عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 08 - (بابٌ إذَا قَالَ المُشْرِكُ عِنْدَ
المَوْتِ لاَ إلاهَ إلاَّ الله)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ الْمُشرك عِنْد
مَوته كلمة: لَا إِلَه إلاَّ الله، وَلم يذكر جَوَاب:
إِذا، لمَكَان التَّفْصِيل فِيهِ، وَهُوَ أَنه لَا يَخْلُو
إِمَّا أَن يكون من أهل الْكتاب أَو لَا يكون، وعَلى
التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَقُول: لَا
إِلَه إِلَّا الله، فِي حَيَاته قبل مُعَاينَة الْمَوْت،
أَو قَالَهَا عِنْد مَوته، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ لَا
يَنْفَعهُ ذَلِك عِنْد الْمَوْت لقَوْله تَعَالَى: {يَوْم
يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا إيمَانهَا ... }
(الْأَنْعَام: 851) . الآبة، وينفعه ذَلِك إِذا كَانَ فِي
حَيَاته وَلم يكن من أهل الْكتاب حَتَّى يحكم
بِإِسْلَامِهِ، بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمرت أَن
أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلاه إلاَّ الله)
الحَدِيث، وَإِن كَانَ من أهل الْكتاب فَلَا يَنْفَعهُ
حَتَّى يتَلَفَّظ بكلمتي الشَّهَادَة. وَاشْترط أَيْضا أَن
يتبرأ عَن كل دين سوى دين الْإِسْلَام، وَقيل: إِنَّمَا
ترك الْجَواب لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ
لِعَمِّهِ أبي طَالب: قل: لَا إلاه إلاَّ الله أشهد لَك
بهَا. كَانَ مُحْتملا أَن يكون ذَلِك خَاصّا بِهِ، لِأَن
غَيره إِن قَالَ بهَا وَقد أَيقَن بالوفاة لَا يَنْفَعهُ
ذَلِك.
0631 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا يَعْقُوبُ بنُ
إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثني أبي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ
شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ عنْ
أبِيهِ أنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طالِبٍ الوَفَاةُ
جاءَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجدَ
عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بنِ هِشَامٍ وعَبْدَ الله بنَ أبِي
أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ فَقال رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لأِبِي طالبٍ يَا عَمِّ قُلْ لَا إلاه
إلاَّ الله كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله
فَقَالَ أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ الله بنُ أبِي أُمَيَّةَ يَا
أبَا طَالِبٍ أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ
فَلَمْ يَزَلْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(8/179)
يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ويَعُودَانِ بِتِلْكَ
المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أبُو طالِبٍ آخِرَ مَا
كلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وأبَى أنْ
يَقُولَ لَا إلاه إلاَّ الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أمَا وَالله لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ
أُنْهَ عَنْكَ فأنْزَلَ الله تعَالى فيِهِ مَا كانَ
لِلنَّبِيِّ الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة
فِيمَا إِذا قَالَ الْمُشرك عِنْد الْمَوْت: لَا إلاه
إلاَّ الله، والْحَدِيث فِيمَا إِذا قيل للمشرك: قل: لَا
إلاه إلاَّ الله.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِسْحَاق. قَالَ
الْكرْمَانِي: هُوَ إِمَّا ابْن رَاهَوَيْه، وَإِمَّا ابْن
مَنْصُور، وَلَا قدح فِي الْإِسْنَاد بِهَذَا اللّبْس
لِأَن كلا مِنْهُمَا بِشَرْط البُخَارِيّ، وَفِيه نظر لَا
يخفى. الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي
الزُّهْرِيّ، مَاتَ فِي فَم الصُّلْح، قَرْيَة على دجلة
وَاسِط فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث:
أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سعد أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ
الْقرشِي، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد وَمَات بهَا سنة
ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: صَالح بن كيسَان
أَبُو الْحَارِث، وَيُقَال أَبُو مُحَمَّد الْغِفَارِيّ،
مَاتَ بعد الْأَرْبَعين وَمِائَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن
مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. السَّادِس: سعيد بن الْمسيب.
السَّابِع: أَبوهُ الْمسيب، بِضَم الْمِيم وَفتح السِّين
الْمُهْملَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة
الْمَفْتُوحَة على الْمَشْهُور: ابْن حزن ضد السهل
الْقرشِي المَخْزُومِي، وهما صحابيان هاجرا إِلَى
الْمَدِينَة، وَكَانَ الْمسيب مِمَّن بَايع تَحت شَجَرَة
الرضْوَان، وَكَانَ رجلا تَاجِرًا، يرْوى لَهُ سَبْعَة
أَحَادِيث، للْبُخَارِيّ مِنْهَا: ثَلَاثَة. وَقَالَ
الذَّهَبِيّ: الْمسيب بن حزن ابْن أبي وهب المَخْزُومِي
لَهُ صُحْبَة، ويروي عَنهُ ابْنه، أسلم بعد خَيْبَر،
وَقَالَ: حزن بن أبي وهب بن عَمْرو بن عَائِذ بن عمرَان
ابْن مَخْزُوم المَخْزُومِي، لَهُ هِجْرَة، وَكَانَ أحد
الْأَشْرَاف وَهُوَ من الطُّلَقَاء، وَقتل يَوْم
الْيَمَامَة فِي ربيع الأول سنة عشر فِي خلَافَة أبي بكر
الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وبصيغة
الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة أَشْيَاء. الأول: أَنه من
أَفْرَاد الصَّحِيح، لِأَن الْمسيب لم يرو عَنهُ غير ابْنه
سعيد. الثَّانِي: أَنه من مراسل الصَّحَابَة لِأَنَّهُ
هُوَ وَأَبوهُ من مسلمة الْفَتْح، وَهُوَ على قَول أبي
أَحْمد العسكري: بَايع تَحت الشَّجَرَة. وأيا مَا كَانَ،
فَلم يشْهد أَمر أبي طَالب لِأَنَّهُ توفّي هُوَ
وَخَدِيجَة فِي أَيَّام ثَلَاثَة، قَالَ صاعد فِي (كتاب
النُّصُوص) : فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُسَمِّي ذَلِك الْعَام عَام الْحزن، وَكَانَ ذَلِك وَقد
أَتَى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع وَأَرْبَعُونَ
سنة وَثَمَانِية أشهر وَأحد عشر يَوْمًا. وَقيل: مَاتَ فِي
نصف شَوَّال من السّنة الْعَاشِرَة من النُّبُوَّة،
وَقَالَ ابْن الجزار: قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين،
وَقيل: قبل الْهِجْرَة بِخمْس، وَقيل: بِأَرْبَع سِنِين،
وَقيل: بعد الْإِسْرَاء. الثَّالِث: يكون مُرْسلا حَقِيقَة
لَان ابْن حبَان ذكره فِي ثِقَات التَّابِعين، وَهُوَ قَول
فِيهِ غرابة. وَفِيه: أَن شَيْخه إِن كَانَ ابْن
رَاهَوَيْه فَهُوَ مروزي سكن نيسابور، وَإِن كَانَ
إِسْحَاق بن مَنْصُور فَهُوَ أَيْضا مروزي. وَبَقِيَّة
الروَاة مدنيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم:
صَالح وَابْن شهَاب وَسَعِيد يروي بَعضهم عَن بعض. وَفِيه:
رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر. وَفِيه: رِوَايَة الابْن
عَن الْأَب فِي موضِعين.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي سُورَة بَرَاءَة عَن
إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر
عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما حضرت أَبَا طَالب الْوَفَاة)
، يَعْنِي، حضرت علاماتها، وَذَلِكَ قبل النزع وإلاَّ لما
نَفعه الْإِيمَان، وَيدل عَلَيْهِ محاورته للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ولكفار قُرَيْش، وَأَبُو طَالب اسْمه:
عبد منَاف، قَالَه غير وَاحِد، وَقَالَ الْحَاكِم:
تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار أَن اسْمه كنيته، قَالَ: وَوجد
بِخَط عَليّ الَّذِي لَا شكّ فِيهِ: وَكتب عَليّ بن أبي
طَالب، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم المغربي الْوَزير اسْمه:
عمرَان. قَوْله: (أَبَا جهل) ، كنيته أَبُو الحكم، كَذَا
كناه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْمه: عَمْرو
بن هِشَام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي، وَيُقَال لَهُ:
ابْن الحنظلية، وَاسْمهَا أَسمَاء بنت سَلامَة بن مخرمَة،
وَكَانَ أَحول مأبونا، وَكَانَ رَأسه أول رَأس حز فِي
الْإِسْلَام، فِيمَا ذكره ابْن دُرَيْد فِي (وشاحه) .
قَوْله: (وَعبد الله بن أبي أُميَّة) أمه عَاتِكَة عمَّة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، توفّي شَهِيدا
بِالطَّائِف وَكَانَ شَدِيدا على الْمُسلمين معاديا
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسلم قبل الْفَتْح
هُوَ وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب،
وَلَهُم عبد الله بن أبي أُميَّة بن وهب حَلِيف بني أَسد
وَابْن أخيهم اسْتشْهد بِخَيْبَر، وَلَهُم عبد الله بن
أُميَّة إثنان: أَحدهمَا بَدْرِي. قَوْله: (أَي: عَم) أَي:
يَا عمي. قَوْله: (كلمة) ،
(8/180)
نصب إِمَّا على الْبَدَلِيَّة أَو على
الِاخْتِصَاص. قَوْله: (أشهد لَك) أَي: لخيرك. وَفِي لفظ:
(أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله تَعَالَى) . قَوْله: (أترغب؟)
الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار، أَي:
أتعرض؟ قَوْله: (يعرضهَا) بِكَسْر الرَّاء، قَوْله:
(ويعودان بِتِلْكَ الْمقَالة) . قَالَ عِيَاض وَفِي
نُسْخَة ويعيدان يَعْنِي: أَبَا جهل وَعبد الله. وَقَالَ
عِيَاض أَيْضا فِي جَمِيع الْأُصُول. وَيعود لَهُ بِتِلْكَ
الْمقَالة، يَعْنِي: أَبَا طَالب. وَوَقع فِي مُسلم:
(لَوْلَا تعيرني قُرَيْش يَقُولُونَ: إِنَّمَا حمله على
ذَلِك الْجزع) ، بِالْجِيم وَالزَّاي، وَهُوَ الْخَوْف،
وَذهب الْهَرَوِيّ والخطابي فِيمَا رَوَاهُ عَن ثَعْلَب
فِي آخَرين أَنه: بخاء مُعْجمَة وزاي مفتوحتين،
وَنَبَّهنَا غير وَاحِد أَنه الصَّوَاب، وَمَعْنَاهُ:
الضعْف والخور. قَوْله: آخر مَا كَلمه) أَي: فِي آخر
تكليمه إيَّاهُم. قَوْله: (هُوَ) إِمَّا عبارَة أبي طَالب،
وإراد بِهِ نَفسه، وَإِمَّا عبارَة الرَّاوِي، وَلم يحك
كَلَامه بِعَيْنِه لقبحه، وَهُوَ من التَّصَرُّفَات
الْحَسَنَة. قَوْله: (أما) ، حرف تَنْبِيه، وَقيل:
بِمَعْنى حَقًا، قَوْله: (مَا لم أُنْهَ) ، على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (عَنْك) ، هَذِه رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (مَا لم أَنه عَنهُ) .
أَي: عَن الاسْتِغْفَار الَّذِي دلّ عَلَيْهِ قَوْله:
(لأَسْتَغْفِرَن) ، قَوْله: فَأنْزل الله فِيهِ: {مَا
كَانَ للنَّبِي. .} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة أَي:
فَأنْزل الله فِي الاسْتِغْفَار قَوْله تَعَالَى: {مَا
كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا
للْمُشْرِكين} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، أَي: مَا
كَانَ يَنْبَغِي لَهُ وَلَا لَهُم الاسْتِغْفَار
للْمُشْرِكين. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ أهل
الْمعَانِي: مَا تَأتي فِي الْقُرْآن على وَجْهَيْن بمعني
النَّفْي كَقَوْلِه: {مَا كَانَ لكم أَن تنبتوا شَجَرهَا}
(النَّحْل: 06) . {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إلاَّ
بِإِذن الله} (آل عمرَان: 541) . وَالْآخر بِمَعْنى
النَّهْي. كَقَوْلِه: {وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا
رَسُول الله} (الْأَحْزَاب: 35) . وَهِي فِي حَدِيث أبي
طَالب نهي، وَتَأَول بَعضهم الاسْتِغْفَار هُنَا بِمَعْنى
الصَّلَاة. وَقَالَ الواحدي: سَمِعت أَبَا عُثْمَان
الْحِيرِي سَمِعت أَبَا الْحسن بن مقسم سَمِعت أَبَا
إِسْحَاق الزّجاج يَقُول فِي هَذِه الْآيَة: أجمع
الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نزلت فِي أبي طَالب، وَفِي
(مَعَاني الزّجاج) : يرْوى أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، عرض على أبي طَالب الْإِسْلَام عِنْد
وَفَاته، وَذكر لَهُ وجوب حَقه عَلَيْهِ فَأبى أَبُو طَالب
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لأَسْتَغْفِرَن لَك
حَتَّى أُنهى عَن ذَلِك، ويروى أَنه اسْتغْفر لأمه.
وَرُوِيَ أَنه اسْتغْفر لِأَبِيهِ، وَأَن الْمُؤمنِينَ
ذكرُوا محَاسِن آبَائِهِم فِي الْجَاهِلِيَّة وسألوا أَن
يَسْتَغْفِرُوا لِآبَائِهِمْ لما كَانَ من محَاسِن كَانَت
لَهُم، فَأعْلم اا تَعَالَى أَن ذَلِك لَا يجوز، فَقَالَ:
{مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا. .} (التَّوْبَة:
311) . الْآيَة، وَذكر الواحدي من حَدِيث مُوسَى بن
عُبَيْدَة، قَالَ: (أخبرنَا مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ
قَالَ: بَلغنِي أَنه لما اشْتَكَى أَبُو طَالب شكواه
الَّتِي قبض فِيهَا، قَالَت لَهُ قُرَيْش: أرسل إِلَى ابْن
أَخِيك يُرْسل إِلَيْك من هَذِه الْجنَّة الَّتِي ذكرهَا
يكون لَك شِفَاء، فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله حرمهَا على
الْكَافرين: طعامها وشرابها، ثمَّ أَتَاهُ فَعرض عَلَيْهِ
الْإِسْلَام، فَقَالَ: لَوْلَا أَن نعير بهَا فَيُقَال:
جزع عمك من الْمَوْت لأقررت بهَا عَيْنك) واستغفر لَهُ
بَعْدَمَا مَاتَ، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: مَا يمنعنا أَن
نَسْتَغْفِر لآبائنا ولذوي قرابتنا، قد اسْتغْفر
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَبِيهِ،
وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَمِّهِ، فاستغفروا
للْمُشْرِكين حَتَّى نزلت {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين
آمنُوا} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، وَمن حَدِيث ابْن
وهب: حَدثنَا ابْن جريج عَن أَيُّوب بن هانىء عَن مَسْرُوق
(عَن عبد الله: خرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
ينظر فِي الْمَقَابِر وَنحن مَعَه، فتخطى الْقُبُور حَتَّى
انْتهى إِلَى قبر مِنْهَا، فناجاه طَويلا، وَفِيه: (فجَاء
وَله نحيب، فَسئلَ، فَقَالَ: هَذَا قبر أبي) . وَفِيه:
(وَإِنِّي اسْتَأْذَنت بعد رَبِّي فِي زِيَارَة أُمِّي
فَأذن، واستأذنته فِي الاسْتِغْفَار لَهَا فَلم يَأْذَن
لي) ، وَفِيه: وَنزل على {مَا كَانَ للنَّبِي}
(التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، فأخذني مَا يَأْخُذ
الْوَالِد لوَلَده من الرقة، فَذَلِك الَّذِي أبكاني) .
وَفِي كتاب (مقامات التَّنْزِيل) لأبي الْعَبَّاس
الضَّرِير: لما أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من تَبُوك الْوُسْطَى، وَاعْتمر، فَلَمَّا هَبَط من عسفان
أَمر أَصْحَابه أَن يستندوا إِلَى الْعقبَة حَتَّى أرجع،
فَنزل على قبر أمه ثمَّ بَكَى، فَلَمَّا رَجَعَ سَأَلَ عَن
بكائهم، فَقَالُوا: بكينا لبكائك، قَالَ: نزلت على قبر
أُمِّي فدعوت الله ليأذن لي فِي شَفَاعَتهَا يَوْم
الْقِيَامَة فَأبى أَن يَأْذَن لي، فرحمتها فَبَكَيْت،
ثمَّ جَاءَنِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
فَقَالَ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ}
(التَّوْبَة: 411) . الْآيَة وَفِي تَفْسِير ابْن
مرْدَوَيْه: عَن عِكْرِمَة، وَفِي آخِره: كَانَت مدفونة
تَحت كَذَا، وَكَانَت عسفان لَهُم وَبهَا ولد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الضَّرِير:
وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قد اسْتغْفر إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ،
وَهُوَ مُشْرك لأَسْتَغْفِرَن لأمي. فَأتى قبرها
ليَسْتَغْفِر لَهَا فَدفعهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، عَن الْقَبْر. وَقَالَ: {مَا كَانَ للنَّبِي}
(التَّوْبَة: 311) . الْآيَة. وَفِي تَفْسِير ابْن
مرْدَوَيْه من حَدِيث ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، صلى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ بعسفان،
وَقَالَ اسْتَأْذَنت فِي الاسْتِغْفَار لآمنة، فنهيت
فَبَكَيْت ثمَّ عدت فَصليت رَكْعَتَيْنِ، واستأذنت فِي
الاسْتِغْفَار لَهَا فزجرت، ثمَّ دَعَا نَاقَته فَمَا
استطاعته الْقيام لنقل الْوَحْي، فَأنْزل الله {مَا كَانَ
للنَّبِي} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة،
(8/181)
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث سعيد عَن
أَبِيه الْمسيب: قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أَي عَم، إِنَّك أعظم النَّاس عَليّ حَقًا،
وَأَحْسَنهمْ عِنْدِي يدا ولأنت أعظم عِنْدِي حَقًا من
وَالِدي، فَقل كلمة تجب لَك بهَا شَفَاعَتِي يَوْم
الْقِيَامَة. وَفِيه: نزلت: {مَا كَانَ للنَّبِي}
(التَّوْبَة: 3111) . الْآيَة، وروى الْحَاكِم من حَدِيث
أبي الْجَلِيل عَن عَليّ، قَالَ: سَمِعت رجلا يسْتَغْفر
لِأَبَوَيْهِ وهما مُشْرِكَانِ، فَقلت: تستغفر لِأَبَوَيْك
وهما مُشْرِكَانِ؟ قَالَ: أَو لم يسْتَغْفر إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَبِيهِ، فَذَكرته
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت {مَا كَانَ
للنَّبِي} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، قَالَ: صَحِيح
الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَلما ذكر السُّهيْلي قَوْله
تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن
يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} (التَّوْبَة: 311) . قَالَ
قد اسْتغْفر سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْم أحد، فقاال: أللهم إغفر لقومي فَإِنَّهُم لَا
يعلمُونَ، وَلَا يَصح أَن تكون الْآيَة الَّتِي نزلت فِي
عَمه ناسخة لاستغفاره يَوْم أحد، لِأَن عَمه توفّي قبل
ذَلِك، وَلَا ينْسَخ الْمُتَقَدّم الْمُتَأَخر، وَيُجَاب
بِأَن استغفاره لِقَوْمِهِ مَشْرُوط بتوبتهم من الشّرك،
كَأَنَّهُ أَرَادَ الدُّعَاء لَهُم بِالتَّوْبَةِ، وَجَاء
فِي بعض الرِّوَايَات: أللهم إهذ قومِي، وَقيل: أَرَادَ
مغْفرَة تصرف عَنْهُم عُقُوبَة الدُّنْيَا من المسخ
وَشبهه، وَقيل: تكون الْآيَة تَأَخّر نُزُولهَا مُتَقَدما
ونزولها مُتَأَخّر، لَا سِيمَا وَبَرَاءَة من آخر مَا نزل،
فَتكون على هَذَا ناسخة للاستغفار، وَقَالَ ابْن بطال مَا
محصله: أَي مُحَاجَّة يحْتَاج إِلَيْهَا من وافى ربه بِمَا
يدْخلهُ الْجنَّة، أُجِيب: بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ظن أَن عَمه اعْتقد أَن من آمن فِي مثل حَاله لَا
يَنْفَعهُ إيمَانه إِذا لم يقارنه عمل سواهُ من صَلَاة أَو
صِيَام وَحج وشرائط الْإِسْلَام كلهَا، فَأعلمهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن من قَالَ: لَا إلاه إلاَّ الله، عِنْد
مَوته أَنه يدْخل فِي جملَة الْمُؤمنِينَ، وَإِن تعرى من
عمل سواهَا. قلت: فِي قَوْله: وَحج، نظر لِأَنَّهُ لم يكن
مَفْرُوضًا بِالْإِجْمَاع يَوْمئِذٍ. وَقيل: أَن يكون
أَبُو طَالب قد عاين أَمر الْآخِرَة وأيقن بِالْمَوْتِ
وَصَارَ فِي حَالَة من لَا ينْتَفع بِالْإِيمَان لَو آمن،
فَرحا لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن قَالَ: لَا إلاه
إلاَّ الله، وأيقن بنبوته أَن يشفع لَهُ بذلك، ويحاج لَهُ
عِنْد الله تَعَالَى فِي أَن يتَجَاوَز عَنهُ وَيقبل
مِنْهُ إيمَانه فِي تِلْكَ الْحَال، وَيكون ذَلِك خَاصّا
بِأبي طَالب وَحده لمكانته من حمايته ومدافعته عَنهُ، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: كَانَ أَبُو طَالب مِمَّن
عاين براهين النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصدق
بمعجزاته وَلم يشك فِي صِحَة نبوته، فرجا لَهُ المحاجة
بِكَلِمَة الْإِخْلَاص حَتَّى يسْقط عَنهُ إِثْم العناد
والتكذيب، لما قد تبين حَقِيقَته لَكِن آنسه، بقوله:
(أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله) لِئَلَّا يتَرَدَّد فِي
الْإِيمَان وَلَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ لتماديه على خلاف مَا
تبين حَقِيقَته، وَقيل: (أُحَاج لَك بهَا) ، كَقَوْلِه
(أشهد لَك بهَا عِنْد الله) لِأَن الشَّهَادَة للمرء حجَّة
لَهُ فِي طلب حَقه، وَلذَلِك ذكر البُخَارِيّ هُنَا
الشَّهَادَة لِأَنَّهُ أقرب التَّأْوِيل فِي قصَّة أبي
طَالب فِي كتاب الْبَعْث، لاحتمالها التَّأْوِيل. وَوَقع
عِنْد إِبْنِ إِسْحَاق: أَن الْعَبَّاس قَالَ للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا ابْن أخي، إِن الْكَلِمَة
الَّتِي عرضتها على عمك سمعته يَقُولهَا، فَقَالَ لَهُ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم أسمع. قَالَ
السُّهيْلي: لِأَن الْعَبَّاس قَالَ ذَلِك فِي حَال كَونه
على غير الْإِسْلَام، وَلَو أَدَّاهَا بعد الْإِسْلَام
لقبلت مِنْهُ، كَمَا قبل من جُبَير بن مطعم حَدِيثه
الَّذِي سَمعه فِي حَال كفره وَأَدَّاهُ فِي الْإِسْلَام.
18 - (بابُ الجَرِيدِ عَلَى القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وضع الجريد على قبر الْمَيِّت،
والجريد الَّذِي يجرد عَنهُ الخوص.
وَأوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أنْ يُجْعَلَ فِي
قَبْرِهِ جَرِيدَانِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبُرَيْدَة، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة: ابْن الْحصيب، بِضَم
الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الله
الْأَسْلَمِيّ، مَاتَ بمرو سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ،
وَقد تقدم فِي: بَاب من ترك الْعَصْر، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله ابْن سعد من طَرِيق مُورق الْعجلِيّ قَالَ: أوصى
بُرَيْدَة أَن يوضع فِي قَبره جريدان. وَقَوله: (فِي
قَبره) رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: (على قَبره) ، وَالْحكمَة فِي ذَلِك، على
رِوَايَة الْأَكْثَرين، التفاؤل ببركة النَّخْلَة. لقَوْله
تَعَالَى: {كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 42) . وعَلى
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَضعه الجريدتين على الْقَبْر،
وَسَنذكر الْحِكْمَة فِيهِ عَن قريب، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
(8/182)
وَرَأى ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا فُسْطَاطا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمانِ
فَقَالَ انْزَعْهُ يَا غُلاَمُ فَإنَّمَا يُظِلُّهُ
عَمَلُهُ
وَجه إِدْخَال أثر ابْن عمر فِي هَذِه التَّرْجَمَة من
حَيْثُ إِنَّه كَانَ يرى أَن وضع النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الجريدتين على القبرين خَاص بهما، وَأَن
بُرَيْدَة حمله على الْعُمُوم، فَلذَلِك عقب أثر بُرَيْدَة
بأثر عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، بنيه ابْن سعد فِي رِوَايَته لَهُ
مَوْصُولا من طَرِيق أَيُّوب بن عبد الله بن يسَار. قَالَ:
مر عبد الله بن عمر على قبر عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر أخي
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعَلِيهِ فسطاط
مَضْرُوب، فَقَالَ: يَا غُلَام إنزعه فَإِنَّمَا يظله
عَمه. قَالَ الْغُلَام: تضربني مولاتي. قَالَ: كلا
فَنَزَعَهُ. قَوْله: (انزعه) أَي: إقلعه، وَكَانَ
الْغُلَام الَّذِي خاطبه عبد الله غُلَام عَائِشَة أُخْت
عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (فَإِنَّمَا يظله) أَي: لَا يظله
الْفسْطَاط، بل يظله الْعَمَل الصَّالح فَدلَّ هَذَا على
أَن نصب الْخيام على الْقَبْر مَكْرُوه، وَلَا ينفع
الْمَيِّت ذَلِك، وَلَا يَنْفَعهُ إلاَّ عمله الصَّالح
الَّذِي قدمه، وَتَفْسِير الْفسْطَاط قد مر مُسْتَوفى فِي:
بَاب مَا يكره من اتِّخَاذ الْمَسَاجِد على الْقُبُور.
وقالَ خارِجَةُ بنُ زَيْدٍ ورَأيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ
فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وَإنْ
أشَدَّنا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بنِ
مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ
قيل: لَا مُنَاسبَة فِي إِدْخَال قَول خَارِجَة فِي هَذَا
الْبَاب، وَإِنَّمَا مَوْضِعه فِي: بَاب موعظة الْمُحدث
عِنْد الْقَبْر وقعود أَصْحَابه حوله، وَكَانَ بعض الروَاة
كتبه فِي غير مَوْضِعه، وَقد تكلّف طَرِيق إِلَى كَونه من
هَذَا الْبَاب، وَهِي الْإِشَارَة إِلَى أَن ضرب
الْفسْطَاط إِن كَانَ لغَرَض صَحِيح كالتستر من الشَّمْس
مثلا للإحياء لَا لإظلال الْمَيِّت فَقَط، جَازَ،
فَكَأَنَّهُ يَقُول: إِذا كَانَ على الْقَبْر لغَرَض
صَحِيح لَا لقصد المباهاة جَازَ، كَمَا يجوز الْقعُود
عَلَيْهِ لغَرَض صَحِيح لَا لمن أحدث عَلَيْهِ، وخارجة بن
زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، أحد التَّابِعين الثِّقَات
وَأحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة من أهل الْمَدِينَة، وصل
هَذَا التَّعْلِيق البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الصَّغِير)
من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي يحيى بن عبد الرَّحْمَن
بن أبي عمْرَة الْأنْصَارِيّ، سَمِعت خَارِجَة فَذكره.
قَوْله: (رَأَيْتنِي) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق،
وَكَون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول ضميرين لشَيْء وَاحِد من
خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب، وَالتَّقْدِير: رَأَيْت
نَفسِي، وَالْوَاو فِي: (وَنحن شُبَّان) للْحَال، و:
شُبَّان، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة جمع: شَاب. قَوْله: (وثبة) مصدر من: وثب يثب
وثبا ووثبة، ومظعون، بِظَاء مُعْجمَة سَاكِنة وَعين
مُهْملَة.
وَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حَكِيمٍ أخَذَ بِيَدِي خارِجَةُ
فأجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأخْبَرَني عَنْ عَمِّهِ
يَزِيدَ بنِ ثابِتٍ قَالَ إنَّمَا كُرِهَ ذالِكَ لِمَنْ
أحْدَثَ عليهِ
الْكَلَام فِي ذكر مُنَاسبَة هَذَا كَالْكَلَامِ فِي
الَّذِي قبله، وَعُثْمَان بن حَكِيم بن عباد بن حنيف
الْأنْصَارِيّ الأوسي الأحملاني أَبُو سهل الْمدنِي، ثمَّ
الْكُوفِي، أَخُو حَكِيم بن حَكِيم. وَعَن أَحْمد: ثِقَة
ثَبت وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله
مُسَدّد فِي (مُسْنده) الْكَبِير وبيَّن فِيهِ سَبَب
إِخْبَار خَارِجَة لحكيم بذلك، وَلَفظه: حَدثنَا مُسَدّد
حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا عُثْمَان بن حَكِيم
حَدثنَا عبد الله بن سرجس وَأَبُو سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن إنَّهُمَا (سمعا أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: لِأَن
أَجْلِس على جَمْرَة فتحرق مَا دون لحمي حَتَّى تُفْضِي
إِلَى، أحب من أَن أَجْلِس على قَبره. قَالَ عُثْمَان:
فَرَأَيْت خَارِجَة بن زيد فِي الْمَقَابِر، فَذكرت لَهُ
ذَلِك فَأخذ بيَدي) الحَدِيث، وَقد أخرج مُسلم حَدِيث أبي
هُرَيْرَة مَرْفُوعا، فَقَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب،
قَالَ: حَدثنَا جرير عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لِأَن يجلس أحدكُم على جَمْرَة فتحرق ثِيَابه
فتخلص إِلَى جلده خير لَهُ من أَن يجلس على قبر) . وَقَالَ
بَعضهم: وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن كَعْب،
قَالَ: إِنَّمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: من جلس على قبر
ليبول عَلَيْهِ، أَو يتغوط، فَكَأَنَّمَا جلس على جَمْرَة،
لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف. قلت: سبخان الله مَا لهَذَا
الْقَائِل من التعصبات الْبَارِدَة، فالطحاوي أخرج هَذَا
عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيقين، أَحدهمَا هَذَا الَّذِي
ذكره هَذَا الْقَائِل أخرجه عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى
شيخ مُسلم عَن عبد الله بن وهب
(8/183)
عَن مُحَمَّد بن أبي حميد عَن مُحَمَّد بن
كَعْب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْآخر أخرجه عَن ابْن أبي دَاوُد
عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي عَن سُلَيْمَان بن
دَاوُد عَن مُحَمَّد بن أبي حميد ... إِلَى آخِره نَحوه،
وَأخرجه عبد الله بن وهب وَالطَّيَالِسِي فِي مسنديهما،
وَلم يذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث إِلَّا تَقْوِيَة
لحَدِيث زيد بن ثَابت أخرجه عَن سُلَيْمَان بن شُعَيْب عَن
الْحصيب عَن عَمْرو بن عَليّ عَن عُثْمَان بن حَكِيم عَن
أبي أُمَامَة أَن زيد بن ثَابت، قَالَ: هَلُمَّ يَا ابْن
أخي أخْبرك إِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن الْجُلُوس على الْقُبُور لحَدث غَائِط أَو بَوْل،
وَرِجَاله ثِقَات، وَعَمْرو بن عَليّ هُوَ الفلاس شيخ
الْجَمَاعَة، فَهَذَا الْقَائِل: هلا مَا أورد هَذَا
الحَدِيث الصَّحِيح، وَأورد الحَدِيث الَّذِي هُوَ
مُحَمَّد بن أبي حميد الْمُتَكَلّم فِيهِ، مَعَ أَنه ذكر
الطَّحَاوِيّ هَذَا اسْتِشْهَادًا وتقوية، وَلَكِن
إِنَّمَا ذكره هَذَا الْقَائِل حَتَّى يفهم أَن
الطَّحَاوِيّ الَّذِي ينصر مَذْهَب الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا
يروي فِي هَذَا الْبَاب الْأَحَادِيث الضعيفة، وَمن شدَّة
تعصبه ذكر الحَدِيث فنسبه إِلَى أبي هُرَيْرَة، ولِمَ لَم
يذكر فِيهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فأبرزه فِي صُورَة الْمَوْقُوف،
والْحَدِيث مَرْفُوع، وَتَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا
الْبَاب مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: بَاب الْجُلُوس على
الْقُبُور: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حسان،
قَالَ: حَدثنَا صَدَقَة بن خَالِد عَن عبد الرَّحْمَن بن
يزِيد بن جَابر عَن بسر بن عبيد الله عَن أبي إِدْرِيس
الْخَولَانِيّ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عَن أبي مرْثَد
الغنوي، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: (لَا تصلوا إِلَى الْقُبُور وَلَا تجلسوا
إِلَيْهَا) . وَأخرج هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق، وَأخرجه
مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَاسم أبي مرْثَد:
كناز بن الْحصين، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن جزم
قَالَ: (رأني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبر
فَقَالَ: إنزل عَن الْقَبْر فَلَا تؤذ صَاحب الْقَبْر
وَلَا يُؤْذِيك) . وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَأخرجه
أَيْضا من حَدِيث جَابر قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن تجصيص الْقُبُور وَالْكِتَابَة
عَلَيْهَا وَالْجُلُوس عَلَيْهَا وَالْبناء عَلَيْهَا) .
وَأخرجه الْجَمَاعَة غير البُخَارِيّ. وَأخرج أَيْضا من
حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحْو رِوَايَة مُسلم عَنهُ، وَقد
ذَكرْنَاهُ الْآن، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذِه
الْآثَار وقلدوها وكرهوا من أجلهَا الْجُلُوس على
الْقُبُور، وَأَرَادَ بالقوم: الْحسن الْبَصْرِيّ
وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير ومكحولاً وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأَبا سُلَيْمَان، ويروى ذَلِك أَيْضا عَن عبد
الله وَأبي بكرَة وَعقبَة بن عَامر وَأبي هُرَيْرَة
وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِلَيْهِ ذهب
الظَّاهِرِيَّة وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا
يحل لأحد أَن يجلس على قبر، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة
وَجَمَاعَة من السّلف، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ:
وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: لم ينْه عَن
ذَلِك لكَرَاهَة الْجُلُوس على الْقَبْر، وَلكنه أُرِيد
بِهِ الْجُلُوس للغائط أَو الْبَوْل، وَذَلِكَ جَائِز فِي
اللُّغَة، يُقَال: جلس فلَان للغائط وَجلسَ فلَان للبول،
وَأَرَادَ بالآخرين: أَبَا حنيفَة ومالكا وَعبد الله بن
وهب وَأَبا يُوسُف ومحمدا، وَقَالُوا: مَا رُوِيَ عَن
النَّهْي مَحْمُول على مَا ذكرنَا، ويحكى ذَلِك عَن عَليّ
بن أبي طَالب وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، ثمَّ قَالَ: وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا
حَدثنَا سُلَيْمَان بن شُعَيْب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب،
وَهُوَ حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
ثمَّ قَالَ: فَبين زيد فِي هَذَا الْجُلُوس الْمنْهِي
عَنهُ فِي الأثار الأول مَا هُوَ ثمَّ رُوِيَ عَن أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا من طَرِيق
ابْن يُونُس، وَطَرِيق ابْن أبي دَاوُد، وَقد ذكرناهما
الْآن، ثمَّ قَالَ: فَثَبت بذلك أَن الْجُلُوس الْمنْهِي
عَنهُ فِي الْآثَار الأول هُوَ هَذَا الْجُلُوس، يَعْنِي:
للغائط وَالْبَوْل، فَأَما الْجُلُوس بِغَيْر ذَلِك فَلم
يدْخل فِي ذَلِك النَّهْي، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي
يُوسُف وَمُحَمّد، رَحِمهم الله تَعَالَى. قلت: فعلى هَذَا
مَا ذكره أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ من أَن وطأ الْقُبُور
حرَام، وَكَذَا النّوم عَلَيْهَا، لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي.
فَإِن الطَّحَاوِيّ هُوَ أعلم النَّاس بمذاهب الْعلمَاء،
وَلَا سِيمَا بِمذهب أبي حنيفَة.
وَقَالَ نافعٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا يَجْلِسُ عَلَى القُبُورِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ،
قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنِي بكير
عَن عَمْرو عَن بكير، أَن نَافِعًا حَدثهُ: أَن عبد الله
بن عمر كَانَ يجلس على الْقُبُور. فَإِن قلت: روى ابْن أبي
شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: لِأَن أَطَأ على رضف
أحب إليَّ من أَن أَطَأ على قبر؟ قلت: ثَبت من فعله أَنه
كَانَ يجلس على الْقُبُور، وَيحمل قَوْله: (لِأَن أَطَأ،
على معنى: لِأَن أَطَأ لأجل الحَدِيث، وَقَالَ بَعضهم، بعد
أَن أورد مَا أخرجه الطَّحَاوِيّ من أثر ابْن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: وَلَا يُعَارض هَذَا مَا أخرجه
(8/184)
ابْن أبي شيبَة، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ
الْآن، وَهُوَ من الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا، وَورد
فِيهَا من صَحِيح الحَدِيث مَا أخرجه مُسلم عَن أبي مرْثَد
الغنوي مَرْفُوعا: (لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا
إِلَيْهَا) قلت: لَيْت شعري كَيفَ يكون مَا ذكره من هَذَا
جَوَابا لدفع الْمُعَارضَة وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ،
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقَالَ النَّوَوِيّ:
المُرَاد بِالْجُلُوسِ الْقعُود عِنْد الْجُمْهُور،
وَقَالَ مَالك: المُرَاد بالقعود الْحَدث وَهُوَ تَأْوِيل
ضَعِيف أَو بَاطِل قلت: شدَّة التعصب يحمل صَاحبه على
أَكثر من هَذَا، وَكَيف يَقُول النَّوَوِيّ: إِن تَأْوِيل
مَالك بَاطِل وَهُوَ أعلم من النَّوَوِيّ؟ وَمثله بموارد
الْأَحَادِيث والْآثَار؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا،
بعد نَقله عَن النَّوَوِيّ: وَهُوَ يُوهم بانفراد مَالك
بذلك، وَكَذَا أَوْهَمهُ كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ، حَيْثُ
قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء على الْكَرَاهَة خلافًا
لمَالِك، وَصرح النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَن
مَذْهَب أبي حنيفَة كالجمهور، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل
مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه كَقَوْل مَالك لما نَقله
عَنْهُم الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ بأثر ابْن عمر
الْمَذْكُور. وَأخرج عَن عَليّ نَحوه. قلت: الدَّعْوَى
بِأَن الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة غير مسلمة، لِأَن
الْمُخَالف لَهُم: مَالك وَعبد الله بن وهب وَأَبُو حنيفَة
وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد والطَّحَاوِي، وَمن الصَّحَابَة:
عبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب، فَكيف يُقَال بِأَن
الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة وَنحن أَيْضا نقُول
الْجُمْهُور على عدم الْكَرَاهَة، ثمَّ قَالَ هَذَا
الْقَائِل: وَيُؤَيّد قَول الْجُمْهُور مَا أخرجه أَحْمد
من حَدِيث عمر بن حزم الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا: (لَا
تقعدوا على الْقُبُور) ، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: (رَآنِي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا متكىء على
قبر، فَقَالَ: لَا تؤذ صَاحب الْقَبْر) ، إِسْنَاده
صَحِيح، وَهُوَ دَال على أَن المُرَاد بِالْجُلُوسِ
الْقعُود على حَقِيقَته. قلت: المُرَاد من النَّهْي عَن
الْقعُود على الْقُبُور، هُوَ النَّهْي عَن الْقعُود لأجل
الْحَدث، حَتَّى ينْدَفع التَّعَارُض بَينه وَبَين مَا
رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وَلَا يلْزم من النَّهْي عَن
الْقعُود على الْقَبْر لأجل الْحَدث نفي حَقِيقَة
الْقعُود.
1631 - حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا أبُو مُعَاوِيةَ عنِ
الأعْمَشِ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُسٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ
فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي
كَبِيرٍ أمَّا أحدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ
وَأمَّا الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أخَذَ
جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ
فِي كُلِّ قَبْرِ وَاحِدَةً فقالُوا يَا رسولَ الله لِمَ
صَنَعتَ هاذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ أنْ يخَفَّفَ عَنْهُمَا
مَا لَمْ يَيْبَسَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أَخذ جَرِيدَة. .)
إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث وَهَذَا الحَدِيث قد مضى
فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب من الْكَبَائِر أَن لَا
يسْتَتر من بَوْله، أخرجه هُنَاكَ: عَن عُثْمَان عَن جرير
عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (مر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحائط من حيطان
الْمَدِينَة أَو مَكَّة فَسمع صَوت إنسانين يعذبان فِي
قبورهما) الحَدِيث، غير أَن هُنَاكَ: عَن مُجَاهِد عَن
ابْن عَبَّاس، وَهَهُنَا: عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس عَن
ابْن عَبَّاس، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لِأَن مُجَاهدًا يروي
عَن ابْن عَبَّاس وَعَن طَاوُوس أَيْضا، وَعكس
الْكرْمَانِي فَقَالَ هَهُنَا: عَن مُجَاهِد عَن ابْن
عَبَّاس، وَهُنَاكَ: عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، وَهَذَا
سَهْو مِنْهُ، وَشَيْخه هُنَاكَ يحيى، ذكره غير مَنْسُوب،
فَقَالَ الغساني: قَالَ ابْن السكن: هُوَ يحيى بن مُوسَى،
وَقَالَ الكلاباذي: سمع يحيى بن جَعْفَر أَبَا مُعَاوِيَة
وَهُوَ مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
وَالزَّاي: الضَّرِير، وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي (مستخرجه)
أَنه يحيى بن جَعْفَر، وَجزم أَبُو مَسْعُود فِي
(الْأَطْرَاف) : والحافظ الْمزي أَيْضا بِأَنَّهُ يحيى بن
يحيى، وَمضى الْكَلَام فِي الحَدِيث هُنَاكَ مَبْسُوطا
مُسْتَوفى.
28 - (بابُ مَوْعِظَةِ المُحَدِّثِ عِنْدَ القَبْرِ
وَقُعُودِ أصْحَابِهِ حَوْلَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وعظ الْمُحدث عِنْد الْقَبْر،
وَالْمَوْعِظَة مصدر ميمي يُقَال: وعظ يُعْط وعظا وموعظة،
والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، تَقول: وعظته وعظا وعظة
فاتعظ أَي: قبل الموعظة. قَوْله: (وقعود أَصْحَابه) ،
بِالْجَرِّ عطف على قَوْله:
(8/185)
(موعظة الْمُحدث) ، أَي: وَفِي بَيَان
قعُود أَصْحَاب الْمُحدث حول الْمُحدث، وَكَأَنَّهُ
أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الْجُلُوس مَعَ
الْجَمَاعَة عِنْد الْقَبْر، إِن كَانَ لمصْلحَة تتَعَلَّق
بالحي أَو الْمَيِّت لَا يكره ذَلِك، فَأَما مصلحَة
الْحَيّ فَمثل أَن يجْتَمع قوم عِنْد قبر وَفِيهِمْ من
يَعِظهُمْ وَيذكرهُمْ الْمَوْت وأحوال الْآخِرَة، وَأما
مصلحَة الْمَيِّت فَمثل مَا إِذا اجْتَمعُوا عِنْده
لقِرَاءَة الْقُرْآن وَالذكر، فَإِن الْمَيِّت ينْتَفع
بِهِ وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث معقل بن يسَار قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اقرأوا ي س
على مَوْتَاكُم) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
أَيْضا، فَالْحَدِيث يدل على أَن الْمَيِّت ينْتَفع
بِقِرَاءَة الْقُرْآن عِنْده، وَهُوَ حجَّة على من قَالَ:
إِن الْمَيِّت لَا ينْتَفع بِقِرَاءَة الْقُرْآن.
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجدَاثِ الأجْدَاثُ القُبُورُ
مُطَابقَة هَذَا وَمَا بعده للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن
ذكر خُرُوج بني آدم من الْقُبُور وبعثرة مَا فِي الْقُبُور
وإيفاضهم أَي: إسراعهم إِلَى الْمَحْشَر وهم يَنْسلونَ
أَي: يخرجُون، كل ذَلِك من الموعظة. والأجداث جمع: جدث،
وَهُوَ الْقَبْر. وَقد قَالُوا: جدف، بِالْفَاءِ مَوضِع
الثَّاء الْمُثَلَّثَة إلاَّ إِنَّهُم لم يَقُولُوا فِي
الْجمع: أجداف، بِالْفَاءِ وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن
المُرَاد من الأجداث فِي الْآيَة: الْقُبُور، وَقد وَصله
ابْن أبي حَاتِم وَغَيره من طَرِيق قَتَادَة وَالسُّديّ
وَغَيرهمَا وَفِي (الْمُخَصّص) قَالَ الْفَارِسِي: اشتقاق
الجدف بِالْفَاءِ من التجديف، وَهُوَ كفر النعم، وَفِي
(الصِّحَاح) : الجدث الْقَبْر وَالْجمع أجدث وأجداث.
وَقَالَ ابْن جني: وأجدث، مَوضِع، وَقد نفى سِيبَوَيْهٍ
أَن يكون أفعل من أبنيه الْوَاحِد، فَيجب أَن يعد هَذَا
مِمَّا فَاتَهُ، إلاَّ أَن يكون جمع الجدث الَّذِي هُوَ
الْقَبْر على أجدث، ثمَّ سمى بِهِ الْموضع، وَفِي
(الْمجَاز) لأبي عُبَيْدَة: بالثاء لُغَة أهل الْعَالِيَة،
وَأهل نجد يَقُولُونَ: جدف، بِالْفَاءِ.
بُعْثِرَتْ: أُثِيرَتْ، بَعْثَرْتُ حَوْضِي أيْ جَعَلْتُ
أسْفَلَهُ أعْلاهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الْقُبُور
بعثرت} (الانفطار: 4) . وَأَن مَعْنَاهُ: أثيرت من
الإثارة، وَفِي (الصِّحَاح) : قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بعثر
مَا فِي الْقُبُور أثير وَأخرج. وَقَالَ فِي (الْمجَاز) :
بعثرت حَوْضِي أَي: هدمته. وَفِي (الْمعَانِي) للفراء:
بعثرت وبحثرت: لُغَتَانِ وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) عَن
ابْن عَبَّاس: بعثرت بحثت. وَفِي (الْمُحكم) : بعثر
الْمَتَاع وَالتُّرَاب قلبه، وبعثر الشَّيْء فرقه، وَزعم
يَعْقُوب أَن عينهَا بدل من عين بعثر أَو غين بدل مِنْهَا،
وبعثر الْخَبَر بَحثه. وَفِي (الواعي فِي اللُّغَة) :
بعثرته إِذا قلبت ترابه وبددته.
الإيفَاضُ الإسْرَاعُ
الإيفاض، بِكَسْر الْهمزَة، مصدر من أوفض يوفض إيفاضا،
وأصل إيفاض أوفاض، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا
قبلهَا، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{كَأَنَّهُمْ إِلَى نضب يوفضون} (المعارج: 34) . وثلاثيه:
وفض من الوفض، وَهُوَ: العجلة.
وَقَرَأ الأعْمَشُ إلَى نَصْبٍ إلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ
يَسْتَبِقُونَ إلَيْهِ وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ وَالنَّصْبُ
مَصْدَرٌ
الْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان. قَوْله: (إِلَى نصب) ،
بِفَتْح النُّون كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر: بِالضَّمِّ، وَالْأول أصح، وَهُوَ
قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَحكى الطَّبَرِيّ أَنه لم يقرأه
بِالضَّمِّ إِلَّا الْحسن الْبَصْرِيّ وَفِي (الْمعَانِي)
للزجاج: قُرِئت (نصب) ، نصب، بِضَم النُّون وَسُكُون
الصَّاد، و: نصب، بِضَم النُّون وَالصَّاد، وَمن قَرَأَ:
نصب وَنصب، فَمَعْنَاه كَأَنَّهُمْ يوفضون إِلَى علم
مَنْصُوب لَهُم، وَمن قَرَأَ: نصب، فَمَعْنَاه إِلَى أصنام
لَهُم، وَكَانَت النصب الْآلهَة الَّتِي كَانَت تعبد من
أَحْجَار. وَفِي (الْمُنْتَهى) : النصب وَالنّصب وَالنّصب،
بِمَعْنى مثل: الْعُمر والعمر والعمر، وَقيل: النصب حجر
ينصب فيعبد وَيصب عَلَيْهِ دِمَاء الذَّبَائِح، وَقيل:
هُوَ الْعلم ينصب للْقَوْم، أَي: علم كَانَ. وَفِي
(الْمُحكم) : النصب جمع نصيبة، كسفينة وسفن، وَقيل: النصب
الْغَايَة، ذكره عبد فِي تَفْسِيره عَن مُجَاهِد وَأبي
الْعَالِيَة، وَضَعفه ابْن سَيّده، وَقَالَ ابْن التِّين:
قَرَأَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْحسن بِضَم النُّون
وَالصَّاد، وَقَالَ الْحسن فِيمَا حَكَاهُ عبد فِي
تَفْسِيره: كَانُوا يبتدرون إِذا طلعت الشَّمْس إِلَى
نصبهم سرَاعًا أَيهمْ يستلمها أَولا لَا يلوي أَوَّلهمْ
على آخِرهم. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: النصب بِالْفَتْح
الْعلم الَّذِي ينصب، وَنصب بِالضَّمِّ جمَاعَة مثل: رهن
وَرهن. قَوْله: (يوفضون) أَي: يسرعون، وَهُوَ من الإيفاض
كَمَا مر، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا
مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن قُرَّة عَن الْحسن فِي قَوْله:
{إِلَى نصب يوفضون} (المعارج: 34) . أَي: يبتدرون أَيهمْ
يستلمه أول. قَوْله: (والنضب وَاحِد وَالنّصب مصدر)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن لفظ النصب يسْتَعْمل إسما
(8/186)
وَيسْتَعْمل مصدرا وَيجمع على أنصاب.
وَقَالَ بَعضهم: النصب وَاحِد وَالنّصب مصدر، كَذَا وَقع
فِيهِ، وَالَّذِي فِي (الْمعَانِي) للفراء: النصب وَالنّصب
وَاحِد، وَهُوَ مصدر، وَالْجمع أنصاب، فَكَانَ التَّغْيِير
من بعض النقلَة. قلت: لَا تَغْيِير فِيهِ لِأَن
البُخَارِيّ فرق بِكَلَامِهِ هَذَا بَين الِاسْم والمصدر،
وَلَكِن من قصرت يَده عَن علم الصّرْف لَا يفرق بَين الإسم
والمصدر فِي مجيئها على لفظ وَاحِد.
يَوْمَ الخُرُوجِ مِنَ القُبُورِ يَنْسِلُونَ يَخْرُجُونَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك يَوْم
الْخُرُوج} (ق: 24) . أَي من الْقُبُور وَفسّر قَوْله:
{يَنْسلونَ} (الْأَنْبِيَاء: 69، ي س: 15) . بقوله:
{يخرجُون} (ق: 24) . كَذَا ذكره عبد عَن قَتَادَة، وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَة: يَنْسلونَ يسرعون، وَالذِّئْب ينسل
ويعسل. وَفِي (الْكَامِل) : العسلان غير النسلان، وَفِي
كتاب الزّجاج وَابْن جرير الطَّبَرِيّ و (تَفْسِير ابْن
عَبَّاس) {يَنْسلونَ} (الْأَنْبِيَاء: 69، ي س: 15) .
يخرجُون بِسُرْعَة. وَفِي (الْمُجْمل) : النسلان مشْيَة
الذِّئْب إِذا أعنق وأسرع فِي الْمَشْي، وَفِي (الْمُحكم)
: نسل ينسل نَسْلًا ونسلانا. وَأَصله للذئب، ثمَّ اسْتعْمل
فِي غير ذَلِك. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: نسولاً، وَأَصله
عَدو مَعَ مقاربة خطو.
2631 - حدَّثنا عُثْمَانُ قَالَ حدَّثني جَرِيرٌ عنْ
مَنْصُورٍ عنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَن أبي عَبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ
كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعَ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا
حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ
بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ مَا
منِ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ
الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أوْ
سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُول الله أفَلاَ
نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا ونَدَعُ العَمَلَ فَمَنْ كانَ
مِنَّا مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ
أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا منْ كانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ
الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ
أمَّا أهلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ
السَّعَادَةِ وَأمَّا أهحلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ
لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ فأمَّا مَنْ أعْطَى
واتَّقَى الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقعدَ وقعدنا حوله) ،
وَكَانَ فِي قعوده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَلَامه
بِمَا قَالَه فِيهِ وعظ لَهُم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عُثْمَان بن مُحَمَّد بن
أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن الْعَبْسِي.
الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد الضَّبِّيّ. الثَّالِث:
مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر. الرَّابِع: سعد بن عُبَيْدَة،
بِضَم الْعين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي آخر كتاب الْوضُوء. الْخَامِس:
أَبُو عبد الرَّحْمَن، هُوَ عبد الله بن حبيب، بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة، مر فِي: بَاب غسل الْمَذْي فِي كتاب
الْغسْل. السَّادِس: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور
غير مَنْسُوب، وَكَذَلِكَ اثْنَان فِيمَا بعده. وَفِيه:
أحدهم مَذْكُور بكنيته. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون
إلاَّ جَرِيرًا رازي وَأَصله من الْكُوفَة. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن آدم بن أبي إِيَاس، وَعَن بشر
بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَعَن يحيى عَن وَكِيع،
ثَلَاثَتهمْ عَن شُعْبَة وَعَن أبي نعيم عَن سُفْيَان
وَعَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد ثَلَاثَتهمْ
عَن الْأَعْمَش عَنهُ بِهِ وَفِي الْقدر عَن عَبْدَانِ
وَفِي الْأَدَب عَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي
الْقدر عَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَزُهَيْر بن حَرْب، ثَلَاثَتهمْ عَن جرير
بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب،
وَأبي سعيد الْأَشَج، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ وَعَن
أبي بكر بن أبي شيبَة وهناد بن السّري وَعَن مُحَمَّد بن
عبد الله بن نمير وَعَن أبي كريب وَعَن أبي مُوسَى وَابْن
بشار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْقدر عَن الْحسن بن عَليّ
الْخلال وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد
الْأَعْلَى وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي السّنة عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ
بن مُحَمَّد عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع بِهِ.
(8/187)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي بَقِيع) ،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف وَهُوَ من
الأَرْض مَوضِع فِيهِ أروم شجر من ضروب شَتَّى، وَبِه سمى:
بَقِيع الْغَرْقَد، بِالْمَدِينَةِ وَهِي مَقْبرَة
أَهلهَا، و: الْغَرْقَد، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وَفِي آخِره دَال
مُهْملَة: وَهُوَ شجر لَهُ شوك كَانَ ينْبت هُنَاكَ فَذهب
الشّجر وَبَقِي الإسم لَازِما للموضع. وَقَالَ
الْأَصْمَعِي: قطعت غرقدات فِي هَذَا الْموضع حِين دفن
فِيهِ عُثْمَان بن مَظْعُون، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ ياقوت: وبالمدينة أَيْضا بَقِيع الزبير وبقيع
الْخَيل عِنْد دَار زيد بن ثَابت وبقيع الخبجبة، بِفَتْح
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الساكنة
وَالْجِيم المفوحة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْأُخْرَى،
كَذَا ذكره السُّهيْلي، وَغَيره يَقُول: الجبجبة، بجيمين،
وبقيع الْخضمات، قَالَ الْخطابِيّ: وَمن النَّاس من
يَقُوله بِالْبَاء، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْغَرْقَد
وأحدها غرقدة وَإِذا عظمت العوسجة فَهِيَ غرقدة، والعوسج
من شجر الشوك لَهُ ثَمَر أَحْمَر مدور كَأَنَّهُ خرز
العقيق. وَقَالَ أَبُو الْعَلَاء المعري: هُوَ نبت من
نَبَات السهل، وَقَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ:
الْغَرْقَد ينْبت بِكُل مَكَان مَا خلا حر الرمل، وَذكر
ابْن البيطار فِي (جَامعه) أَن الْغَرْقَد اسْم عَرَبِيّ
يُسَمِّي بِهِ بعض الْعَرَب النَّوْع الْأَبْيَض الْكَبِير
من العوسج. قَالَ أَبُو عمر: إِن مضغه مر. وَفِي الحَدِيث
فِي ذكر الدَّجَّال كل شَيْء يواري يَهُودِيّا ينْطق إلاَّ
الْغَرْقَد فَإِنَّهُ من شجرهم فَلَا ينْطق، وَقَالَ
الْأَصْمَعِي: الْغَرْقَد من شجر الْحجاز. وَفِي
(الْمُحكم) : بَقِيع الْغَرْقَد يُسمى كفنة لِأَنَّهُ
يدْفن فِيهِ. قَوْله: (وَمَعَهُ مخصرة) ، بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة
وَالرَّاء: وَهُوَ شَيْء يَأْخُذهُ الرجل بِيَدِهِ ليتوكأ
عَلَيْهِ مثل الْعَصَا وَنَحْوه، وَهُوَ أَيْضا مَا
يَأْخُذهُ الْملك يُشِير بِهِ إِذا خطب، وَاخْتصرَ الرجل
أمسك المخصرة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: التخصير إمْسَاك
الْقَضِيب بِالْيَدِ، وَجزم ابْن بطال أَنه الْعَصَا.
وَقَالَ ابْن التِّين: عَصا أَو قضيب. قَوْله: (فَنَكس) ،
بتَخْفِيف الْكَاف وتشديدها، لُغَتَانِ، أَي: خفض رَأسه
وطأطأ بِهِ إِلَى الأَرْض على هَيْئَة المهموم المفكر،
وَيحْتَمل أَيْضا أَن يُرَاد بنكس: نكس المخصرة. قَوْله:
(ينكت) من النكت، وَهُوَ أَن يضْرب فِي الأَرْض بقضيب
يُؤثر فِيهَا، وَيُقَال: النكت قرعك الأَرْض بِعُود أَو
بأصبع يُؤثر فِيهَا. قَوْله: (منفوسة) أَي: مصنوعة مخلوقة.
قَوْله: (إِلَّا كتب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:
(مَكَانهَا) ، بِالرَّفْع مفعول نَاب عَن الْفَاعِل،
وَأَصله: كتب الله مَكَان تِلْكَ النَّفس المخلوقة،
وَكلمَة: من، للْبَيَان. قَوْله: (وَالنَّار) ، قَالَ
الْكرْمَانِي: الْوَاو فِي: النَّار، بِمَعْنى: أَو. قلت:
لم أدر مَا حمله على هَذَا. قَوْله: (وَإِلَّا) كلمة:
إِلَّا، الثَّانِيَة تروى بِالْوَاو وتروى بِدُونِهَا،
وَفِيه غرابة من الْكَلَام، وَهِي أَن قَوْله: (مَا من
نفس) يحْتَمل أَن يكون بَدَلا من قَوْله: (مَا مِنْكُم)
وَأَن يكون إلاَّ ثَانِيًا بَدَلا من إلاَّ أَولا.
وَيحْتَمل أَن يكون من بَاب اللف والنشر، وَأَن يكون
تعميما بعد تَخْصِيص، إِذْ الثَّانِي فِي كل مِنْهَا أَعم
من الأول. قَوْله: (شقية) قَالَ الْكرْمَانِي: بِالرَّفْع
أَي: هِيَ شقية. قلت: وَجه ذَلِك هُوَ أَن الضَّمِير فِي
قَوْله: (إلاَّ قد كتب) ، يرجع إِلَى قَوْله: (مَكَانهَا)
، لِأَنَّهُ بدل مِنْهُ فَلَا يَصح أَن يكون ارْتِفَاع:
شقية، إلاَّ بِتَقْدِير شَيْء مَحْذُوف حِينَئِذٍ وَهُوَ
لفظ: هِيَ، على أَنه مُبْتَدأ وشقية خَبره. قَوْله:
(فَقَالَ رجل) قيل: إِنَّه عمر، وَقيل: إِنَّه غَيره.
قَوْله: (أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا؟) أَي: الَّذِي قدر
الله علينا ونتكل؟ أَي: نعتمد؟ وَأَصله: نوتكل، فأبدلت
التَّاء من الْوَاو وأدغمت فِي الْأُخْرَى لِأَن أَصله من
وكل يكل. قَوْله: (وَنَدع الْعَمَل) أَي: نتركه. قَوْله:
(فسيصير) أَي: فسيجريه الْقَضَاء إِلَيْهِ قهرا، وَيكون
مآل حَاله ذَلِك بِدُونِ اخْتِيَاره. قَوْله: (فييسرون) ،
ذكره بِلَفْظ الْجمع بِاعْتِبَار معنى الْأَهْل، وَوجه
مُطَابقَة جَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسؤالهم هُوَ
أَنهم لما قَالُوا: إِنَّا نَتْرُك الْمَشَقَّة الَّتِي
فِي الْعَمَل الَّذِي لأَجلهَا سمي بالتكليف، فَقَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا مشقة ثمَّة إِذْ كل ميسر لما
خلق لَهُ) ، (وَهُوَ يسيرٌ على من يسره الله عَلَيْهِ) .
فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقَضَاء الأزلي يَقْتَضِي ذَلِك،
فَلم الْمَدْح والذم وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب؟ أُجِيب:
بِأَن الْمَدْح والذم بِاعْتِبَار الْمَحَلِّيَّة لَا
بِاعْتِبَار الفاعلية، وَهَذَا هُوَ المُرَاد باكسب
الْمَشْهُور عَن الأشاعرة، وَذَلِكَ كَمَا يمدح الشَّيْء
ويذم بحسنه وقبحه وسلامته وعاهته. وَأما الثَّوَاب
وَالْعِقَاب فكسائر العاديات، فَكَمَا لَا يَصح عندنَا أَن
يُقَال: لم خلق الله تَعَالَى الإحتراق عقيب مماسة النَّار
وَلم يحصل ابْتِدَاء؟ فَكَذَا هَهُنَا، وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: الْجَواب من الإسلوب الْحَكِيم مَنعهم صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الاتكال وَترك الْعَمَل، وَأمرهمْ
بِالْتِزَام مَا يجب على العَبْد من الْعُبُودِيَّة،
وَإِيَّاكُم وَالتَّصَرُّف فِي الْأُمُور الإلهية فَلَا
تجْعَلُوا الْعِبَادَة وَتركهَا سَببا مُسْتقِلّا لدُخُول
الْجنَّة وَالنَّار، بل إِنَّهَا عَلَامَات فَقَط، وَقَالَ
الْخطابِيّ: لما أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سبق
الْكتاب بالسعادة رام الْقَوْم أَن يتخذوه حجَّة فِي ترك
الْعَمَل، فأعلمهم أَن هُنَا أَمريْن لَا يبطل أَحدهمَا
الآخر: بَاطِن
(8/188)
هُوَ الْعلَّة الْمُوجبَة فِي حكم
الربوبية، وَظَاهر هُوَ التَّتِمَّة اللَّازِمَة فِي حق
الْعُبُودِيَّة، وَإِنَّمَا هُوَ أَمارَة مخيلة فِي مطالقة
علم العواقب غير مفيدة حَقِيقَة، وبيَّن لَهُم أَن كلا
ميسر لما خلق لَهُ، وَأَن عمله فِي العاجل دَلِيل مصيره
فِي الآجل، وَلذَلِك مثل بقوله تَعَالَى: {فَأَما من أعْطى
وَاتَّقَى} (الَّيْلِ: 5) . الْآيَة، وَنَظِيره الرزق
الْمَقْسُوم مَعَ الْأَمر بِالْكَسْبِ، وَالْأَجَل
الْمَضْرُوب مَعَ التعالج بالطب، فَإنَّك تَجِد الْبَاطِن
مِنْهُمَا على مُوجبه، وَالظَّاهِر سَببا مخيلاً، وَقد
اصْطَلحُوا على أَن الظَّاهِر مِنْهُمَا لَا يتْرك للباطن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: هَذَا
الحَدِيث أصل لأهل السّنة فِي أَن السَّعَادَة والشقاوة
بِخلق الله تَعَالَى، بِخِلَاف قَول الْقَدَرِيَّة الَّذين
يَقُولُونَ: إِن الشَّرّ لَيْسَ بِخلق الله. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: فِيهِ إِثْبَات للقدر، وَإِن جمع
الْوَاقِعَات بِقَضَاء الله تَعَالَى وَقدره، لَا يُسأل
عَمَّا يفعل، وَقيل: إِن سر الْقدر ينْكَشف لِلْخَلَائِقِ
إِذا دخلُوا الْجنَّة، وَلَا ينْكَشف لَهُم قبل دُخُولهَا،
وَفِيه رد على أهل الْجَبْر، لِأَن الْمُجبر لَا يَأْتِي
الشَّيْء إلاَّ وَهُوَ يكرههُ، والتيسير ضد الْجَبْر، أَلا
ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن
الله تجَاوز عَن أمتِي مَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ) . قَالَ:
والتيسير هُوَ أَن يَأْتِي الْإِنْسَان الشَّيْء وَهُوَ
يُحِبهُ.
وَاخْتلف أهل يعلم فِي الدُّنْيَا الشقي من السعيد؟
فَقَالَ قوم: نعم، محتجين بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة،
والْحَدِيث لِأَن كل عمل أَمارَة على جَزَائِهِ. وَقَالَ
قوم: لَا، وَالْحق فِي ذَلِك أَنه يدْرك ظنا لَا جزما.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية: من اشْتهر
لَهُ لِسَان صدق فِي النَّاس من صالحي هَذِه الْأمة هَل
يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء
رَحِمهم الله.
وَفِيه: جَوَاز الْقعُود عِنْد الْقُبُور والتحدث عِنْدهَا
بِالْعلمِ والمواعظ. وَفِيه: نكته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالْمِخْصَرَةِ فِي الأَرْض. أصل تَحْرِيك الإصبع فِي
التَّشَهُّد. قَالَه الْمُهلب. فَإِن قلت: مَا معنى النكت
بِالْمِخْصَرَةِ؟ قلت: هُوَ إِشَارَة إِلَى إِحْضَار
الْقلب للمعاني. وَفِيه: نكس الرَّأْس عِنْد الْخُشُوع
والتفكر فِي أَمر الْآخِرَة. وَفِيه: إِظْهَار الخضوع
والخشوع عِنْد الْجِنَازَة، وَكَانُوا إِذا حَضَرُوا
جَنَازَة يلقى أحدهم حَبِيبه وَلَا يقبل عَلَيْهِ إلاَّ
بِالسَّلَامِ حَتَّى يرى أَنه وَاجِد عَلَيْهِ، وَكَانُوا
لَا يَضْحَكُونَ هُنَاكَ، وَرَأى بَعضهم رجلا يضْحك فآلى
أَن لَا يكلمهُ أبدا، وَكَانَ يبْقى أثر ذَلِك عِنْدهم
ثَلَاثَة أَيَّام لشدَّة مَا يحصل فِي قُلُوبهم من
الْخَوْف والفزع. وَفِيه: أَن النَّفس المخلوقة إِمَّا
سعيدة وَإِمَّا شقية، وَلَا يُقَال: إِذا وَجَبت الشقاوة
والسعادة بِالْقضَاءِ الأزلي وَالْقدر الإلهي فَلَا
فَائِدَة فِي التَّكْلِيف، فَإِن هَذَا أعظم شبه النافين
للقدر، وَقد أجابهم الشَّارِع بِمَا لَا يبْقى مَعَه
إِشْكَال، وَوجه الِانْفِصَال أَن الرب تَعَالَى أمرنَا
بِالْعَمَلِ، فَلَا بُد من امتثاله، وغيب عَنَّا
الْمَقَادِير لقِيَام حجَّته وزجره، وَنصب الْأَعْمَال
عَلامَة على مَا سبق فِي مَشِيئَته، فسبيله التَّوَقُّف،
فَمن عدل عَنهُ ضل لِأَن الْقدر سر من أسراره لَا يطلع
عَلَيْهِ إلاَّ هُوَ فَإِذا دخلُوا الْجنَّة كشف لَهُم.
38 - (بابُ مَا جاءَ فِي قاتِلِ النَّفْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي
حق قَاتل النَّفس، قيل: مَقْصُود التَّرْجَمَة حكم قَاتل
النَّفس، وَالْمَذْكُور فِي الْبَاب حكم قَاتل نَفسه
فَهُوَ أخص من التَّرْجَمَة، وَلكنه أَرَادَ أَن يلْحق
بِقَاتِل نَفسه قَاتل غَيره من بَاب الأولى. قلت: قَوْله:
قَاتل النَّفس، أَعم من أَن يكون قَاتل نَفسه، وَقَاتل
غَيره، فَهَذَا اللَّفْظ يَشْمَل الْقسمَيْنِ فَلَا
يحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى دَعْوَى الأخصية وَلَا إِلَى
إِلْحَاق قَاتل الْغَيْر بِقَاتِل نَفسه، وَلَا يلْزم أَن
يكون حَدِيث الْبَاب طبق التَّرْجَمَة من سَائِر
الْوُجُوه، بل إِذا صدق الحَدِيث على جُزْء مَا صدقت
عَلَيْهِ التَّرْجَمَة، كفى. وَقيل: عَادَة البُخَارِيّ
إِذا توقف فِي شَيْء ترْجم عَلَيْهِ تَرْجَمَة مُبْهمَة
كَأَنَّهُ يُنَبه على طَرِيق الِاجْتِهَاد، وَقد نقل عَن
مَالك أَن قَاتل النَّفس لَا تقبل تَوْبَته، وَمُقْتَضَاهُ
أَن لَا يصلى عَلَيْهِ. قلت: لَا نسلم أَن هَذِه
التَّرْجَمَة مُبْهمَة، والإبهام من أَيْن جَاءَ وَهِي
ظَاهِرَة فِي تنَاولهَا الْقسمَيْنِ الْمَذْكُورين كَمَا
ذكرنَا؟ وَقَالَ بَعضهم: لَعَلَّ البُخَارِيّ أَشَارَ بذلك
إِلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث جَابر بن
سَمُرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، (أُتِي بِرَجُل قتل نَفسه بمشاقص
فَلم يصل عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة للنسائي: (أما أَنا
فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ) لكنه لما لم يكن على شَرطه
أَوْمَأ إِلَيْهِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة وَأورد فِيهَا مَا
يُشبههُ من قصَّة قَاتل نَفسه. قلت: تَوْجِيه كَلَام
البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة بالتخمين لَا يُفِيد،
وَكَلَامه ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف،
وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ.
(8/189)
3631 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا
يزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ أبِي
قِلابَةَ عنْ ثابتِ ابنِ الضَّحَّاكِ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ
حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كاذِبا مُتَعَمِّدا
فَهْوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ
عُذِّبَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ..
وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة مَا ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة تقدمُوا، وخَالِد هُوَ الْحذاء
وَأَبُو قلَابَة عبد الله بن زيد بن ثَابت بن الضَّحَّاك
الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي من أَصْحَاب بيعَة الرضْوَان،
وَهُوَ صَغِير، مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْأَدَب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي
النذور عَن مُعلى بن أَسد وَفِي الْأَدَب أَيْضا عَن
مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان عَن يحيى
بن يحيى وَعَن أبي غَسَّان وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَإِسْحَاق بن مَنْصُور وَعبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد
وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن أبي تَوْبَة وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه
النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن مَحْمُود بن
خَالِد وَعَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله،
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِملَّة) ، الْملَّة الدّين كملة
الْإِسْلَام واليهودية والنصرانية، وَقيل: هِيَ مُعظم
الدّين، وَجُمْلَة مَا يَجِيء بِهِ الرُّسُل. صورته أَن
يحلف بدين النَّصَارَى أَو بدين مِلَّة من ملل الْكَفَرَة.
قَوْله: (كَاذِبًا) حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: حلف،
أَي: حَال كَونه كَاذِبًا فِي تَعْظِيم تِلْكَ الْملَّة
الَّتِي حلف بهَا، فَيكون هَذَا الْحَال من الْأَحْوَال
اللَّازِمَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الْحق
مُصدقا} (الْبَقَرَة: 29، وفاطر: 13) . لِأَن من عظم غير
مِلَّة الْإِسْلَام كَانَ كَاذِبًا فِي تَعْظِيم ذَلِك
دَائِما فِي كل حَال، وَفِي كل وَقت، وَلَا ينْتَقل عَنهُ
وَلَا يصلح أَن يُقَال: إِنَّه يَعْنِي بِكَوْنِهِ
كَاذِبًا فِي الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَوِي
فِي حَقه كَونه صَادِقا أَو كَاذِبًا إِذا حلف بِملَّة غير
الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذمه الشَّرْع من حَيْثُ
إِنَّه حلف بِتِلْكَ الْملَّة الْبَاطِلَة مُعظما لَهَا
على نَحْو مَا يعظم بِهِ مِلَّة الْإِسْلَام الْحق، وَلَا
فرق بَين أَن يكون صَادِقا أَو كَاذِبًا فِي الْمَحْلُوف
عَلَيْهِ. قَوْله: (مُتَعَمدا) أَيْضا حَال من الْأَحْوَال
المتداخلة أَو المترادفة، قيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ
الْحَالِف بذلك غير مُعْتَقد لذَلِك فَهُوَ آثم مرتكب
كَبِيرَة إِذْ قد تشبه فِي قَوْله بِمن يعظم تِلْكَ
الْملَّة ويعتقدها، فغلظ عَلَيْهِ الْوَعيد بِأَن صير
كواحد مِنْهُم مُبَالغَة فِي الردع والزجر، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم}
(الْمَائِدَة: 15) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَوْله:
(مُتَعَمدا) ، يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ مُعْتَقدًا لتعظيم تِلْكَ
الْملَّة الْمُغَايرَة لملة الْإِسْلَام، وَحِينَئِذٍ يكون
كَافِرًا حَقِيقَة، فَيبقى اللَّفْظ على ظَاهره. قَوْله:
(فَهُوَ كَمَا قَالَ) ، قَالَ ابْن بطال: أَي: هُوَ كَاذِب
لَا كَافِر، وَلَا يخرج بِهَذِهِ الْقِصَّة من الْإِسْلَام
إِلَى الدّين الَّذِي حلف بِهِ لِأَنَّهُ لم يقل مَا
يَعْتَقِدهُ، فَوَجَبَ أَن يكون كَاذِبًا، كَمَا قَالَ لَا
كَافِرًا. قَالَ: فَإِن ظن أَن فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيلا
على إِبَاحَة الْحلف بِملَّة غير الْإِسْلَام صَادِقا
لاشتراطه فِي الحَدِيث أَن يحلف بِهِ كَاذِبًا، قيل لَهُ:
لَيْسَ كَمَا توهمت لوُرُود نهي النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحلف بِغَيْر الله نهيا مُطلقًا،
فَاسْتَوَى فِي ذَلِك الْكَاذِب والصادق. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَوْله: (فَهُوَ كَمَا قَالَ) أَي: فَهُوَ
على مِلَّة غير الْإِسْلَام، لِأَن الْحلف بالشَّيْء
تَعْظِيم لَهُ، ثمَّ قَالَ: الظَّاهِر أَنه تَغْلِيظ. قلت:
حمله على هَذَا التَّفْسِير صرفه معنى قَوْله: كَاذِبًا
إِلَى الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، وَقد ذكرنَا أَنه لَا يصلح
ذَلِك لِاسْتِوَاء كَونه صَادِقا أَو كَاذِبًا إِذا حلف
بِملَّة غير الْإِسْلَام، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ
إِنَّمَا يحلف الْحَالِف بِمَا كَانَ عَظِيما عِنْده، وَمن
اعْتقد تَعْظِيم مِلَّة من ملل الْكفْر فقد ضاهى
الْكفَّار. انْتهى. قلت: فقد كفر حَقِيقَة والمضاهاة دون
ذَلِك. قَوْله: (بحديدة) أَرَادَ بِهِ آلَة قاطمة مثل
السَّيْف والسكين وَنَحْوهمَا، والحديدة أخص من الْحَدِيد
سمي بِهِ لِأَنَّهُ منيع، لِأَن أَصله من الْحَد وَهُوَ
الْمَنْع وَالْجمع حدائد، وَجَاء فِي الشّعْر: الحديدات.
قَوْله: (عذب بِهِ) ، ويروى: (بهَا) ، أَي: بالحديدة،
وَأما تذكير الضَّمِير فباعتبار الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا
يعذب بهَا لِأَن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِالْحَدِيثِ
الْمَذْكُور أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه على أَن الْحَالِف
بِالْيَمِينِ الْمَذْكُور ينْعَقد يَمِينه وَعَلِيهِ
الْكَفَّارَة، لِأَن الله تَعَالَى أوجب على الْمظَاهر
الْكَفَّارَة، وَهُوَ مُنكر من القَوْل وزور، وَالْحلف
بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مُنكر وزور، وَقَالَ النَّوَوِيّ:
لَا ينْعَقد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء يَمِين، وَعَلِيهِ أَن
يسْتَغْفر الله ويوحده
(8/190)
وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ سَوَاء فعله أم
لَا. وَقَالَ: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك
وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَاحْتَجُّوا بقوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف فَقَالَ بِاللات والعزى فَلْيقل
لَا إِلَه إلاَّ الله) ، وَلم يذكر فِي الحَدِيث
كَفَّارَة، قُلْنَا: لَا يلْزم من عدم ذكرهَا فِيهِ نفي
وجوب الْكَفَّارَة، وَقَالَ ابْن بطال فِي قَوْله: (وَمن
قتل نَفسه بحديدة) : أجمع الْفُقَهَاء وَأهل السّنة على
أَنه من قتل نَفسه أَنه لَا يخرج بذلك من الْإِسْلَام،
وَأَنه يصلى عَلَيْهِ وإثمه عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ مَالك،
وَلم يكره الصَّلَاة عَلَيْهِ إِلَّا عمر بن عبد الْعَزِيز
وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالصَّوَاب قَول الْجَمَاعَة لِأَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنّ الصَّلَاة على
الْمُسلمين وَلم يسْتَثْن مِنْهُم أحدا فيصلى على
جَمِيعهم. قلت: قَالَ أَبُو يُوسُف: لَا يصلى على قَاتل
نَفسه لِأَنَّهُ ظَالِم لنَفسِهِ فَيلْحق بالباغي وقاطع
الطَّرِيق، وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد: يصلى عَلَيْهِ
لِأَن دَمه هذر كَمَا لَو مَاتَ حتفه.
4631 - وَقَالَ حجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ حَدثنَا جَريرُ بنُ
حازِمٍ عنِ الحَسَنِ قَالَ حَدثنَا جُنْدَبٌ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ فِي هاذا المَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا
نَخَافُ أنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ قَتَلَ
نَفْسَهُ فَقَالَ الله عزَّ وجَلَّ بَدَرَنِي عَبْدِي
بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ.
(الحَدِيث 4631 طرفه فِي: 3643) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله فِي ذكر بني إِسْرَائِيل
فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال فَذكره،
وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره عَن شَيْخه بِلَفْظ:
قَالَ، وخرجه فِي أَخْبَار بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال، قَالَ: وَهُوَ
يضعف قَول من قَالَ: إِنَّه إِذا قَالَ عَن شَيْخه،
وَقَالَ فلَان، يكون أَخذه عَنهُ مذاكرة، وَلَفظه هُنَاكَ:
كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ رجل بِهِ جرح فجزع، فَأخذ
سكينا فحز بهَا يَده فَمَا رقي الدَّم حَتَّى مَاتَ، وَعند
مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي: حَدثنَا
وهب بن جرير حَدثنَا أبي، وَلَفظه: (خرجت بِهِ قرحَة
فَلَمَّا آذته انتزع سَهْما من كِنَانَته فنكاها فَلم يرق
الدَّم حَتَّى مَاتَ) . وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم
مُحَمَّد هَذَا هُوَ الذهلي، قَالَ الجياني: وَنسبه أَبُو
عَليّ ابْن السكن عَن الْفربرِي، فَقَالَ: حَدثنَا
مُحَمَّد بن سعيد حَدثنَا حجاج، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
قد أخرج البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن معمر وَهُوَ مَشْهُور
بالرواية، ثمَّ رَوَاهُ أَبُو عَليّ عَن حَكِيم بن
مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو بكر بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عَليّ
بن قديد حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحرز حَدثنَا حجاج
فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي هَذَا الْمَسْجِد) ،
الظَّاهِر أَنه مَسْجِد الْبَصْرَة، قَوْله: (فَمَا
نَسِينَا وَمَا نَخَاف) ذكر هَذَا للتَّأْكِيد
وَالتَّحْقِيق. قَوْله: (عَن النَّبِي) ، ويروى: (عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَهُوَ ظَاهر،
لِأَنَّهُ يُقَال: كذب عَلَيْهِ، وَأما رِوَايَة: عَن،
فعلى معنى النَّقْل، قَوْله: (بِرَجُل جراح) ، لم يعرف
الرجل من هُوَ، و: الْجراح، بِكَسْر الْجِيم، ويروى:
(خراج) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء،
وَهُوَ فِي اصْطِلَاح الْأَطِبَّاء: الورم إِذا اجْتمعت
مادته المتفرقة فِي لِيف الْعُضْو الورم إِلَى تجويف
وَاحِد، وَقبل ذَلِك يُسمى ورما وَفِي (الْمُحكم) هُوَ
اسْم لما يخرج فِي الْبدن، زَاد فِي (الْمُنْتَهى) : من
القروح. وَفِي (الْمغرب) : الْخراج، بِالضَّمِّ البثر
الْوَاحِدَة، خراجة، وَزعم أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ أَنه
يجمع على خراجات وخرجات. وَفِي (الجمهرة) و (الْجَامِع) و
(الموعب) : الْخراج مَا خرج على الْجَسَد من دمل وَنَحْوه
وَزعم النَّوَوِيّ أَن الْخراج قرحَة، بِفَتْح الْقَاف
وَإِسْكَان الرَّاء، وَهِي وَاحِدَة القروح، وَهِي حبات
تخرج فِي بدن الْإِنْسَان. وَفِي (التَّلْوِيح) : ينظر
فِيهِ من سلفه فِيهِ. قَوْله: (قتل نَفسه) ، أَي: بِسَبَب
الْجراح، وَهِي جملَة وَقعت صفة، ويروى: (فَقتل) . قَوْله:
(بدرني) ، معنى الْمُبَادرَة: عدم صبره حَتَّى يقبض الله
روحه حتف أَنفه، يُقَال: بدرني، أَي: سبقني من بدرت إِلَى
الشَّيْء أبدر بَدْرًا: إِذا أسرعت: وَكَذَلِكَ: بادرت
إِلَيْهِ. قَوْله: (حرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) مَعْنَاهُ:
إِن كَانَ مستحلاً فعقوبته مُؤَبّدَة، أَو مَعْنَاهُ: حرمت
قبل دُخُول النَّار، أَو المُرَاد من الْجنَّة: جنَّة
خَاصَّة لِأَن الْجنان كَثِيرَة، أَو هُوَ من بَاب التغيظ،
أَو هُوَ مُقَدّر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، وَقيل:
يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْوَعيد لهَذَا الرجل الْمَذْكُور
فِي الحَدِيث، وانضم إِلَى هَذَا الرجل مشركه، وَقَالَ
ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون كَافِرًا، لقَوْله:
(فَحرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) ، وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن
الْجنَّة مُحرمَة على الْكَافِر سَوَاء قتل نَفسه اَوْ
استبقاها، وعَلى تَقْدِير أَن يكون كَافِرًا، إِنَّمَا
يَتَأَتَّى على قَول من يَقُول: إِن الْكفَّار مطالبون
(8/191)
بالفروع الشَّرْعِيَّة، وعَلى القَوْل
الآخر: لَا يحسن ذَلِك، ثمَّ إِن الحَدِيث لَا دلَالَة
فِيهِ على كفر وَلَا إِيمَان، بل هُوَ على الْإِيمَان أدل
من غَيره، وَالله أعلم، لَا سِيمَا وَقد ورد فِي
(المُصَنّف) لِابْنِ أبي شيبَة: حَدثنَا شريك عَن سماك
(عَن جَابر بن سَمُرَة: أَن رجلا من أَصْحَاب النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَصَابَته جِرَاحَة فآلمته،
فَأخذ مشقصا فَقتل بِهِ نَفسه، فَلم يصلِّ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ) .
4631 - وَقَالَ حجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ حَدثنَا جَريرُ بنُ
حازِمٍ عنِ الحَسَنِ قَالَ حَدثنَا جُنْدَبٌ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ فِي هاذا المَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا
نَخَافُ أنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ قَتَلَ
نَفْسَهُ فَقَالَ الله عزَّ وجَلَّ بَدَرَنِي عَبْدِي
بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ.
(الحَدِيث 4631 طرفه فِي: 3643) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله فِي ذكر بني إِسْرَائِيل
فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال فَذكره،
وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره عَن شَيْخه بِلَفْظ:
قَالَ، وخرجه فِي أَخْبَار بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال، قَالَ: وَهُوَ
يضعف قَول من قَالَ: إِنَّه إِذا قَالَ عَن شَيْخه،
وَقَالَ فلَان، يكون أَخذه عَنهُ مذاكرة، وَلَفظه هُنَاكَ:
كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ رجل بِهِ جرح فجزع، فَأخذ
سكينا فحز بهَا يَده فَمَا رقي الدَّم حَتَّى مَاتَ، وَعند
مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي: حَدثنَا
وهب بن جرير حَدثنَا أبي، وَلَفظه: (خرجت بِهِ قرحَة
فَلَمَّا آذته انتزع سَهْما من كِنَانَته فنكاها فَلم يرق
الدَّم حَتَّى مَاتَ) . وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم
مُحَمَّد هَذَا هُوَ الذهلي، قَالَ الجياني: وَنسبه أَبُو
عَليّ ابْن السكن عَن الْفربرِي، فَقَالَ: حَدثنَا
مُحَمَّد بن سعيد حَدثنَا حجاج، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
قد أخرج البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن معمر وَهُوَ مَشْهُور
بالرواية، ثمَّ رَوَاهُ أَبُو عَليّ عَن حَكِيم بن
مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو بكر بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عَليّ
بن قديد حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحرز حَدثنَا حجاج
فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي هَذَا الْمَسْجِد) ،
الظَّاهِر أَنه مَسْجِد الْبَصْرَة، قَوْله: (فَمَا
نَسِينَا وَمَا نَخَاف) ذكر هَذَا للتَّأْكِيد
وَالتَّحْقِيق. قَوْله: (عَن النَّبِي) ، ويروى: (عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَهُوَ ظَاهر،
لِأَنَّهُ يُقَال: كذب عَلَيْهِ، وَأما رِوَايَة: عَن،
فعلى معنى النَّقْل، قَوْله: (بِرَجُل جراح) ، لم يعرف
الرجل من هُوَ، و: الْجراح، بِكَسْر الْجِيم، ويروى:
(خراج) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء،
وَهُوَ فِي اصْطِلَاح الْأَطِبَّاء: الورم إِذا اجْتمعت
مادته المتفرقة فِي لِيف الْعُضْو الورم إِلَى تجويف
وَاحِد، وَقبل ذَلِك يُسمى ورما وَفِي (الْمُحكم) هُوَ
اسْم لما يخرج فِي الْبدن، زَاد فِي (الْمُنْتَهى) : من
القروح. وَفِي (الْمغرب) : الْخراج، بِالضَّمِّ البثر
الْوَاحِدَة، خراجة، وَزعم أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ أَنه
يجمع على خراجات وخرجات. وَفِي (الجمهرة) و (الْجَامِع) و
(الموعب) : الْخراج مَا خرج على الْجَسَد من دمل وَنَحْوه
وَزعم النَّوَوِيّ أَن الْخراج قرحَة، بِفَتْح الْقَاف
وَإِسْكَان الرَّاء، وَهِي وَاحِدَة القروح، وَهِي حبات
تخرج فِي بدن الْإِنْسَان. وَفِي (التَّلْوِيح) : ينظر
فِيهِ من سلفه فِيهِ. قَوْله: (قتل نَفسه) ، أَي: بِسَبَب
الْجراح، وَهِي جملَة وَقعت صفة، ويروى: (فَقتل) . قَوْله:
(بدرني) ، معنى الْمُبَادرَة: عدم صبره حَتَّى يقبض الله
روحه حتف أَنفه، يُقَال: بدرني، أَي: سبقني من بدرت إِلَى
الشَّيْء أبدر بَدْرًا: إِذا أسرعت: وَكَذَلِكَ: بادرت
إِلَيْهِ. قَوْله: (حرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) مَعْنَاهُ:
إِن كَانَ مستحلاً فعقوبته مُؤَبّدَة، أَو مَعْنَاهُ: حرمت
قبل دُخُول النَّار، أَو المُرَاد من الْجنَّة: جنَّة
خَاصَّة لِأَن الْجنان كَثِيرَة، أَو هُوَ من بَاب التغيظ،
أَو هُوَ مُقَدّر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، وَقيل:
يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْوَعيد لهَذَا الرجل الْمَذْكُور
فِي الحَدِيث، وانضم إِلَى هَذَا الرجل مشركه، وَقَالَ
ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون كَافِرًا، لقَوْله:
(فَحرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) ، وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن
الْجنَّة مُحرمَة على الْكَافِر سَوَاء قتل نَفسه اَوْ
استبقاها، وعَلى تَقْدِير أَن يكون كَافِرًا، إِنَّمَا
يَتَأَتَّى على قَول من يَقُول: إِن الْكفَّار مطالبون
بالفروع الشَّرْعِيَّة، وعَلى القَوْل الآخر: لَا يحسن
ذَلِك، ثمَّ إِن الحَدِيث لَا دلَالَة فِيهِ على كفر وَلَا
إِيمَان، بل هُوَ على الْإِيمَان أدل من غَيره، وَالله
أعلم، لَا سِيمَا وَقد ورد فِي (المُصَنّف) لِابْنِ أبي
شيبَة: حَدثنَا شريك عَن سماك (عَن جَابر بن سَمُرَة: أَن
رجلا من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
أَصَابَته جِرَاحَة فآلمته، فَأخذ مشقصا فَقتل بِهِ نَفسه،
فَلم يصلِّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ) .
5631 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذي يَخْنُقُ نَفْسَهُ
يخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُها يَطْعُنُهَا
فِي النَّارِ.
(الحَدِيث 5631 طرفه فِي: 8775) .
هَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَأخرجه
فِي الطِّبّ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي
هُرَيْرَة مطولا. وَمن ذَلِك الْوَجْه أخرجه مُسلم،
وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الخنق، وَفِيه من الزِّيَادَة ذكر السم
وَغَيره، وَلَفظه: (فَهُوَ فِي نَار جَهَنَّم خَالِدا
مخلدا فِيهَا أبدا) ، وَقد تمسك بِهِ الْمُعْتَزلَة
وَغَيرهم مِمَّن قَالَ بتخليد أَصْحَاب الْمعاصِي فِي
النَّار، وَأجَاب أهل السّنة بأجوبة، مِنْهَا: أَنهم
قَالُوا: هَذِه لزِيَادَة وهم، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد
أَن أخرجه، رَوَاهُ مُحَمَّد بن عجلَان عَن سعيد
المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، فَلم يذكر: (خَالِدا مخلدا)
، قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح، لِأَن الرِّوَايَات قد صحت أَن
أهل التَّوْحِيد يُعَذبُونَ ثمَّ يخرجُون مِنْهَا، وَقد
ذكرنَا أجوبة أُخْرَى فِي هَذَا الْبَاب، وَأَبُو
الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة،
وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وبالنون: عبد الله بن
ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. قَوْله:
(يخنق) ، بِضَم النُّون. قَوْله: (يطعنها) ، بِفَتْح
الْعين وَضمّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ الخنق والطعن فِي
النَّار، لِأَن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل.
48 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ عَلى
المُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهَة الصَّلَاة على
الْمُنَافِقين، وَكَرَاهَة الاسْتِغْفَار أَي: طلب
الْمَغْفِرَة للْمُشْرِكين لعدم الْفَائِدَة.
رَوَاهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمُنَافِقين عبد الله
بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا
ذكر الضَّمِير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور فِي قَوْله: (مَا
يكره) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لما جزم
البُخَارِيّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ فَلم مَا ذكره
بِإِسْنَادِهِ. قلت: لِأَنَّهُ لم يكن الرَّاوِي
بِشَرْطِهِ، أَو لِأَنَّهُ ذكره فِي مَوضِع آخر انْتهى.
قلت: لَا نسلم أَنه جزم بذلك، بل أخبر. وَلَئِن سلمنَا
ذَلِك فَيحْتَمل أَن تَركه الْإِسْنَاد اكْتِفَاء
بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكره فِي قصَّة الصَّلَاة على عبد
الله بن أبي فِي: بَاب الْقَمِيص الَّذِي يلف.
6631 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثني
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ
الله ابنِ عَبْدِ الله عنْ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ عُمَرَ بنِ
الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أنَّهُ قَالَ
لَمَّا مَاتَ عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ بنُ سَلُولَ دُعِيَ
لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُصَلَّى
عَلَيْهِ فَلَمَّا قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَثَبْتُ إلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أتُصَلِّي
عَلَى ابنِ أُبَيٍّ وقَدْ قَالَ يَوْمَ كذَا وكَذَا كَذَا
وكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيه قولَهُ فَتَبَسَّمَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ أخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ
فَلَمَّا أكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ إنِّي خُيِّرْتُ
فاخْتَرْتُ لَوْ أعْلَمُ أنِّي إنْ زِدْتُ عَلى
السَّبْعِينَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا قَالَ
فصَلَّى عَلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إلاَّ يَسِيرا حَتَّى
نَزَلَتِ الآيَتانِ مِنْ بَرَاءَةَ ولاَ تُصَلِّ عَلَى
أحَدٍ مِنهُم ماتَ أبدا إلَى وَهُمْ فاسِقُونَ قَالَ
فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأتِي عَلَى رَسُولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَئِذٍ وَالله ورسُولُهُ أعْلَمُ.
(الحَدِيث 6631 طرفه فِي: 1764) .
(8/192)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا
تصل على أحد مِنْهُم) لِأَن قَوْله: (لَا تصل) نهي،
وَالنَّهْي يَقْتَضِي الْكَرَاهَة. فَإِن قلت: من
التَّرْجَمَة قَوْله: وَالِاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين
وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب مَا يدل على النَّهْي عَن
الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين؟ قلت: فِي قَوْله: (حَتَّى
نزلت الْآيَات) مَا يدل على ذَلِك، لِأَن من جملَة
الْآيَات قَوْله: تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا
تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر
الله لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . الْآيَة، وَقَوله: {فَلَنْ
يغْفر الله لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . يدل على منع
الاسْتِغْفَار لَهُم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: يحيى بن بكير، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر. الثَّانِي: اللَّيْث بن
سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. الْخَامِس: عبيد
الله، بِضَم الْعين: ابْن عبد الله، بِفَتْح الْعين: ابْن
عُيَيْنَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة.
السَّابِع: عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَنْسُوب إِلَى
جده لِأَنَّهُ يحيى بن عبد الله بن بكير، وَهُوَ
وَاللَّيْث مصريان، وَعقيل أيلي وَابْن شهَاب وَعبيد الله
مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ
عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن
الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن
عمار وَمُحَمّد بن رَافع، وَفِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد
ابْن عبد الله بن الْمُبَارك. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
من طَرِيق ابْن عمر فِي: بَاب الْكَفَن فِي الْقَمِيص، عَن
مُسَدّد عَن يحيى عَن سعيد بن عبيد الله عَن نَافِع عَن
ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَنَذْكُر هُنَا بعض
شَيْء.
قَوْله: (دعِي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:
(أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله:
(أعدد عَلَيْهِ قَوْله) أَي: أعد على النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَول عبد الله ابْن أبي من أَقْوَاله
القبيحة فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالْمُؤمنِينَ. قَوْله: (فَلَمَّا أكثرت عَلَيْهِ) ، أَي:
فَلَمَّا زِدْت الْكَلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (إِنِّي خيرت) على صِيغَة الْمَجْهُول،
وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا
تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر
الله لَهُم} (التَّوْبَة: 18) . قَوْله: قَوْله: (حَتَّى
نزلت (فاخترت) أَي الاسْتِغْفَار الْآيَات) ، ويروى:
حَتَّى نزلت الْآيَتَانِ الأولى. قَوْله تَعَالَى: {وَلَا
تصل عَليّ أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره
إِنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وماتوا وهم
فَاسِقُونَ} (التَّوْبَة: 48) . وَالْآيَة الثَّانِيَة
هِيَ قَوْله: {اسْتغْفر لَهُم} (التَّوْبَة: 08) .
الْآيَة، وَأما على رِوَايَة الْآيَات فَمن قَوْله:
{اسْتغْفر لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . إِلَى قَوْله: {وهم
فَاسِقُونَ} (التَّوْبَة: 48) . .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الدَّاودِيّ: هَذِه
الْآيَات فِي قوم بأعيانهم يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:
{وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب} (التَّوْبَة: 021) .
الْآيَة، فَلم ينْه عَمَّا لم يعلم، وَكَذَلِكَ إخْبَاره
لِحُذَيْفَة بسبعة عشر من الْمُنَافِقين، وَقد كَانُوا
يناكحون الْمُسلمين ويوارثونهم وَيجْرِي عَلَيْهِم حكم
الْإِسْلَام لاستتارهم بكفرهم، وَلم ينْه النَّاس عَن
الصَّلَاة عَلَيْهِم، إِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَحده، وَكَانَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، ينظر إِلَى حُذَيْفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِن شهد جَنَازَة مِمَّن يظنّ بِهِ
شهد، وإلاَّ لم يشهده، وَلَو كَانَ أمرا ظَاهرا لم يسره
الشَّارِع إِلَى حُذَيْفَة، وَذكر عَن الطَّبَرِيّ أَنه
يجب ترك الصَّلَاة على معلن الْكفْر ومسره، بِهَذَا قَالَ،
فَأَما الْمقَام على قَبره فَغير محرم بل جَائِز لوَلِيِّه
الْقيام عَلَيْهِ لإصلاحه وَدَفنه، وَبِذَلِك صَحَّ
الْخَبَر، وَعمل بِهِ أهل الْعلم. وَفِي (التَّوْضِيح) :
وَهَذَا خلاف مَا قدمنَا. أَن ولد الْكَافِر لَا يدفنه
وَلَا يحضر دَفنه، وَفِي (النَّوَادِر) عَن ابْن سِيرِين:
مَا حرم الله الصَّلَاة على أحد من أهل الْقبْلَة إِلَّا
على ثَمَانِيَة عشر رجلا من الْمُنَافِقين، وَقد قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعَلي، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (إذهب فواره) يَعْنِي أَبَاك، وروى سعيد
بن جُبَير، قَالَ: مَاتَ رجل يَهُودِيّ وَله ابْن مُسلم،
فَذكر ذَلِك لِابْنِ عَبَّاس، فَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي
أَن يمشي مَعَه ويدفنه وَيَدْعُو لَهُ بِالصَّلَاةِ مَا
دَامَ حَيا، فَإِذا مَاتَ وَكله إِلَى أشباهه، ثمَّ
قَرَأَ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ
إِلَّا عَن موعدة} (التَّوْبَة: 411) . الْآيَة، وَقَالَ
النَّخعِيّ: توفيت أم الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة
وَهِي نَصْرَانِيَّة، فاتبعها أَصْحَاب رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم تكرمة لِلْحَارِثِ وَلم يصلوا
عَلَيْهَا، ثمَّ فرض على جَمِيع الآمة أَن لَا يدعوا
لِمُشْرِكٍ وَلَا يَسْتَغْفِرُوا لَهُ إِذا مَاتَ على
شركه، قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين
آمنُوا ... } (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، وَقد بَين الله
تَعَالَى عذر إِبْرَاهِيم فِي استغفاره لِأَبِيهِ فَقَالَ:
{إلاَّ عَن موعدة وعدها إِيَّاه} (التَّوْبَة: 411) .
فَدَعَا لَهُ وَهُوَ يَرْجُو إنابته ورجوعه إِلَى
الْإِيمَان: {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ
مِنْهُ} (التَّوْبَة: 411) . فَفِي هَذَا من الْفِقْه أَنه
جَائِز أَن يدعى لكل من يُرْجَى من الْكفَّار إنابته
بالهداية
(8/193)
مَا دَامَ حَيا لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذا شمت أحد الْمُنَافِقين وَالْيَهُود
قَالَ: يهديكم الله وَيصْلح بالكم، وَقد يعْمل الرجل
بِعَمَل أهل النَّار وَيخْتم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة،
وَفِيه: تَصْحِيح القَوْل بِدَلِيل الْخطاب لاستعمال
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَذَلِكَ أَن
إخْبَاره تَعَالَى أَنه لَا يغْفر لَهُ وَلَو اسْتغْفر
لَهُ سبعين مرّة، يحْتَمل أَنه لَو زَاد عَلَيْهَا كَانَ
يغْفر لَهُ، لَكِن لما شهد الله تَعَالَى أَنه كَافِر
بقوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم كفرُوا بِاللَّه
وبرسوله} (التَّوْبَة: 08) . دلّت هَذِه الْآيَة على
تَغْلِيب أحد الِاحْتِمَالَيْنِ، وَهُوَ أَنه لَا يغْفر
لَهُ لكفره، فَلذَلِك أمسك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
الدُّعَاء لَهُ. وَفِي إقدام عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، على مُرَاجعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من الْفِقْه أَن الْوَزير الْفَاضِل الناصح لَا حرج
عَلَيْهِ فِي إِن يخبر سُلْطَانه بِمَا عِنْده من
الرَّأْي، وَإِن كَانَ مُخَالفا لرأيه، وَكَانَ عَلَيْهِ
فِيهِ بعض الخفاء إِذا علم فضل الْوَزير وثقته وَحسن
مذْهبه، فَإِنَّهُ لَا يلْزمه اللوم على مَا يُؤَدِّيه
إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَلَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ سوء
الظَّن، وَإِن صَبر السُّلْطَان على ذَلِك من تَمام فَضله،
أَلا يرى سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عمر وَتَركه
الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وَفِي رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أكبر الأسوة.
58 - (بابُ ثَنَاءِ النَّاسِ علَى المَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة ثَنَاء النَّاس
على الْمَيِّت، وَالثنَاء عَلَيْهِ بِأَن يذكر عَنهُ من
أَوْصَاف جميلَة وخصال حميدة.
7631 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ
أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ
مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فأثْنُوا عَلَيْهَا خَيْرا فَقَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا
بِأُخْرى فأثْنُوا عَلَيْهَا شَرّا فَقَالَ وَجَبَتْ فقالَ
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ مَا
وَجَبَتْ قَالَ هاذا أثْنَيْتُمْ عليهِ خَيْرا فَوَجَبَتْ
لَهُ الجَنَّةُ وَهاذا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرّا
فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي
الأرْضِ.
(الحَدِيث 7631 طرفه فِي: 2462) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَثْنوا عَلَيْهَا
خيرا) . وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وآدَم هُوَ ابْن
إِيَاس.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مروا بِجنَازَة) ، ويروى: (مر
بِجنَازَة) ، بِضَم الْمِيم على صِيغَة الْمَجْهُول:
(فَأَثْنوا عَلَيْهَا) أَي: على الْجِنَازَة، وأثنوا من
الثَّنَاء: بالثاء الْمُثَلَّثَة بعْدهَا النُّون وبالمد،
وَهُوَ يسْتَعْمل فِي الْخَيْر وَلَا يسْتَعْمل فِي
الشَّرّ، وَقيل: يسْتَعْمل فيهمَا، وَقيل: اسْتِعْمَال
الثَّنَاء فِي الشَّرّ لُغَة شَاذَّة. فَإِن قلت: قد عرفت
أَن الثَّنَاء الممدودة لَا يسْتَعْمل إلاَّ فِي الْخَيْر،
وَكَيف وَقد اسْتعْمل فِي الشَّرّ فِي كَلَام الفصيح؟ قلت:
قد قيل هَذَا على اللُّغَة الشاذة، وَالْأَحْسَن أَن
يُقَال: اسْتعْمل هَذَا لأجل المشاكلة والتجانس كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا}
(الشورى: 04) . وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من حَدِيث
ابْن علية عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب (عَن أنس بن
مَالك، قَالَ: مر بِجنَازَة فَأثْنى عَلَيْهَا خيرا،
فَقَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَجَبت
وَجَبت وَجَبت، وَمر بِجنَازَة فَأثْنى عَلَيْهَا شرا،
فَقَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَجَبت
وَجَبت وَجَبت) الحَدِيث، وَفِي آخِره: (أَنْتُم شُهَدَاء
الله فِي الأَرْض، أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض،
أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض. .) وَأخرج الْحَاكِم
من حَدِيث النَّضر بن أنس: (كنت قَاعِدا عِنْد النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمر بِجنَازَة فَقَالَ: مَا
هَذِه الْجِنَازَة؟ قَالُوا: جَنَازَة فلَان الْفُلَانِيّ،
كَانَ يحب الله وَرَسُوله وَيعْمل بِطَاعَة الله وَيسْعَى
فِيهَا، فَقَالَ: وَجَبت وَجَبت وَجَبت. وَمر بِجنَازَة
أُخْرَى فَقَالَ: مَا هَذِه الْجِنَازَة؟ قَالُوا:
جَنَازَة فلَان الْفُلَانِيّ، كَانَ يبغض الله وَرَسُوله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيعْمل بِمَعْصِيَة الله
وَيسْعَى فِيهَا، فَقَالَ: وَجَبت وَجَبت وَجَبت. قَالُوا:
يَا رَسُول الله، قَوْلك فِي الْجِنَازَة وَالثنَاء
عَلَيْهَا أثني على الأول خير، وعَلى الآخر شَرّ، فَقلت
فيهمَا وَجَبت وَجَبت وَجَبت، فَقَالَ: نعم يَا أَبَا بكر،
إِن لله مَلَائِكَة ينْطق على لِسَان بني آدم بِمَا فِي
الْمَرْء من الْخَيْر وَالشَّر) . وَقَالَ الْحَاكِم:
هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا
اللَّفْظ، وَفِي هَذَا الحَدِيث تَفْسِير مَا أبهم من
الْخَيْر وَالشَّر فِي حَدِيث الْبَاب، وروى
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة: (أَتَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِجنَازَة فَقيل: هَذَا
بئس الرجل، وأثنوا عَلَيْهِ شرا، فَقَالَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: تعلمُونَ ذَلِك؟ قَالُوا نعم. قَالَ:
وَجَبت، وَقَالَ فِي الَّتِي أثنوا عَلَيْهَا خيرا
كَذَلِك) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: (مروا
(8/194)
على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِجنَازَة فَأَثْنوا عَلَيْهَا خيرا، فَقَالَ: وَجَبت،
ثمَّ مروا بِأُخْرَى فَأَثْنوا عَلَيْهَا شرا، فَقَالَ:
وَجَبت، ثمَّ قَالَ: إِن بَعْضكُم على بعض شُهَدَاء) .
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمَلَائِكَة،
عَلَيْهِم السَّلَام، شُهَدَاء الله فِي السَّمَاء
وَأَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض، إِن بَعْضكُم على
بعض شَهِيد) . قَوْله: (وَجَبت) أَي: وَجَبت الْجنَّة فِي
الأول، وَوَجَبَت النَّار فِي الثَّانِي، وَالْمرَاد
بِالْوُجُوب الثُّبُوت، أَو هُوَ فِي صِحَة الْوُقُوع
كالشيء الْوَاجِب، وَحَاصِل الْمَعْنى أَن ثناءهم عَلَيْهِ
بِالْخَيرِ يدل على أَن أَفعاله كَانَت خيرا فَوَجَبت لَهُ
الْجنَّة، وثناءهم عَلَيْهِ بِالشَّرِّ يدل على أَن
أَفعاله كَانَت شرا فَوَجَبت لَهُ النَّار، وَذَلِكَ لِأَن
الْمُؤمنِينَ شُهَدَاء بَعضهم على بعض، لما صرح فِي
الحَدِيث، والتكرير فِيهِ فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره
لتأكيد الْكَلَام وتحقيقه لِئَلَّا يشكوا فِيهِ، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث عِنْد الْفُقَهَاء إِذا
أثنى عَلَيْهِ أهل الْفضل والصدق، لِأَن الفسقة قد يثنون
على الفسقة فَلَا يدْخلُونَ فِي معنى هَذَا الحَدِيث،
وَالْمرَاد، وَالله أعلم، إِذا كَانَ الثَّنَاء بِالشَّرِّ
مِمَّن لَيْسَ لَهُ بعدوٍّ، لِأَنَّهُ قد يكون للرجل
الصَّالح الْعَدو، وَإِذا مَاتَ عدوه فَذكر عَن ذَلِك
الرجل الصَّالح شرا فَلَا يدْخل الْمَيِّت فِي معنى هَذَا
الحَدِيث، لِأَن شَهَادَته كَانَت لَا تجوز عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا، وَإِن كَانَ عدلا للعداوة والبشر غير معصومين.
فَإِن قيل: كَيفَ يجوز ذكر شَرّ الْمَوْتَى، مَعَ وُرُود
الحَدِيث الصَّحِيح عَن زيد بن أَرقم فِي النَّهْي عَن سبّ
الْمَوْتَى وَذكرهمْ إلاَّ بِخَير. وَأجِيب: بِأَن
النَّهْي عَن سبّ الْأَمْوَات غير الْمُنَافِق وَالْكَافِر
والمجاهر بِالْفِسْقِ أَو بالبدعة، فَإِن هَؤُلَاءِ لَا
يحرم، وَذكرهمْ بِالشَّرِّ للحذر من طريقهم، وَمن
الِاقْتِدَاء بهم، وَقيل: لَا بُد أَن يكون ثناؤهم مطابقا
لأفعاله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون
النَّهْي عَن سبّ الْمَوْتَى مُتَأَخِّرًا عَن هَذَا
الحَدِيث، فَيكون نَاسِخا، وَقيل: حَدِيث أنس الْمَذْكُور
يجْرِي مجْرى الْغَيْبَة فِي الْأَحْيَاء، فَإِن كَانَ
الرجل أغلب أَحْوَاله الْخَيْر، وَقد يكون مِنْهُ
الْغَلَبَة فالإغتياب لَهُ محرم، وَإِن كَانَ فَاسِقًا
مُعْلنا فَلَا غيبَة فِيهِ، فَكَذَلِك الْمَيِّت، فَلَيْسَ
ذَلِك مِمَّا يُنْهِي عَنهُ من سبّ الْأَمْوَات، وَقَالَ
بَعضهم: الثَّنَاء على عُمُومه لكل مُسلم مَاتَ، فَإِذا
ألهم الله النَّاس، أَو معظمهم، الثَّنَاء عَلَيْهِ كَانَ
ذَلِك دَلِيلا أَنه من أهل الْجنَّة، سَوَاء كَانَت
أَفعاله تَقْتَضِي ذَلِك أم لَا، لِأَنَّهُ، وَإِن لم تكن
أَفعاله مقتضية فَلَا تتحتم عَلَيْهِ الْعقُوبَة، بل هُوَ
فِي الْمَشِيئَة، فَإِذا ألهم الله النَّاس الثَّنَاء
عَلَيْهِ استدللنا بذلك أَن الله تَعَالَى قد شَاءَ
الْمَغْفِرَة لَهُ، وَبِهَذَا تظهر فَائِدَة الثَّنَاء فِي
قَوْله: (وَجَبت) ، وَقيل: هَذَا خَاص بالمثنين
الْمَذْكُورين لغيب أطلع الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَلَيْهِ، ورد بِأَن كلمة: من، تستدعي الْعُمُوم
والتخصيص بِلَا مُخَصص، لَا يجوز. قَوْله: (أَنْتُم
شُهَدَاء الله فِي الأَرْض) . الْخطاب للصحابة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، وَلمن كَانَ على صفتهمْ من الْإِيمَان،
وَحكى ابْن التِّين أَن ذَلِك مَخْصُوص بالصحابة لأَنهم
كَانُوا ينطقون بالحكمة بِخِلَاف من بعدهمْ، ثمَّ قَالَ:
وَالصَّوَاب أَن ذَلِك يخْتَص بالثقات والمتقين. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: الظَّاهِر أَن الَّذِي أثنوا عَلَيْهِ شرا
كَانَ من الْمُنَافِقين. قلت: ويستأنس لما قَالَه بِمَا
رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أبي قَتَادَة بِإِسْنَاد صَحِيح
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصلِّ على الَّذِي أثنوا
عَلَيْهِ شرا، وَصلى على الآخر.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِيهِ: دلَالَة على جَوَاز ذكر
الْمَرْء بِمَا يُعلمهُ إِذا وَقعت الْحَاجة إِلَيْهِ،
نَحْو سُؤال القَاضِي الْمُزَكي وَنَحْوه.
8631 - حدَّثنا عَفَّانُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا
دَاوُدُ بنُ أبي الفُرَاتِ عنْ عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ
عنْ أبِي الأسْوَدِ قَالَ قَدِمْتُ المَدِينَةَ وقَدْ
وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ فَجَلَسْتُ إلَى عُمَرَ بنِ
الخَطَّابِ فَمَرَّ بِهِمْ جَنَازَةُ فأُثْنِيَ عَلَى
صَاحِبِهَا خَيْرا فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَمَرَّتْ بِهِمْ
جَنَازَةٌ فأُثْنِيَ عَلَى صاحِبِهَا خَيْرا فَقَالَ
عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ
بِالثَّالِثَةِ فأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شرَّا فَقَالَ
وَجَبَتْ فَقَالَ أبُو الأسْوَدِ فقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ
يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَالَ قُلْتُ كَمَا قالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ
أرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ فقُلْنَا
وثَلاَثَةٌ قَالَ وثَلاَثَةٌ فقُلْنَا واثْنَان قالَ
واثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْألْهُ عنِ الوَاحِدِ.
(الحَدِيث 8631 طرفه فِي: 3462) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة قَوْله: (حَدثنَا) ، كَذَا
وَقع لأكْثر الروَاة، وَذكر أَصْحَاب الْأَطْرَاف أَنه
أخرجه قَائِلا: قَالَ عَفَّان،
(8/195)
وَبِذَلِك جزم الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ
صَاحب (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا
عَن شَيْخه، فَقَالَ: وَقَالَ عَفَّان، وَقَالَهُ أَيْضا
أَبُو الْعَبَّاس الطرقي، وَخلف فِي كتاب (الْأَطْرَاف) :
وَالَّذِي فِي نسخه سَمَاعنَا: حَدثنَا عَفَّان، وعَلى
تَقْدِير صِحَة الأول فقد وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي
(صَحِيحه) فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ،
حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا عَفَّان إِلَى
آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَفَّان، بتَشْديد
الْفَاء: ابْن مُسلم، بِكَسْر اللَّام الْخَفِيفَة:
الصفار. الثَّانِي: دَاوُد بن أبي الْفُرَات، بِلَفْظ
النَّهر الْمَشْهُور، وَاسم أبي الْفُرَات: عَمْرو، وَهُوَ
كندي وَلَهُم شيخ آخر يُقَال لَهُ: دَاوُد بن أبي
الْفُرَات، وَاسم أَبِيه: بكر، وَاسم جده: أَبُو
الْفُرَات، وَهُوَ أشجعي من أهل الْمَدِينَة أقدم من
الْكِنْدِيّ. الثَّالِث: عبد الله بن بُرَيْدَة، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة، مر فِي أَوَاخِر كتاب الْحيض.
الرَّابِع: أَبُو الْأسود ظَالِم بن عَمْرو بن سُفْيَان من
سَادَات التَّابِعين، ولي الْبَصْرَة وَهُوَ أول من تكلم
فِي النَّحْو بعد عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ
سنة سبع وَسِتِّينَ، وَهُوَ الْمَشْهُور بالدؤلي، وَفِيه
اختلافات: فَقيل، بِضَم الدَّال وَسُكُون الْوَاو وبالضم
والهمزة الْمَفْتُوحَة، قَالَ الْأَخْفَش: هُوَ بِالضَّمِّ
وَكسر الْهمزَة، إلاَّ أَنهم فتحُوا الْهمزَة فِي
النِّسْبَة استثقالاً للكسرتين، وياء النِّسْبَة، وَرُبمَا
قَالُوا: بِضَم الدَّال وَفتح الْوَاو المقلوبة عَن
الْهمزَة، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: بِكَسْر الدَّال وقلب
الْهمزَة يَاء. الْخَامِس: عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَفَّان بن مُسلم الصفار
مَذْكُور فِي بعض النّسخ بالصفار وَفِي بَعْضهَا
بِدُونِهِ. وَفِيه: رِوَايَة عبد الله بن بُرَيْدَة معنعنة
عَن أبي الْأسود، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب
(التتبع) عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ أَن ابْن بُرَيْدَة
إِنَّمَا يروي عَن يحيى بن يعمر عَن أبي الْأسود، وَلم يقل
فِي هَذَا الحَدِيث: سَمِعت أَبَا الْأسود، قيل: إِن ابْن
بُرَيْدَة ولد فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فقد أدْرك أَبَا الْأسود بِلَا ريب، لَكِن البُخَارِيّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا يَكْتَفِي بالمعاصرة
فَلَعَلَّهُ أخرجه شَاهدا، وَاكْتفى للْأَصْل بِحَدِيث أنس
الَّذِي قبله. وَفِيه: قَالَ الْكرْمَانِي: وَرِجَال
الْإِسْنَاد كلهم بصريون. قلت: دَاوُد مروزي، وَلكنه تحول
إِلَى الْبَصْرَة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن
دَاوُد بن أبي الْفُرَات، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْجَنَائِز، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن مُوسَى وَهَارُون
بن عبد الله الْبَزَّار، قَالَا: حَدثنَا أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا دَاوُد بن أبي الْفُرَات حَدثنَا
عبد الله بن بُرَيْدَة (عَن أبي الْأسود الديلِي، قَالَ:
قدمت الْمَدِينَة فَجَلَست إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فَمروا بِجنَازَة فَأَثْنوا
عَلَيْهَا خيرا، فَقَالَ عمر: وَجَبت، فَقلت لعمر: مَا
وَجَبت؟ قَالَ: أَقُول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا من مُسلم يشْهد لَهُ ثَلَاثَة
إلاَّ وَجَبت لَهُ الْجنَّة. قُلْنَا: وإثنان؟ قَالَ:
وإثنان، قَالَ: وَلم نسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن الْوَاحِد) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث
حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ وَفِي لَفظه:
(أَرْبَعَة) مثل لفظ البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قدمت الْمَدِينَة) أَي: مَدِينَة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَقد وَقع
مرض) ، جملَة حَالية، وَزَاد البُخَارِيّ فِي الشَّهَادَات
عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن دَاوُد بن أبي الْفُرَات:
(وهم يموتون موتا ذريعا) ، وَهُوَ بِالذَّالِ
الْمُعْجَمَة، أَي: سَرِيعا. قَوْله: (فَجَلَست إِلَى عمر)
، يحْتَمل أَن يكون إِلَى هَهُنَا على بَابه بِمَعْنى
الِانْتِهَاء والغاية، وَالْمعْنَى انْتهى جلوسي إِلَى
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْأَوْجه أَن يكون
إِلَى هَهُنَا بِمَعْنى: عِنْد، أَي: جَلَست عِنْد عمر
كَمَا قَالَ فِي قَول الشَّاعِر:
(أم لَا سَبِيل إِلَى الشَّبَاب وَذكره ... أشهى إِلَيّ من
الرَّحِيق السلسل)
قَوْله: (فَأثْنى على صَاحبهَا خيرا) بِنصب: خيرا، فِي
أَكثر الْأُصُول، وَكَذَا شرا. ويروى: (خير وَشر) ،
بِالرَّفْع فيهمَا، وأثني على صِيغَة الْمَجْهُول. فَوجه
النصب مَا قَالَه ابْن بطال: إِنَّه أَقَامَ الْجَار
وَالْمَجْرُور مقَام الْمَفْعُول الأول، وَخيرا مقَام
الْمَفْعُول الثَّانِي. وَقَالَ ابْن مَالك: خيرا، صفة
لمصدر مَحْذُوف وأقيمت مقَامه فنصب لِأَن: أثنى، مُسْند
إِلَى الْجَار وَالْمَجْرُور، والتفاوت بَين الْإِسْنَاد
إِلَى الْمصدر والإسناد إِلَى الْجَار وَالْمَجْرُور
قَلِيل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ مَنْصُوب بِإِسْقَاط
الْجَار أَي: فَأثْنى عَلَيْهَا بِخَير، وَوجه الرّفْع
ظَاهر، وَهُوَ أَن: أُثنى، مُسْند إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن
التِّين: الصَّوَاب بِالرَّفْع، وَفِي نَصبه بعد فِي
اللِّسَان. قَوْله: (وَجَبت) أَي: الْجنَّة، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (قَالَ أَبُو الْأسود) وَهُوَ الرَّاوِي
الْمَذْكُور، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله:
(وَمَا وَجَبت؟) اسْتِفْهَام عَن
(8/196)
معنى الْوُجُوب فيهمَا مَعَ اخْتِلَاف
الثَّنَاء بِالْخَيرِ وَالشَّر. قَوْله: (أَيّمَا مُسلم)
إِلَى آخِره، مقول قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَوْله: (شهد لَهُ أَرْبَعَة) أَي: أَرْبَعَة من
الْمُسلمين، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ثَلَاثَة،
كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي اخْتِلَاف
هَذَا الْعدَد حَيْثُ جَاءَ أَرْبَعَة وَثَلَاثَة
وَاثْنَانِ؟ قلت: لاخْتِلَاف الْمعَانِي، لِأَن الثَّنَاء
قد يكون بِالسَّمَاعِ الفاشي على الْأَلْسِنَة فاستحب فِي
ذَلِك التَّوَاتُر وَالْكَثْرَة، وَالشَّهَادَة لَا تكون
إلاَّ بالمعرفة بأحوال الْمَشْهُود لَهُ، فَيَأْتِي فِي
ذَلِك أَرْبَعَة شُهَدَاء، لِأَن ذَلِك أَعلَى مَا يكون من
الشَّهَادَة، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى جعل فِي الزِّنَى
أَرْبَعَة شُهَدَاء، فَإِن قصروا يَأْتِي فِيهِ ثَلَاثَة،
فَإِن قصروا فِيهِ يَأْتِي فِيهِ شَاهِدَانِ؟ لِأَن ذَلِك
أقل مَا يَجْزِي فِي الشَّهَادَة على سَائِر الْحُقُوق
رَحْمَة من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ،
وتجاوزا عَنْهُم حَيْثُ أجْرى أُمُورهم فِي الْآخِرَة على
نمط أُمُورهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَلِهَذَا لم
يسْأَلُوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن
الْوَاحِد، حَيْثُ قَالَ: (ثمَّ لم نَسْأَلهُ عَن
الْوَاحِد) أَي: ثمَّ لم نسْأَل النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن ثَنَاء الشَّخْص الْوَاحِد: هَل
يَكْتَفِي بِهِ؟ وَذَلِكَ أَن هَذَا الْمقَام مقَام عَظِيم
فَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِأَقَلّ من النّصاب. فَإِن قلت:
هَل يخْتَص الثَّنَاء الَّذِي ينفع الْمَيِّت بِالرِّجَالِ
أم يشْتَرك فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء، فَإِذا قُلْنَا:
يشتركون فِيهِ، فَهَل يَكْتَفِي فِي ذَلِك بامرأتين؟ أَو
لَا بُد من رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو أَربع نسْوَة؟ قلت:
الظَّاهِر الِاكْتِفَاء بِاثْنَيْنِ مُسلمين، وَإنَّهُ لَا
يحْتَاج إِلَى قيام امْرَأتَيْنِ مقَام رجل وَاحِد، وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير من رِوَايَة
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن قسطاس عَن سعد بن إِسْحَاق بن
كَعْب بن عجْرَة عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا لأَصْحَابه: (مَا
تَقولُونَ فِي رجل قتل فِي سَبِيل الله؟ قَالُوا: ألله
وَرَسُوله أعلم. قَالَ الْجنَّة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي رجل مَاتَ فَقَامَ رجلَانِ
ذَوا عدل فَقَالَا: لَا نعلم إلاَّ خيرا؟ قَالُوا: الله
وَرَسُوله أعلم. قَالَ: الْجنَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي رجل مَاتَ فَقَامَ رجلَانِ
ذَوا عدل، فَقَالَا: لَا نعلم خيرا، فَقَالُوا: النَّار،
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مذنب، وَالله
غَفُور رَحِيم) . فقد يُقَال: لَا يكْتَفى بِشَهَادَة
النِّسَاء، ألاَ يُرى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يكتف بِشَهَادَة الْمَرْأَة الَّتِي أثنت على
عُثْمَان بن مَظْعُون بقولِهَا: شهادتي عَلَيْك أَبَا
السَّائِب، فَقَالَ لَهَا: وَمَا يدْريك؟ وَقد يُجَاب
عَنهُ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا أنكر عَلَيْهَا الْقطع بِأَن
الله أكْرمه، وَذَلِكَ مغيب عَنْهَا، بِخِلَاف الشَّهَادَة
للْمَيت بأفعاله الجميلة الَّتِي كَانَ متلبسا بهَا فِي
الْحَيَاة الدُّنْيَا، والْحَدِيث الَّذِي فِيهِ قَضِيَّة
عُثْمَان بن مَظْعُون رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث
حَارِثَة بن زيد: أَن أم الْعَلَاء امْرَأَة من
الْأَنْصَار قد بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أخْبرته أَنهم اقتسموا للمهاجرين قرعَة، فطار لنا
عُثْمَان بن مَظْعُون فأنزلناه فِي أَبْيَاتنَا، فوجع
وَجَعه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا توفّي وَغسل وكفن
فِي أثوابه دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقلت: يَا عُثْمَان بن مَظْعُون، رَحْمَة الله عَلَيْك
أَبَا السَّائِب، فشهادتي عَلَيْك، لقد أكرمك الله
تَعَالَى، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
وَمَا يدْريك أَن الله أكْرمه؟ فَقلت: بِأبي أَنْت وَأمي
يَا رَسُول الله، فَمن؟ فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أما هُوَ فقد جَاءَهُ الْيَقِين فوَاللَّه
إِنِّي لأرجو لَهُ الْخَيْر وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا
رَسُول الله مَاذَا يفعل بِي قَالَت فوَاللَّه مَا أزكي
بعده أحدا) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط
الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. فَإِن قلت: هَل يخْتَص
الثَّنَاء الَّذِي ينفع الْمَيِّت بِكَوْنِهِ مِمَّن خالطه
وَعرف حَاله أم هُوَ على عُمُومه؟ قلت: الظَّاهِر الأول
بِدَلِيل قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أنس
الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (مُسْنده)
بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: قَالَ رَسُول الله: (مَا من
مُسلم يَمُوت فَيشْهد لَهُ أَرْبَعَة من أهل أَبْيَات من
جِيرَانه الأدنين أَنهم لَا يعلمُونَ إلاَّ خيرا، إلاَّ
قَالَ الله تَعَالَى: قد قبلت علمكُم وغرت لَهُ مَا لَا
تعلمُونَ) . فَإِن قلت: هَل ينفع الثَّنَاء على الْمَيِّت
بِالْخَيرِ وَإِن خَالف الْوَاقِع أم لَا بُد أَن يكون
الثَّنَاء عَلَيْهِ مطابقا للْوَاقِع؟ قلت: قَالَ شَيخنَا
زين الدّين، رَحمَه الله: فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء
أصَحهمَا أَن ذَلِك يَنْفَعهُ، وَأَن لم يُطَابق الْوَاقِع
لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَا يَنْفَعهُ إلاَّ بالموافقة لم يكن
للثناء فَائِدَة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن عدي
فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة فرات بن السَّائِب عَن
مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(إِن العَبْد سيرزق الثَّنَاء والستر وَالْحب من النَّاس
حَتَّى تَقول الْحفظَة: رَبنَا إِنَّك تعلم ونعلم غير مَا
يَقُولُونَ، فَيَقُول: أشهدكم أَنِّي قد غفرت لَهُ مَا لَا
يعلمُونَ، وَقبلت شَهَادَتهم على مَا يَقُولُونَ) . فَإِن
قلت: الحَدِيث
(8/197)
الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى يدل على أَن
المُرَاد الثَّنَاء المطابق بِدَلِيل قَوْله: (قد قبلت
علمكُم) ، وَالْعلم لَا يُخَالف الْوَاقِع. قلت: المُرَاد
بِالْعلمِ: الشَّهَادَة، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور
الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى عَن ابْن عمر، وَكَذَلِكَ فِي
(مُسْند أَحْمد) فِي هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة:
(قد قبلت شَهَادَتهم) ، وَمعنى قَوْله: (غفرت لَهُ مَا لَا
يعلمُونَ) ، أَي: من الذُّنُوب الَّتِي لم يطلعوا
عَلَيْهَا. فَإِن قلت: عل تشْتَرط فِي هَذِه الشَّهَادَة
الْعَدَالَة كَسَائِر الشَّهَادَات؟ أم تَكْفِي فِي ذَلِك
شَهَادَة الْمُسلمين وَإِن لم يَكُونُوا بِوَصْف
الْعَدَالَة المشترطة فِي الشَّهَادَة؟ قلت: يدل على الأول
حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا،
لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: (فَقَامَ رجلَانِ ذَوا عدل) ،
وعَلى الثَّانِي يدل ظَاهر حَدِيث الْبَاب، وَمَعَ هَذَا
الأَصْل فِي الشَّهَادَة الْعَدَالَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: فَضِيلَة هَذِه الْأمة.
وَفِيه: إِعْمَال الحكم بِالظَّاهِرِ. وَفِيه: جَوَاز ذكر
الْمَرْء بِمَا فِيهِ من خير أَو شَرّ للْحَاجة، وَلَا
يكون ذَلِك من الْغَيْبَة، وَذكر الْغَزالِيّ
وَالنَّوَوِيّ إِبَاحَة الْعلمَاء الْغَيْبَة فِي سِتَّة
مَوَاضِع، فَهَل تُبَاح فِي حق الْمَيِّت أَيْضا؟ وَإِن
مَا جَازَ غيبَة الْحَيّ بِهِ جَازَت غيبَة الْمَيِّت
بِهِ، أم يخْتَص جَوَاز الْغَيْبَة فِي هَذِه الْمَوَاضِع
المستثناة بِالْإِحْيَاءِ، يَنْبَغِي أَن ينظر فِي
السَّبَب الْمُبِيح للغيبة إِن كَانَ قد انْقَطع
بِالْمَوْتِ كالمصاهرة والمعاملة، فَهَذَا لَا يذكر فِي حق
الْمَيِّت، لِأَنَّهُ قد انْقَطع ذَلِك بِمَوْتِهِ، وَإِن
لم يَنْقَطِع ذَلِك بِمَوْتِهِ كجرح الروَاة وَكَونه
يُؤْخَذ عَنهُ اعْتِقَاد أَو نَحوه فَلَا بَأْس بِذكرِهِ
بِهِ ليحذر ويتجنب. وَفِيه: جَوَاز الشَّهَادَة قبل
الاستشهاد. وَفِيه: اعْتِبَار مَفْهُوم الْمُوَافقَة
لِأَنَّهُ سَأَلَ عَن الثَّلَاثَة وَلم يسْأَل عَمَّا فَوق
الْأَرْبَعَة كالخمسة مثلا. وَفِيه: أم مَفْهُوم الْعدَد
لَيْسَ دَلِيلا قَطْعِيا، بل هُوَ فِي مقَام الِاحْتِمَال. |