عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 56 - (بابُ قِرَاءَةِ فاتِحَةِ الكِتَابِ
عَلَى الجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة قِرَاءَة
الْفَاتِحَة على الْجِنَازَة، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَنقل
ابْن الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود وَالْحسن ابْن عَليّ
وَابْن الزبير والمسور بن مخرمَة مشروعيتها، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وَإِسْحَاق، وَنقل عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن
عمر: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَة، وَهُوَ قَول مَالك
والكوفيين. قلت: وَلَيْسَ فِي صَلَاة الْجِنَازَة قِرَاءَة
الْقُرْآن عندنَا. وَقَالَ ابْن بطال: وَمِمَّنْ كَانَ لَا
يقْرَأ فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة وينكر: عمر بن
الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة،
وَمن التَّابِعين: عَطاء وطاووس وَسَعِيد بن الْمسيب
وَابْن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالْحكم،
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه قَالَ مُجَاهِد وَحَمَّاد
وَالثَّوْري، وَقَالَ مَالك: قِرَاءَة الْفَاتِحَة لَيست
مَعْمُولا بهَا فِي بلدنا فِي صَلَاة الْجِنَازَة، وَعند
مَكْحُول وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: يقْرَأ
الْفَاتِحَة فِي الأولى، وَقَالَ ابْن حزم: يقْرؤهَا فِي
كل تَكْبِيرَة عِنْد الشَّافِعِي، وَهَذَا النَّقْل عَنهُ
غلط، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يقْرؤهَا فِي كل
تَكْبِيرَة، وَهُوَ قَول شهر بن حَوْشَب، وَعَن الْمسور بن
مخرمَة: يقْرَأ فِي الأولى فَاتِحَة الْكتاب وَسورَة
قَصِيرَة.
وَقَالَ الحَسَنُ يَقْرَى علَى الطِّفْلِ بِفاتِحَةِ
الكِتَابِ ويَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطا
وَسَلَفا وَأجْرا
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوَصله أَبُو نصر عبد
الْوَهَّاب بن عَطاء الْخفاف فِي (كتاب الْجَنَائِز)
تأليفه: عَن سعيد بن أبي عرُوبَة أَنه سُئِلَ عَن
الصَّلَاة على الصَّبِي فَأخْبرهُم عَن قَتَادَة عَن
الْحسن أَنه كَانَ يكبر ثمَّ يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب
ثمَّ يَقُول: أللهم اجْعَلْهُ لنا سلفا وفرطا وَأَجرا.
قَوْله: (فرطا) الفرط بِالتَّحْرِيكِ الَّذِي يتَقَدَّم
الْوَارِدَة فيهيء لَهُم أَسبَاب الْمنزل. قَوْله: (وسلفا)
، بتحريك اللَّام: أَي: مُتَقَدما إِلَى الْجنَّة لأجلنا.
5331 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدثنَا
غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدٍ عنْ طَلْحَةَ.
قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا. حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا
سُفْيَانُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ طَلْحَةَ بنِ
عَبْدِ الله بنِ عَوْفٍ. قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَلَى جَنَازَةٍ
فَقَرأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ قَالَ لِيَعْلَمُوا أنَّهَا
سُنَّةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين
الْمُعْجَمَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: غنْدر، بِضَم
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال
وَضمّهَا: وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ، وَقد
تقدم. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: سعد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، مَاتَ عَام
خَمْسَة وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: طَلْحَة بن عبد
الله بن عَوْف ابْن أخي عبد الرَّحْمَن، كَانَ فَقِيها
سخيا يُقَال لَهُ: طَلْحَة الندي، مَاتَ عَام تِسْعَة
وَتِسْعين. السَّادِس: مُحَمَّد بن كثير ضد قَلِيل وَقد
تقدم. السَّابِع: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّامِن: عبد
الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع
فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل
فِي موضِعين. وَفِيه: طَرِيقَانِ عَن شيخين كِلَاهُمَا
مسميان بِمُحَمد. وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُورَة بلقبه.
وَفِيه: أَن شَيْخه مُحَمَّد بن بشار وَشَيخ شَيْخه بصريان
وَشعْبَة واسطي وَسعد وَطَلْحَة مدنيان وَمُحَمّد بن كثير
بَصرِي وسُفْيَان كُوفِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز
عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ
عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان
بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بِهِ،
وَعَن الْهَيْثَم بن أَيُّوب الطَّالقَانِي عَن
إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه.
(8/139)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَقَرَأَ
بِفَاتِحَة الْكتاب) ، لَيْسَ فِيهِ بَيَان لموْضِع
الْقِرَاءَة، قَالَ شَيخنَا زين الدّين: هُوَ مُبين فِي
حَدِيث جَابر، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق
الشَّافِعِي، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن
عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل (عَن جَابر بن عبد الله: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كبر على الْمَيِّت
أَرْبعا وَقَرَأَ بِأم الْقُرْآن بعد التَّكْبِيرَة
الأولى) . قَالَ شَيخنَا: وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ:
وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. قَوْله:
(ليعلموا أَنَّهَا) أَي: أَن قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي
صَلَاة الْجِنَازَة سنة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد:
(إِنَّهَا من السّنة) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ
وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ: (فَأخذت بِيَدِهِ
فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: يَا ابْن أخي إِنَّه حق
وَسنة) . وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (إِنَّه من
السّنة، أَو من تَمام السّنة) . وَفِي رِوَايَة للنسائي
بِلَفْظ: (فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة وجهر
حَتَّى أسمعنا، فَلَمَّا فرغ أخذت بِيَدِهِ فَسَأَلته،
فَقَالَ: سنة وَحقّ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: أَن التِّرْمِذِيّ لما روى هَذَا الحَدِيث، قَالَ:
هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وَالْعَمَل على
هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَغَيرهم يختارون أَن يقْرَأ بِفَاتِحَة
الْكتاب بعد التَّكْبِيرَة الأولى، وَهُوَ قَول
الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق.
الثَّانِي: مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي من
أَن الْقِرَاءَة بعد التَّكْبِيرَة الأولى، هَل هُوَ على
سَبِيل الْوُجُوب أَو على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب؟ حكى
الرَّوْيَانِيّ وَغَيره عَن نَص الشَّافِعِي أَنه: لَو أخر
قِرَاءَة الْفَاتِحَة إِلَى التَّكْبِيرَة الثَّانِيَة
جَازَ، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد الِاسْتِحْبَاب دون
الْوُجُوب، وَحكى ابْن الرّفْعَة والبندنيجي وَالْقَاضِي
حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ
وَالْمُتوَلِّيّ تعين الْقِرَاءَة عقيب التَّكْبِيرَة
الأولى، وَاخْتلف فِي الْمَسْأَلَة كَلَام النَّوَوِيّ،
فَجزم فِي (الْبَيَان) بِوُجُوب قرَاءَتهَا فِي
التَّكْبِيرَة الأولى، وَخَالف ذَلِك فِي (الرَّوْضَة) :
فَقَالَ: إِنَّه يجوز تَأْخِيرهَا إِلَى التَّكْبِيرَة
الثَّانِيَة. وَقَالَ فِي (شرح الْمُهَذّب) فَإِن قَرَأَ
الْفَاتِحَة بعد تَكْبِيرَة أُخْرَى غير الأولى جَازَ،
وَكَذَا قَالَ فِي (الْمِنْهَاج) .
الثَّالِث: لَيْسَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس صفة
الْقِرَاءَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَهْر والإسرار، وَعند
الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة
عَن ابْن عجلَان عَن سعيد بن أبي سعيد، قَالَ: سَمِعت ابْن
عَبَّاس يجْهر بِفَاتِحَة الْكتاب فِي الصَّلَاة على
الْجِنَازَة، وَيَقُول: إِنَّمَا فعلت لِتَعْلَمُوا
أَنَّهَا سنة، فقد يسْتَدلّ بِهِ على الْجَهْر بهَا،
وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ لأَصْحَاب الشَّافِعِي فِيمَا
إِذا كَانَت الصَّلَاة عَلَيْهَا لَيْلًا. قَالَ شَيخنَا
زين الدّين: وَالصَّحِيح أَنه يسر بهَا لَيْلًا أَيْضا
وَأما النَّهَار فاتفقوا على أَنه يسر فِيهِ. قَالَ:
وَيُجَاب عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ أَرَادَ بذلك إعلامهم
بِمَا يقْرَأ ليتعلموا ذَلِك، وَلَعَلَّه جهر بِبَعْضِهَا،
كَمَا صَحَّ فِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يسمعهم الْآيَة أَحْيَانًا فِي صَلَاة
الظّهْر، وَكَانَ مُرَاده ليعرفهم السُّورَة الَّتِي كَانَ
يقْرَأ بهَا فِي الظّهْر. فَإِن قيل للشَّافِعِيَّة: لِمَ
لم تقرأوا بِسُورَة مَعَ الْفَاتِحَة كَمَا فِي غَيرهَا من
الصَّلَوَات؟ مَعَ أَن فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ
الْمَذْكُورَة آنِفا: فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب
وَسورَة؟ وَأجِيب: عَن ذَلِك بِأَن الْبَيْهَقِيّ قَالَ
فِي (سنَنه) إِن ذكر السُّورَة فِيهِ غير مَحْفُوظ.
الرَّابِع: قَول الصَّحَابِيّ من السّنة حكمه حكم
الْمَرْفُوع على القَوْل الصَّحِيح، قَالَه شَيخنَا زين
الدّين. وَفِيه: خلاف مَشْهُور.
ووردت أَحَادِيث أخر فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي صَلَاة
الْجِنَازَة. مِنْهَا: حَدِيث أم شريك، رَوَاهُ ابْن
مَاجَه عَنْهَا، قَالَت: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن نَقْرَأ على الْجِنَازَة بِفَاتِحَة
الْكتاب) . وَمِنْهَا: حَدِيث أم عفيف النهدية أَنَّهَا
قَالَت: (أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن
نَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب على ميتنا) رَوَاهُ أَبُو
نعيم. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة بن سهل أَنه قَالَ:
(السّنة فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة أَن يقْرَأ فِي
التَّكْبِيرَة الأولى بِأم الْقُرْآن مخافته، ثمَّ يكبر
ثَلَاثًا، وَالتَّسْلِيم عِنْد الْأَخِيرَة) ، رَوَاهُ
النَّسَائِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : إِن
إِسْنَاده على شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وَأَبُو
أُمَامَة هَذَا صَحَابِيّ، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: لم
يعقل بِرُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: أَبُو
أُمَامَة بن سهل بن حنيف: اسْمه أسعد، سَمَّاهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَدِيثه مُرْسل، وروى
ابْن أبي شيبَة عَن رجل من هَمدَان: أَن عبد الله بن
مَسْعُود قَرَأَ على جَنَازَة بِفَاتِحَة الْكتاب، وروى
أَيْضا من حَدِيث أبي الْعُرْيَان الْحذاء، قَالَ: صليت
خلف الْحسن بن عَليّ على جَنَازَة، فَقلت لَهُ: كَيفَ
صنعت؟ قَالَ: قَرَأت عَلَيْهَا بِفَاتِحَة الْكتاب، وَعَن
ابْن أبي عون: كَانَ الْحسن بن أبي الْحسن يقْرَأ
بِالْفَاتِحَةِ فِي كل تَكْبِيرَة على الْجِنَازَة،
وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا قَول شهر بن حَوْشَب، وَقَالَ
الضَّحَّاك: أَقرَأ فِي التكبيرتين الْأَوليين بِفَاتِحَة
الْكتاب، وَكَانَ مَكْحُول يفعل ذَلِك، وَعَن فضَالة مولى
(8/140)
عمر أَن الَّذِي كَانَ صلى على أبي بكر أَو
عمر، أَقرَأ عَلَيْهِ بِفَاتِحَة الْكتاب، وَقَالَ ابْن
بطال: رُوِيَ عَن ابْن الزبير وَعُثْمَان بن حنيف
أَنَّهُمَا كَانَا يقرآن عَلَيْهَا بِالْفَاتِحَةِ، وَفِي
(كتاب الْجَنَائِز) للمزني: وبلغنا أَن أَبَا بكر وَغَيره
من الصَّحَابَة كَانُوا يقرؤون بِأم الْقُرْآن عَلَيْهَا.
وَفِي (الْمحلى) : صلى الْمسور بن مخرمَة فَقَرَأَ فِي
التَّكْبِيرَة الأولى بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة قَصِيرَة
رفع بهما صَوته، فَلَمَّا فرغ قَالَ: لَا أَجْهَل أَن تكون
هَذِه الصَّلَاة عجماء، وَلَكِنِّي أردْت أَن أعلمكُم أَن
فِيهَا قِرَاءَة. وَرُوِيَ عَن أبي الدَّرْدَاء وَأنس
وَأبي هُرَيْرَة: أَنهم كَانُوا يقرأون بِالْفَاتِحَةِ.
قلت: قد ذكرنَا فِي أول الْبَاب عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَن لَا قِرَاءَة فِي صَلَاة
الْجِنَازَة، وَعَن ابْن مَسْعُود: لم يُوَقت فِيهَا
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قولا وَلَا قِرَاءَة،
وَلِأَن مَا لَا رُكُوع فِيهِ لَا قِرَاءَة فِيهِ كسجود
التِّلَاوَة، وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ على ترك الْقِرَاءَة
فِي الأولى بِتَرْكِهَا فِي بَاقِي التَّكْبِيرَات، وبترك
التَّشَهُّد. وَقَالَ: لَعَلَّ، قِرَاءَة من قَرَأَ
الْفَاتِحَة من الصَّحَابَة كَانَ على وَجه الدُّعَاء لَا
على وَجه التِّلَاوَة.
وَمن الدُّعَاء للْمَيت مَا رَوَاهُ مُسلم (عَن عَوْف بن
مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: صلى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَنَازَة فَحفِظت من
دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ إغفر لَهُ وارحمه
وعافه واعف عَنهُ، وَأكْرم نزله ووسع مدخله، واغسله
بِالْمَاءِ والثلج وَالْبرد، ونقه من الْخَطَايَا كَمَا
نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس، وأبد لَهُ دَارا خيرا
من دَاره، وَأهلا خيرا من أَهله، وزوجا خيرا من زوجه
وَأدْخلهُ الْجنَّة وأعذه من عَذَاب الْقَبْر وَمن عَذَاب
النَّار، حَتَّى تمنيت أَن أكون ذَلِك الْمَيِّت) . وروى
أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: (صلى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَنَازَة فَقَالَ: أللهم
إغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وَكَبِيرنَا، وَذكرنَا
وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا. أللهم من أحييته منا فأحيه من
الْإِيمَان، وَمن توفيته منا فتوفه على الْإِسْلَام. أللهم
لَا تَحْرِمنَا أجره وَلَا تضلنا بعده) . وروى أَيْضا (عَن
وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، قَالَ: صلى بِنَا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على رجل من الْمُسلمين، فَسَمعته
يَقُول: أللهم إِن فلَان ابْن فلَان فِي ذِمَّتك، فَقِهِ
من عَذَاب الْقَبْر) . قَالَ عبد الرَّحْمَن شيخ أبي
دَاوُد: (فِي ذِمَّتك وحبل جوارك فَقِهِ من فتْنَة
الْقَبْر وَعَذَاب النَّار وَأَنت أهل الْوَفَاء وَالْحق.
أللهم اغْفِر لَهُ وارحمه أَنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم)
. وَالْحَبل الْعَهْد والميثاق. وروى التِّرْمِذِيّ من
حَدِيث أبي إِبْرَاهِيم الأشْهَلِي عَن أَبِيه (قَالَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى على
الْجِنَازَة قَالَ: أللهم إغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا
وغائبنا، وصغيرنا وَكَبِيرنَا، وَذكرنَا وأنثانا) . قَالَ
التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي: البُخَارِيّ
عَن اسْم أبي إِبْرَاهِيم الأشْهَلِي فَلم يعرفهُ. وروى
الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث يزِيد بن
ركَانَة: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
قَامَ يُصَلِّي على الْجِنَازَة قَالَ: أللهم عَبدك وَابْن
عَبدك احْتَاجَ إِلَى رحمتك وَأَنت غَنِي عَن عَذَابه، إِن
كَانَ محسنا فزد فِي إحسانه، وَإِن كَانَ مسيئا فَتَجَاوز
عَنهُ) . وروى المستغفري فِي (الدَّعْوَات) من حَدِيث
عَليّ بن أبي طَالب، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (يَا على: إِذا صليت على جَنَازَة فَقل:
أللهم عَبدك وَابْن عَبدك وَابْن أمتك، ماضٍ فِيهِ حكمك،
وَلم يكن شَيْئا مَذْكُورا، إزارك وَأَنت خير مزور. أللهم
لقنه حجَّته وألحقه بِنَبِيِّهِ، ونزله فِي قَبره ووسع
عَلَيْهِ فِي مدخله وثبته بالْقَوْل الثَّابِت فَإِنَّهُ
افْتقر إِلَيْك واستغنيت عَنهُ، وَكَانَ يشْهد أَن لَا
إِلَه إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لَهُ، أللهم لَا تَحْرِمنَا
أجره وَلَا تفتنا بعده. يَا عَليّ: وَإِذا صليت على
امْرَأَة فَقل: أَنْت خلقتها ورزقتها، وَأَنت أحييتها
وَأَنت أمتها، وَأَنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئْنَاك
شُفَعَاء لَهَا إغفر لَهَا، أللهم لَا تَحْرِمنَا أجرهَا
وَلَا تفتنا بعْدهَا. يَا عَليّ: وَإِذا صليت على طِفْل
فَقل: أللهم إجعل لِأَبَوَيْهِ سلفا، واجعله لَهما فرطا،
واجعله لَهما نورا وسدادا، أعقب وَالِديهِ الْجنَّة إِنَّك
على كل شَيْء قدير) . وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد
الله بن حَارِث عَن أَبِيه (أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، علمهمْ الصَّلَاة على الْمَيِّت: أللهم
إغفر لأحيائنا وأمواتنا، وَأصْلح ذَات بَيْننَا، وَألف
بَين قُلُوبنَا. أللهم هَذَا عَبدك فلَان بن فلَان لَا
تعلم إلاَّ خيرا، وَأَنت أعلم بِهِ. فَاغْفِر لنا وَله) .
66 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى القَبْرِ بَعْدَمَا يُدْفَنُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على الْقَبْر
بَعْدَمَا يدْفن الْمَيِّت فِيهِ، وَهَذَا من الْمسَائِل
الْمُخْتَلف فِيهَا، فَلذَلِك أطلق التَّرْجَمَة
بِالْجَوَازِ أَو بِعَدَمِهِ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة
أَي: بعد الدّفن.
(8/141)
6331 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ
قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثني سُلَيْمَان
الشَّيْبَانِيُّ. قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ. قَالَ
أَخْبرنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فأمَّهُيْ وَصَلوْا خَلْفَهُ
قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ هاذا يَا أبَا عَمْرٍ وَقَالَ ابنُ
عَباسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
(أنظر الحَدِيث 758 أَطْرَافه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمضى هَذَا الحَدِيث فِي
كتاب الْجَنَائِز فِي موضِعين فِي: بَاب الصُّفُوف على
الْجِنَازَة، وَفِي: بَاب سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة،
وَالشعْبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَرُوِيَ نَحوه عَن
أبي هُرَيْرَة فِي: بَاب كنس الْمَسْجِد، ثفي: بَاب الخدا
فِي الْمَسْجِد وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
7331 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ قَالَ حَدثنَا
حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أبِي رَافِعٍ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ أسْوَدَ رَجُلاً
أوِ امْرَأةً كانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ ولَمْ
يَعْلَمِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَوْتِهِ
فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْم فَقَالَ مَا فَعَلَ ذالِكَ
الإنْسَانُ قالُوا ماتَ يَا رسولَ الله قَالَ أفَلاَ
آذَنْتُمُونِي فقالُوا إنَّهُ كانَ كَذَا وكَذَا قِصَّتَهُ
قَالَ فَحَقَّرُوا شَأنَهُ قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى
قَبْرِهِ فأتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
(أنظر الحَدِيث 854 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصلى عَلَيْهِ) أَي:
على قَبره، وَقد ذكرنَا الْآن أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا
الحَدِيث فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورين، أَحدهمَا:
عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد. وَالْآخر:
عَن أَحْمد بن وَاقد عَن حَمَّاد، وَقد مضى الْكَلَام
فيهمَا هُنَاكَ.
قَوْله: (رجلا) بِالنّصب بدل عَن أسود، وَيجوز بِالرَّفْع
على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. قَوْله: (كَانَ يقم) أَي:
يكنس ويروى: (يكون فِي الْمَسْجِد يقم) . قَوْله (قَالُوا
مَاتَ) ويروى (فَقَالُوا) قَوْله (ذَات يَوْم) من بَاب
إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه أَو لَفظه ذَات مقحمة
قَوْله: (قصَّته) ، مَنْصُور بمقدر، أَي: ذكرُوا قصَّته.
قَوْله: (فدلوني) ، بِضَم الدَّال. وَفِي هَذَا الحَدِيث
زَاد ابْن حبَان فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن
ثَابت، ثمَّ قَالَ: (إِن هَذِه الْقُبُور مَمْلُوءَة ظلمَة
على أَهلهَا، وَإِن الله منورها عَلَيْهِم بصلاتي) . فَإِن
قلت: صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبر الْأسود
الْمَذْكُور بِسَبَب أَنهم حقروا شَأْنه، وَفِي رِوَايَة
ابْن حبَان: صلَاته عَلَيْهِ بِسَبَب أَن قَبره مَمْلُوء
ظلمَة على أَهلهَا) . قلت: الحكم يثبت بعلتين وَأكْثر.
76 - (بابٌ المَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمَيِّت يسمع خَفق نعال
الْأَحْيَاء، وخفق النِّعَال صَوتهَا عِنْد دوسها على
الأَرْض، وَقَوله: الْمَيِّت، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ
وَخَبره هُوَ قَوْله: يسمع، وَلَفظ: بَاب، مَقْطُوع عَن
الْإِضَافَة وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
8331 - حدَّثنا عَيَّاشٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الأعْلَى
قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ قَالَ وَقَالَ لِي خَلِيفَة حَدثنَا
يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ
عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ العَبْدُ إذَا وُضِعَ فِي
قَبْرِهِ وَتَوَلَّىَ وَذَهَبَ أصْحَابُهُ حَتَّى إنَّهُ
لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أتَاهُ مَلَكَانِ
فَأقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي
هاذا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَيَقُولُ أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ الله ورَسُولُهُ
فَيُقَالُ انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ
أبْدَلَكَ الله بِهِ مَقْعَدا مِنَ الجَنَّةِ قَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَرَاهُمَا جَمِيعا
وَأمَّا الكَافِرُ أوِ المُنَافِقُ فَيَقُولُ لاَ أدْرِي
كُنْتُ أقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لاَ
دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ
حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً
يَسْمَعُهَا مَنْ لاَ يَلِيهِ إلاَّ الثَّقَلَيْنِ.
(الحَدِيث 8331 طرفه فِي: 4731) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّه يسمع قرع
نعَالهمْ) فَإِن قلت: فِي التَّرْجَمَة خَفق النِّعَال
فَلَا تطابق؟ قلت: الخفق والقرع فِي
(8/142)
الْمَعْنى سَوَاء، على أَنه ورد فِي بعض
طرق الحَدِيث بِلَفْظ: الخفق، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَأحمد من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب فِي أثْنَاء
حَدِيث طَوِيل، فِيهِ: (وَإنَّهُ ليسمع خَفق نعَالهمْ) .
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ،
وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي
حَدثنَا عبد الْوَهَّاب يَعْنِي ابْن عَطاء عَن سعيد عَن
قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه قَالَ: (إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى
عَنهُ أَصْحَابه إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عَيَّاش، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
شين مُعْجمَة: ابْن الْوَلِيد الرقام، مر فِي: بَاب الْجنب
يخرج. الثَّانِي: عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى
السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة. الثَّالِث: خَليفَة، من
الْخلَافَة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْفَاء: ابْن خياط،
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف.
الرَّابِع: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع، بِضَم
الزَّاي، وَقد مر غير مرّة. الْخَامِس: سعيد بن أبي
عرُوبَة. السَّادِس: قَتَادَة بن دعامة. السَّابِع: أنس بن
مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
سَاق حَدِيثه مَقْرُونا بِرِوَايَة خَليفَة عَن يزِيد ابْن
زُرَيْع على لفظ خَليفَة، وَهُوَ معنى قَوْله: وَقَالَ لي
خَليفَة، أَي: قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ لي خَليفَة. وَمثل
هَذَا إِذا قَالَ يكون قد أَخذه عَنهُ فِي المذاكرة
غَالِبا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ:
إِن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن خَليفَة وَعَيَّاش الرقام،
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار، قَالَ:
حَدثنَا عبد بن حميد حَدثنَا يُونُس بن مُحَمَّد حَدثنَا
شَيبَان ابْن عبد الرَّحْمَن (عَن قَتَادَة حَدثنَا أنس بن
مَالك، قَالَ: قَالَ لي نبيّ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ
أَصْحَابه إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ. قَالَ: يَأْتِيهِ
ملكان فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كنت تَقول
فِي هَذَا الرجل؟ فَأَما الْمُؤمن فَيَقُول: أشهد أَنه عبد
الله وَرَسُوله، قَالَ: فَيُقَال لَهُ أنظر إِلَى مَقْعَدك
من النَّار، قد أبدلك الله بِهِ مقْعدا من الْجنَّة. قَالَ
نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَيَرَاهُمَا
جَمِيعًا. قَالَ قَتَادَة: وَذكر لنا أَنه يفسح لَهُ فِي
قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا، ويملأ عَلَيْهِ خضراء إِلَى
يَوْم يبعثون) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد
بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن أَحْمد بن أبي عبد الله الْوراق مُخْتَصرا وَمُطَولًا.
وَعند ابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة، يرفعهُ: (إِن
الْمَيِّت يصير إِلَى الْقَبْر فيجلس الرجل الصَّالح غير
فزع وَلَا مشغوب، ثمَّ يُقَال لَهُ: فيمَ كنت؟ فَيَقُول:
كنت فِي الْإِسْلَام، فَيُقَال: مَا هَذَا الرجل؟
فَيَقُول: مُحَمَّد رَسُول الله جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
من عِنْد الله فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت
الله؟ فَيَقُول لَا، وَمَا يَنْبَغِي لأحد أَن يرَاهُ،
فيفرج لَهُ فُرْجَة قبل النَّار، فَينْظر إِلَيْهَا يحطم
بَعْضهَا بَعْضًا، فَيُقَال لَهُ: أنظر ألى مَا وقاك الله،
ثمَّ تفرج لَهُ فُرْجَة قبل الْجنَّة، فَينْظر إِلَى
زهرتها وَمَا فِيهَا، فَيُقَال: هَذَا مَقْعَدك، وَيُقَال
لَهُ: على الْيَقِين كنت، وَعَلِيهِ مت، وَعَلِيهِ تبْعَث
إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَيجْلس الرجل السوء فِي قَبره
فَزعًا مشغوباً، فَيُقَال لَهُ: فيمَ كنت؟ فَيَقُول: لَا
أَدْرِي، فَيُقَال لَهُ: مَا هَذَا الرجل؟ فَيَقُول:
سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ قولا فقلته، فيفرج لَهُ فُرْجَة
قبل الْجنَّة، فَينْظر إِلَى زهرتها وَمَا فِيهَا،
فَيُقَال لَهُ أنظر إِلَى مَا صرفه الله عَنْك، ثمَّ تفرج
لَهُ فُرْجَة إِلَى النَّار، فَينْظر إِلَيْهَا يحطم
بَعْضهَا بَعْضًا فَيُقَال لَهُ: هَذَا مَقْعَدك، على
الشَّك كنت، وَعَلِيهِ مت، وَعَلِيهِ تبْعَث إِن شَاءَ
الله تَعَالَى) . وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم: (فَإِن كَانَ
مُؤمنا كَانَت الصَّلَاة عِنْد رَأسه، وَكَانَ الصَّوْم
عَن يَمِينه، وَكَانَت الزَّكَاة عَن يسَاره وَكَانَ فعل
الْخيرَات من الصَّدَقَة والصلة وَالْمَعْرُوف
وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس عِنْد رجلَيْهِ، فَأَي جِهَة
أَتَى مِنْهَا يمْنَع، فيقعد فتمثل لَهُ الشَّمْس قد دنت
للغروب، فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي هَذَا الرجل ... ؟
الحَدِيث مطولا. وَقَالَ: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وَفِي
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قبر
الْمَيِّت، أَو قَالَ: أحدكُم أَتَاهُ ملكان أسودان أزرقان
يُقَال لأَحَدهمَا الْمُنكر، وَللْآخر: النكير.
فَيَقُولَانِ: مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل؟ فَيَقُول،
مَا كَانَ يَقُول: هُوَ عبد الله وَرَسُوله أشهد إِن لَا
إِلَه إلاَّ الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله،
فَيَقُولَانِ قد كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول هَذَا، ثمَّ
يفسح لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا فِي سبعين، ثمَّ
ينور لَهُ فِيهِ، ثمَّ يُقَال لَهُ: نم، فَيَقُول أرجع
إِلَى أَهلِي فَأخْبرهُم، فَيَقُولَانِ: نم كنومة
الْعَرُوس الَّذِي لَا يوقظه إلاَّ أحب أَهله إِلَيْهِ
حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك، فَإِن كَانَ
منافقا، قَالَ: سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ فَقلت مثلهم لَا
أَدْرِي، فَيَقُولَانِ قد كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول ذَلِك،
فَيُقَال للْأَرْض التئمي عَلَيْهِ، فتلتئم عَلَيْهِ
فتختلف أضلاعه فَلَا يزَال فِيهَا معذبا حَتَّى يَبْعَثهُ
الله من مضجعه ذَلِك) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن
غَرِيب. وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: وَوصف الْملكَيْنِ:
أعينهما مثل
(8/143)
قدور النّحاس، وأنيابهما مثل صياصي
الْبَقر، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (أَتَدْرُونَ فِيمَن
أنزلت هَذِه الْآيَة: {فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} (طه: 421) .
هُوَ عَذَاب الْكَافِر فِي الْقَبْر، يُسَلط عَلَيْهِ
تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا. أَتَدْرُونَ مَا التنين؟ هُوَ
تِسْعَة وَتسْعُونَ حَيَّة، لكل حَيَّة تِسْعَة أرؤس ينفخن
لَهُ ويلسعنه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (العَبْد) ، أَي: العَبْد الْمُؤمن
المخلص. قَوْله: (وَتَوَلَّى) ، أَي: أعرض وَذهب
أَصْحَابه، وَهُوَ من بَاب تنَازع الذّهاب. وَقَالَ ابْن
التِّين: إِنَّه كرر اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَاحِد. قلت:
لَا نسلم أَن الْمَعْنى وَاحِد، لِأَن التولي هُوَ
الْإِعْرَاض، وَلَا يسْتَلْزم الذّهاب. وَقَالَ بَعضهم:
رَأَيْت أَن لفظ: تولى، مضبوطا بِخَط مُعْتَمد على صِيغَة
الْمَجْهُول أَي: تولى أمره أَي: الْمَيِّت. قلت: لَا
يعْتَمد على هَذَا، وَالْمعْنَى مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله:
(قرع نعَالهمْ) أَي: نعال النَّاس الَّذين حول قَبره من
الَّذين باشروا دَفنه وَغَيرهم، وقرع النِّعَال: صَوتهَا
عِنْد الْمَشْي، والقرع فِي الأَصْل الضَّرْب، فَكَأَن
أَصْحَاب النِّعَال إِذا ضربوا الأَرْض بهَا خرج مِنْهَا
صَوت. قَوْله: (ملكان) ، وهما الْمُنكر والنكير، كَمَا فسر
فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَغَيره، وَإِنَّمَا سميا
بِهَذَا الأسم لِأَن خلقهما لَا يشبه خلق الْآدَمِيّين،
وَلَا خلق الْمَلَائِكَة وَلَا خلق الْبَهَائِم وَلَا خلق
الْهَوَام، بل لَهما خلق بديع، وَلَيْسَ فِي خلقتيهما أنس
للناظرين إِلَيْهِمَا، جَعلهمَا الله تكرمة لِلْمُؤمنِ
لتثبته وتبصره، وهتكا لستر الْمُنَافِق فِي البرزخ من قبل
أَن يبْعَث حَتَّى يحل عَلَيْهِ الْعَذَاب، وسميا أَيْضا:
فتانأ الْقَبْر، لِأَن فِي سؤالهما انتهار، أَو فِي خلقهما
صعوبة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ بِسَنَد ضَعِيف: ناكور
وسيدهم رُومَان. قَوْله: (فأقعداه) أَي: أجلساه. قَالَ
الْكرْمَانِي، رَحمَه الله تَعَالَى: وهما مُتَرَادِفَانِ،
وَهَذَا يبطل قَول من فرق بَينهمَا، بِأَن الْقعُود هُوَ
عَن الْقيام، وَالْجُلُوس عَن الِاضْطِجَاع. قلت:
اسْتِعْمَال الإقعاد مَوضِع الإجلاس لَا يمْنَع الْفرق
الْمَذْكُور. قَوْله: (فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد؟) أَي:
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (مُحَمَّد)
بِالْجَرِّ عطف بَيَان عَن الرجل، وَيجوز أَن يكون بَدَلا
فَإِن قلت: هَذِه عبارَة خشنة لَيْسَ فِيهَا تَعْظِيم
وَلَا توقير؟ قلت: قصد بهَا الامتحان للمسؤول لِئَلَّا
يَتَلَقَّن تَعْظِيمه عَن عبارَة الْقَائِل، ثمَّ يثبت
الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت. قَوْله:
(فَيُقَال) ، يحْتَمل أَن يكون هَذَا القَوْل من الْمُنكر
والنكير، وَيحْتَمل أَن يكون من غَيرهمَا من
الْمَلَائِكَة. قَوْله: (فَيَرَاهُمَا) أَي:
الْمَقْعَدَيْنِ اللَّذين أَحدهمَا من الْجنَّة وَالْآخر
من النَّار. قَوْله: (أَو الْمُنَافِق) شكّ من الرَّاوِي،
وَالْمرَاد بالمنافق الَّذِي يقر بِلِسَانِهِ وَلَا يصدق
بِقَلْبِه، وَظَاهر الْكَلَام وَهُوَ قَوْله: (لَا أَدْرِي
كنت أَقُول كَمَا يَقُول النَّاس) ، يَشْمَل الْكَافِر
وَالْمُنَافِق، وَلَكِن الْكَافِر لَا يَقُول ذَلِك
فَيتَعَيَّن الْمُنَافِق، كَمَا فِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ. قَوْله: (لَا دَريت) قَالَ الدَّاودِيّ:
أَي: لَا وقفت فِي مقامك هَذَا وَلَا فِي الْبَيْت.
قَوْله: (وَلَا تليت) قَالَ الْخطابِيّ: هَكَذَا يرويهِ
المحدثون وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب: ايتليت، على وزن:
إفتعلت، من قَوْلك: مَا ألوته أَي: مَا استطعته. وَيُقَال:
لَا آلو كَذَا، أَي: لَا استطيعه. قلت: وَكَذَا قَالَ ابْن
السّكيت: قَوْلهم لَا دَريت وَلَا ايتليت، هُوَ افتعلت من
قَوْلك: مَا ألوت هَذَا، أَي: مَا استطعته من الإيالو،
أَي: قصر، أَو: فلَان لَا يألوك نصحا، فَهُوَ آل،
وَالْمَرْأَة: آلية، وَجَمعهَا: أوال، وَيُقَال أَيْضا:
إِلَى يؤلى تالية إِذا قصر، وَأَبْطَأ. وَقَالَ ابْن
قرقول: قيل: مَعْنَاهُ لَا تَلَوت يَعْنِي الْقُرْآن، أَي:
لم تدر وَلم تتل. أَي: لم تنْتَفع بدرايتك وَلَا بتلاوتك،
كَمَا قَالَ: {فَلَا صدق وَلَا صلى} (الْقِيَامَة: 13) .
قيل: مَعْنَاهُ لَا اتبعت الْحق. قَالَه الدَّاودِيّ.
وَقيل: لَا اتبعت مَا تَدْرِي، قَالَه الْقَزاز. وَقَالَ
ابْن الْأَنْبَارِي: تليت غلط وَالصَّوَاب: أتليت، بِفَتْح
الْهمزَة وَسُكُون التَّاء: يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَن تتلى
إبِله أَي: لَا يكون لَهَا أَوْلَاد تتلوها. أَي: تتبعها.
وَقَالَ ابْن سراج: هَذَا بعيد فِي دُعَاء الْملكَيْنِ
للْمَيت، وَأي مَال لَهُ؟ وَقَالَ القَاضِي: لَعَلَّ ابْن
الْأَنْبَارِي رأى أَن هَذَا أصل هَذَا الدُّعَاء، ثمَّ
اسْتعْمل فِي غَيره كَمَا اسْتعْمل غَيره من أدعية
الْعَرَب. انْتهى. قلت: ابْن الْأَنْبَارِي لم يذكر
الْملكَيْنِ، وَإِنَّمَا بَين الصَّوَاب من الْخَطَأ فِي
هَذِه الْمَادَّة، وَقَوله بِأَن لَا تتلى إبِله من: اتليت
النَّاقة، إِذا تَلَاهَا وَلَدهَا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي:
وَمِنْه قَوْلهم: لَا دَريت وَلَا اتليت، يَدْعُو عَلَيْهِ
بِأَن لَا تتلى إبِله، أَي: لَا يكون لَهَا أَوْلَاد. وتلو
النَّاقة وَلَدهَا الَّذِي يتلوها، وَقَالَ ثَعْلَب: لَا
دَريت وَلَا تليت، أَصله: وَلَا تَلَوت، فقلبت الْوَاو
يَاء لازدواج الْكَلَام. قلت: هَذَا أصوب من كل مَا
ذَكرُوهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن
هَذِه اللَّفْظَة جَاءَت هَكَذَا فِي حَدِيث الْبَراء فِي
مُسْند أَحْمد: (لَا دَريت وَلَا تَلَوت) ، أَي: لم تتل
الْقُرْآن فَلم تنْتَفع بدرايتك وَلَا تلاوتك، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ: وَلَا أتبعت النَّاس بِأَن
تَقول شَيْئا يَقُولُونَهُ. وَقيل: لَا قَرَأت فقلبت
الْوَاو يَاء للمزاوجة أَي: مَا علمت بِنَفْسِك
بالاستدلال، وَلَا اتبعت الْعلمَاء بالتقليد
(8/144)
وَقِرَاءَة الْكتب. وَقَالَ ابْن بطال:
الْكَلِمَة من ذَوَات الْوَاو لِأَنَّهَا من تِلَاوَة
الْقُرْآن، لكنه لما كَانَ مَعَ: دَريت، تكلم بِالْيَاءِ
ليزدوج الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: الدُّعَاء عَلَيْهِ. أَي:
لَا كنت داريا وَلَا تاليا. قَوْله: (ثمَّ يضْرب) ، على
صِيغَة الْمَجْهُول أَي: الْمَيِّت. قَوْله:
(بِمِطْرَقَةٍ) ، بِكَسْر الْمِيم، قَالَ الْجَوْهَرِي:
طرق النجاد الصُّوف يطرقه طرقا إِذا ضربه، والقضيب الَّذِي
يضْرب بِهِ يُسمى: مطرقة، وَكَذَلِكَ مطرقة الْحداد.
قَوْله: (من حَدِيد) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا:
أَن يكون صفة لموصوف مَحْذُوف أَي: من ضَارب حَدِيد، أَي
قوي شَدِيد الْغَضَب. وَالْآخر: أَن يكون صفة لمطرقة، فعلى
هَذَا تكون كلمة: من، بيانة، ثمَّ إِن الظَّاهِر أَن
الضَّارِب غير الْمُنكر والنكير، وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون
أَحدهمَا، وَيحْتَمل أَن يكون غَيرهمَا. وَقد روى أَبُو
دَاوُد فِي (سنَنه) مَا يدل على جَوَاز الْوَجْهَيْنِ:
الأول: مَا رَوَاهُ من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، قَالَ:
(خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
جَنَازَة رجل من الْأَنْصَار فَانْتَهَيْنَا إِلَى
الْقَبْر وَلم يلْحد، فَجَلَسَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَجَلَسْنَا حوله كَأَنَّمَا على رؤوسنا
الطير، وَفِي يَده عود ينكت بِهِ فِي الأَرْض، فَرفع رَأسه
فَقَالَ: استعيذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر مرَّتَيْنِ
أَو ثَلَاثًا، وَإنَّهُ يسمع خَفق نعَالهمْ إِذا ولوا
مُدبرين حِين يُقَال لَهُ: يَا هَذَا من رَبك وَمَا دينك
وَمن نبيك؟ قَالَ هُنَاكَ: ويأتيه ملكان ويجلسانه. .)
الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ يقيض لَهُ أعمى أبكم مَعَه مرزبة
من حَدِيد، لَو ضرب بهَا جبل لصار تُرَابا، قَالَ فيضربه
بهَا ضَرْبَة يسْمعهَا من بَين الْمشرق وَالْمغْرب إلاَّ
الثقلَيْن، فَيصير تُرَابا ثمَّ يُعَاد فِيهِ الرّوح) .
فَهَذَا يدل صَرِيحًا على أَن الضَّارِب غير الْمُنكر
والنكير. الثَّانِي: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (عَن أنس بن
مَالك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل نخلا لبني
النجار فَسمع صَوتا فَفَزعَ فَقَالَ: من أَصْحَاب هَذِه
الْقُبُور؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله نَاس مَاتُوا فِي
الْجَاهِلِيَّة) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (فَيَقُول
لَهُ: مَا كنت تعبد؟ فَيَقُول لَهُ: لَا أَدْرِي،
فَيَقُول: لَا دَريت وَلَا تليت، فَقَالَ لَهُ: مَا كنت
تَقول فِي هَذَا الرجل؟ فَيَقُول: كنت أَقُول مَا يَقُول
النَّاس، فيضربه بمطراق من حَدِيد بَين أُذُنَيْهِ
فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا الْخلق غير الثقلَيْن) .
فَهَذَا يدل صَرِيحًا على أَن الضَّارِب هُوَ الْملك
الَّذِي يسْأَله، وَهُوَ إِمَّا الْمُنكر أَو النكير.
فَإِن قلت: كَيفَ وَجه جمع الْوَجْهَيْنِ؟ قلت: يحْتَمل
أَن يكون الضَّرْب مُتَعَددًا مرّة من أحد الْملكَيْنِ
وَمرَّة من الْأَعْمَى الأبكم، وكل هَذَا فِي حق
الْكفَّار. فَافْهَم. قَوْله: (من يَلِيهِ؟) أَي: من يَلِي
الْمَيِّت؟ قيل: المُرَاد بِهِ الْمَلَائِكَة الَّذين تكون
فتنته ومساءلته. قَوْله: (إِلَّا الثقلَيْن) أَي: غير
الثقلَيْن، وهما: الْإِنْس وَالْجِنّ، وسميا بِهِ لثقلهما
على الأَرْض. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي منع الثقلَيْن
من سَماع صَيْحَة ذَاك المعذب بِمِطْرَقَةٍ الْحَدِيد؟
قلت: لَو سمعا لارتفع الِابْتِلَاء وَصَارَ الْإِيمَان
ضَرُورِيًّا، ولأعرضوا عَن التدابير والصنائع وَنَحْوهمَا
مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ بقاؤهما. فَإِن قلت: من للعقلاء
فانحصر السماع على الْمَلَائِكَة. قلت: نعم، وَقيل:
المُرَاد مِنْهُ الْعُقَلَاء وَغَيرهم، وَغلب جَانب الْعقل
وَهَذَا أظهر، وَقيل: المُرَاد بِمن يَلِيهِ أَعم من
الْمَلَائِكَة الَّذين تكون فتنته وَغَيرهم من الثقلَيْن،
وَإِنَّمَا منعت الْجِنّ هَذِه النَّصِيحَة وَلم يمْنَع
سَماع كَلَام الْمَيِّت إِذا حمل، وَقَالَ: قدموني، لِأَن
كَلَام الْمَيِّت حِين يحمل إِلَى قَبره فِي حكم
الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء من الْجَزَاء والعقوبة،
لِأَن الْجَزَاء لَا يكون إلاَّ فِي الْآخِرَة، وَإِنَّمَا
كَلَامه اعْتِبَار لمن سَمعه وموعظة، فاسمعه الله الْجِنّ
لِأَنَّهُ جعل فيهم قُوَّة يثبتون بهَا عِنْد سَمَاعه
وَلَا يصعقون، بِخِلَاف الأنسان الَّذِي كَانَ يصعق لَو
سَمعه، وصيحة الْمَيِّت فِي الْقَبْر عِنْد فتنته هِيَ
عُقُوبَة وَجَزَاء، فَدخلت فِي حكم الْآخِرَة، فَمنع الله
تَعَالَى الثقلَيْن الَّذين هما فِي دَار الدُّنْيَا سَماع
عُقُوبَته وجزائه فِي الْآخِرَة، وأسمعه سَائِر خلقه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِثْبَات عَذَاب
الْقَبْر، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة،
وَأنكر ذَلِك ضرار بن عَمْرو وَبشر المريسي وَأكْثر
الْمُتَأَخِّرين من الْمُعْتَزلَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك
بقوله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا
الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) . أَي: لَا يذوقون فِي
الْجنَّة موتا سوى الموتة الأولى، وَلَو صَارُوا أَحيَاء
فِي الْقُبُور لذاقوا مرَّتَيْنِ لَا موتَة وَاحِدَة،
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي
الْقُبُور} (فاطر: 22) . فَإِن الْغَرَض من سِيَاق الْآيَة
تَشْبِيه الْكَفَرَة بِأَهْل الْقُبُور فِي عدم الإسماع.
وَقَالُوا: أما من جِهَة الْعقل فَأَنا نرى شخصا يصلب
وَيبقى مصلوبا إِلَى أَن تذْهب أجزاؤه وَلَا نشاهد فِيهِ
أَحيَاء ومساءلة، وَالْقَوْل لَهُم بهما مَعَ الْمُشَاهدَة
سفسطة ظَاهِرَة، وأبلغ مِنْهُ من أَكلته السبَاع والطيور
وَتَفَرَّقَتْ أجزاؤه فِي بطونها وحواصلها، وأبلغ مِنْهُ
من أحرق حَتَّى يفتت وذري أجزاؤه المفتتة فِي الرِّيَاح
الْعَاصِفَة شمالاً وجنوبا وقبولاً ودبورا، فَإنَّا نعلم
عدم إحيائه ومساءلته وعذابه ضَرُورَة. وَلنَا آيَات:
إِحْدَاهَا: قَوْله تَعَالَى: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا
غدوا وعشيا} (غَافِر: 64) . فَهُوَ صَرِيح فِي التعذيب بعد
الْمَوْت. الثَّانِيَة: قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا أمتنَا
اثْنَتَيْنِ وأحيينا اثْنَتَيْنِ} (غَافِر: 11) . فَإِن
الله تَعَالَى ذكر الموتة مرَّتَيْنِ، وهما لَا تتحققان
(8/145)
إلاَّ أَن يكون فِي الْقَبْر حَيَاة
وَمَوْت، حَتَّى تكون إِحْدَى الموتتين مَا يتَحَصَّل عقيب
الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى مَا يتَحَصَّل عقيب
الْحَيَاة الَّتِي فِي الْقَبْر، وَالثَّالِثَة: قَوْله
تَعَالَى: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن
أَشد الْعَذَاب} (غَافِر: 64) . عطف هَذَا الْعَذَاب
الَّذِي هُوَ عَذَاب بوم الْقِيَامَة على الْعَذَاب
الَّذِي هُوَ عرض النَّار صباحا وَمَسَاء، فَعلم أَنه
غَيره، وَذهب أَبُو الْهُذيْل بن العلاف وَبشر بن
الْمُعْتَمِر إِلَى أَن الْكَافِر يعذب فِيمَا بَين
النفختين أَيْضا، وَإِذا ثَبت التعذيب ثَبت الْإِحْيَاء
والمساءلة، لِأَن كل من قَالَ بِعَذَاب الْقَبْر قَالَ
بهما.
وَلنَا أَيْضا أَحَادِيث صَحِيحَة وأخبار متواترة.
مِنْهَا: حَدِيث الْبَاب. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ
فِيهِ. وَمِنْهَا: حَدِيث زيد بن ثَابت أخرجه مُسلم مطولا،
وَفِيه: (تعوذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر) .
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أخرجه السِّتَّة عَنهُ قَالَ: (مر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بقبرين فَقَالَ: إنَّهُمَا ليعذبان.
.) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، أخرجه
السِّتَّة قَالَ: (إِذا قعد الْمُؤمن فِي قَبره أُتِي
فَيشْهد أَن لَا إِلَه إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول
الله، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا
بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَة} (إِبْرَاهِيم: 72) . لفظ البُخَارِيّ، وَفِي
رِوَايَة فِي الصَّحِيحَيْنِ: ( {يثبت الَّذين آمنُوا}
(إِبْرَاهِيم: 72) . نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أَيُّوب أخرجه الشَّيْخَانِ
وَالنَّسَائِيّ، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي
تَفْسِيره عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: {يثبت الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت
فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} (إِبْرَاهِيم:
72) . فِي الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الشَّيْخَانِ
وَالنَّسَائِيّ، وَفِيه: عَذَاب الْقَبْر حق، وَسَيَأْتِي
إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يتَعَوَّذ من الْجُبْن وَالْبخل وَعَذَاب
الْقَبْر وفتنة الصَّدْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث سعد،
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَنه
كَانَ يَقُول لِبَنِيهِ: أَي بني تعوذوا بِكَلِمَات كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَعَوَّذ بِهن،
فَذكر عَذَاب الْقَبْر. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَسْعُود،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَغَيره
عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَمر
بِعَبْد من عباد الله أَن يضْرب فِي قَبره مائَة جلدَة،
فَلم يزل يسْأَل الله ويدعوه حَتَّى صَارَت وَاحِدَة،
فَامْتَلَأَ قَبره عَلَيْهِ نَارا) الحَدِيث. وَمِنْهَا:
حَدِيث زيد بن أَرقم، أخرجه مُسلم عَنهُ، (قَالَ: لَا
أَقُول لكم إلاَّ مَا سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: أللهم أَنِّي أعوذ بك من الْعَجز والكسل
والجبن وَالْبخل وَعَذَاب الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث
أبي بكرَة، أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ (عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي إِثْر
الصَّلَاة: أللهم إِنِّي أعوذ بك من الْكفْر والفقر
وَعَذَاب الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن
حَسَنَة. أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
عَنهُ فِي حَدِيث مَرْفُوع، قَالَ فِيهِ: (أَو مَا علمْتُم
مَا أصَاب صَاحب بني إِسْرَائِيل؟ كَانَ الرجل مِنْهُم
إِذا أصَاب الشَّيْء من الْبَوْل قرضه بالمقراض، فنهاهم
عَن ذَلِك فعذب فِي قَبره) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله
بن عَمْرو أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أللهم إِنِّي أعوذ
بك من الكسل. .) الحَدِيث. وَفِيه: (وَأَعُوذ بك من عَذَاب
الْقَبْر) . وروى التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي (نَوَادِر
الْأُصُول) حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: (أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر فتاني الْقَبْر، فَقَالَ عمر
بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أترد لنا عقولنا
يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، كهيئتكم الْيَوْم. فَقَالَ
عمر: فِي فِيهِ الْحجر) . وَمِنْهَا: حَدِيث أَسمَاء بنت
أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه البُخَارِيّ
وَالنَّسَائِيّ على مَا يَأْتِي. وَمِنْهَا: حَدِيث أم
مُبشر أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَت: (دخل
عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا فِي حَائِط
من حَوَائِط بني النجار فِيهِ قُبُور مِنْهُم قد مَاتُوا
فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَت: فَخرج فَسَمعته يَقُول:
استعيذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر. قلت: يَا رَسُول
الله، وللقبر عَذَاب؟ قَالَ: إِنَّهُم ليعذبون عذَابا فِي
قُبُورهم تسمعه الْبَهَائِم) . وَمِنْهَا: حَدِيث أم
خَالِد أخرجه البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنْهُمَا
أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ
يتَعَوَّذ من عَذَاب الْقَبْر.
وَأما الْجَواب عَن قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا
الْمَوْت إلاَّ الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) . أَن ذَلِك
وصف لأهل الْجنَّة، وَالضَّمِير فِيهَا للجنة أَي: لَا
يذوقون أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة الْمَوْت فَلَا
يَنْقَطِع نعيمهم كَمَا انْقَطع نعيم أهل الدُّنْيَا
بِالْمَوْتِ، فَلَا دلَالَة فِي الْآيَة على انْتِفَاء
موتَة أُخْرَى بعد المساءلة، وَقبل دُخُول الْجنَّة. وَأما
قَوْله: {إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) . فَهُوَ
تَأْكِيد لعدم مَوْتهمْ فِي الْجنَّة على سَبِيل
التَّعْلِيق بالمحال، كَأَنَّهُ قيل: لَو أمكن ذوقهم
الموتة الأولى لذاقوا الموتة الألى، لكنه لَا يُمكن بِلَا
شُبْهَة، فَلَا يتَصَوَّر مَوْتهمْ فِيهَا وَقد يُقَال:
(8/146)
{إلاَّ الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) .
للْجِنْس لَا للوحدة، وَإِن كَانَت الصِّيغَة صِيغَة
الْوَاحِد نَحْو: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} (الْعَصْر: 2)
. وَلَيْسَ فِيهَا نفي تعدد الْمَوْت، لِأَن الْجِنْس
يتَنَاوَل المتعدد أَيْضا بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى أحيى
كثيرا من الْأَمْوَات فِي زمَان مُوسَى وَعِيسَى
وَغَيرهمَا، وَذَلِكَ يُوجب تَأْوِيل الْآيَة بِمَا
ذكرنَا، وأماالجواب عَن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت
بمسمع من فِي الْقُبُور} (فاطر: 22) فَهُوَ أَن عدم إسماع
أهل الْقُبُور وَلَا يسْتَلْزم عدم إدراكهم وَأما الْجَواب
عَن دليلهم الْعقلِيّ فَهُوَ أَن المصلوب لَا بعد فِي
الْأَحْيَاء والمسائلة مَعَ عدم الْمُشَاهدَة كَمَا فِي
صَاحب السكر فَإِنَّهُ حَيّ مَعَ أَنا لَا نشاهد حَيَاته
وكما فِي رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ بَين أظهر
أَصْحَابه مَعَ ستره عَنْهُم وَلَا بعد فِي رد الْحَيَاة
إِلَى أَجزَاء الْبدن فَيخْتَص بِالْإِحْيَاءِ والمسائلة
وَالْعَذَاب وَإِن لم يكن ذَلِك مشاهدا لنا وَقَالَ
الصَّالِحِي من الْمُعْتَزلَة وَابْن جرير الطَّبَرِيّ
وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين يجوز التعذيب على
الْمَوْتَى من غير إحْيَاء وَهَذَا خُرُوج عَن الْمَعْقُول
لِأَن الجماد لَا حس لَهُ فَكيف يتَصَوَّر تعذيبه وَقَالَ
بعض الْمُتَكَلِّمين الآلام تَجْتَمِع فِي أجساد
الْمَوْتَى وتتضاعف من غير إحساس بهَا فَإِذا حشروا أحسوا
بهَا دفْعَة وَاحِدَة وَهَذَا إِنْكَار للعذاب قبل
الْحَشْر وَهُوَ بَاطِل بِمَا قَرَّرْنَاهُ. وَفِيه
إِثْبَات السُّؤَال بالملكين اللَّذين بَينا فِي حَدِيث
أبي هُرَيْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَأنكر الجبائي وَابْنه
الْبَلْخِي تَسْمِيَة الْملكَيْنِ بالمنكر والنكير
وَقَالُوا إِنَّمَا الْمُنكر مَا يصدر من الْكَافِر عِنْد
تلجلجه إِذا شئل والنكير إِنَّمَا هُوَ تقريع الْملكَيْنِ
وَيرد عَلَيْهِم بِالْحَدِيثِ الَّذِي فسر فِيهِ
الْملكَانِ بهما كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: جَوَاز لبس
النَّعْل لزائر الْقُبُور الْمَاشِي بَين ظهرانيها، وَذهب
أهل الظَّاهِر إِلَى كَرَاهَة ذَلِك، وَبِه قَالَ يزِيد بن
زُرَيْع وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ ابْن حزم فِي
(الْمحلى) : وَلَا يحل لأحد أَن يمشي بَين الْقُبُور
بنعلين سبتيتين، وهما اللَّذَان لَا شعر عَلَيْهِمَا،
فَإِن كَانَ فيهمَا شعر جَازَ ذَلِك، وَإِن كَانَ فِي
أَحدهمَا شعر وَالْآخر بِلَا شعر جَازَ الْمَشْي فيهمَا،
وَفِي (الْمُغنِي) : ويخلع النِّعَال إِذا دخل
الْمَقَابِر، وَهَذَا مُسْتَحبّ. وَاحْتج هَؤُلَاءِ
بِحَدِيث بشير بن الخصاصية: (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يمشي بَين الْقُبُور فِي
نَعْلَيْنِ فَقَالَ: وَيحك يَا صَاحب السبتيتين إلق
سبتيتيك) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأخرجه أَبُو دَاوُد
وَابْن مَاجَه بأتم مِنْهُ، وَأخرجه الْحَاكِم وَصَححهُ،
وَكَذَا صَححهُ ابْن حزم، والخصاصية، أمه وَاخْتلف فِي
اسْم أَبِيه، فَقيل: بشير بن نَذِير، وَقيل: ابْن معبد
ابْن شرَاحِيل. وَقَالَ الْجُمْهُور من الْعلمَاء بِجَوَاز
ذَلِك، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ
وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وجماهير
الْفُقَهَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، وَأجِيب عَن
حَدِيث ابْن الخصاصية بِأَنَّهُ إِنَّمَا اعْترض عَلَيْهِ
بِالْخلْعِ إحتراما للمقابر، وَقيل: لاختياله فِي مَشْيه.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالْخلْعِ لَا لكَون الْمَشْي بَين الْقُبُور بالنعال
مَكْرُوها. وَلَكِن لما رأى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قذرا
فيهمَا يقذر الْقُبُور أَمر بِالْخلْعِ. وَقَالَ
الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون إِنَّمَا كره ذَلِك لِأَنَّهُ
فعل أهل النِّعْمَة وَالسعَة، فَأحب أَن يكون دُخُول
الْمقْبرَة على التَّوَاضُع والخشوع. وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: لَيْسَ فِي الحَدِيث سوى الْحِكَايَة عَمَّن
يدْخل الْمَقَابِر، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِبَاحَة وَلَا
تَحْرِيمًا، وَيدل على أَنه أمره بِالْخلْعِ احتراما
للقبور لِأَنَّهُ نهى عَن الِاسْتِنَاد وَالْجُلُوس
عَلَيْهَا. وَفِيه: ذُهُول عَمَّا ورد فِي بعض
الْأَحَادِيث أَن صَاحب الْقَبْر، كَانَ يسْأَل فَلَمَّا
سمع صرير السبتتين أصغى إِلَيْهِ فكاد يهْلك لعدم جَوَاب
الْملكَيْنِ فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلقهما
لِئَلَّا تؤذي صَاحب الْقَبْر ذكره أَبُو عبد الله
التِّرْمِذِيّ. فَإِن قلت: بعد فرَاغ الْملكَيْنِ من
السُّؤَال مَا يكون الْمَيِّت؟ قلت: إِن كَانَ سعيدا كَانَ
روحه فِي الْجنَّة، وَإِن كَانَ شقيا فَفِي سجّين على
صَخْرَة على شَفير جَهَنَّم فِي الأَرْض السَّابِعَة،
وَعَن ابْن عَبَّاس: يكون قوم فِي برزخ لَيْسُوا فِي جنَّة
وَلَا نَار، وَيدل عَلَيْهِ قصَّة أَصْحَاب الْأَعْرَاف،
وَالله أعلم مَا يُقَال لمن يدْخل من أَصْحَاب
الْكَبَائِر، أَكَانَ يُقَال لَهُ: نم صَالحا أَو يسكت
عَنهُ. وَقيل: إِن أَرْوَاح السُّعَدَاء تطلع على قبورها،
وَأكْثر مَا يكون مِنْهَا لَيْلَة الْجُمُعَة ويومها،
وَلَيْلَة السبت إِلَى طُلُوع الشَّمْس، فَإِنَّهُم
يعْرفُونَ أَعمال الْأَحْيَاء، يسْأَلُون من مَاتَ من
السُّعَدَاء: مَا فعل فلَان فَإِن ذكر خيرا قَالَ: أللهم
ثبته وَإِن كَانَ غَيره قَالَ: أللهم رَاجع بِهِ، وَإِن
قيل لَهُم: مَاتَ. قيل: ألم يأتكم؟ قَالُوا: إِنَّا لله
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، سلك بِهِ غير طريقنا، هوى
بِهِ إِلَى أمه الهاوية. وَقيل: إِنَّهُم إِذا كَانُوا على
قُبُورهم يسمعُونَ من يسلم عَلَيْهِم، فَلَو أذن لَهُم
لردوا السَّلَام.
86 - (بابُ مَنْ أحَبَّ الدَّفْنَ فِي الأرْضِ
المُقَدَّسَةِ أوْ نَحْوِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي يذكر فِيهِ من أحب أَن يدْفن فِي بَيت
الْمُقَدّس إِمَّا طلبا للقرب من الْأَنْبِيَاء المدفونين
هُنَاكَ، أَو ليقرب عَلَيْهِ
(8/147)
الْمَشْي إِلَى الْمَحْشَر، وَتسقط عَنهُ
الْمَشَقَّة الَّتِي تحصل لمن بعد مِنْهُ. قَوْله: (أَو
نَحْوهَا) أَي: من بَقِيَّة مَا تشد إِلَيْهِ الرّحال من
الْحَرَمَيْنِ.
9331 - حدَّثنا مَحْمُودٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُسٍ عَن
أبِيهِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إلَى مُوسى عَلَيْهِما
السلاَمُ فَلَمَّا جاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ
فَقَالَ أرْسَلْتَنِي إلَى عبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوتَ
فَرَدَّ الله عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ
لَهُ يَضَعْ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْر فَلَهُ بِكُلِّ مَا
غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أيْ
رَبِّ ثُمَّ ماذَا قَالَ ثُمَّ المَوْتُ قَالَ فاْلآنَ
فَسَالَ الله أنْ يُدْنِيهِ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ
رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ
قَبْرَهُ إلَى جانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الكَثِيبِ
الأَحْمَرِ.
(الحَدِيث 9331 طرفه فِي: 7043) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَسَأَلَ الله أَن
يُدْنِيه من الأَرْض المقدسة) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مَحْمُود بن غيلَان،
بالغين الْمُعْجَمَة، مر فِي: بَاب النّوم قبل الْعشَاء.
الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام، وَقد مضى. الثَّالِث:
معمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد، وَقد تكَرر ذكره.
الرَّابِع: عبد الله بن طَاوُوس، مر فِي: بَاب الْمَرْأَة
تحيض. الْخَامِس: طَاوُوس بن كيسَان، وَقد مر غير مرّة.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه مروزي وَمعمر بَصرِي وَعبد الرَّزَّاق وَعبد الله
بن طَاوُوس وَأَبوهُ طَاوُوس يمانيون. وَفِيه: رِوَايَة
الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يرفع
الحَدِيث هَهُنَا فَلذَلِك عابه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَرَفعه
فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، على مَا يَجِيء.
وَأخرجه عَن يحيى بن مُوسَى، وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن
رَافع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أرسل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول،
وَمَعْلُوم أَن الله هُوَ الَّذِي أرْسلهُ. قَوْله: (صَكه)
أَي: ضربه بِحَيْثُ فَقَأَ عينه، يدل عَلَيْهِ قَوْله:
(فَرد الله عينه) ، وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة مُسلم،
قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد، قَالَ
عبد: أخبرنَا، وَقَالَ ابْن رَافع: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق
أخبرنَا معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه، (عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: أرسل ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكه
ففقأ عينه، فَرجع إِلَى ربه فَقَالَ: أرسلتني إِلَى عبد
لَا يُرِيد الْمَوْت. قَالَ: فَرد الله إِلَيْهِ عينه)
الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى
مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهُ:
أجب رَبك، قَالَ: فلطم مُوسَى عين ملك الْمَوْت ففقأها،
فَرجع الْملك إِلَى الله فَقَالَ: أرسلتني إِلَى عبد لَك
لَا يُرِيد الْمَوْت، وَقد فَقَأَ عَيْني. قَالَ: فَرد
الله إِلَيْهِ عينه) الحَدِيث. وَهَذَا الطَّرِيق
مَرْفُوع، وَالَّذِي قبله مَوْقُوف كَمَا أخرجه
البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: أنكر بعض أهل الْبدع
والجهمية هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: لَا يَخْلُو أَن يكون
مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف ملك الْمَوْت
أَو لم يعرفهُ، فَإِن كَانَ عرفه فقد استخف بِهِ، وَأَن
كَانَ لم يعرفهُ فرواية من روى أَنه كَانَ يَأْتِي مُوسَى
عيَانًا لَا معنى لَهَا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى لم
يقْتَصّ لملك الْمَوْت من اللَّطْمَة وفقء الْعين، وَالله
تَعَالَى لَا يظلم أحدا.
قَالَ ابْن خُزَيْمَة: وَهَذَا اعْتِرَاض من أعمى الله
بصيرته، وَمعنى الحَدِيث صَحِيح، وَذَلِكَ أَن مُوسَى لم
يبْعَث الله إِلَيْهِ ملك الْمَوْت وَهُوَ يُرِيد قبض
روحه، حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا بَعثه اختبارا وبلاءً، كَمَا
أَمر الله تَعَالَى خَلِيله بِذبح وَلَده وَلم يرد
إِمْضَاء ذَلِك، وَلَو أَرَادَ أَن يقبض روح مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين لطم الْملك لَكَانَ
مَا أَرَادَ، وَكَانَت اللَّطْمَة مُبَاحَة عِنْد مُوسَى
إِذْ رأى آدَمِيًّا دخل عَلَيْهِ، وَلَا يعلم أَنه ملك
الْمَوْت، وَقد أَبَاحَ الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَقَأَ عين النَّاظر فِي دَار الْمُسلم
بِغَيْر إِذن، ومحال أَن يعلم مُوسَى أَنه ملك الْمَوْت
ويفقأ عينه، وَقد جَاءَت الْمَلَائِكَة إِلَى إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلم يعرفهُمْ ابْتِدَاء،
وَلَو علمهمْ لَكَانَ من الْمحَال أَن يقدم إِلَيْهِم
عجلاً، لأَنهم لَا يطْعمُون. وَقد جَاءَ الْملك إِلَى
مَرْيَم فَلم تعرفه، وَلَو عَرفته لما استعاذت مِنْهُ،
وَقد دخل الْملكَانِ على دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فِي شبه آدميين يختصمان عِنْده فَلم يعرفهما،
وَقد جَاءَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
إِلَى سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَسَأَلَهُ
(8/148)
عَن الْإِيمَان فَلم يعرفهُ، وَقَالَ: مَا
أَتَانِي فِي صُورَة قطّ إِلَّا عَرفته فِيهَا غير هَذِه
الْمرة، فَكيف يستنكر أَن لَا يعرف مُوسَى الْملك حِين دخل
عَلَيْهِ.
وَأما قَول الجهمي: ءن الله تَعَالَى لم يقْتَصّ للْملك،
فَهُوَ دَلِيل على جَهله من الَّذِي أخبرهُ أَن بَين
الْمَلَائِكَة والآدميين قصاصا وَمن أخبرهُ أَن الْملك طلب
الْقصاص فَلم يقْتَصّ لَهُ، وَمَا الدَّلِيل على أَن ذَلِك
كَانَ عمدا وَقد أخبرنَا نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَن الله تَعَالَى لم يقبض نَبيا قطّ حَتَّى يرِيه
مَقْعَده فِي الْجنَّة، ويخبره فَلم ير أَن يقبض روحه قبل
أَن يرِيه مَقْعَده من الْجنَّة ويخبره، وَقَالَ ابْن
التِّين: وَقَول من قَالَ: فَقَأَ عينه بِالْحجَّةِ،
لَيْسَ بِشَيْء لما فِي الحَدِيث: فَرد الله عينه، وَقَالَ
الْخطابِيّ. فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يفعل مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْملكِ مثل هَذَا
الصَّنِيع؟ أَو كَيفَ تصل يَده إِلَيْهِ؟ أَو كَيفَ لَا
يقبض الْملك روحه وَلَا يمْضِي أَمر الله تَعَالَى بِهِ؟
قلت: أكْرم الله مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فِي حَيَاته بِأُمُور أفرده بهَا، فَلَمَّا دنت وَفَاته
لطف أيضابه بِأَن لم يَأْمر الْملك بِهِ بِأخذ روحه قهرا،
لَكِن أرْسلهُ على سَبِيل الامتحان فِي صُورَة الْبشر،
فاستنكر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شَأْنه
وَدفعه عَن نَفسه، فَأتى ذَلِك على عينه الَّتِي ركبت فِي
الصُّورَة البشرية الَّتِي جَاءَهُ فِيهَا دون الصُّورَة
الملكية، وَقد كَانَ فِي طبع مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، حِدة. رُوِيَ أَنه كَانَ إِذا غضب اشتعلت
قلنسوته نَارا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن قلت: كَيفَ
جَازَ عَلَيْهِ فقء عين الْملك؟ قلت: لَا يمْتَنع أَن
يَأْذَن الله لَهُ فِي هَذِه اللَّطْمَة، وَيكون ذَلِك
امتحانا للملطوم، وَالله يفعل مَا يَشَاء. وَقَالَ ابْن
قُتَيْبَة فِي (مُخْتَلف الحَدِيث) : أذهب مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْعين الَّتِي هِيَ
تخييل وتمثيل وَلَيْسَت على حَقِيقَته، وَعَاد ملك
الْمَوْت إِلَى حَقِيقَة خلقه الروحاني كَمَا كَانَ لم
ينتقص مِنْهُ شَيْء.
قَوْله: (قَالَ: أَي رب) أَي: قَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: يَا رب. قَوْله: (ثمَّ مَاذَا) ،
وَفِي رِوَايَة: (ثمَّ مَه) ، وَهِي: مَا، الاستفهامية.
وَلما وقف عَلَيْهَا زَاد هَاء السكت، وَالْمعْنَى: ثمَّ
مَا يكون بعد ذَلِك؟ . قَوْله: (قَالَ: ثمَّ الْمَوْت)
أَي: قَالَ الله تَعَالَى: ثمَّ يكون بعد ذَلِك الْمَوْت.
قَوْله: (قَالَ فَالْآن) أَي: قَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَالْآن يكون الْمَوْت، وَلَفظ:
الْآن، ظرف زمَان غير مُتَمَكن، وَهُوَ اسْم لزمان الْحَال
وَهُوَ الزَّمَان الْفَاصِل بَين الْمَاضِي والمستقبل،
وَهُوَ يدل على أَن مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، لما خَيره
الله تَعَالَى اخْتَار الْمَوْت شوقا إِلَى لِقَاء ربه
تَعَالَى، كَمَا خير نَبينَا، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَقَالَ: (الرفيق الْأَعْلَى) . قَوْله:
(فَسَأَلَ الله أَن يُدْنِيه من الأَرْض المقدسة) أَي:
فَعِنْدَ ذَلِك سَأَلَ مُوسَى الله أَن يقربهُ من الأَرْض
المقدسة، وَهِي بَيت الْمُقَدّس. وَقَالَ ابْن التِّين:
الأَرْض المقدسة الشَّام، وَمعنى: المقدسة، المطهرة.
وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل النصب على المفعولية،
أَي: سَأَلَ الله تَعَالَى الدنو من بَيت الْمُقَدّس ليدفن
فِيهِ دنوا لَو رمى رام الْحجر من ذَلِك الْموضع الَّذِي
هُوَ الْآن مَوضِع قَبره لوصل إِلَى بَيت الْمُقَدّس،
وَإِنَّمَا سَأَلَ ذَلِك لفضل من دفن فِي الأَرْض المقدسة
من الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ، فاستحب مجاورتهم فِي
الْمَمَات كَمَا فِي الْحَيَاة، وَلِأَن النَّاس يقصدون
الْمَوَاضِع الفاضلة ويزورون قبورها وَيدعونَ لأَهْلهَا.
وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا سَأَلَ الدنو مِنْهَا ليسهل
على نَفسه وَيسْقط عَنهُ الْمَشَقَّة الَّتِي تكون على من
هُوَ بعيد مِنْهَا، وصعوبته عِنْد الْبَعْث والحشر. فَإِن
قلت: لِمَ لم يسْأَل نفس الْبَيْت وَسَأَلَ الدنو مِنْهُ؟
قلت: خَافَ أَن يكون قَبره مَشْهُورا فيفتنن بِهِ النَّاس،
كَمَا أخبر بِهِ الشَّارِع أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى
اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد. قَوْله: (رمية
بِحجر) ، يحْتَمل أَن يكون على قربهَا دونهَا قدر رمية حجر
أَو أدنى من مَكَاني إِلَى الأَرْض المقدسة، هَذَا الْقدر.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي طلبه الدنو من الأَرْض
المقدسة؟ قلت: الْحِكْمَة فِي ذَلِك أَن الله لما منع بني
إِسْرَائِيل من دُخُول بَيت الْمُقَدّس وتركهم فِي التيه
أَرْبَعِينَ سنة إِلَى أَن أفناهم الْمَوْت وَلم يدْخل
الأَرْض المقدسة إِلَّا أَوْلَادهم مَعَ يُوشَع، عَلَيْهِ
السَّلَام، وَمَات هَارُون ثمَّ مُوسَى، عَلَيْهِمَا
السَّلَام، قبل فتحهَا، ثمَّ إِن مُوسَى لما لم يتهيأ لَهُ
دُخُولهَا لغَلَبَة الجبارين عَلَيْهَا، وَلَا يُمكن نبشه
بعد ذَلِك لينقل إِلَيْهَا طلب الْقرب مِنْهَا، لِأَن مَا
قَارب الشَّيْء أعطي حكمه. وَقيل: إِنَّمَا طلب الدنو
لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْفن حَيْثُ
يَمُوت وَلَا ينْقل. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن مُوسَى قد نقل
يُوسُف، عَلَيْهِمَا السَّلَام إِلَى بلد إِبْرَاهِيم
الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَفِيه
نظر، لِأَن مُوسَى مَا نَقله إلاَّ بِالْوَحْي، فَكَانَ
ذَاك مَخْصُوصًا بِهِ. قَوْله: (فَلَو كنت ثمَّ) ، بِفَتْح
الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَهُوَ اسْم يشار بِهِ. وَلما عرج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مُوسَى قَائِما
يُصَلِّي فِي قَبره. .
وَفِي (الْمرْآة) اخْتلفُوا فِي مَوضِع قبر مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنه بِأَرْض التيه، هُوَ وَهَارُون، عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يذخل الأَرْض المقدسة إلاَّ
رمية حجر، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ: لَا يعرف قَبره،
وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أبهم ذَلِك
(8/149)
بقوله: (إِلَى جَانب الطَّرِيق عِنْد
الْكَثِيب الْأَحْمَر) ، وَلَو أَرَادَ بَيَانه لبين
صَرِيحًا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَو علمت الْيَهُود
قبر مُوسَى وَهَارُون لاتخذوهما ال هَين من دون الله
تَعَالَى، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لم يطلع على قبر
مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا
الرخمة، وَهِي الَّتِي أطلعت على قبر هَارُون لما دفن
فِي التيه، فَنزع الله تَعَالَى عقلهَا لِئَلَّا تدل
عَلَيْهِ، وَمعنى عقلهَا: إلهامها.
الثَّانِي: أَنه بِبَاب لد بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس،
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ الصَّحِيح. قلت: كَيفَ يكون
هُوَ الصَّحِيح، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس ووهب وَعَامة
الْعلمَاء: إِنَّه بِأَرْض التيه.
الثَّالِث: أَن قَبره مَا بَين عالية وعويلة، ذكره
الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي (تَارِيخ دمشق)
فَقَالَ، وَرُوِيَ: أَن قبر مُوسَى بَين عالية وعويلة
وهما محلتان عِنْد مَسْجِد الْقدَم، وَيُقَال: إِن
قَبره رئي فِي الْمَنَام فِيهَا. قَالَ: وَالأَصَح
أَنه بتيه بني إِسْرَائِيل.
الرَّابِع: أَن قَبره بواد فِي أَرض مآب بَين بصرى
والبلقاء.
الْخَامِس: أَن قَبره بِدِمَشْق، ذكره الْحَافِظ أَبُو
الْقَاسِم عَن كَعْب الْأَحْبَار، وَذكر ابْن حبَان
فِي (صَحِيحه) أَن قبر مُوسَى بمدين بَين الْمَدِينَة
وَبَين الْمُقَدّس وَاعْترض عَلَيْهِ الضياء مُحَمَّد
بن عبد الْوَاحِد فِي كِتَابه (علل الْأَحَادِيث)
بِأَن مَدين لَيست قريبَة من الْقُدس وَلَا من الأَرْض
المقدسة، وَقد اشْتهر أَن قَبره بأريحا وَهِي من
الأَرْض المقدسة مرار، وَيُقَال: إِنَّه قبر مُوسَى
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْده كثيب أَحْمَر، كَمَا
فِي الحَدِيث، وَطَرِيق، وَالدُّعَاء عِنْده مستجاب.
قَوْله: (إِلَى جَانب الطّور) ذكر ياقوت فِي (كتاب
الْمُشْتَرك) أَن الطّور سَبْعَة مَوَاضِع: مِنْهَا:
جبل بَيت الْمُقَدّس يُقَال لَهُ طور زيتا، وَفِي
الْأَثر: مَاتَ بطور زيتا سَبْعُونَ ألف نَبِي قَتلهمْ
الْجُوع وَهُوَ شَرْقي وَادي سلوان، وَمِنْهَا: طور
هَارُون، علم لجبل عَال مشرف من قبلي بَيت الْمُقَدّس
فِيهِ فِيمَا قيل قبر هَارُون أخي مُوسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالظَّاهِر أَن الطّور
الْمَذْكُور هُوَ أحد الطورين الْمَذْكُورين، وَلَكِن
الْأَقْرَب أَنه: طور زيتا، وَالله أعلم. قَوْله:
(عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر) ، هُوَ الرمل
الْمُجْتَمع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة ظَاهِرَة
على أَن لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
منزلَة كَبِيرَة حَيْثُ فَقَأَ عين ملك الْمَوْت وَلم
يعاتبه عَلَيْهِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدّفن فِي
الْمَوَاضِع الفاضلة والقرب من مدافن الصَّالِحين.
وَفِيه: أَن للْملك قدرَة على التَّصَوُّر بِصُورَة
غير صورته. وَفِيه: فِي قَوْله: (يضع يَده على متن
ثَوْر) دلَالَة على أَن الدُّنْيَا بَقِي مِنْهَا
كثير، وَإِن كَانَ قد ذهب أَكْثَرهَا. وَفِيه: دلَالَة
على الزِّيَادَة فِي الْعُمر مثل الحَدِيث الآخر: (من
سره أَن يبسط رزقه وينسأ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه) ،
وَهُوَ يُؤَيّد قَول من قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَمَا يعمر من معمر ... } (فاطر: 11) . الْآيَة، أَنه
زِيَادَة وَنقص فِي الْحَقِيقَة.
96 - (بابُ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة دفن
الْمَيِّت فِي اللَّيْل، وَإِنَّمَا لم يُفَسر
الْجَوَاز بل أطلق التَّرْجَمَة لمَكَان الِاخْتِلَاف
فِيهِ، فَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب
وَقَتَادَة وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى كَرَاهَة دفن
الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك
بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه
أَحْمد والطَّحَاوِي، قَالَ: (إِن رجلا من بني عذرة
دفن لَيْلًا وَلم يصل عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَنهى عَن الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى
الطَّحَاوِيّ من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ:
(لَا تدفنوا أمواتكم بِاللَّيْلِ) . وَقَالَ ابْن حزم:
لَا يجوز أَن يدْفن أحد لَيْلًا إلاَّ عَن ضَرُورَة،
وكل من دفن لَيْلًا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمن أَزوَاجه وَأَصْحَابه، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، فَإِنَّمَا ذَلِك لضَرُورَة أوجبت ذَلِك من
خوف زحام أَو خوف الْحر على من حضر وحر الْمَدِينَة
شَدِيد، أَو خوف تغير أَو غير ذَلِك مِمَّا يُبِيح
الدّفن لَيْلًا، لَا يحل لأحد أَن يظنّ بهم خلاف
ذَلِك، وَذهب النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري
وَعَطَاء وَابْن أبي حَازِم ومطرف ابْن عبد الله
وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي
الْأَصَح وَإِسْحَاق إِلَى أَن دفن الْمَيِّت
بِاللَّيْلِ يجوز، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب،
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن
دِينَار، قَالَ أَخْبرنِي: جَابر بن عبد الله أَو
سَمِعت جَابر بن عبد الله، قَالَ: (رأى نَاس نَارا فِي
الْمقْبرَة فأتوها فَإِذا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَبْر، وَإِذا هُوَ يَقُول:
ناولوني صَاحبكُم، فَإِذا هُوَ الرجل الَّذِي كَانَ
يرفع صَوته بِالذكر) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: النَّهْي
فِي حَدِيث جَابر الْمَذْكُور لَيْسَ لأجل كَرَاهَة
الدّفن بِاللَّيْلِ، وَلَكِن لإِرَادَة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي على جَمِيع
الْمُسلمين، لما يكون لَهُم فِي ذَلِك من الْفضل
وَالْخَيْر ببركة صلَاته عَلَيْهِم، لِأَنَّهُ قَالَ
فِي حَدِيث يزِيد بن
(8/150)
ثَابت: فَإِن صَلَاتي عَلَيْهِم رَحْمَة،
وَلِأَن صلَاته عَلَيْهِم نور فِي قُبُورهم. وَذكر
فِيهِ وَجها آخر، وَهُوَ مَا ذكره عَن الْحسن: أَن
قوما كَانُوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم لَيْلًا،
فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك،
وَقَالَ أَيْضا: وَقد فعل ذَلِك برَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَدفن بِاللَّيْلِ، وَرُوِيَ عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا
قَالَت: دفن عَليّ بن أبي طَالب فَاطِمَة لَيْلًا،
وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: دفن أَبُو بكر
لَيْلًا.
وَدُفِنَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
لَيْلاً
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا تَعْلِيق
وَصله البُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الْجَنَائِز فِي: بَاب
موت يَوْم الْإِثْنَيْنِ، من حَدِيث عَائِشَة، وَفِيه:
(دفن أَبُو بكر قبل أَن يصبح) ، وروى ابْن أبي شيبَة
فِي (مُصَنفه) عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن الْوَلِيد
عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: (دفن أَبُو بكر
لَيْلًا، قَالَ: وَحدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن ابْن
جريج عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد عَن ابْن السباق أَن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دفن أَبَا بكر
لَيْلًا، ثمَّ دخل الْمَسْجِد فأوتر.
0431 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ
حَدثنَا جَرِيرٌ عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنِ الشَّعْبِيِّ
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى
رَجُلٍ بَعْدَما دُفِنَ بِلَيْلَةٍ قامَ هُوَ
وَأصْحَابُهُ وكانَ سَألَ عَنْهُ فقالَ مَنْ هاذا
فَقَالُوا فُلانٌ دُفِنَ البَارِحَةَ فَصَلُّوا
عَلَيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهُم لما قَالُوا:
دفن البارحة، لم يُنكر عَلَيْهِم، فَدلَّ ذَلِك على
عدم كَرَاهَة دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وَقد مضى
هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة،
وَفِي: بَاب سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَفِي:
بَاب الصَّلَاة على الْقَبْر بَعْدَمَا يدْفن، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. والشيباني: هُوَ
سُلَيْمَان، وَالشعْبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.
قَوْله: (قَامَ) ، ويروى: (فَقَامَ) ، قَوْله: (فصلوا)
، على صِيغَة الْجمع من الْمَاضِي: أَي صلى الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عَلَيْهِ، وَلَا
يُقَال: هَذَا تكْرَار لقَوْله صلى صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لِأَن ذَلِك مُجمل وَهَذَا تَفْصِيل لأحواله،
فَافْهَم وتيقظ.
07 - (بابُ بِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان منع بِنَاء الْمَسْجِد على
الْقَبْر، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن حَدِيث
الْبَاب يدل على هَذَا.
1431 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ
هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا قالَتْ لَمَّا اشْتَكَى النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً
رَأيْنَهَا بِأرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا
مَارِيَةُ وكانتْ أُمُّ سَلَمَةَ وأُمُّ حَبِيبَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أتَتَا أرْضَ
الحَبَشَةِ فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وتَصَاوِيرَ
فِيهَا فَرفع رَأسه فَقَالَ أُولَئِكَ إِذا مان
مِنْهُم الرجل الصَّالح بنوا على قَبره مَسْجِدا ثمَّ
صوروا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكَ شِرَارُ
الخَلْقِ عِنْدَ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بنوا على قَبره
مَسْجِدا. .) إِلَى آخِره، وَقد مضى الحَدِيث فِي:
بَاب هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟ أخرجه
عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى عَن هِشَام عَن
أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الصَّلَاة فِي الْبيعَة،
رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا
عَبدة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَمضى الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى. قَوْله: (اشْتَكَى) أَي: مرض، ومارية،
بِكَسْر الرَّاء: علم للكنيسة. قَوْله: (تِلْكَ) .
17 - (بابُ مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ المَرْأةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من يدْخل قبر الْمَرْأَة
لأجل إلحادها.
(8/151)
2431 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ
قَالَ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا
هِلالُ بنُ عَلِيْ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ. قَالَ شَهِدْنَا بِنْتَ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جالِسٌ عَلَى القَبْرِ فَرَأيْتُ عَيْنَيْهِ
تدْمَعَانِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ أحَدٍ لَمْ
يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ أَنا
قَالَ فانْزِلْ فِي قَبْرِهَا قَالَ فَنَزَلَ فِي
قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا. قَالَ ابنُ المُبَارَكِ قَالَ
فُلَيْحٌ أرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ.
(أنظر الحَدِيث 5821) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأبي طَلْحَة: إنزل فِي
قبر بنته، فَنزل فقبرها. وَقد ذكرنَا وَجه هَذَا فِي:
بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يعذب
الْمَيِّت ببكاء أَهله، لِأَنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث
هُنَاكَ أَيْضا: عَن عبد الله بن مُحَمَّد، قَالَ:
حَدثنَا أَبُو عَامر، قَالَ: حَدثنَا فليح بن
سُلَيْمَان إِلَى آخِره. . وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى.
قَوْله: (لم يقارف) أَي: لم يُبَاشر الْمَرْأَة.
قَوْله: (فَقَالَ أَبُو طَلْحَة) : اسْمه زيد بن سهل
الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (فقبرها) ، أَي: قبر أَبُو
طَلْحَة بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (فَقَالَ ابْن الْمُبَارك) ، هُوَ عبد الله بن
الْمُبَارك. قَالَ فليح: أرَاهُ، بِضَم الْهمزَة أَي:
أَظُنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله
الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا قَالَ شُرَيْح بن
النُّعْمَان عَن فليح: أخرجه أَحْمد عَنهُ، وَقَالَ
أَبُو عَليّ الغساني: كَذَا فِي النّسخ. قَالَ ابْن
الْمُبَارك: وَفِي أصل أبي الْحسن الْقَابِسِيّ، قَالَ
أَبُو الْمُبَارك: قَالَ أَبُو الْحسن، هُوَ أَبُو
الْمُبَارك مُحَمَّد بن سِنَان يَعْنِي: أَبُو
الْمُبَارك كنيته مُحَمَّد بن سِنَان شيخ البُخَارِيّ
الْمَذْكُور. وَقَالَ الجياني: هَذَا وهم من مُحَمَّد
بن سِنَان لَا أعلم بَينهم خلافًا أَنه يكنى أَبَا
بكر، وَكَانَ فِي نُسْخَة عَبدُوس عَن أبي زيد، كَمَا
عِنْد سَائِر الروَاة على الصَّوَاب، وَفِي
(التَّلْوِيح) ، وروى هَذَا الحَدِيث البُخَارِيّ فِي
(التَّارِيخ الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ. وانْتهى إِلَى
قَوْله: قَالَ: فَنزل فِي قبرها، وَلم يذكر
التَّفْسِير الَّذِي ذكره فِي (الْجَامِع) .
وَرِوَايَة عبد الله بن الْمُبَارك عَن فليح
مَشْهُورَة، وَقد روى فِي معنى المقارفة معنى آخر غير
مَا فسر فليح (عَن أنس: لما مَاتَت رقية، قَالَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يدْخل
الْقَبْر رجل قارف اللَّيْلَة أَهله، فَلم يدْخل
عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . قَالَ
البُخَارِيّ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يشْهد رقية.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله لِيَقْتَرِفُوا أَي
لِيَكْتَسِبُوا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، قيل: أَرَادَ
البُخَارِيّ بِهَذَا تأييد مَا قَالَه ابْن الْمُبَارك
عَن فليح، فَإِن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، فسر قَوْله تَعَالَى: {وليقترفوا مَا هم
مقترفون} (الْأَنْعَام: 311) . أَي: ليكتسبوا مَا هم
مكتسبون، وَقد أخرج الطَّبَرِيّ، رَحمَه الله
تَعَالَى، هَذَا التَّفْسِير من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَهَذَا أَعنِي: قَوْله:
قَالَ أَبُو عبد الله ... إِلَى آخِره، لم يثبت إلاَّ
فِي رِوَايَة الْكشميهني.
27 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة على
الشَّهِيد، وَإِنَّمَا لم يُفَسر الحكم وَأطلق
التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ ذكر فِي الْبَاب حديثين:
أَحدهمَا يدل على نَفيهَا، وَهُوَ حَدِيث جَابر.
وَالْآخر: يدل على إِثْبَاتهَا، وَهُوَ حَدِيث عقبَة.
وَمن هُنَا وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْعلمَاء، فَذهب
الشَّافِعِي وَمَالك وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة: إِلَى
أَن الشَّهِيد لَا يصلى عَلَيْهِ كَمَا لَا يغسل.
وَإِلَيْهِ ذهب أهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك
بِحَدِيث جَابر الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَذهب ابْن
أبي ليلى وَالْحسن بن يحيى وَعبيد الله بن الْحسن
وَسليمَان بن مُوسَى وَسَعِيد ابْن عبد الْعَزِيز
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَإِسْحَاق فِي
رِوَايَة: إِلَى أَنه يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول
أهل الْحجاز أَيْضا، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِحَدِيث
عقبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مَا نذكرهُ.
3431 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهَابٍ عنْ عَبْدِ
الرَّحْمانِ ابنِ كَعْب بنِ مالِكٍ عنْ جابِرِ بنِ
عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجْمَعُ بَيْنَ
الرَّجُلَيْنِ
(8/152)
مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ
ثُمَّ يَقُولُ أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذا لِلْقُرانِ
فإذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أحدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي
اللَّحْدِ وَقَالَ أنَا شَهِيدٌ عَلَى هاؤلاَءِ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَأمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ
ولَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ علَيْهِمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن بعمومها يدل على
نفس الصَّلَاة على الشَّهِيد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف
التنيسِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: اللَّيْث بن
سعد. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن
مَالك أَبُو الْخطاب الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ.
الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه دمشقي نزل تنيس، وَاللَّيْث مصري
وَابْن شهَاب وَشَيْخه مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب عَن جَابر، كَذَا
يَقُول اللَّيْث عَن ابْن شهَاب. وَقَالَ
النَّسَائِيّ: مَا أعلم أحدا تَابع اللَّيْث من ثِقَات
أَصْحَاب الزُّهْرِيّ على هَذَا الأسناد، وَاخْتلف على
الزُّهْرِيّ فِيهِ، ثمَّ سَاقه من طَرِيق عبد الله بن
الْمُبَارك عَن معمر عَن ابْن شهَاب عَن عبد الله بن
ثَعْلَبَة، فَذكر الحَدِيث مُخْتَصرا، وَكَذَا أخرجه
أَحْمد من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق،
وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن
إِسْحَاق وَعَمْرو بن الْحَارِث، وَكلهمْ عَن ابْن
شهَاب عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة، وَرَوَاهُ عبد
الرَّزَّاق عَن معمرو فَزَاد فِيهِ جَابِرا، وَهُوَ
مِمَّا يُقَوي اخْتِيَار البُخَارِيّ، فَإِن ابْن
شهَاب صَاحب حَدِيث، فَيحمل على أَن الحَدِيث عِنْده
عَن شيخين خُصُوصا أَن فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن
كَعْب مَا لَيْسَ فِي رِوَايَة عبد الله بن ثَعْلَبَة.
قَالَ الذَّهَبِيّ: عبد الله بن ثَعْلَبَة لَهُ
رُؤْيَة وَرِوَايَة، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من
حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الْعَزِيز
الْأنْصَارِيّ: حَدثنَا الزُّهْرِيّ (حَدثنَا عبد
الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه: أَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ يَوْم أحد: من
رأى مقتل حَمْزَة؟ فَقَالَ رجل: أَنا، فَخرج حَتَّى
وقف على حَمْزَة فَرَآهُ وَقد شقّ بَطْنه وَمثل بِهِ،
فكره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن ينظر
إِلَيْهِ، ثمَّ وقف بَين ظَهْري الْقَتْلَى، فَقَالَ:
أَنا شَهِيد على هَؤُلَاءِ، لفوهم فِي دِمَائِهِمْ
فَإِنَّهُ لَيْسَ جريح يجرح إلاَّ جَاءَ يَوْم
الْقِيَامَة يدمى، لَونه لون الدَّم وريحه ريح الْمسك،
وَقَالَ: قدمُوا أَكثر الْقَوْم قُرْآنًا فَاجْعَلُوهُ
فِي اللَّحْد) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي هَذَا
زيادات لَيست فِي رِوَايَة اللَّيْث، وَفِي رِوَايَة
اللَّيْث زِيَادَة لَيست فِي هَذِه الرِّوَايَة،
فَيحْتَمل أَن تكون رِوَايَته عَن جَابر وَعَن أَبِيه
صحيحتان وَإِن كَانَتَا مختلفتين، فالليث بن سعد
إِمَام حَافظ، فروايته أولى. وَلما ذكر ابْن أبي
حَاتِم هَذَا الحَدِيث فِي (كتاب الْعِلَل) قَالَ:
قَالَ أبي يروي هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن كَعْب
عَن الزُّهْرِيّ مَرْفُوعا، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد
الْعَزِيز هَذَا شيخ مدنِي مُضْطَرب الحَدِيث، وروى
الْحَاكِم من حَدِيث أُسَامَة بن زيد أَن ابْن شهَاب
حَدثهُ أَن أنسا حَدثهُ: أَن شُهَدَاء أحد لم يغسلوا
ودفنوا بدمائهم وَلم يصل عَلَيْهِم، وَهُوَ صَحِيح على
شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. وَفِي (الْعِلَل)
لِلتِّرْمِذِي: قَالَ مُحَمَّد: حَدِيث أُسَامَة عَن
الزُّهْرِيّ عَن أنس غير مَحْفُوظ، غلط فِيهِ
أُسَامَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن سعيد بن
سُلَيْمَان، وَأبي الْوَلِيد، وَفِي الْمَغَازِي عَن
قُتَيْبَة وَفِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن عَبْدَانِ
وَمُحَمّد بن مقَاتل، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة وَيزِيد بن خَالِد وَعَن
سُلَيْمَان بن دَاوُد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ
عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح عَن اللَّيْث بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من قَتْلَى أحد) ، الْقَتْلَى
جمع: قَتِيل، كالجرحى جمع جريح. قَوْله: (فِي ثوب
وَاحِد) ، ظَاهره تكفين الْإِثْنَيْنِ فِي ثوب وَاحِد.
وَقَالَ المظهري فِي (شرح المصابيح) : معنى ثوب وَاحِد
قبر وَاحِد، إِذْ لَا يجوز تجريدهما بِحَيْثُ تتلاقى
بشرتاهما. قَوْله: (أَيهمْ) ، أَي: أَي الْقَتْلَى؟
هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره:
أَيهمَا، أَي: أَي الرجلَيْن. قَوْله: (أخذا) على
التَّمْيِيز. قَوْله: (أَنا شَهِيد على هَؤُلَاءِ) ،
أَي: أشهد لَهُم بِأَنَّهُم بذلوا أَرْوَاحهم لله
تَعَالَى. قَوْله: (وَلم يغسلوا) على صِيغَة
الْمَجْهُول،
(8/153)
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ ستأتي
بِلَفْظ: (وَلم يصل عَلَيْهِم وَلم يغسلهم) ،
كِلَاهُمَا بِصِيغَة الْمَعْلُوم أَي: لم يفعل ذَلِك
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ وَلَا
بأَمْره.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: قَالَ ابْن التِّين: فِيهِ: جَوَاز الْجمع جمع
الرجلَيْن فِي ثوب وَاحِد، وَقَالَ أَشهب: لَا يفعل
ذَلِك إلاَّ لضَرُورَة، وَكَذَا الدّفن، وَعَن
الْعَلامَة ابْن تَيْمِية، معنى الحَدِيث أَنه كَانَ
يقسم الثَّوْب الْوَاحِد بَين الْجَمَاعَة فيكفن كل
وَاحِد بِبَعْضِه للضَّرُورَة، وَإِن لم يستر إلاَّ
بعض بدنه، يدل عَلَيْهِ تَمام الحَدِيث: أَنه كَانَ
يسْأَل عَن أَكْثَرهم قُرْآنًا فَيقدمهُ فِي اللَّحْد،
فَلَو أَنهم فِي ثوب وَاحِد جملَة لسأل عَن أفضلهم قبل
ذَلِك كَيْلا يُؤَدِّي إِلَى نقض التَّكْفِين وإعادته.
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن
التَّكْلِيف قد ارْتَفع بِالْمَوْتِ، وإلاَّ فَلَا
يجوز أَن يلصق الرجل بِالرجلِ إلاَّ عِنْد انْقِطَاع
التَّكْلِيف أَو للضَّرُورَة.
الثَّانِي: فِيهِ التَّفْضِيل بِقِرَاءَة الْقُرْآن،
فَإِذا اسْتَووا فِي الْقِرَاءَة قدم أكبرهم لِأَن
للسن فَضِيلَة.
الثَّالِث فِيهِ: جَوَاز دفن الْإِثْنَيْنِ
وَالثَّلَاثَة فِي قبر، وَبِه أَخذ غير وَاحِد من أهل
الْعلم، وَكَرِهَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَلَا بَأْس
أَن يدْفن الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْقَبْر الْوَاحِد،
وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق، غير أَن الشَّافِعِي وَأحمد قَالَا ذَلِك
فِي مَوضِع الضرورات، وحجتهم حَدِيث جَابر. وَقَالَ
أَشهب: إِذا دفن اثْنَان فِي قبر لم يَجْعَل بَينهمَا
حاجز من التُّرَاب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا معنى لَهُ
إلاَّ التَّضْيِيق. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، ذكر أبي
حَدِيثا رَوَاهُ ابْن وهب عَن ابْن جريج عَن قَتَادَة
(عَن أنس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جمع يَوْم أحد النَّفر فِي الْقَبْر الْوَاحِد،
فَكَانَ يقدم فِي الْقَبْر إِلَى الْقبْلَة أقرأهم،
ثمَّ ذَا السن يَلِي أقرأهم) . قَالَ: أبي يحيى هَذَا:
هُوَ ابْن صبيح، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) : حَدثنَا
أَيُّوب عَن حميد بن هِلَال عَن أبي الدهماء (عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: شكوا إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْقرح يَوْم أحد، فَقَالَ: أحفروا
وَاجْعَلُوا فِي الْقَبْر الْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة
وَقدمُوا أَكْثَرهم قُرْآنًا) . وَقَالَ الْقَدُورِيّ
فِي شَرحه، والسرخسي فِي (الْمَبْسُوط) : إِن وَقعت
الْحَاجة إِلَى الزِّيَادَة فَلَا بَأْس أَن يدْفن
الإثنان وَالثَّلَاثَة فِي قبر وَاحِد، وَفِي
المرغيناني: أَو خَمْسَة، وَهُوَ إِجْمَاع، وَفِي
(الْبَدَائِع) : وَيقدم أفضلهَا، وَيجْعَل بَين كل
اثْنَيْنِ حاجز من التُّرَاب فَيكون فِي حكم قبرين،
وَيقدم الرجل فِي اللَّحْد، وَفِي صَلَاة الْجِنَازَة
تقدم الْمَرْأَة على الرجل إِلَى الْقبْلَة، وَيكون
الرجل إِلَى الرجل أقرب وَالْمَرْأَة عَنهُ أبعد.
الرَّابِع: فِيهِ دفن الشَّهِيد بدمه، وروى
النَّسَائِيّ من حَدِيث معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد
الله بن ثَعْلَبَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (زملوهم بدمائهم) .
الْخَامِس فِيهِ: أَن الشَّهِيد لَا يغسل، وَهَذَا لَا
خلاف فِيهِ إلاَّ مَا روى عَن سعيد بن الْمسيب
وَالْحسن ابْن أبي الْحسن من: أَنه يغسل. قَالَا: مَا
مَاتَ ميت إلاَّ أجنب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة
عَنْهُمَا بِسَنَد صَحِيح، وَعَن الْحسن بِسَنَد
صَحِيح: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر
بِحَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَغسل) وَحكي
عَن الشّعبِيّ وَغَيره أَن حَنْظَلَة بن الراهب غسلته
الْمَلَائِكَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ جنبا.
وَقَالَ السُّهيْلي: فِي ترك غسل الشُّهَدَاء تَحْقِيق
حياتهم وتصديق قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين
قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} (آل عمرَان: 961) .
الْآيَة، وَلِأَن الدَّم أثر عبَادَة فَلَا يزَال،
كَمَا قَالُوا فِي السِّوَاك للصَّائِم.
السَّادِس: فِيهِ أَن الشَّهِيد لَا يصلى عَلَيْهِ،
وَهَذَا بَاب فِيهِ خلاف، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول
الْبَاب. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الشَّهِيد يصلى
عَلَيْهِ بِلَا غسل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث
عقبَة الْآتِي عَن قريب، وَبِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه
من حَدِيث أبي بكر ابْن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي
زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَتَى بهم
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد فَجعل
يُصَلِّي على عشرَة عشرَة وَحَمْزَة، وَهُوَ كَمَا
هُوَ يرفعون وَهُوَ كَمَا هُوَ مَوْضُوع) ، وَرَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد عَن
مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا أَبُو
بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد ابْن أبي زِيَاد عَن مقسم
(عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يوضع بَين يَدَيْهِ يَوْم أحد
عشرَة فَيصَلي عَلَيْهِم وعَلى حَمْزَة، ثمَّ تُوضَع
الْعشْرَة وَحَمْزَة مَوْضُوع، ثمَّ تُوضَع عشرَة
فيصلى عَلَيْهِم وعَلى حَمْزَة مَعَهم) . وَأخرجه
الْبَزَّار فِي (مُسْنده) بأتم مِنْهُ: حَدثنَا
الْعَبَّاس، رَحمَه الله تَعَالَى، ابْن عبد الله
الْبَغْدَادِيّ حَدثنَا أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس
حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش حَدثنَا يزِيد بن أبي
زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما قتل
حَمْزَة يَوْم أحد أَقبلت صَفِيَّة تسْأَل: مَا صنع؟
فَلَقِيت عليا وَالزُّبَيْر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، فَقَالَت: يَا عَليّ وَيَا زبير! مَا فعل
حَمْزَة؟ فأوهماهما أَنَّهُمَا لَا يدريان، قَالَ:
فَضَحِك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَقَالَ:
إِنِّي أَخَاف على عقلهَا، فَوضع يَده على صدرها
فاسترجعت وبكت، ثمَّ
(8/154)
قَامَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَوْلَا جزع
النِّسَاء لتركته حَتَّى يحْشر من بطُون السبَاع
وحواصل الطُّيُور، ثمَّ أَتَى بالقتلى فَجعل يُصَلِّي
عَلَيْهِم فَيُوضَع سَبْعَة وَحَمْزَة فيكبر عَلَيْهِم
سبع تَكْبِيرَات، ثمَّ يرفعون وَيتْرك حَمْزَة
مَكَانَهُ فيكبر عَلَيْهِم سبع تَكْبِيرَات حَتَّى فرغ
مِنْهُم) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه)
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) وَالْبَيْهَقِيّ فِي
(سنَنه) وَلَفْظهمْ: (أَمر رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بِحَمْزَة يَوْم أحد فهيىء للْقبْلَة
ثمَّ كبر عَلَيْهِ سبعا، ثمَّ جمع إِلَيْهِ
الشُّهَدَاء حَتَّى صلى عَلَيْهِ سبعين صَلَاة) . زَاد
الطَّبَرَانِيّ: (ثمَّ وقف عَلَيْهِم حَتَّى واراهم) .
وَسكت الْحَاكِم عَنهُ. فَإِن قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ:
يزِيد بن أبي زِيَاد لَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: هَكَذَا رَوَاهُ يزِيد بن أبي زِيَاد،
وَحَدِيث جَابر: أَنه لم يصل عَلَيْهِم، أصح. وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : وَيزِيد بن
زِيَاد مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ:
مَتْرُوك الحَدِيث. قلت: قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) :
الَّذِي قَالُوهُ إِنَّمَا هُوَ فِي يزِيد بن زِيَاد،
وَأما رَاوِي هَذَا الحَدِيث فَهُوَ الْكُوفِي، وَلَا
يُقَال فِيهِ: ابْن زِيَاد، وَإِنَّمَا هُوَ: ابْن أبي
زِيَاد، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه على لينه، وَقد
روى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وروى لَهُ
أَصْحَاب السّنَن، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أعلم
أحدا ترك حَدِيثه. وَابْن الْجَوْزِيّ جَعلهمَا فِي
كِتَابه الَّذِي فِي الضُّعَفَاء وَاحِدًا، وَهُوَ وهم
وَغلط، وَمِمَّا يُؤَيّد حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد
هَذَا مَا رَوَاهُ هِشَام فِي السِّيرَة عَن إِبْنِ
إِسْحَاق: حَدثنِي من لَا أتهم عَن مقسم مولى ابْن
عَبَّاس (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَمر رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحَمْزَة فسجي بِبُرْدَةٍ
ثمَّ صلى عَلَيْهِ وَكبر سبع تَكْبِيرَات، ثمَّ أُتِي
بالقتلى فوضعوا إِلَى حَمْزَة فصلى عَلَيْهِم
وَعَلِيهِ مَعَهم، حَتَّى صلى عَلَيْهِ ثِنْتَيْنِ
وَسبعين صَلَاة) . فَإِن قلت: قَالَ السُّهيْلي فِي
(الرَّوْض الْأنف) : قَول ابْن إِسْحَاق فِي هَذَا
الحَدِيث: حَدثنِي من لَا أتهم، إِن كَانَ هُوَ الْحسن
بن عمَارَة كَمَا قَالَه بَعضهم فَهُوَ ضَعِيف
بِإِجْمَاع أهل الحَدِيث، وَإِن كَانَ غَيره فَهُوَ
مَجْهُول. قلت: نَحن مَا نجزم أَنه الْحسن بن عمَارَة،
وَلَئِن سلمنَا أَنه هُوَ فَنحْن مَا نحتج بِهِ،
وَإِنَّمَا نستشهد بِهِ، وَيَكْفِي فِي الاستشهاد قَول
ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي من لَا أتهم بِهِ، وَلَو كَانَ
مُتَّهمًا عِنْده لما حدث عَنهُ. وروى الطَّحَاوِيّ من
حَدِيث عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَمر يَوْم أحد بِحَمْزَة فسجي بِبُرْدَةٍ ثمَّ صلى
عَلَيْهِ، فَكبر تسع تَكْبِيرَات، ثمَّ أَتَى بالقتلى
يصفونَ وَيُصلي عَلَيْهِم وَعَلِيهِ مَعَهم) . وَأخرجه
ابْن شاهين أَيْضا فِي كِتَابه من حَدِيث ابْن
إِسْحَاق عَن يحيى بن عبَادَة (عَن عبد الله بن
الزبير، قَالَ: صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
على حَمْزَة فَكبر سبعا) . وَقَالَ الْبَغَوِيّ: حفظي
أَنه قَالَ: عَن عبد الله بن الزبير، وروى
الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي مَالك
الْغِفَارِيّ، قَالَ: كَانَ قَتْلَى أحد يُؤْتى
بِتِسْعَة وعاشرهم حَمْزَة فَيصَلي عَلَيْهِم رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يحملون. ثمَّ
يُؤْتى بِتِسْعَة فَيصَلي عَلَيْهِم وَحَمْزَة
مَكَانَهُ، حَتَّى صلى عَلَيْهِم رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَرَوَاهُ أَيْضا
الدَّارَقُطْنِيّ (عَن أبي مَالك، قَالَ: كَانَ يجاء
بقتلى أحد تِسْعَة وَحَمْزَة عاشرهم فَيصَلي عَلَيْهِم
فيرفعون التِّسْعَة وَيدعونَ حَمْزَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا،
وَلَفظه قَالَ: (صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، على قَتْلَى أحد عشرَة عشرَة، فِي كل عشرَة
مِنْهُم حَمْزَة، حَتَّى صلى عَلَيْهِ سبعين صَلَاة) .
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (مُخْتَصر السّنَن) : كَذَا
قَالَ: وَلَعَلَّه سبع صلوَات إِذْ شُهَدَاء أحد
سَبْعُونَ أَو نَحْوهَا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا
فِي الْمَرَاسِيل، وَأَبُو مَالك اسْمه غَزوَان
الْكُوفِي، وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَذكره ابْن حبَان
فِي التَّابِعين الثِّقَات.
وَلنَا معاشر الْحَنَفِيَّة أَن نرجح مَذْهَبنَا
بِأُمُور. الأول: أَن حَدِيث عقبَة الْآتِي ذكره مُثبت
وَكَذَا غَيره من الصَّلَاة على الشَّهِيد، وَحَدِيث
جَابر نافٍ والمثبت أولى. الثَّانِي: أَن جَابِرا
كَانَ مَشْغُولًا بقتل أَبِيه وَعَمه، على مَا يَجِيء،
فَذهب إِلَى الْمَدِينَة ليدبر حملهمْ، فَلَمَّا سمع
الْمُنَادِي بِأَن الْقَتْلَى تدفن فِي مصَارِعهمْ
سارع لدفنهم، فَدلَّ على أَنه لم يكن حَاضرا حِين
الصَّلَاة، على أَن فِي (الإكليل) : حَدِيثا عَن ابْن
عقيل (عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صلى على حَمْزَة، ثمَّ جِيءَ بِالشُّهَدَاءِ فوضعوا
إِلَى جنبه فصلى عَلَيْهِم) . فالشافعية يحتجون
بِرِوَايَة ابْن عقيل ويوجبون بهَا التَّسْلِيم من
الصَّلَاة. الثَّالِث: مَا روى أَصْحَابنَا أَكثر
مِمَّا رَوَاهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي. الرَّابِع:
الصَّلَاة على الْمَوْتَى أصل فِي الدّين وَفرض
كِفَايَة فَلَا تسْقط من غير فعل أحد بالتعارض،
بِخِلَاف غسله، إِذْ النَّص فِي سُقُوطه لَا معَارض
لَهُ. الْخَامِس: لَو كَانَت الصَّلَاة عَلَيْهِم غير
مَشْرُوعَة لبينها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَمَا نبه على الْغسْل. السَّادِس: نَتَنَزَّل ونقول
كَمَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: لم يصلِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَصلى غَيره. السَّابِع: يجوز أَنه: لم
يصل عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْيَوْم، لما حصل لَهُ من
الْجراحَة وَشبههَا، وَلَا سِيمَا من ألمه على حَمْزَة
وَغَيره، وَصلى عَلَيْهِم فِي يَوْم غَيره لِأَنَّهُ
لَا تغير بهم كَمَا جَاءَ فِي صلَاته عَلَيْهِم بعد
ثَمَان سِنِين. الثَّامِن: قد رُوِيَ أَنه قد صلى على
غَيرهم. التَّاسِع: لَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا: يحمل
قَول عقبَة: صلى عَلَيْهِم، بِمَعْنى اسْتغْفر،
لقَوْله: صلَاته
(8/155)
على الْمَيِّت. الْعَاشِر: أَن مَا ذهب
إِلَيْهِ أَصْحَابنَا أحوط فِي الدّين، وَفِيه
تَحْصِيل الْأجر. وَقد قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من صلى على ميت فَلهُ قِيرَاط) ، فَلم يفصل
مَيتا من ميت، فَإِن قَالُوا: الصَّلَاة لَا تصح على
الْمَيِّت بِلَا غسل، فَلَمَّا لم يغسل الشَّهِيد لم
تصح الصَّلَاة، قُلْنَا: يَنْبَغِي أَن لَا يدْفن
أَيْضا بِلَا غسل، فَلَمَّا دفن الشَّهِيد بِلَا غسل
دلّ أَنه فِي حكم المغسولين فيصلى عَلَيْهِ. فَإِن
قَالُوا: الشُّهَدَاء أَحيَاء وَالصَّلَاة إِنَّمَا
شرعت على الْمَوْتَى؟ قُلْنَا: فعلى هَذَا يَنْبَغِي
أَن لَا يقسم ميراثهم وَلَا تتَزَوَّج نِسَاؤُهُم
وَشبه ذَلِك، وَإِنَّمَا هم أَحيَاء فِي حكم الْآخِرَة
لَا فِي حكم الدُّنْيَا، وَالصَّلَاة عَلَيْهِم من
أَحْكَام الدُّنْيَا، كَذَا قَالَه فِي (الْمَبْسُوط)
، فَإِن قَالُوا: ترك الصَّلَاة عَلَيْهِم لاستغنائهم
مَعَ التَّخْفِيف على من بَقِي من الْمُسلمين،
قُلْنَا: لَا يسْتَغْنى أحد عَن الْخَيْر، وَالصَّلَاة
خير مَوْضُوع، وَلَو اسْتغنى أحد من هَذِه الْأمة
لاستغنى أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ الصغار، وَمن هُوَ فِي مثل
حَالهم. وَالتَّعْلِيل بِالتَّخْفِيفِ لَا وَجه لَهُ،
لأَنهم يسعون فِي تجهيزهم وحفر قُبُورهم، وَنَحْو
ذَلِك، فَالصَّلَاة أخف من هَذَا كُله، فَإِن قَالُوا:
إِنَّكُم لَا ترَوْنَ الصَّلَاة على الْقَبْر بعد
ثَلَاثَة أَيَّام، قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِك، بل تجوز
الصَّلَاة على الْقَبْر مَا لم يتفسخ، وَالشُّهَدَاء
لَا يتفسخون وَلَا يحصل لَهُم تغير. فَالصَّلَاة
عَلَيْهِم لَا تمْتَنع أَي وَقت كَانَ.
4431 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
الليْثُ قَالَ حدَّثني يَزِيدُ بن أبِي حَبِيبٍ عَن
أبِي الخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ أنَّ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ يَوْما فَصَلَّى عَلَى
أهْلِ أُحُدٍ صلاَتَهُ عَلَى المَيِّتِ ثُمَّ
انْصَرَفَ إلَى المِنْبَرِ فَقَالَ إنِّي فَرَطٌ
لَكُمْ وَأنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإنِّي وَالله
لأنْظُرِ إلَى حَوْضِي الآنَ وَإنِّي أُعْطِيتُ
مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضَ أوْ مَفَاتِيحَ الأرْضِ
وَإنِّي وَالله مَا أخافُ عَلَيْكُمْ أنْ تُشْرِكُوا
بَعْدِي وَلاكِنْ أخَافُ عَلَيْكُمْ أنْ تَنَافَسُوا
فِيهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا تحْتَمل
مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة على الشَّهِيد من جِهَة
عمومها.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة تقدمُوا، وَأَبُو الْخَيْر
اسْمه مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي، وَعقبَة، بِضَم
الْعين وَسُكُون الْقَاف ابْن عَامر الْجُهَنِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مصريون
وَهُوَ مَعْدُود من أصح الْأَسَانِيد. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بالكنية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن
سعيد بن شُرَحْبِيل، وَفِي المغاوي عَن مُحَمَّد بن
عبد الرَّحِيم وَعَن قُتَيْبَة وَفِي ذكر الْحَوْض عَن
عَمْرو بن خَالِد. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن قُتَيْبَة
بِهِ وَعَن أبي مُوسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة بِهِ مُخْتَصرا وَعَن
الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا
عَن قُتَيْبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فصلى على أهل أحد) ، وهم
الَّذين اسْتشْهدُوا فِيهِ، وَكَانَت أحد فِي شَوَّال
سنة ثَلَاث. قَوْله: (صلَاته على الْمَيِّت) أَي: مثل
صلَاته على الْمَيِّت، وَهَذَا يرد قَول من قَالَ: إِن
الصَّلَاة فِي الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت مَحْمُولَة
على الدُّعَاء، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْن حبَان
وَالْبَيْهَقِيّ وَالنَّوَوِيّ، حَتَّى قَالَ
النَّوَوِيّ: المُرَاد من الصَّلَاة هُنَا الدُّعَاء،
وَأما كَونه مثل الَّذِي على الْمَيِّت فَمَعْنَاه
أَنه دَعَا لَهُم بِمثل الدُّعَاء الَّذِي كَانَت
عَادَته أَن يَدْعُو بِهِ للموتى. قلت: هَذَا عدُول
عَن الْمَعْنى الَّذِي يتضمنه هَذَا اللَّفْظ، لأجل
تمشية مذْهبه فِي ذَلِك، وَهَذَا لَيْسَ بإنصاف.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: معنى صلَاته صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَا يَخْلُو من ثَلَاثَة معَان: أما أَن يكون
نَاسِخا لما تقدم من ترك الصَّلَاة عَلَيْهِم، أَو
يكون من سُنَنهمْ أَن لَا يُصَلِّي عَلَيْهِم إلاَّ
بعد هَذِه الْمدَّة، أَو تكون الصَّلَاة عَلَيْهِم
جَائِزَة، بِخِلَاف غَيرهم، فَإِنَّهَا وَاجِبَة،
وأيها كَانَ فقد تثبت بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِم الصَّلَاة
على الشُّهَدَاء. وَقَالَ بَعضهم: غَالب مَا ذكره بصدد
الْمَنْع لِأَن صلَاته عَلَيْهِم تحْتَمل أمورا.
مِنْهَا: أَن تكون من خَصَائِصه. وَمِنْهَا: أَن يكون
الْمَعْنى: الدُّعَاء، ثمَّ هِيَ وَاقعَة عين لَا
عُمُوم فِيهَا، فَكيف ينتهض الِاحْتِجَاج بهَا لدفع
حكم قد تقرر؟ وَلم يقل أحد من الْعلمَاء
بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي الَّذِي ذكره؟ انْتهى. قلت:
كل مَا ذكر هَذَا الْقَائِل مَمْنُوع، لِأَن قَوْله:
مِنْهَا أَن تكون من خَصَائِصه، وَإِثْبَات الخصوصية
بِالِاحْتِمَالِ
(8/156)
لَا يَصح، لِأَن الِاحْتِمَال الناشيء من غير دَلِيل
لَا يعْتَبر وَلَا يعْمل بِهِ، وَقَوله: وَمِنْهَا أَن
يكون الْمَعْنى الدُّعَاء، يردهُ لفظ الحَدِيث ويبطله،
وَقَوله: وَهِي وَاقعَة عين لَا عُمُوم فِيهَا، كَلَام
غير موجه لِأَن هَذَا الْكَلَام لَا دخل لَهُ فِي
هَذَا الْمقَام، وَقَوله: لدفع حكم تقرر، لَا ينتهض
دَلِيلا لَهُ لدفع خَصمه لِأَنَّهُ لَا يعلم مَا هَذَا
الحكم الْمُقَرّر. وَقَوله: وَلم يقل أحد من الْعلمَاء
بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي، كَلَام واه لِأَنَّهُ مَا
ادّعى أَن أحدا من الْعلمَاء قَالَ بِهِ حَتَّى يُنكر
عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكره بطرِيق الاستنباط من لفظ
الحَدِيث. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف إِلَى الْمِنْبَر) ،
وَلَفظ مُسلم: (ثمَّ صعد الْمِنْبَر، كَالْمُودعِ
للأحياء والأموات، فَقَالَ: إِنِّي فَرَطكُمْ على
الْحَوْض، وَإِن عرضه كَمَا بَين أَيْلَة إِلَى
الْجحْفَة) وَفِي آخِره: (قَالَ عقبَة: فَكَانَت آخر
مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
الْمِنْبَر) . قَوْله: (إِنِّي فرط لكم) ، بِفَتْح
الْفَاء وَالرَّاء، وَهُوَ الَّذِي يتَقَدَّم
الْوَارِدَة ليصلح لَهُم الْحِيَاض والدلاء،
وَنَحْوهمَا، وَمعنى: (فَرَطكُمْ) سابقكم إِلَيْهِ
كالمهيىء لَهُ. قَوْله: (وَأَنا شَهِيد عَلَيْكُم)
أَي: أشهد لكم. قَوْله: (مَفَاتِيح الأَرْض) جمع:
مِفْتَاح، ويروى: (مفاتح الأَرْض) ، بِدُونِ الْيَاء
فَهُوَ جمع مفتح على وزن مفعل بِكَسْر الْمِيم،
قَوْله: (لأنظر إِلَى حَوْضِي) هُوَ على ظَاهره،
وَكَأَنَّهُ كشف لَهُ عَنهُ فِي تِلْكَ الْحَالة.
قَوْله: (مَا أَخَاف عَلَيْكُم أَن تُشْرِكُوا بعدِي)
مَعْنَاهُ: على مجموعكم، لِأَن ذَلِك قد وَقع من
الْبَعْض، وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى. قَوْله:
(أَن تنافسوا) ، من المنافسة، وَهِي الرَّغْبَة فِي
الشَّيْء والانفراد بِهِ، وَهُوَ من الشَّيْء النفيس
الْجيد فِي نَوعه، ونافست الشَّيْء مُنَافَسَة ونفاسا:
إِذا رغبت فِيهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد صلى على أهل أحد بعد
مُدَّة، فَدلَّ على أَن الشَّهِيد يصلى عَلَيْهِ كَمَا
يصلى على من مَاتَ حتف أَنفه، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو
حنيفَة، وَأول الْخَبَر فِي ترك الصَّلَاة عَلَيْهِم
يَوْم أحد على معنى اشْتِغَاله عَنْهُم وَقلة فَرَاغه
لذَلِك، وَكَانَ يَوْمًا صعبا على الْمُسلمين، فعذروا
بترك الصَّلَاة عَلَيْهِم. وَفِيه: أَن الْحَوْض
مَخْلُوق مَوْجُود الْيَوْم وَأَنه حَقِيقِيّ. وَفِيه:
معْجزَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ نظر
إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَأخْبر عَنهُ. وَفِيه:
معْجزَة أُخْرَى أَنه أعْطى مَفَاتِيح خَزَائِن
الأَرْض وملكتها أمته بعده. وَفِيه: أَن أمته لَا
يخَاف عَلَيْهِم من الشّرك، وَإِنَّمَا يخَاف
عَلَيْهِم من التنافس، وَيَقَع مِنْهُ التحاسد
والتباخل. وَفِيه: جَوَاز الْحلف من غير استحلاف
لتفخيم الشَّيْء وتوكيده.
|