عمدة القاري شرح صحيح البخاري

68 - (بابُ مَا جاءَ فِي عَذَابِ القَبْرِ وقولهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَراي إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلاَئِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِم أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} (الْأَنْعَام: 39) . الهُونُ هُوَ الهَوَانُ والهَوْنُ الرِّفْقُ. وقولُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيم} وَقولُهُ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّا وَعَشِيّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذَابِ} )

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي حقية عَذَاب الْقَبْر، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى مُجَرّد وجود عَذَاب الْقَبْر دون التَّعَرُّض أَنه يَقع على الرّوح وَحده أَو عَلَيْهِ وعَلى الْبدن. وَفِي هَذَا الْبَاب خلاف مَشْهُور بَين أهل السّنة والمعتزلة، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة الثَّلَاث تَنْبِيها على ثُبُوت ذكر عَذَاب الْقَبْر فِي الْقُرْآن، وردا على من ادّعى عدم ذكره فِي الْقُرْآن، وَأَن ذكره ورد فِي أَخْبَار الْآحَاد الْآيَة الأولى هُوَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْعَام: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَام: 39) . أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله، و: قَوْله تَعَالَى، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: عَذَاب الْقَبْر. قَوْله: {وَلَو ترى} (الْأَنْعَام: 39) . خطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَوَاب: لَو، مَحْذُوف أَي: لرأيت أمرا عجيبا عَظِيما وَكلمَة إِذْ ظرف مُضَاف إِلَى جملَة إسمية، وَهِي قَوْله: {الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} (الْأَنْعَام: 39) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يُرِيد الظَّالِمين الَّذين ذكرهم من الْيَهُود والمتنبئة فَتكون اللَّام للْعهد، وَيجوز أَن تكون للْجِنْس فَيدْخل فِيهِ هَؤُلَاءِ لاشْتِمَاله، وَقَالَ غَيره: المُرَاد من الظَّالِمين هَؤُلَاءِ قوم كَانُوا أَسْلمُوا بِمَكَّة أخرجهم الْكفَّار إِلَى قتال بدر، فَلَمَّا أبصروا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجعُوا عَن الْإِيمَان، وَقيل: هم الَّذين قَالُوا: {مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} (الْأَنْعَام: 19) . قَوْله: {فِي غَمَرَات الْمَوْت} (الْأَنْعَام: 39) . أَي: فِي شدائده وَسَكَرَاته وكرباته وَهُوَ جمع غمرة، وأصل الغمرة مَا يغمر من المَاء فاستعيرت للشدة الْغَالِبَة. قَوْله: {باسطوا أَيْديهم} (الْأَنْعَام: 39) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يبسطون إِلَيْهِم، يَقُول: هاتوا أرواحكم أخرجوها إِلَيْنَا من أجسادكم، وَهَذِه عبارَة عَن العنف فِي السِّيَاق والإلحاح وَالتَّشْدِيد فِي الإزهاق من غير تَنْفِيس، وإمهال. وَقَالَ اضحاك وَأَبُو صَالح: باسطوا أَيْديهم بِالْعَذَابِ، وروى الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَام: 39) . الْآيَة، قَالَ: هَذَا عِنْد الْمَوْت، والبسط: الضَّرْب، يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قبل الدّفن؟ قلت: هَذَا من جملَة الْعَذَاب

(8/198)


الْوَاقِع قبل يَوْم الْقِيَامَة وَإِضَافَة الْعَذَاب إِلَى الْقَبْر لِكَثْرَة وُقُوعه على الْمَوْتَى فِي الْقُبُور، وإلاَّ فالكافر، وَمن شَاءَ الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد مَوته، وَلَو لم يدْفن، وَلَكِن هَذَا مَحْجُوب عَن الْخلق إلاَّ من شَاءَ الله تَعَالَى لحكمة اقْتَضَت ذَلِك. قَوْله: {أخرجُوا أَنفسكُم} (الْأَنْعَام: 39) . أَي: تَقول الْمَلَائِكَة أخرجُوا أَنفسكُم، وَذَلِكَ لِأَن الْكَافِر إِذا احْتضرَ بَشرته الْمَلَائِكَة بِالْعَذَابِ والنكال والسلاسل والجحيم وَغَضب الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَتفرق روحه فِي جسده ويعصى ويأبى الْخُرُوج، فتضر بهم الْمَلَائِكَة حَتَّى تخرج أَرْوَاحهم من أَجْسَادهم قائلين لَهُم: أخرجُوا أَنفسكُم. وَقيل: مَعْنَاهُ أخرجُوا أَنفسكُم من الْعَذَاب إِن قدرتم تقريعا لَهُم وتوبيخا. وَاخْتلف فِي النَّفس وَالروح فَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر وَأَصْحَابه: إنَّهُمَا إسمان لشَيْء وَاحِد. وَقَالَ ابْن حبيب: الرّوح هُوَ النَّفس الْجَارِي يدْخل وَيخرج لَا حَيَاة للنَّفس إلاَّ بِهِ. وَالنَّفس يألم ويلذ، وَالروح لَا يألم وَلَا يلذ، وَعَن ابْن الْقَاسِم عَن عبد الرَّحْمَن بن خلف: بَلغنِي أَن الرّوح لَهُ جَسَد ويدان ورجلان وَرَأس وعينان يسل من الْجَسَد سلاً، وَعَن ابْن الْقَاسِم: الرّوح مثل المَاء الْجَارِي. قَوْله: {الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} (الْأَنْعَام: 39) . أَي: الْيَوْم تهانون غَايَة الإهانة بِمَا كُنْتُم تكفرون على الله وتستكبرون عَن اتِّبَاع آيَاته والانقياد لرسله. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْيَوْم تُجْزونَ، يجوز أَن يُرِيدُوا وَقت الإماتة، وَمَا يُعَذبُونَ بِهِ من شدَّة النزع، وَأَن يُرِيدُوا الْوَقْت الممتد المتطاول الَّذِي يلحقهم فِيهِ الْعَذَاب فِي البرزخ وَالْقِيَامَة، وَفسّر البُخَارِيّ الْهون بقوله: هُوَ الهوان، وَهُوَ الهوان الشَّديد وَإِضَافَة الْعَذَاب إِلَيْهِ كَقَوْلِك: رجل سوء يُرِيد العراقة فِي الْهون والتمكن فِيهِ. قَوْله: (والهون الرِّفْق) أَي: الْهون، بِفَتْح الْهَاء مَعْنَاهُ الرِّفْق مَا قَالَ فِي قَوْله: {الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} (الْفرْقَان: 36) . أَي بِرِفْق وسكينة.
الْآيَة الثَّانِيَة هِيَ قَوْله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} (التَّوْبَة: 101) . أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله: وَقَوله، عز وَجل، بِالْجَرِّ أَيْضا عطفا على مَا قبله، وَهَذِه الْآيَة فِي سُورَة الْبَرَاءَة، وَقبلهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} (التَّوْبَة: 101) . وَقَالَ مُجَاهِد: مرَّتَيْنِ الْقَتْل والسبي، وَعنهُ: الْعَذَاب بِالْجُوعِ وَعَذَاب الْقَبْر، وَقيل: الفضيحة وَعَذَاب الْقَبْر، وروى الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق السّديّ عَن أبي مَالك عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ: أخرج يَا فلَان فَإنَّك مُنَافِق، واخرج يَا فلَان، فَإنَّك مُنَافِق، فَأخْرج من الْمَسْجِد نَاسا مِنْهُم فضحهم، فجَاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وهم يخرجُون من الْمَسْجِد فاختبىء مِنْهُم حَيَاء أَنه لم يشْهد الْجُمُعَة، وَظن أَن النَّاس قد انصرفوا، واختبأوا هم عَن عمر ظنُّوا أَنه قد علم بأمرهم، فجَاء عمر فَدخل الْمَسْجِد فَإِذا النَّاس لم يصلوا، فَقَالَ لَهُ رجل من الْمُسلمين: أبشر يَا عمر، فقد فَضَح الله الْمُنَافِقين. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَهَذَا الْعَذَاب الأول حِين أخرجهم من الْمَسْجِد، وَالْعَذَاب الثَّانِي عَذَاب الْقَبْر، وَكَذَا قَالَ الثَّوْريّ عَن السّديّ عَن أبي مَالك نَحْو هَذَا.
الْآيَة الثَّالِثَة هِيَ قَوْله تَعَالَى: {وحاق بآل فِرْعَوْن} (غَافِر، الْمُؤمن، 54) . إِلَى قَوْله: {أَشد الْعَذَاب} (غَافِر، الْمُؤمن: 54) . وَهِي فِي سُورَة الْمُؤمن الَّتِي تسمى بِسُورَة غَافِر أَيْضا، وَمعنى: {حاق بآل فِرْعَوْن} (غَافِر، الْمُؤمن: 54) . يَعْنِي: نزل بهم سوء الْعَذَاب، يَعْنِي شدَّة الْعَذَاب. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وحاق بآل فِرْعَوْن مَا هموا بِهِ من تَعْذِيب الْمُسلمين، وَرجع عَلَيْهِم كيدهم، يُقَال: حاق بِهِ الشَّيْء يَحِيق، أَي: أحاطه بِهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السىء إلاَّ بأَهْله} (فاطر: 34) . وحاق بهم الْعَذَاب أَي: أحَاط بهم، وَنزل قَوْله: {النَّار يعرضون} (غَافِر وَالْمُؤمن: 54) . بدل من قَوْله: {سوء الْعَذَاب} (غَافِر وَالْمُؤمن: 54) . أَو خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف كَأَن قَائِلا يَقُول: مَا سوء الْعَذَاب؟ فَقيل: هُوَ النَّار، أَو مُبْتَدأ وَخَبره: {يعرضون عَلَيْهَا} (غَافِر الْمُؤمن: 54) . وعرضهم عَلَيْهَا إحراقهم بهَا، يُقَال: عرض الْأُسَارَى على السَّيْف إِذا قَتلهمْ بِهِ، وقرىء: النَّار، بِالنّصب وَتَقْدِيره: يدْخلُونَ النَّار يعرضون عَلَيْهَا، وَيجوز أَن ينْتَصب على الِاخْتِصَاص. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يعرضون يَعْنِي: أَرْوَاحهم على النَّار غدوا وعشيا، يَعْنِي: فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد، وَقَتَادَة، وَقَالَ مقَاتل: تعرض روح كل كَافِر على مَنَازِلهمْ من النَّار كل يَوْم مرَّتَيْنِ، وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي: الْآيَة تدل على عَذَاب الْقَبْر، لِأَنَّهُ ذكر دُخُولهمْ النَّار يَوْم الْقِيَامَة، وَذَلِكَ أَنه يعرض عَلَيْهِم النَّار قبل ذَلِك غدوا وعشيا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِن أَرْوَاح آل فِرْعَوْن فِي أَجْوَاف طير سود تعرض على النَّار مرَّتَيْنِ، يُقَال لَهُم: هَذِه داركم. وَقَالَ مُجَاهِد: غدوا وعشيا من أَيَّام الدُّنْيَا، وَقَالَ الْفراء: لَيْسَ فِي الْقِيَامَة غدو وَلَا عشي، لَكِن مِقْدَار ذَلِك، وَيرد عَلَيْهِ قَوْله: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة} (غَافِر وَالْمُؤمن: 54) . فَدلَّ على أَن الأول بِمَنْزِلَة عَذَاب الْقَبْر، وَحَدِيث الْبَراء مُفَسّر لِلْآيَةِ، قَوْله: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة} (غَافِر الْمُؤمن: 54) . يَعْنِي: يُقَال لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: أدخلُوا آل فِرْعَوْن. قَرَأَ ابْن كثير وَابْن عَامر وَأَبُو عمر: وادخلوا، بِضَم

(8/199)


الْهمزَة، وَهَكَذَا قَرَأَ عَاصِم فِي رِوَايَة أبي بكر. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْح الْهمزَة، فَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاه: أدخلُوا يَا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب، فَصَارَ الْآل نصبا بالنداء، وَمن قَرَأَ: أدخلُوا، بِفَتْح الْهمزَة، فَمَعْنَاه يُقَال للخزنة: أدخلُوا آل فِرْعَوْن، يَعْنِي قوم فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب، يَعْنِي أَشد الْعقَاب، وَصَارَ الْآل نصبا لوُقُوع الْفِعْل عَلَيْهِ.

9631 - حدَّثنا حفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ عنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ إذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أنْ لَا إِلَه إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّدا رسولُ الله فَذالِكَ قولُهُ {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (إِبْرَاهِيم: 72) .
(الحَدِيث 9631 طرفه فِي: 9964) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أصل الحَدِيث فِي عَذَاب الْقَبْر، كَمَا صرح بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن مُحَمَّد بن بشار. وفيهَا: وَزَاد {يثبت الله الَّذين آمنُوا} (ابراهيم: 72) . نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حَفْص بن عمر بن الْحَارِث الحوضي النمري الْأَزْدِيّ. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عَلْقَمَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة. الرَّابِع: سعد بن عُبَيْدَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، مر فِي آخر الْوضُوء. الْخَامِس: الْبَراء، بتَخْفِيف الرَّاء: ابْن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ بَصرِي وَشعْبَة واسطي وعلقمة وَسعد كوفيان. وَفِيه: شُعْبَة عَن عَلْقَمَة مُعَنْعَن، وَفِي التَّفْسِير صرح بالإخبار عَنهُ، وَكَذَلِكَ صرح أَيْضا بِالسَّمَاعِ بَين عَلْقَمَة وَسعد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز: عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي التَّفْسِير: عَن أبي الْوَلِيد. وَأخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن بنْدَار بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن أبي الْوَلِيد بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز وَفِي التَّفْسِير. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد جَمِيعًا عَن بنْدَار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أُتِي) ، بِضَم الْهمزَة أَي حَال كَونه مأتيا إِلَيْهِ، والآتي الْملكَانِ: مُنكر وَنَكِير. قَوْله: (ثمَّ شهد) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (ثمَّ تشهد) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة عَن حَفْص بن عمر شيخ البُخَارِيّ: (إِن الْمُؤمن إِذا شهد أَن لَا إِلَه إلاَّ الله وَعرف مُحَمَّدًا فِي قَبره فَذَلِك قَوْله: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} (إِبْرَاهِيم: 72) . وَأخرجه ابْن مرْدَوَيْه من هَذَا الْوَجْه وَغَيره بِلَفْظ: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر عَذَاب الْقَبْر، فَقَالَ: إِن الْمُسلم إِذا شهد أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَعرف أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) الحَدِيث. قَوْله: (فَذَلِك قَوْله) ، يَعْنِي: قَول الْمُؤمن لَا إلاه إلاَّ الله، هُوَ قَوْله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} (إِبْرَاهِيم: 72) . وَالْقَوْل الثَّابِت هُوَ كلمة التَّوْحِيد لِأَنَّهَا راسخة فِي قلب الْمُؤمن. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه، {وَيثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} (إِبْرَاهِيم: 72) . لَا إلاه إلاَّ الله، وَفِي الْآخِرَة قَالَ: الْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر) . وَقَالَ قَتَادَة: أما الْحَيَاة الدُّنْيَا فيثبتهم بِالْخَيرِ وَالْعَمَل الصَّالح، وَفِي الْآخِرَة فِي الْقَبْر، وَكَذَا رُوِيَ عَن غير وَاحِد من السّلف، وَذكر ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ: عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} ) (إِبْرَاهِيم: 72) . قَالَ: ذَلِك إِذا قيل لَهُ فِي الْقَبْر: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ فَيَقُول: رَبِّي الله، وديني الْإِسْلَام، ونبيي مُحَمَّد جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ من عِنْد الله، فآمنت بِهِ وصدقت. فَيُقَال: صدقت، على هَذَا عِشْت وَعَلِيهِ مت وَعَلِيهِ تبْعَث) . وَقَالَ أَيْضا قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي خَيْثَمَة عَن الْبَراء فِي قَوْله: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} (إِبْرَاهِيم: 72) . قَالَ: عَذَاب الْقَبْر.

(8/200)


0731 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنِ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ بِهاذا وَزَادَ {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا} (إِبْرَاهِيم: 72) . نَزَلَتْ فِي عَذَابِ القَبْرِ.
هَذَا طَرِيق آخر للْبُخَارِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد مر غير مرّة، وَفِيه زِيَادَة أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله: وَزَاد. . إِلَى آخِره، وبهذه الزِّيَادَة أخرجه مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار بن عُثْمَان الْعَبْدي حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سعد بن عُبَيْدَة (عَن الْبَراء بن عَازِب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} (إِبْرَاهِيم: 72) . قَالَ: نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر) .

0731 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثَنِي أبي عنْ صَالِحٍ قَالَ حدَّثني نافِعٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبرهُ قَالَ اطَّلَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى أهْلِ القَلِيبِ فَقَالَ {وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} (الْأَعْرَاف: 44) . فَقِيلَ لَهُ أتَدْعُو أمْوَاتا فَقَالَ مَا أنْتُمْ بِأسْمَعَ منْهُمْ وَلاكِنْ لاَ يُجِيبُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاهد أهل القليب، قليب بدر، وهم يُعَذبُونَ فَلذَلِك قَالَ: {وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا} (الْأَعْرَاف: 44) . يَعْنِي: من الْعَذَاب فِي الْقَبْر قبل يَوْم الْقِيَامَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ. الثَّالِث: أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سعد. الرَّابِع: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ فَإِن صَالحا رأى عبد الله بن عمر، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ: مَاتَ: بعد الْأَرْبَعين وَالْمِائَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي: حَدثنِي عُثْمَان حَدثنَا عَبدة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (وقف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قليب بدر، فَقَالَ: هَل {وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا ... } (الْأَعْرَاف: 44) . الحَدِيث. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي كريب وَأبي بكر ابْن أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن آدم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إطلع) أَي: شَاهد أهل القليب، وَحضر عِنْدهم وهم: أَبُو جهل بن هِشَام وَأُميَّة بن خلف وَعتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة واطلع عَلَيْهِ وهم مقتولون فَقَالَ مَا قَالَ، ثمَّ أَمرهم فسحبوا فَألْقوا فِي قليب بدر، والقليب، بِفَتْح الْقَاف وَكسر اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ الْبِئْر قبل أَن يطوى، يذكر وَيُؤَنث، وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ الْبِئْر العادية الْقَدِيمَة وَجمع الْقلَّة: أقلبة، وَالْكثير: قلب، بِضَمَّتَيْنِ وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا: قليب بدر، وَبَينه فِي الحَدِيث بقوله: (قليب بدر) بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ بدل عَن قَوْله: (أهل القليب) . قَوْله: (وهم يُعَذبُونَ) جملَة حَالية، وَلما رَآهُمْ وهم يُعَذبُونَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا} (الْأَعْرَاف: 44) . قَوْله: (فَقيل لَهُ) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْقَائِل هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم فِي رِوَايَة أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك قَتْلَى بدر ثَلَاثًا، ثمَّ أَتَاهُم فَقَامَ عَلَيْهِم فناداهم، فَقَالَ: يَا أَبَا جهل ابْن هِشَام يَا أُميَّة بن خلف يَا عتبَة بن ربيعَة يَا شيبَة بن ربيعَة أَلَيْسَ قد وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا؟ فَإِنِّي قد وجدت مَا وَعَدَني رَبِّي حَقًا، فَسمع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله كَيفَ يسمعوا وأنى يجيبوا وَقد جيفوا؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم. وَلَكنهُمْ لَا يقدرُونَ أَن يجيبوا ثمَّ أَمر بهم فسحبوا فَألْقوا فِي قليب بدر) . قَوْله (وَلَكِن لَا يجيبون) أَي لَا يقدرُونَ على الْجَواب فَعلم أَن فِي الْقَبْر حَيَاة فيصلح الْعَذَاب فِيهِ

1731 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشَام بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنَّمَا قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أنَّ مَا كُنْتُ أقُولُ حَقٌّ وقَدْ

(8/201)


قَالَ الله تَعَالَى إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّهُم يعلمُونَ الْآن أَن مَا كنت أَقُول حق) ، وَالَّذِي كَانَ يَقُوله هُوَ من عَذَاب الْقَبْر وَغَيره. فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر حَدِيث ابْن عمر وَحَدِيث عَائِشَة وهما متعارضان فِي تَرْجَمَة عَذَاب الْقَبْر؟ قلت: لما ثَبت من سَماع أهل القليب كَلَامه وتوبيخه لَهُم دلّ إدراكهم كَلَامه بحاسة السّمع على جَوَاز إدراكهم ألم الْعَذَاب بِبَقِيَّة الْحَواس فَحسن ذكرهمَا فِي هَذِه التَّرْجَمَة ثمَّ التَّوْفِيق بَين الْخَبَرَيْنِ أَن حَدِيث ابْن عمر مَحْمُول على أَن مُخَاطبَة أهل القليب كَانَت وَقت المساءلة ووقتها وَقت إِعَادَة الرّوح إِلَى الْجَسَد وَقد ثَبت فِي الْأَحَادِيث الْأُخْرَى أَن الْكَافِر المسؤول يعذب، وَأَن حَدِيث عَائِشَة مَحْمُول على غير وَقت المساءلة، فَبِهَذَا يتَّفق الخبران.
ذكر رِجَاله: وهم قد ذكرُوا، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة إِبْرَاهِيم الْكُوفِي وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
وَفِي سَنَده التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، جَاءَ بِلَفْظ: إِنَّمَا، وَهِي للحصر، قَالَ الْكرْمَانِي: وَكَانَ حَدِيث (مَا أَنْتُم بأسمع مِنْهُم) لم يثبت عِنْدهَا، ومذهبها أَن أهل الْقُبُور يعلمُونَ مَا سمعُوا قبل الْمَوْت وَلَا يسمعُونَ بعد الْمَوْت. انْتهى. قلت: هَذَا من عَائِشَة يدل على أَنَّهَا ردَّتْ رِوَايَة ابْن عمر الْمَذْكُورَة، وَلَكِن الْجُمْهُور خالفوها فِي ذَلِك وقبلوا حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لموافقة من رَوَاهُ غَيره عَلَيْهِ. وَقَالَ السُّهيْلي: عَائِشَة لم تحضر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فغيرها مِمَّن حضر أحفظ للفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَقد قَالُوا: يَا رَسُول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم، قَالَ: وَإِذا جَازَ أَن يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْحَال عَالمين، جَازَ أَن يَكُونُوا سَامِعين أيا مَا كَانَ روسهم، كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور، أَو يَأْذَن الرّوح على رَأْي من يُوَجه السُّؤَال إِلَى الرّوح من غير رُجُوع الْجَسَد.
قَالَ: وَأما الْآيَة فَإِنَّهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {أفأنت تسمع الصم أَو تهدي الْعمي} (الزخرف: 04) . أَي: إِن الله هُوَ الَّذِي يسمع وَيهْدِي. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا مُعَارضَة بَين حَدِيث ابْن عمر وَالْآيَة، لِأَن الْمَوْتَى لَا يسمعُونَ، لَا شكّ، لَكِن إِذا أَرَادَ الله إسماع مَا لَيْسَ من شَأْنه السماع لم يمْتَنع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة ... } (الْأَحْزَاب: 27) . الْآيَة. وَقَوله: {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا} (فصلت: 11) . الْآيَة وَإِن النَّار اشتكت إِلَى رَبهَا، وَيكون معنى قَوْله: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} (النَّمْل: 08) . مثل قَوْله: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} (الْقَصَص: 65) . ثمَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} (النَّمْل: 08) . فِي سُورَة النَّمْل، وَقَبله: {فتوكل على الله إِنَّك على الْحق الْمُبين إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء إِذا ولوا مُدبرين} (النَّمْل: 97 و 08) . قَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي، رَحمَه الله: هَذَا مثل ضربه للْكفَّار، فَكَمَا أَنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى فَكَذَلِك لَا تفقه كفار مَكَّة وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء، قَرَأَ ابْن كثير: وَلَا يسمع الصم، بِفَتْح الْيَاء وبضم الصم، على أَنه فَاعل: لَا يسمع، وَالْبَاقُونَ: وَلَا تسمع، بِالْخِطَابِ وَنصب: الصم، على المفعولية، والصم جمع: الْأَصَم. قَوْله: {إِذا ولوا مُدبرين} (النَّمْل: 08) يَعْنِي إِذا عرضوا عَن الْحق مكدبين وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ (إِذا ولوا مُدبرين) . تَأْكِيد لحَال الْأَصَم، لِأَنَّهُ إِذا تبَاعد عَن الدَّاعِي بِأَن تولى عَنهُ مُدبرا كَانَ أبعد عَن إِدْرَاك صَوته.

2731 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ الأشْعَثَ عنْ أبِيهِ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ يهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ القَبْرِ فقالَتْ لَهَا أعَاذَكِ الله مِنْ عَذَابِ القبْرِ فَسَألَتْ عائِشَةُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ عَذَابِ القَبْرِ فَقَالَ نَعَمْ عَذَابُ القَبْرِ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَمَا رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدُ صلَى صَلاَةً إلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عَبْدَانِ، لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: أَبوهُ عُثْمَان بن جبلة بن أبي رواد، واسْمه ثَابت. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: الْأَشْعَث، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو الشعْثَاء بِالْمدِّ، واسْمه: سليم بن الْأسود الْمحَاربي. السَّادِس: مَسْرُوق بن الأجدع بِالدَّال. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة

(8/202)


فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن أَشْعَث: سَمِعت أبي. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب فِي موضِعين. وَفِيه: شَيْخه مَذْكُور بلقبه وَأَنه مروزي أَصله من الْبَصْرَة، وَأَبوهُ بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَالثَّلَاثَة الْبَقِيَّة كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية، فَإِن أَبَا الشعْثَاء روى عَن حديفة وَأبي هُرَيْرَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن هناد عَن أبي الْأَحْوَص، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن ابْن بشار عَن غنْدر، وَلم يذكر قصَّة الْيَهُودِيَّة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ: نعم عَذَاب الْقَبْر حق) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (عَذَاب الْقَبْر) فَقَط بِدُونِ لفظ حق، وَقَالَ بَعضهم: رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي لَيست بجيدة لِأَن المُصَنّف قَالَ عقيب هَذَا الطَّرِيق: زَاد غنْدر (عَذَاب الْقَبْر حق) ، فَبين أَن لَفْظَة: حق، لَيست فِي رِوَايَة عَبْدَانِ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة، وَأَنَّهَا ثَابِتَة فِي رِوَايَة غنْدر يَعْنِي عَن شُعْبَة وَهُوَ كَذَلِك، وَقد أخرج طَرِيق غنْدر النَّسَائِيّ والإسماعيلي كَذَلِك. قلت: قَوْله: (زَاد غنْدر: عَذَاب الْقَبْر حق) لَيْسَ بموجود فِي كثير من النّسخ، وَلَئِن سلمنَا وجود هَذَا فَلَا نسلم أَنه يسْتَلْزم حذف الْخَبَر، مَعَ أَن الأَصْل ذكر الْخَبَر، وَكَيف يَنْفِي الْجَوْدَة من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي مَعَ كَونهَا على الأَصْل؟ فَمَاذَا يلْزم من الْمَحْذُور إِذا ذكر الْخَبَر فِي الرِّوَايَات كلهَا. قَوْله: (بعد) ، مَبْنِيّ على الضَّم، أَي: بعد ذَلِك. قَوْله: (إلاَّ تعوذ) أَي: إلاَّ صَلَاة تعوذ فِيهَا، وَقد تقدم فِي: بَاب التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر، فِي الْكُسُوف من طَرِيق عمْرَة (عَن عَائِشَة أَن يَهُودِيَّة جَاءَت تسألها، فَقَالَت لَهَا: أَعَاذَك الله من عَذَاب الْقَبْر؟ فَسَأَلت عَائِشَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أيعذب النَّاس فِي قُبُورهم؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائذا بِاللَّه من ذَلِك، ثمَّ ركب ذَات غَدَاة مركبا فخسفت الشَّمْس) الحَدِيث وَوَقع عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا من رِوَايَة أبي وَائِل عَن مَسْرُوق، فِي الدَّعْوَات (دخل عجوزان عَن عجز يهود الْمَدِينَة، فَقَالَتَا: إِن أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم) ، والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ من حَيْثُ إِن إِحْدَاهمَا تَكَلَّمت وأقرتها الْأُخْرَى، على ذَلِك، فنسب القَوْل إِلَيْهِمَا مجَازًا. فَإِن قلت: روى مُسلم من طَرِيق ابْن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: دخلت على امْرَأَة من الْيَهُود وَهِي تَقول: هَل شَعرت أَنكُمْ تفتنون فِي الْقُبُور؟ قَالَت: فارتاع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: إِنَّمَا تفتن يهود، قَالَت عَائِشَة: فلبثنا ليَالِي، ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل شَعرت أَنه أُوحِي إِلَيّ أَنكُمْ تفتنون فِي الْقُبُور؟ قَالَت عَائِشَة: فَسمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستعيذ من عَذَاب الْقَبْر) ، فَهَذِهِ الرِّوَايَة مُخَالفَة للرواية الأولى. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: هما قضيتان سمع الْيَهُودِيَّة فَقَالَ: إِنَّمَا تفتن الْيَهُود، ثمَّ أعلم بذلك وَلم يعلم عَائِشَة، فَجَاءَت الْيَهُودِيَّة مرّة أُخْرَى فَذكرت لعَائِشَة ذَلِك فأنكرت عَلَيْهَا مستندة إِلَى الْإِنْكَار الأول، فأعلمها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الْوَحْي نزل بإثباته. وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله: يحْتَمل أَنه كَانَ يتَعَوَّذ قبل ذَلِك سرا. وَلما رأى استغرابها حَيْثُ سَمِعت من الْيَهُودِيَّة أعلن ليترسخ ذَلِك فِي عقائد أمته ويكونوا على حذر من فتنته. قلت: كَأَنَّهُ لم يطلع على رِوَايَة ابْن شهَاب الْمَذْكُورَة من (صَحِيح مُسلم) فَلذَلِك ذكر مَا ذكره بِالِاحْتِمَالِ، وَوَقع صَرِيحًا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يكن عِنْده علم بِعَذَاب الْقَبْر لهَذِهِ الْأمة، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ: عَن سعيد بن عَمْرو بن سعيد الْأمَوِي (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن يَهُودِيَّة كَانَت تخدمها فَلَا تصنع عَائِشَة إِلَيْهَا شَيْئا من الْمَعْرُوف إلاَّ قَالَت لَهَا الْيَهُودِيَّة: وقاك الله تَعَالَى عَذَاب الْقَبْر، قَالَت: فَقلت: يَا رَسُول الله! هَل للقبر عَذَاب؟ قَالَ: كذبت يهود، لَا عَذَاب دون يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ مكث بعد ذَلِك مَا شَاءَ الله أَن يمْكث، فَخرج ذَات يَوْم نصف النَّهَار وَهُوَ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته: أَيهَا النَّاس استعيذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر، فَإِن عَذَاب الْقَبْر حق) . وَفِي هَذَا كُله أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا علم بِحكم عَذَاب الْقَبْر إِذْ هُوَ بِالْمَدِينَةِ فِي آخر الْأَمر. فَإِن قلت: الْآيَة، أَعنِي قَوْله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا} (إِبْرَاهِيم: 72) . مَكِّيَّة، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} (غَافِر: 64) . قلت: أُجِيب بِأَن عَذَاب الْقَبْر يُؤْخَذ من الْآيَة الأولى بطرِيق الْمَفْهُوم فِي حق من لم يَتَّصِف بِالْإِيمَان، وَكَذَا بالمنطوق وَفِي الْآيَة الثَّانِيَة فِي حق آل فِرْعَوْن، والتحق بهم من كَانَ لَهُ حكمهم من الْكفَّار، فَالَّذِي أنكرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا هُوَ وُقُوع عَذَاب الْقَبْر على الْمُوَحِّدين، ثمَّ أعلم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ذَلِك قد يَقع على من شَاءَ الله مِنْهُم، فَجزم بِهِ وحذر مِنْهُ وَبَالغ فِي الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ، تَعْلِيما لأمته، وإرشادا، فَزَالَ التَّعَارُض، وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن عَذَاب الْقَبْر حق وَأَنه لَيْسَ بخاص بِهَذِهِ الْأمة. وَفِيه: جَوَاز التحدث عَن أهل الْكتاب

(8/203)


إِذا وَافق قَول الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: التَّوَقُّف عَن خبرهم حَتَّى يعرف أصدق هُوَ أم كذب. وَفِيه: اسْتِحْبَاب التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر عقيب الصَّلَاة لِأَنَّهُ وَقت إِجَابَة الدعْوَة. وَفِيه: جَوَاز دُخُول الْيَهُودِيَّة عِنْد المسلمات. وَفِي حَدِيث أَحْمد، جَوَاز اسْتِخْدَام أهل الذِّمَّة.

3731 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهَبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّهُ سَمِعَ أسْمَاءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا تَقُولُ قامَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَطِيبا فَذَكَرَ فِتْنَةَ القَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا المَرْءُ فَلَمَّا ذَكَرَ ذالِكَ ضَجَّ المُسْلِمُونَ ضَجَّةً زَادَ غُنْدَرٌ عَذَابُ القَبْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فتْنَة الْقَبْر أَعم من المساءلة وَغَيرهَا من الْعَذَاب، بل عين المساءلة عَذَاب فِي حق الْكفَّار، وَلِهَذَا أخرج النَّسَائِيّ أَيْضا هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر، قَالَ: أخبرنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس، قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير أَنه سمع أَسمَاء بنت أبي بكر تَقول: (قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر فتْنَة الْقَبْر الَّتِي يفتتن الْمَرْء فِيهَا فِي قَبره، فَلَمَّا ذكر ذَلِك ضج الْمُسلمُونَ ضجة حَالَتْ بيني وَبَين أَن أفهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا سكتت ضجتهم قلت لرجل قريب عني: أَي بَارك الله فِيك، مَاذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر قَوْله؟ قَالَ: قد أُوحِي إِلَيّ إِنَّكُم تفتنون فِي الْقُبُور قَرِيبا من فتْنَة الدَّجَّال) . وَأخرجه البُخَارِيّ كَمَا ترَاهُ مُخْتَصرا عَن يحيى بن سُلَيْمَان أبي سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي نزيل مصر عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْمدنِي عَن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام إِلَى آخِره.
قَوْله: (خَطِيبًا) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (الَّتِي تفتتن) صفة للفتنة، يَعْنِي ذكر الْفِتْنَة بتفاصيلها كَمَا يجْرِي على الْمَرْء فِي قَبره، وَمن ثمَّة ضج الْمُسلمُونَ وصاحوا وجزعوا، والتنوين فِي ضجة، للتعظيم. قَوْله: (زَاد غنْدر: عَذَاب الْقَبْر) ، غنْدر، بِضَم الْغَيْن: وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد مر غير مرّة. قيل: وَقع: زَاد غنْدر، فِي بعض النّسخ عقيب حَدِيث أَسمَاء وَهُوَ غلط. قلت: دَعْوَى الْغَلَط بِلَا دَلِيل غلط، فَإِن كَانَ دَلِيله أَن غندرا إِنَّمَا رَوَاهُ عَن شُعْبَة، وَحَدِيث أَسمَاء لَيْسَ فِيهِ عَن شُعْبَة، فَنَقُول: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن رِوَايَة غنْدر عَن شُعْبَة لَا تَسْتَلْزِم نفي رِوَايَته عَن غَيره فِي حَدِيث أَسمَاء، فَافْهَم.

4731 - حدَّثنا عَيَّاشُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ حدَّثَهُمْ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وتَوَلَّى عَنْهُ أصْحَابُهُ وَإنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ مَا كُنْتُ تَقُولُ فِي هاذا الرَّجُلَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَّا المؤْمِنُ فَيَقُولُ أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ الله ورَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أبْدَلَكَ الله بِهِ مَقْعَدا مِنَ الجنَّةِ فَيَراهُمَا جَمِيعا. قَالَ قَتَادَةُ وذُكِرَ لَنَا أنَّهُ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى حَدِيثِ أنَسٍ قَالَ وَأمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هاذا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أدْرِي كُنْتُ أقُولُ مَا يَقُولُهُ النَّاسُ فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ.
(أنظر الحَدِيث 8331) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيضْرب بمطارق من حَدِيد) ، إِلَى آخِره، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه: عَن عَيَّاش عَن عبد الْأَعْلَى عَن سعيد عَن قَتَادَة. . إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا أَيْضا عَن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة، عَن عبد الْأَعْلَى كَذَلِك عَن سعيد بن أبي عرُوبَة كَذَلِك إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

(8/204)


ذكر مَعْنَاهُ: نذْكر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ لزِيَادَة فَائِدَة. قَوْله: (ليسمع قرع نعَالهمْ) زَاد مُسلم: (إِذا انصرفوا) ، قَوْله: (فَيُقْعِدَانِهِ) ، زَاد فِي حَدِيث الْبَراء: (فتعاد روحه فِي جسده) . قَوْله: (لمُحَمد) بَيَان من الرَّاوِي أَي: لأجل مُحَمَّد، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل؟) وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث عَائِشَة: (مَا هَذَا الرجل الَّذِي كَانَ فِيكُم؟) قَوْله: (أنظر إِلَى مَقْعَدك من النَّار) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَيُقَال لَهُ: هَذَا بَيْتك كَانَ فِي النَّار، وَلَكِن الله عز وَجل عصمك ورحمك فأبدلك بِهِ بَيْتا فِي الْجنَّة، فَيَقُول لَهُم: دَعونِي حَتَّى أذهب فأبشر أَهلِي فَيُقَال لَهُ: أسكت) . وَفِي حَدِيث أبي سعيد عَن أَحْمد: (كَانَ هَذَا مَنْزِلك لَو كفرت بِرَبِّك) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِإِسْنَاد صَحِيح: (فَيُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت الله؟ فَيَقُول: مَا يَنْبَغِي لأحد أَن يرى الله، فيفرج الله لَهُ فُرْجَة قبل النَّار فَينْظر إِلَيْهَا فيحطم بَعْضهَا بَعْضًا. فَيُقَال لَهُ: أنظر إِلَى مَا وقاك الله) . قَوْله: (وَذكر لنا) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول، قَوْله: (يفسح لَهُ فِي قَبره) كلمة فِي، زَائِدَة، إِذْ الأَصْل: يفسح لَهُ فِي قَبره، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق شَيبَان عَن قَتَادَة: (سَبْعُونَ ذِرَاعا، ويملأ خضرًا إِلَى يَوْم يبعثُون) ، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (سبعين ذِرَاعا فِي سبعين ذِرَاعا) ، وَله من وَجه آخر: عَن أبي هُرَيْرَة: (ويرحب لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا وينور لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر) . وَفِي حَدِيث طَوِيل للبراء: (فينادي منادٍ من السَّمَاء أَن: صدق عَبدِي فافرشوه من الْجنَّة، وافتحوا لَهُ بَابا فِي الْجنَّة، والبسوه من الْجنَّة. قَالَ: فيأتيه من رِيحهَا وطيبها، ويفسح لَهُ مد بَصَره) . وَزَاد ابْن حبَان من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة: (فَيَزْدَاد غِبْطَة وسرورا فيعاد الْجلد إِلَى مَا بدا مِنْهُ، وَيجْعَل روحه فِي نسم طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة) . قَوْله: (وَأما الْمُنَافِق وَالْكَافِر) ، كَذَا بواو الْعَطف فِي هَذِه الطَّرِيق، وَتقدم فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال: وَأما الْكَافِر أَو الْمُنَافِق بِالشَّكِّ، وَفِي حَدِيث أبي دَاوُد: (وَأَن الْكَافِر إِذا وضع) ، وَعند أَحْمد فِي حَدِيث أبي سعيد: (وَإِن كَانَ كَافِرًا أَو منافقا) بِالشَّكِّ، وَله فِي حَدِيث أَسمَاء: (فَإِن كَانَ فَاجِرًا أَو كَافِرًا) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيثهَا: (وَأما الْمُنَافِق أَو المرتاب) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن جَابر، وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة: (وَأما الْمُنَافِق) ، وَفِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد أَحْمد وَأبي هُرَيْرَة عِنْد ابْن مَاجَه: (وَأما الرجل السوء) ، وللطبراني من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (وَإِن كَانَ من أهل الشَّك) . قَوْله: (كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس) ، وَفِي حَدِيث أَسمَاء: (سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته) ، وَكَذَا فِي أَكثر الْأَحَادِيث. قَوْله: (وَلَا تليت) أَي: وَلَا تَلَوت، أَي: لَا فهمت وَلَا قَرَأت الْقُرْآن، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. قَوْله: (بمطارق حَدِيد) جمع مطرقة، وَكَذَا فِي: بَاب خَفق النِّعَال، بِالْإِفْرَادِ. والمطارق: مُضَاف إِلَى حَدِيد مثل: خَاتم فضَّة، ويروى: (بمطارق من حَدِيد) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه الْجمع للإيذان بِأَن كل جُزْء من أَجزَاء تِلْكَ المطرقة مطرقة برأسها مُبَالغَة. قَوْله: (يسْمعهَا من يَلِيهِ) قَالَ الْمُهلب: المُرَاد الْمَلَائِكَة الَّذين يلون فتنته. قلت: لَا وَجه لتخصيصه بِالْمَلَائِكَةِ، فقد ثَبت أَن الْبَهَائِم تسمعه، وَفِي حَدِيث الْبَراء: (يسْمعهَا من بَين الْمشرق وَالْمغْرب) ، وَفِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد أَحْمد، رَحمَه الله تَعَالَى (يسمعهُ خلق الله كلهم غير الثقلَيْن) ، وَيدخل فِي هَذَا، وَفِي حَدِيث الْبَراء، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الْحَيَوَان والجماد، لَكِن يُمكن أَن يخص مِنْهُ الجماد لما فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار، رَحمَه الله تَعَالَى: (يسمعهُ كل دَابَّة إلاَّ الثقلَيْن) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر، وَأَنه وَاقع على الْكفَّار وَمن شَاءَ الله من الْمُؤمنِينَ. فَإِن قلت: المساءلة عَامَّة على جَمِيع الْأُمَم أم على أمة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَذهب الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ إِلَى أَنَّهَا تخْتَص بِهَذِهِ الْأمة، وَقَالَ: كَانَت الْأُمَم قبل هَذِه الْأمة تأتيهم الرُّسُل، فَإِن أطاعوا فَذَاك، وَإِن أَبَوا اعتزلوهم وعوجلوا بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا أرسل الله مُحَمَّدًا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَحْمَة للْعَالمين أمسك عَنْهُم الْعَذَاب، وَقبل الْإِسْلَام مِمَّن أظهره سَوَاء أسر الْكفْر أَو لَا، فَلَمَّا مَاتُوا قيض الله لَهُم فتاني الْقَبْر ليستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الْخَبيث من الطّيب، وَيثبت الَّذين آمنُوا ويضل الظَّالِمين. انْتهى. وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (إِن هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها) الحَدِيث أخرجه مُسلم وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا قَول الْملكَيْنِ: مَا تَقول فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد؟ وَحَدِيث عَائِشَة أَيْضا عِنْد أَحْمد بِلَفْظ: وَأما فتْنَة الْقَبْر فِي يفتنون وعني يسْأَلُون) وَذهب ابْن الْقيم إِلَى عُمُوم المساءلة، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا يَنْفِي المساءلة عَمَّن تقدم من الْأُمَم، وَإِنَّمَا أخبر

(8/205)


النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته بكيفية إمتحانهم فِي الْقُبُور، لَا أَنه نفى ذَلِك عَن غَيرهم، قَالَ: وَالَّذِي يظْهر أَن كل نَبِي مَعَ أمته كَذَلِك، فيعذب كفارهم فِي قُبُورهم بعد سُؤَالهمْ وَإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم، كَمَا يُعَذبُونَ فِي الْآخِرَة بعد السُّؤَال وَإِقَامَة الْحجَّة. وَحكى فِي مساءلة الْأَطْفَال احْتِمَالا. قلت: ذكر أَصْحَابنَا أَنهم يسْأَلُون وَقَطعُوا بذلك، وَقَالَ ابْن الْقيم: السُّؤَال للْكَافِرِ وَالْمُسلم قَالَ الله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين} (إِبْرَاهِيم: 72) . وَفِي حَدِيث أنس فِي البُخَارِيّ: (وَأما الْمُنَافِق وَالْكَافِر) ، بواو الْعَطف، وَفِي حَدِيث أبي سعيد: (فَإِن كَانَ مُؤمنا) فَذكره، وَفِيه: (وَإِن كَانَ كَافِرًا) . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْآثَار تدل على أَن الْفِتْنَة لمن كَانَ مَنْسُوبا إِلَى أهل الْقبْلَة، وَأما الْكَافِر الجاحد فَلَا يسْأَل، ورد بِأَنَّهُ نفي بِلَا دَلِيل، بل فِي الْكتاب الْعَزِيز الدّلَالَة على أَن الْكَافِر يسْأَل عَن دينه، قَالَ تَعَالَى: {فلنسألن الَّذين أرسل إِلَيْهِم ولنسألن الْمُرْسلين} (الْأَعْرَاف: 6) . وَقَالَ تَعَالَى: {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ} (الْحجر: 29) . قلت: لقَائِل أَن يَقُول: المُرَاد من هَذَا السُّؤَال يحْتَمل أَن يكون فِي الْآخِرَة. وَفِيه: ذمّ التَّقْلِيد فِي الاعتقادات لمعاقبة من قَالَ: كنت أسمع النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته. وَفِيه: أَن الْمَيِّت يحيى فِي قَبره للمساءلة، خلافًا لمن رده، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.

78 - (بابُ التَّعَوَّذِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر، وَكَيْفِيَّة التَّعَوُّذ، وإلاَّ فأحاديث هَذَا الْبَاب دَاخِلَة فِي الْحَقِيقَة فِي الْبَاب الَّذِي قبله.

5731 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثني عَوْنُ بنُ أبِي جُحَيْفَةَ عنْ أبِيهِ عنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ عنْ أبِي أيُّوبَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَالَ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتا فقالَ يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث والترجمة، لِأَن الحَدِيث فِي بَيَان ثُبُوت عَذَاب الْقَبْر، والترجمة فِي التَّعَوُّذ مِنْهُ، حَتَّى قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا أدخلهُ فِي هَذَا الْبَاب بعض من نسخ الْكتاب وَلم يُمَيّز. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الْعَادة قاضية بِأَن كل من سمع مثل ذَلِك الصَّوْت يتَعَوَّذ من مثله، أَو تَركه اختصارا.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن عبيد، يعرف بالزمن الْعَنْبَري. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: عون بن أبي جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء، وَقد مر فِي: بَاب الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْأَحْمَر. لخامس: أَبوهُ أَبُو جُحَيْفَة الصَّحَابِيّ واسْمه: وهب بن عبد الله السوَائِي. السَّادِس: الْبَراء بن عَازِب السَّابِع: أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، واسْمه: خَالِد بن زيد.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَيحيى كُوفِي وَشعْبَة واسطي وَعون كُوفِي وَالثَّلَاثَة الْبَاقِيَة صحابيون يروي بَعضهم عَن بعض.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي صفة أهل النَّار عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن أبي قدامَة عَن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: من الْمَدِينَة إِلَى خَارِجهَا. قَوْله: (وَقد وَجَبت الشَّمْس) ، جملَة حَالية، وَقد علم أَن الْجُمْلَة الفعلية الْمَاضِيَة إِذا وَقعت حَالا فَلَا بُد من لَفْظَة: قد، صَرِيحَة أَو مقدرَة. وَمعنى: وَجَبت: سَقَطت، وَالْمرَاد أَنَّهَا غربت. قَوْله: (فَسمع صَوتا) ، يحْتَمل أَن يكون صَوت مَلَائِكَة الْعَذَاب، أَو صَوت الْيَهُود الْمُعَذَّبين، أَو صَوت وَقع الْعَذَاب، وَقد وَقع عِنْد الطَّبَرَانِيّ: أَنه صَوت الْيَهُود، رَوَاهُ من طَرِيق عبد الْجَبَّار بن الْعَبَّاس عَن عون بِهَذَا السَّنَد، وَلَفظه: (خرجت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين غربت الشَّمْس وَمَعِي كوز من مَاء، فَانْطَلق لِحَاجَتِهِ حَتَّى جَاءَ فوضأته فَقَالَ: ألم تسمع مَا أسمع؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: أسمع أصوات الْيَهُود يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: صَوت الْمَيِّت من الْعَذَاب يسمعهُ غير الثقلَيْن، فَكيف سمع ذَلِك؟ ثمَّ أجَاب بقوله: هُوَ فِي الضجة الْمَخْصُوصَة وَهَذَا غَيرهَا، أَو سَماع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَبِيل المعجزة.

(8/206)


قَوْله: (يهود تعذب) ، وارتفاع يهود على الِابْتِدَاء وَخَبره تعذب وَهُوَ علم للقبيلة، وَقد يدْخل فِيهِ الْألف وَاللَّام، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أَرَادوا باليهود الهوديين، وَلَكنهُمْ حذفوا يَاء الْإِضَافَة كَمَا قَالُوا: زنجي وزنج، وَإِنَّمَا عرف على هَذَا الْحَد فَجمع على قِيَاس شعيرَة وشعير، ثمَّ عرف الْجمع بِالْألف وَاللَّام، وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز دُخُول الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ معرفَة مؤنث، فجرس فِي كَلَامهم مجْرى الْقَبِيلَة، وَلم يَجْعَل كالحي، وَقَالَ بَعضهم: يهود خبر مُبْتَدأ أَي: هَذِه يهود. قلت: كَأَنَّهُ ظن أَنه نكرَة فَلذَلِك قَالَ: هُوَ خبر مُبْتَدأ، وَقد قُلْنَا: إِنَّه علم وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهودهم الْيَهُود.
وَقَالَ النَّضْرُ أخبرنَا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَوْنٌ قَالَ سَمِعْتُ أبي سَمِعْتُ البَرَاءَ عنْ أبِي أيُّوبَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل مر فِي: بَاب حمل العنزة فِي الِاسْتِنْجَاء، وسَاق البُخَارِيّ هَذَا الطَّرِيق تَنْبِيها على أَنه مُتَّصِل بِالسَّمَاعِ، وَالطَّرِيق الأول بالعنعنة، وَهُوَ من الْمُتَابَعَة الْمُعَلقَة ليحيى بن سعيد، وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَالَ: حَدثنَا مكي حَدثنَا زاج حَدثنَا النَّضر حَدثنَا شُعْبَة إِلَى آخِره.

6731 - حدَّثنا مُعَلَّى قَالَ حَدثنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسى بنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خالِدِ بنِ سَعِيدِ بنِ العَاصِي أنَّهَا سَمِعَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
(الحَدِيث 6731 طرفه فِي: 4636) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُعلى، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة: ابْن أَسد، مر فِي: بَاب الْمَرْأَة تحيض بعد الْإِفَاضَة. الثَّانِي: وهيب، بِالتَّصْغِيرِ، ابْن خَالِد. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي. الرَّابِع: ابْنة خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وَاسْمهَا: أمة، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم: أم خَالِد الأموية ولدت بِالْحَبَشَةِ، تزَوجهَا الزبير فَولدت لَهُ خَالِدا وعمرا. قَالَ الذَّهَبِيّ: لَهَا صُحْبَة، روى عَنْهَا مُوسَى بن إِبْرَاهِيم ابْنا عقبَة وكريب بن سُلَيْمَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه ووهيبا بصريان ومُوسَى مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَوَقع فِي الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن مُوسَى بن عقبَة بِلَفْظ: (استجيروا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر) ، ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا استعاذ من عَذَاب الْقَبْر، وَالْحَال أَنه مَعْصُوم مطهر مغْفُور لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، فَيَنْبَغِي لَك يَا من لَا عصمَة لَك وَلَا طَهَارَة لَك عَن الذُّنُوب أَن تستعيذ بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر مَعَ امْتِثَال الْأَوَامِر والاجتناب عَن الْمعاصِي حَتَّى ينجيك الله من النَّار وَمن عَذَاب الْقَبْر، واستعاذته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إرشاد لأمته ليقتدوا بِهِ فِيمَا فعله وَفِيمَا أمره حَتَّى يتخلصوا من شَدَائِد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

7731 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هشَامٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى اعنْ أبِي سَلَمَة عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعدْعُو اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ ومِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي القصاب. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان وَيحيى يمامي وَأَبُو سَلمَة مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَيحيى رأى أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن هِشَام، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الدُّعَاء قبل السَّلَام، فَإِنَّهُ أخرج حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، هُنَاكَ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاة: أللهم إِنِّي

(8/207)


أعوذ بك من عَذَاب الْقَبْر، وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمحيا وفتنة الْمَمَات. .) الحَدِيث. قَوْله: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو: اللَّهُمَّ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (كَانَ يَدْعُو وَيَقُول: اللَّهُمَّ) إِلَى آخِره. قَوْله: (وَمن عَذَاب النَّار) تَعْمِيم بعد تَخْصِيص، كَمَا أَن: (وَمن فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال) تَخْصِيص بعد تَعْمِيم، والمحيا وَالْمَمَات مصدران ميميان، وَيجوز أَن يَكُونَا إسمي زمَان. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمن عَن فتْنَة الدَّجَّال وَنَحْوهَا، فَمَا الْفَائِدَة فِيهِ؟ قلت: نفس الدُّعَاء عبَادَة، كَقَوْلِه: اللَّهُمَّ اغْفِر لي، مَعَ كَونه مغفورا لَهُ، أَو لتعليم الْأمة والإرشاد لَهُم.

88 - (بابُ عَذَابِ القَبْرِ مِنَ الغِيبَةِ وَالبَوْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عَذَاب الْقَبْر الْحَاصِل من أجل الْغَيْبَة، وَكلمَة: من، للتَّعْلِيل، و: الْغَيْبَة، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة: أَن تذكر الْإِنْسَان فِي غيبته بِسوء وَإِن كَانَ فِيهِ، فَإِذا ذكرته بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ بهت وبهتان، والغيب والغيبة، بِفَتْح الْغَيْن: كل مَا غَابَ عَن الْعُيُون سَوَاء كَانَ محصلاً فِي الْقُلُوب أَبُو غير مُحَصل، تَقول: غَابَ عَنهُ غيبا وغيبة. قَوْله: (وَالْبَوْل) ، عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: وَبَيَان عَذَاب الْقَبْر من أجل الْبَوْل أَي: من أجل عدم استنزاهه مِنْهُ، كَمَا ورد قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ) فَإِن قلت: عَذَاب الْقَبْر غير مقتصر على الْغَيْبَة وَالْبَوْل، فَمَا وَجه الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا؟ قلت: تخصيصهما بِالذكر لعظم أَمرهمَا لَا لنفي الحكم عَمَّا عداهما.

8731 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُسٍ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَما يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثمَّ قَالَ بَلى أما أحَدُهُمَا فَكانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأمَّا الآخَرُ فَكانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ. قَالَ ثُمَّ أخَذَ عُودا رَطْبا فكَسَرَهُ باثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا..
التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ: الْغَيْبَة والنميمة، ومطابقة الحَدِيث للبول ظَاهِرَة، وَأما الْغَيْبَة فَلَيْسَ لَهَا ذكر فِي الحَدِيث، وَلَكِن يُوَجه بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الْغَيْبَة من لَوَازِم النميمة لِأَن الَّذِي ينم ينْقل كَلَام الرجل الَّذِي اغتابه، وَيُقَال: الْغَيْبَة والنميمة أختَان، وَمن نم عَن أحد فقد اغتابه. قيل: لَا يلْزم من الْوَعيد على النميمة ثُبُوته على الْغَيْبَة وَحدهَا، لِأَن مفْسدَة النميمة أعظم وَإِذا لم تساوها لم يَصح الْإِلْحَاق. قُلْنَا: لَا يلْزم من اللحاق وجود الْمُسَاوَاة، والوعيد على الْغَيْبَة الَّتِي تضمنتها النميمة مَوْجُود، فَيصح الْإِلْحَاق لهَذَا الْوَجْه. الْوَجْه الثَّانِي: أَنه وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ الْغَيْبَة، وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ فِي الْإِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث. فَافْهَم، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب من الْكَبَائِر أَن لَا يسْتَتر من بَوْله، فِي كتاب الْوضُوء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان عَن جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهنا أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، عَن ابْن عَبَّاس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.

98 - (بابُ المَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمَيِّت يعرض عَلَيْهِ. . إِلَى آخِره، وَالْمرَاد (بِالْغَدَاةِ والعشي) وقتهما، وإلاَّ فالموتى لَا صباح عِنْدهم وَلَا مسَاء، وَالْمرَاد من المقعد: الْموضع الَّذِي أعد لَهُ فِي الْجنَّة أَو فِي النَّار.

9731 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ أحدَكُمْ إذَا ماتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدَهُ بِالغَدَاةِ وَالَعَشِيِّ إنْ كانَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الجَنَّةِ وَإنْ كانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هاذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ.

(8/208)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا جُزْء من الحَدِيث.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَإِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس واسْمه عبد الله، وَهُوَ ابْن أُخْت مَالك، رَحمَه الله.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِالْغَدَاةِ) أَي: فِي الْغَدَاة وَفِي الْعشي قَوْله: (إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فَمن أهل الْجنَّة) يَعْنِي: إِن كَانَ الْمَيِّت من أهل الْجنَّة فمقعده من مقاعد أهل الْجنَّة يعرض عَلَيْهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يجوز أَن يكون الْمَعْنى: إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فسيبشر بِمَا لَا يكتنه كنهه لِأَن هَذَا الْمنزل لطليعة تباشير السَّعَادَة الْكُبْرَى، لِأَن الشَّرْط وَالْجَزَاء إِذا اتحدا دلّ على الفخامة، كَقَوْلِهِم: من أدْرك الصمان فقد أدْرك المرعى. قلت: الصمان، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم وَبعد الْألف نون: جبل ينقاد ثَلَاث لَيَال وَلَيْسَ لَهُ ارْتِفَاع، سمي بِهِ لصلابته. قَوْله: (حَتَّى يَبْعَثك الله يَوْم الْقِيَامَة) وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك: (حَتَّى يَبْعَثك الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) ، وَحكى ابْن عبد الْبر فِيهِ الِاخْتِلَاف بَين أَصْحَاب مَالك، وَأَن الْأَكْثَرين رَوَوْهُ كَرِوَايَة البُخَارِيّ، وَأَن ابْن الْقَاسِم رَوَاهُ كَرِوَايَة مُسلم، قَالَ: وَالْمعْنَى حَتَّى يَبْعَثك الله إِلَى ذَلِك المقعد، وَيحْتَمل أَن يعود الضَّمِير على: الله وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور، وَكَونه عَائِدًا إِلَى المقعد الَّذِي يصير إِلَيْهِ أشبه، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه بِلَفْظ: (ثمَّ يُقَال: هَذَا مَقْعَدك الَّذِي تبْعَث إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) أخرجه مُسلم. وَقد أخرج النَّسَائِيّ رِوَايَة ابْن الْقَاسِم لَكِن لَفظه كَلَفْظِ البُخَارِيّ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: معنى: حَتَّى يَبْعَثك الله، و: حَتَّى، للغاية، أَنه يرى بعد الْبَعْث من عِنْد الله كَرَامَة ومنزلة ينسى عِنْده هَذَا المقعد، كَمَا قَالَ صَاحب (الْكَشَّاف) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدّين} (ص: 87) . أَي: إِنَّك مَذْمُوم مدعوٌّ عَلَيْك باللعنة إِلَى يَوْم الدّين فَإِذا جَاءَ ذَلِك الْيَوْم عذب بِمَا تنسى اللَّعْن مَعَه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: عرض مقْعد الْمَيِّت عَلَيْهِ، قيل: معنى الْعرض هُنَا الْإِخْبَار بِأَن هَذَا مَوضِع أَعمالكُم وَالْجَزَاء لَهَا عِنْد الله تَعَالَى، وَأُرِيد بالبكور بِالْغَدَاةِ والعشي تذكارهم بذلك، ولسنا نشك أَن الأجساد بعد الْمَوْت والمساءلة هِيَ فِي الْفَوات وَأكل التُّرَاب لَهَا والفناء، وَلَا يعرض شَيْء على الفاني فَبَان أَن الْعرض الَّذِي يَدُوم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِنَّمَا هُوَ على الْأَرْوَاح خَاصَّة، لِأَنَّهَا لَا تفنى. وَقَالَ أَبُو الطّيب: اتّفق الْمُسلمُونَ على أَنه لَا غدو وَلَا عشي فِي الْآخِرَة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا فهم معرضون بعد مماتهم على النَّار. وَقيل: يَوْم الْقِيَامَة، وَيَوْم الْقِيَامَة يدْخلُونَ أَشد الْعَذَاب. انْتهى. قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا} (مَرْيَم: 26) . وَالَّذِي يُقَال فِي هَذِه الْآيَة، يُقَال فِي هَذَا أَيْضا، وَالله تَعَالَى أعلم. وَقَالَ ابْن التِّين: وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالْغَدَاةِ والعشي: غَدَاة وَاحِدَة وَعَشِيَّة وَاحِدَة، يكون الْعرض فِيهَا، وَمعنى قَوْله: (حَتَّى يَبْعَثك الله) أَي: لَا تصل إِلَيْهِ إِلَى يَوْم الْبَعْث، وَيحْتَمل أَن يُرِيد كل غَدَاة وكل عشي، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ بِأَن يكون الْإِحْيَاء بِجُزْء مِنْهُ فَإنَّا نشاهد الْمَيِّت مَيتا بِالْغَدَاةِ والعشي، وَذَلِكَ يمْنَع إحْيَاء جَمِيعه وإعادة جِسْمه،. وَلَا يمْتَنع أَن تُعَاد الْحَيَاة فِي جُزْء أَو أَجزَاء مِنْهُ وَتَصِح مخاطبته وَالْعرض عَلَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بذلك غَدَاة وَاحِدَة وَيكون الْعرض فِيهَا، وَيكون معنى قَوْله: (حَتَّى يَبْعَثك الله) أَي: أَنه مَقْعَدك لَا تصل إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثك الله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يجوز أَن يكون هَذَا الْعرض على الرّوح فَقَط، وَيجوز أَن يكون عَلَيْهِ مَعَ جُزْء من الْبدن، قَالَ: وَهَذَا فِي حق الْمُؤمن وَالْكَافِر وَاضح، وَأما الْمُؤمن المخلط فَيحْتَمل أَيْضا فِي حَقه، لِأَنَّهُ يدْخل الْجنَّة فِي الْجُمْلَة، ثمَّ هُوَ مَخْصُوص بِغَيْر الشُّهَدَاء. وَقيل: يحْتَمل أَن يُقَال: إِن فَائِدَة الْعرض فِي حَقهم تبشير أَرْوَاحهم باستقرارها فِي الْجنَّة مقترنة بأجسادها، فَإِن فِيهِ قدرا زَائِدا على مَا هِيَ فِيهِ الْآن. وَفِيه مَا قَالَ ابْن عبد الْبر عَن بَعضهم، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِهِ على أَن الْأَرْوَاح على أفنية الْقُبُور، قَالَ: وَالْمعْنَى عِنْدِي أَنَّهَا قد تكون على أفنية الْقُبُور لَا أَنَّهَا لَا تفارق الأفنية، بل هِيَ كَمَا قَالَ مَالك: إِنَّه بلغَة أَن الْأَرْوَاح تسرح حَيْثُ شَاءَت. قلت: كَونهَا تسرح حَيْثُ شَاءَت لَا يمْنَع كَونهَا على الأفنية، لِأَنَّهَا تسرح، ثمَّ تأوي إِلَى الْقَبْر، وَعَن مُجَاهِد: الْأَرْوَاح على الْقُبُور سَبْعَة أَيَّام من يَوْم دفن الْمَيِّت لَا تفارق.