عمدة القاري شرح صحيح البخاري

85 - (بابُ مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى يُدْفَنَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ثَوَاب من انْتظر الْمَيِّت أَي: لم يُفَارِقهُ حَتَّى يدْفن، يَعْنِي إِلَى أَن يدْفن، وَإِنَّمَا لم يذكر جَوَاب الشَّرْط اكْتِفَاء بِمَا ذكر فِي الحَدِيث. وَقيل: إِنَّمَا لم يذكر توقفا عَن إِثْبَات الِاسْتِحْقَاق بِمُجَرَّد الِانْتِظَار إِن خلا عَن الِاتِّبَاع. فَإِن قلت: لفظ الحَدِيث (من شهد الْجِنَازَة) ، فَلم عدل عَنهُ إِلَى لفظ الِانْتِظَار. قلت: قيل: لينبه على أَن الْمَقْصُود من الشُّهُود إِنَّمَا هُوَ معاضدة أهل الْمَيِّت والتصدي لمعونتهم، وَذَلِكَ من الْمَقَاصِد الْمُعْتَبرَة. وَقَالَ بَعضهم: اخْتَار لفظ الِانْتِظَار لكَونه أَعم من الْمُشَاهدَة. انْتهى وَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نظر. أما الأول: فَلِأَنَّهُ إِذا عاضد أهل الْمَيِّت وتصدى لمعونتهم وَلم يصلِّ لَا يسْتَحق القيراط الْمَوْعُود بِهِ، وَكَذَلِكَ إِذا صلى وَلم يحضر الدّفن لَا يسْتَحق القيراطين الْمَوْعُود بهما. وَإِنَّمَا يسْتَحق قيراطا وَاحِدًا، فَعلم من ذَلِك أَن الْمَقْصُود من الشُّهُود لَيْسَ مُجَرّد الشُّهُود لأجل مَا ذكره. وَأما الثَّانِي: فَلَا نسلم أَن الِانْتِظَار أَعم من الْمُشَاهدَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين مفهوميهما عُمُوم وخصوص، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِنَّمَا اخْتَار لفظ الِانْتِظَار إِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه بِلَفْظ الِانْتِظَار فِي رِوَايَة الْبَزَّار، رَحمَه الله تَعَالَى: (فَإِن انتظرها حَتَّى تدفن فَلهُ قِيرَاط) . رَوَاهُ ابْن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

5231 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ. قَالَ قَرَأْتُ عَلَى ابنِ أبِي ذِئْبٍ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي سعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سألَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فقالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا هِشَامٌ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حدَّثنا أحْمَدُ بنُ شَبِيبِ بنِ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا يُونُسُ. قَالَ ابنُ شِهَابٍ وحدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ الأعْرَجِ أنَّ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كانَ لَهُ قِيرَاطانِ قِيلَ وَما القِيرَاطانِ قَالَ مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ.
(أنظر الحَدِيث 74 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من شهد حَتَّى تدفن) إِذا جعل شهد بِمَعْنى حضر، وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة عشر رجلا، لِأَنَّهُ رَوَاهُ من ثَلَاث طرق: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب. الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو سعيد، واسْمه كيسَان، وَهَؤُلَاء قد ذكرُوا غير مرّة. الْخَامِس: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. السَّادِس: هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء من أَبنَاء فَارس. السَّابِع: معمر ابْن رَاشد. الثَّامِن: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. التَّاسِع: سعيد بن الْمسيب. الْعَاشِر: أَحْمد بن شبيب، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: ابْن سعيد أَبُو عبد الله الحبطي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة: الْبَصْرِيّ. الْحَادِي عشر: أَبوهُ شبيب بن سعيد. الثَّانِي عشر: يُونُس بن يزِيد. الثَّالِث عشر: عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج. الرَّابِع عشر:

(8/129)


أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْقِرَاءَة على الشَّيْخ. وَفِيه السُّؤَال وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: عبد الله بن مسلمة مدنِي سكن الْبَصْرَة، وَمعمر وَأحمد بن شبيب وَأَبوهُ بصريون، وَيُونُس أيلي، وَالْبَاقُونَ مدنيون. وَفِيه: عَن سعيد بن أبي سعيد، وَحكى الْكرْمَانِي أَن: عَن أَبِيه، سَاقِط فِي بعض الطّرق. قيل: الصَّوَاب إثْبَاته. وَكَذَا أخرجه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه والإسماعيلي وَغَيرهمَا من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب، وَسقط: عَن أَبِيه، عِنْد أبي عوَانَة فِي رِوَايَة ابْن عجلَان، وَعند ابْن أبي شيبَة كَذَلِك فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَعبد بن حميد بن زَنْجوَيْه فِي رِوَايَة أبي معشر.
ذكر من أخرجه غَيره: الطَّرِيق الأول لم يُخرجهُ غَيره من بَقِيَّة السِّتَّة. وَالطَّرِيق الثَّانِي: أخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن نوح بن حبيب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَالطَّرِيق الثَّالِث: أخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَهَارُون بن سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وحَدثني) ذكر بِلَفْظ: الْوَاو، عطفا على مُقَدّر، أَي: قَالَ ابْن شهَاب: حَدثنِي فلَان بِهِ، وحَدثني عبد الرَّحْمَن أَيْضا بِهِ. قَوْله: (حَتَّى يُصَلِّي) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهِ) ، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات: اللَّام، فِيهِ مَفْتُوحَة وَفِي بَعْضهَا بِكَسْرِهَا. وحملت: رِوَايَة الْفَتْح على رِوَايَة الْكسر لِأَن حُصُول القيراط مُتَوَقف على وجود الصَّلَاة من الَّذِي يشْهد، وَلم يبين فِي هَذِه ابْتِدَاء الْحُضُور، وَفِي رِوَايَة أبي سعيد المَقْبُري بَين ذَلِك حَيْثُ قَالَ: من أَهلهَا. وَفِي رِوَايَة خباب عِنْد مُسلم: (من خرج مَعَ جَنَازَة من بَيتهَا) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ: (فَمشى مَعهَا من أَهلهَا) ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَقْتَضِي أَن القيراط يخْتَص بِمن حضر من أول الْأَمر إِلَى انْقِضَاء الصَّلَاة. وَقَالَ بَعضهم: يحصل أَيْضا لمن صلى فَقَط، لِأَن كل مَا قبل الصَّلَاة وَسِيلَة إِلَيْهَا، لَكِن يكون قِيرَاط من صلى فَقَط دون قِيرَاط من شيع وَصلى. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن كل مَا كَانَ قبل الصَّلَاة لَيْسَ لأجل الصَّلَاة خَاصَّة، وَإِنَّمَا هُوَ لَهَا ولمعاضدة أهل الْجِنَازَة ومعونتهم، وَلأَجل إِظْهَار الْخدمَة لَهُم تطييبا لقُلُوبِهِمْ. والشارع قد نَص عَن أَن الَّذِي يُصَلِّي فَقَط فَلهُ قِيرَاط، وَلم يتَعَرَّض إِلَى اخْتِلَاف القيراط فِي نَفسه. وَهَذَا التَّصَرُّف فِيهِ تحكم. فَإِن قلت: يخْتَلف القيراط باخْتلَاف كَثْرَة الْعَمَل فِيهِ كَمَا فِي الْجُمُعَة: (من جَاءَ فِي السَّاعَة الأولى. .) الحَدِيث. قلت: هَذَا الْقيَاس لَا يَصح، لِأَن عين القيراط نَص عَلَيْهِ فَلَا يُمكن أَن يتَصَرَّف فِي الشَّيْء الْمعِين الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان، بِخِلَاف الْجُمُعَة فَإِن الِاخْتِلَاف فِيهِ لَيْسَ فِي شَيْء بِعَيْنِه. فَافْهَم. قَوْله: (كَانَ لَهُ قيراطان) ظَاهره أَنَّهُمَا غير قِيرَاط الصَّلَاة، وَبِذَلِك جزم الْبَعْض، وَحَكَاهُ ابْن التِّين عَن القَاضِي أبي الْوَلِيد. لَكِن رِوَايَة الْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين صَرِيحَة فِي أَن الْحَاصِل من الصَّلَاة وَمن الدّفن قيراطان فَقَط، وروايتهما قد مرت فِي: بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، فِي كتاب الْإِيمَان رويا عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من تبع جَنَازَة مُسلم إِيمَانًا واحتسابا وَكَانَ مَعهَا حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا ويفرغ من دَفنهَا فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر بقيراطين، كل قِيرَاط مثل أحد. وَمن صلى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ قبل أَن تدفن فَإِنَّهُ يرجع بقيراط) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: رِوَايَة ابْن سِيرِين صَرِيحَة فِي أَن الْمَجْمُوع قيراطان. قلت: يحْتَمل أَن تكون رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة مُتَأَخِّرَة عَن رِوَايَة ابْن سِيرِين عَنهُ. قَوْله: (حَتَّى تدفن) اخْتلف فِيهِ أَن حُصُول القيراطين يحصل بِمُجَرَّد وضع الْمَيِّت فِي الْقَبْر أَو عِنْد انْتِهَاء الدّفن قبل إهالة التُّرَاب أَو بعد الْفَرَاغ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبِكُل ذَلِك ورد الْخَبَر. فَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق معمر فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ: (حَتَّى يفرغ مِنْهَا) ، وَفِي الْأُخْرَى: (حَتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد) ، وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم عِنْده: (حَتَّى تُوضَع فِي الْقَبْر) ، وَفِي رِوَايَة أبي مُزَاحم عِنْد أَحْمد: (حَتَّى يقْضِي قضاءها) ، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة عِنْد التِّرْمِذِيّ: (حَتَّى يقْضِي دَفنهَا) . وَفِي رِوَايَة ابْن عِيَاض عِنْد أبي عوَانَة: (حَتَّى يسوى عَلَيْهَا) ، أَي: التُّرَاب. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: الصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن ذَلِك يتَوَقَّف على كَمَال الدّفن لَا على وَضعه فِي اللَّحْد، وَذهب بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي إِلَى أَنه يحصل بِمُجَرَّد الْوَضع فِي اللَّحْد. قَوْله: (قيل: وَمَا القيراطان؟) قَالَ بَعضهم: لم يعين هَهُنَا

(8/130)


الْقَائِل وَلَا الْمَقُول لَهُ، وَقد بَين لَهُ مُسلم فِي رِوَايَة الْأَعْرَج فَقَالَ: (قيل: وَمَا القيراطان يَا رَسُول الله؟) ، وَبَين الْقَائِل أَبُو عوَانَة من طَرِيق أبي مُزَاحم عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه: (قلت: وَمَا القيراط يَا رَسُول الله؟) . قلت: الظَّاهِر بِحَسب الْقَرِينَة يدل على أَن الْقَائِل رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَة، وَالْمقول لَهُ هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أما الْقَائِل فَفِيهِ احْتِمَال أَن يكون غير الرَّاوِي مِمَّن كَانَ حَاضرا فِي ذَلِك الْمجْلس. وَأما الْمَقُول لَهُ فَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا لِأَنَّهُ قَالَ: (مثل الجبلين العظيمين) ، وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ وَظِيفَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الضَّمِير فِي قَوْله: قَالَ، يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (مثل الجبلين العظيمين) ، وَفِي رِوَايَة ابْن سِيرِين وَغَيره: (مثل أحد) ، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: (القيراط مثل جبل أحد) . وَكَذَا فِي حَدِيث ثَوْبَان عِنْد مُسلم، والبراء عِنْد النَّسَائِيّ، وَأبي سعيد عِنْد أَحْمد وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق الشّعبِيّ: (فَلهُ قيراطان من الْأجر، كل وَاحِد مِنْهُمَا أعظم من أحد) . وَفِي رِوَايَة أبي صَالح عِنْد مُسلم: (أصغرهما مثل أحد) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي بن كَعْب: (القيراط أعظم من أحد) ، وَعند ابْن عدي من حَدِيث وَاثِلَة (كتب لَهُ قيراطان من أجر أخفهما فِي مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة أثقل من جبل أحد) وَقد ذكرنَا أَن هَذَا من بَاب التَّمْثِيل والاستعارة.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَفِيه: فِيهِ: التَّرْغِيب فِي شُهُود جَنَازَة الْمَيِّت وَالْقِيَام بأَمْره والحض على الِاجْتِمَاع لَهُ، والتنبيه على عَظِيم فضل الله تَعَالَى، وتكريمه للْمُسلمِ فِي تكثيره الثَّوَاب لمن يتَوَلَّى أمره بعد مَوته. وَفِيه: تَقْدِير الْأَعْمَال بِنِسْبَة الأوزان أَو بجعلها أعيانا حَقِيقَة. وَفِيه: السُّؤَال عَمَّا يهم فِيهِ.

95 - (بابُ صَلاَةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الجَنَائِزِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الصّبيان على الْمَوْتَى. فَإِن قلت: قد ذكر قبل هَذَا: بَاب صُفُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال فِي الْجَنَائِز أَو لَيْسَ هَذَا بتكرار؟ قلت: أَفَادَ بذلك الْبَاب وقُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال، وَأَنَّهُمْ يصفونَ مَعَهم لَا يتأخرون عَنْهُم لقَوْل ابْن عَبَّاس فِي حَدِيث ذَلِك الْبَاب: وَأَنا فيهم، وَأفَاد بِهَذَا الْبَاب مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الصّبيان على الْمَوْتَى، كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: هَذَا كَانَ يُسْتَفَاد من ذَلِك الْبَاب. قلت: نعم لَكِن ضمنا وَهنا ذكره قصدا ونصا.

6231 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ أبي بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا زَائِدَةُ قَالَ حَدثنَا أبُو إسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عنْ عامِرِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ أتَى رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْرا فقالُوا هاذا دُفِنَ أوْ دُفِنَتِ البَارِحَةَ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصففنا خَلفه) ، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب صُفُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال فِي الْجَنَائِز، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي مر فِي: بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان، وَيحيى بن أبي بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: أَبُو زَكَرِيَّا الْعَبْدي الْكُوفِي قَاضِي كرمان، مَاتَ سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ، وزائدة، من الزِّيَادَة، وَأَبُو إِسْحَاق، إسمه سُلَيْمَان، وعامر هُوَ الشّعبِيّ، وَقد مرا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
وَفِيه: الصَّلَاة على الْقَبْر. وَفِيه: الْجَمَاعَة. وَفِيه: الدّفن بِاللَّيْلِ.

06 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى الجَنَائِزِ بِالمُصَلَّى وَالمَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة على الْجَنَائِز بالمصلى، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يتَّخذ للصَّلَاة على الْمَوْتَى فِيهِ. قَوْله: (وَالْمَسْجِد) ، أَي: وَالصَّلَاة عَلَيْهَا بِالْمَسْجِدِ. قيل: إِنَّمَا ذكر الْمَسْجِد فِي التَّرْجَمَة لاتصاله بمصلى الْجَنَائِز. قلت: نذْكر وَجه ذكره فِي بَيَان الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.

7231 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ

(8/131)


ابنِ المُسَيَّبِ وَأبِي سَلَمَةَ أنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ نَعَى لَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّجَاشِيَّ صاحِبَ الحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي ماتَ فِيهِ قَالَ اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ. وعَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَفَّ بِهِمْ بِالمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أرْبَعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صف بهم بالمصلى) ، وَقد تقدم الحَدِيث فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَيحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، مصغر بكر، المَخْزُومِي الْمصْرِيّ. وَقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد. قَوْله: (النجاش) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: نعي (وَصَاحب الْحَبَشَة) مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفته، وَالْيَوْم مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَعَن ابْن شهَاب) مَعْطُوف على إِسْنَاد الْمصدر وَالرِّوَايَة عَن ابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ فِي الأول: بالعنعنة، وَفِي الثَّانِي: بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْإِفْرَاد.

9231 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسى بنُ عُقْبَةَ عنْ نَافَعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ اليَهُودَ جاؤا إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأةٍ زَنَيَا فأمَرَ بِهِما فَرُجِمَا قَرِيبا مِنْ مَوْضِعِ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ..
وَجه مطابقه هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة لَا يَتَأَتَّى إلاَّ إِذا قُلْنَا إِن: عِنْد، فِي قَوْله: (عِنْد الْمَسْجِد) ، يكون بِمَعْنى: فِي، أَو نقُول. قَوْله: بَاب الصَّلَاة على الْجَنَائِز بالمصلى وَالْمَسْجِد، يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا: الاثبات، وَالْآخر: النَّفْي، وَلَعَلَّ غَرَض البُخَارِيّ النَّفْي بِأَن لَا يصلى عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِد بِدَلِيل تعْيين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوضِع الْجِنَازَة عِنْد الْمَسْجِد، وَلَو جَازَ فِيهِ لما عينه فِي خَارجه، وَبِهَذَا يدْفع كَلَام ابْن بطال: لَيْسَ فِيهِ، أَي: فِي حَدِيث ابْن عمر، دَلِيل على الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، إِنَّمَا الدَّلِيل فِي حَدِيث عَائِشَة: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سُهَيْل بن بَيْضَاء فِي الْمَسْجِد) . قلت: لَو كَانَ إِسْنَاده على شَرطه لأخرجه فِي (صَحِيحه) وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِيمَا مضى عَن قريب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد الله الْحزَامِي، وَقد مر. الثَّانِي: أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء: اسْمه أنس بن عِيَاض، مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف، مر فِي أول الْوضُوء. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي الِاعْتِصَام عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم عَن مُحَمَّد بن معدان.
أما رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فَقَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر حَدثنَا أَبُو ضَمرَة حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن الْيَهُود جاؤوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل مِنْهُم وَامْرَأَة قد زَنَيَا، فَقَالَ لَهُم: كَيفَ تَفْعَلُونَ بِمن زنى مِنْكُم؟ قَالُوا: نحممهما ونضربهما، فَقَالَ: لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة الرَّجْم؟ فَقَالُوا: لَا نجد فِيهَا شَيْئا. فَقَالَ لَهُم: عبد الله بن سَلام: كَذبْتُمْ، فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ إِن كُنْتُم صَادِقين، فَوضع مدراسها الَّذِي يدرسها مِنْهُم كَفه على آيَة الرَّجْم، فَطَفِقَ يقْرَأ مَا دون يَده وَمَا وَرَاءَهَا وَلَا يقْرَأ آيَة الرَّجْم. فَنزع يَده عَن آيَة الرَّجْم فَقَالَ: مَا هَذِه؟ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك قَالُوا: هِيَ آيَة الرَّجْم، فَأمر بهما فَرُجِمَا قَرِيبا من حَيْثُ تُوضَع الْجَنَائِز عِنْد الْمَسْجِد، فَرَأَيْت صَاحبهَا يحني عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَة) . هَذَا لَفظه فِي سُورَة آل عمرَان فِي التَّفْسِير. وَأما لَفظه فِي كتاب الِاعْتِصَام، فكلفظه هَهُنَا سندا ومتنا بعينهما.
وَأما رِوَايَة مُسلم فَفِي الْحُدُود: حَدثنِي الحكم بن مُوسَى أَبُو صَالح

(8/132)


حَدثنَا شُعَيْب بن إِسْحَاق أخبرنَا عبيد الله عَن نَافِع أَن عبد الله أخبرهُ أَن رَسُول الله أَتَى بِيَهُودِيٍّ وبيهودية قد زَنَيَا فَانْطَلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جَاءَ يهود فَقَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة على من زنى؟ قَالُوا: نسود وُجُوههمَا ونحملهما وَنُخَالِف بَين وُجُوههمَا وَيُطَاف بهما. قَالَ: فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ إِن كُنْتُم صَادِقين، فجاؤا بهَا فقرأوها حَتَّى إِذا مروا بِآيَة الرَّجْم وضع الْفَتى الَّذِي يقْرَأ يَده على آيَة الرَّجْم، وَقَرَأَ مَا بَين يَديهَا وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلام، وَهُوَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مُره فَليرْفَعْ يَده، فَرَفعهَا فَإِذا تحتهَا آيَة الرَّجْم، فَأمر بهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمهما. قَالَ عبد الله بن عمر: كنت فِيمَن رجمهما، فَلَقَد رَأَيْته يَقِيهَا من الْحِجَارَة بِنَفسِهِ) .
وَأما رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَفِي الرَّجْم: أخبرنَا مُحَمَّد بن معدان، قَالَ: حَدثنَا الْحسن ابْن أعين، قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا مُوسَى عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن الْيَهُود جاؤوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل مِنْهُم وَامْرَأَة قد وزنيا، قَالَ: فَكيف تَفْعَلُونَ بِمن زنى مِنْكُم؟ قَالُوا: نضربهما. قَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة؟ قَالُوا: مَا نجد فِيهَا شَيْئا. فَقَالَ: عبد الله بن سَلام: كَذبْتُمْ فِي التَّوْرَاة الرَّجْم، فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين، فجاؤوا بِالتَّوْرَاةِ فَوضع مدرسها الَّذِي يدرسها مِنْهُم كَفه على آيَة الرَّجْم فَطَفِقَ يقْرَأ مَا دون يَده وَمَا وَرَاءَهَا وَلَا يقْرَأ آيَة الرَّجْم، فَضرب عبد الله بن سَلام يَده فَقَالَ: مَا هَذِه؟ قَالَ: هِيَ آيَة الرَّجْم، فَأمر بهما رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرُجِمَا قَرِيبا حَيْثُ تُوضَع الْجَنَائِز. قَالَ عبد الله: فَرَأَيْت صَاحبهَا يحني عَلَيْهَا ليقيها الْحِجَارَة) . وَفِي لفظ لَهُ: (فجاؤوا بِالتَّوْرَاةِ وجاؤوا بقارىء لَهُم أَعور، فَقَرَأَ حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع مِنْهَا وضع يَده عَلَيْهِ، فَقيل: إرفع يدك فَرفع فَإِذا هِيَ تلوح، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد إِن فِيهَا الرَّجْم وَلَكنَّا كُنَّا نكاتمه) الحَدِيث، وَفِي لفظ لَهُ: (فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلام: (إزحل كفك فَإِذا هُوَ بِالرَّجمِ يلوح) .
قَوْله: (نحممهما) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: نسودهما بالحممة، وَهِي الفحمة وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ونحملهما) ، بِالْحَاء وَاللَّام أَي: نحملهما على جمل، وَفِي رِوَايَة: (نجملهما) بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة أَي: نجعلهما جَمِيعًا على الْجمل. قَوْله: (لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة الرَّجْم؟) قَالُوا: هَذَا السُّؤَال لَيْسَ لتقليدهم، وَلَا لمعونة الحكم مِنْهُم، وَإِنَّمَا هُوَ لإلزامهم بِمَا يعتقدونه فِي كِتَابهمْ. وَلَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أُوحِي إِلَيْهِ أَن الرَّجْم فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة فِي أَيْديهم لم يغيروه كَمَا غيروا أَشْيَاء، أَو أَنه أخبرهُ بذلك من أسلم مِنْهُم، وَلِهَذَا لم يخف ذَلِك عَلَيْهِ حِين كتموه. قَوْله: (مدراسها) ، بِكَسْر الْمِيم على وزن: مفعال، من أبنية الْمُبَالغَة، وَهُوَ صَاحب دراسة كتبهمْ، من: درس يدرس درسا ودراسة، وأصل الدراسة: الرياضة والتعهد للشَّيْء، وَكَذَلِكَ الْمدرس، بِكَسْر الْمِيم على وزن: مفعل، من أبنية الْمُبَالغَة، وَجَاء فِي حَدِيث آخر: (حَتَّى أَتَى الْمِدْرَاس) ، بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْبَيْت الَّذِي يدرسون فِيهِ، ومفعال غَرِيب فِي الْمَكَان. قَوْله: (فَطَفِقَ) ، بِكَسْر الْفَاء: بِمَعْنى أَخذ فِي الْفِعْل وَشرع يعْمل، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (يحني) من حَنى يحنو ويحني إِذا أشْفق وَعطف. قَوْله: (يَقِيهَا) أَي: يحفظها، من: وقى يقي وقاية، وَهَذِه الْجُمْلَة محلهَا النصب على الْحَال. قَوْله: (إزحل) ، بالزاي: أزل كفك. قَوْله: (يلوح) أَي: يظْهر ويبرق.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل لوُجُوب حد الزِّنَا على الْكَافِر وَأَنه يَصح نِكَاحه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لِأَنَّهُ لَا يجب الرَّجْم إلاَّ على الْمُحصن، فَلَو لم يَصح نِكَاحه لم يثبت إحْصَانه وَلم يرْجم. قلت: من جملَة شُرُوط الْإِحْصَان الْإِسْلَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَعَن أبي يُوسُف، أَنه لَيْسَ بِشَرْط، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِحَدِيث الْبَاب. قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمَدِينَة، وَصَارَ مَنْسُوخا بهَا، ثمَّ نسخ الحلد فِي حق الْمُحصن، وَالْكَافِر لَيْسَ بمحصن، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَمَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خُذُوا عني خُذُوا عني: قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا بالبكر جلد مائَة وَنفي سنة وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم) . فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَينهمَا بالثيوبة، فَمن فرق بَينهمَا بِالْإِسْلَامِ فقد زَاد على النَّص. قلت: هَذَا مَنْسُوخ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يحكم بعد نزُول الْقُرْآن إلاَّ بِمَا فِيهِ، وَفِيه النَّص على الْجلد فَقَط. فَإِن قلت: رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا قبلوا عقد الذِّمَّة فأعلموهم أَن لَهُم مَا للْمُسلمين وَعَلَيْهِم مَا على الْمُسلمين، وَالرَّجم على الْمُسلم الثّيّب، فَكَذَا على الْكَافِر الثّيّب. قلت: الرَّجْم غير وَاجِب على كَافَّة الْمُسلمين، فَدلَّ على أَنه يخْتَص بالزناة المحصنين دون غَيرهم.

(8/133)


ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء أَجمعُوا على وجوب حد جلد الزَّانِي الْبكر مائَة، ورجم الْمُحصن وَهُوَ الثّيّب، وَلم يُخَالف فِي هَذَا أحد من أهل الْقبْلَة إلاَّ مَا حكى القَاضِي وَغَيره عَن الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة: كالنظام وَأَصْحَابه، فَإِنَّهُم لم يَقُولُوا بِالرَّجمِ، وَاخْتلفُوا فِي جلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم، فَقَالَت طَائِفَة: يجب الْجمع بَينهمَا فيجلد ثمَّ يرْجم، وَبِه قَالَ عَليّ بن أبي طَالب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه وَدَاوُد وَأهل الظَّاهِر وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي. وَقَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء: الْوَاجِب الرَّجْم وَحده، وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن طَائِفَة من أهل الحَدِيث أَنه يجب الْجمع بَينهمَا إِذا كَانَ الزَّانِي شَيخا ثَيِّبًا وَإِن كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اقْتصر على الرَّجْم وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل لَا أصل لَهُ، وَالْمرَاد من الْبكر من الرِّجَال من لم يُجَامع فِي نِكَاح صَحِيح، وَهُوَ حر عَاقل بَالغ، وَالْمرَاد من الثّيّب من جَامع فِي دهره مرّة بِنِكَاح صَحِيح وَهُوَ حر عَاقل بَالغ، وَالرجل وَالْمَرْأَة فِي هَذَا سَوَاء. قَالَ النَّوَوِيّ: وَسَوَاء فِي كل هَذَا الْمُسلم وَالْكَافِر والرشيد والمحجور عَلَيْهِ بِسَفَه، وَقَالَ أَيْضا: وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْبكر: (وَنفي سنة) ، فَفِيهِ حجَّة للشَّافِعِيّ، والجماهير أَنه يجب نَفْيه سنة رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. وَقَالَ الْحسن: لَا يجب النَّفْي. وَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ: لَا نفي على النِّسَاء، وروى مثله عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالُوا: لِأَنَّهَا عَورَة وَفِي نَفيهَا تَضْييع لَهَا وتعريض للفتنة، وَلِهَذَا نهيت عَن المسافرة إلاَّ مَعَ محرم.
وَأما العَبْد وَالْأمة ففيهما ثَلَاثَة أَقْوَال للشَّافِعِيّ: أَحدهمَا: يغرب كل وَاحِد مِنْهُمَا سنة لظَاهِر الحَدِيث، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَابْن جرير. وَالثَّانِي: يغرب نصف سنة، وَهَذَا أصح الْأَقْوَال. وَالثَّالِث: لَا يغرب الْمَمْلُوك أصلا، وَبِه قَالَ الْحسن وَحَمَّاد وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق.
وَفِيه: أَن الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرْع، قَالَه النَّوَوِيّ. قلت: فِيهِ: اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء على مَا عرف فِي مَوْضِعه. وَفِيه: أَن الْكفَّار إِذا تحاكموا إِلَيْنَا حكم القَاضِي بَينهم بِحكم شرعنا. فَإِن قلت: كَيفَ رجم اليهوديان أبِالْبَيِّنة أم بِالْإِقْرَارِ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه بِالْإِقْرَارِ، وَقد جَاءَ فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَغَيره أَنه شهد عَلَيْهِمَا أَرْبَعَة أَنهم رَأَوْا ذكره فِي فرجهَا، فَإِن كَانَ الشُّهُود مُسلمين فَظَاهر، وَإِن كَانُوا كفَّارًا فَلَا اعْتِبَار بِشَهَادَتِهِم، وَيتَعَيَّن أَنَّهُمَا أقرا بِالزِّنَا.

16 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة اتِّخَاذ الْمَسَاجِد على الْقُبُور. فَإِن قلت: يَأْتِي بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب: بَاب بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر، فَمَا وَجه هذَيْن الْبَابَيْنِ؟ قلت: وَجه ذَلِك أَنَّهُمَا فِي الحكم سَوَاء، غير أَنه صرح بِالْكَرَاهَةِ فِي تَرْجَمَة هَذَا الْبَاب، وَاكْتفى هُنَاكَ بِدلَالَة حَدِيث الْبَاب على الْكَرَاهَة، وَقيل: الاتخاذ أَعم من الْبناء، فَلذَلِك أفرده بالترجمة، ولفظها يَقْتَضِي أَن بعض الاتخاذ لَا يكره، فَكَأَنَّهُ يفصل بَين مَا إِذا ترَتّب على الاتخاذ مفْسدَة أم لَا. قلت: لَا نسلم أَن لَفظهَا يَقْتَضِي أَن بعض الاتخاذ لَا يكره، وَدَعوى الْعُمُوم بَين الاتخاذ وَالْبناء غير صَحِيحَة.
وَلَمَّا ماتَ الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ضَرَبَتِ امْرَأتُهُ القُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً ثُمَّ رُفِعَتْ فَسَمِعُوا صائِحا يَقُولُ ألاَ هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا فأجابَهُ الآخَرُ بَلْ يَئِسُوا فانْقَلَبُوا

مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الْقبَّة المضروبة لم تخل عَن الصَّلَاة فِيهَا، واستلزم ذَلِك اتِّخَاذ الْمَسْجِد عِنْد الْقَبْر، وَقد يكون الْقَبْر فِي جِهَة الْقبْلَة فتزداد الْكَرَاهَة. وَقَالَ ابْن بطال: ضربت الْقبَّة على الْحسن وسكنت فِيهَا وَصليت فِيهَا فَصَارَت كالمسجد، وَأورد البُخَارِيّ ذَلِك دَلِيلا على الْكَرَاهَة، وَكره أَحْمد أَن يضْرب على الْقَبْر فسطاطا. وَأوصى إِبْرَاهِيم مرّة أَن لَا تضربوا عَليّ فسطاطا. وَقَالَ ابْن حبيب: ضربه على قبر الْمَرْأَة أفضل من ضربه على قبر الرجل، وَضرب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على قبر زَيْنَب بنت جحش، وَقَالَ ابْن التِّين: وَمِمَّنْ كره ضربه على قبر الرجل ابْن عمر وَأَبُو سعيد وَابْن الْمسيب، وَضربت عَائِشَة على قبر أَخِيهَا فَنَزَعَهُ ابْن عمر، وضربه مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة على قبر ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن حبيب: أرَاهُ فِي الْيَوْم واليومين وَالثَّلَاثَة وَاسِعًا إِذا خيف من نبش أَو غَيره، وَالْحسن بن الْحسن بِلَفْظ التَّكْبِير فيهمَا ابْن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أحد أَعْيَان بني هَاشم فضلا وخبرا. مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين، وَامْرَأَته فَاطِمَة بنت حُسَيْن بن عَليّ، وَهِي الَّتِي حَلَفت لَهُ

(8/134)


بِجَمِيعِ مَا تملكه أَنَّهَا لَا تزوج عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان، ثمَّ تزوجته، فأولدها مُحَمَّد الديباج. قَوْله: (قبَّة) ، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْقبَّة، بِالضَّمِّ من الْبناء وَالْجمع: قبب وقباب. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقبَّة من الْخيام: بَيت صَغِير مستدير، وَهُوَ من بيُوت الْعَرَب، وَضرب الْقبَّة: نصبها وإقامتها على أوتاد مَضْرُوبَة فِي الأَرْض، وَجَاء فِي رِوَايَة الْمُغيرَة ابْن مقسم: لما مَاتَ الْحسن بن الْحسن ضربت امْرَأَته على قَبره فسطاطا وأقامت عَلَيْهِ سنة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْفسْطَاط بَيت من شعر، وَفِي (الْمغرب) : هُوَ خيمة عَظِيمَة، وَفِي (الباهر) : هُوَ مضرب السُّلْطَان الْكَبِير وَهُوَ السرادق أَيْضا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ ضرب من الْأَبْنِيَة فِي السّفر دون السرادق، وَقَالَ ابْن قرقول: هُوَ الخباء وَنَحْوه، وَقَالَ ابْن السّكيت: فسطاط، بِضَم الْفَاء، وفسطاط بِكَسْرِهَا، وفستاط وفستاط وفساط وفساط، وَالْجمع: فساطيط وفساسيط. وَفِي (الباهر) : وفساتيط. قَوْله: (ثمَّ رفعت) على بِنَاء الْفَاعِل بِفَتْح الرَّاء وَبِضَمِّهَا أَيْضا على بِنَاء الْمَفْعُول. قَوْله: (فَسمِعت) ويروى: (فَسَمِعُوا) ، قَوْله: (مَا فقدوا) ويروى (مَا طلبُوا) قَوْله: (فَأَجَابَهُ آخر) أَي: صائح آخر، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون هَذَانِ الصائحان من مؤمني الْجِنّ أَو من الْمَلَائِكَة.

0331 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى اعنْ شيْبَانَ عنْ هِلاَلٍ هُوَ الوَزَّانُ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ لَعَنَ الله اليَهُودَ والنَّصَارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدا قالَتْ ولَوْلاَ ذالِكَ لأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أنِّي أخْشَى أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ التلازم، وَذَلِكَ أَن التَّرْجَمَة اتِّخَاذ الْمَسْجِد على الْقَبْر، ومدلول الحَدِيث اتِّخَاذ الْقَبْر مسجداولكنهما متلازمان، وَإِن كَانَ مفهوماهما متغايران.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله بن مُوسَى أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: شَيبَان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي النَّحْوِيّ. الثَّالِث: هِلَال بن حميد، وَيُقَال ابْن عبد الله الْوزان. الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَفِي العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع أَن شَيْخه بَصرِي سكن الْكُوفَة، وشيبان وهلال كوفيان وَعُرْوَة مدنِي. وَفِيه: أَن هلالاً مَذْكُور بصنعته الْمَشْهُور أَنه ابْن أبي حمد، وَكَذَا وَقع مَنْسُوبا عِنْد ابْن أبي شيبَة والإسماعيلي وَغَيرهمَا. وَقيل: قَالَ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : قَالَ وَكِيع: هِلَال بن حميد، وَقَالَ مرّة: هِلَال بن عبد الله، وَلَا يَصح قلت: وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: هِلَال بن مِقْلَاص.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه فِي الْمَغَازِي عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، كِلَاهُمَا عَن هَاشم ابْن الْقَاسِم عَن شَيبَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي مَرضه) ، إِنَّمَا قَالَه فِي مَرضه تحذيرا مِمَّا صنعوه. قَوْله: (لعن الله) ، اللَّعْن: الطَّرْد والإبعاد، فهم مطرودون ومبعودون من الرَّحْمَة، ولعنوا بكفرهم. قَوْله: (مَسْجِدا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مساجدا) . قَوْله: (لَوْلَا ذَلِك لأبرز) حَاصله: لَوْلَا خشيَة الاتخاذ لأبرز قَبره، أَي: لكشف قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يتَّخذ عَلَيْهِ الْحَائِل، وَلَكِن خشيَة الاتخاذ مَوْجُودَة، فَامْتنعَ الإبراز، لِأَن: لَوْلَا، لِامْتِنَاع الشَّيْء لوُجُود غَيره، وَهَذَا قالته عَائِشَة قبل أَن يُوسع الْمَسْجِد، وَلِهَذَا لما وسع الْمَسْجِد جعلت حُجْرَتهَا مُثَلّثَة الشكل محددة حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لأحد أَن يُصَلِّي إِلَى جِهَة الْقَبْر مَعَ اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَفِي رِوَايَة: (لأبرزوا) ، بِلَفْظ الْجمع أَي: لكشفوا قَبره كشفا ظَاهرا من غير بِنَاء بني عَلَيْهِ يمْنَع من الدُّخُول إِلَيْهِ. قَوْله: (غير أَنه خشِي) وَالْهَاء فِي أَنه ضمير الشَّأْن، وخشي على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَفِي رِوَايَة (خشى) على بِنَاء الْمَعْلُوم، فعلى هَذَا الضَّمِير فِي: أَنه، يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خشِي أَن يتَّخذ قَبره مَسْجِدا وَأمرهمْ بترك الإبراز. وَفِي رِوَايَة: (إِنِّي أخْشَى) ، وَهَذِه تَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ الَّتِي منعت من إبرازه.
وَمِمَّا

(8/135)


يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا من بَاب قطع الذريعة لِئَلَّا يعبد قَبره الْجُهَّال، كَمَا فعلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى بقبور أَنْبِيَائهمْ، وَكره مَالك الْمَسْجِد على الْقُبُور، وَإِذا بني مَسْجِد على مَقْبرَة دَائِرَة ليصلى فِيهِ فَلَا بَأْس بِهِ، وَكره مَالك الدّفن فِي الْمَسْجِد.

26 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على النُّفَسَاء إِذا مَاتَت فِي مُدَّة نفَاسهَا، وَالنُّفَسَاء: بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء: الْمَرْأَة الحديثة الْعَهْد بِالْولادَةِ، وَهِي صِيغَة مُفْردَة على غير الْقيَاس، وَقَالَ أَبُو عَليّ فِي كِتَابه (الْمَمْدُود والمقصور) : يَعْنِي، بِفَتْح النُّون لُغَة فِي نفسَاء، بِالضَّمِّ وَهِي ثَلَاث لُغَات يُقَال: امْرَأَة نفسَاء وَهِي الفصيحة الجيدة، ونفساء ونفساء وَهِي أفلها وأردؤها.

1331 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا حُسَيْنٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ عنْ سَمُرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ صَلَّيْتُ وَرَاءَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى امْرَأةٍ ماتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسْطَهَا.
(أنظر الحَدِيث 233 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمضى الحَدِيث فِي أول كتاب الْغسْل فِي: بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء وسنتها، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن أبي سريح عَن شَبابَة عَن شُعْبَة عَن حُسَيْن الْمعلم عَن ابْن بُرَيْدَة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: (أَن امْرَأَة مَاتَت فِي بطن فصلى عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ وَسطهَا) . وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَيزِيد بن زُرَيْع قد مر غير مرّة، وَيزِيد من الزِّيَادَة، وزريع مصغر الزَّرْع، وحسين هُوَ ابْن ذكْوَان الْمعلم، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. قَوْله: (وَسطهَا) ، بِسُكُون السِّين: يتَنَاوَل العجيزة أَيْضا لِأَنَّهُ أَعم من الْوسط بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي (التَّوْضِيح) : بِسُكُون السِّين هُوَ الصَّوَاب، وَقَيده بَعضهم بِالْفَتْح أَيْضا، وَكَون هَذِه الْمَرْأَة فِي نفَاسهَا وصف غير مُعْتَبر اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَة أَمر وَقع.
وَأما وصف كَونهَا امْرَأَة فَهَل هُوَ مُعْتَبر أم لَا؟ من الْفُقَهَاء من ألغاه، وَقَالَ: يُقَام عِنْد وسط الْجِنَازَة مُطلقًا، ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَمِنْهُم من خص ذَلِك بِالْمَرْأَةِ محاولة للستر. وَقيل: كَانَ قبل اتِّخَاذ الأنعشة والقباب.
وَأما الرجل فَعِنْدَ رَأسه لِئَلَّا ينظر إِلَى فرجه، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَأبي يُوسُف، وَالْمَشْهُور من الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل وَغَيره: أَن يقوم من الرجل وَالْمَرْأَة حذاء الصَّدْر، وَعَن الْحسن بحذاء الْوسط مِنْهُمَا. وَقَالَ مَالك: يقوم من الرجل عِنْد وَسطه وَمن الْمرْآة عِنْد منكبيها، وَقَالَ أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ، من الشَّافِعِيَّة: يقوم الإِمَام عِنْد صَدره وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَقطع بِهِ السَّرخسِيّ. قَالَ الصيدلاني: وَهُوَ اخْتِيَار أَئِمَّتنَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا البصريون: يقوم عِنْد صَدره، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ. وَقَالَ البغداديون: عِنْد رَأسه، وَقَالُوا: لَيْسَ فِي ذَلِك نَص، وَمِمَّنْ قَالَه الْمحَامِلِي وَصَاحب (الْحَاوِي) وَالْقَاضِي حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وروى حَرْب عَن أَحْمد كَقَوْل أبي حنيفَة، وَذكر عَن الْحسن التَّوسعَة فِي ذَلِك، وَبهَا قَالَ أَشهب وَابْن شعْبَان.
وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ.
وَالْإِجْمَاع قَائِم على أَنه لَا يقوم ملاصقا للجنازة، وَأَنه لَا بُد من فُرْجَة بَينهمَا، وَفِي الحَدِيث إِثْبَات الصَّلَاة على النُّفَسَاء، وَإِن كَانَت شهيدة وَعَن الْحسن أَنه لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا بِمَوْت من زنا وَلَا وَلَدهَا، وَقَالَ قَتَادَة: فِي وَلَدهَا.

36 - (بابٌ أَيْن يَقُومُ مِنَ المَرْأةِ وَالرَّجُلِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَيْن يقوم الْمُصَلِّي على الْمَيِّت من الْمَرْأَة وَالرجل؟ فَإِن قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب بَيَان مَوضِع قيام الرجل، فَلم ذكره فِي التَّرْجَمَة. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: للإشعار بِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا بِشَرْطِهِ فِي ذَلِك، وَأما لقياس الرجل على الْمَرْأَة إِذا لم يقل أحد بِالْفرقِ بَينهمَا، وَفِيه نظر أما فِي الأول فَلِأَنَّهُ لما لم يجد حَدِيثا فِي ذَلِك بِشَرْطِهِ لم يكن لذكره وَجه، وَأما فِي الثَّانِي فَمن أَيْن علم؟ لم يقل بِالْفرقِ بَينهمَا. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ عدم التَّفْرِقَة بَين الرجل وَالْمَرْأَة، وَأَشَارَ

(8/136)


إِلَى تَضْعِيف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي غَالب عَن أنس بن مَالك: (أَنه صلى على رجل فَقَامَ عِنْد رَأسه، وَصلى على امْرَأَة فَقَامَ عِنْد عجيزتها، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: أهكذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل؟ قَالَ: نعم. انْتهى. قلت: روى أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث مطولا وَسكت عَلَيْهِ، وسكوته دَلِيل رِضَاهُ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، فَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عبد الله بن مُنِير عَن سعيد بن عَامر عَن همام (عَن أبي غَالب، قَالَ: صليت مَعَ أنس بن مَالك على جَنَازَة رجل فَقَامَ حِيَال رَأسه، ثمَّ جاؤوا بِجنَازَة امْرَأَة من قُرَيْش فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَة صل عَلَيْهَا، فَقَامَ حِيَال وسط السرير، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ على الْجِنَازَة مقامك مِنْهَا وَمن الرجل مقامك مِنْهُ؟ قَالَ: نعم، فَلَمَّا فرغ قَالَ: إحفظوه) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث أنس حَدِيث حسن، وَاسم أبي غَالب: نَافِع، وَقيل: رَافع، وَكَيف يضعف هَذَا وَقد رَضِي بِهِ أَبُو دَاوُد وَحسنه التِّرْمِذِيّ، وَلَكِن لما كَانَ هَذَا الحَدِيث مُسْتَند الْحَنَفِيَّة طعنوا فِيهِ بِمَا لَا يفيدهم، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن لَا نسلم وقُوف البُخَارِيّ عَلَيْهِ، والتضعيف وَعَدَمه مبنيان عَلَيْهِ، وَذكر البُخَارِيّ الرجل فِي التَّرْجَمَة لَا يدل على عدم التَّفْرِقَة بَينهمَا عِنْده لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون مذْهبه غير هَذَا، وَذكر الرجل وَقع اتِّفَاقًا لَا قصدا.

2331 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حَدثنَا حُسَيْنٌ عنِ ابنِ بُرَيْدَةَ قَالَ حدَّثنا سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ صَلَّيْتُ وَرَاءَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى امْرَأةٍ ماتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
(أنظر الحَدِيث 233 وطرفه) .
ذكر حَدِيث سَمُرَة هُنَا من وَجه آخر عَن عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة وَقد مر فِي: بَاب رفع الْعلم عَن عبد الْوَارِث ابْن سعيد عَن حُسَيْن الْمعلم عَن عبد الله بن بُرَيْدَة إِلَى آخِره، وَفِي الْبَاب السَّابِق يرْوى عَن ابْن بُرَيْدَة عَن سَمُرَة بالعنعنة، وَهنا بِصِيغَة التحديث، وَهُنَاكَ يروي حُسَيْن عَن ابْن بُرَيْدَة بِالتَّحْدِيثِ، وَهَهُنَا بالعنعنة.

46 - (بَاب التَّكْبِيرِ عَلَى الجَنَازَةِ أرْبَعا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن التَّكْبِير على الْجِنَازَة أَربع تَكْبِيرَات، وَقد استقصينا الْكَلَام فِي عدد تَكْبِيرَات الْجِنَازَة فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة.
وقالَ حُمَيْدٌ صَلى بِنَا أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَكَبَّرَ ثَلاَثا ثُمَّ سَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَحميد هَذَا هُوَ حميد بن أبي حميد الطَّوِيل الْخُزَاعِيّ الْبَصْرِيّ، وَاخْتلفُوا فِي اسْم أبي حميد، فَقيل: دَاوُد، وَقيل: تيرويه، وَقيل: زادويه، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: طرخان، وَقيل: مهْرَان، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه عبد الرَّزَّاق من غير طَرِيق حميد، وَذَلِكَ: عَن معمر عَن قَتَادَة (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كبر على جَنَازَة ثَلَاثًا ثمَّ انْصَرف نَاسِيا، فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَة إِنَّك كَبرت ثَلَاثًا؟ قَالَ: فصفوا، فَكبر الرَّابِعَة) . فَإِن قلت: رُوِيَ عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الِاقْتِصَار على ثَلَاث. قَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من طَرِيق معَاذ عَن عمرَان بن حدير، قَالَ: صليت مَعَ أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على جَنَازَة، فَكبر عَلَيْهَا ثَلَاثًا لم يزدْ عَلَيْهَا) . وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق قَالَ: قيل لأنس: إِن فلَانا كبر ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَهل التَّكْبِير إلاَّ ثَلَاثًا؟ قلت: يُمكن التَّوْفِيق بِأَن يَكُونَا وَاقِعَتَيْنِ لتغايرهما، فَفِي الأولى كَانَ يرى الثَّلَاث مجزئة، ثمَّ اسْتَقر على الْأَرْبَع لما ثَبت عِنْده أَن الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ جَمَاهِير الصَّحَابَة هُوَ الْأَرْبَع. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَيحمل على أَن إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وهم. قلت: هَذَا الْحمل غير موجه، وَالْأَحْسَن مَا قُلْنَاهُ، وَأما قَوْله: وَهل التَّكْبِير إلاَّ ثَلَاث؟ يَعْنِي: غير تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق أَن أنسا قَالَ: أَو لَيْسَ التبكير ثَلَاثًا؟ فَقيل لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَة التَّكْبِير أَربع. قَالَ: أجل غير أَن وَاحِدَة افْتِتَاح الصَّلَاة. قَوْله: (فَكبر ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث تَكْبِيرَات. قَوْله: (فَقيل لَهُ) أَي: قيل لَهُ: كَبرت ثَلَاثًا. قَوْله:

(8/137)


(ثمَّ كبر الرَّابِعَة) ، أَي: التَّكْبِيرَة الرَّابِعَة. وَقَالَ ابْن حبيب: إِذا ترك بعض التَّكْبِير جهلا أَو نِسْيَانا أتم مَا بَقِي من التَّكْبِير، وَإِن رفعت إِذا كَانَ بِقرب ذَلِك فَإِن طَال وَلم تدفن أُعِيدَت الصَّلَاة عَلَيْهَا. وَإِن دفنت تركت، وَفِي (العتيبية) نَحوه عَن مَالك، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا خلاف فِي الْبطلَان إِذا رفعت فِي أثْنَاء الصَّلَاة، وَالأَصَح الصِّحَّة، وَإِن صلى عَلَيْهَا قبل وَضعهَا فَفِي الصِّحَّة وَجْهَان، وَعِنْدنَا كل تَكْبِيرَة قَائِمَة مقَام رَكْعَة حَتَّى لَو ترك تَكْبِيرَة مِنْهَا لَا تجوز صلَاته. كَمَا لَو ترك رَكْعَة، وَلِهَذَا قيل أَربع كأربع الظّهْر، والمسبوق بتكبيرة أَو أَكثر يَقْضِيهَا بعد السَّلَام، مَا لم ترفع الْجِنَازَة، وَلَو رفعت بِالْأَيْدِي وَلم تُوضَع على الأكتاف يكبر فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَعَن مُحَمَّد: إِن كَانَت إِلَى الأَرْض أقرب يكبر، وَإِن كَانَت إِلَى الأكتاف أقرب لَا يكبر. وَقيل: لَا يقطع حَتَّى يتباعد. وَفِي (الْأَشْرَاف) : قَالَ ابْن الْمسيب وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَقَتَادَة وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ: الْمَسْبُوق يقْضِي مَا فَاتَهُ مُتَتَابِعًا قبل أَن ترفع الْجِنَازَة، فَإِذا رفعت سلم وَانْصَرف، كَقَوْل أَصْحَابنَا، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول: وَقَالَ ابْن عمر: لَا يقْضِي مَا فَاتَهُ من التَّكْبِير، وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ والسختياني وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَلَو جَاءَ وَكبر الإِمَام أَرْبعا وَلم يسلم لم يدْخل مَعَه وفاتته الصَّلَاة، وَعند أبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ: يدْخل مَعَه وَيَأْتِي بالتكبيرات نسقا إِن خَافَ رفع الْجِنَازَة. وَفِي (الْمُحِيط) : وَعَلِيهِ الْفَتْوَى.

3331 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي ماتَ فِيهِ وخَرَجَ بِهِمْ إلَى المُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحَدِيث قد مضى فِي بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة.

4331 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا سَلِيمُ بنُ حَبَّانَ قَالَ حدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى عَلَى أصْحَمَةَ النَّجَاشِيُّ فَكَبَّرَ أرْبَعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة مثل الَّذِي قبله.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى: أَبُو بكر الْكُوفِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: سليم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر اللَّام: ابْن حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف منصرفا وَغير منصرف: ابْن بسطَام الْهُذلِيّ. الثَّالِث: سعيد بن ميناء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون وبالمد وَالْقصر: أَبُو الْوَلِيد. الرَّابِع: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سُلَيْمَان بَصرِي وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ سليم، بِالْفَتْح غَيره، وَسَعِيد بن ميناء مكي.
وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على أَصْحَمَة) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ: عَطِيَّة، وَهُوَ اسْم ذَلِك الْملك الصَّالح. قَوْله: (فَكبر أَرْبعا) أَي: أَربع تَكْبِيرَات.
وَقَالَ يَزِيدُ بنُ هَارُونَ وَعَبْدُ الصَّمعدِ عنْ سَلِيمٍ أصْحَمَةَ
يزِيد من الزِّيَادَة: ابْن هَارُون الوَاسِطِيّ، وَعبد الصَّمد عبد الْوَارِث أَي: قَالَ، يزِيد وَعبد الصَّمد مِمَّا روياه عَن سليم الْمَذْكُور بأسناده إِلَى جَابر، رَحمَه الله تَعَالَى: أَصْحَمَة، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: وَقَالَ يزِيد عَن سليم أَصْحَمَة، وَرِوَايَة يزِيد هَذِه وَصلهَا البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَنهُ.
وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ

أَي: تَابع يزِيد بن هَارُون عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَوصل رِوَايَته الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أَحْمد بن سعيد عَنهُ، وَوَقع فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : عَن يزِيد: صحمة، بِفَتْح الصَّاد وَسُكُون الْحَاء يَعْنِي بِحَذْف الْهمزَة، وَحكى الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن فِي رِوَايَة عبد الصَّمد

(8/138)


أصخمة، بِإِثْبَات الْألف وَالْخَاء الْمُعْجَمَة. قَالَ: وَهُوَ غلط، وَحكى الْكرْمَانِي أَن فِي بعض النّسخ فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: أصحبة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة عوض الْمِيم.