عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 05 - (بابُ حَمْلِ الرِّجَالِ الجِنَازَةَ
دُونَ النِّسَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حمل الرِّجَال الْجِنَازَة دون
حمل النِّسَاء إِيَّاهَا، لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث أخرجه
أَبُو يعلى (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
جَنَازَة، فَرَأى نسْوَة فَقَالَ: أتحملنه؟ قُلْنَ: لَا.
قَالَ: أتدفنه؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ: فارجعن مَأْزُورَات
غير مَأْجُورَات) . لِأَن الرِّجَال أقوى لذَلِك
وَالنِّسَاء ضعيفات ومظنة للانكشاف غَالِبا، خُصُوصا إِذا
باشرن الْحمل، ولأنهن إِذا حملنها مَعَ وجود الرِّجَال
لوقع اختلاطهن بِالرِّجَالِ، وَهُوَ مَحل الْفِتْنَة ومظنة
الْفساد. فَإِن قلت: إِذا لم يُوجد رجال؟ قلت: الضرورات
مُسْتَثْنَاة فِي الشَّرْع.
(8/111)
4131 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ
عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا الليْثُ عنْ سَعِيدٍ
المَقْبُرِيِّ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا سَعِيدٍ
الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ
وَاحْتَمَلَهَا الرِّجالُ عَلَى أعْناقِهِمْ فإنْ كانَتْ
صالِحَةً قالَتْ قَدِّمُونِي وَإنْ كانَتْ غَيْرَ صالِحَةٍ
قالَتْ يَا وَيْلَهَا أيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ
صَوْتَهَا كْلُّ شَيءٍ إلاَّ الإنْسَانَ ولَوْ سَمِعَهُ
لَصَعِقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واحتملها الرِّجَال)
فَإِن قلت: هَذَا إِخْبَار، فَكيف يكون حجَّة فِي منع
النِّسَاء؟ قلت: كَلَام الشَّارِع مهما أمكن يحمل على
التشريع لَا مُجَرّد الْإِخْبَار عَن الْوَاقِع.
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَاسم أبي سعيد: كيسَان،
وَاسم أبي سعيد الْخُدْرِيّ: سعد بن مَالك، والْحَدِيث
أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا وضعت الْجِنَازَة) ، أَي:
الْمَيِّت على النعش، وَقد ذكرنَا أَن هَذَا اللَّفْظ
يُطلق على الْمَيِّت وعَلى السرير الَّذِي يحمل عَلَيْهِ
الْمَيِّت، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا النعش، وَلَفظ:
احتملها، يؤكده وَيكون إِسْنَاد القَوْل إِلَيْهِ مجَازًا.
قَوْله: (يَا وَيْلَهَا) ، مَعْنَاهُ: يَا حزني إحضر
فَهَذَا أوانك، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: يَا ويلي،
لكنه أضيف إِلَى الْغَائِب حملا على الْمَعْنى، كَأَنَّهُ
لما أبْصر نَفسه غير صَالِحَة نفر عَنْهَا وَجعلهَا
كَأَنَّهَا غَيره، وَكره أَن يضيف الويل إِلَى نَفسه.
قَوْله: (لصعق) الصَّعق: أَن يغشى على الْإِنْسَان من صَوت
شَدِيد يسمعهُ، وَرُبمَا مَاتَ مِنْهُ، وَقَالَ ابْن بطال:
(قدموني) أَي: إِلَى الْعَمَل الصَّالح الَّذِي عملته،
يَعْنِي إِلَى ثَوَابه. وَفِي لفظ: (يسمع) ، دلَالَة أَن
القَوْل هَهُنَا حَقِيقَة لَا مجَاز، وَأَنه تَعَالَى يحدث
النُّطْق فِي الْمَيِّت إِذا شَاءَ. وَقَالَ: يَا
وَيْلَهَا، لِأَنَّهَا تعلم أَنَّهَا لم تقدم خيرا،
وَأَنَّهَا تقدم على مَا يسوؤها فتكره الْقدوم عَلَيْهَا،
وَالضَّمِير فِي قَوْله: (لَو سَمعه) رَاجع إِلَى
دُعَائِهِ بِالْوَيْلِ على نَفسهَا، أَي: تصيح بِصَوْت
مُنكر لَو سَمعه الْإِنْسَان لأغشي عَلَيْهِ.
15 - (بابُ السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِسْرَاع بالجنازة بعد
الْحمل.
وَقَالَ أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنْتُمْ
مُشَيِّعُونَ فَامْشُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا
وعَنْ يَمِينِهَا وعَنْ شِمَالِهَا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السرعة بالجنازة لَا
تكون غَالِبا إلاَّ فِي وجهات مُخْتَلفَة، وَلَا تكون فِي
جِهَة مُعينَة لتَفَاوت النَّاس فِي الْمَشْي، وَتحصل
الْمَشَقَّة من بَعضهم على بعض فِي تعْيين جِهَة، فَإِذا
كَانَ كَذَلِك تكون السرعة من جوانبها الْأَرْبَع، وَهَذَا
التَّعْلِيق ذكره ابْن أبي شيبَة عَن أبي بكر بن عَيَّاش
عَن حميد عَن أنس فِي الْجِنَازَة: أَنْتُم مشيعون لَهَا
تمشون أمامها وَخَلفهَا وَعَن يَمِينهَا وَعَن شمالها.
وَأخرجه عبد الرَّزَّاق عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن
حميد بِهِ. قَوْله: (فامشوا) بِصِيغَة الْجمع، رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فامش) ،
بِالْإِفْرَادِ وَالْأول أنسب.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبا مِنْهَا
أَي: قَالَ غير أنس: إمشِ قَرِيبا من الْجِنَازَة،
وَالْمَقْصُود أَن يكون قَرِيبا من الْجِنَازَة من أَي
جِهَة كَانَ، لاحْتِمَال أَن يحْتَاج حاملوها إِلَى
المعاونة، فَإِن بعد مِنْهَا لم يكن مشيعا، فَإِن كَانَت
الْمُتَابَعَة بعده لِكَثْرَة الْجَمَاعَة حصل لَهُ فضل
الْمُتَابَعَة، وَقَالَ بَعضهم: والغير الْمَذْكُور
أَظُنهُ عبد الرَّحْمَن بن قرط، بِضَم الْقَاف وَسُكُون
الرَّاء بعْدهَا طاء مُهْملَة. قَالَ سعيد بن مَنْصُور:
حَدثنَا مِسْكين بن مَيْمُون حَدثنِي عُرْوَة بن رُوَيْم،
قَالَ: (شهد عبد الرَّحْمَن بن قرط جَنَازَة فَرَأى نَاسا
تقدمُوا، وَآخَرين استأخروا، فَأمر بالجنازة فَوضعت، ثمَّ
رماهم بِالْحِجَارَةِ حَتَّى اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، ثمَّ
أَمر بهَا فَحملت، ثمَّ قَالَ: بَين يَديهَا وَخَلفهَا
وَعَن يسارها وَعَن يَمِينهَا) . انْتهى. قلت: هَذَا تخمين
وحسبان، وَلَئِن سلمنَا إِنَّه هُوَ ذَاك الْغَيْر، فَلَا
نسلم أَن هَذَا مُنَاسِب لما ذكره الْغَيْر، بل هُوَ
بِعَيْنِه مثل مَا قَالَه أنس، وَلَا يخفى ذَلِك على
المتأمل، وَعبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور صَحَابِيّ ذكر
البُخَارِيّ وَغَيره أَنه كَانَ من أهل الصّفة، وَكَانَ
واليا على حمص فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
(8/112)
5131 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله
قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ عَن الزهْرِيِّ
عنْ سَعِيدِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: أسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ فإنْ تَكُ صالِحَةً
فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ وَإنْ تَكُ سِوَى ذالِكَ
فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عنْ رِقَابِكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ،
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد
بن مُسلم.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة، وَزُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن
مُسَدّد يبلغ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن
منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن
مَاجَه عَن ابْن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار، كلهم عَن
سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حفظناه) ، ويروى: (حفظته) .
قَوْله: (عَن الزُّهْرِيّ) ، هُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي
بِكَلِمَة: عَن، وَفِي رِوَايَة غَيره: من، بدل: عَن.
قَوْله: (أَسْرعُوا) ، أَمر من الْإِسْرَاع وَلَيْسَ
المُرَاد بالإسراع شدَّة الْإِسْرَاع، بل المُرَاد
الْمُتَوَسّط بَين شدَّة السَّعْي وَبَين الْمَشْي
الْمُعْتَاد، بِدَلِيل قَوْله فِي حَدِيث أبي بكرَة:
(وَإِنَّا لنكاد أَن نرمل) ، ومقاربة الرمل لَيْسَ بالسعي
الشَّديد، قَالَه شَيخنَا زين الدّين. قلت: فِي رِوَايَة
أبي دَاوُد (عَن عُيَيْنَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه:
أَنه كَانَ فِي جَنَازَة عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ،
وَكُنَّا نمشي مشيا خَفِيفا. فلحقنا أَبُو بكرَة، فَرفع
صَوته فَقَالَ: لقد رَأَيْتنَا وَنحن مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نرمل رملاً) . قَوْله: (نرمل) ، من
رمل رملاً ورملانا: إِذا أسْرع فِي الْمَشْي، وهز
مَنْكِبه. قلت: مُرَاده الْإِسْرَاع الْمُتَوَسّط، وَيدل
عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، فِي (مُصَنفه) من
حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: (إِن أَبَاهُ أوصاه قَالَ:
إِذا أَنْت حَملتنِي على السرير فامشِ مشيا بَين المشيين،
وَكن خلف الْجِنَازَة، فَإِن مقدمها للْمَلَائكَة
وَخَلفهَا لبني آدم) . قَوْله: (بالجنازة) أَي: يحملهَا
إِلَى قبرها. وَقيل: المُرَاد الْإِسْرَاع بتجهيزها وتعجيل
الدّفن بعد تَيَقّن مَوته، لحَدِيث حُصَيْن بن وحوح (إِن
طَلْحَة بن الْبَراء مرض، فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أرى طَلْحَة
إلاَّ وَقد حدث بِهِ الْمَوْت، فآذنوني بِهِ وعجلوا
فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لجيفة مُسلم أَن تحبس بَين ظهراني
أَهله) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قلت: حُصَيْن، بِضَم
الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَابْن وحوح
بواوين مفتوحتين، وحائين مهملتين أولاهما سَاكِنة، وَهُوَ
أَنْصَارِي لَهُ صُحْبَة. قيل: إِنَّه مَاتَ بالعذيب، روى
لَهُ أَبُو دَاوُد، وروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن من
حَدِيث ابْن عمر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يَقُول: (إِذا مَاتَ أحدكُم فَلَا تَحْبِسُوهُ،
وأسرعوا بِهِ إِلَى قَبره) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
الأول: أظهر، وَقَالَ النَّوَوِيّ الثَّانِي: بَاطِل
مَرْدُود، بقوله فِي الحَدِيث: (تضعونة عَن رِقَابكُمْ) ،
ورد عَلَيْهِ بِأَن الْحمل على الرّقاب قد يعبر بِهِ عَن
الْمعَانِي، كَمَا تَقول: حمل فلَان على رقبته ذنوبا،
فَيكون الْمَعْنى: استريحوا من نظر من لَا خير فِيهِ،
وَيدل عَلَيْهِ أَن الْكل لَا يحملونه. قلت: وَيُؤَيِّدهُ
حَدِيث أبي دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ الْمَذْكُور. قَوْله:
(فَإِن تَكُ) ، أَصله: فَإِن تكن، حذفت النُّون
للتَّخْفِيف، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى
الْجِنَازَة الَّتِي هِيَ عبارَة عَن الْمَيِّت. قَوْله:
(صَالِحَة) ، نصب على الخبرية. قَوْله: (فَخير) ، مَرْفُوع
على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: فَهُوَ (وَخير،
تقدمونها إِلَيْهِ) يَوْم الْقِيَامَة، أَو: هُوَ،
مُبْتَدأ أَي: فثمة خير تقدمون الْجِنَازَة إِلَيْهِ،
يَعْنِي حَاله فِي الْقَبْر حسن طيب فَأَسْرعُوا بهَا
حَتَّى تصل إِلَى تِلْكَ الْحَالة قَرِيبا. قَوْله:
(إِلَيْهِ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْخَيْر
بِاعْتِبَار الثَّوَاب. وَقَالَ ابْن مَالك: رُوِيَ:
(تقدمونه إِلَيْهَا) أَي: تقدمون الْمَيِّت إِلَيْهَا أَي:
إِلَى الْخَيْر، وَأَنت الضَّمِير على تَأْوِيل الْخَيْر
بِالرَّحْمَةِ أَو الْحسنى، قَوْله: (فشر) إعرابه مثل
إِعْرَاب: (فَخير) . قَوْله: (تضعونه) أَي: إِنَّهَا
بعيدَة من الرَّحْمَة فَلَا مصلحَة لكم فِي مصاحبتها.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بالإسراع وَنقل
ابْن قدامَة أَن الْأَمر فِيهِ للاستحباب بِلَا خلاف بَين
الْعلمَاء. وَقَالَ ابْن حزم: وُجُوبه، وَفِي (شرح
الْمُهَذّب) : جَاءَ عَن بعض السّلف كَرَاهَة الْإِسْرَاع
بالجنازة، وَلَعَلَّه يكون مَحْمُولا على الْإِسْرَاع
المفرط الَّذِي يخَاف مِنْهُ انفجار الْمَيِّت، وَخُرُوج
شَيْء مِنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمرَاد بالإسراع شدَّة
الْمَشْي، وعَلى ذَلِك حمله بعض السّلف، وَهُوَ قَول
الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : ويمشون بهَا
مُسْرِعين دون الخبب. وَفِي (الْمَبْسُوط) : لَيْسَ فِيهِ
شَيْء موقت، غير إِن العجلة أحب إِلَى أبي حنيفَة. قلت:
قَوْله: وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، غير صَحِيح، وَلم يقل
أحد مِنْهُم بِشدَّة الْمَشْي، وعذا احب (الْهِدَايَة)
الَّذِي لَا يذكر إلاَّ مَا هُوَ الْعُمْدَة عِنْد أبي
حنيفَة، يَقُول: ويمشون بهَا مُسْرِعين دون الخبب،
وَقَوله: دون الخبب، يدل على أَن المُرَاد
(8/113)
من الْإِسْرَاع: الْإِسْرَاع الْمُتَوَسّط
لَا شدَّة الْإِسْرَاع الَّتِي هِيَ الخبب، وَهُوَ
الْعَدو. وَكَذَلِكَ المُرَاد من قَول صَاحب (الْمَبْسُوط)
: العجلة أحب هِيَ العجلة المتوسطة لَا الشَّدِيدَة،
وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل يَقُول شدَّة الْمَشْي قَول
الْحَنَفِيَّة، ثمَّ يذكر عَن كتابين معتبرين فِي
الْمَذْهَب مَا يدل على نفي شدَّة الْمَشْي، لِأَن قَوْله:
دون الخبب، هُوَ شدَّة الْمَشْي وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي
(الْمعرفَة) قَالَ الشَّافِعِي: الْإِسْرَاع بالجنازة هُوَ
فَوق سجية الْمَشْي الْمُعْتَاد، وَيكرهُ الْإِسْرَاع
الشَّديد. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة
عَطاء قَالَ: حَضَرنَا مَعَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، جَنَازَة مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، بسرف، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هَذِه مَيْمُونَة
إِذا رفعتم نعشها فَلَا تزعزعوه وَلَا تزلزلوه وارفقوا.
وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن مُحَمَّد بن
فُضَيْل عَن بنت أبي بردة (عَن أبي مُوسَى، قَالَ: مر على
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِجنَازَة وَهِي تمحض
كَمَا يمحض الزق، فَقَالَ: عَلَيْكُم بِالْقَصْدِ فِي
جنائزكم) وَهَذَا يدل على اسْتِحْبَاب الرِّفْق بالجنازة
وَترك الْإِسْرَاع قلت: أما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ
أَرَادَ الرِّفْق فِي كَيْفيَّة الْحمل لَا فِي كَيْفيَّة
الْمَشْي بهَا، وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فَإِنَّهُ
مُنْقَطع بَين بنت أبي بردة وَبَين أبي مُوسَى، وَمَعَ
ذَلِك فَهُوَ ظَاهر فِي أَنه كَانَ يفرط فِي الْإِسْرَاع
بهَا، وَلَعَلَّه خشِي انفجارها أَو خُرُوج شَيْء مِنْهُ،
وَكَذَا الحكم عِنْد ذَلِك فِي كل مَوضِع. وَفِيه:
اسْتِحْبَاب الْمُبَادرَة إِلَى دفن الْمَيِّت، لَكِن بعد
تحقق مَوته، فَإِن من المرضى من يخفى مَوته وَلَا يظْهر
إلاَّ بعد مُضِيّ زمَان، كالمسبوت وَنَحْوه، وَعَن ابْن
بزيزة: يَنْبَغِي أَن لَا يسْرع بتجهيزهم حَتَّى يمْضِي
يَوْم وَلَيْلَة ليتَحَقَّق مَوْتهمْ. وَفِيه: مجانبة
صُحْبَة أهل البطالة وصحبة غير الصَّالِحين.
25 - (بابُ قَوْلِ المَيِّتِ وَهْوَ عَلَى الجِنَازَةِ
قَدِّمُونِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الْمَيِّت وَهُوَ على
النعش: قدموني، وَهَذَا القَوْل إِذا كَانَ صَالحا.
6131 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَ
أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ
كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إذَا
وُضِعَتِ الجِنَازَةُ فاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى
أعْنَاقِهِمْ فإنْ كانَتْ صَالِحَةً قالَتْ قَدِّمُونِي
وَإنْ كانَتْ غَيْرَ صالِحَةٍ قالَتْ لأِهْلِهَا يَا
وَيْلَهَا أيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا
كُلُّ شَيءٍ إلاَّ الإنْسَانَ ولَوْ سَمِعَ الإنْسَانُ
لَصَعِقَ.
(أنظر الحَدِيث 4131 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَول الْجِنَازَة (قدموني) .
وَرِجَاله مضوا غير مرّة، وَسَعِيد المَقْبُري يروي عَن
أَبِيه كيسَان عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث مر فِي الْبَاب
الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى.
قَوْله: (إِذا وضعت الْجِنَازَة) فِيهِ احْتِمَالَانِ.
الأول: أَن يكون المُرَاد من الْجِنَازَة نفس الْمَيِّت،
وبوضعه جعله على السرير. وَالثَّانِي: أَن يكون المُرَاد
النعش، ووضعها على الْأَعْنَاق، وَالظَّاهِر هُوَ الأول،
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة عبد الرَّحْمَن ابْن مولى أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أوصى أَبُو
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا أَنا مت فَلَا
تضربوا عَليّ فسطاطا وَلَا تتبعوني بِنَار، وأسرعوا بِي،
فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَقُول: (إِن الْمُؤمن إِذا وضع على سَرِيره قَالَ: قدموني
قدموني، فَإِن الْكَافِر إِذا وضع على سَرِيره قَالَ: يَا
ويله أَيْن تذهبون بِهِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد عَن عبد
الرَّحْمَن إِلَى آخِره. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا
يَقُول ذَلِك الرّوح، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مَانع
أَن يرد الله الرّوح إِلَى الْجَسَد فِي تِلْكَ الْحَال
ليَكُون ذَلِك زِيَادَة فِي بشرى الْمُؤمن وبؤسا
للْكَافِرِ. وَأجِيب: بِأَن دَعْوَى إِعَادَة الرّوح إِلَى
الْجَسَد قبل الدّفن يحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَالله عز وَجل
قَادر على أَن يحدث نطقا فِي الْمَيِّت إِذا شَاءَ.
وَقَالَ ابْن بزيزة: فِي قَوْله: (يسمع صَوتهَا كل شَيْء)
. هُوَ بِلِسَان الْمقَال لَا بِلِسَان الْحَال، وَكَذَا
قَالَ فِي قَوْله: (لصعق) أَنه مُخْتَصّ بِالْمَيتِ
الَّذِي هُوَ غير صَالح، وَأما الصَّالح فَمن شَأْنه اللطف
والرفق فِي كَلَامه، فَلَا يُنَاسب الصَّعق من سَماع
كَلَامه. قَوْله: (وَإِن كَانَت غير ذَلِك) ، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (وَإِن كَانَت غير صَالِحَة) ،
وَاسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على أَن كَلَام
الْمَيِّت يسمعهُ كل حَيَوَان غير الْإِنْسَان، وَقَالَ
ابْن بطال:
(8/114)
الْمَعْنى يسْمعهَا من لَهُ عقل كالملائكة
وَالْجِنّ لِأَن الْمُتَكَلّم روح إِنَّمَا يسمع الرّوح من
هُوَ مثله، ورد بِأَنَّهُ لَا مَانع من إنطاق الله
تَعَالَى الْجَسَد بِغَيْر روح، وَهُوَ على كل شَيْء قدير.
35 - (بابُ مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أوْ ثَلاَثَةً عَلَى
الجَنَازَةِ خَلْفَ الإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من صف النَّاس صفّين أَو
ثَلَاثَة صُفُوف على الْجِنَازَة خلف الإِمَام، وَاعْترض
على هَذِه التَّرْجَمَة من وَجْهَيْن: الأول: أَن فِي
حَدِيث الْبَاب قَول جَابر: كنت فِي الصَّفّ الثَّانِي
وَالثَّالِث، لَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون مُنْتَهى
الصُّفُوف، وَالثَّانِي: لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على كَون
الصُّفُوف خلف الإِمَام. وَأجِيب: عَن الأول: بِأَن فِي
حَدِيث مُسلم عَن جَابر: فقمنا فصففنا صفّين، فَدلَّ هَذَا
أَن قَوْله: وَالثَّالِث، شكّ هَل كَانَ هُنَاكَ صف ثَالِث
أم لَا. وَعَن الثَّانِي: بِأَن البُخَارِيّ روى فِي
هِجْرَة الْحَبَشَة عَن قَتَادَة بِهَذَا الْإِسْنَاد
بِزِيَادَة: (فصفنا وَرَاءه) وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة بِلَفْظ: فصفوا خَلفه، وَالْأَحَادِيث يُفَسر
بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمخْرج
وَاحِدًا وَالْأَصْل متحدا.
7131 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ أبِي عَوَانَةَ عنْ
قَتَادَةَ عنْ عَطَاءٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ فَكُنْتُ فِي
الصَّفِّ الثَّانِي أوِ الثَّالِثِ..
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث قد
ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَأَبُو عوَانَة الوضاح بن عبد الله
الْيَشْكُرِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن
يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة
بِهِ.
قَوْله: (النَّجَاشِيّ) ملك الْحَبَشَة بتَخْفِيف الْيَاء،
قَالَ صَاحب (الْمغرب) : سَمَاعا من الثِّقَات، وَهُوَ
اخْتِيَار الفارابي، وَعَن صَاحب (التكملة) بِالتَّشْدِيدِ
وَعَن الْهَرَوِيّ كلتا اللغتين، وَأما تَشْدِيد الْجِيم
فخطأ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتِحْبَاب صف أَو صفّين
وَرَاء الإِمَام فِي الصَّلَاة على الْمَيِّت.
45 - (بابُ الصُّفُوفِ عَلَى الجِنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصُّفُوف فِي الصَّلَاة على
الْجِنَازَة.
8131 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ
زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عَن
سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
قَالَ نَعى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى
أصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا
خَلْفَهُ فَكَبَّر أرْبَعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصفوا خَلفه) ،
لِأَنَّهُ يدل على الصُّفُوف، إِذْ الْغَالِب أَن
الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَعَ كَثْرَة
الْمُلَازمَة للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسعون
صفا أَو صفّين. فَإِن قلت: الحَدِيث لَا يدل على
الْجِنَازَة؟ قلت: المُرَاد من الْجِنَازَة الْمَيِّت،
سَوَاء كَانَ مَدْفُونا أَو غير مدفون. فَإِن قلت:
أَحَادِيث الْبَاب لَيْسَ فِيهَا صَلَاة على جَنَازَة،
وَإِنَّمَا فِيهَا الصَّلَاة على الْغَائِب أَو على من فِي
الْقَبْر. قلت: الاصطفاف إِذا شرع والجنازة غَائِبَة فَفِي
الْحَاضِرَة أولى.
وَيزِيد من الزِّيَادَة وزريع، بِضَم الزَّاي وَفتح
الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَمعمر، بِفَتْح
الميمين: ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ: مُحَمَّد بن مُسلم،
وَسَعِيد ابْن الْمسيب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن أَحْمد
بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن
رَافع، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
وَقَالَ ابْن بطال: أَوْمَأ المُصَنّف إِلَى الرَّد على
عَطاء حَيْثُ ذهب إِلَى أَنه لَا يشرع فِيهَا تَسْوِيَة
الصُّفُوف، كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج،
قَالَ: قلت لعطاء: أَحَق على الناى أَن يسووا صفوفهم على
الْجَنَائِز كَمَا يسوونها فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا،
إِنَّمَا يكبِّرون وَيَسْتَغْفِرُونَ. وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: يَنْبَغِي لأهل الْمَيِّت إِذا لم يخشوا
عَلَيْهِ التَّغَيُّر أَن ينتظروا بِهِ اجْتِمَاع قوم
حَتَّى يقوم مِنْهُم ثَلَاثَة صُفُوف لهَذَا الحَدِيث.
قلت: لأجل ذَلِك ذكر البُخَارِيّ: بَاب الصُّفُوف،
بِصِيغَة الْجمع، وَجعل الصُّفُوف ثَلَاثًا مُسْتَحبّ لما
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث مَالك بن
هُبَيْرَة مَرْفُوعا: (من صلى عَلَيْهِ ثَلَاث صُفُوف
(8/115)
فقد أوجب) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
وَحسنه، وَصَححهُ الْحَاكِم، وَفِي رِوَايَة: (إلاَّ غفر
لَهُ) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَمُوت أحد
من الْمُسلمين فَيصَلي عَلَيْهِ أمة من الْمُسلمين يبلغُوا
أَن يَكُونُوا مائَة يشفعوا لَهُ إلاَّ شفعوا فِيهِ) .
وَرَوَاهُ أَيْضا مُسلم وَالنَّسَائِيّ. وروى ابْن مَاجَه
بِسَنَد صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من صلى عَلَيْهِ مائَة من
الْمُسلمين غفر لَهُ) وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي
الْمليح: حَدثنِي عبد الله عَن إِحْدَى أُمَّهَات
الْمُؤمنِينَ وَهِي مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: أَخْبرنِي النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا من ميت يُصَلِّي عَلَيْهِ أمة
من النَّاس إلاَّ شفعوا فِيهِ، فَسَأَلت أَبَا الْمليح عَن
الْأمة قَالَ: أَرْبَعُونَ) . وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَابْن مَاجَه من رِوَايَة شريك بن عبد الله عَن كريب،
قَالَ: مَاتَ ابْن لِابْنِ عَبَّاس بِقديد أَو بعسفان،
فَقَالَ: يَا كريب أنظر مَا اجْتَمعُوا لَهُ من النَّاس؟
فَخرجت فَإِذا النَّاس قد اجْتَمعُوا لَهُ، فَأَخْبَرته
فَقَالَ: أَتَقول وهم أَرْبَعُونَ؟ قلت: نعم، قَالَ:
أَخْرجُوهُ، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من رجل مُسلم يَمُوت فَيقوم
على جنَازَته أَرْبَعُونَ رجلا لَا يشركُونَ بِاللَّه
شَيْئا إلاَّ شفعهم الله فِيهِ) . فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع
بَين هَذِه الْأَحَادِيث؟ قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: إِن
هَذِه الْأَحَادِيث خرجت أجوبة لسائلين سَأَلُوا عَن
ذَلِك، فَأجَاب كل وَاحِد عَن سُؤَاله، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أخبر بِقبُول شَفَاعَة مائَة فَأخْبر بِهِ. ثمَّ
بِقبُول شَفَاعَة أَرْبَعِينَ، ثمَّ ثَلَاثَة صُفُوف.
وَإِن قل عَددهمْ فأخبريه وَيحْتَمل أَن يُقَال: هَذَا
مَفْهُوم عدد وَلَا يحْتَج بِهِ جَمَاهِير
الْأُصُولِيِّينَ، فَلَا يلْزم من الْإِخْبَار عَن قبُول
شَفَاعَة مائَة منع قبُول مَا دون ذَلِك، وَكَذَا فِي
الْأَرْبَعين مَعَ ثَلَاثَة صُفُوف.
قَوْله: (فَكبر أَرْبعا) ، يدل على أَن تَكْبِيرَات
الْجِنَازَة أَربع، وَبِه احْتج جَمَاهِير الْعلمَاء
مِنْهُم: مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَعَطَاء ابْن أبي
رَبَاح وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وسُويد بن
غَفلَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد. ويحكى ذَلِك عَن: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله
وَزيد بن ثَابت وَجَابِر وَابْن أبي أوفى وَالْحسن بن
عَليّ والبراء بن عَازِب وَأبي هُرَيْرَة وَعقبَة ابْن
عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذهب قوم إِلَى أَن
التَّكْبِير على الْجَنَائِز خمس، مِنْهُم عبد الرَّحْمَن
بن أبي ليلى وَعِيسَى مولى حُذَيْفَة وَأَصْحَاب معَاذ بن
جبل وَأَبُو يُوسُف من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَهُوَ مَذْهَب
الشِّيعَة والظاهرية. وَقَالَ الْحَازِمِي: وَمِمَّنْ رأى
التَّكْبِير على الْجَنَائِز خمْسا ابْن مَسْعُود وَزيد بن
أَرقم وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان. وَقَالَت فرقة: يكبر
سبعا، رُوِيَ ذَلِك عَن زر بن حُبَيْش، وَقَالَت فرقة:
يكبر ثَلَاثًا، رُوِيَ ذَلِك عَن أنس وَجَابِر بن زيد،
وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن يزِيد
عَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على حَمْزَة فَكبر عَلَيْهِ تسعا،
ثمَّ جِيءَ بِأُخْرَى فَكبر عَلَيْهَا سبعا ثمَّ جِيءَ
بِأُخْرَى فَكبر عَلَيْهَا خمْسا، حَتَّى فرغ مِنْهُنَّ،
غير أَنَّهُنَّ وترا) . وَقَالَ ابْن قدامَة: لَا يخْتَلف
الْمَذْهَب أَنه لَا تجوز الزِّيَادَة على سبع
تَكْبِيرَات، وَلَا النَّقْص من أَربع، وَالْأولَى أَربع
لَا يُزَاد عَلَيْهَا. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيمَا بَين
ذَلِك، فَظَاهر كَلَام الْخرقِيّ أَن الإِمَام إِذا كبر
خمْسا تَابعه الْمَأْمُوم وَلَا يُتَابِعه فِي زِيَادَة
عَلَيْهَا، وَرَوَاهُ الْأَثْرَم عَن أَحْمد، وروى حَرْب
عَن أَحْمد: إِذا كبر خمْسا لَا يكبر مَعَه وَلَا يسلم
إلاَّ مَعَ الإِمَام، وَمِمَّنْ لَا يرى مُتَابعَة
الإِمَام فِي زِيَادَة على أَربع: الثَّوْريّ وَمَالك
وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل:
وَاحْتج الَّذين ذَهَبُوا إِلَى أَن التَّكْبِير على
الْجِنَازَة خمس بِحَدِيث زيد بن أَرقم، أخرجه مُسلم من
حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى قَالَ: كَانَ زيد بن
أَرقم يكبر على جنائزنا أَرْبعا، وَأَنه كبر على جَنَازَة
خمْسا، فَسَأَلته، فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يكبرها. وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا.
والطَّحَاوِي، وَبِحَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان أخرجه
الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا
عِيسَى بن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن
مُسلم عَن يحيى بن عبد الله التَّمِيمِي، قَالَ: صليت مَعَ
عِيسَى مولى حُذَيْفَة بن الْيَمَان على جَنَازَة فَكبر
عَلَيْهَا خمْسا، ثمَّ الْتفت إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا وهمت
وَلَا نسيت، وَلَكِنِّي كَبرت كَمَا كبر مولَايَ وَولي
نعمتي، يَعْنِي حُذَيْفَة بن الْيَمَان، صلى على جَنَازَة
فَكبر عَلَيْهَا خمْسا، ثمَّ الْتفت إِلَيْنَا فَقَالَ:
مَا وهمت وَلَا نسيت وَلَكِنِّي كَبرت كَمَا كبر رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِحَدِيث عَمْرو بن
عَوْف، أخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة كثير بن عبد الله
عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كبر خمْسا، وَاسم جده عَمْرو ابْن عَوْف الْمُزنِيّ.
وَالْجَوَاب عَن الأحديث الَّتِي فِيهَا التَّكْبِير على
الْجِنَازَة بِأَكْثَرَ من أَربع: أَنَّهَا مَنْسُوخَة،
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن إِبْرَاهِيم،
قَالَ: قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس
مُخْتَلفُونَ فِي التَّكْبِير على الْجِنَازَة، لَا تشَاء
أَن تسمع رجلا يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يكبر سبعا، وَآخر يَقُول: سَمِعت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر خمْسا، وَآخر يَقُول:
سَمِعت رَسُول الله،
(8/116)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر أَرْبعا
إِلَّا سمعته، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِك، فَكَانُوا على
ذَلِك حَتَّى قبض أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فَلَمَّا ولي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَأى
اخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِك شقّ عَلَيْهِ جدا، فَأرْسل
إِلَى رجال من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ: إِنَّكُم معاشر أَصْحَاب رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مَتى تختلفون على النَّاس
يَخْتَلِفُونَ من بعدكم، وَمَتى تجتمعون على أَمر يجْتَمع
النَّاس عَلَيْهِ، فانظروا أمرا تجتمعون عَلَيْهِ،
فَكَأَنَّمَا أيقظهم، فَقَالُوا: نعم مَا رَأَيْت يَا
أَمِير الْمُؤمنِينَ فأشر علينا، فَقَالَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: بل أَشِيرُوا عَليّ، فَإِنَّمَا أَنا بشر
مثلكُمْ، فتراجعوا الْأَمر بَينهم فَأَجْمعُوا أَمرهم على
أَن يجْعَلُوا التَّكْبِير على الْجَنَائِز مثل
التَّكْبِير فِي الْأَضْحَى، وَالْفطر أَربع تَكْبِيرَات،
فأجمع أَمرهم على ذَلِك، فَهَذَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قد رد الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى أَربع تَكْبِيرَات
بمشورة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بذلك، وهم حَضَرُوا من فعل رَسُول الله. مَا رَوَاهُ
حُذَيْفَة وَزيد بن أَرقم، فَكَانُوا مَا فعلوا، فَمن
ذَلِك عِنْدهم هُوَ أولى مِمَّا قد كَانُوا فَذَلِك نسخ
لما كَانُوا قد عمِلُوا لأَنهم مأمونون على مَا قد فعلوا،
كَمَا كَانُوا مأمونين على مَا قد رووا. فَإِن قلت: كَيفَ
ثَبت النّسخ بِالْإِجْمَاع؟ لِأَن الْإِجْمَاع لَا يكون
إلاَّ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَوَان
النّسخ حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاتفاق
على أَن لَا نسخ بعده؟ قلت: قد جوز ذَلِك بعض مَشَايِخنَا
بطرِيق أَن الْإِجْمَاع يُوجب علم الْيَقِين كالنص، فَيجوز
أَن يثبت النَّص بِهِ، وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى
من الْخَبَر الْمَشْهُور، فَإِذا كَانَ النّسخ يجوز
بالْخبر الْمَشْهُور فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى، على أَن
ذَلِك الْإِجْمَاع مِنْهُم إِنَّمَا كَانَ على مَا اسْتَقر
عَلَيْهِ آخر أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الَّذِي قد رفع كل مَا كَانَ قبله مِمَّا يُخَالِفهُ،
فَصَارَ الْإِجْمَاع مظْهرا لما قد كَانَ فِي حَيَاة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَافْهَم. حَتَّى قَالَ
بَعضهم: إِن حَدِيث النَّجَاشِيّ هُوَ النَّاسِخ لِأَنَّهُ
مخرج فِي الصَّحِيح من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، قَالُوا:
وَأَبُو هُرَيْرَة مُتَأَخّر الْإِسْلَام، وَمَوْت
النَّجَاشِيّ كَانَ بعد إِسْلَام أبي هُرَيْرَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَمِمَّا يُؤَكد هَذَا مَا رَوَاهُ
قَاسم بن أصبغ من حَدِيث أبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي
حثْمَة عَن أَبِيه، (قَالَ: كَانَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يكبر على الْجَنَائِز أَرْبعا وخمسا وستا
وَسبعا وثمانيا، حَتَّى مَاتَ النَّجَاشِيّ فَخرج إِلَى
الْمصلى فَصف النَّاس من وَرَائه فَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا،
ثمَّ ثَبت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَربع
حَتَّى توفاه الله تَعَالَى.
وَفِيه: معْجزَة عَظِيمَة للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، حَيْثُ أعلم الصَّحَابَة بِمَوْت النَّجَاشِيّ فِي
الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَعَ بعد عَظِيم مَا بَين
أَرض الْحَبَشَة وَالْمَدينَة. وَفِيه: حجَّة للحنفية
والمالكية فِي منع الصَّلَاة على الْمَيِّت فِي
الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بهم
إِلَى الْمصلى فَصف بهم، وَصلى عَلَيْهِ، وَلَو سَاغَ أَن
يصلى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد لما خرج بهم إِلَى الْمصلى.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الْمُمْتَنع
عِنْد الْحَنَفِيَّة إِدْخَال الْمَيِّت الْمَسْجِد لَا
مُجَرّد الصَّلَاة عَلَيْهِ، حَتَّى لَو كَانَ الْمَيِّت
خَارج الْمَسْجِد جَازَت الصَّلَاة عَلَيْهِ لمن هُوَ
دَاخله. وَقَالَ ابْن بزيزة وَغَيره: اسْتدلَّ بِهِ بعض
الْمَالِكِيَّة، وَهُوَ بَاطِل، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
صِيغَة نهي لاحْتِمَال أَن يكون خرج بهم إِلَى الْمصلى
لأمر غير الْمَعْنى الْمَذْكُور، وَقد ثَبت أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلى على سُهَيْل بن بَيْضَاء فِي
الْمَسْجِد، فَكيف يتْرك هَذَا الصَّرِيح لأمر مُحْتَمل؟
بل الظَّاهِر أَنه إِنَّمَا خرج بِالْمُسْلِمين إِلَى
الْمصلى لقصد تَكْثِير الْجمع الَّذين يصلونَ عَلَيْهِ،
ولإشاعة كَونه مَاتَ على الْإِسْلَام، فقد كَانَ بعض
النَّاس لم يدر بِكَوْنِهِ أسلم. فقد روى ابْن أبي حَاتِم
فِي التَّفْسِير من طَرِيق ثَابت وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي
الْأَفْرَاد، وَالْبَزَّار من طَرِيق حميد، كِلَاهُمَا عَن
أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما صلى على النَّجَاشِيّ، قَالَ بعض
أَصْحَابه: صلى على علج من الْحَبَشَة، فَنزلت: {وَإِن من
أهل الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم} (آل
عمرَان: 991) . الْآيَة.
وَفِي الْأَوْسَط للطبراني من حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: أَن الَّذِي طعن بذلك فِيهِ كَانَ منافقا
قلت: قَول النَّوَوِيّ: لَا حجَّة فِيهِ غير صَحِيح لِأَن
تَعْلِيله بقوله: لِأَن الْمُمْتَنع. . إِلَى آخِره، يرد
قَوْله وَيبْطل مَا قَالَه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يفعل مُجَرّد الصَّلَاة على النَّجَاشِيّ فِي
الْمَسْجِد، مَعَ كَونه غَائِبا، فَدلَّ على الْمَنْع
وَإِن لم يكن الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، وَقَوله: حَتَّى
لَو كَانَ الْمَيِّت ... إِلَى آخِره، على تَعْلِيل من
يُعلل منع الصَّلَاة على الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد لخوف
التلوث من الْمَيِّت، وَأما بِالنّظرِ إِلَى مُطلق حَدِيث
أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (من صلى على
جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ) ، فالمنع
مُطلق. وَقَول ابْن بزيزة لَيْسَ فِيهِ صِيغَة النَّهْي
...
(8/117)
إِلَى آخِره مَرْدُود أَيْضا، لِأَن
إِثْبَات منع شَيْء غير مقتصر على الصِّيغَة، وتعليله
بِالِاحْتِمَالِ غير مُفِيد لدعواه، وَأما صلَاته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على سُهَيْل فَلَا ننكرها، غير أَن حَدِيث
أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ أَنه
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من صلى
على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ) ، وَأخرجه
ابْن مَاجَه أَيْضا وَلَفظه: (فَلَيْسَ لَهُ شَيْء)
وَقَالَ الْخَطِيب: الْمَحْفُوظ، (فَلَا شَيْء لَهُ)
ويروى: (فَلَا شَيْء عَلَيْهِ) ، وَرُوِيَ (فَلَا أجر
لَهُ) ، قد نسخ حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، بَيَانه أَن حَدِيث عَائِشَة إِخْبَار عَن فعل
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال الْإِبَاحَة
الَّتِي لم يتقدمها نهي، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة إِخْبَار
عَن نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قد
تقدمته الْإِبَاحَة، فَصَارَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة
نَاسِخا، وَيُؤَيِّدهُ إِنْكَار الصَّحَابَة على عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لأَنهم قد كَانُوا علمُوا
فِي ذَلِك خلاف مَا علمت، وَلَوْلَا ذَلِك مَا أَنْكَرُوا
ذَلِك عَلَيْهَا.
فَإِن قلت: مَا صُورَة الْإِنْكَار فِي ذَلِك؟ قلت: فِي
رِوَايَة مُسلم: (عَن عَائِشَة: لما توفّي سعد بن أبي
وَقاص قَالَت: ادخُلُوا بِهِ الْمَسْجِد حَتَّى أُصَلِّي
عَلَيْهِ، فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهَا) الحَدِيث، وَفِي
رِوَايَة لَهُ: (إِن النَّاس عابوا ذَلِك، وَقَالُوا: مَا
كَانَت الْجَنَائِز يدْخل بهَا الْمَسْجِد. .) الحَدِيث.
فَإِن قلت: لِمَ لَا يَجْعَل الْمُوجب للْإِبَاحَة
مُتَأَخِّرًا؟ قلت: يلْزم من ذَلِك إِثْبَات نسخين: نسخ
الْإِبَاحَة الثَّابِتَة فِي الِابْتِدَاء بِالنَّصِّ
الْمُوجب للحظر، ثمَّ نسخ الْحَظْر بِالنَّصِّ الْمُوجب
للْإِبَاحَة. فَإِن قلت: من أَي قبيل يكون هَذَا النّسخ؟
قلت: من قبيل النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن
يكون أحد النصين مُوجبا للحظر ثمَّ نسخ مُوجبا
للْإِبَاحَة، فَفِي مثل هَذَا يتَعَيَّن الْمصير إِلَى
النَّص الْمُوجب للحظر، وَإِلَى الْأَخْذ بِهِ، وَذَلِكَ
لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، والحظر طارىء
عَلَيْهَا فَيكون مُتَأَخِّرًا. فَإِن قلت: لَيْسَ بَين
الْحَدِيثين مُسَاوَاة، لِأَن حَدِيث عَائِشَة أخرجه
مُسلم، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة قد ضَعَّفُوهُ بِصَالح مولى
التومة، فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّوْفِيق. وَقَالَ
ابْن عدي: هَذَا من مُنكرَات صَالح، وَالْأَئِمَّة طعنوا
فِيهِ بِسَبَبِهِ، وَقَالُوا: إِنَّه ضَعِيف، وَقَالَ ابْن
حبَان فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : اخْتَلَط صَالح بآخر عمره
وَلم يتَمَيَّز حَدِيث حَدِيثه من قديمه، ثمَّ ذكر لَهُ
هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّه بَاطِل، وَكَيف يَقُول
الرَّسُول ذَلِك وَقد صلى على سُهَيْل ابْن بَيْضَاء فِي
الْمَسْجِد.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: أُجِيب عَن هَذَا بأجوبة. أَحدهَا:
أَنه ضَعِيف لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقَالَ أَحْمد:
هَذَا حَدِيث ضَعِيف تفرد بِهِ صَالح مولى التومة وَهُوَ
ضَعِيف. وَالثَّانِي: أَن الَّذِي فِي النّسخ
الْمَشْهُورَة المسموعة فِي (سنَن أبي دَاوُد) : فَلَا
شَيْء عَلَيْهِ، فَلَا صِحَة فِيهِ. وَالثَّالِث: أَن
اللَّام فِيهِ بِمَعْنى: على كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن
أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) . أَي: فعلَيْهَا. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: كَانَ مَالك يُخرجهُ. قلت: رجال هَذَا
ثِقَات يحْتَج بهم لَا نزاع فيهم، وَأما صَالح فَإِن
الْعجلِيّ قَالَ: صَالح ثِقَة، وَعَن ابْن معِين أَنه
قَالَ: صَالح ثِقَة حجَّة، قيل لَهُ: إِن مَالِكًا ترك
السماع مِنْهُ. قَالَ: إِنَّمَا أدْركهُ مَالك بَعْدَمَا
كبر وخرف، وَمن سمع مِنْهُ قبل أَن يخْتَلط فَهُوَ ثَبت.
وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ إِذا سمعُوا مِنْهُ
قَدِيما مثل ابْن أبي ذِئْب وَابْن جريج وَزِيَاد بن سعد
وَغَيرهم. انْتهى. فَعَن هَذَا علم أَنه لَا خلاف فِي
عَدَالَته وَابْن أبي ذِئْب سمع مِنْهُ هَذَا الحَدِيث
قَدِيما قبل اخْتِلَاطه، فَصَارَ الحَدِيث حجَّة. وَقَول
ابْن حبَان: إِنَّه بَاطِل، كَلَام بَاطِل لِأَن مثل أبي
دَاوُد أخرج هَذَا الحَدِيث وَسكت عَنهُ، فَأَقل الْأَمر
فِيهِ أَن يكون حسنا عِنْده، لِأَنَّهُ رضى بِهِ. وَأخرجه
ابْن أبي شيبَة أَيْضا، وَكَيف يجوز لَهُ الحكم بِبُطْلَان
هَذَا الحَدِيث؟ فَإِن كَانَ تشنيعه بِسَبَب اخْتِلَاط
صَالح، فقد ذكرنَا أَنه كَانَ قبل الِاخْتِلَاط مِمَّن
اثنى عَلَيْهِ بالثقة، وَأَن من أَخذ مِنْهُ قبله لَا يرد
مَا أَخذه مِنْهُ، وَأَن ابْن أبي ذِئْب أَخذ عَنهُ قبله،
وإلاَّ فَلَا يظْهر مِنْهُ إلاَّ التعصب الْمَحْض.
وَالْعجب مِنْهُ أَنه يَقُول: وَكَيف يَقُول رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك وَقد صلى على سُهَيْل؟
فَكَأَنَّهُ نسي بَاب النّسخ، وَمثل هَذَا كثير قد فعله
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تَركه،
وَبِهَذَا يرد أَيْضا مَا قَالَه النَّوَوِيّ، فَإِنَّهُ
أَيْضا مَا إِلَى مَا قَالَ ابْن حبَان وَقَوله: إِن
اللَّام، بِمَعْنى: على، عدُول عَن الْحَقِيقَة من غير
ضَرُورَة، وَلَا سِيمَا على أصلهم، فَإِن الْمجَاز
ضَرُورِيّ لَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة،
وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا، وَيرد عَلَيْهِ فِي ذَلِك أَيْضا
رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: فَلَا صَلَاة لَهُ، فَإِنَّهُ
لَا يُمكن أَن يَقُول: إِن: اللَّام، هُنَا بِمَعْنى: على،
لفساد الْمَعْنى. وَأما قَول الْبَيْهَقِيّ: كَانَ مَالك
يُخرجهُ، فَإِن مُرَاده فِيمَا أَخذ عَنهُ بعد
الِاخْتِلَاط.
وَأما حَدِيث مُسلم فِي ذَلِك فَإِن أَصله فِي (موطأ)
مَالك فَإِنَّهُ أخرجه فِيهِ عَن أبي النَّضر عَن عَائِشَة
قَالَ أَبُو عمر: هَكَذَا هَذَا الحَدِيث عِنْد جُمْهُور
الروَاة مُنْقَطِعًا إلاَّ أَن أَبَا النَّضر لم يسمع من
عَائِشَة شَيْئا، وَقَالَ ابْن وضاح: وَلَا أدْركهَا،
وَإِنَّمَا يروي عَن أبي سَلمَة عَنْهَا. قَالَ:
وَكَذَلِكَ أسْندهُ مُسلم، وَعمد عَلَيْهِ
الدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ: وَلَا يَصح إلاَّ مُرْسلا عَن
أبي النَّضر عَن عَائِشَة، لِأَنَّهُ قد خَالف فِي ذَلِك
رجلَانِ حَافِظَانِ: مَالك والماجشون رِوَايَة عَن أبي
النَّضر عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث الشَّافِعِي وَغَيره فِي
مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة على الْغَائِب، قَالُوا: وَهُوَ
سنة فِي حق من كَانَ
(8/118)
غَائِبا عَن بلد الْمَيِّت إِذا كَانَ فِي
بلد وَفَاته قد اسقطوا فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ. قَالَ
شَيخنَا زين الدّين: وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي. أما من
لم يحصل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي بلد وفاه، كَالْمُسلمِ
يَمُوت فِي بلد الْمُشْركين وَلَيْسَ فِيهِ مُسلم،
فَإِنَّهُ يجب على أهل الْإِسْلَام الصَّلَاة عَلَيْهِ
كَمَا فِي قصَّة النَّجَاشِيّ، وَقَالَ الْخطابِيّ:
النَّجَاشِيّ رجل مُسلم قد آمن برَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَصدقه على نبوته إلاَّ أَنه كَانَ يكتم
إيمَانه، وَالْمُسلم إِذا مَاتَ يجب على الْمُسلمين أَن
يصلوا عَلَيْهِ، إلاَّ أَنه كَانَ بَين ظهراني أهل
الْكفْر، وَلم يكن بِحَضْرَتِهِ من يقوم بِحقِّهِ فِي
الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَلَزِمَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن يفعل ذَلِك إِذْ هُوَ نبيه ووليه وأحق
النَّاس بِهِ، فَهَذَا وَالله أعلم هُوَ السَّبَب الَّذِي
دَعَاهُ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ بِظهْر الْغَيْب فَإِذا
صلوا عَلَيْهِ استقبلوا الْقبْلَة وَلم يتوجهوا إِلَى بلد
الْمَيِّت إِن كَانَ فِي غير جِهَة الْقبْلَة،
وَقَالَ الْخطابِيّ: وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى
كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب، وَزَعَمُوا
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَخْصُوصًا
بِهَذَا الْفِعْل، إِذْ كَانَ فِي حكم الْمشَاهد للنَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما روى فِي بعض الْأَخْبَار أَنه
قد سويت لَهُ الأَرْض حَتَّى يبصر مَكَانَهُ، وَهَذَا
تَأْوِيل فَاسد، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا فعل شَيْئا من أَفعَال الشَّرِيعَة كَانَ علينا
الْمُتَابَعَة والاتساء بِهِ، والتخصيص لَا يعلم إلاَّ
بِدَلِيل، وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خرج بِالنَّاسِ إِلَى الصَّلَاة فَصف بهم
وصلوا مَعَه، فَعلم أَن هَذَا التَّأْوِيل فَاسد. قلت:
هَذَا التَّشَيُّع كُله على الْحَنَفِيَّة من غير تَوْجِيه
وَلَا تَحْقِيق، فَنَقُول، مَا يظْهر لَك فِيهِ دفع
كَلَامه، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع
لَهُ سَرِيره فَرَآهُ، فَتكون الصَّلَاة عَلَيْهِ كميت
رَآهُ الإِمَام وَلَا يرَاهُ الْمَأْمُوم. فَإِن قلت:
هَذَا يحْتَاج إِلَى نقل بَيِّنَة وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ
بِمُجَرَّد الاجتمال. قلت: ورد مَا يدل على ذَلِك، فروى
ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عمرَان بن الْحصين أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن أَخَاكُم
النَّجَاشِيّ توفّي فَقومُوا صلوا عَلَيْهِ، فَقَامَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفوا خَلفه، فَكبر
أَرْبعا وهم لَا يظنون إلاَّ أَن جنَازَته بَين يَدَيْهِ)
. أخرجه من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير
عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَنهُ، وَلأبي عوَانَة
من طَرِيق أبان وَغَيره عَن يحيى: (فصلينا خَلفه وَنحن لَا
نرى إلاَّ الْجِنَازَة قدامنا) . وَذكر الواحدي فِي
(أَسبَابه) عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كشف للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سَرِير النَّجَاشِيّ حَتَّى رَآهُ
وَصلى عَلَيْهِ، وَيدل على ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يصل على غَائِب غَيره، وَقد مَاتَ من
الصَّحَابَة خلق كثير وهم غائبون عَنهُ وَسمع بهم فَلم يصل
عَلَيْهِم إلاَّ غَائِبا وَاحِدًا، ورد أَنه طويت لَهُ
الأَرْض حَتَّى حَضَره وَهُوَ مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة
الْمُزنِيّ، روى حَدِيث الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه
الْأَوْسَط) وَكتاب (مُسْند الشاميين) من حَدِيث أبي
أُمَامَة، قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بتبوك فَنزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن مُعَاوِيَة بن
مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، أَتُحِبُّ
أَن تطوى لَك الأَرْض فَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم،
فَضرب بجناحه على الأَرْض وَرفع لَهُ سَرِيره، فصلى
عَلَيْهِ وَخَلفه صفان من الْمَلَائِكَة فِي كل صف
سَبْعُونَ ألف ملك ثمَّ رَجَعَ) .
9131 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا الشَّيْبَانِيُّ عنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ أخبرَنِي
مَنْ شَهِدَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتَى عَلَى
قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أرْبَعا قُلْتُ
مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصفهم) ، وَمُسلم هُوَ
ابْن إِبْرَاهِيم، والشيباني، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة: هُوَ سُلَيْمَان، واسْمه فَيْرُوز أَبُو
إِسْحَاق الْكُوفِي، وَالشعْبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل
الْكُوفِي.
وَمن لطائف إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: إِبْهَام
الصَّحَابِيّ الَّذِي روى الحَدِيث ثمَّ تبيينه بِأَنَّهُ
عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد
مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب وضوء الصّبيان مَتى يجب
عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى عَن غنْدر عَن شُعْبَة. . إِلَى آخِره، نَحوه مَعَ
اخْتِلَاف فِي الْمَتْن، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا
يتَعَلَّق بِهِ من كل الْوُجُوه.
قَوْله: (حَدثنَا الشَّيْبَانِيّ عَن الشّعبِيّ)
وَهُنَاكَ: (سَمِعت سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ سَمِعت
الشّعبِيّ) . قَوْله: (من شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) وَهُنَاكَ: (من مر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على قبر منبوذ) . قَوْله: (فصفهم) ، وَهُنَاكَ:
(فَأمهمْ وصفوا) . قَوْله: (قلت من حَدثَك؟) . وَهُنَاكَ:
(فَقلت: يَا أَبَا عَمْرو من حَدثَك؟) . قَوْله: (قبر
منبوذ) بِالْإِضَافَة، وَالصّفة: قبر لَقِيط لِأَنَّهُ رمي
بِهِ، أَو قبر منتبذ عَن الْقُبُور أَي معتزل بعيد
عَنْهَا.
(8/119)
0231 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسى اقال
أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ
أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءٌ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَ
بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقُولُ
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ تُوُفِّيَ
اليوْمَ رَجُلٌ صالِحٌ منَ الحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا
عَلَيْهِ قَالَ فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وَنَحْنُ صُفُوفٌ قَالَ أبُو
الزُّبَيْرِ عنْ جَابِرٍ كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصففنا) ، وَفِي
قَوْله: (وَنحن صُفُوف) أَيْضا على رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي، فَإِن قَوْله: (وَنحن صُفُوف) فِي
الحَدِيث على رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَلَيْسَ ذَلِك فِي
رِوَايَة غَيره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى
بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق، يعرف بالصغير.
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن
الصَّنْعَانِيّ. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز
ابْن جريج. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس:
جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع،
وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه رازي
وَأَن هشاما من أَفْرَاده وَأَنه يماني وقاضيها وَابْن
جريج وَعَطَاء مكيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن أبي الرّبيع. وَأخرجه
مُسلم فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن عبيد
الْكُوفِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من الْحَبَش) ، وَهُوَ الصِّنْف
الْمَخْصُوص من السودَان. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَبَش
والحبشة، جنس من السودَان، وَالْجمع: الحبشان، مثل: حمل
وحملان. قَوْله: (فَهَلُمَّ) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: تعال،
وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع فِي لُغَة الْحجاز
وَأهل نجد يصرفونها، فَيَقُولُونَ: (هلما هلموا هَلُمِّي
هلما هلممنن. قَوْله: (وَنحن صُفُوف) ، وَالْوَاو فِيهِ
للْحَال، وَهَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: كَمَا ذكرنَا
آنِفا، قَالَ بَعضهم: وَبِه يَصح مَقْصُود التَّرْجَمَة.
قلت: الْمَقْصُود يحصل من قَوْله: (فصففنا) لِأَن قَوْله:
(وَنحن صُفُوف) لَيْسَ فِي غير رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي،
فَإِذا لم نعتبر فِيهَا. قَوْله: (فصففنا) لَا تبقى
الْمُطَابقَة. قَوْله: (قَالَ أَبُو الزبير) ، بِضَم
الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ مُحَمَّد بن
مُسلم بن تدرس، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَسُكُون الدَّال وَضم الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة،
مر فِي: بَاب من شكا إِمَامه، وَهَذَا وَصله النَّسَائِيّ
من طَرِيق شُعْبَة عَن أبي الزبير بِلَفْظ: (كنت فِي
الصَّفّ الثَّانِي يَوْم صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على النَّجَاشِيّ) .
55 - (بابُ صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ عَلَى
الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صُفُوف الصّبيان مَعَ
الرِّجَال عِنْد إِرَادَة الصَّلَاة فِي الْجَنَائِز،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: على الْجَنَائِز.
1231 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا الشَّيْبَانِي عنْ عَامِرٍ
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ
دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ مَتَى دُفِنَ هاذا قالُوا
البَارِحَةَ قَالَ أفَلاَ آذَنْتُمُونِي قالُوا دَفَنَّاهُ
فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أنْ نُوقِظَكَ فقامَ
فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وَأنَا فِيهِمْ
فَصَلَّى عَلَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ فِي وَقت مَا صلى مَعَهم
صَغِيرا، لِأَنَّهُ كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دون الْبلُوغ، لِأَنَّهُ شهد حجَّة
الْوَدَاع وَقد قَارب الِاحْتِلَام، فيطابق الحَدِيث
التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة. والْحَدِيث مضى فِي
الْبَاب السَّابِق، غير أَنه هَهُنَا أتم من ذَاك، ومُوسَى
بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري الْبَصْرِيّ
الَّذِي يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي، وَقد تكَرر ذكره،
وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْعَبْدي الْبَصْرِيّ،
والشيباني هُوَ سُلَيْمَان، وَقد مضى فِي الْبَاب
السَّابِق، وعامر هُوَ الشّعبِيّ وَقد مضى هُنَاكَ بنسبته.
قَوْله: (دفن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَنسبَة الدّفن
إِلَى الْقَبْر مجَاز، لِأَن المدفون هُوَ صَاحب
(8/120)
الْقَبْر وَهُوَ من قبيل ذكر الْمحل
وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (لَيْلًا) نصب على
الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (فَقَالُوا: البارحة) أَي: دفن
البارحة. قَالَ الْجَوْهَرِي: البارحة أقرب لَيْلَة مَضَت،
تَقول: مَا لَقيته البارحة، ولقيته البارحة الأولى، وَهُوَ
من: برح، أَي: زَالَ. قَوْله: (أَفلا آذنتموني؟) أَي:
أَفلا أعلمتموني؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الأحكم: الأول: فِيهِ جَوَاز
الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق عَطاء
(عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
دخل قبرا لَيْلًا فأسرج لَهُ بسراج، فَأخذ من الْقبْلَة
وَقَالَ: رَحِمك الله إِن كنت لأواها تلاء لِلْقُرْآنِ،
وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا) قَالَ: حَدِيث ابْن عَبَّاس
حَدِيث حسن، وَقَالَ: وَقد رخص أَكثر أهل الْعلم فِي
الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر بن
عبد الله، قَالَ: (رأى نَاس نَارا فِي الْمقْبرَة، فأتوها
فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَبْر،
وَإِذا هُوَ يَقُول: ناولوني صَاحبكُم، فَإِذا هُوَ الرجل
الَّذِي كَانَ يرفع صَوته بِالذكر) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم
وَصَححهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَسَنَده على شَرط
الشَّيْخَيْنِ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) :
حَدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة عَن أبي يُونُس الْبَاهِلِيّ،
قَالَ: سَمِعت شَيخا بِمَكَّة كَانَ أَصله روميا يحدث عَن
أبي ذَر قَالَ: كَانَ رجل يطوف بِالْبَيْتِ يَقُول: أوه
أوه. قَالَ أَبُو ذَر: فَخرجت ذَات لَيْلَة فَإِذا
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَقَابِر يدْفن
ذَلِك الرجل وَمَعَهُ مِصْبَاح. فَإِن قلت: روى مُسلم من
حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا:
يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خطب يَوْمًا
فَذكر رجلا من أَصْحَابه قبض فَكفن فِي كفن غير طائل وقبر
لَيْلًا، فزجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقبر
الرجل بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهِ إلاَّ أَن
يضْطَر إِنْسَان فِي ذَلِك، فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) ،
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. قلت:
يحْتَمل أَن يكون نهى عَن ذَلِك أَولا ثمَّ رخصه، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: الْمنْهِي عَنهُ الدّفن قبل الصَّلَاة. قلت:
الدّفن قبل الصَّلَاة منهيٌّ عَنهُ مُطلقًا، سَوَاء كَانَ
بِاللَّيْلِ أَو بِالنَّهَارِ، وَالظَّاهِر أَنه نهى عَن
الدّفن بِاللَّيْلِ، وَلَو كَانَ بعد الصَّلَاة وَيُؤَيّد
ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي (سنَنه) من حَدِيث أبي
الزبير: عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدفنوا
مَوْتَاكُم بِاللَّيْلِ إلاَّ أَن تضطروا) ، وَلَكِن بشكل
على هَذَا أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة دفنُوا لَيْلًا،
وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا:
وَدفن، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن
يصبح. وَفِي (الْمَغَازِي) لِلْوَاقِدِي: عَن عمْرَة عَن
عَائِشَة قَالَت: مَا علمنَا بدفن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى سمعنَا صَوت الْمساحِي فِي السحر
لَيْلَة الثُّلَاثَاء. وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَدفن
لَيْلَة الْأَرْبَعَاء.
الثَّانِي من الْأَحْكَام: فِيهِ الصَّلَاة على الْغَائِب،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
الثَّالِث: فِيهِ الصَّلَاة على الْجِنَازَة بالصفوف،
وَأَن لَهَا تَأْثِيرا، وَكَانَ مَالك بن هُبَيْرَة
الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يصف من يحضر
الصَّلَاة على الْجِنَازَة ثَلَاثَة صُفُوف، سَوَاء قلوا
أَو كَثُرُوا، وَلَكِن الْكَلَام فِيمَا إِذا تعدّدت
الصُّفُوف وَالْعدَد قَلِيل، أَو كَانَ الصَّفّ وَاحِدًا.
وَالْعدَد كثيرا أَيهمَا أفضل؟ وَعِنْدِي: الصُّفُوف أفضل،
وَالله أعلم.
الرَّابِع: فِيهِ تدريب الصّبيان على شرائع الْإِسْلَام
وحضورهم مَعَ الْجَمَاعَات ليستأنسوا إِلَيْهَا، وَتَكون
لَهُم عَادَة إِذا لزمتهم وَإِذا ندبوا إِلَى صَلَاة
الْجِنَازَة ليتدربوا إِلَيْهَا، وَهِي فرض كِفَايَة،
فَفرض الْعين أَحْرَى.
الْخَامِس: فِيهِ الْإِعْلَام للنَّاس بِمَوْت أحد من
الْمُسلمين لينهضوا إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ. السَّادِس:
فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة على قبر الْمَيِّت، قَالَ
أَصْحَابنَا: إِذا دفن الْمَيِّت وَلم يصل عَلَيْهِ صلى
على قَبره مَا لم يعلم أَنه تفرق، كَذَا فِي (الْمَبْسُوط)
وَهَذَا يُشِير إِلَى أَنه إِذا شكّ فِي تفرقه وتفسخه
يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقد نَص الْأَصْحَاب على أَنه لَا
يصلى عَلَيْهِ مَعَ الشَّك فِي ذَلِك، ذكره فِي
(الْمُفِيد) و (الْمَزِيد) وبقولنا قَالَ الشَّافِعِي
وَأحمد، وَهُوَ قَول عمر وَأبي مُوسَى وَعَائِشَة وَابْن
سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ ثمَّ هَل يشْتَرط فِي جَوَاز
الصَّلَاة على قَبره كَونه مَدْفُونا بعد الْغسْل؟
فَالصَّحِيح: أَنه يشْتَرط. وروى ابْن سَمَّاعَة عَن
مُحَمَّد أَنه لَا يشْتَرط. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) :
وَيصلى عَلَيْهِ قبل أَن يتفسخ، وَالْمُعْتَبر فِي ذَلِك
أكبر الرَّأْي، أَي: غَالب، فَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه
تفسخ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ غَالب الظَّن
أَنه لم يتفسخ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِذا شكّ لَا يُصَلِّي
عَلَيْهِ. وَعَن أبي يُوسُف: يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَى
ثَلَاثَة أَيَّام، وَبعدهَا لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَن
الصَّحَابَة كَانُوا يصلونَ على النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام.
وللشافعية سِتَّة أوجه: إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، إِلَى شهر
كَقَوْل أَحْمد، مَا لم يبل جسده. يُصَلِّي عَلَيْهِ من
كَانَ من أهل الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته. يُصَلِّي من
كَانَ من أهل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته.
يُصَلِّي عَلَيْهِ أبدا. فعلى هَذَا تجوز الصَّلَاة على
قُبُور الصَّحَابَة وَمن قبلهم الْيَوْم، وَاتَّفَقُوا على
تَضْعِيفه، وَمِمَّنْ صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ والمحاملي
والفواراني وَالْبَغوِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزالِيّ. وَقَالَ إِسْحَق يُصَلِّي القادم من السّفر
إِلَى شهر، والحاضر إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام. وَقَالَ
سَحْنُون من الْمَالِكِيَّة: لَا يصلى
(8/121)
على الْقَبْر، سدا للذريعة فِي الصَّلَاة
على الْقُبُور. وَقَالَ أَصْحَابنَا: لما اخْتلفت
الْأَحْوَال فِي ذَلِك فوض الْأَمر إِلَى رَأْي المبتلي
بِهِ. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قَتْلَى أحد بعد ثَمَان
سِنِين؟ قلت: حمل ذَلِك على الدُّعَاء، قَالَه بعض
أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى عَن
عقبَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا فصلى على
قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت. قلت: الْجَواب السديد
أَن أَجْسَادهم لم تبل.
65 - (بابُ سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سنة الصَّلَاة على
الْجِنَازَة، وَالْمرَاد من السّنة مَا شَرعه النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْجِنَازَة من
الشَّرَائِط، والأركان. وَمن الشَّرَائِط أَنَّهَا لَا
تجوز بِغَيْر الطَّهَارَة، وَلَا تجوز عُريَانا، وَلَا
تجوز بِغَيْر اسْتِقْبَال الْقبْلَة. وَمن الْأَركان:
التَّكْبِيرَات. وَقَالَ الْكرْمَانِي: غَرَض البُخَارِيّ
بَيَان جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة،
وَكَونهَا مَشْرُوعَة، وَإِن لم تكن ذَات الرُّكُوع
وَالسُّجُود فاستدل عَلَيْهِ تَارَة بِإِطْلَاق اسْم
الصَّلَاة عَلَيْهِ، والآمر بهَا. وَتارَة بِإِثْبَات مَا
هُوَ من خَصَائِص الصَّلَاة، نَحْو: عدم التَّكَلُّم
فِيهَا، وَكَونهَا مفتتحة بِالتَّكْبِيرِ مختتمة
بِالتَّسْلِيمِ وَعدم صِحَّتهَا إلاَّ بِالطَّهَارَةِ،
وَعدم أَدَائِهَا عِنْد الْوَقْت الْمَكْرُوه، وبرفع
الْيَد وَإِثْبَات الأحقية بِالْإِمَامَةِ، ولوجوب طلب
المَاء لَهُ وَالدُّخُول فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَيكون
استفتاحها بِالتَّكْبِيرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا
تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ} . فَإِنَّهُ أطلق الصَّلَاة
عَلَيْهِ، حَيْثُ نهى عَن فعلهَا، وبكونها ذَات صُفُوف
وَإِمَام، وَحَاصِله أَن الصَّلَاة لفظ مُشْتَرك بَين ذَات
الْأَركان الْمَخْصُوصَة من الرُّكُوع وَنَحْوه، وَبَين
صَلَاة الْجِنَازَة، وَهُوَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة فيهمَا.
انْتهى. قلت: فِي قَوْله: وَحَاصِله ... إِلَى آخِره،
فِيهِ نظر، لِأَن الصَّلَاة فِي اللُّغَة وَالدُّعَاء
والاتباع، وَقد اسْتعْملت فِي الشَّرْع فِيمَا لم يجد
فِيهِ الدُّعَاء والاتباع: كَصَلَاة الْأَخْرَس المنفردة،
وَصَلَاة من لَا يقدر على الْقِرَاءَة وَحده، ثمَّ إِن
الشَّارِع استعملها فِي غير مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَغلب
اسْتِعْمَالهَا فِيهَا بِحَيْثُ يتَبَادَر الذِّهْن إِلَى
الْمَعْنى الَّذِي استعملها الشَّارِع فِيهِ عِنْد
الْإِطْلَاق، وَهِي مجَاز هجرت حَقِيقَته بِالشَّرْعِ
فَصَارَت حَقِيقَة شَرْعِيَّة، وَلَيْسَت بمشتركة بَين
الصَّلَاة الْمَعْهُودَة فِي الشَّرْع وَبَين صَلَاة
الْجِنَازَة، فَلَا تكون حَقِيقَة شَرْعِيَّة فيهمَا،
وَلَا يفهم من كَلَام البُخَارِيّ الَّذِي نَقله عَنهُ
الْكرْمَانِي أَن إِطْلَاق لفظ الصَّلَاة على صَلَاة
الْجِنَازَة بطرِيق الْحَقِيقَة لَا بطرِيق الِاشْتِرَاك
بَين الصَّلَاة الْمَعْهُودَة وَصَلَاة الْجِنَازَة.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ صَلَّى
عَلَى الجَنَازَةِ
هَذَا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على جَوَاز إِطْلَاق
الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، فَإِنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من صلى على الْجِنَازَة ... فَأطلق
بِلَفْظ (صلى على الْجِنَازَة) ، وَلم يقل: من دَعَا
للجنازة، وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا طرف من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة أخرجه مَوْصُولا فِي: بَاب من انْتظر حَتَّى
تدفن، وَلَكِن لَفْظَة: (من شهد الْجِنَازَة حَتَّى
يُصَلِّي فَلهُ قِيرَاط) الحَدِيث، وَلَفظ مُسلم: (من صلى
على جَنَازَة وَلم يتبعهَا فَلهُ قِيرَاط، وَإِن تبعها
فَلهُ قيراطان) .
وَقَالَ صَلُّوا عَلَى صاحِبِكُمْ
هَذَا اسْتدلَّ بِهِ على مَا ذهب إِلَيْهِ من إِطْلَاق
الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ
عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ: (صلوا) ، وَهُوَ طرف من حَدِيث
سَلمَة بن الْأَكْوَع، أخرجه مَوْصُولا فِي أَوَائِل
الْحِوَالَة مطولا، وأوله: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أُتِي بِجنَازَة،
فَقَالُوا: صل عَلَيْهَا) الحَدِيث، وَفِيه: قَالَ: (هَل
عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: ثَلَاثَة دَنَانِير! قَالَ: صلوا
على صَاحبكُم) . الحَدِيث.
وَقَالَ صلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ
هَذَا أَيْضا بطرِيق الْأَمر، وَقد تقدم هَذَا فِي: بَاب
الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَلَكِن لَفظه هُنَا، فصلوا
عَلَيْهِ.
سَمَّاهَا صَلاَةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلاَ سُجُودٌ
أَي: سمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَيْئَة
الْخَاصَّة الَّتِي يدعى فِيهَا للْمَيت: صَلَاة،
وَالْحَال أَنه لَيْسَ فِيهَا رُكُوع وَلَا سُجُود،
وَلَكِن التَّسْمِيَة لَيست بطرِيق الْحَقِيقَة، وَلَا
بطرِيق الِاشْتِرَاك، وَلَكِن بطرِيق الْمجَاز.
وَلاَ يُتَكَلَّمُ فِيها وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ
أَي: وَلَا يتَكَلَّم فِي صَلَاة الْجِنَازَة، وَهَذَا
أَيْضا من جملَة جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة
الْجِنَازَة بِإِثْبَات مَا هُوَ من
(8/122)
خَصَائِص الصَّلَاة، وَهُوَ عدم
التَّكَلُّم فِي صَلَاة الْجِنَازَة كَالصَّلَاةِ. قَوْله:
(وفيهَا) أَي: وَفِي صَلَاة الْجِنَازَة (تَكْبِير
وَتَسْلِيم) كَمَا فِي الصَّلَاة. أما التَّكْبِير فَلَا
خلاف فِيهِ، وَأما التَّسْلِيم فمذهب أبي حنيفَة أَنه يسلم
تسليمتين، وَاسْتدلَّ لَهُ بِحَدِيث عبد الله بن أبي أوفى
أَنه يسلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله، فَلَمَّا انْصَرف
قَالَ: (لَا أَزِيدكُم على مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع أَو هَكَذَا يصنع) . رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: حَدِيث صَحِيح. وَفِي
(المُصَنّف) بِسَنَد جيد عَن جَابر بن زيد وَالشعْبِيّ
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَنهم كَانُوا يسلمُونَ
تسليمتين. وَفِي (الْمعرفَة) : روينَا عَن أبي عبد
الرَّحْمَن (عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: ثَلَاث
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعلهن، تركهن
النَّاس: إِحْدَاهُنَّ: التَّسْلِيم على الْجِنَازَة مثل
التسليمتين فِي الصَّلَاة، وَقَالَ قوم: يسلم تَسْلِيمَة
وَاحِدَة) روى ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر
وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَأبي أُمَامَة بن سهل وَأنس
وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد
وَإِسْحَاق.
ثمَّ: هَل يسرّ بهَا أَو يجْهر؟ فَعَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِخْفَاؤُهَا، وَعَن مَالك:
يسمع بهَا من يَلِيهِ، وَعَن أبي يُوسُف: لَا يجْهر كل
الْجَهْر وَلَا يسر كل الْإِسْرَار وَلَا يرفع يَدَيْهِ
إلاَّ عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، لما روى
التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، مَرْفُوعا: (إِذا صلى
على جَنَازَة يرفع يَدَيْهِ فِي أول تَكْبِيرَة) . وَزَاد
الدَّارَقُطْنِيّ: (ثمَّ لَا يعود) ، وَعَن ابْن عَبَّاس
عِنْده مثله بِسَنَد فِيهِ الْحجَّاج ابْن نصير. وَفِي
(الْمَبْسُوط) : أَن ابْن عمر وعليا، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، قَالَا: لَا ترفع الْيَد فِيهَا، إلاَّ عِنْد
تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن ابْن
مَسْعُود، وَابْن عمر، ثمَّ قَالَ: لم يَأْتِ بِالرَّفْع
فِيمَا عدا الأولى نَص وَلَا إِجْمَاع. وَحكى فِي
(المُصَنّف) عَن النَّخعِيّ وَالْحسن بن صَالح: أَن
الرّفْع فِي الأولى فَقَط، وَحكى ابْن الْمُنْذر
الْإِجْمَاع على الرّفْع فِي أول تَكْبِيرَة، وَعند
الشَّافِعِيَّة: يرفع فِي الْجَمِيع، وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : وَرُوِيَ مثل قَوْلنَا عَن ابْن عمر
وَسَالم وَعَطَاء وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق.
وكانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يُصَلِّي إلاَّ طاهِرا وَلاَ
تُصَلَّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبِهَا
وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
هَذَا أَيْضا مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على
إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة.
هَذِه ثَلَاث مسَائِل.
الأولى: أَن عبد الله ابْن عمر كَانَ لَا يُصَلِّي على
الْجِنَازَة إلاَّ بِطَهَارَة، وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ
غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الرَّد على الشّعبِيّ،
فَإِنَّهُ أجَاز الصَّلَاة على الْجِنَازَة بِغَيْر
طَهَارَة، قَالَ: لِأَنَّهُ دُعَاء لَيْسَ فِيهَا رُكُوع
وَلَا سُجُود. قَالَ: وَالْفُقَهَاء مجمعون من السّلف
وَالْخلف على خلاف قَوْله. انْتهى. قلت: وَقَالَ بِهِ
أَيْضا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ والشيعة، وَقَالَ
أَبُو عمر: قَالَ ابْن علية: الصَّلَاة على الْمَيِّت
اسْتِغْفَار، وَالِاسْتِغْفَار يجوز بِغَيْر وضوء، وأوصل
هَذَا التَّعْلِيق مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع
بِلَفْظ: أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: لَا يُصَلِّي الرجل
على الْجِنَازَة إلاَّ وَهُوَ طَاهِر. وَأما إِطْلَاق
الطَّهَارَة فَيتَنَاوَل الْوضُوء وَالتَّيَمُّم. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: يجوز التَّيَمُّم للجنازة مَعَ وجود المَاء
إِذا خَافَ فَوتهَا بِالْوضُوءِ، وَكَانَ الْوَلِيّ غَيره،
وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ،
وَعَطَاء وَسَالم وَالنَّخَعِيّ وَعِكْرِمَة وَسعد بن
إِبْرَاهِيم وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَرَبِيعَة وَاللَّيْث
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَابْن وهب،
وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد، وروى ابْن عدي عَن ابْن
عَبَّاس (مَرْفُوعا) (إِذا فجأتك جَنَازَة وَأَنت على غير
وضوء فَتَيَمم) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَنهُ
مَوْقُوفا. وَحَكَاهُ أَيْضا عَن الحكم وَالْحسن، وَقَالَ
مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: لَا يتَيَمَّم.
وَقَالَ ابْن حبيب: الْأَمر فِيهِ وَاسع، وَنقل ابْن
التِّين عَن ابْن وهب أَنه يتَيَمَّم إِذا خرج طَاهِرا
فأحدث، وَإِن خرج مَعهَا على غير طَهَارَة لم يتَيَمَّم.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: أَن عبد الله بن عمر مَا كَانَ
يُصَلِّي على الْجِنَازَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَلَا
عِنْد غُرُوبهَا لما روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) :
حَدثنَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن أنيس بن أبي يحيى عَن
أَبِيه أَن جَنَازَة وضعت، فَقَامَ ابْن عمر قَائِما
فَقَالَ: أَيْن ولي هَذِه الْجِنَازَة؟ ليصل عَلَيْهَا قبل
أَن يطلع قرن الشَّمْس. وَحدثنَا وَكِيع عَن جَعْفَر بن
برْقَان عَن مَيْمُون، قَالَ: كَانَ ابْن عمر يكره
الصَّلَاة على الْجِنَازَة إِذا طلعت الشَّمْس حَتَّى
تغيب، وَحدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي
بكر، يَعْنِي ابْن حَفْص، قَالَ: كَانَ ابْن عمر إِذا
كَانَت الْجِنَازَة صلى الْعَصْر ثمَّ قَالَ: عجلوا بهَا
قبل أَن تطفل الشَّمْس. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا
جَاءَ فِي كَرَاهَة الصَّلَاة على الْجِنَازَة عِنْد
طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، ثمَّ روى حَدِيث عقبَة
بن عَامر الْجُهَنِيّ: (ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينهانا أَن نصلي فِيهَا، ونقبر
فِيهِنَّ مَوتَانا، حِين تطلع الشَّمْس: بازغة حَتَّى
ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل، وَحين
تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب) . وَأخرجه مُسلم
وَبَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن أَيْضا، ثمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على
(8/123)
هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم، يكْرهُونَ
الصَّلَاة على الْجِنَازَة فِي هَذِه الْأَوْقَات، وَقَالَ
ابْن الْمُبَارك: معنى هَذَا الحَدِيث أَن نقبر فِيهِنَّ
مَوتَانا، يَعْنِي: الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَهُوَ
قَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا بَأْس
أَن يصلى على الْجِنَازَة فِي السَّاعَات الَّتِي تكره
فِيهَا الصَّلَاة.
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: هِيَ قَوْله: (وَيرْفَع
يَدَيْهِ) ، أَي: وَيرْفَع ابْن عمر يَدَيْهِ فِي صَلَاة
الْجِنَازَة، قَالَ بَعضهم: وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب
(رفع الْيَدَيْنِ) الْمُفْرد من طَرِيق عبيد الله بن عمر
عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي كل
تَكْبِيرَة على الْجِنَازَة. قلت: قَوْله: (وَيرْفَع
يَدَيْهِ) . مُطلق يتَنَاوَل الرّفْع فِي أول
التَّكْبِيرَات ويتناول الرّفْع فِي جَمِيعهَا، وَعدم
تَقْيِيد البُخَارِيّ ذَلِك يدل على أَن الَّذِي رَوَاهُ
فِي كتاب (رفع الْيَدَيْنِ) غير مرضِي عِنْده، إِذْ لَو
كَانَ رَضِي بِهِ لَكَانَ ذكره فِي (الصَّحِيح) أَو قيد
قَوْله: (وَيرْفَع يَدَيْهِ) بِلَفْظ: فِي التَّكْبِيرَات
كلهَا، على أَنا قد ذكرنَا عَن قريب أَن ابْن حزم حكى عَن
ابْن عمر أَنه لم يرفع إلاَّ فِي الأولى. وَقَالَ: لم
يَأْتِ فِيمَا عدا الأولى نَص وَلَا إِجْمَاع، وَذكرنَا
عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس مثله. فَإِن قلت: روى
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث نَافِع عَن
ابْن عمر أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي الْكل؟ قلت:
إِسْنَاده ضَعِيف فَلَا يحْتَج بِهِ، وَالله تَعَالَى
أعلم.
وَقَالَ الحَسَنُ أدْرَكْتُ النَّاسَ وَأحَقُّهُمْ عَلَى
جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ
هَذَا أَيْضا من جملَة مَا يسْتَدلّ بِهِ البُخَارِيّ على
جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، فَإِن
الَّذين أدركهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار
كَانُوا يلحقون صَلَاة الْجِنَازَة بالصلوات، وَلِهَذَا
مَا كَانَ أَحَق بِالصَّلَاةِ على الْجِنَازَة إلاَّ من
كَانَ يُصَلِّي لَهُم الْفَرَائِض، وَالْوَاو فِي: وأحقهم،
للْحَال وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره هُوَ قَوْله:
من، وَهِي مَوْصُولَة، يَعْنِي: الَّذين. وَقَوله: رضوهم،
صلتها. وَقَوله: رضوهم بضمير الْجمع رِوَايَة الْحَمَوِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: رضوه، بإفراد
الضَّمِير. وَهَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء.
قَالَ ابْن بطال: أَكثر أهل الْعلم قَالَ: الْوَالِي أَحَق
من الْوَلِيّ، رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة، مِنْهُم:
عَلْقَمَة وَالْأسود وَالْحسن، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ
أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ: الْوَلِيّ أَحَق من
الْوَالِي، وَقَالَ مطرف وَابْن عبد الحكم وَأصبغ: لَيْسَ
ذَلِك إلاَّ إِلَى من أليه الصَّلَاة من قَاض أَو صَاحب
شرطة أَو خَليفَة الْوَالِي الْأَكْبَر، وَإِنَّمَا ذَلِك
إِلَى الْوَالِي الْأَكْبَر الَّذِي يُؤَدِّي إِلَيْهِ
الطَّاعَة، وَحكى ابْن أبي شيبَة عَن النَّخعِيّ وابي بردة
وَابْن أبي ليلى وَطَلْحَة وزبيد وسُويد بن غَفلَة:
تَقْدِيم إِمَام الْحَيّ، وَعَن أبي الشعْثَاء وَسَالم
وَالقَاسِم وطاووس وَمُجاهد وَعَطَاء: أَنهم كَانُوا
يقدمُونَ الإِمَام على الْجِنَازَة، وروى الثَّوْريّ عَن
أبي حَازِم قَالَ: شهِدت الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، قدم سعيد بن الْعَاصِ يَوْم مَاتَ
الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقَالَ
لَهُ: تقدم، فلولا السّنة مَا قدمتك، وَسَعِيد يَوْمئِذٍ
أَمِير الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ فِي
هَذَا الْبَاب أَعلَى من هَذَا، لِأَن شَهَادَة الْحسن
شَهِدَهَا عوام النَّاس من الصَّحَابَة والمهاجرين
وَالْأَنْصَار.
وَإذَا أحْدَثَ يَوْمَ العِيدِ أوْ عِنْدَ الجَنَازَةِ
يِطْلُبُ المَاءَ وَلاَ يَتَيَمَّمُ
الظَّاهِر أَن هَذَا من بَقِيَّة كَلَام الْحسن، لِأَن
ابْن أبي شيبَة روى عَن حَفْص على أَشْعَث عَن الْحسن أَنه
سُئِلَ عَن الرجل يكون فِي الْجِنَازَة على غير وضوء،
قَالَ: لَا يتَيَمَّم وَلَا يُصَلِّي إلاَّ على طهر. فَإِن
قلت: روى سعيد بن مَنْصُور عَن حَمَّاد بن زيد عَن كثير بن
شنظير، قَالَ: سُئِلَ الْحسن عَن الرجل يكون فِي
الْجِنَازَة على غير وضوء، فَإِن ذهب يتَوَضَّأ تفوته.
قَالَ: يتَيَمَّم وَيُصلي. قلت: يحمل هَذَا على أَنه روى
عَنهُ رِوَايَتَانِ، وَيدل ذكر البُخَارِيّ هَذَا على أَنه
لم يقف عَن الْحسن إلاَّ على مَا روى عَنهُ من عدم جَوَاز
الصَّلَاة على الْجِنَازَة إلاَّ بِالْوضُوءِ، أما
التَّيَمُّم لصَلَاة الْجِنَازَة فقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى عَن قريب.
وَأما التَّيَمُّم لصَلَاة الْعِيد فعلى التَّفْصِيل
عندنَا، وَهُوَ أَنه إِن كَانَ قبل الشُّرُوع فِي صَلَاة
الْعِيد لَا يجوز للْإِمَام، لِأَنَّهُ ينْتَظر، وَأما
الْمُقْتَدِي فَإِن كَانَ المَاء قَرِيبا بِحَيْثُ لَو
تَوَضَّأ لَا يخَاف الْفَوْت لَا يجوز، وإلاَّ فَيجوز،
فَلَو أحدث أَحدهمَا بعد الشُّرُوع بِالتَّيَمُّمِ
يتَيَمَّم وَإِن كَانَ الشُّرُوع بِالْوضُوءِ وَخَافَ
ذهَاب الْوَقْت لَو تَوَضَّأ، فَكَذَلِك عِنْد أبي حنيفَة
خلافًا لَهما. وَفِي (الْمُحِيط) وَإِن كَانَ الشُّرُوع
بِالْوضُوءِ وَخَافَ زَوَال الشَّمْس لَو تَوَضَّأ
يتَيَمَّم بِالْإِجْمَاع، وإلاَّ فَإِن كَانَ يَرْجُو
إِدْرَاك الإِمَام قبل الْفَرَاغ لَا يتَيَمَّم
بِالْإِجْمَاع، وإلاَّ يتَيَمَّم وَيَبْنِي عِنْد أبي
حنيفَة. وَقَالا: يتَوَضَّأ وَلَا يتَيَمَّم، فَمن
الْمَشَايِخ من قَالَ: هَذَا اخْتِلَاف عصر وزمان، فَفِي
زمن أبي حنيفَة كَانَت
(8/124)
الْجَبانَة بعيدَة من الْكُوفَة، وَفِي
زمنهما كَانُوا يصلونَ فِي جبانة قريبَة، وَعند
الشَّافِعِي: لَا يجوز التَّيَمُّم لصَلَاة الْعِيد أَدَاء
وَبِنَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَاس الشَّافِعِي صَلَاة
الْجِنَازَة والعيد على الْجُمُعَة، وَقَالَ: تفوت
الْجُمُعَة بِخُرُوج الْوَقْت بِالْإِجْمَاع، والجنازة لَا
تفوت بل يصلى على الْقَبْر إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام
بِالْإِجْمَاع، وَيجوز بعْدهَا عندنَا.
وإذَا انْتَهِى إلَى الجنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ
يَدْخُلُ مَعَهُمْ بِتَكْبِيرَةٍ
هَذَا بَقِيَّة من كَلَام الْحسن أَيْضا، أَي: إِذا انْتهى
الرجل إِلَى الْجِنَازَة وَالْحَال أَن الْجَمَاعَة يصلونَ
يدْخل مَعَهم بتكبيرة، وَقد وَصله ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا
معَاذ عَن أَشْعَث عَن الْحسن فِي الرجل يَنْتَهِي إِلَى
الْجِنَازَة وهم يصلونَ عَلَيْهَا، قَالَ: يدْخل مَعَهم
بتكبيرة، قَالَ: وَحدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن
مُحَمَّد، قَالَ: يكبر مَا أدْرك وَيَقْضِي مَا سبقه.
وَقَالَ الْحسن: يكبر مَا أدْرك وَلَا يقْضِي مَا سبقه،
وَعِنْدنَا لَو كبر الإِمَام تَكْبِيرَة أَو تكبيرتين لَا
يكبر الْآتِي حَتَّى يكبر الإِمَام تَكْبِيرَة أُخْرَى
عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، ثمَّ إِذا كبر الإِمَام يكبر
مَعَه، فَإِذا فرغ الإِمَام كبر هَذَا الْآتِي مَا فَاتَهُ
قبل أَن ترفع الْجِنَازَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يكبر
حِين يحضر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة،
وَعَن أَحْمد مُخَيّر، وقولهما هُوَ قَول الثَّوْريّ
والْحَارث بن يزِيد، وَبِه قَالَ مَالك وَإِسْحَاق وَأحمد
فِي رِوَايَة.
وَقَالَ ابنُ المُسَيَّبُ يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ
والنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أرْبَعا
أَي: قَالَ سعيد بن الْمسيب: يكبر الرجل فِي صَلَاة
الْجِنَازَة سَوَاء كَانَت بِاللَّيْلِ أَو بِالنَّهَارِ،
وَسَوَاء كَانَت فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر أَرْبعا أَي:
أَربع تَكْبِيرَات، وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي عدد
التَّكْبِيرَات.
وقَالَ أنسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ التَّكْبِيرَةُ
الوَاحِدَةِ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ
هَذَا أَيْضا مِمَّا يدل على مَا قَالَه البُخَارِيّ من
جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة حَيْثُ
أثبت لَهَا تَكْبِيرَة الاستفتاح، كَمَا فِي صَلَاة
الْفَرْض، وروى سعيد بن مَنْصُور مَا يتَضَمَّن مَا ذكره
البُخَارِيّ عَن أنس عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن يحيى بن
أبي إِسْحَاق، قَالَ زُرَيْق بن كريم لأنس بن مَالك: رجل
صلى فَكبر ثَلَاثًا؟ قَالَ أنس: أوليس التَّكْبِير
ثَلَاثًا؟ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَة، التَّكْبِير أَربع.
قَالَ: أجل غير أَن وَاحِدَة هِيَ افْتِتَاح الصَّلَاة.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ
هَذَا مَعْطُوف على أصل التَّرْجَمَة، وَهِي قَوْله: بَاب
سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، فَإِنَّهُ أطلق عَلَيْهِ
الصَّلَاة حَيْثُ نهى عَن فعلهَا على أحد من
الْمُنَافِقين.
وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإمَامٌ
هَذَا عطف على قَوْله: وفيهَا تَكْبِير وَتَسْلِيم،
وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى صَلَاة الْجِنَازَة،
والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور أَو بِاعْتِبَار فعل
الصَّلَاة، أَرَادَ أَن كَون الصُّفُوف فِي صَلَاة
الْجِنَازَة وَكَون الإِمَام فِيهَا يدلان على إِطْلَاق
الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة.
2231 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ
أَخْبرنِي مَنْ مَرَّ مَعَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأمَّنَا فَصَفَفْنَا
خَلْفَهُ فَقُلْنَا يَا أبَا عَمْرٍ ومَنْ حَدَّثَكَ قَالَ
ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأمنا فصففنا) ، لِأَن
الْإِمَامَة وتسوية الصُّفُوف من سنة صَلَاة الْجِنَازَة،
والْحَدِيث قد مر فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَقبل قبله،
والشيباني هُوَ سُلَيْمَان، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن
شرَاحِيل. قَوْله: (يابا عَمْرو) أَصله: يَا أَبَا عَمْرو،
حذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف، وَأَبُو عَمْرو هَذَا هُوَ
الشّعبِيّ.
(8/125)
75 - (بابُ فَضْلِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل اتِّبَاع الْجَنَائِز،
وَالْمرَاد من الإتباع أَن يتبع الْجِنَازَة وَيُصلي
عَلَيْهَا، وَلَيْسَ المُرَاد أَن يتبع ثمَّ ينْصَرف
بِغَيْر صَلَاة. فَإِن قلت: مَا تدل التَّرْجَمَة على
الحكم؟ قلت: المُرَاد إِثْبَات الْأجر وَالتَّرْغِيب فِيهِ
لَا تعْيين الحكم وَقيل: المُرَاد من الِاتِّبَاع الْقدر
الَّذِي يحصل بِهِ مُسَمَّاهُ الَّذِي يحصل بِهِ القيراط
من الْأجر.
وقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ: إذَا
صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّلَاة على
الْمَيِّت لَا تحصل إِلَّا باتباعه، وَزيد بن ثَابت بن
الضَّحَّاك بن زيد الْأنْصَارِيّ النجاري أَبُو خَارِجَة
الْمدنِي، قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْمَدِينَة وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة، وَكَانَ يكْتب
الْوَحْي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ
من فضلاء الصَّحَابَة، وَمن أَصْحَاب الْفَتْوَى، توفّي
سنة خمس وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عُرْوَة عَنهُ، وَوَصله
ابْن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع عَن هِشَام عَن
أَبِيه عَن زيد بن ثَابت: (إِذا صليتم على الْجِنَازَة فقد
قضيتم مَا عَلَيْكُم فَخلوا بَينهَا وَبَين أَهلهَا) .
قَوْله: (إِذا صليت) أَي: على الْمَيِّت (فقد قضيت) حَقه
(الَّذِي عَلَيْك) ، من الْوَاجِب الَّذِي هُوَ على
الْكِفَايَة، وَإِذا أَرَادَ الِاتِّبَاع بعد ذَلِك إِلَى
قَبره فَلهُ زِيَادَة الْأجر.
وَقَالَ حُمَيْدُ بنُ هِلاَلٍ: مَا عَلِمْنَا علَى
الجَنَازَةِ إذْنا وَلاكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ
فَلَهُ قِيرَاطٌ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من صلى ثمَّ رَجَعَ)
لِأَن الصَّلَاة تكون بالاتباع، وَحميد، بِضَم الْحَاء
الْمُهْملَة: ابْن هِلَال ابْن هُبَيْرَة أَبُو نصر
الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ، مر فِي: بَاب يرد الْمُصَلِّي
من يمر بَين يَدَيْهِ. قَوْله: (إِذْنا) ، بِكَسْر
الْهمزَة أَي، مَا ثَبت عندنَا أَنه يُؤذن على
الْجِنَازَة، وَلَكِن ثَبت من صلى ... إِلَى آخِره، هَذَا
أَن الصَّلَاة على الْجِنَازَة حق الْمَيِّت، ولابتغاء
الْفضل وَلَيْسَ للأولياء فِيهَا حق حَتَّى يتَوَقَّف
الِانْصِرَاف بعد الصَّلَاة على الْأذن. وَفِي هَذَا
الْبَاب اخْتِلَاف، فَروِيَ عَن زيد بن ثَابت وَجَابِر بن
عبد الله وَعُرْوَة بن الزبير وَالقَاسِم بن مُحَمَّد
وَالْحسن وَقَتَادَة وَابْن سِيرِين وَأبي قلَابَة: أَنهم
كَانُوا يَنْصَرِفُونَ بعد الصَّلَاة وَلَا يستأذنون،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من الْعلمَاء،
وَقَالَت طَائِفَة: لَا بُد من الْإِذْن فِي ذَلِك،
وَرُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَأبي
هُرَيْرَة والمسور بن مخرمَة وَالنَّخَعِيّ: أَنهم كَانُوا
لَا يَنْصَرِفُونَ حَتَّى يستأذنون، وروى ابْن عبد الحكم
عَن مَالك قَالَ: لَا يجب لمن يشْهد جَنَازَة أَن ينْصَرف
عَنْهَا حَتَّى يُؤذن لَهُ، إلاَّ أَن يطول ذَلِك. فَإِن
قلت: روى عبد الرَّزَّاق من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب (عَن
أبي هُرَيْرَة قَالَ: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون
مَعَ الْجِنَازَة يُصَلِّي عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَن
يرجع حَتَّى يسْتَأْذن وَليهَا) الحَدِيث، وروى الْبَزَّار
من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: (أميران وليسا بأميرين:
الْمَرْأَة تحج مَعَ الْقَوْم فتحيض، وَالرجل يتبع
الْجِنَازَة فَيصَلي عَلَيْهَا لَيْسَ لَهُ أَن يرجع
حَتَّى يستأمر أهل الْجِنَازَة) . وروى أَحْمد من حَدِيث
أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (من تبع جَنَازَة فَحمل من علوها،
وحثى فِي قبرها، وَقعد حَتَّى يُؤذن لَهُ رَجَعَ بقيراطين)
. قلت: أما حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب فَهُوَ مُنْقَطع
مَوْقُوف. فَإِن قلت: روى عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا
أَيْضا؟ قلت: قَالَ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: لم يُتَابع
عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث جَابر فَهُوَ ضَعِيف، وَكَذَلِكَ
حَدِيث أَحْمد ضَعِيف.
3231 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ
بنُ حازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ نافِعا يَقُولُ حُدِّثَ ابنُ
عُمَرَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
يقُولُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ فَقَالَ
أكْثَرَ أبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا. فَصَدَّقَتْ يَعْنِي
عائِشَةَ أبَا هُرَيْرَةَ وَقالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُهُ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي
قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد مضوا غير
مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي
وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم
(8/126)
وبكسر الرَّاء المكررة: ابْن حَازِم،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، سبق فِي: بَاب يسْتَقْبل
الإِمَام النَّاس إِذا سلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة
معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي
هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه البُخَارِيّ
وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة الزُّهْرِيّ
عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا
كَمَا أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا من رِوَايَة نَافِع عَن
أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا من رِوَايَة
سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ
مُسلم أَيْضا من رِوَايَة سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه
عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن رِوَايَة يزِيد بن كيسَان عَن أبي
حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة. وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا وَأَبُو
دَاوُد من رِوَايَة خباب صَاحب الْمَقْصُورَة عَن أبي
هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من رِوَايَة
سُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة عَن سمي عَن أبي صَالح عَن
أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ،
وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان
عَن مُحَمَّد بن عَمْرو حَدثنَا أَبُو سَلمَة عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن تبعها
حَتَّى يقْضِي دَفنهَا فَلهُ قيراطان أَحدهمَا أَو أصغرهما
مثل أحد، فَذكرت ذَلِك لِابْنِ عمر، فَأرْسل إِلَى
عَائِشَة يسْأَلهَا عَن ذَلِك، فَقَالَت: صدق أَبُو
هُرَيْرَة، فَقَالَ ابْن عمر: لقد فرطنا فِي قراريط
كَثِيرَة) . وَفِي الْبَاب عَن الْبَراء رَوَاهُ
النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من تبع جَنَازَة حَتَّى يصلى عَلَيْهَا
كَانَ لَهُ من الْأجر قِيرَاط، وَمن مَشى مَعَ الْجِنَازَة
حَتَّى تدفن كَانَ لَهُ من الْأجر قيراطان، والقيراط مثل
أحد) ، وَعَن عبد الله بن الْمُغَفَّل روى حَدِيثه
النَّسَائِيّ أَيْضا عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تبع جَنَازَة حَتَّى يفرغ
مِنْهَا فَلهُ قيراطان، فَإِن رَجَعَ قبل أَن يفرغ مِنْهَا
فَلهُ قِيرَاط. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ، روى
حَدِيثه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَتَى
الْجِنَازَة عِنْد أَهلهَا فَمشى مَعهَا حَتَّى يُصَلِّي
عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاط، وَمن شَهِدَهَا حَتَّى تدفن
فَلهُ قيراطان مثل أحد) . وَعَن أبي بن كَعْب أخرج حَدِيثه
ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن
شَهِدَهَا حَتَّى تدفن فَلهُ قِيرَاط، وَالَّذِي نفس
مُحَمَّد بِيَدِهِ القيراط أعظم من أحد) . وَعَن ابْن عمر:
أخرج حَدِيثه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على
جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط) ، وَعَن ثَوْبَان أخرج حَدِيثه
مُسلم وَابْن مَاجَه، عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ
قِيرَاط، فَإِن شهد دَفنهَا فَلهُ قيراطان، القيراط مثل
أحد) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حدث) ، بِضَم الْحَاء على صِيغَة
الْمَجْهُول من الْمَاضِي وَلم يبين فِي شَيْء من الطّرق
من كَانَ حدث ابْن عمر عَن أبي هُرَيْرَة بذلك، وَلَكِن
يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه بَين فِي موضِعين أَحدهمَا فِي
(صَحِيح مُسلم) : حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير،
قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يزِيد، قَالَ: حَدثنَا حَيْوَة
بن صَخْر عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط أَنه حدث أَن
دَاوُد بن عَامر ابْن سعد بن أبي وَقاص حَدثهُ عَن أَبِيه
أَنه كَانَ قَاعِدا عِنْد عبد الله بن عمر إِذْ طلع خباب
صَاحب الْمَقْصُورَة، فَقَالَ: يَا عبد الله بن عمر ألاَ
تسمع مَا يَقُول أَبُو هُرَيْرَة؟ إِنَّه سمع رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من خرج مَعَ جَنَازَة من
بَيتهَا وَصلى عَلَيْهَا ثمَّ تبعها حَتَّى تدفن كَانَ
لَهُ قيراطان من الْأجر مثل أحد، وَمن صلى عَلَيْهَا ثمَّ
رَجَعَ كَانَ لَهُ من الْأجر مثل أحد. فَأرْسل ابْن عمر
خبابا إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن قَول أبي هُرَيْرَة،
ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ يُخبرهُ مَا قَالَت، وَأخذ ابْن عمر
قَبْضَة من حَصْبَاء الْمَسْجِد يقلبها فِي يَده حَتَّى
رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُول، فَقَالَ: قَالَت عَائِشَة: صدق
أَبُو هُرَيْرَة، فَضرب ابْن عمر بالحصباء الَّذِي كَانَ
فِي يَده ثمَّ قَالَ: لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة) .
والموضع الآخر فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَقد
ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (أَن أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: من تبع)
كَذَا فِي جَمِيع الطّرق لم يذكر فِيهِ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من
طَرِيق إِبْرَاهِيم بن رَاشد عَن أبي النُّعْمَان شيخ
البُخَارِيّ فِيهِ، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه عَن
مهْدي بن الْحَارِث عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن أبي
أُميَّة عَن أبي النُّعْمَان وَعَن التسترِي عَن شَيبَان،
ثَلَاثَتهمْ عَن جرير بن حَازِم عَن نَافِع، قَالَ: قيل
لِابْنِ عمر: إِن أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: سَمِعت رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من تبع جَنَازَة
فَلهُ قِيرَاط من الْأجر) ، فَذكره. قَوْله: (من تبع
جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط) ، زَاد مُسلم فِي رِوَايَته: (من
الْأجر. .) والقيراط، بِكَسْر الْقَاف. قَالَ
الْكرْمَانِي:
(8/127)
القيراط لُغَة: نصف دانق، وَالْمَقْصُود
مِنْهُ هُنَا النَّصِيب. وَقيل: القيراط جُزْء من أَجزَاء
الدِّينَار، وَهُوَ نصف عشره فِي أَكثر الْبِلَاد، وَأهل
الشَّام يجعلونه جُزْءا من أَرْبَعَة وَعشْرين، وَأَصله:
القراط، يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ بِدَلِيل جمعه بالقراريط،
فأبدل إِحْدَى الراءين يَاء. وَعَن ابْن عقيل: القيراط نصف
سدس دِرْهَم أَو نصف عشر دِينَار. وَقيل: المُرَاد
بالقيراط هَهُنَا جُزْء من أَجزَاء مَعْلُومَة عِنْد الله
تَعَالَى، وَقد قربهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
للفهم بتمثيله القيراط بِأحد، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ:
قَوْله: (مثل أحد) تَفْسِير للمقصود من الْكَلَام لَا للفظ
القيراط، وَالْمرَاد مِنْهُ أَن يرجع بِنَصِيب من الْأجر،
وَذَلِكَ لِأَن لفظ القيراط مُبْهَم من وَجْهَيْن فَبين
الْمَوْزُون بقوله: (من الْأجر) وَبَين الْمِقْدَار
المُرَاد مِنْهُ بقوله: (مثل أحد) . فَإِن قلت: لِمَ خص
القيراط بِالذكر؟ قلت: لِأَن غَالب مَا تقع بِهِ معاملتهم
كَانَ بالقيراط.
وَقد ورد لفظ القيراط فِي عدَّة أَحَادِيث: فَمِنْهَا: مَا
يحمل على القيراط الْمُتَعَارف. وَمِنْهَا: مَا يحمل على
الْجُزْء وَإِن لم تعرف النِّسْبَة، فَمن الأول: حَدِيث
كَعْب بن مَالك: (إِنَّكُم ستفتحون بَلَدا يذكر فِيهَا
القيراط) ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا (كنت أرى
الْغنم لأهل مَكَّة بالقراريط) . قَالَ ابْن مَاجَه عَن
بعض شُيُوخه، يَعْنِي: كل شَاة بقيراط، وَقَالَ غَيره:
قراريط جبل بِمَكَّة، وَمن الْمُحْتَمل حَدِيث ابْن عمر
الَّذين أعْطوا الْكتاب أعْطوا قيراطا قيراطا، وَحَدِيث
الْبَاب. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة: (من اقتنى كَلْبا نقص من
عمله كل يَوْم قِيرَاط) . وَقد جَاءَ فِي حَدِيث مُسلم،
وَغَيره: (القيراط مثل أحد) ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب
الَّذِي يَأْتِي: القيراطان مثل الجبلين العظيمين، وَهَذَا
تَمْثِيل واستعارة، وَيجوز أَن يكون حَقِيقَة بِأَن
يَجْعَل الله عمله ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة فِي صُورَة عين
يُوزن كَمَا توزن الْأَجْسَام، وَيكون قدر هَذَا كَقدْر
أحد. فَإِن قلت: التَّمْثِيل بِأحد مَا وَجه تَخْصِيصه؟
قلت: لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبا من المخاطبين وَكَانَ
أَكْثَرهم يعرفونه كَمَا يَنْبَغِي، وَقيل: لِأَنَّهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَقه: (إِنَّه جبل يحبنا
وَنحن نحبه) . وَقيل: لِأَنَّهُ أعظم الْجبَال خلقا. قلت:
فِيهِ نظر لَا يخفى. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: قَالَ ابْن
عمر: أَكثر أَبُو هُرَيْرَة علينا. قَالَ الْكرْمَانِي:
أَي: فِي ذكر الْأجر أَو فِي رِوَايَة الحَدِيث، خَافَ
لِكَثْرَة رواياته أَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر، فِيهِ
لَا أَنه نسبه إِلَى رِوَايَة مَا لم يسمع لِأَن مرتبتهما
أجل من ذَلِك وَقَالَ ابْن التِّين لم يهتم ابْن عمر بل
خشِي عَلَيْهِ السَّهْو أَو قَالَ ذَلِك لكَونه لم ينْقل
لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه رَفعه، فَظن أَنه قَالَ
بِرَأْيهِ، فاستنكره. وَوَقع فِي رِوَايَة أبي سَلمَة
عِنْد سعيد ابْن مَنْصُور، فَبلغ ذَلِك ابْن عمر فتعاظمه،
وَفِي رِوَايَة الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن عِنْد سعيد
أَيْضا ومسدد وَأحمد بِإِسْنَاد صَحِيح: فَقَالَ ابْن عمر:
يَا أَبَا هُرَيْرَة أنظر مَا تحدث من رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَوْله: (فصدقت) يَعْنِي عَائِشَة
أَبَا هُرَيْرَة، لفظ: يَعْنِي، من البُخَارِيّ، كَأَنَّهُ
شكّ فاستعملها، وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق
أبي النُّعْمَان شيخ البُخَارِيّ فَلم يقلها، وَقد ذكرنَا
رِوَايَة مُسلم وفيهَا: فَبعث ابْن عمر إِلَى عَائِشَة
فَسَأَلَهَا فصدقت أَبَا هُرَيْرَة، وَقد ذكرنَا أَيْضا
عَن التِّرْمِذِيّ: (فَأرْسل إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن
ذَلِك فَقَالَت: صدق أَبُو هُرَيْرَة) . فَإِن قلت: روى
سعيد بن مَنْصُور من حَدِيث الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن:
(فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَة فَأخذ بِيَدِهِ فَانْطَلقَا
حَتَّى أَتَيَا عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
فَقَالَ لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أنْشدك الله أسمعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول؟ فَذكره،
فَقَالَت: أللهم نعم) . قلت: التَّوْفِيق فِي ذَلِك بِأَن
الرَّسُول لما رَجَعَ إِلَى ابْن عمر بِخَبَر عَائِشَة بلغ
ذَلِك أَبَا هُرَيْرَة فَمشى إِلَى ابْن عمر فأسمعه ذَلِك
من عَائِشَة مشافهة، وَزَاد فِي رِوَايَة الْوَلِيد:
(فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لم يشغلني عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم غرس بالوادي وَلَا صفق بالأسواق،
وَإِنَّمَا كنت أطلب من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَكلَة يطعمنيها أَو كلمة يعلمنيها. قَالَ لَهُ
ابْن عمر: كنت ألزمنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَأَعْلَمنَا بحَديثه) . قَوْله: (لقد فرطنا فِي
قراريط كَثِيرَة) أَي: من عدم الْمُوَاظبَة على حُضُور
الدّفن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَمْيِيز أبي هُرَيْرَة
فِي الْحِفْظ، وَأَن إِنْكَار الْعلمَاء بَعضهم على بعض
قديم، وَأَن الْعَالم يستغرب مَا لم يصل إِلَى علمه.
وَفِيه: عدم مبالاة الْحَافِظ بإنكار من لم يحفظ. وَفِيه:
مَا كَانَت الصَّحَابَة عَلَيْهِ من التثبت فِي الْعلم
والْحَدِيث النَّبَوِيّ والتحرير فِيهِ. وَفِيه: دلَالَة
على فَضِيلَة ابْن عمر من حرصه على الْعلم وتأسفه على مَا
فَاتَهُ من الْعَمَل الصَّالح. وَفِيه: فِي قَوْله: (من
تبع جَنَازَة) حجَّة لمن قَالَ: إِن الْمَشْي خلف
الْجِنَازَة أفضل من الْمَشْي أمامها، لِأَن ذَلِك
حَقِيقَة الِاتِّبَاع حسا. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد:
الَّذين رجحوا الْمَشْي أمامها حملُوا الإتباع هُنَا على
الإتباع الْمَعْنَوِيّ، أَي: المصاحبة، وَهُوَ أَعم من
(8/128)
أَن يكون أمامها أَو خلفهَا أَو غير ذَلِك. قلت: هَذَا
تحكم، وَاتِّبَاع الرجل غَيره فِي اللُّغَة وَالْعرْف
عبارَة عَن أَن يمشي وَرَاءه، وَلَيْسَ لما قَالَه وَجه من
الْوُجُوه.
فَرَّطْتُ: ضَيَّعْتُ مِنْ أمْرِ الله
جرى دأب البُخَارِيّ أَنه يُفَسر الْكَلِمَة الغريبة من
الحَدِيث إِذا وَافَقت كلمة من الْقُرْآن، وَهَذَا
إِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي الْقُرْآن: {يَا حسرتا على مَا
فرطت فِي جنب الله} (الزمر: 65) . وَمَعْنَاهُ: ضيعت من
أَمر الله، وَفِي جَمِيع الطّرق وَقع: فرطت ضيعت من أَمر
الله، وَفِي بعض النّسخ: فرطت من أَمر الله أَي: ضيعت،
وَهَذَا أشبه. |