّتي فَاطِمَة تبْكي) ، وَوَقع فِي (الإكليل) للْحَاكِم: أَنَّهَا هِنْد بنت عَمْرو، وَقَالَ بَعضهم لَعَلَّ لَهَا إسمين أَو أَحدهمَا أسمها وَالْآخر لقبها. قلت: لَا يلقب بالأسماء الْمَوْضُوعَة للمسميات، فَإِن صَحَّ مَا فِي الإكليل فَيحمل على أَنَّهُمَا كَانَتَا أُخْتَيْنِ وهما عمتا جَابر: إِحْدَاهمَا تسمى فَاطِمَة، وَالْأُخْرَى: تسمى هندا. قَوْله: (أَو أُخْت عَمْرو) شكّ من الرَّاوِي، فَإِن كَانَت بنت عَمْرو تكون أُخْت الْمَقْتُول عمَّة جَابر، وَإِن كَانَت أُخْت عَمْرو تكون عمَّة الْمَقْتُول، وَهُوَ عبد الله. قَوْله: (فلِمَ تبْكي) بِكَسْر اللَّام وَفتح الْمِيم، اسْتِفْهَام عَن الغائبة؟ قَوْله: (أَو لَا تبْكي) ، شكّ من الرَّاوِي، وَلَيْسَ باستفهام، بل هُوَ نهي الغائبة، وَحَاصِل الْمَعْنى: تبْكي

(8/86)


هَذِه الْمَرْأَة عَلَيْهِ، أَو لَا تبْكي فَإِن الْمَلَائِكَة قد أظلته بأجنحتها، فَلَا يَنْبَغِي الْبكاء لأَجله لحُصُول هَذِه الْمنزلَة بل يَنْبَغِي أَن يفرح بذلك.

53 - (بابٌ لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَيْسَ منا من شقّ الْجُيُوب، وَإِنَّمَا ذكر شقّ الْجُيُوب فِي التَّرْجَمَة خَاصَّة مَعَ أَن الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب ثَلَاثَة أَشْيَاء تَنْبِيها على أَن النَّفْي الَّذِي حَاصله التبري يَقع بِكُل وَاحِد من الثَّلَاثَة، وَلَا يشْتَرط وُقُوع الْمَجْمُوع. فَإِن قلت: الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة مَذْكُورَة بِالْوَاو، وَهُوَ لمُطلق الْجمع. قلت: الْوَاو بِمَعْنى: أَو، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث مَسْرُوق عَن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ منا من ضرب الخدود أَو شقّ الْجُيُوب أَو دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) . وَله فِي رِوَايَة: بِالْوَاو، فَإِذا كَانَت رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا بِأَو، وَالْأُخْرَى: بِالْوَاو، تحمل الْوَاو على أَو فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيص شقّ الْجُيُوب من بَين الثَّلَاثَة؟ قلت: هُوَ أَشد الثَّلَاثَة قبحا وأبشعها، مَعَ أَن فِيهِ خسارة المَال فِي غير وَجه.

4921 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ حدثَنا زُبَيْدٌ اليَامِيُّ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: زبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال: ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم اليامي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف مِيم مَكْسُورَة: من بني يام بن رَافع بن مَالك من هَمدَان، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الأيامي، بِهَمْزَة فِي أَوله، مر فِي: بَاب خوف الْمُؤمن، فِي كتاب الْإِيمَان. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَإِبْرَاهِيم رأى عَائِشَة وَسمع الْمُغيرَة، قَالَه ابْن حبَان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي (مَنَاقِب قُرَيْش) عَن ثَابت بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان. وَأخرجه فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن بنْدَار، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، وَعَن عُثْمَان بن جرير، وَعَن إِسْحَاق وَعلي بن خشرم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن بشار وَبُنْدَار عَن يحيى بن سعيد وَعَن إِسْحَاق بن مَسْعُود عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى وَابْن مهْدي، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَيْسَ منا) ، أَي: لَيْسَ من أهل سنتنا وَلَا من المهتدين بهدينا، وَلَيْسَ المُرَاد الْخُرُوج بِهِ من الدّين جملَة، إِذْ الْمعاصِي لَا يكفر بهَا عِنْد أهل السّنة، أللهم إلاَّ أَن يعْتَقد حل ذَلِك، وسُفْيَان الثَّوْريّ أجراه على ظَاهره من غير تَأْوِيل لِأَن إجراءه كَذَلِك أبلغ فِي الإنزجار مِمَّا يذكر فِي الْأَحَادِيث الَّتِي صيغها: لَيْسَ منا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا للتغليظ، أللهم إلاَّ أَن يُفَسر دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة بِمَا يُوجب الْكفْر، نَحْو تَحْلِيل الْحَرَام وَعدم التَّسْلِيم لقَضَاء الله تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ يكون النَّفْي حَقِيقَة. وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ: لَيْسَ مقتديا بِنَا وَلَا مستنا بسنتنا. وَقيل: مَعْنَاهُ: لَيْسَ على سيرتنا الْكَامِلَة وهدينا. وَقيل: مَعْنَاهُ مَحْمُول على المستحل لذَلِك. قَوْله: (من لطم الخدود) ، ويروى: (من ضرب الخدود) ، وَهُوَ جمع: خد، وَخص بذلك لكَون اللَّطْم أَو الضَّرْب غَالِبا يكون فِي الخد، وإلاَّ فَضرب بَقِيَّة الْوُجُوه دَاخل فِي ذَلِك. قَوْله: (وشق الْجُيُوب) ، بِضَم الْجِيم: جمع: جيب وَهُوَ مَا يفتح من الثَّوْب ليدْخل فِيهِ الرَّأْس، وَهُوَ الطوق فِي لُغَة الْعَامَّة. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بشقه إِكْمَال فَتحه إِلَى آخِره، وَهِي من عَلَامَات التسخط،

(8/87)


قلت: الشق أَعم من ذَلِك، فَمن أَيْن أَخذ أَن المُرَاد مَا ذكره؟ فَإِذا شقّ جيبه من وَرَائه أَو من يَمِينه أَو من يسَاره لَا يكون دَاخِلا فِيهِ. قَوْله: (ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (بِدَعْوَى أهل الْجَاهِلِيَّة) ، وَهِي زمَان الفترة قبل الْإِسْلَام، وَالْمرَاد أَنه قَالَ فِي الْبكاء مِمَّا يَقُوله أهل الْجَاهِلِيَّة مِمَّا لَا يجوز فِي الشَّرِيعَة، كَقَوْلِهِم: واجبلاه واعضداه، وَنَحْو ذَلِك.

63 - (بابٌ رَثَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَعْدَ بنَ خَوْلَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رثاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الرثاء، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة ممدودا: من رثيت الْمَيِّت مرثية إِذا عددت محاسنه، ورثأت، بِالْهَمْزَةِ: لُغَة فِيهِ. ويروى: بَاب رثى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن خَوْلَة، بِلَفْظ الْمَاضِي، فعلى هَذَا لفظ: بَاب، منون مَقْطُوع عَن الْإِضَافَة، ويروى: بَاب رثى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْقصرِ، و: سعد بن خَوْلَة مَنْصُوب على كل حَال على المفعولية، وَفِي الْوَجْهَيْنِ: الْمصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَهُوَ لفظ النَّبِي مجرور بِالْإِضَافَة. وَفِي الْوَجْه الثَّالِث، وَهُوَ كَونه مَاضِيا، يكون لفظ النَّبِي مَرْفُوعا على الفاعلية، وَذكر الْكرْمَانِي وَجها آخر: وَهُوَ أَن تكون الرَّاء مَفْتُوحَة والثاء سَاكِنة وَفِي آخِره يَاء، مصدر من رثى يرثي رثيا. فَإِن قلت: روى أَحْمد وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المراثي) ، وَصَححهُ الْحَاكِم فَإِذا نهي عَنهُ كَيفَ يَفْعَله؟ قلت: لَيْسَ مُرَاده من هَذِه التَّرْجَمَة أَنه من بَاب المراثي وَإِنَّمَا هُوَ إشفاق من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من موت سعد بن خَوْلَة بِمَكَّة بعد هجرته مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ توجع عَلَيْهِ وتحزن من ذَلِك، وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل للحي: أَنا أرثي لَك مِمَّا يجْرِي عَلَيْك كَأَنَّهُ يتحزن لَهُ، وَأَيْضًا فقد ذكر الْقُرْطُبِيّ أَن الَّذِي قَالَ يرثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا ظَاهره، وَقيل: هُوَ من قَول سعد بن أبي وَقاص: جَاءَ ذَلِك فِي بعض طرقه، وَأكْثر النَّاس أَن ذَلِك من قَول الزُّهْرِيّ، وَسعد بن خَوْلَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو: من بني عَامر بن لؤَي، وَقيل: حَلِيف لَهُم، وَقيل: مولى ابْن أبي رهم العامري من السَّابِقين، بَدْرِي توفّي عَن سبيعة الأسْلَمِيَّة سنة عشر بِمَكَّة.

5921 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعُودُنِي عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ إنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأنا ذُو مَال وَلاَ يَرِثُنِي إلاَّ ابْنَةٌ أفأتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قالَ لاَ فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقالَ لاَ ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثّلُثُ كَبِيرٌ أوْ كَثِيرٌ إنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقةً تَبْتَغِي وَجْهَ الله إلاَّ أُجِرْتَ بِهَاحَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأتِكَ فَقُلْتُ يَا رَسولَ الله أُخَلَّفُ بَعْدَ أصْحَابِي. قالَ إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صالِحا إلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أمْضِ لأِصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدُّهُمْ عَلَى أعْقَابِهِم لاكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ مَات بِمَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة. .) إِلَى آخِره، هَذَا التطابق إِنَّمَا يُوجد إِذا كَانَ الَّذِي يرثي سعد ابْن خَوْلَة هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَإِمَّا إِذا كَانَ غَيره، كَمَا ذكرنَا، فَلَا تطابق إلاَّ إِذا قُلْنَا: إِنَّه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن الْمَعْنى: هُوَ الاشفاق والتوجع وَإِظْهَار التحزن كَمَا ذكرنَا.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وعامد وَسعد تقدما فِي بَاب إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع: فِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْهِجْرَة عَن يحيى بن قزعة، وَفِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان،

(8/88)


وَفِي الْوَصَايَا عَن أبي نعيم، وَفِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم عَن زَكَرِيَّا بن عدي، وَفِي الطِّبّ أَيْضا عَن مكي بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا عَن يحيى بن يحيى وَعَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عُثْمَان وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن هِشَام بن عمار وَالْحسن بن أبي الْحسن الْمروزِي وَسَهل بن أبي سهل الرَّازِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يعودنِي) من العيادة وَهِي الزِّيَارَة. وَلَا يُقَال ذَلِك إلاَّ لزيارة الْمَرِيض. قَوْله: (عَام حجَّة الْوَدَاع) ، نصب على الظّرْف، وَهِي السّنة الْعَاشِرَة من الْهِجْرَة، وَسميت حجَّة الْوَدَاع لِأَنَّهُ ودعهم فِيهَا. وَسمي أَيْضا الْبَلَاغ، لِأَنَّهُ قَالَ: هَل بلغت؟ وَحجَّة الْإِسْلَام: لِأَنَّهَا الْحجَّة الَّتِي فِيهَا حج الْإِسْلَام لَيْسَ فِيهَا مُشْرك، هَذَا قَول الزُّهْرِيّ. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ ذَلِك يَوْم فتح مَكَّة حِين عَاد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَعْدا. وَهُوَ من أَفْرَاده. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: خَالف سُفْيَان الْجَمَاعَة، فَقَالَ: عَام الْفَتْح، وَالصَّحِيح فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (من وجع) ، الوجع اسْم لكل مرض. قَالَ الْجَوْهَرِي: الوجع الْمَرَض، وَالْجمع: أوجاع ووجاع، مثل جبل وأجبال وجبال، ووجع فلَان يوجع وييجع ويأجع فَهُوَ وجع، وَقوم وجعون ووجعى، مثل: مرضى ووجاعى، وَنسَاء وجاعى أَيْضا ووجعات، وَبَنُو أَسد يَقُولُونَ: ييجع، بِكَسْر الْيَاء. قَوْله: (اشْتَدَّ بِي) أَي: قوي عَليّ. قَوْله: (قد بلغ بِي) أَي: بلغ أثر الوجع فِي، وَوصل غَايَته وَفِي رِوَايَة: (أشفيت مِنْهُ على الْمَوْت) أَي: قاربت، وَلَا يُقَال: أشفى، إلاَّ فِي الشَّرّ، بِخِلَاف أشرف، وقارب. قَوْله: (وَلَا ترثني إلاَّ ابْنة) اسْمهَا: عَائِشَة، كَذَا ذكرهَا الْخَطِيب وَغَيره، وَلَيْسَت بِالَّتِي روى عَنْهَا مَالك، تيك أُخْت هَذِه، وَهِي تابعية وَعَائِشَة لَهَا صُحْبَة، وَكَانَ قد زعم بعض من لَا علم عِنْده أَن مَالِكًا تَابِعِيّ بروايته عَنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك. وَقَوله: (إلاَّ ابْنة لي) أَي: من الْوَلَد وخواص الْوَرَثَة، وإلاَّ فقد كَانَ لَهُ عصبَة. وَقيل: مَعْنَاهُ لَا يَرِثنِي من أَصْحَاب الْفُرُوض سواهَا. وَقيل: من النِّسَاء، وَهَذَا قَالَه قبل أَن يُولد لَهُ الذُّكُور. قَوْله: (أفأتصدق بِثُلثي مَالِي؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ مُنجزا أَو مُعَلّقا، بِمَا بعد الْمَوْت، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ تَأتي (أفأوصى) يدل: (أفأتصدق؟) . قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَتَصَدَّق بالثلثين. قَوْله: (فَقلت: بالشطر؟) أَي: اتصدق بالشطر. أَي: بِالنِّصْفِ؟ بِدَلِيل رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ تَأتي: (فأوصي بِالنِّصْفِ) ويروى: (فَالشَّطْر؟) بِالْفَاءِ وَرفع الشّطْر. فَإِن قلت: بِمَاذَا ارْتِفَاع: فَالشَّطْر؟ قلت: مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مَحْذُوف، تَقْدِيره: فَالشَّطْر أَتصدق بِهِ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ: الثُّلُث، وَالثلث) يجوز فِي الثُّلُث الأول النصب وَالرَّفْع، فالنصب على الإغراء أَو على تَقْدِير: أعْط الثُّلُث وَالرَّفْع، على أَنه فَاعل، أَي: يَكْفِيك الثُّلُث، أَو على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَو عَكسه. وَالثلث الثَّانِي: مُبْتَدأ، و: كثير، خَبره، وَهُوَ: بالثاء الْمُثَلَّثَة وَقَوله: كَبِير، بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (إِنَّك إِن تذر) أَي: إِن تتْرك، وَهَذَا من الَّذِي أميت ماضيه. قَالَ عِيَاض: روينَاهُ بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا. وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: سمعناه من رُوَاة الحَدِيث بِكَسْر: إِن، وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ بِفَتْح الْألف، وَلَا يجوز الْكسر، لِأَنَّهُ لَا جَوَاب لَهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: روايتنا بِفَتْح الْهمزَة، وَقد وهم من كسرهَا بَين أَن جعلهَا شرطا لَا جَوَاب لَهُ، أَو يبْقى خَبرا إِلَّا رَافع لَهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يَصح كسرهَا لِأَنَّهَا تكون شَرْطِيَّة، وَالشّرط لما يسْتَقْبل وَهُوَ فقد كَانَ فَاتَ. انْتهى. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه ابْن مَالك: إِن الأَصْل: إِن تركت وَرثتك أَغْنِيَاء فَهُوَ خير لَك، فَحذف الْفَاء، والمبتدأ وَنَظِيره قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بن كَعْب: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فاستمتع بهَا) . وَقَوله: لهِلَال بن أُميَّة: (الْبَيِّنَة وإلاَّ حدٌّ فِي ظهرك) ، وَذَلِكَ مِمَّا زعم النحويون أَنه مَخْصُوص بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بهَا، بل يكثر اسْتِعْمَاله فِي الشّعْر ويقل فِي غَيره. وَمن خص هَذَا الْحَذف بالشعر حاد عَن الطَّرِيق وضيق حَيْثُ لَا تضييق. قَوْله: (عَالَة) أَي: فُقَرَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: العالة، جمع عائل، وَقيل: العائل الْكثير الْعِيَال، حَكَاهُ الْكسَائي وَلَيْسَ بِمَعْرُوف، بل العائل الْفَقِير. وَقيل: العيل والعالة الْفقر. قَوْله: (يَتَكَفَّفُونَ النَّاس) أَي: يطْلبُونَ الصَّدَقَة من أكف النَّاس وَقيل: يَسْأَلُونَهُمْ بأكفهم. قَوْله: (وَإنَّك لن تنْفق) عطف على قَوْله: (إِنَّك إِن تذر) ، وَهُوَ عِلّة للنَّهْي عَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، كَأَنَّهُ قيل: لَا تفعل لِأَنَّك إِن مت وَتَذَر وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تذرهم فُقَرَاء فَإِن عِشْت تَصَدَّقت بِمَا بَقِي من الثُّلُث وأنفقت على عِيَالك يكن خير لَك. قَوْله: (إلاَّ أجرت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بهَا) ، أَي: بِتِلْكَ النَّفَقَة. قَوْله: (حَتَّى مَا تجْعَل)

(8/89)


أَي: الَّذِي تَجْعَلهُ. قَالَ ابْن بطال: تجْعَل، بِرَفْع اللَّام، و: مَا، كَافَّة كفت: حَتَّى عَن عَملهَا. قَوْله: (فِي فِي امْرَأَتك) أَي: فِي فَم امْرَأَتك، وأصل فَم: فوه، لِأَن الْجمع: أَفْوَاه، وَعند الْإِفْرَاد لَا يحْتَمل الْوَاو التَّنْوِين فحذفوها وعوضوا من الْهَاء ميما، وَقَالُوا: هَذَا فَم وفمان وفموان، وَلَو كَانَ الْمِيم عوضا من الْوَاو لما اجْتمعَا. قَوْله: (أخلف) على صِيغَة الْمَجْهُول، يَعْنِي أخلف فِي مَكَّة بعد أَصْحَابِي الْمُهَاجِرين المنصرفين مَعَك؟ قَالَ أَبُو عمر: يحْتَمل أَن يكون لما سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة، وتنفق فعل مُسْتَقْبل، أَيقَن أَنه لَا يَمُوت من مَرضه ذَلِك. أَو أَظن ذَلِك فاستفهمه: هَل يبْقى بعد أَصْحَابه؟ فَأَجَابَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب من قَوْله: (لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله) . وَهُوَ قَوْله: (إِنَّك لن تخلف فتعمل عملا صَالحا إلاَّ ازددت بِهِ رفْعَة ودرجة) ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا الِاسْتِفْهَام إِنَّمَا صدر من سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَخَافَة الْمقَام بِمَكَّة إِلَى الْوَفَاة، فَيكون قادحا فِي هجرته، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي بعض الرِّوَايَات، إِذْ قَالَ: (خشيت أَن أَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرت مِنْهَا) . فَأَجَابَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك لَا يكون وَإنَّهُ يطول عمره وَقَالَ عِيَاض كَانَ حكم الْهِجْرَة بَاقِيا بعد الْفَتْح بِهَذَا الحَدِيث وَقيل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لمن هَاجر قبل الْفَتْح، فَأَما من هَاجر بعده فَلَا. قَوْله: (إلاَّ ازددت بِهِ) أَي: بِالْعَمَلِ الصَّالح. قَوْله: (ثمَّ لَعَلَّك أَن تخلف) المُرَاد بتخلفه طول عمره، وَكَانَ كَذَلِك عَاشَ زِيَادَة على أَرْبَعِينَ سنة، فَانْتَفع بِهِ قوم وتضرر بِهِ آخَرُونَ. وَقَالَ ابْن بطال: لما أَمر سعد على الْعرَاق أَتَى بِقوم ارْتَدُّوا فاستتابهم فَتَابَ بَعضهم وأصر بَعضهم فَقَتلهُمْ، فَانْتَفع بِهِ من تَابَ وتضرر بِهِ الْآخرُونَ، وَحكى الطَّحَاوِيّ هَذَا عَن بكير بن الْأَشَج عَن أَبِيه عَن عَامر أَنه سَأَلَهُ عَن معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك القَوْل، وَأَن الْمُرْتَدين كَانُوا يسجعون سجعة مُسَيْلمَة، قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَمثل هَذَا لم يقلهُ عَامر استنباطا، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيف إِمَّا أَن يكون سَمعه من أَبِيه أَو مِمَّن يصلح لَهُ أَخذ ذَلِك عَنهُ، وَاعْلَم أَن كلمة: لَعَلَّ، مَعْنَاهَا للترجي إلاَّ إِذا وَردت عَن الله أَو رَسُوله أَو أوليائه، فَإِن مَعْنَاهَا التَّحْقِيق. قَوْله: (اللَّهُمَّ أمض) بِقطع الْهمزَة، يُقَال: أمضيت الْأَمر أَي أنفذته أَي: تممها لَهُم وَلَا تنقصها عَلَيْهِم فيرجعون إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله: (وَلَا تردهم على أَعْقَابهم) أَي: بترك هجرتهم ورجوعهم عَن مُسْتَقِيم حالم المرضية، فيخيب قصدهم ويسوء حَالهم. وَيُقَال لكل من رَجَعَ إِلَى حَال دون مَا كَانَ عَلَيْهِ: رَجَعَ على عقبه، وحار. وَمِنْه الحَدِيث: (أعوذ بك من الْحور بعد الكور) ، أَي من النُّقْصَان بعد الزِّيَادَة. قَوْله: (لَكِن البائس) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أثر الْبُؤْس. أَي: الْفقر والعيلة، وَقَالَ الْأصيلِيّ: البائس الَّذِي ناله الْبُؤْس، وَقد يكون بِمَعْنى مفعول، كَقَوْلِه: {عيشة راضية} (الحاقة: 12، القارعة: 7) . أَي: مرضية. قَوْله: (سعد بن خَوْلَة) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر لقَوْله: (البائس) ، وَعَامة المؤرخين يَقُولُونَ: ابْن خَوْلَة، إلاَّ أَبَا معشر، فَإِنَّهُ يَقُول: ابْن خولى، وَقَالَ ابْن التِّين: خَوْلَة، سَاكِنة الْوَاو عِنْد أهل اللُّغَة والعربية، وَكَذَا رَوَاهُ بَعضهم. وَقل الشَّيْخ أَبُو الْحسن: مَا سمعنَا قطّ أحدا قَرَأَهُ إِلَّا بِفَتْحِهَا، والمحدثون على ذَلِك، قيل: إِنَّه أسلم وَلم يُهَاجر من مَكَّة حَتَّى مَاتَ بهَا، وَذكره البُخَارِيّ فِيمَن هَاجر وَشهد بَدْرًا وَغَيرهَا، وَتُوفِّي بِمَكَّة فِي حجَّة الْوَدَاع كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (يرثي لَهُ) أَي: يرق لَهُ ويترحم عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِن مَاتَ) ، بِفَتْح الْهمزَة أَي: لِأَنَّهُ مَاتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجر مِنْهَا، وَهَذَا كَلَام سعد ابْن أبي وَقاص، صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي كتاب الدَّعْوَات. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما: (يرثي لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَهُوَ من كَلَام الزُّهْرِيّ، وَهُوَ تَفْسِير لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة) ، أَي: رثي لَهُ حِين مَاتَ بِمَكَّة، وَكَانَ يهوى أَن يَمُوت بغَيْرهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث اتّفق أهل الْعلم على صِحَة سَنَده، وَجعله جُمْهُور الْفُقَهَاء أصلا فِي مِقْدَار الْوَصِيَّة وَأَنه لَا يتَجَاوَز بهَا الثُّلُث، إلاَّ أَن فِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلَافا عِنْد نقلته، فَمن ذَلِك ابْن عُيَيْنَة، قَالَ فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ: عَام الْفَتْح، انْفَرد بذلك عَن ابْن شهَاب فِيمَا علمت، وَقد روينَا هَذَا الحَدِيث من طَرِيق معمر وَيُونُس بن يزِيد وَعبد الْعَزِيز ابْن أبي سَلمَة وَيحيى ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ وَابْن أبي عَتيق وَإِبْرَاهِيم بن سعد، فكلهم قَالَ: عَن ابْن شهَاب: عَام حجَّة الْوَدَاع، كَمَا قَالَ مَالك، وَكَذَلِكَ قَالَ شُعَيْب، قَالَ ابْن الْمُنْذر: الَّذين قَالُوا: حجَّة الْوَدَاع، أصوب. قَالَ أَبُو عمر: وَكَذَا رَوَاهُ عَفَّان بن مُسلم عَن وهيب بن خَالِد عَن عبد الله بن عُثْمَان عَن عمرٍ وبن القاريء (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَكَّة عَام الْفَتْح فخلف سَعْدا مَرِيضا حَتَّى خرج إِلَى جَنِين، فَلَمَّا قدم من الْجِعِرَّانَة مُعْتَمِرًا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ وجع مغلوب، فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله إِن لي مَالا ... .) الحَدِيث، وَالْعَمَل على هَذَا الحَدِيث أَن أهل الْعلم لَا يرَوْنَ أَن يُوصي الرجل بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، ويستحبون أَن ينقص من الثُّلُث. وَقَالَ الثَّوْريّ: كَانُوا يستحبون فِي الْوَصِيَّة الْخمس بعد الرّبع، وَالرّبع دون الثُّلُث، فَمن أوصى بِالثُّلثِ فَلم يتْرك شَيْئا، فَلَا يجوز لَهُ إلاَّ الثُّلُث، وَأجْمع عُلَمَاء الْمُسلمين

(8/90)


على أَنه لَا يجوز لأحد أَن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا ترك وَرَثَة من بَنِينَ وعصبة، وَاخْتلفُوا إِذا لم يتركهما وَلَا وَارِثا بِنسَب أَو نِكَاح، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ لَهُ أَن يُوصي بِمَالِه كُله، وَعَن أبي مُوسَى مثله، وَقَالَ بقولهمَا قوم، مِنْهُم: مَسْرُوق وَعبيدَة وَإِسْحَاق، وَاخْتلف فِي ذَلِك قَول أَحْمد، وَذهب إِلَيْهِ جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا يَقُول بقول زيد بن ثَابت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَعَن عُبَيْدَة: إِذا مَاتَ الرجل وَلَيْسَ عَلَيْهِ عقد لأحد وَلَا عصبَة تَرثه فَإِنَّهُ يُوصي بِمَالِه كُله حَيْثُ شَاءَ. وَعَن مَسْرُوق وَشريك، مثله. وَعَن الْحسن وَأبي الْعَالِيَة مثله، ذكره فِي (المُصَنّف) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد وَإِسْحَاق وَمَالك فِي أحد قوليهما. وَقَالَ زيد بن ثَابت: لَا يجوز لأحد إِن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا كَانَ لَهُ بنُون أَو وَرَثَة كَلَالَة أَو ورث جمَاعَة الْمُسلمين، لِأَن بَيت مَا لَهُم عصبَة من لَا عصبَة لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة. وَأجْمع فُقَهَاء الْأَمْصَار أَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث إِذا أجازها الْوَرَثَة جَازَت، وَإِن لم تجزها الْوَرَثَة لم يجز مِنْهَا إلاَّ الثُّلُث. وأبى ذَلِك أهل الظَّاهِر فمنعوها وَإِن أجازتها الْوَرَثَة، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن كيسَان، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِن الْوَصِيَّة للْوَارِث لَا تجوز، وَإِن أجازها الْوَرَثَة لحَدِيث: (لَا وَصِيَّة لوَارث) ، وَسَائِر الْفُقَهَاء يجيزون ذَلِك إِذا أجازها الْوَرَثَة، ويجعلونها هبة. وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن الثُّلُث هُوَ الْغَايَة تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْوَصِيَّة، وَإِن التَّقْصِير عَنهُ أفضل.
وَكره جمَاعَة من أهل الْعلم الْوَصِيَّة بِجَمِيعِ الثُّلُث. قَالَ طَاوُوس: إِذا كَانَت ورثته قَلِيلا وَمَاله كثيرا فَلَا بَأْس إِن يبلغ الثُّلُث، وَاسْتحبَّ طَائِفَة الْوَصِيَّة بِالربعِ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ إِسْحَاق: السّنة الرّبع، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الثُّلُث كثير) إلاَّ أَن يكون رجل يعرف فِي مَاله شُبْهَة، فَيجوز لَهُ الثُّلُث. قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم لإسحاق حجَّة فِي قَوْله: السّنة الرّبع، وَقَالَ ابْن بطال: أوصى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالربعِ. وَاخْتَارَ آخَرُونَ السُّدس، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يوصوا بِمثل نصيب أحد الْوَرَثَة حَتَّى يكون أقل، رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح، وَكَانَ السُّدس أحب إِلَيْهِ من الثُّلُث. وَأوصى أنس، فِيمَا ذكره فِي (المُصَنّف) من حَدِيث عبَادَة الصيدلاني عَن ثَابت عَنهُ، بِمثل نصيب أحد وَلَده، وَأَجَازَ آخَرُونَ الْعشْر، وَعَن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه يفضل الْوَصِيَّة بالخمس، وَبِذَلِك أوصى، وَقَالَ: رضيت لنَفْسي مَا رَضِي الله لنَفسِهِ: يَعْنِي خمس الْغَنِيمَة.
وَاسْتحبَّ جمَاعَة الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ محتجين بِحَدِيث الْبَاب، وَبِحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ ابْن وهب عَن طَلْحَة بن عَمْرو، وَتفرد بِذكرِهِ مَعَ ضعفه عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جعل الله لكم فِي الْوَصِيَّة ثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي أَعمالكُم) . وَفِيه جَوَاز ذكر الْمَرِيض مَا يجده لغَرَض صَحِيح من مداواة أَو دُعَاء أَو وَصِيَّة أَو نَحْو ذَلِك، وَإِنَّمَا يكره من ذَلِك مَا كَانَ على سَبِيل التسخط وَنَحْوه، فَإِنَّهُ قَادِح فِي أجر مَرضه.
وَفِيه: فِي قَوْله: (أفأتصدق مَالِي كُله؟) فِي رِوَايَة إِن صحت حجَّة قَاطِعَة لما ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور أهل الْعلم فِي هبات الْمَرِيض وصدقته وعتقه، أَن ذَلِك من ثلثه لَا من جَمِيع مَاله، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَعَامة أهل الحَدِيث والرأي، محتجين بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن فِي الَّذِي اعْتِقْ سِتَّة أعبد، فِي مَرضه وَلَا مَال لَهُ غَيرهم، ثمَّ توفّي فَأعتق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة، وَقَالَت فرقة من أهل النّظر وَأهل الظَّاهِر، فِي هبة الْمَرِيض؛ إِنَّهَا من جَمِيع المَال، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا القَوْل لَا نعلم أحدا من الْمُتَقَدِّمين قَالَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو عمر: قد قَالَ بعض أهل الْعلم إِن عَامر بن سعد هُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَدِيث سعد: (أفأتصدق) وَأما مُصعب بن سعد فَإِنَّمَا قَالَ: أفأوصي، وَلم يقل: أفأتصدق، قَالَ أَبُو عَمْرو: الَّذِي أقوله أَن ابْن شهَاب رَوَاهُ عَن سعد، فَقَالَ: أفأوصي؟ كَمَا قَالَ مُصعب وَهُوَ الصَّحِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد روى شُعْبَة وَالثَّوْري عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن عَامر عَن سعد: أفأوصي بِمَالي كُله؟ وَكَذَا روى عبد الْملك بن عُمَيْر عَن مُصعب.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض للْإِمَام وَغَيره. إِبَاحَة جمع المَال وَأَنه لَا عيب فِي ذَلِك كَمَا يَدعِيهِ بعض المتصوفة. وَفِيه: الْحَث على صلَة الرَّحِم وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب واستحباب الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر، وَأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَأَن الْمُبَاح إِذا قصد بِهِ وَجه الله صَار طَاعَة، ويثاب بِهِ، وَقد نبه عَلَيْهِ بِأَحْسَن الحظوظ الدُّنْيَوِيَّة الَّتِي تكون فِي الْعَادة عِنْد المداعبة، وَهُوَ وضع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة، فَإِذا قصد بأبعد الْأَشْيَاء عَن الطَّاعَة وَجه الله تَعَالَى فَيحصل بِهِ الْأجر، فَغَيره بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص ذكر الزَّوْجَة دون غَيرهَا؟ قلت: لِأَن زَوْجَة الْإِنْسَان من أخص حظوظه الدُّنْيَوِيَّة وشهواته. وَفِيه: من أَعْلَام نبوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أطلعه الله تَعَالَى: أَن سَعْدا لَا يَمُوت حَتَّى يخلف جمَاعَة، كَمَا أطلعه أَنه لَا يَمُوت حَتَّى ينْتَفع بِهِ قوم ويتضرر بِهِ آخَرُونَ، على مَا ذَكرْنَاهُ، حَتَّى إِنَّه عَاشَ وَفتح الْعرَاق

(8/91)


وَغَيره. وَفِيه: أَن الْإِنْفَاق إِنَّمَا يحصل فِيهِ الْأجر إِذا أُرِيد بِهِ وَجه الله، وَالنَّفقَة على الْعِيَال تحْتَمل وَجْهَيْن. الأول: أَن يكون الْمَعْنى يكْتب لَهُ بذلك أجر الصَّدَقَة. الثَّانِي: أَنه لما أَرَادَ أَن يتَصَدَّق بِمَالِه أخبرهُ أَن مَا يَنَالهُ الْعِيَال فِيهِ أجر كَمَا فِي الصَّدَقَة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُفِيد منطوقه أَن الْأجر فِي النَّفَقَات لَا يحصل إلاَّ بِقصد الْقرْبَة، وَإِن كَانَت وَاجِبَة، وَمَفْهُومه أَن من لم يقْصد الْقرْبَة لم يُؤجر على شَيْء مِنْهَا، والمعنيان صَحِيحَانِ، وَهل إِذا أنْفق نَفَقَة وَاجِبَة على الزَّوْجَة أَو الْوَلَد الْفَقِير، وَلم يقْصد التَّقَرُّب هَل تَبرأ ذمَّته أم لَا؟ فَالْجَوَاب أَنَّهَا تَبرأ ذمَّته من الْمُطَالبَة، لِأَن وجوب النَّفَقَة من الْعِبَادَات المعقولة الْمَعْنى، فتجزىء بِغَيْر نِيَّة: كالديون وَأَدَاء الْأَمَانَات وَغَيرهَا من الْعِبَادَات، لَكِن إِذا لم ينْو لم يحصل لَهُ أجر. وَفِيه: فَضِيلَة طول الْعُمر، للازدياد من الْخَيْر. وَفِيه: وجوب اسْتِدَامَة حكم الْهِجْرَة، وَلكنه ارْتَفع يَوْم الْفَتْح، واستبعد القَاضِي عِيَاض ارْتِفَاع حكم الْهِجْرَة بعد الْفَتْح، قَالَ: وَحكمه بَاقٍ بعد الْفَتْح لهَذَا الحَدِيث. وَقيل: إِنَّمَا لزم الْمُهَاجِرين الْمقَام بِالْمَدِينَةِ بعد الْهِجْرَة لنصرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخذ الشَّرِيعَة عَنهُ وَشبه ذَلِك، فَلَمَّا مَاتَ ارتحل أَكْثَرهم مِنْهَا. وَقَالَ عِيَاض: قيل لَا يحبط أجر هِجْرَة المُهَاجر بَقَاؤُهُ بِمَكَّة وَمَوته بهَا إِذا كَانَ لضَرُورَة، وَإِنَّمَا يحبطه مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ، وَقَالَ قوم: المُهَاجر بِمَكَّة تحبط هجرته كَيفَ مَا كَانَ، وَقيل: لم تفرض الْهِجْرَة إلاَّ على أهل مَكَّة خَاصَّة. وَفِيه: أَن طلب الْغَنِيّ للْوَرَثَة أرجح على تَركهم عَالَة، وَمن هُنَا أَخذ تَرْجِيح الْغَنِيّ على الْفَقِير. وَفِيه: جَوَاز تَخْصِيص عُمُوم الْوَصِيَّة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن بِالسِّنِّ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَالله أعلم.