عمدة القاري شرح صحيح البخاري

42 - (كِتَابُ الزَّكَاة)

1 - (بابُ وُجُوبِ الزَّكاةِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الزَّكَاة، وَقد وَقع عِنْد بعض الروَاة: كتاب وجوب الزَّكَاة، وَعند بَعضهم: بَاب وجوب الزَّكَاة، وَلم يَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر لَا بَاب وَلَا كتاب، وَفِي أَكثر النّسخ وَقع: كتاب الزَّكَاة، ثمَّ وَقع بعده: بَاب وجوب الزَّكَاة، كَمَا هُوَ الْمَذْكُور

(8/232)


هَهُنَا، إِنَّمَا ذكر كتاب الزَّكَاة عقيب كتاب الصَّلَاة من حَيْثُ إِن الزَّكَاة ثَالِثَة الْإِيمَان وثانية الصَّلَاة فِي الْكتاب وَالسّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 3) . وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على خمس. .) الحَدِيث، وَهِي لُغَة: عبارَة عَن النَّمَاء، يُقَال: زكا الزَّرْع، إِذا نما، وَقيل: عَن الطَّهَارَة. قَالَ الله تَعَالَى: {قد أَفْلح من تزكّى} (الْأَعْلَى: 41) . أَي: تطهر. قلت: الزَّكَاة اسْم للتزكية وَلَيْسَت بمصدر، وَقَالَ نفطويه: سميت بذلك لِأَن مؤديها يتزكى إِلَى الله أَي: يتَقرَّب إِلَيْهِ بِصَالح الْعَمَل وكل من تقرب إِلَى الله بِصَالح عمل فقد تزكّى إِلَيْهِ. وَقيل: سميت زَكَاة للبركة الَّتِي تظهر فِي المَال بعْدهَا. وَفِي (الْمُحكم) : الزَّكَاة ممدودا: النَّمَاء والريع، زكا يزكو زكاء وزكوا وأزكى والزكاء: مَا أخرجته الأَرْض من الثَّمر، وَالزَّكَاة الصّلاح، وَرجل زكي من قوم أزكياء، وَقد زكى زكاء، وَالزَّكَاة مَا أخرجته من مَالك لتطهره. وَقَالَ أَبُو عَليّ: الزَّكَاة صفوة الشَّيْء. وَفِي (الْجَامِع) : زكتْ النَّفَقَة: أَي بورك فِيهَا. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه (المدارك) : تطلق الزَّكَاة على الصَّدَقَة أَيْضا وعَلى الْحق وَالنَّفقَة وَالْعَفو عِنْد اللغويين، وَهِي شرعا: إيتَاء جُزْء من النّصاب الحولي إِلَى فَقير غير هاشمي. ثمَّ لَهَا ركن وَسبب وَشرط وَحكم وَحِكْمَة. فركنها: جعلهَا الله تَعَالَى بالإخلاص، وسببها: المَال، وَشَرطهَا نَوْعَانِ: شَرط السَّبَب وَشرط من تجب عَلَيْهِ، فَالْأول: ملك النّصاب الحولي، وَالثَّانِي: الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْحريَّة، وَحكمهَا: سُقُوط الْوَاجِب فِي الدُّنْيَا وَحُصُول الثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وحكمتها كَثِيرَة. مِنْهَا: التطهر من أدناس الذُّنُوب وَالْبخل، وَمِنْهَا: ارْتِفَاع الدرجَة والقربة، وَمِنْهَا: الْإِحْسَان إِلَى المحتاجين، وَمِنْهَا: استرقاق الْأَحْرَار فَإِن الْإِنْسَان عبيد الْإِحْسَان، وَقَالَ الْقشيرِي على قَول من قَالَ: النَّمَاء، أَي: إخْرَاجهَا يكون سَببا للنماء كَمَا صَحَّ: (مَا نقص مَال من صَدَقَة) ، وَوجه الدَّلِيل مِنْهُ أَن النَّقْص محسوس بِإِخْرَاج الْقدر الْوَاجِب، وَلَا يكون غير نَاقص إلاَّ بِزِيَادَة تبلغه إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْمَعْنيين جَمِيعًا الْمَعْنَوِيّ والحسي فِي الزِّيَادَة، أَو بِمَعْنى تَضْعِيف أجورها كَمَا جَاءَ: (إِن الله يُربي الصَّدَقَة حَتَّى تكون كالجبل) ، وَمن قَالَ: إِنَّهَا طَهَارَة فللنفس من رذيلة الْبُخْل، أَو لِأَنَّهَا تطهر من الذُّنُوب، وَهَذَا الْحق أثْبته الشَّارِع لمصْلحَة الدَّافِع والآخذ مَعًا، أما الدَّافِع فلتطهيره وتضعيف أجره، وَأما الْآخِذ فلسد خلته.

(بابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الزَّكَاة أَي: فرضيتها، وَقد يذكر الْوُجُوب وَيُرَاد بِهِ الْفَرْض، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُجُوب الثُّبُوت والتحقق. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَجَبت وَجَبت، أَي: ثبتَتْ وتحققت، أَو ذكر الْوُجُوب لأجل الْمَقَادِير فَإِنَّهَا ثبتَتْ بأخبار الْآحَاد، أَو لِأَنَّهُ لَو قَالَ: فرض الزَّكَاة، لتبادر الذِّهْن إِلَى الَّذِي هُوَ التَّقْدِير، إِذْ التَّقْدِير هُوَ الْغَالِب فِي بَاب الزَّكَاة لِأَنَّهَا جُزْء مُقَدّر من جَمِيع أَصْنَاف الْأَمْوَال. قلت: لَا شكّ أَن الْكتاب مُجمل وَالْحكم فِيهِ التَّوَقُّف إِلَى أَن يَأْتِي الْبَيَان، وَالْبَيَان فوض إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَّن ذَلِك فِي سَائِر الْأَمْوَال، فَيكون أصل الزَّكَاة ثَابتا بِدَلِيل قَطْعِيّ، والمقدار بِالْحَدِيثِ، فَلَعَلَّ من أطلق على الزَّكَاة لفظ: الْوُجُوب، نظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
وقَوْلِ الله تعَالى {وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} (الْبَقَرَة: 34 و 38 و 011، النِّسَاء: 77، الْحَج: 87، النُّور: 65، المجادلة: 31، المزمل: 02) .

قَول الله، بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن فَرضِيَّة الزَّكَاة بِالْقُرْآنِ، لِأَن الله تَعَالَى أَمر بهَا بقوله: {وَآتوا الزَّكَاة} (الْبَقَرَة: 34، 38 و 011، النِّسَاء: 77، الْحَج: 87، النُّور: 65، المجادلة: 31، والمزمل: 02) . وَالْأَمر للْوُجُوب. وَقيل: هُوَ بِالرَّفْع مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: هُوَ دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ من الْوُجُوب. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لَا يخفى على الفطن، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ، قَالَ ابْن الْمُنْذر: انْعَقَد الْإِجْمَاع على فَرضِيَّة الزَّكَاة وَهِي الرُّكْن الثَّالِث، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على خمس) وَفِيه قَالَ: (وإيتاء الزَّكَاة) ، وَقَالَ ابْن بطال: فَمن جحد وَاحِدَة من هَذِه الْخمس فَلَا يتم إِسْلَامه، أَلا ترى أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: من منعهَا مُنْكرا وُجُوبهَا فقد كفر إِلَّا أَن يكون حَدِيث عهد بِالْإِسْلَامِ وَلم يعلم وُجُوبهَا. وَقَالَ الْقشيرِي: من جَحدهَا كفر، وَأجْمع الْعلمَاء أَن مانعها تُؤْخَذ

(8/233)


قهرا مِنْهُ، وَإِن نصب الْحَرْب دونهَا قتل، كَمَا فعل أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَهْل الرِّدَّة، وَوَافَقَ على ذَلِك جَمِيع الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا حدَّثني أبُو سُفْيَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَذَكَرَ حَديثَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يأمُرُنَا بِالصَّلاةِ والزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ والعَفَافِ

قد مضى هَذَا فِي أول الْكتاب فِي قَضِيَّة أبي سُفْيَان مَعَ هِرقل فِي حَدِيث طَوِيل مِنْهُ. (قَالَ) أَي: هِرقل لأبي سُفْيَان (مَاذَا يَأْمُركُمْ؟ قَالَ) أَي: أَبُو سُفْيَان فِي جَوَابه (يَقُول: أعبدوا الله وَحده وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، واتركوا مَا يَقُول آباؤكم، ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة والصدق والعفاف والصلة) . وروى هَذَا الحَدِيث عبد الله بن عَبَّاس عَن أبي سُفْيَان بن حَرْب حَيْثُ قَالَ: (إِن أَبَا سُفْيَان أخبرهُ أَن هِرقل أرسل إِلَيْهِ) الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْجُزْء مِنْهُ هُنَا إِشَارَة إِلَى فَرضِيَّة الزَّكَاة بِهِ.

5931 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بنُ مَخْلَدٍ عنْ زَكَرِيَّاءَ بنِ إسْحَاقَ عنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ الله ابنِ صَيْفِيٍّ عنْ أبِي مَعْبَدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ مُعَاذا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إلَى اليَمَنِ فَقَالَ ادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله وَأنِّي رسولُ الله فإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ فأعْلِمْهُمْ أنَّ الله قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ فإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذالِكَ فأعْلِمْهُمْ أنَّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ بَيَان فَرضِيَّة الزَّكَاة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك، بتَشْديد الْحَاء: ابْن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام وإهمال الدَّال، وَقد مر فِي أول كتاب الْعلم. الثَّانِي: زَكَرِيَّا ابْن إِسْحَاق، الثَّالِث: يحيى بن عبد الله بن صَيْفِي مَنْسُوبا إِلَى الصَّيف ضد الشتَاء مولى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع: أَبُو معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال: واسْمه نافد، بالنُّون وَالْفَاء وَالدَّال الْمُهْملَة، وَقيل: بِالْمُعْجَمَةِ، مولى ابْن عَبَّاس، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَة وَكَانَ أصدق موَالِي ابْن عَبَّاس، وَقد مر فِي: بَاب الذّكر بعد الصَّلَاة. الْخَامِس: عبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَن زَكَرِيَّا وَيحيى مكيان. وَفِيه: اثْنَان مذكوران بالكنية أَحدهمَا مَذْكُور باسمه أَيْضا. وَفِيه: أَن أحدهم مَذْكُور باسم جده أَيْضا. وَفِيه: عَن أبي معبد عَن ابْن عَبَّاس ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي مُسلم: عَن أبي معبد عَن ابْن عَبَّاس عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جعله من مُسْند معَاذ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي عَاصِم النَّبِيل عَن زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه أَيْضا فِي الْجَنَائِز والتوحيد عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن حبَان بن مُوسَى كِلَاهُمَا عَن ابْن الْمُبَارك عَن زَكَرِيَّا، وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن عبد الله بن أبي الْأسود، وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن أُميَّة بن بسطَام، وَفِي الْمَظَالِم عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أُميَّة بن بسطَام بِهِ وَعَن عبد بن حميد عَن أبي عَاصِم بِهِ وَعَن أبي بكر وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر عَن بشر بن السّري عَن زَكَرِيَّاء بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي كريب فِي الزَّكَاة بِتَمَامِهِ، وَفِي الْبر يذكر دَعْوَة الْمَظْلُوم حسب بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك المخرمي عَن وَكِيع

(8/234)


بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار الْموصِلِي عَن الْمعَافى بن عمرَان عَن زَكَرِيَّاء بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي عَن وَكِيع بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث معَاذًا) وَفِي (الإكليل) لِابْنِ البيع: بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، معَاذًا وَأَبا مُوسَى عِنْد انْصِرَافه من تَبُوك سنة تسع، وَزعم ابْن الْحذاء ابْن الْحذاء أَن ذَلِك كَانَ فِي شهر ربيع الآخر سنة عشر، وَقدم فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْحجَّة الَّتِي فِيهَا حج عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَذَا ذكره سيف فِي (الرِّدَّة) وَفِي (الطَّبَقَات) : فِي شهر ربيع الآخر سنة تسع، وَفِي (كتاب الصَّحَابَة) للعسكري: بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واليا على الْيمن. وَفِي (الِاسْتِيعَاب) : لما خلع من مَاله لغرمائه بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: لَعَلَّ الله أَن يجبرك. قَالَ: وَبَعثه أَيْضا قَاضِيا وَجعل إِلَيْهِ قبض الصَّدقَات من الْعمَّال الَّذين بِالْيمن، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قسم الْيمن على خَمْسَة رجال: خَالِد بن سعيد على صنعاء، وَالْمُهَاجِر بن أبي أُميَّة على كِنْدَة، وَزِيَاد بن لبيد على حَضرمَوْت، ومعاذ على الجندل، وَأبي مُوسَى على زبيد وعدن والساحل. قَوْله: (أدعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُول الله) أَي: أدع أهل الْيمن أَولا إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: شَهَادَة أَن لَا إلاه إلاَّ الله، وَالثَّانِي: الشَّهَادَة بِأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ مَا يَعْتَقِدهُ أهل الْيمن؟ قلت: صرح فِي رِوَايَة مُسلم أَنهم من أهل الْكتاب، حَيْثُ قَالَ عَن ابْن عَبَّاس، (عَن معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: إِنَّك تَأتي قوما من أهل الْكتاب فادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُول الله) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: كَيْفيَّة الدعْوَة إِلَى الْإِسْلَام بِاعْتِبَار أَصْنَاف الْخلق فِي الاعتقادات، فَلَمَّا كَانَ إرْسَال معَاذ إِلَى من يقر بالإل هـ والنبوات، وهم أهل الْكتاب، أمره بِأول مَا يَدعُوهُم إِلَى تَوْحِيد الإل هـ وَالْإِقْرَار بنبوة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُم وَإِن كَانُوا يعترفون بإل هية الله تَعَالَى وَلَكِن يجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكا، لدَعْوَة النَّصَارَى أَن الْمَسِيح ابْن الله تَعَالَى، ودعوة الْيَهُود أَن عُزَيْرًا ابْن الله، سُبْحَانَهُ عَمَّا يصفونَ، وَأَن مُحَمَّدًا لَيْسَ برَسُول الله أصلا، أَو أَنه لَيْسَ برَسُول إِلَيْهِم، على اخْتِلَاف آرائهم فِي الضَّلَالَة، فَكَانَ هَذَا أول وَاجِب يدعونَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قيد قوما بِأَهْل كتاب، يَعْنِي: فِي رِوَايَة مُسلم وَفِيهِمْ أهل الذِّمَّة وَغَيرهم من الْمُشْركين، تَفْضِيلًا لَهُم وتغليبا على غَيرهم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا أَن يَدعُوهُم أَولا بتوحيد الله وتصديق نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيل على أَنهم لَيْسُوا بعارفين الله تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَب حذاق الْمُتَكَلِّمين فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى، أَنهم غير عارفين الله تَعَالَى، وَإِن كَانُوا يعْبدُونَ ويظهرون مَعْرفَته لدلَالَة السّمع عِنْدهم، هَذَا، وَإِن كَانَ الْعقل لَا يمْنَع أَن يعرف الله تَعَالَى من كذب رَسُولا. وَقَالَ: مَا عرف الله من شبهه وجسمه من الْيَهُود، أَو أضَاف إِلَيْهِ الود، أَو أضَاف إِلَيْهِ الصاحبة أَو أجَاز الْحُلُول عَلَيْهِ والانتقال والامتزاج من النَّصَارَى، أَو وَصفه بِمَا لَا يَلِيق بِهِ، أَو أضَاف إِلَيْهِ الشَّرِيك والمعاند فِي خلقه من الْمَجُوس والثنوية، فمعبودهم الَّذِي عبدوه لَيْسَ هُوَ الله تَعَالَى، وَإِن سموهُ بِهِ إِذْ لَيْسَ مَوْصُوفا بِصِفَات الإل هـ الْوَاجِبَة، فَأذن مَا عرفُوا الله سُبْحَانَهُ. وَقيل: إِنَّمَا أمره بالمطالبة بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَن ذَلِك أصل الدّين الَّذِي لَا يَصح شَيْء من فروعه إلاَّ بِهِ، فَمن كَانَ مِنْهُم غير موحد على التَّحْقِيق كالبصراني، فالمطالبة موجهة إِلَيْهِ بِكُل وَاحِدَة من الشَّهَادَتَيْنِ، وَمن كَانَ موحدا كاليهود فالمطالبة لَهُ بِالْجمعِ بَين مَا أقرّ بِهِ من التَّوْحِيد، وَبَين الْإِقْرَار بالرسالة. وَفِي (التَّلْوِيح) : أهل الْيمن كَانُوا يهودا لِأَن ابْن إِسْحَاق وَغَيره ذكرُوا أَن تبعا تهود، وَتَبعهُ على ذَلِك قومه. قَوْله: (فَإِن هم أطاعوا لذَلِك) ، أَي: للإتيان بِالشَّهَادَتَيْنِ. قَوْله: (فأعلمهم) ، بِفَتْح الْهمزَة من الْإِعْلَام. قَوْله: (أَن الله قد افْترض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة) ، كلمة: أَن، مَفْتُوحَة لِأَنَّهَا فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان للإعلام، وطاعتهم بِالصَّلَاةِ يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا: يحْتَمل أَن يُرِيد إقرارهم بِوُجُوبِهَا، الثَّانِي: أَن يُرِيد الطَّاعَة بِفِعْلِهَا، ويرجح الأول بِأَن الذّكر فِي لفظ الحَدِيث هُوَ الْإِخْبَار بالفريضة، فتعود الْإِشَارَة بذلك إِلَيْهَا. ويرجح الثَّانِي بِأَنَّهُم لَو أخبروا بِالْوُجُوب فبادروا بالامتثال بِالْفِعْلِ لكفى، وَلم يشْتَرط تلقيهم بِالْإِقْرَارِ بِالْوُجُوب، وَكَذَا الزَّكَاة لَو امتثلوا بأدائها من غير تلفظ بِالْإِقْرَارِ لكفى، فَالشَّرْط عدم الْإِنْكَار والإذعان بِالْوُجُوب لَا بِاللَّفْظِ. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه رتب دعوتهم إِلَى أَدَاء الزَّكَاة على طاعتهم إِلَى إِقَامَة الصَّلَاة؟ قلت: لم يرتبه تَرْتِيب الْوُجُوب، وَإِنَّمَا رتبه لترتيب الْبَيَان ألاَ ترى أَن وجوب الزَّكَاة على قوم من النَّاس دون آخَرين، وَإِن لُزُومهَا بِمُضِيِّ الْحول على المَال، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: يحْتَمل أَن يُقَال: إِنَّهُم إِذا

(8/235)


أجابوا إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ ودخلوا بذلك فِي الْإِسْلَام وَلم يطيعوا لوُجُوب الصَّلَاة كَانَ ذَلِك كفرا وردة عَن الْإِسْلَام بعد دُخُولهمْ فِيهِ، فَصَارَ مَالهم فَيْئا، فَلَا يؤمرون بِالزَّكَاةِ بل يقتلُون؟ قَوْله: (فَإِن هم أطاعوا لذَلِك) أَي: لوُجُوب الصَّلَاة بِالْأَدَاءِ كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (افْترض عَلَيْهِم صَدَقَة) أَي: زَكَاة، وَأطلق لفظ: الصَّدَقَة، على الزَّكَاة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 06) . وَالْمرَاد بهَا: الزَّكَاة. قَوْله: (تُؤْخَذ) على صِيغَة الْمَجْهُول فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله (صَدَقَة) ، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَترد) على صِيغَة الْمَجْهُول عطف على قَوْله: (تُؤْخَذ) ، وَسَيَأْتِي فِي كتاب الزَّكَاة فِي بَاب لَا تُؤْخَذ كرائم أَمْوَال النَّاس فِي الصَّدَقَة، عقيب قَوْله: (وَترد على فقرائهم فَإِذا أطاعوا بهَا فَخذ مِنْهُم وتوقَّ كرائم أَمْوَال النَّاس) ، وَسَيَأْتِي أَيْضا فِي: بَاب أَخذ الصَّدَقَة من الْأَغْنِيَاء، عقيب قَوْله: (وكرائم أَمْوَالهم، واتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينه وَبَين الله حجاب) . قَوْله: (توق) ، وَفِي رِوَايَة: (فإياك وكرائم أَمْوَالهم) ، يَعْنِي: إحترز فَلَا تَأْخُذ كرائم الْأَمْوَال، والكرائم جمع: كَرِيمَة، وَهِي النفيسة من المَال. وَقيل: مَا يخْتَص صَاحبه لنَفسِهِ مِنْهَا ويؤثره، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هِيَ جَامِعَة الْكَمَال المتمكن فِي حَقّهَا من غزارة اللَّبن وجمال صُورَة أَو كَثْرَة لحم أَو صوف، قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الشَّأْن، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: فَإِنَّهَا، أَي: فَإِن الْقِصَّة والشأن. قَوْله: (لَيْسَ بَينه) ، أَي: بَين دُعَاء الْمَظْلُوم وَبَين الله حجاب. وَفِي رِوَايَة: (بَينهَا) ، أَي: بَين دَعْوَة الْمَظْلُوم وَبَين الله. قَوْله: (فإياك وكرائم أَمْوَالهم) ، بِالْوَاو، وَلَا يجوز تَركه لِأَن معنى: إياك: إتق، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ التحذير، والمحذر مِنْهُ إِذا ولي المحذر فَإِن كَانَ اسْما صَرِيحًا يسْتَعْمل بِمن أَو الْوَاو، وَلَا يَخْلُو عَنْهُمَا، وَإِلَّا يفهم مِنْهُ أَنه محذر مِنْهُ، وَإِن كَانَ فعلا يجب أَن يكون مَعَ: أَن ليَكُون فِي تَأْوِيل الإسم، فيستعمل بِالْوَاو عطفا نَحْو: إياك وَأَن تحذف، فَإِن تَقْدِيره: إياك والحذف، أَو: بِمن، نَحْو إياك من أَن تحذف. وَلَا يجوز أَن يُقَال: إياك الْأسد، بِدُونِ الْوَاو. وَقد نقل ابْن مَالك: إياك الْأسد، بِحَذْف الْوَاو، وَلكنه شَاذ يكون فِي الضَّرُورَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ، قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن أَبَا مُوسَى كَانَ مَعَه، فَلَيْسَ خبر وَاحِد على هَذَا، وعَلى قَول أبي عمر: كَانُوا خَمْسَة. قلت: فِي نظره نظر، لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن كَونه خبر وَاحِد، وَقبُول خبر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ قَول من يعْتد بِهِ فِي الْإِجْمَاع.
الثَّانِي: فِيهِ أَن الْكفَّار يدعونَ إِلَى الْإِسْلَام قبل الْقِتَال، وَإنَّهُ لَا يحكم بِإِسْلَام الْكَافِر إلاَّ بالنطق بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة لِأَن ذَلِك أصل الدّين الَّذِي لَا يَصح شَيْء من فروعه إلاَّ بِهِ.
الثَّالِث: فِيهِ أَن الصَّلَوَات الْخمس فرض فِي كل يَوْم وَلَيْلَة خمس مَرَّات.
الرَّابِع: فِيهِ أَن الزَّكَاة فرض.
الْخَامِس: فِيهِ اسْتِدْلَال بَعضهم على عدم جَوَاز نقل الزَّكَاة عَن بلد المَال، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَترد على فقرائهم) ، قلت: هَذَا الِاسْتِدْلَال غير صَحِيح، لِأَن الضَّمِير فِي (فقرائهم) ، يرجع إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين، وَهُوَ أَعم من أَن يكون من فُقَرَاء أهل تِلْكَ الْبَلدة أَو غَيرهم، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: اتَّفقُوا على أَنَّهَا إِذا نقلت وَأديت يسْقط الْفَرْض عَنهُ، إلاَّ عمر ابْن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ رد صَدَقَة نقلت من خُرَاسَان إِلَى الشَّام إِلَى مَكَانهَا من خُرَاسَان.
السَّادِس: أَن الْخطابِيّ قَالَ فِيهِ: يسْتَدلّ لمن يذهب إِلَى أَن الْكفَّار غير مخاطبين بشريعة الدّين، وَإِنَّمَا خوطبوا بِالشَّهَادَةِ فَإِذا أقاموها تَوَجَّهت عَلَيْهِم بعد ذَلِك الشَّرَائِع والعبادات، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أوجبهَا مرتبَة وَقدم فِيهَا الشَّهَادَة، ثمَّ تَلَاهَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيف، فَإِن المُرَاد علمهمْ بِأَنَّهُم مطالبون بِالصَّلَاةِ وَغَيرهَا فِي الدُّنْيَا، والمطالبة فِي الدُّنْيَا لَا تكون إلاَّ بعد الْإِسْلَام، وَلَيْسَ يلْزم من ذَلِك أَن لَا يَكُونُوا مخاطبين بهَا يُزَاد فِي عَذَابهمْ بِسَبَبِهَا فِي الْآخِرَة، ثمَّ قَالَ: إعلم أَن الْمُخْتَار أَن الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرِيعَة الْمَأْمُور بِهِ والمنهي عَنهُ، هَذَا قَول الْمُحَقِّقين والأكثرين، وَقيل: لَيْسُوا مخاطبين، وَقيل: مخاطبون بالمنهي دون الْمَأْمُور. قلت: قَالَ شمس الْأَئِمَّة فِي كِتَابه، فِي فصل بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حق الْكفَّار: لَا خلاف أَنهم مخاطبون بِالْإِيمَان لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى النَّاس كَافَّة لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَان، قَالَ تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} (الْأَعْرَاف: 851) . وَلَا خلاف أَنهم مخاطبون بالمشروع من الْعُقُوبَات، وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالمعاملات يتناولهم أَيْضا، وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالشرائع يتناولهم فِي حكم الْمُؤَاخَذَة فِي الْآخِرَة، فَأَما فِي وجوب الْأَدَاء فِي أَحْكَام الدُّنْيَا فمذهب الْعِرَاقِيّين من أَصْحَابنَا أَن الْخطاب يتناولهم أَيْضا. وَالْأَدَاء وَاجِب عَلَيْهِم، ومشايخ دِيَارنَا يَقُولُونَ: إِنَّهُم لَا يخاطبون بأَدَاء مَا يحْتَمل السُّقُوط من الْعِبَادَات.

(8/236)


السَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ من يرى بِعَدَمِ وجوب الْوتر، لِأَن بعث معَاذ إِلَى الْيمن قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَلِيل. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا ظَاهر لَا إِيرَاد عَلَيْهِ، وَمن ناقش بِهِ فقد غلط. قلت: مَا غلط إلاَّ من اسْتمرّ على هَذَا بِغَيْر برهَان، لِأَن الرَّاوِي لم يذكر جَمِيع المفروضات. أَلاَ ترى أَنه لم يذكر الصَّوْم وَالْحج وَنَحْوهمَا، وَلَئِن سلمنَا مَا ذَكرُوهُ، وَلَكِن لَا نسلم نفي ثُبُوت وُجُوبه بعد ذَلِك لعدم الْعلم بالتاريخ، وَقد قَالَت الشَّافِعِيَّة: فِي ردهم قَول أَحْمد حَيْثُ تمسك بِحَدِيث ابْن عكيم فِي عدم الِانْتِفَاع بإجزاء الْميتَة قبل موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَهْر، وَيحْتَمل أَن يكون الْإِذْن فِي ذَلِك قبل مَوته بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُم أَن يَقُولُوا هُنَا كَمَا قَالُوا هُنَاكَ.
الثَّامِن: ذكر الطَّيِّبِيّ وَآخَرُونَ أَن فِي قَوْله: (تُؤْخَذ من أغنيائهم) . دَلِيلا على أَن الطِّفْل تلْزمهُ الزَّكَاة لعُمُوم قَوْله (تُؤْخَذ من أغنيائهم) قلت قلت: عبارَة الشَّافِعِيَّة: أَن الزَّكَاة لَا تجب على الصَّبِي بل تجب فِي مَاله، وَكَذَا فِي الْمَجْنُون، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خطب فَقَالَ: ألاَّ من ولي يَتِيما لَهُ مَال فليتجر فِي مَاله وَلَا يتْركهُ حَتَّى تَأْكُله الصَّدَقَة) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، قُلْنَا: الشَّرْط فِي وجوب الزَّكَاة: الْعقل وَالْبُلُوغ، فَلَا تجب فِي مَال الصَّبِي وَالْمَجْنُون لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق) ، وَحَدِيث التِّرْمِذِيّ ضَعِيف لِأَن فِي إِسْنَاده الْمثنى بن الصَّباح. فَقَالَ أَحْمد: لَا يُسَاوِي شَيْئا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ يحيى: ليش بِشَيْء، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن رَوَاهُ: وَفِي إِسْنَاده مقَال لِأَن الْمثنى بن الصَّباح يضعف فِي الحَدِيث. فَإِن قلت: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة منْدَل عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إحفظوا الْيَتَامَى فِي أَمْوَالهم لَا تأكلها الزَّكَاة) . قلت: منْدَل بن عَليّ الْكُوفِي ضعفه أَحْمد، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يرفع الْمَرَاسِيل ويسند الْمَوْقُوفَات من سوء حفظه، فَلَمَّا فحش ذَلِك مِنْهُ اسْتحق التّرْك. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: وروى بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... فَذكر هَذَا الحَدِيث. قلت: ظَاهره أَن عَمْرو بن شُعَيْب رَوَاهُ عَن عمر بِغَيْر وَاسِطَة بَينه وَبَينه وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بِوَاسِطَة سعيد بن الْمسيب من رِوَايَة حُسَيْن الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن سعيد بن الْمسيب، أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: ابْتَغوا بأموال اليتامي لَا تأكلها الصَّدَقَة. وَقد اخْتلف فِي سَماع ابْن الْمسيب عَن عمر بن الْخطاب، وَالصَّحِيح أَنه لم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد اخْتلف أهل الْعلم فِي هَذَا الْبَاب، فَرَأى غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَال الْيَتِيم زَكَاة، مِنْهُم: عمر وَعلي وَعَائِشَة وَابْن عمر، وَبِه يَقُول: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْعلم: لَيْسَ فِي مَال الْيَتِيم زَكَاة، وَبِه قَالَ: سُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن الْمُبَارك. قلت: وَبِه قَالَ: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَهُوَ قَول أبي وَائِل وَسَعِيد بن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكي عَنهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا تجب الزَّكَاة إلاَّ على من تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالصِّيَام، وَذكر حميد بن زَنْجوَيْه النَّسَائِيّ: أَنه مَذْهَب ابْن عَبَّاس. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَهُوَ قَول عَليّ أَيْضا، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه مثله، وَبِه قَالَ شُرَيْح، ذكره النَّسَائِيّ.
التَّاسِع: فِيهِ أَن الْمَدْفُوع عين الزَّكَاة وَفِيه خلاف.
الْعَاشِر: أَنه لَيْسَ فِي المَال حق وَاجِب سوى الزَّكَاة، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث شريك عَن أبي حَمْزَة عَن الشّعبِيّ عَن فَاطِمَة بنت قيس: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة. قلت: قد اخْتلف نسخ ابْن مَاجَه فِي لَفظه، فَفِي نُسْخَة: فِي المَال حق سوى الزَّكَاة، وَفِي نُسْخَة: لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي (الإِمَام) هَكَذَا فِي النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا روايتنا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ: إِن فِي المَال لَحقا سوى الزَّكَاة، ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي يرويهِ أَصْحَابنَا فِي التَّعَالِيق: لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: لَيْسَ حَدِيث فَاطِمَة هَذَا بِصَحِيح، تفرد بِرَفْعِهِ أَبُو حَمْزَة القصاب الْأَعْوَر الْكُوفِي، واسْمه: مَيْمُون، وَهُوَ وَإِن روى عَنهُ الثِّقَات: الحمادان وسُفْيَان وَشريك وَابْن علية وَغَيرهم، فَهُوَ مُتَّفق على ضعفه. وَقَالَ أَحْمد: مَتْرُوك الحَدِيث وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَحكم التِّرْمِذِيّ أَن هَذَا الحَدِيث من قَول الشّعبِيّ أصح، وَهُوَ كَذَلِك، وَقد صَحَّ أَيْضا عَن غَيره من التَّابِعين، وروى أَيْضا عَن ابْن عمر من قَوْله: وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ عَن الشّعبِيّ وَمُجاهد وطاووس وَغَيرهم

(8/237)


القَوْل: فِي المَال حق سوى الزَّكَاة. قَالَ: وَعَن ابْن عمر أَنه قَالَ: فِي مَالك حق سوى الزَّكَاة. وَقَالَ مُجَاهِد إِذا حصد ألْقى لَهُم من السنبل، وَإِذا جز النّخل ألْقى لَهُم من الشماريخ، فَإِذا كاله زَكَّاهُ. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . قَالَ: مَا قل مِنْهُ أَو كثر، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه، قَالَ: وَآتوا حَقه، قَالَ: شَيْء سوى الْحق الْوَاجِب، وَعَن عَطاء: القبضة من الطَّعَام، وَعَن يزِيد بن الْأَصَم، قَالَ: كَانَ النّخل إِذا صرم يَجِيء الرجل بالعذق من نخله فيعلقه فِي جَانب الْمَسْجِد، فَيَجِيء الْمِسْكِين فيضربه بعصاه، فَإِذا تناثر مِنْهُ شَيْء أكل، فَذَلِك قَوْله: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . وَعَن حَمَّاد: يُعْطي ضغثا، وَعَن الرّبيع بن أنس: وَآتوا حَقه. قَالَ إلقاط السنبل، وَعَن سُفْيَان قَالَ: يدع الْمَسَاكِين يتبعُون أثر الحصادين فِيمَا سقط عَن المنجل، وَذكر الْعَبَّاس الضَّرِير فِي كِتَابه (مقامات التَّنْزِيل) : وَقد رُوِيَ وَصَحَّ عَن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَهُوَ قَول عَطِيَّة وَأبي عبيد، وَاحْتج بِحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه: نهى عَن حصاد اللَّيْل. وَقَالَ ابْن التِّين: وَهُوَ قَول الشّعبِيّ، رَحمَه الله، وَقَالَ النّحاس: فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة خَمْسَة أَقْوَال: فَمنهمْ من قَالَ هِيَ مَنْسُوخَة بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَة، فَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك، سعيد بن جُبَير، وَقَالَ: كَانَ هَذَا قبل أَن تنزل الزَّكَاة، وَقَالَ الضَّحَّاك: نسخت الزَّكَاة فِي كل صَدَقَة فِي الْقُرْآن، وَفِي تَفْسِير الفلاس: حَدثنَا يحيى حَدثنَا سُفْيَان عَن الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَة. القَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَهُوَ قَول أنس بن مَالك، وَعَن الْحسن مثله، وَهُوَ قَول جَابر بن زيد وَسَعِيد بن الْمسيب وَقَتَادَة وَزيد بن أسلم، وَقيل: هَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ أَيْضا. القَوْل الثَّالِث: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: كَأَن السّديّ ذهب إِلَى أَن الَّذِي نزل بِمَكَّة: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . فَقَط، فَلَمَّا أعْطى ابْن قيس كلما حصد، نزل: {وَلَا تسرفوا} (الْأَنْعَام: 141) . وَأول الْآيَة مكي وَآخِرهَا مدنِي. وَعَن الْكَلْبِيّ مثل قَول السّديّ، وَذكر النّحاس مثل قَول السّديّ عَن الْأَعْرَج، وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. القَوْل الرَّابِع: قَول من قَالَ: نسخت الْآيَة بالعشر وَنصف الْعشْر. وَفِي تَفْسِير الفلاس: هُوَ قَول ابْن عَبَّاس. القَوْل الْخَامِس: قَالَ أَبُو جَعْفَر: أَن يكون مَعْنَاهُ على النّدب، وَهَذَا لَا نَعْرِف أحدا من الْمُتَقَدِّمين قَالَه.
الْحَادِي عشر: فِي قَوْله: (تُؤْخَذ من أغنيائهم) ، دَلِيل على أَن الإِمَام يُرْسل السعاة إِلَى أَصْحَاب الْأَمْوَال لقبض صَدَقَاتهمْ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْعلم على أَن الزَّكَاة كَانَت ترفع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِلَى رسله وعماله وَإِلَى من أَمر بدفعها إِلَيْهِ، وَاخْتلفُوا فِي دفع الزَّكَاة إِلَى الْأُمَرَاء، فَكَانَ سعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَمُحَمّد بن عَليّ وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو رزين وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ، يَقُولُونَ: تدفع الزَّكَاة إِلَى الْأُمَرَاء. وَقَالَ عَطاء: يعطيهم إِذا وضعوها موَاضعهَا. وَقَالَ طَاوُوس: لَا يدْفع إِلَيْهِم إِذا لم يضعوها موَاضعهَا. وَقَالَ الثَّوْريّ: أخلف لَهُم وعدهم وأكذبهم وَلَا تعطهم شَيْئا إِذا لم يضعوها موَاضعهَا.
الثَّانِي عشر: فِيهِ أَن السَّاعِي لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ خِيَار الْأَمْوَال، بل يَأْخُذ الْوسط بَين الْخِيَار والرديء.
الثَّالِث عشر: قَالَ الْخطابِيّ، فِيهِ: قد يسْتَدلّ بِهِ من لَا يرى على الْمَدْيُون زَكَاة، لِأَنَّهُ قسم قسمَيْنِ فَقِيرا وغنيا، فَهَذَا لما جَازَ لَهُ الْأَخْذ لم يجب عَلَيْهِ الدّفع. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن الْمَدْيُون لَا يَأْخُذهَا لفقره حَتَّى لَا تجب عَلَيْهِ لغناه، وَإِنَّمَا يَأْخُذهَا لكَونه من الغارمين، وهم أحد الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الْمَذْكُورين فِي الْآيَة.
الرَّابِع عشر: قَالَ صَاحب (الْمُفْهم) : فِيهِ دَلِيل لمَالِك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على أَن الزَّكَاة لَا تجب قسمتهَا على الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الْمَذْكُورين فِي الْآيَة، وَأَنه يجوز للْإِمَام أَن يصرفهَا إِلَى صنف وَاحِد من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي الْآيَة إِذا رَآهُ نظرا أَو مصلحَة دينية.
الْخَامِس عشر: فِيهِ أَن دعو الْمَظْلُوم لَا ترد، وَلَو كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَن لَا يُسْتَجَاب لمثله من كَون مطعمه حَرَامًا أَو نَحْو ذَلِك حَتَّى ورد فِي بعض طرقه. وَإِن كَانَ كَافِرًا لَيْسَ دونه حجاب، رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَله من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (دَعْوَة الْمَظْلُوم مستجابة وَإِن كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه) . وَإِسْنَاده حسن.

6931 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعبَةُ عنِ ابنِ عُثْمَانِ بنِ عَبْدِ الله بنِ مَوْهَبٍ

(8/238)


عنْ مُوسى بنِ طَلْحَةَ عنْ أبِي أيُّوبَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ قَالَ مالَهُ مالَهُ وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرَبٌ مالَهُ تَعْبُدُ الله وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئا وتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وتؤتي الزَّكَاة) فَإِنَّهَا ذكرت مُقَارنَة للصَّلَاة الَّتِي ذكرت مُقَارنَة للتوحيد، فَإِن قَوْله: (تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) عبَادَة عَن التَّوْحِيد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حَفْص بن عمر بن الْحَارِث بن سَخْبَرَة أَبُو عمر الحوضي. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مُحَمَّد بن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْهَاء وبالباء الْمُوَحدَة. الرَّابِع: مُوسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله الْقرشِي، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَة. الْخَامِس: أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، واسْمه خَالِد بن زيد بن كُلَيْب، يَقُول فِي حَدِيثه: إِن رجلا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِن هَذَا الرجل هُوَ أَبُو أَيُّوب الرَّاوِي، وَنسبه بَعضهم إِلَى الْغَلَط وَهُوَ غير موجه، إِذْ لَا مَانع أَن يبهم الرَّاوِي نَفسه لغَرَض لَهُ. فَإِن قلت: هَذَا يبعد هَهُنَا لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّتِي تَأتي بعد بِأَنَّهُ أَعْرَابِي. قلت: أُجِيب بِالْمَنْعِ لعدم الْمَانِع من تعدد الْقِصَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه كُوفِي وَشعْبَة واسطي وَابْن عُثْمَان ومُوسَى مدنيان. وَفِيه: ابْن مُخْتَلف فِيهِ هَل هُوَ مُحَمَّد بن عُثْمَان أَو عَمْرو بن عُثْمَان، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان، وَنَذْكُر عَن قريب وَجه ذَلِك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَنهُ بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعبد الرَّحْمَن بن نصر، كِلَاهُمَا عَن بهز عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان وَأَبِيهِ عُثْمَان بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن أبي الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي صَفْوَان عَن بهز بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يدخلني) الْجَزْم فِيهِ على جَوَاب الْأَمر غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ إِذا جعل جَوَاب الْأَمر يبْقى قَوْله: بِعَمَل، غير مَوْصُوف، والنكرة غير الموصوفة لَا تفِيد، كَذَا قَالَه صَاحب (الْمظهر) شَارِح (المصابيح) قلت: التنكير فِي: بِعَمَل، للتفخيم أَو التنويع، أَي: بِعَمَل عَظِيم أَو مُعْتَبر فِي الشَّرْع، أَو نقُول، إِذا صَحَّ الْجَزْم فِيهِ: إِن جَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: أَخْبرنِي بِعَمَل إِن عملته يدخلني الْجنَّة، فالجملة الشّرطِيَّة بأسرها صفة: لعمل. فَافْهَم. قَوْله: (مَاله مَاله؟) كلمة: مَا للاستفهام والتكرار للتَّأْكِيد، قَالَه ابْن بطال: وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى: أَي شَيْء جرى لَهُ، قَوْله: (ارب) إختلفوا فِي هَيْئَة هَذِه الْكَلِمَة وَفِي مَعْنَاهَا أَيْضا، أما فِي الأول فَقيل، ارب، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الرَّاء وتنوين الْبَاء: على وزن حذر، وَقَالَ ابْن قرقول: يرْوى: أرب مَاله: اسْم فَاعل حذر. قلت: لَا يُسمى مثل هَذَا اسْم فَاعل، بل هُوَ صفة مشبهة، وَقيل: أرب، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الرَّاء أَيْضا وتنوين الْبَاء، وَقيل: أرب، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الرَّاء وَفتح الْبَاء على صِيغَة الْمَاضِي، وَرُوِيَ هَذَا عَن أبي ذَر، وَقيل: على صِيغَة الْمَاضِي، وَلكنه بِكَسْر الرَّاء، فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقْوَال. وَأما اخْتلَافهمْ فِي الْمَعْنى فَفِي الْوَجْه الأول مَعْنَاهُ: صَاحب الْحَاجة، وَهُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ أرب، وَلما رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حَرِيص فِي سُؤَاله، قَالَ: مَا لَهُ مُتَعَجِّبا من حرصه بطرِيق الِاسْتِفْهَام، وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: مَعْنَاهُ لَهُ أرب، أَي: حَاجَة، فَيكون ارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف. وَفِي الْوَجْه الثَّالِث وَالرَّابِع اللَّذين بِصُورَة الْمَاضِي على اخْتِلَاف حَرَكَة عين الْفِعْل، مَعْنَاهُ: احْتَاجَ فَسَأَلَ عَن حَاجته. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل، يُقَال: أرب الرجل فِي الْأَمر إِذا بلغ فِيهِ جهده. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: سقط آرابه، أَي: أعضاؤه، ومفرده: الأرب، هَذِه كلمة لَا يُرَاد بهَا وُقُوع الْأَمر. كَمَا تَقول: تربت يداك، وَإِنَّمَا تسْتَعْمل عِنْد التَّعَجُّب. وَقيل: لما رأى الرجل يزاحم دَعَا عَلَيْهِ دُعَاء لَا يُسْتَجَاب فِي الْمَدْعُو عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أرب الرجل فِي الشَّيْء إِذا صَار ماهرا فِيهِ، فَيكون الْمَعْنى التَّعَجُّب من حسن فطنته والتهدي إِلَى مَوضِع حَاجته، فَلذَلِك قَالَ: مَاله، بالاستفهام:

(8/239)


وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأما مَا رَوَاهُ بَعضهم بِكَسْر الرَّاء وتنوين الْبَاء، وَمَعْنَاهُ: هُوَ أرب، أَي: صَادِق فطن، فَلَيْسَ بِمَحْفُوظ عِنْد أهل الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة: (قَالَ النَّاس: مَاله مَاله؟ فَقَالَ النَّبِي تصلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرب مَاله) و: مَا، صلَة أَي حَاجَة مَا أَو أَمر مَاله. انْتهى. قلت: لهَذِهِ الْمَادَّة معَان كَثِيرَة: الأرب، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء: الْعُضْو، كَمَا فِي الحَدِيث: (أمرت أَن أَسجد على سَبْعَة آرَاب) . وَهُوَ جمع أرب، وَجَاء على أرؤب، والأرب أَيْضا الدهاء، وَيُقَال: هُوَ ذُو أرب أَي: ذُو عقل، وَمِنْه: الأريب، وَهُوَ الْعَاقِل، والأرب أَيْضا: الْحَاجة وَفِيه لُغَات: أرب وأربة وأرب ومأربة، تَقول مِنْهُ: أرب الرجل بِالْكَسْرِ يأرب بِالْفَتْح أربا، وَيُقَال: أرب الدَّهْر إِذا اشْتَدَّ، وأرب الرجل إِذا تساقطت أعضاؤه، وأرب بالشَّيْء درب بِهِ وَصَارَ بَصيرًا فِيهِ فَهُوَ أرب، والأربة بِالضَّمِّ: الْعقْدَة، والإربة بِالْكَسْرِ الْمَعْتُوه، قَالَ تَعَالَى: {غير أولي الإربة} (النُّور: 13) . قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْمَعْتُوه، وتأريب الْعقْدَة إحكامها وَمِنْه يُقَال: أرب عقدتك، أَي: أحكمها، وتأريب الشَّيْء أَيْضا توفيره، وكل موفر مؤرب. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: التأرب التشدد فِي الشَّيْء، وأربت على الْقَوْم أَي: فزت عَلَيْهِم، والأرب، بِالضَّمِّ صغَار الْغنم حِين تولد. قَوْله: (تعبد الله) أَي: توحده، وَفَسرهُ بقوله: (وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إلاَّ ليعبدون} (الذاريات: 65) . أَي: ليوحدوني، وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن الْعِبَادَة الطَّاعَة مَعَ خضوع، فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالْعبَادَة هُنَا معرفَة الله تَعَالَى، وَالْإِقْرَار بوحدانيته، فعلى هَذَا يكون عطف الصَّلَاة وَعطف مَا بعْدهَا عَلَيْهَا لإدخالها فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّهَا لم تكن دخلت فِي الْعِبَادَة، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالْعبَادَة الطَّاعَة مُطلقًا، فَيدْخل جَمِيع وظائف الْإِسْلَام فِيهَا. فعلى هَذَا يكون عطف الصَّلَاة وَغَيرهَا من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، تَنْبِيها على شرفه ومزيته، وَإِنَّمَا ذكر قَوْله: (وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) بعد الْعِبَادَة لِأَن الْكفَّار كَانُوا يعبدونه سُبْحَانَهُ فِي الصُّورَة ويعبدون مَعَه أوثانا يَزْعمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاء فنفى هَذَا. قَوْله: (وتقيم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) اقتباس من قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} (النِّسَاء: 301) . وَقد جَاءَ فِي أَحَادِيث وصفهَا بالمكتوبة، كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إلاَّ الْمَكْتُوبَة) ، و (أفضل الصَّلَاة بعد الْمَكْتُوبَة صَلَاة اللَّيْل) ، و (خمس صلوَات كتبهن الله) ، وَمعنى: إِقَامَة الصَّلَاة إدامتها والمحافظة عَلَيْهَا، وَقيل: إِتْمَامهَا على وَجههَا. قَوْله: (وَتصل الرَّحِم) ، من وصل يصل صلَة، وصلَة الرَّحِم مُشَاركَة ذَوي الْقَرَابَة فِي الْخيرَات، وَإِنَّمَا خص هَذَا من بَين سَائِر وَاجِبَات الدّين نظرا إِلَى حَال السَّائِل، كَأَنَّهُ كَانَ قطاعا للرحم مبيحا لذَلِك، فَأمره بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ المهم بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: قد علم بسؤال الرجل أَن لَهُ حَاجَة، فَمَا الْفَائِدَة فِي قَوْله: لَهُ حَاجَة؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمَعْنى: لَهُ حَاجَة مهمة مفيدة جَاءَت بِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا لم يُخْبِرهُمْ بالتطوع لأَنهم كَانُوا حَدِيثي عهد بِالْإِسْلَامِ، فَاكْتفى مِنْهُم بِفعل مَا وَجب عَلَيْهِم للتَّخْفِيف، وَلِئَلَّا يعتقدوا أَن التطوعات وَاجِبَة، فتركهم إِلَى أَن تَنْشَرِح صُدُورهمْ لَهَا فتسهل عَلَيْهِم.
وَقَالَ بَهْزٌ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ وأبُوهُ عُثْمَانُ بنُ عَبْدِ الله أنَّهُمَا سَمِعَا مُوسى بنَ طَلْحَةَ عنْ أبِي أيُّوبَ بِهاذَا. قَالَ أبُو عَبْدِ الله أخْشَى أنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إنَّمَا هُوَ عَمْرٌ
وبهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: ابْن أَسد الْعمي أَبُو الْأسود الْبَصْرِيّ، مر فِي: بَاب الْغسْل بالصاع. قَوْله: شُعْبَة حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان، وَفِي رِوَايَة حَفْص بن عمر: عَن شُعْبَة قَالَ حَدثنَا ابْن عُثْمَان، كَمَا مر. وَقد أوضح شُعْبَة فِي هَذِه الرِّوَايَة هُوَ مُحَمَّد بن عُثْمَان، وَلكنه وهم فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرو بن عُثْمَان، وَلِهَذَا قَالَ البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أخْشَى أَن يكون مُحَمَّد غير مَحْفُوظ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرو بن عُثْمَان. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِن شُعْبَة وهم فِي اسْم ابْن عُثْمَان بن موهب فَسَماهُ مُحَمَّدًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرو بن عُثْمَان، والْحَدِيث مَحْفُوظ عَنهُ، حدث بِهِ عَنهُ يحيى بن سعيد الْقطَّان وَمُحَمّد بن عبيد وَإِسْحَاق الْأَزْرَق وَأَبُو أُسَامَة وَأَبُو نعيم ومروان الْفَزارِيّ وَغَيرهم عَن عَمْرو بن عُثْمَان، وَقَالَ الكلاباذي: روى شُعْبَة عَن عَمْرو بن عُثْمَان وَوهم فِي اسْمه فَقَالَ: مُحَمَّد بن عُثْمَان، فِي أول كتاب الزَّكَاة، وَقَالَ الغساني: هَذَا مِمَّا عد على شُعْبَة أَنه وهم فِيهِ حَيْثُ قَالَ: مُحَمَّد بدل عَمْرو، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة شُعْبَة فِي (كتاب الْأَدَب) فَقَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن حَدثنَا بهز حَدثنَا شُعْبَة

(8/240)


حَدثنَا ابْن عُثْمَان بن عبد الله، غير مُسَمّى ليَكُون أقرب إِلَى الصَّوَاب، قَوْله: (وَأَبوهُ عُثْمَان) أَي: أَبُو مُحَمَّد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن شُعْبَة رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان وَعَن أَبِيه عُثْمَان بن عبد الله كِلَاهُمَا عَن مُوسَى بن طَلْحَة، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن عُثْمَان بن أبي صَفْوَان عَن بهز عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان وَأَبِيهِ عُثْمَان، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد عَن بهز، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: جوده بهز فَقَالَ: حَدثنَا شُعْبَة حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان وَأَبوهُ عُثْمَان، قَالَ: وَانْفَرَدَ ابْن أبي عدي فِيهِ بالرواية عَن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن مُوسَى. وَقَالَ مُسلم: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير حَدثنِي أبي حَدثنَا عَمْرو بن عُثْمَان حَدثنَا مُوسَى بن طَلْحَة (حَدثنِي أَبُو أَيُّوب: أَن أَعْرَابِيًا عرض لرَسُول الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ فِي سفر، فَأخذ بِخِطَام نَاقَته أَو بزمامها ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله، أَو يَا مُحَمَّد أَخْبرنِي بِمَا يقربنِي إِلَى الْجنَّة وَمَا يباعدني من النَّار؟ قَالَ: فَكف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نظر فِي أَصْحَابه، ثمَّ قَالَ: لقد وفْق هَذَا أَو لقد هدي قَالَ: كَيفَ قلت؟ قَالَ: فَأَعَادَهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وَتصل الرَّحِم، دع النَّاقة) . ثمَّ روى من طَرِيق بهز: حَدثنَا شُعْبَة حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب وَأَبوهُ عُثْمَان أَنَّهُمَا سمعا مُوسَى بن طَلْحَة يحدث عَن أبي أَيُّوب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل هَذَا الحَدِيث. قَوْله: (وَقَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، لِأَن كنيته أَبُو عبد الله، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ مُحَمَّد، هُوَ البُخَارِيّ أَيْضا لِأَن اسْمه مُحَمَّد.

7931 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ حدَّثنا عَفَّانُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدِ بنِ حَيَّانَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ أعْرَابِيَّا أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ قَالَ تَعْبُدُ الله لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئا وتُقِيمُ الصَّلاَةَ المَكْتُوبَةَ وَتُؤدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ وتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أزِيدُ عَلَى هاذا فَلَمَّا ولَّى قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى رجُلٍ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هاذا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: (وتؤتى الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة) يدل على فَرضِيَّة الزَّكَاة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو يحيى. الثَّانِي: عَفَّان بتَشْديد الْفَاء ابْن مُسلم الصفار الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: وهيب، بِضَم الْوَاو: ابْن خَالِد ابْن عجلَان وَصَاحب الكرابيس. الرَّابِع: يحيى بن سعيد بن حَيَّان، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَبُو حَيَّان التَّمِيمِي، تيم الربَاب. الْخَامِس: أَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء: واسْمه هرم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء، وَقيل: عَمْرو، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: عبد الله تقدم فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي كتاب الْإِيمَان. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن ابْن صَخْر، على خلاف فِيهِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَكَانَ يُقَال لَهُ: صَاعِقَة، لِأَنَّهُ كَانَ سريع الْحِفْظ وجيده، مَاتَ فِي سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ بغدادي وَعَفَّان بَصرِي روى البُخَارِيّ عَنهُ بِدُونِ الْوَاسِطَة فِي: بَاب ثَنَاء النَّاس على الْمَيِّت، ووهيب أَيْضا بَصرِي وَيحيى وَأَبُو زرْعَة كوفيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد فِي هَذَا الْكتاب. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن إِسْحَاق عَن عَفَّان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن أَعْرَابِيًا) هُوَ سعد بن الأخرم، قَالَ الذَّهَبِيّ: سعد بن الأخرم أَبُو الْمُغيرَة، نزل الْكُوفَة، روى عَنهُ ابْنه، مُخْتَلف فِي صحبته، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث الْأَعْمَش: عَن عَمْرو بن مرّة عَن الْمُغيرَة بن سعد ابْن الأخرم عَن أَبِيه أَو عَن عَمه شكّ الْأَعْمَش، قَالَ: (أتيت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: يَا نَبِي الله دلَّنِي على عمل يقربنِي من الْجنَّة وَيُبَاعِدنِي من النَّار، فَسكت سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء، فَنظر فَقَالَ: تعبد الله لَا تشرك بِهِ شَيْئا، وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وتصوم رَمَضَان وتحب للنَّاس مَا تحب أَن يُؤْتى إِلَيْك، وَمَا كرهت أَن يُؤْتى إِلَيْك فدع النَّاس مِنْهُ) . وَقَالَ بَعضهم: السَّائِل فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة قد سمي فِيمَا رَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَابْن السكن وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَأَبُو مُسلم

(8/241)


الْكَجِّي فِي (السّنَن) من طَرِيق مُحَمَّد بن جحادة وَغَيره: (عَن الْمُغيرَة بن عبد الله الْيَشْكُرِي أَن أَبَاهُ حَدثهُ قَالَ: انْطَلَقت إِلَى الْكُوفَة فَدخلت الْمَسْجِد فَإِذا رجل من قيس يُقَال لَهُ: ابْن المنتفق، وَهُوَ يَقُول: وصف لي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فطلبته فَلَقِيته بِعَرَفَات، فتزاحمت عَلَيْهِ فَقيل لي: إِلَيْك عَنهُ، فَقَالَ: دعوا الرجل أرب مَاله. قَالَ: فزاحمتهم عَلَيْهِ حَتَّى خلصت إِلَيْهِ فَأخذت بِخِطَام رَاحِلَته، فَمَا غير عَليّ قَالَ: شَيْئَانِ أَسأَلك عَنْهُمَا: مَا ينجيني من النَّار؟ وَمَا يدخلني الْجنَّة؟ قَالَ: فَنظر إِلَى السَّمَاء، ثمَّ أقبل عَليّ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: لَئِن كنت أوجزت الْمقَالة لقد أعظمت وطولت، فاعقل عَليّ: أعبد الله لَا تشرك بِهِ شَيْئا، وأقم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة، وأدِّ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وصم رَمَضَان) . وَزعم الصريفيني أَن اسْم ابْن المنتفق هَذَا: لَقِيط بن صبرَة وَافد بني المنتفق، ثمَّ قَالَ: وَقد يُؤْخَذ من هَذِه الرِّوَايَة أَن السَّائِل فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة هُوَ السَّائِل فِي حَدِيث أبي أَيُّوب. انْتهى. قلت: قَالَ هَذَا الْقَائِل قبل هَذَا: لَا مَانع من تعدد الْقِصَّة، وَلَا يلْزم من المشابهة بَين سِيَاق الْحَدِيثين أَن يكون فيهمَا السَّائِل وَاحِدًا. قَوْله: (وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (وتصوم رَمَضَان) ، زَاد هَذَا فِي هَذَا الحَدِيث لِأَن الظَّاهِر أَنه قد فرض وَلم يذكر الْحَج لِأَنَّهُ لم يفْرض حِينَئِذٍ، وَلَا الْجِهَاد لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْض على الْأَعْرَاب. قَالَ الدَّاودِيّ: قَالَ النَّوَوِيّ: وَاعْلَم أَنه لم يَأْتِ فِي هَذَا الْحَج وَلَا جَاءَ ذكره فِي حَدِيث جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَكَذَا غير هَذَا من هَذِه الْأَحَادِيث لم يذكر فِي بَعْضهَا الصَّوْم، وَلم يذكر فِي بَعْضهَا الزَّكَاة. وَذكر فِي بَعْضهَا صلَة الرَّحِم، وَفِي بَعْضهَا أَدَاء الْخمس، وَلم يَقع فِي بَعْضهَا ذكر الْإِيمَان فتفاوتت هَذِه الْأَحَادِيث فِي عدد خِصَال الْإِيمَان زِيَادَة ونقصانا وإثباتا وحذفا، وَقد أجَاب القَاضِي عِيَاض وَغَيره عَنْهَا بِجَوَاب لخصه الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا باخْتلَاف صادر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ من تفَاوت الروَاة فِي الْحِفْظ والضبط، فَمنهمْ من قصر فاقتصر على مَا حفظه فأداه وَلم يتَعَرَّض لما زَاد غَيره بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، وَإِن كَانَ اقْتِصَاره على ذَلِك يشْعر بِأَنَّهُ الْكل، فقد بَان بِمَا أَتَى بِهِ غَيره من التَّفَاوُت أَن ذَلِك لَيْسَ بِالْكُلِّ، وَأَن اقْتِصَاره عَلَيْهِ كَانَ لقُصُور حفظه عَن تَمَامه، وَلم ذكر النَّوَوِيّ هَذَا استحسنه، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِن رَوَاهُ هَذِه الْأَحَادِيث مُتعَدِّدَة، وكل مَا روى وَاحِد مِنْهُم بِزِيَادَة على مَا رَوَاهُ غَيره أَو بِنَقص لم يكن بتقصير الرَّاوِي، وَإِنَّمَا وَقع ذَلِك بِحَسب اخْتِلَاف الْموقع وَاخْتِلَاف الزَّمَان. قَوْله: (لَا أَزِيد على هَذَا) أَي: عَن الْفَرَائِض أَو أكتفي بِهِ عَن النَّوَافِل، أَو يكون المُرَاد: لَا أَزِيد على مَا سَمِعت مِنْك فِي أدائي لقومي، لِأَنَّهُ كَانَ وافدهم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا أَزِيد فِي الْفَرَائِض وَلَا أنقص كَمَا فعل أهل الْكتاب. قَوْله: (فَلَمَّا ولَّى) أَي: أدبر. قَوْله: (من سره. .) إِلَى آخِره، الظَّاهِر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم أَنه يُوفي بِمَا الْتزم، وَأَنه يَدُوم على ذَلِك وَيدخل الْجنَّة، فَإِن قيل: المبشرون بِالْجنَّةِ معدودون بِالْعشرَةِ، وَبِهَذَا يُزَاد عَلَيْهِم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص عَلَيْهِ أَنه من أهل الْجنَّة. وَأجِيب: بِأَن التَّنْصِيص على الْعدَد لَا يُنَافِي الزِّيَادَة، وَقد ورد أَيْضا فِي حق كثير مثل ذَلِك، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحسن وَالْحُسَيْن وأزواجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: الْعشْرَة بشروا بِالْجنَّةِ دفْعَة وَاحِدَة فَلَا يُنَافِي المتفرق.
وَفِيه من الْفَوَائِد: جَوَاز قَول: جَاءَ رَمَضَان وَذهب رَمَضَان، خلافًا لمن منع من مثل ذَلِك لزعمه بِأَن رَمَضَان اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن من أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصلى وزكى وَصَامَ وَحج إِن اسْتَطَاعَ دخل الْجنَّة. وَفِيه: سُؤال من لَا يعلم عَمَّن يعلم عَن الْعَمَل الَّذِي يكون سَببا لدُخُول الْجنَّة. وَفِيه: وجوب السُّؤَال عَن أُمُور الدّين. وَفِيه: الْبشَارَة والتبشير لِلْمُؤمنِ الَّذِي يُؤَدِّي الْوَاجِبَات بِدُخُول الْجنَّة.
حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي حَيَّانَ قَالَ أخبرَنِي أبُو زُرْعَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهاذَا

يحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَأَبُو حَيَّان، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، كنيته، يحيى بن سعيد بن حَيَّان التَّيْمِيّ الْمَذْكُور آنِفا ذكره ثمَّة باسمه وَهنا بكنيته، وَهَذَا الطَّرِيق مُرْسل لِأَن أَبَا زرْعَة تَابِعِيّ لَا صَحَابِيّ، فَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ بطرِيق الْإِرْسَال. وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا فِي هَذِه النّسخ، وَكَذَا ذكره صاحبا (المستخرجين) والْحميدِي فِي (جمعه) وَفِي أصل الْعِزّ الْحَرَّانِي: أَبُو زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَزعم الجياني أَنه وَقع تَخْلِيط وَوهم فِي رِوَايَة أبي أَحْمد، كَانَ عِنْده عَفَّان حَدثنَا وهيب عَن يحيى بن سعيد بن حَيَّان، أَو عَن يحيى بن سعيد عَن أبي حَيَّان عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ خطأ إِنَّمَا

(8/242)


الحَدِيث: عَن وهيب عَن أبي حَيَّان عَن يحيى بن سعيد بن حَيَّان عَن أبي زرْعَة، على مَا رَوَاهُ ابْن السكن، وَأَبُو زيد وَسَائِر الروَاة عَن الْفربرِي.
154 - (حَدثنَا حجاج قَالَ حَدثنَا حَمَّاد بن زيد قَالَ حَدثنَا أَبُو جَمْرَة قَالَ سَمِعت ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول قدم وَفد عبد الْقَيْس على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا يَا رَسُول الله إِن هَذَا الْحَيّ من ربيعَة قد حَالَتْ بَيْننَا وَبَيْنك كفار مُضر ولسنا نخلص إِلَيْك إِلَّا فِي الشَّهْر الْحَرَام فمرنا بِشَيْء نَأْخُذهُ عَنْك وندعو إِلَيْهِ من وَرَائِنَا قَالَ آمركُم بِأَرْبَع وأنهاكم عَن أَربع الْإِيمَان بِاللَّه وَشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَعقد بِيَدِهِ هَكَذَا وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَأَن تُؤَدُّوا خمس مَا غَنِمْتُم وأنهاكم عَن الدُّبَّاء والحنتم والنقير والمزفت) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وإيتاء الزَّكَاة " وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس وَهَهُنَا عَن حجاج بن الْمنْهَال السّلمِيّ الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ عَن حَمَّاد بن زيد عَن أبي جَمْرَة بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم وَفتح الرَّاء الضبعِي واسْمه نصر بن عمرَان بن عَاصِم وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي هُنَاكَ فلنذكر شَيْئا مُخْتَصرا فَقَوله " إِن هَذَا الْحَيّ " ويروى " أَن هَذَا الْحَيّ " وانتصاب هَذَا الْحَيّ على الِاخْتِصَاص أَي أَعنِي هَذَا الْحَيّ فعلى هَذَا الْوَجْه يكون خبر أَن قَوْله " من ربيعَة " وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى " أَنا حَيّ من ربيعَة " والحي اسْم لمنزل الْقَبِيلَة ثمَّ سميت الْقَبِيلَة بِهِ لِأَن بَعضهم يحيى بِبَعْض قَوْله " نخلص " أَي نصل وَالْمرَاد من قَوْلهم شهر الْحَرَام جنس الْأَشْهر الْحرم وَهِي أَرْبَعَة أشهر ذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة ومحرم وَرَجَب قَوْله " عَن الدُّبَّاء " بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء وبالمد وَهُوَ القرع الْيَابِس أَي الْوِعَاء مِنْهُ والحنتم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره مِيم وَهِي الجرار الْخضر والنقير بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَهُوَ جذع ينقر وَسطه
(وَقَالَ سُلَيْمَان وَأَبُو النُّعْمَان عَن حَمَّاد الْإِيمَان بِاللَّه شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله) سُلَيْمَان هُوَ ابْن حَرْب ضد الصُّلْح أَبُو أَيُّوب الْبَصْرِيّ قَاضِي مَكَّة أحد شُيُوخ البُخَارِيّ وَكَذَلِكَ أَبُو النُّعْمَان من مشايخه واسْمه مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَكِلَاهُمَا رويا عَن حَمَّاد بن زيد " شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " بِدُونِ الْوَاو وَفِي رِوَايَة حجاج عَن حَمَّاد " وَشَهَادَة " بِالْوَاو وَالْوَاو إِمَّا عطف تفسيري للْإيمَان وَإِمَّا أَن الْإِيمَان ذكر تمهيدا للأربعة من الشَّهَادَة لِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل لَهَا سِيمَا والوفد كَانُوا مُؤمنين عِنْد السُّؤَال فابتداء الْأَرْبَعَة من الشَّهَادَة أَو الْإِيمَان وَاحِد وَالشَّهَادَة أحراها وَقَالَ ابْن بطال الْوَاو فِي الرِّوَايَة الأولى كالمقحمة يُقَال فلَان حسن وَجَمِيل أَي حسن جميل أما تَعْلِيق سُلَيْمَان فقد وَصله أَبُو دَاوُد قَالَ حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب وَمُحَمّد بن عبيد قَالَا حَدثنَا حَمَّاد عَن أبي جَمْرَة إِلَى آخِره وَأما تَعْلِيق أبي النُّعْمَان فقد وَصله البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الدّين قَالَ حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان حَدثنَا حَمَّاد عَن أبي جَمْرَة الضبعِي قَالَ سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول قدم وَفد عبد الْقَيْس الحَدِيث
6 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع قَالَ أخبرنَا شُعَيْب بن أبي جمزة عَن الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنَا عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَكفر من كفر من الْعَرَب فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا

(8/243)


لَا إِلَه إِلَّا الله فَمن قَالَهَا فقد عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ وحسابه على الله فَقَالَ وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَإِن الزَّكَاة حق المَال وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا (1) كَانُوا يأدونها إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقاتلتهم على منعهَا. قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فوَاللَّه مَا هُوَ إِلَّا أَن قد شرح الله صدر أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَعرفت أَنه الْحق) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " فَقَالَ وَالله لأقاتلن " إِلَى قَوْله قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ وَأَبُو حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم قَالَ الْحميدِي هَذَا الحَدِيث يدْخل فِي مُسْند أبي بكر وَفِي مُسْند عمر أَيْضا بقوله أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " أمرت أَن أقَاتل النَّاس " الحَدِيث وَخلف ذكره فِي مسنديهما وَذكره ابْن عَسَاكِر فِي مُسْند عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن يحيى بن بكير وَفِي الِاعْتِصَام عَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أَحْمد بن عَمْرو ابْن السَّرْح وَسليمَان بن دَاوُد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْمُحَاربَة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَفِي الْجِهَاد عَن كثير بن عبيد وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمُغيرَة وَعَن كثير بن عبيد وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَفِي الْمُحَاربَة أَيْضا عَن زِيَاد بن أَيُّوب. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الِاثْنَيْنِ " لثنتي عشرَة لَيْلَة من ربيع الأول من سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة وَدفن يَوْم الثُّلَاثَاء وَفِيه أَقْوَال أخر قَوْله " وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَي خَليفَة وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " اسْتخْلف أَبُو بكر بعده " قَوْله " وَكفر من كفر من الْعَرَب " كلمة من الأولى بِفَتْح الْمِيم فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله " وَكفر " وَمن الثَّانِيَة بِكَسْر الْمِيم حرف جر للْبَيَان وَهَؤُلَاء كَانُوا صنفين صنف ارْتَدُّوا عَن الدّين ونابدوا الْملَّة وعادوا إِلَى كفرهم وهم الَّذين عناهم أَبُو هُرَيْرَة بقوله " وَكفر من كفر من الْعَرَب " وَهَذِه الْفرْقَة طَائِفَتَانِ إِحْدَاهمَا أَصْحَاب مُسَيْلمَة من بني حنيفَة وَغَيرهم الَّذين صدقوه على دَعْوَاهُ فِي النُّبُوَّة وَأَصْحَاب الْأسود الْعَنسِي وَمن كَانَ من مستجيبيه من أهل الْيمن وَغَيرهم وَهَذِه الْفرْقَة بأسرها مُنكرَة لنبوة سيدنَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مدعية للنبوة لغيره فَقَاتلهُمْ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حَتَّى قتل الله مُسَيْلمَة بِالْيَمَامَةِ والعنسي بالصنعاء وَانْقَضَت جموعهم وَهلك أَكْثَرهم والطائفة الثَّانِيَة ارْتَدُّوا عَن الدّين فأنكروا الشَّرَائِع وَتركُوا الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيرهمَا من أُمُور الدّين وعادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة فَلم يكن مَسْجِد لله تَعَالَى فِي بسيط الأَرْض إِلَّا ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِد مَكَّة وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد عبد الْقَيْس فِي الْبَحْرين فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا جواثى والصنف الآخر هم الَّذين فرقوا بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فأقروا بِالصَّلَاةِ وأنكروا فرض الزَّكَاة وَوُجُوب أَدَائِهَا إِلَى الإِمَام وَهَؤُلَاء على الْحَقِيقَة أهل بغي وَإِنَّمَا لم يدعوا بِهَذَا الِاسْم فِي ذَلِك الزَّمَان خُصُوصا لدخولهم فِي غمار أهل الرِّدَّة فأضيف الِاسْم فِي الْجُمْلَة إِلَى الرِّدَّة إِذْ كَانَت أعظم الْأَمريْنِ وأهمهما وأرخ قتال أهل الْبَغي فِي زمن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذا كَانُوا منفردين فِي زَمَانه لم يختلطوا بِأَهْل الشّرك وَقد كَانَ فِي ضمن هَؤُلَاءِ المانعين لِلزَّكَاةِ من كَانَ يسمع بِالزَّكَاةِ وَلَا يمْنَعهَا إِلَّا أَن رؤساءهم صدوهم عَن ذَلِك وقبضوا على أَيْديهم كبني يَرْبُوع فَإِنَّهُم قد جمعُوا صَدَقَاتهمْ وَأَرَادُوا أَن يبعثوا بهَا إِلَى أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَمَنعهُمْ مَالك بن نُوَيْرَة من ذَلِك وفرقها فيهم وَقَالَ الْوَاقِدِيّ فِي كتاب الرِّدَّة تأليفه لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْتَدَّت الْعَرَب فَارْتَد من جمَاعَة النَّاس أَسد وغَطَفَان إِلَّا بني عبس فَأَما بَنو عَامر فتربصت مَعَ قادتها وَكَانَت فَزَارَة قد ارْتَدَّت وَبَنُو حنيفَة بِالْيَمَامَةِ وارتد أهل الْبَحْرين وَبكر بن وَائِل وَأهل دباء وأزد عمان والنمرين قاسط وكلب وَمن قاربهم من قضاعة وارتدت عَامَّة بني تَمِيم وارتد من بني سليم عصية وعميرة وخفاف وَبَنُو عَوْف بن امْرُؤ الْقَيْس وذكوان

(8/244)


وحارثة وَثَبت على الْإِسْلَام أسلم وغفار وجهينة وَمُزَيْنَة وَأَشْجَع وَكَعب بن عَمْرو بن خُزَاعَة وَثَقِيف وهذيل والدئل وكنانة وَأهل السراة وبجيلة وخثعم وطي وَمن قَارب تهَامَة من هوَازن وجشم وَسعد بن بكر وَعبد الْقَيْس وتجيب ومدحج إِلَّا بَنو زيد وهمدان وَأهل صنعاء وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وحَدثني مُحَمَّد بن معِين بن عبد الله المجمر عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ لم يرجع رجل من دوس وَلَا من أهل السراة كلهَا قَالَ وحَدثني عبد الْمجِيد بن جَعْفَر عَن يزِيد بن أبي حَكِيم قَالَ سَمِعت أَبَا مَرْوَان التجِيبِي قَالَ لم يرجع رجل وَاحِد من تجيب وَلَا من هَمدَان وَلَا من الْأَبْنَاء بِصَنْعَاء وَفِي أَخْبَار الرِّدَّة لمُوسَى بن عقبَة لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَعَ عَامَّة الْعَرَب عَن دينهم أهل الْيمن وَعَامة أهل الْمشرق وغَطَفَان وَبَنُو أَسد وَبَنُو عَامر وَأَشْجَع ومسكت طَيء بِالْإِسْلَامِ وَفِي كتاب الرِّدَّة لسيف عَن فَيْرُوز الديلمي أول ردة كَانَت فِي الْإِسْلَام ردة كَانَت بِالْيمن على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على يَد ذِي الْخمار عبهلة بن كَعْب وَهُوَ الْأسود الْعَنسِي " أمرت أَن أقَاتل النَّاس " قَالَ الطَّيِّبِيّ قَالَ أَكثر الشَّارِحين أَرَادَ بِالنَّاسِ عَبدة الْأَوْثَان بِدُونِ أهل الْكتاب لأَنهم يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ لَا يرفع عَنْهُم السَّيْف حَتَّى يقرُّوا بنبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو يُعْطوا الْجِزْيَة ثمَّ قَالَ أَقُول تَحْرِير ذَلِك أَن حَتَّى للغاية يَعْنِي فِي قَوْله " حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله " وَقد جعل رَسُول الله غَايَة الْمُقَابلَة القَوْل بِالشَّهَادَتَيْنِ وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة ورتب على ذَلِك الْعِصْمَة وَأهل الْكتاب إِذا أعْطوا الْجِزْيَة سقط عَنْهُم الْقِتَال وَثَبت لَهُم الْعِصْمَة فَيكون ذَلِك نفيا للمطلق فَالْمُرَاد بِالنَّاسِ إِذا عَبدة الْأَوْثَان وَالَّذِي يذاق من لفظ النَّاس الْعُمُوم والاستغراق ثمَّ اعْلَم أَنه عرض الْخلاف فِي هَؤُلَاءِ وَوَقعت الشُّبْهَة لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فراجع إِلَى أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وناظره وَاحْتج عَلَيْهِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أمرت أَن أقَاتل النَّاس " الحَدِيث وَهَذَا من عمر كَانَ تعلقا بِظَاهِر الْكَلَام قبل أَن ينظر فِي آخِره ويتأمل شَرَائِطه فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر إِن الزَّكَاة حق المَال يُرِيد أَن الْقَضِيَّة قد تَضَمَّنت عصمَة دم وَمَال معلقَة بإيفاء شرائطها وَالْحكم الْمُعَلق بِشَرْطَيْنِ لَا يحصل بِأَحَدِهِمَا وَالْآخر مَعْدُوم ثمَّ قايسه بِالصَّلَاةِ ورد الزَّكَاة إِلَيْهَا فَقَالَ فِي ذَلِك من قَوْله دَلِيل على أَن قتال الْمُمْتَنع من الصَّلَاة كَانَ إِجْمَاعًا من رَأْي الصَّحَابَة وَلذَلِك رد الْمُخْتَلف فِيهِ إِلَى الْمُتَّفق عَلَيْهِ فَاجْتمع فِي هَذِه الْقَضِيَّة الِاحْتِجَاج من عمر بِالْعُمُومِ وَمن أبي بكر بِالْقِيَاسِ فَدلَّ ذَلِك على أَن الْعُمُوم يخص بِالْقِيَاسِ وَأَيْضًا فقد صَحَّ عَن عبد الله بن عمر أَنه قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة " الحَدِيث فَلَو كَانَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ذَاكِرًا لهَذَا الحَدِيث لما اعْترض على الصّديق وَلَو كَانَ الصّديق ذَاكِرًا لَهُ لأجاب بِهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلم يحْتَج إِلَى غَيره وَهَذَا يدل على أَنه يُوجد عِنْد بعض أَصْحَاب الْعَالم مَا لَا يُوجد عِنْد خواصه وبطانته قَوْله " أمرت " على صِيغَة الْمَجْهُول إِذا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرت فهم مِنْهُ أَن الله تَعَالَى أمره فَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ أمرت فهم أَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره فَإِن من اشْتهر بِطَاعَة رَئِيس إِذا قَالَ ذَلِك فهم مِنْهُ أَن الرئيس أمره قَوْله " وعصم مني مَاله وَنَفسه " قَالَ القَاضِي عِيَاض اخْتِصَاص عصمَة المَال وَالنَّفس بِمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله تَعْبِير عَن الْإِجَابَة إِلَى الْإِيمَان وَأَن المُرَاد بِهَذَا مشركو الْعَرَب وَأهل الْأَوْثَان وَمن لَا يوحدوه كَانُوا أول من دعِي إِلَى الْإِسْلَام وقوتل عَلَيْهِ فَأَما غَيرهم مِمَّن يقر بِالتَّوْحِيدِ فَلَا يَكْتَفِي فِي عصمته بقوله لَا إِلَه إِلَّا الله إِذْ كَانَ يَقُولهَا فِي كفره وَهِي من اعْتِقَاده فَلذَلِك جَاءَ فِي الحَدِيث الآخر " وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة " وَقَالَ النَّوَوِيّ وَلَا بُد مَعَ هَذَا الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لأبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ويؤمنوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ " قَوْله " إِلَّا بِحقِّهِ " أَي بِحَق الْإِسْلَام وَهُوَ اسْتثِْنَاء من أَعم تَمام الْجَار وَالْمَجْرُور وَمعنى الحَدِيث أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَإِذا شهدُوا عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ وَلَا يجوز إهدار دِمَائِهِمْ واستباحة أَمْوَالهم بِسَبَب من الْأَسْبَاب إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام من قتل النَّفس الْمُحرمَة وَترك الصَّلَاة وَمنع الزَّكَاة بِتَأْوِيل بَاطِل وَغير ذَلِك قَوْله " وحسابه على الله " وَفِي رِوَايَة غَيره " وحسابهم على الله " أَي فِيمَا يسرون بِهِ من الْكفْر والمعاصي وَالْمعْنَى أَنا نحكم عَلَيْهِم بِالْإِيمَان ونؤاخذهم بِحُقُوق الْإِسْلَام بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر حَالهم وَالله تَعَالَى يتَوَلَّى حسابهم فيثيب المخلص ويعاقب الْمُنَافِق قَوْله " فَقَالَ وَالله " أَي فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " من فرق " رُوِيَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد وَمَعْنَاهُ

(8/245)


من أطَاع فِي الصَّلَاة وَجحد الزَّكَاة أَو منعهَا وَإِنَّمَا خص الصَّلَاة وَالزَّكَاة بِالذكر والمقاتلة عَلَيْهِمَا بِحَق الْإِسْلَام لِأَنَّهُمَا إِمَّا الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة والمالية والمعيار على غَيرهمَا والعنوان لَهُ وَلذَلِك سمى الصَّلَاة عماد الدّين وَالزَّكَاة قنطرة الْإِسْلَام وَأكْثر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ذكرهمَا متقارنتين فِي الْقُرْآن قَوْله " عنَاقًا " بِفَتْح الْعين وَالنُّون الْأُنْثَى من أَولا الْمعز وَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد وَالْبُخَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فِي رِوَايَة " عقَالًا " وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهَا قَدِيما وحديثا فَذهب جمَاعَة مِنْهُم إِلَى أَن المُرَاد بالعقال زَكَاة عَام وَهُوَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة بذلك وَهَذَا قَول الْكسَائي وَالنضْر بن شُمَيْل وَأبي عبيد والمبرد وَغَيرهم من أهل اللُّغَة وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقول عَمْرو بن الْعَلَاء
(سعى عقَالًا فَلم يتْرك لنا سبدا ... فَكيف لَو قد سعى عَمْرو عِقَالَيْنِ)
أَرَادَ مُدَّة عقال فنصبه على الظَّرْفِيَّة وَعَمْرو هَذَا هُوَ عَمْرو بن عتبَة بن أبي سُفْيَان السَّاعِي ولاه عَمه مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان صدقَات كلب فَقَالَ فِيهِ قَائِلهمْ ذَلِك قَالُوا وَلِأَن العقال الَّذِي هُوَ الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير لَا يجب دَفعه فِي الزَّكَاة فَلَا يجوز الْقِتَال عَلَيْهِ فَلَا يَصح حمل الحَدِيث عَلَيْهِ وَذهب كَثِيرُونَ من الْمُحَقِّقين إِلَى أَن المُرَاد بالعقال الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير وَهَذَا القَوْل محكي عَن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَابْن أبي ذِئْب وَغَيرهمَا وَهُوَ مَأْخُوذ مَعَ الْفَرِيضَة لِأَن على صَاحبهَا التَّسْلِيم وَإِنَّمَا يَقع قبضهَا برباطها وَقيل معنى وجوب الزَّكَاة فِيهِ إِذا كَانَ من عرُوض التِّجَارَة فَبلغ مَعَ غَيره فِيهَا قيمَة نِصَاب وَقيل أَرَادَ بِهِ الشَّيْء التافه الحقير فَضرب العقال مثلا لَهُ وَقيل كَانَ من عَادَة الْمُصدق إِذا أَخذ الصَّدَقَة أَن يعمد إِلَى قرن بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يقرن بِهِ بَين بَعِيرَيْنِ لِئَلَّا تشرد الْإِبِل فيسمى عِنْد ذَلِك الْقرَان فَكل قرنين مِنْهَا عقال وَفِي الْمُحكم والعقال القلوص الْفتية وروى ابْن الْقَاسِم وَابْن وهب عَن مَالك العقال القلوص وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل إِذا بلغت الْإِبِل خمْسا وَعشْرين وَجَبت فِيهَا بنت مَخَاض من جنس الْإِبِل فَهُوَ العقال وَقَالَ أَبُو سعيد الضَّرِير كل مَا أَخذ من الْأَمْوَال والأصناف فِي الصَّدَقَة من الْإِبِل وَالْغنم وَالثِّمَار من الْعشْر وَنصف الْعشْر فَهَذَا كُله فِي صنفه عقال لِأَن الْمُؤَدِّي عقل بِهِ عَنهُ طلبة السُّلْطَان وعقل عَنهُ الْإِثْم الَّذِي يَطْلُبهُ الله تَعَالَى بِهِ قَوْله " فَمَا رَأَيْت إِلَّا أَن قد شرح الله صدر أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَي فتح ووسع وَلما اسْتَقر عِنْده صِحَة رَأْي أبي بكر وَبَان لَهُ صَوَابه تَابعه على الْقِتَال وَقَالَ عرفت أَنه الْحق حَيْثُ انْشَرَحَ صَدره أَيْضا بِالدَّلِيلِ الَّذِي أَقَامَهُ الصّديق نصا وَدلَالَة وَقِيَاسًا فَلَا يُقَال لَهُ أَنه قلد أَبَا بكر لِأَن الْمُجْتَهد لَا يجوز لَهُ أَن يُقَلّد الْمُجْتَهد قَوْله " فَعرفت أَنه الْحق " أَي بِمَا أظهر من الدَّلِيل وَإِقَامَة الْحجَّة فِيهِ دلَالَة على أَن عمر لم يرجع إِلَى قَول أبي بكر تَقْلِيد (فَإِن قلت) مَا النَّص الَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ أَبُو بكر وَعمل بِهِ (قلت) روى الْحَاكِم فِي الإكليل من حَدِيث فَاطِمَة بنت خشاف السلمِيَّة عَن عبد الرَّحْمَن الظفري قَالَ بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رجل من أَشْجَع لتؤخذ صدقته فَرده فَرجع فَأخْبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ ارْجع فَأخْبرهُ أَنَّك رَسُول رَسُول الله فجَاء إِلَى الْأَشْجَعِيّ فَرده فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اذْهَبْ إِلَيْهِ الثَّالِثَة فَإِن لم يُعْط صدقته فَاضْرب عُنُقه قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعَزِيز أحد رُوَاة الحَدِيث قلت لحكيم وَهُوَ حَكِيم بن عباد بن حنيف أحد رُوَاة الحَدِيث مَا أرى أَبَا بكر لم يقاتلهم متأولا إِنَّمَا قَاتلهم بِالنَّصِّ (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ فَضِيلَة أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه جَوَاز الْقيَاس وَالْعَمَل بِهِ. وَفِيه جَوَاز الْحلف وَإِن كَانَ فِي غير مجْلِس الحكم. وَفِيه اجْتِهَاد الْأَئِمَّة فِي النَّوَازِل. وَفِيه مناظرة أهل الْعلم وَالرُّجُوع إِلَى قَول صَاحبه إِذا كَانَ هُوَ الْحق وَقَالَ الْكرْمَانِي فِيهِ وجوب الصَّدَقَة فِي السخال والفصلان والعجاجيل وَإِنَّهَا تجزيء إِذا كَانَت كلهَا صغَارًا وَقَالَ النَّوَوِيّ رِوَايَة العناق مَحْمُولَة على مَا إِذا كَانَت الْغنم صغَارًا كلهَا بِأَن مَاتَت أمهاتها فِي بعض الْحول فَإِذا حَال حول الْأُمَّهَات زكى السخال الصغار بحول الْأُمَّهَات سَوَاء بَقِي من الْأُمَّهَات شَيْء أم لَا هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْأنمَاطِي من أَصْحَابنَا لَا تزكّى الْأَوْلَاد بحول الْأُمَّهَات إِلَّا أَن يبْقى من الْأُمَّهَات نِصَاب وَقَالَ أَصْحَابنَا إِلَّا أَن يبْقى من الْأُمَّهَات شَيْء وَيتَصَوَّر ذَلِك أَيْضا فِيمَا إِذا مَاتَ مُعظم الْكِبَار وَحدثت صغَار فحال حول الْكِبَار على بقيتها وعَلى الصغار (قلت) قَوْله هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَهُوَ قَول أبي يُوسُف أَيْضا من أَصْحَابنَا وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى لَا تجب الزَّكَاة فِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة وَحمل الحَدِيث على صِيغَة الْمُبَالغَة أَو على الْفَرْض وَالتَّقْدِير. وَفِيه أَن من أظهر الْإِسْلَام وَأسر الْكفْر يقبل إِسْلَامه فِي الظَّاهِر

(8/246)


وَهَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء وَذهب مَالك إِلَى أَن تَوْبَة الزنديق لَا تقبل ويحكى ذَلِك أَيْضا عَن أَحْمد وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي قبُول تَوْبَة الزنديق وَهُوَ الَّذِي يُنكر الشَّرْع جملَة فَذكرُوا فِيهِ خَمْسَة أوجه لِأَصْحَابِنَا أَصَحهَا والأصوب مِنْهَا قبُولهَا مُطلقًا للأحاديث الصَّحِيحَة الْمُطلقَة. وَالثَّانِي لَا تقبل ويتحتم قَتله لكنه إِن صدق فِيهِ تَوْبَته نَفعه ذَلِك فِي الدَّال الْآخِرَة وَكَانَ من أهل الْجنَّة. وَالثَّالِث أَنه إِن تَابَ مرّة وَاحِدَة قبلت تَوْبَته فَإِن تكَرر ذَلِك مِنْهُ لم تقبل. وَالرَّابِع إِن أسلم ابْتِدَاء من غير طلب قبل مِنْهُ وَإِن كَانَ تَحت السَّيْف فَلَا تقبل. وَالْخَامِس إِن كَانَ دَاعيا إِلَى الضلال لم تقبل مِنْهُ وَإِلَّا قبل مِنْهُ (قلت) تقبل تَوْبَة الزنديق عندنَا وَعَن أبي حنيفَة إِذا أُوتيت بزنديق استتبه فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته وَفِي رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا لَا تقبل تَوْبَته. وَفِيه أَن الرِّدَّة لَا تسْقط الزَّكَاة عَن الْمُرْتَد إِذا وَجَبت فِي مَاله قَالَه فِي التَّوْضِيح (الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل أَنه رُوِيَ فِي حَدِيث أبي بكر الْمَذْكُورَة " وتقيم الصَّلَاة وتؤتوا الزَّكَاة " وَأجِيب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذكره بعد ذَلِك وَيحْتَمل أَن يكون سَمعه من ابْن عمر أَو غَيره فَأرْسلهُ. وَمِنْهَا مَا قيل لَو كَانَ مُنكر الزَّكَاة بَاغِيا لَا كَافِرًا لَكَانَ فِي زَمَاننَا أَيْضا كَذَلِك لكنه كَافِر بِالْإِجْمَاع وَأجِيب بِالْفرقِ وَهُوَ أَنهم عذروا فِيمَا جرى مِنْهُم لقرب الْعَهْد بِزَمَان الشَّرِيعَة الَّذِي كَانَ يَقع فِيهِ تَبْدِيل الْأَحْكَام ولوقوع الفترة بِمَوْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ الْقَوْم جُهَّالًا بِأُمُور الدّين قد أضلتهم الشُّبْهَة أما الْيَوْم فقد شاع أَمر الدّين واستفاض الْعلم بِوُجُوب الزَّكَاة حَتَّى عرفه الْخَاص وَالْعَام فَلَا يعْذر أحد بتأويله وَكَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الصَّلَوَات الْخمس وَنَحْوهَا. وَمِنْهَا مَا قيل بِأَن هَذَا الحَدِيث مُشكل لِأَن أول الْقِصَّة دلّ على كفرهم والتفريق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة يُوجب أَن يَكُونُوا ثابتين على الدّين مقيمين للصَّلَاة وَأجِيب بِأَن الْمُخَالفين كَانُوا صنفين صنف ارْتَدُّوا كأصحاب مُسَيْلمَة وهم الَّذين عناهم بقوله " كفر من كفر " وصنف أقرُّوا بالصلوات وأنكروا الزَّكَاة وَهَؤُلَاء على الْحَقِيقَة أهل الْبَغي وَإِنَّمَا لم يدعوا بِهَذَا الِاسْم خُصُوصا بل أضيف الِاسْم على الِاسْم إِلَى الرِّدَّة إِذْ كَانَت أعظم خطأ وَصَارَ مبدأ قتال أهل الْبَغي مؤرخا بأيام عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذْ كَانُوا منفردين فِي عصره لم يختلطوا بِأَهْل الشّرك على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَمِنْهَا مَا قيل أَنهم كَانُوا مؤولين فِي منع الزَّكَاة محتجين بقوله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} فَإِن التَّطْهِير وَنَحْوه مَعْدُوم فِي غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَذَا صَلَاة غَيره لَيست سكنا وَمثل هَذِه الشُّبْهَة توجب الْعذر لَهُم وَالْوُقُوف عَن قِتَالهمْ وَأجِيب بِأَن الْخطاب فِي كتاب الله تَعَالَى على ثَلَاثَة أَقسَام خطاب عَام كَقَوْلِه تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} وخاص بالرسول فِي قَوْله {فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك} حَيْثُ قطع التَّشْرِيك بقوله نَافِلَة لَك وخطاب مُوَاجهَة للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ وَجَمِيع أمته فِي المُرَاد مِنْهُ سَوَاء كَقَوْلِه {أقِم الصَّلَاة} فعلى الْقَائِم بعده بِأَمْر الْأَمر أَن يحتذي حذوه فِي أَخذهَا مِنْهُ وَأما التَّطْهِير والتزكية وَالدُّعَاء من الإِمَام لصَاحِبهَا فَإِن الْفَاعِل فِيهَا قد ينَال ذَلِك كُله بِطَاعَة الله تَعَالَى وَرَسُوله فِيهَا وكل ثَوَاب مَوْعُود على عمل كَانَ فِي زَمَنه فَإِنَّهُ بَاقٍ غير مُنْقَطع وَيسْتَحب للْإِمَام أَن يَدْعُو للمتصدق ويرجى أَن يستجيب الله ذَلِك وَلَا يخيب مَسْأَلته -
2 - (بابُ البَيْعَةِ عَلَى إيتَاءِ الزَّكَاةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبيعَة على إِعْطَاء الزَّكَاة، والبيعة بِفَتْح الْبَاء مثل: البيع، سميت بذلك تَشْبِيها بالمعاملة فِي مجْلِس، وَمِنْه: الْمُبَايعَة، وَهِي عبارَة عَن المعاقدة، والمعاهدة، فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره.
فإنْ تَابُوا وَأقَامُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ

ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة تَأْكِيدًا لحكم التَّرْجَمَة، لِأَن معنى الْآيَة أَنه: لَا يدْخل فِي التَّوْبَة من الْكفْر وَلَا ينَال أخوة الْمُؤمنِينَ فِي الدّين إلاَّ من أَقَامَ الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة، وَأَن بيعَة الْإِسْلَام لَا تتمّ إلاَّ بِالْتِزَام أَدَاء الزَّكَاة، وَأَن مانعها نَاقص لعهده مُبْطل لبيعته، وكل مَا تضمنته بيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ وَاجِب.

(8/247)


1041 - حدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بايَعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى إقَامِ الصَّلاَةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكلِّ مُسْلِمٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وإيتاء الزَّكَاة) ، وَقد مضى الحَدِيث فِي آخر كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدّين النَّصِيحَة لله وَرَسُوله، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن إِسْمَاعِيل عَن قيس عَن جرير، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد تقدم فِي: بَاب مَا ينْهَى من الْكَلَام، وَهُوَ يحدث وَحده عَن أَبِيه عبد الله بن نمير، وَقد مر هُوَ فِي: بَاب إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، وَهُوَ يروي عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد الأحمسي البَجلِيّ مَوْلَاهُم الْكُوفِي، وَاسم أبي خَالِد: سعد، وَيُقَال: هُرْمُز، مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَهُوَ يروي عَن قيس ابْن أبي حَازِم واسْمه عَوْف أَبُو عبد الله الأحمسي البَجلِيّ، قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ عَمْرو بن عَليّ: مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ، وَقد مضى هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ.

3 - (بابُ إثْمِ مانِعِ الزَّكَاةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من منع زَكَاته، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الصَّغِير) من رِوَايَة سعد بن سِنَان عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَانع الزَّكَاة يَوْم الْقِيَامَة فِي النَّار) ، وَسعد ضعفه النَّسَائِيّ، وَعَن أَحْمد أَنه ثِقَة، وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة الْحَارِث الْأَعْوَر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لعن آكل الرِّبَا وموكله وكاتبه ومانع الصَّدَقَة) .
وَقَوْلُ الله تعَالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هاذا مَا كَنَزْتُمْ لأِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (التَّوْبَة: 43، 53) .

وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان قَول الله، عز وَجل، والمطابقة بَين التَّرْجَمَة وَالْآيَة أَن الْآيَة أَيْضا فِي بَيَان إِثْم مَانع الزَّكَاة، نزلت هَذِه الْآيَة فِي عَامَّة أهل الْكتاب وَالْمُسْلِمين، وَقيل: بل خَاصَّة بِأَهْل الْكتاب، وَقيل: بل هُوَ كَلَام مُسْتَأْنف فِي حق من لَا يُزكي من هَذِه الْأمة، قَالَه ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ، وَأكْثر الْمُفَسّرين، وَسَيَجِيءُ فِي تَفْسِير هَذِه عَن البُخَارِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا جرير عَن حُصَيْن عَن زيد بن وهب، قَالَ: مَرَرْت على أبي ذَر بالربذة فَقلت: مَا أنزلك هَذِه الأَرْض؟ فَقَالَ: كُنَّا بِالشَّام فَقَرَأت: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 43) . الْآيَة، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا هَذَا فِينَا، مَا هَذَا إلاَّ فِي أهل الْكتاب. قَالَ: قلت: إِنَّهَا لفينا وَفِيهِمْ، وَرَوَاهُ ابْن جرير، وَزَاد، فارتفع فِي ذَلِك القَوْل بيني وَبَينه، فَكتب إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يشكوني، فَكتب إِلَيّ عُثْمَان: أَن أقبل إِلَيْهِ. قَالَ: فَأَقْبَلت، فَلَمَّا قدمت الْمَدِينَة ركبني النَّاس كَأَنَّهُمْ لم يروني يَوْمئِذٍ، فشكوت ذَلِك إِلَى عُثْمَان، فَقَالَ لي: تَنَح قَرِيبا. فَقلت: وَالله لن أدع مَا كنت أَقُول. وَكَانَ من مَذْهَب أبي ذَر تَحْرِيم إدخار مَا زَاد على نَفَقَة الْعِيَال، وَكَانَ يُفْتِي النَّاس بذلك ويحثهم عَلَيْهِ وَيَأْمُرهُمْ بِهِ ويغلظ فِي خِلَافه، فَنَهَاهُ مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلم ينْتَه فخشي أَن يضرّهُ النَّاس فِي هَذَا، فَكتب يشكوه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان، وَأَن يأخذوه إِلَيْهِ، فاستقدمه عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْمَدِينَة وأنزله بالربذة وَحده، وَبهَا مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: {وَالَّذين يكنزون} (التَّوْبَة: 43) . قَالَ ابْن سَيّده: الْكَنْز اسْم لِلْمَالِ، وَلما يحرز فِيهِ، وَجمعه: كنوز، كنزه يكنزه كنزا واكتنزه، وكنز الشَّيْء فِي الْوِعَاء أَو الأَرْض يكنزه كنزا: غمزه فِي يَده. وَفِي (المغيث) : الْكَنْز اسْم لِلْمَالِ المدفون. وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يدرى من كنزه، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ كل شَيْء مَجْمُوع بعضه إِلَى بعض فِي بطن الأَرْض كَانَ أَو ظهرهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَصله الضَّم وَالْجمع وَلَا يخْتَص ذَلِك بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، أَلا يرى إِلَى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا أخْبركُم بِخَير مَا يكنزه الْمَرْء؟ الْمَرْأَة الصَّالِحَة) . أَي: يضمه لنَفسِهِ ويجمعه، وَاعْلَم أَن الْكَنْز

(8/248)


الْمُسْتَحق عَلَيْهِ الْوَعيد كل مَال لم تُؤَد زَكَاته، وكل مَال أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَإِن كَانَ تَحت سبع أَرضين رَوَاهُ نَافِع عَن ابْن عمر، وروى نَحوه عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا، وَعَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَي مَال أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَإِن كَانَ مَدْفُونا فِي الأَرْض، وَأي مَال لم تُؤَد زَكَاته فَهُوَ كنز يكوي بِهِ صَاحبه وَإِن كَانَ على وَجه الأَرْض. وَقَالَ الثَّوْريّ عَن أبي حُصَيْن عَن أبي الضُّحَى عَن جعدة بن هُبَيْرَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أَرْبَعَة آلَاف فَمَا دونهَا نَفَقَة فَمَا كَانَ أَكثر من ذَلِك فَهُوَ كنز، وَهَذَا غَرِيب. وَقيل: هُوَ مَا فضل من المَال عَن حَاجَة صَاحبه إِلَيْهِ. قَوْله: (الذَّهَب وَالْفِضَّة) سمي الذَّهَب ذَهَبا لِأَنَّهُ يذهب وَلَا يبْقى، وَسميت الْفضة فضَّة لِأَنَّهَا تنفض أَي تَنْصَرِف، وحسبك دلَالَة على فنائهما. قَوْله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} (التَّوْبَة: 43) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِن قلت: لِمَ قيل: وَلَا يُنْفِقُونَهَا، وَقد ذكر شَيْئَانِ؟ قلت: ذَهَابًا بالضمير إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا جملَة وافية، وعدة كَثِيرَة ودنانير ودراهم. وَقيل: ذهب بِهِ إِلَى الْكُنُوز، وَقيل: إِلَى الْأَمْوَال، وَقيل: مَعْنَاهُ وَلَا يُنْفِقُونَهَا وَالذَّهَب. فَإِن قلت: لم خصا بِالذكر من بَين سَائِر الْأَمْوَال؟ قلت: لِأَنَّهُمَا قانون التمول وأثمان الْأَشْيَاء وَلَا يكنزهما إلاَّ من فضلا عَن حَاجته. قَوْله: {يَوْم يحمى عَلَيْهَا} (التَّوْبَة: 53) . أَي: أذكر وَقت تدخل النَّار فيوقد عَلَيْهَا يَعْنِي أَن النَّار تحمى عَلَيْهَا فَلَمَّا حذفت النَّار قيل يحمى لانتقال اسناد الْفِعْل إِلَى عَلَيْهَا قَوْله: (فتكوى بهَا) الكي: إلصاق الْحَار من الْحَدِيد أَو النَّار بالعضو حَتَّى يَحْتَرِق الْجلد. قَوْله: (جباههم) جمع جبهة، وَهِي مَا بَين الحاجبين إِلَى الناصية، والجنوب جمع جنب، والظهور جمع ظهر، خصت هَذِه الْمَوَاضِع دون غَيرهَا من الْبدن لِأَنَّهَا مجوفة يصل الْحر إِلَيْهَا بِسُرْعَة، وَيُقَال لِأَن الْغَنِيّ إِذا أقبل عَلَيْهِ الْفَقِير قبض جَبهته وزوى مَا بَين عَيْنَيْهِ وطوى كشحه، وَلِأَن الكي فِي الْوَجْه أبشع وَأشهر، وَفِي الظّهْر وَالْجنب آلم وأوجع، وَقيل: إِنَّمَا خص هَذِه الْمَوَاضِع ليَقَع ذَلِك على الْجِهَات الْأَرْبَع، وَيُقَال: إِذا جَاءَ الْفَقِير إِلَى الْغَنِيّ يواجهه بِوَجْهِهِ فيولي عَنهُ وَجهه ويلتفت إِلَى جنبه، ثمَّ يَدُور الْفَقِير فَيَجِيء إِلَى نَاحيَة حنبه ويلتفت الْغَنِيّ ويولي إِلَى ظَهره، فيجازى على هَذَا الْوَجْه، وَذكر مكي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وعراك بن مَالك أَن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وَفِي الاستذكار روى الثَّوْريّ عَن ابْن انْعمْ عَن عمَارَة بن رَاشد قَرَأَ عمر رَضِي الله عَنهُ {وَالَّذين يكنزون} (التَّوْبَة: 301) . فَقَالَ مَا أَرَاهَا إلاَّ مَنْسُوخَة بقوله: {خُذ من أَمْوَالهم} (التَّوْبَة: 301) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا حميد بن مَالك حَدثنَا يحيى بن يعلى الْمحَاربي حَدثنَا أبي حَدثنَا غيلَان بن جَامع الْمحَاربي عَن عُثْمَان بن أبي الْيَقظَان عَن جَعْفَر بن أياس عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة. .} (التَّوْبَة: 43) . الْآيَة، كبر ذَلِك على الْمُسلمين، وَقَالُوا: مَا يَسْتَطِيع أحد منا لوَلَده مَالا يبْقى بعده، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنا أفرج عَنْكُم، فَانْطَلق عمر وَاتبعهُ ثَوْبَان، فَأتى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا نَبِي الله إِنَّه قد كبر على أَصْحَابك هَذِه الْآيَة، فَقَالَ نَبِي الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله لم يفْرض الزَّكَاة إلاَّ ليطيب بهَا مَا بَقِي من أَمْوَالكُم، وَإِنَّمَا فرض الْمَوَارِيث من أَمْوَال تبقى بعدكم، قَالَ: فَكبر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أخْبرك بِخَير مَا يكنز الْمَرْء: الْمَرْأَة الصَّالِحَة الَّتِي إِذا نظر إِلَيْهِ سرت، وَإِذا أمرهَا أَطَاعَته، وَإِذا غَابَ عَنْهَا حفظته) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث يعلى بن يعلى بِهِ، وَأخرجه الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْحصار فِي كِتَابه (النَّاسِخ والمنسوخ) : أَرَادَ من قَالَ بالنسخ أَن جمع المَال كَانَ محرما فِي أول الْإِسْلَام، فَلَمَّا فرضت الزَّكَاة جَازَ جمعه، وَاسْتدلَّ أَبُو بكر الرَّازِيّ من هَذِه الْآيَة على إِيجَاب الزَّكَاة فِي سَائِر الذَّهَب وَالْفِضَّة مصوغا أَو مَضْرُوبا أَو تبرا أَو غير ذَلِك، لعُمُوم اللَّفْظ. قَالَ: وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا على ضم الذَّهَب إِلَى الْفضة لإيجابه الْحق فيهمَا مجموعين، فَيدْخل تَحْتَهُ الْحلِيّ أَيْضا، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا. قَالَ أَبُو حنيفَة: بِضَم الْقيمَة كالعروض، وَعِنْدَهُمَا بالأجزاء.

2041 - حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نَافِعٍ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ هُرْمُزَ الأعْرَجَ حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأتِي الإبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا

(8/249)


عَلَى خَيْرِ مَا كانَتْ إذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأخْفَافِهَا وَتَأْتِي الغَنَمُ عَلَى صاحِبِهَا عَلى خَيْرِ مَا كانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأظْلاَفِهَا وتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا قَالَ ومِنْ حَقِّهَا أنْ تُحْلَبَ عَلَى المَاءِ قَالَ وَلاَ يَأْتِي أحَدُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ فَيقُولُ يَا مُحَمَّدُ فأقُولُ لاَ أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ بَلَّغْتُ وَلاَ يَأتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ فأقُولُ لاَ أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ بَلَّغْتُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يخبر عَن مَانع الزَّكَاة مَا يعذب بِهِ، وَلَا يعذب أحد إلاَّ على ترك فرض من الْفَرَائِض، وَلَو لم يكن فِي مَنعه الزَّكَاة آثِما لما اسْتوْجبَ هَذِه الْعقُوبَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الحكم، بِفتْحَتَيْنِ: ابْن نَافِع أَبُو الْيَمَان البهراني الْحِمصِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي. الثَّالِث: أَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: واسْمه عبد الله بن ذكْوَان. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَقد تكَرر ذكره. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد على صِيغَة الْمَاضِي، وَفِي مَوضِع على صِيغَة الْمُسْتَقْبل. وَفِيه: أَن نصف السَّنَد حمصي وَنصفه مدنِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن سُوَيْد بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا حَفْص بن ميسرَة الصَّنْعَانِيّ عَن زيد بن أسلم أَن أَبَا صَالح ذكْوَان أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من صَاحب ذهب وَلَا فضَّة لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا إلاَّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة صفحت لَهُ صَفَائِح من نَار فأحمى عَلَيْهَا فيكوى بهَا جنبه وجبينه، وظهره كلما بردت أُعِيدَت لَهُ فِي يَوْم كَانَ مقدراه خمسين ألف سنة حَتَّى يقْضى بَين الْعباد، فَيرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار. قيل: يَا رَسُول الله فالإبل؟ قَالَ: وَلَا صَاحب إبل لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا، وَمن حَقّهَا حلبها يَوْم وُرُودهَا إلاَّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نطح بهَا بقاع قرقر أوفر مَا كَانَت لَا يفقد مِنْهَا فصيلاً وَاحِدًا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عَلَيْهِ أولاها رد عَلَيْهِ أخراها فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة، حَتَّى يقْضى بَين الْعباد فَيرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار. قيل: يَا رَسُول الله، فالبقر وَالْغنم؟ قَالَ: وَلَا صَاحب بقر وَلَا غنم لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا إلاَّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نطح بهَا بقاع قرقر لَا يفقد مِنْهَا شَيْئا لَيْسَ فِيهَا عقصاء وَلَا جلحاء وَلَا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عَلَيْهِ أولاها رد عَلَيْهِ أخراها فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة حَتَّى يقْضِي بَين الْعباد فَيرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار. .) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد رَحمَه الله تَعَالَى، مُخْتَصرا، وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي الْبَاب عَن جَابر أَيْضا أخرجه مُسلم مُنْفَردا من رِوَايَة أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: إِنَّه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من صَاحب إبل لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أَكثر مَا كَانَت وَقعد لَهَا بقاع قرقر تستن عَلَيْهِ بقوائمها وأخفافها، وَلَا صَاحب بقر لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أَكثر مَا كَانَت وَقعد لَهَا بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، وَلَا صَاحب غنم لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أَكثر مَا كَانَت وَقعد لَهَا بقاع قرقر تنطحه وتطؤه بأظلافها لَيْسَ فِيهَا جماء وَلَا منكسر قرنها. .) الحَدِيث، وَعَن عبد الله بن الزبير أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من صَاحب إبل إلاَّ يُؤْتى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِذا لم يكن يُؤَدِّي حَقّهَا فتمشي عَلَيْهِ بقاع تطؤه بأخفافها وَيُؤْتى بِصَاحِب الْبَقر إِذا لم يكن يُؤَدِّي حَقّهَا فتمشي عَلَيْهِ بقاع تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، وَيُؤْتى بِصَاحِب الْغنم إِذا لم يكن يُؤَدِّي حَقّهَا فتمشي عَلَيْهِ بقاع فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها لَيْسَ فِيهَا جماء وَلَا مَكْسُورَة الْقرن، وَيُؤْتى بِصَاحِب الْكَنْز فيمثل لَهُ شُجَاع أَقرع فَلَا يجد شَيْئا فَيدْخل يَده فِي فِيهِ) . وَفِي إِسْنَاده أَبُو حُذَيْفَة، فَإِن كَانَ هُوَ صَاحب كتاب الْمُنْتَقى فَهُوَ مَتْرُوك، واسْمه إِسْحَاق بن بشير. قَوْله: (تَأتي الْإِبِل) الْإِبِل اسْم الْجمع وَهُوَ مؤنث

(8/250)


وَكَذَلِكَ الْغنم، قَوْله: (على صَاحبهَا) قَالَ بِلَفْظ: على، بَيَانا لاستعلائها وتسلطها عَلَيْهِ. قَوْله: (على خير مَا كَانَت) ، يَعْنِي: فِي الْقُوَّة وَالسمن ليَكُون أَشد لفعلها، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي ذَر: (إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أعظم مَا كاكنت وأسمنه) ، أَي: أعظم مَا كَانَت عِنْد الَّذِي منع زَكَاتهَا، لِأَنَّهَا قد تكون عِنْده على حالات مرّة هزيلة وَمرَّة سَمِينَة وَمرَّة صَغِيرَة وَمرَّة كَبِيرَة، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا تَأتي على أعظم أحوالها عِنْد صَاحبهَا، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أوفر مَا كَانَت) ، أَي: أحسن مَا كَانَت من السّمن وَصَلَاح الْحَال. قَوْله: (فتطؤه بأخفافها) ، سَقَطت الْوَاو من: تطؤ، عِنْد بعض النَّحْوِيين لشذوذ هَذَا الْفِعْل من بَين نَظَائِره فِي التَّعَدِّي، لِأَن الْفِعْل إِذا كَانَ فاؤه: واوا، وَكَانَ على: فعل، بِكَسْر الْعين كَانَ غير مُتَعَدٍّ غير هَذَا الْحَرْف، وَآخر وَهُوَ: وسع، فَلَمَّا شذا دون نظائرهما أعطيا هَذَا الحكم وَقيل: إِن أَصله: توطىء، بِكَسْر الطَّاء فَسَقَطت لوقوعها بَين يَاء وكسرة، ثمَّ فتحت الطَّاء لأجل الْهمزَة، و: الأخفاف، جمع: خف الْبَعِير، والخف من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الظلْف للغنم والقدم للآدمي والحافر للحمار والبغل وَالْفرس، والظلف للبقر وَالْغنم والظبا وكل حافر منشق منقسم فَهُوَ ظلف، وَقد استعير الظلْف للْفرس. قَوْله: (وتنطحه) قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة: تنطحه، بِكَسْر الطَّاء وَفِيه لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي: الْفَتْح وَالْكَسْر، فالكسر هُوَ الْأَصَح وماضيه مخفف وَقد يشدد وَلَا يخْتَص بالكبش كَمَا ادَّعَاهُ ابْن بل يسْتَعْمل فِي الثور وَغَيره. قَوْله: (وَمن حَقّهَا أَن تحلب على المَاء) أَي لتسقي أَلْبَانهَا أَبنَاء السَّبِيل وَالْمَسَاكِين الَّذين ينزلون على المَاء، وَلِأَن فِيهِ الرِّفْق على الْمَاشِيَة لِأَنَّهُ أَهْون لَهَا وأوسع عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْن بطال: يُرِيد حق الْكَرم والمواساة وشريف الأخلاف، لَا أَن ذَلِك فرض. وَقَالَ أَيْضا: كَانَت عَادَة الْعَرَب التَّصَدُّق بِاللَّبنِ على المَاء. فَكَانَ الضُّعَفَاء يرصدون ذَلِك مِنْهُم. قَالَ: وَالْحق حقان فرض عين وَغَيره، فالحلب من الْحُقُوق الَّتِي هِيَ من مَكَارِم الْأَخْلَاق. وَقَالَ إِسْمَاعِيل القَاضِي: الْحق المفترض هُوَ الْمَوْصُوف الْمَحْدُود، وَقد تحدث أُمُور لَا تحد فَتجب فِيهَا الْمُوَاسَاة للضَّرُورَة الَّتِي تنزل من ضيف مُضْطَر أَو جَائِع أَو عَار أَو ميت لَيْسَ لَهُ من يواريه، فَيجب حِينَئِذٍ على من يُمكنهُ الْمُوَاسَاة الَّتِي تَزُول بهَا هَذِه الضرورات. قَالَ ابْن التِّين: وَقيل: كَانَ هَذَا قبل فرض الزَّكَاة، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي: بَاب الشّرْب، من كتاب البُخَارِيّ من روى: يجلب، بِالْجِيم أَرَادَ يجلب لموْضِع سقيها فيأتيها الْمُصدق، قَالَ: وَلَو كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ: أَن يجلب إِلَى المَاء، وَلم يقل: على المَاء. انْتهى. قلت: رَأْي الْكُوفِيّين أَن حُرُوف الْجَرّ يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَيجوز أَن يكون: على، بِمَعْنى: إِلَى. وَفِي (الْمطَالع) : ذكر الدَّاودِيّ أَنه يرْوى: يجلب، بِالْجِيم وَفَسرهُ بالجلب إِلَى الْمُصدق. قَوْله: (لَهَا يعار) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة، كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة. وَقَالَ فِي (الْمطَالع) : فِي بَاب منع الزَّكَاة: لَهَا ثعار، بالثاء الْمُثَلَّثَة عِنْد أبي أَحْمد، وَعند أبي زيد: تعار أَو يعار على الشَّك، وَعند غَيرهمَا بالغين الْمُعْجَمَة. وَفِي: بَاب الْغلُول: شَاة لَهَا ثُغَاء أَو يعار، والثغاء للضأن واليعار للمعز. وَفِي (الْمُحكم) : اليعار صَوت الْغنم، وَقيل: صَوت الْمعز، وَقيل: هُوَ الشَّديد من أصوات الشَّاء يعرت تَيْعر وتيعر، الْفَتْح عَن كرَاع. وَقَالَ الْقَزاز: اليعار لَيْسَ بِشَيْء إِنَّمَا هُوَ الثغاء، وَهُوَ صَوت الشَّاة، وَيجوز أَن يكون كتب الْحَرْف بِالْهَمْزَةِ أَمَام الْألف فظنت رَاء. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : اليعور الشَّاة الَّتِي تبول على محلبها فَيفْسد اللَّبن. قَوْله: (لَا أملك لَك) أَي: للتَّخْفِيف عَنْك، وَقد بلغت إِلَيْك حكم الله. قَوْله: (بِبَعِير) الْبَعِير بقع على الذّكر وَالْأُنْثَى من الْإِبِل، وَيجمع على أَبْعِرَة وبعران. قَوْله: (رُغَاء) أَي: للبعير رُغَاء، بِضَم الرَّاء وبالغين الْمُعْجَمَة، والرغاء لِلْإِبِلِ خَاصَّة، وَبَاب الْأَصْوَات يَجِيء فِي الْغَالِب على: فعال، كالبكاء، وعَلى: فعيل كالصهيل، وعَلى: فعللة كالحمحمة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا يدل على وجوب الزَّكَاة فِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَأما كَيْفيَّة مقدارها فِي كل صنف فَفِي أَحَادِيث أُخْرَى. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بَعضهم أَن الْحق غير الزَّكَاة بَاقٍ فِي ألبان الْمَاشِيَة وأثمار الْأَشْجَار للقراء وَأَبْنَاء السَّبِيل. وَقَالُوا: قد عَابَ الله تَعَالَى قوما أخفوا جذاذهم فِي قَوْله: {ليصرمنها مصبحين} (الْقَلَم: 71) . أَرَادوا: أَن لَا يُصِيب الْمُسلمين مِنْهَا شَيْء وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . نَحوا من هَذَا، وَأَنه بَاقٍ مَعَ الزَّكَاة، ويحكى هَذَا عَن الشّعبِيّ وَالْحسن وَعَطَاء

(8/251)


وطاووس وَعَن أبي هُرَيْرَة: حق الْإِبِل أَن تنحر السمينة وتمنح العزيزة ويفقد الظّهْر وتطرق الْفَحْل وتسقى اللَّبن، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء أَن هَذَا على النّدب والمواساة. وَفِيه: مَا يدل على أَن الله تَعَالَى يبْعَث الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم الَّتِي منعت زَكَاتهَا بِعَينهَا ليعذب بهَا مانعها، كَمَا صرح بِهِ فِي الحَدِيث. وَأما المَال الَّذِي لَيْسَ بحيوان الَّذِي منع فِيهِ الزَّكَاة فَإِنَّهُ يمثل لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شجاعا أَقرع، على مَا يَجِيء عَن قريب، وَيحْتَمل أَن عين مَاله يَنْقَلِب ثعبانا يعذب بِهِ صَاحبه وَلَا يُنكر قلب الْأَعْيَان فِي الْآخِرَة.

3041 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا هاشِمُ بنُ القَاسِمْ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله بنِ دِينَارِ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي صالِحٍ السَّمَّانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ آتاهُ الله مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعا أقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ ثُمَّ يَأخ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أنَا مالُكَ أنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلاَ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (آل عمرَان: 081) . الْآيَة..

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي مُطَابقَة الحَدِيث الأول.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، تكَرر ذكره. الثَّانِي: هَاشم بن الْقَاسِم أَبُو النَّضر التَّمِيمِي، وَيُقَال اللَّيْثِيّ الْكِنَانِي. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ بِبَغْدَاد يَوْم الْأَرْبَعَاء غرَّة ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ، مر فِي: بَاب وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله مر فِي: بَاب الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان. الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله بن دِينَار مولى عبد الله بن عمر بن الْخطاب مر فِي: بَاب أُمُور الْإِيمَان. الْخَامِس: أَبُو صَالح واسْمه ذكْوَان الزيات. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي وَأَن هاشما خراساني سكن بَغْدَاد وَعبد الرَّحْمَن وأباه وَأَبا صَالح مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن أَبِيه وَجعل أَبُو الْعَبَّاس الطرقي هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله حَدِيثا وَاحِدًا، وَرَوَاهُ مَالك فِي (موطئِهِ) : عَن عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح فَوَقفهُ على أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر: وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عِنْد النَّسَائِيّ عَن عبد الله بن دِينَار سَأَلَ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي خطأ، وَالْمَحْفُوظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث عبد الْعَزِيز خطأ بيّن فِي الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْده عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَا رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة أبدا، وَرِوَايَة مَالك وَعبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله فِيهِ هِيَ الصَّحِيحَة، وَهُوَ مَرْفُوع صَحِيح، وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود مثله، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَعند مُسلم من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من صَاحب إبل) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن مُنِير عَن أبي النَّضر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن الْفضل بن سهل عَن الْحسن بن مُوسَى الأشيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار عَن أَبِيه، وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاة مَاله يخيل إِلَيْهِ مَاله يَوْم الْقِيَامَة شجاعا أَقرع لَهُ زَبِيبَتَانِ، قَالَ: فَيلْزمهُ أَو يطوقه، قَالَ: فَيَقُول: أَنا كَنْزك أَنا كَنْزك) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من أَتَاهُ الله تَعَالَى) ، بِمد الْهمزَة أَي: من أعطَاهُ الله. قَوْله: (مثل لَهُ) ، أَي: صور لَهُ مَاله الَّذِي لم يؤد زَكَاته شجاعا، أَو ضمن: مثل، معنى التصيير أَي: صير مَاله على صُورَة شُجَاع، وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَمثل، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين تَقول: مثلت الشمع فرسا فَإِذا بني لما لم يسم فَاعله تعدى إِلَى مفعول وَاحِد، فَلِذَا قَالَ: مثل لَهُ شجاعا أَقرع. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ أَن قَوْله: مثل، على صِيغَة الْمَجْهُول الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: (مَالا) ، وَقد نَاب عَن الْمَفْعُول الأول. وَقَوله: (شجاعا) مَنْصُوب على أَنه مفعول ثَان. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: (شجاعا) نصب يجْرِي مجْرى الْمَفْعُول الثَّانِي، أَي: صور مَاله شجاعا. وَقَالَ ابْن قرقول: وبالرفع ضبطناه، وَهِي رِوَايَة الطرابلسي

(8/252)


فِي (الْمُوَطَّأ) وَلغيره شجاعا كَأَنَّهُ مفعول ثَان. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) : وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي: شُجَاع، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ الَّذِي أقيم مقَام الْفَاعِل الأول: لمثل، لِأَنَّهُ أخلاه من الضَّمِير وَجعل لَهُ مَفْعُولا وَاحِدًا، وَلَا يكون الشجاع كِنَايَة عَن المَال الَّذِي لم تُؤَد زَكَاته وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَة حَيَّة يخلق مَاله حَيَّة تفعل بِهِ ذَلِك، يعضد ذَلِك أَنه لم يذكر فِي رِوَايَته مَاله بِخِلَاف مَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ قلت: وللبخاري أَيْضا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة لَفْظَة: مَاله، مَذْكُورَة، وَفِي رِوَايَة غير مَذْكُورَة، والشجاع: الْحَيَّة، وسمى أَقرع لِأَنَّهُ يقرع السم ويجمعه فِي رَأسه حَتَّى تتمعط مِنْهُ فَرْوَة رَأسه، وَفِي (جَامع) الْقَزاز: لَيْسَ على رُؤُوس الْحَيَّات شعر، وَلَكِن لَعَلَّه يذهب جلد رَأسه. وَفِي (الموعب) : الشجاع ضرب من الْحَيَّات، وَالْجمع: الشجعان، وَثَلَاثَة أشجعة. وَفِي (التَّهْذِيب) : هُوَ الْحَيَّة الذّكر، وَقَالَ اللحياني: يُقَال للحية شُجَاع وشجاع وشجعان وَيُقَال للحية أَيْضا أَشْجَع وَقَالَ شمر فِي (كتاب الْحَيَّات) : الشجاع ضرب من الْحَيَّات لطيف دَقِيق، وَهُوَ كَمَا زَعَمُوا أجرؤها. وَفِي (الْمُحكم) شجعان بِالْكَسْرِ أَكثر. وَفِي (البارع) لأبي عَليّ القالي: شجعة، بِفَتْح الشين وَالْجِيم: إِذا كَانَ طَويلا ملتويا. وَفِي (الاستذكار) : وَقيل: الشجاع الثعبان، وَقيل: الْحَيَّة، وَقيل: هُوَ الَّذِي يواثب الْفَارِس والراجل وَيقوم على ذَنبه، وَرُبمَا بلغ وَجه الْفَارِس وَيكون فِي الصحارى، والأقرع الَّذِي فِي رَأسه بَيَاض. وَقيل: كلما كثر سمه ابيض رَأسه، وَقَالَ ابْن خالويه: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب اسْم الْحَيَّات وصفاتها إلاَّ مَا كتبته فِي هَذَا الْبَاب، فَذكر أَرْبَعَة وَثَمَانِينَ اسْما. قَوْله: (زَبِيبَتَانِ) ، بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: الزّبد فِي الشدقين إِذا غضب، يُقَال: تكلم فلَان حَتَّى زبد شدقاه، أَي: خرج الزّبد عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) : الزبيبتان الزبدتان فِي الشدقين، وَمِنْه الْحَيَّة ذُو الزبيبتين وهما النكتتان السوداوان فَوق عَيْنَيْهِ، وَقيل: هما نقطتان تكتنفان فاها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هما نابان يخرجَانِ من فِيهَا، وَأنكر بَعضهم هَذَا، وَقَالَ: هَذَا لَا يُوجد. وَيُقَال: الْحَيَّة ذُو الزبيبتين أَخبث مَا يكون من الْحَيَّات. وَقَالَ أَبُو عمر: هما عَلَامَات الْحَيَّة الذّكر المؤذي. وَقَالَ ابْن حبيب عَن مطرف: لَهُ زَبِيبَتَانِ فِي خلقه بِمَنْزِلَة زنمتى العنز. وَفِي (المسالك) لِابْنِ الْعَرَبِيّ: سُئِلَ مَالك عَن الزبيبتين؟ فَقَالَ: أراهما شنشنتين تَكُونَانِ على رَأسه مثل القرنين. قَوْله: (يطوقه) ، بِفَتْح الْوَاو: يَجْعَل طوقا فِي عُنُقه. وَفِي رِوَايَة: (وَحَتَّى يطوقه) ، وَفِي (التَّلْوِيح) : قَالَ أَبُو السعادات: يجوز أَن تكون الْوَاو أَي: مَفْتُوحَة يَعْنِي: حَتَّى يطوقه الله تَعَالَى فِي عُنُقه، كَأَنَّهُ قيل: يَجْعَل لَهُ طوقا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَهُوَ تَشْبِيه لذكر الْمُشبه والمشبه بِهِ، كَأَنَّهُ قيل: يَجعله كالطوق فِي عُنُقه. قلت: الضَّمِير الَّذِي فِيهِ مَفْعُوله الأول وَالضَّمِير البارز مَفْعُوله الثَّانِي وَهُوَ يرجع إِلَى: من، فِي قَوْله: (من آتَاهُ الله مَالا) ، وَالضَّمِير الْمُسْتَتر يرجع إِلَى الشجاع. وَفِي (التَّلْوِيح) : الْهَاء، عَائِدَة إِلَى الطوق لَا إِلَى المطوق وَفِيه مَا فِيهِ. قَوْله: (بِلِهْزِمَتَيْهِ) ، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون الْهَاء وَكسر الزَّاي تَثْنِيَة لهزمة، قَالَ ابْن سَيّده: اللهزمتان: مضيغتان فِي أصل الحنك، وَقيل: هما مضيغتان فِي منحنى اللحيين أَسْفَل من الْأُذُنَيْنِ، وهما مُعظم اللحيين، وَقيل: هما تَحت الْأُذُنَيْنِ من أَعلَى اللحيين والخدين، وَقيل: هما مُجْتَمع اللَّحْم بَين الماضغ وَالْأُذن من اللحي، زَاد صَاحب (الموعب) : لهزمتان، يُقَال: شنشنان، وَيُقَال، للْفرس الموسوم على ذَلِك الْمَكَان: ملهوز، وَفِي (الْجَامِع) : هِيَ لحم الْخَدين اللَّذين يَتَحَرَّك إِذا أكل الْإِنْسَان، وَالْجمع: اللهازم، وَفِي (الجمهرة) : لهزمه إِذا ضرب لهزمته، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هما الماضغتان اللَّتَان بَين الْأذن والفم. قَوْله: (يَعْنِي شدقيه) ، بِكَسْر الشين هَذَا التَّفْسِير فِي الحَدِيث أَي جَانِبي الْفَم. قَوْله: (ثمَّ يَقُول) الشجاع المصور من المَال: (أَنا مَالك أَنا كَنْزك) يُخَاطب بِهِ صَاحب المَال لمزيد الغصة والهم، لِأَنَّهُ شَرّ أَتَاهُ من حَيْثُ كَانَ يَرْجُو فِيهِ خيرا، وَفِيه نوع تهكم. قَوْله: (ثمَّ تَلا) أَي: قَرَأَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ} (آل عمرَان: 081) . الْآيَة، وتلاوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه تدل على أَنَّهَا نزلت فِي مَانع الزَّكَاة، وَقيل: إِن المُرَاد بهَا الْيَهُود لأَنهم بخلوا، وَالْمعْنَى سيطوقون الْإِثْم، وَتَأَول مَسْرُوق أَنَّهَا نزلت فِيمَن لَهُ مَال فَيمْنَع قرَابَته صلته فيطوق حَيَّة كَمَا سلف، وَأكْثر الْعلمَاء على أَن ذَلِك فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَقيل: فِي الْأَحْبَار الَّذين كتموا صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة على فَرضِيَّة الزَّكَاة لِأَن الْوَعيد الشَّديد يدل على ذَلِك. وَفِيه: مَا يدل على قلب الْأَعْيَان وَذَلِكَ فِي قدرَة الله تَعَالَى هَين لَا يُنكر. وَفِيه: أَن لفظ: مَالا، بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغَيرهمَا من الْأَمْوَال الزكوية، وَقَالَ الْمُهلب: لم ينْقل عَن الشَّارِع زَكَاة الذَّهَب من طَرِيق الْخَبَر، كَمَا نقل عَنهُ زَكَاة الْفضة. قلت: صَحَّ من حَدِيث أبي بكر بن مُحَمَّد ابْن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات مطولا،

(8/253)


وَفِيه: (وَفِي كل أَرْبَعِينَ دِينَارا دِينَار) ، رَوَاهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَكَانَ صرف الدِّينَار عشرَة دَرَاهِم فَعدل الْمُسلمُونَ بِخمْس أوراق من الْفضة عشْرين مِثْقَالا، وجعلوه زَكَاة نِصَاب الذَّهَب، وتواتر الْعَمَل بِهِ، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء: أَن الذَّهَب إِذا كَانَ عشْرين مِثْقَالا وَقيمتهَا مِائَتَا دِرْهَم فِيهَا نصف دِينَار إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن أَنه لَيْسَ فِيمَا دون أَرْبَعِينَ دِينَارا زَكَاة، وَهُوَ شَاذ لَا يعرج عَلَيْهِ وَذَهَبت طَائِفَة إلاَّ أَن الذَّهَب إِذا بلغت قِيمَته مِائَتي دِرْهَم فَفِيهِ زَكَاة وَإِن كَانَ أقل من عشْرين مِثْقَالا، وَهُوَ قَول عَطاء وطاووس وَالزهْرِيّ، فَجعلُوا الْفضة أصلا فِي الزَّكَاة.

4 - (بابٌ مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن المَال الَّذِي أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَقع هَكَذَا عِنْد أبي ذَر، وَوَقع عِنْد أبي الْحسن: بَاب من أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، قَالَ ابْن التِّين مَعْنَاهُ فَلَيْسَ بِذِي كنز. قلت: على هَذَا الْوَجْه لَا بُد من تَأْوِيل، لِأَن الْخَبَر لَا بُد أَن يكون من المشتقات ليَصِح الْحمل على الْمُبْتَدَأ.
لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ
علل البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث حَيْثُ ذكره بلام التَّعْلِيل صِحَة تَرْجَمته بقوله: بَاب مَا أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، لِأَن شَرط كَون الْكَنْز شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يكون نِصَابا، وَالثَّانِي أَن لَا يخرج مِنْهُ زَكَاته فَإِذا عدم النّصاب لَا يلْزمه شَيْء فَلَا يكون كنزا، وَلَا يدْخل تَحت قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 43) . فَلَا يسْتَحق الْعَذَاب وَإِذا وجد النّصاب وَلم يزك يكون كنزا، فَيدْخل تَحت الْآيَة، وَيسْتَحق الْعَذَاب، وَإِذا وجد النّصاب وزكى لَا يكون كنزا فَلَا يسْتَحق الْعَذَاب، وَهَذَا هُوَ التَّرْجَمَة. فَإِن قلت: كَيفَ يُطَابق هَذَا التَّعْلِيل التَّرْجَمَة والترجمة فِيمَا أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، والْحَدِيث فِيمَا إِذا كَانَ الْعين أقل من خَمْسَة أَوَاقٍ لَيست فِيهَا صَدَقَة، أَي: زَكَاة، وَبِهَذَا الْوَجْه اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ على هَذِه التَّرْجَمَة. قلت: تكلّف فِيهِ بِأَن قيل: إِن مُرَاده أَن مَا دون خَمْسَة أَوَاقٍ لَيْسَ بكنز، لِأَنَّهُ لَا صَدَقَة فِيهِ، فَإِذا كَانَت خَمْسَة أَوَاقٍ أَو أَكثر وَأدّى زَكَاتهَا فَلَيْسَتْ بكنز، فَلَا يدْخل تَحت الْوَعيد. وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: نزع البُخَارِيّ بِأَن كل مَا أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز لإِيجَاب الله تَعَالَى على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل خمس أَوَاقٍ ربع عشرهَا، فَإِذا كَانَ ذَلِك فرض الله تَعَالَى على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فمعلوم أَن الْكَنْز هُوَ المَال وَإِن بلغ ألوفا، إِذا أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَلَا يحرم على صَاحبه اكتنازه لِأَنَّهُ لم يتوعد عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْوَعيد على مَا لم تُؤَد زَكَاته. وَقيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة حَدِيثا رَوَاهُ جَابر مَرْفُوعا: (أَيّمَا مَال أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز) ، لكنه لَيْسَ على شَرطه فَلم يُخرجهُ. انْتهى. قلت: هَذَا مستبعد جدا لِأَنَّهُ كَيفَ يترجم بِشَيْء ثمَّ يعلله بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَيُشِير إِلَى حَدِيث آخر لَيْسَ عِنْده بِصَحِيح، وَهَذَا غير موجه، وَلَو قَالَ هَذَا الْقَائِل: أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة حَدِيثا روته أم سَلمَة مَرْفُوعا: (مَا بلغ أَن تُؤَدّى زَكَاته فَزكِّي فَلَيْسَ بكنز) ، لَكَانَ لَهُ وَجه مَا، لِأَن حَدِيث أم سَلمَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة ثَابت بن عجلَان (عَن عَطاء عَنْهَا قَالَت: كنت ألبس أَوْضَاحًا من ذهب، فَقلت: يَا رَسُول الله أكنز هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بلغ أَن تُؤَدّى زَكَاته فَزكِّي فَلَيْسَ بكنز) ، وَإِسْنَاده جيد وَرِجَاله رجال البُخَارِيّ، وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا وَصَححهُ، وَقَالَ: على شَرط البُخَارِيّ. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَد ضَعِيف، وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي (الْعِلَل) لِابْنِ أبي حَاتِم: الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة ابْن جريج عَن أبي الزبير عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا أدّيت زَكَاة مَالك فقد أذهبت عَنْك شَره) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يُخرجهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ هَكَذَا، ثمَّ رَوَاهُ مَوْقُوفا على جَابر وَقَالَ: هَذَا أصح، وَيَجِيء الْكَلَام فِي معنى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أَوَاقٍ صَدَقَة) فِي حَدِيث أبي سعيد فِي هَذَا الْبَاب.
(وَقَالَ أَحْمد بن شبيب بن سعيد حَدثنَا أبي عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن خَالِد بن أسلم

(8/254)


قَالَ خرجنَا مَعَ عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ أَعْرَابِي أَخْبرنِي قَول الله وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا من كنزها فَلم يؤد زَكَاتهَا فويل لَهُ إِنَّمَا كَانَ هَذَا قبل أَن تنزل الزَّكَاة فَلَمَّا أنزلت جعلهَا الله طهرا للأموال) مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَفْهُوم لِأَن مَفْهُوم قَوْله " من كنزها فَلم يؤد زَكَاتهَا " إِذا أدّى زَكَاتهَا لَا يسْتَحق الْوَعيد فَإِذا لم يسْتَحق الْوَعيد بِسَبَب أَدَائِهِ الزَّكَاة يدْخل فِي معنى التَّرْجَمَة وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد فِي النَّاسِخ والمنسوخ عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي عَن أَحْمد بن شبيب بِإِسْنَادِهِ وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد دعْلج بن أَحْمد السّخْتِيَانِيّ بِبَغْدَاد حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن زيد الصَّائِغ حَدثنَا أَحْمد بن شبيب حَدثنَا أبي إِلَى آخِره بِهَذَا الْإِسْنَاد وَفِيه زِيَادَة وَهُوَ قَوْله " ثمَّ الْتفت إِلَيّ فَقَالَ مَا أُبَالِي لَو كَانَ لي مثل أحد ذَهَبا أعلم عدده وأزكيه وأعمل فِيهِ بِطَاعَة الله تَعَالَى " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول أَحْمد بن شبيب بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء أُخْرَى الحبطي بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى الحبطات من بني تَمِيم وَهُوَ الْحَارِث بن عَمْرو بن تَمِيم بن مرّة والْحَارث هُوَ الحبط وَولده يُقَال لَهُم الحطبات روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي مَنَاقِب عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَفِي الاستقراض مُفردا وَفِي غير مَوضِع مَقْرُونا إِسْنَاده بِإِسْنَاد آخر قَالَ ابْن قَانِع مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَقَالَ ابْن عَسَاكِر سنة تسع وَثَلَاثِينَ. الثَّانِي أَبوهُ شبيب بن سعيد أبي سعيد الحبطي مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي وَقد مر غير مرّة. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس خَالِد بن أسلم أَخُو زيد بن أسلم مولى عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التصدير بالْقَوْل من غير تحديث وَفِيه أَحْمد بن شبيب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر حَدثنَا أَحْمد وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن أَحْمد وأباه بصريان وَيُونُس أيلي مصري وَابْن شهَاب وخالدا مدنيان وَفِيه أَن أَحْمد من أَفْرَاده وَفِيه رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَفِيه أَن خَالِدا من أَفْرَاده وَقَالَ الْحميدِي لَيْسَ فِي الصَّحِيح لخَالِد غير هَذَا (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير نَحْو مَا أخرجه هُنَا وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب عَن ابْن لَهِيعَة عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ نَحوه (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " من كنزها " إِفْرَاد الضَّمِير إِمَّا على تَأْوِيل الْأَمْوَال أَو أعَاد الضَّمِير إِلَى الْفضة لِأَن الِانْتِفَاع بهَا أَكثر أَو لِكَثْرَة وجودهَا وَالْحَامِل على ذَلِك رِعَايَة لفظ الْقُرْآن قَوْله " فويل لَهُ " الويل الْحزن والهلاك وَالْمَشَقَّة من الْعَذَاب وَالْمعْنَى فالعذاب لمن كنز الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلم ينفقهما فِي سَبِيل الله وارتفاع ويل على الِابْتِدَاء قَوْله " قبل أَن تتنزل الزَّكَاة " وَاخْتلف فِي أول وَقت فرض الزَّكَاة فَعِنْدَ الْأَكْثَرين وَقع بعد الْهِجْرَة فَقيل كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة قبل فرض رَمَضَان وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ فِي السّنة التَّاسِعَة ورد عَلَيْهِ لوُرُود ذكرهَا فِي عدَّة أَحَادِيث قبل ذَلِك وَكَذَا مُخَاطبَة أبي سُفْيَان مَعَ هِرقل وَكَانَ يَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَكَانَت فِي أول السَّابِعَة (فَإِن قلت) يدل على مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الْأَثِير مَا وَقع فِي قَضِيَّة ثَعْلَبَة بن حَاطِب المطولة وفيهَا لما أنزلت آيَة الصَّدَقَة بعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاملا فَقَالَ مَا هَذِه إِلَّا جِزْيَة أَو أُخْت الْجِزْيَة والجزية إِنَّمَا وَجَبت فِي التَّاسِعَة فَتكون الزَّكَاة فِي التَّاسِعَة (قلت) هَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ (فَإِن قلت) ادّعى ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه أَن فَرضهَا كَانَ قبل الْهِجْرَة وَاحْتج بِمَا أخرجه من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فِي قصَّة هجرتهم إِلَى الْحَبَشَة وفيهَا أَن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ للنجاشي فِي جملَة مَا أخبرهُ بِهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام (قلت) أُجِيب بِأَن فِيهِ نظرا لِأَن الصَّلَوَات خمس لم تكن فرضت بعد وَلَا صِيَام رَمَضَان وَأجَاب بَعضهم بِأَن مُرَاجعَة

(8/255)


جَعْفَر لم تكن فِي أول مَا قدم على النَّجَاشِيّ وَإِنَّمَا أخبرهُ بذلك بعد مُدَّة قد وَقع فِيهَا مَا ذكر من قَضِيَّة الصَّلَاة وَالصِّيَام وَبلغ ذَلِك جعفرا فَقَالَ يَأْمُرنَا بِمَعْنى يَأْمر أمته (قلت) هَذَا بعيد جدا (فَإِن أُجِيب) بِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد من الصَّلَاة الصَّلَوَات الْخمس وَلَا من الزَّكَاة الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وَلَا من الصّيام صَوْم شهر رَمَضَان بل المُرَاد من الصَّلَاة الصَّلَاة الَّتِي كَانُوا يصلونها رَكْعَتَيْنِ قبل فَرضِيَّة الْخمس وَالْمرَاد من الصَّوْم مُطلق الصَّوْم لأَنهم رُبمَا كَانُوا يَصُومُونَ اتبَاعا للشريعة الَّتِي كَانَت قبل وَالْمرَاد من الزَّكَاة الصَّدَقَة فَلَا بَأْس بِهَذَا التَّأْوِيل وَذَلِكَ بعد أَن يسلم حَدِيث أم سَلمَة من قدح فِي إِسْنَاده فَافْهَم قَوْله " طهرا للأموال " أَي فِي حق الْفُقَرَاء وَهِي أوساخ النَّاس وَلِهَذَا لَا تحل لبني هَاشم كَمَا ورد فِي حَدِيث مُسلم " أَن الصَّدَقَة لَا تنبغي لآل مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس " فَإِذا أخرجت الزَّكَاة يحصل الطُّهْر للأموال وَكَذَلِكَ هِيَ طهر لأصحابها عَن رذائل الْأَخْلَاق وَالْبخل -
5041 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ يَزِيدَ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبُ بنُ أسْحَاقَ قَالَ الأوْزَاعَيُّ أَخْبرنِي يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ أنَّ عَمْرَو بنَ يَحْيى بنِ عُمَارَةَ أخْبَرَهُ عنْ أبِيهِ يَحْيى بنِ عُمَارَةَ بنِ أبِي الحَسَنِ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوْسقٍ صَدَقَةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا ذَكرنَاهَا عِنْد الحَدِيث الْمُعَلق فِي أَوَائِل الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِسْحَاق بن يزِيد من الزِّيَادَة هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن يزِيد أَبُو النَّضر السَّامِي. الثَّانِي: شُعَيْب بن إِسْحَاق، مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير. الْخَامِس: عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة. السَّادِس: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة، بِضَم الْعين: ابْن أبي الْحسن الْمَازِني الْأنْصَارِيّ. السَّابِع: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: واسْمه سعيد ابْن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: عَن أَبِيه يحيى بن عمَارَة، وَفِي رِوَايَة يحيى بن سعيد: عَن عَمْرو أَنه سمع أَبَاهُ. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِيه. وَأَنه وشعيبا وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيون وَيحيى يمامي طائي وَعَمْرو وَأَبوهُ مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عبد الله بن يُوسُف وَعَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان كِلَاهُمَا عَن مَالك، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح عَن اللَّيْث وَعَن عَمْرو النَّاقِد عَن عبد الله بن إِدْرِيس وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعلي أبي كَامِل الجحدري وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن عبد بن حميد وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله ابْن سعيد وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن أَحْمد بن عَبدة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن مهْدي وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور الطوسي وَعَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَوَاقٍ) ، وَقع هُنَا أَوَاقٍ بِدُونِ الْيَاء، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أواقي، بِالْيَاءِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَوَقع أَيْضا بِدُونِ الْيَاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَهِي جمع: أُوقِيَّة، بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء، وَيجمع على أواقي، بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها، وأواق بحذفها. قَالَ ابْن السّكيت فِي (الْإِصْلَاح) : كل مَا كَانَ من هَذَا النَّوْع واحده مشدد أجَاز فِي جمعه التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف كالأوقية والأواقي، والسرية والسراري والبختية والعلية والإثفية ونظائرها. وَأنكر الْجُمْهُور أَن يُقَال فِي الْوَاحِدَة: وقية، بِحَذْف الْهمزَة، وَحكى الجبائي جَوَازهَا بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الْيَاء وَجَمعهَا: وقايا، مثل: ضحية وضحايا،

(8/256)


وَأجْمع أهل الحَدِيث وَالْفِقْه وأئمة اللُّغَة على أَن الْأُوقِيَّة الشَّرْعِيَّة: أَرْبَعُونَ درهما، وَهِي أُوقِيَّة الْحجاز. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَلَا يَصح أَن تكون الْأُوقِيَّة وَالدَّرَاهِم مَجْهُولَة فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُوجب الزَّكَاة فِي أعداد مِنْهَا وَتَقَع بهَا الْبياعَات والأنكحة كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَهَذَا يبين أَن قَول من زعم أَن الدَّرَاهِم لم تكن مَعْلُومَة إِلَى زمَان عبد الْملك بن مَرْوَان وَأَنه جمعهَا بِرَأْي الْعلمَاء، وَجعل كل عشرَة وزن سَبْعَة مَثَاقِيل وَوزن الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، قَول بَاطِل، وَإِنَّمَا معنى مَا نقل من ذَلِك أَنه لم يكن مِنْهَا شَيْء من ضرب الْإِسْلَام وعَلى صفة لَا تخْتَلف، بل كَانَت مجموعات من ضرب فَارس وَالروم صغَارًا وكبارا وَقطع فضَّة غير مَضْرُوبَة وَلَا منقوشة ويمنية ومغربية، فَرَأَوْا صرفهَا إِلَى ضرب الْإِسْلَام ونقشه وتصييرها وزنا وَاحِدًا لَا يخْتَلف وأعيانا يسْتَغْنى فِيهَا من الموازين، فَجمعُوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم، قَالَ القَاضِي: وَلَا شكّ أَن الدَّرَاهِم كَانَت حِينَئِذٍ مَعْلُومَة، وَإِلَّا فَكيف كَانَ يتَعَلَّق بهَا حُقُوق الله تَعَالَى فِي الزَّكَاة وَغَيرهَا وَحُقُوق الْعباد وَهَذَا كَمَا كَانَت الْأُوقِيَّة مَعْلُومَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع أهل الْعَصْر الأول على التَّقْدِير بِهَذَا الْوَزْن الْمَعْرُوف، وَهُوَ أَن الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، وكل عشرَة دَرَاهِم سَبْعَة مَثَاقِيل وَلم يتَغَيَّر المثقال فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام. قلت: روى ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) فِي تَرْجَمَة عبد الْملك بن مَرْوَان: أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه، قَالَ: ضرب عبد الْملك بن مَرْوَان الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير سنة خمس وَسبعين، وَهُوَ أول من أحدث ضربهَا وَنقش عَلَيْهَا. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدثنَا خَالِد بن ربيعَة بن أبي هِلَال عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَت مَثَاقِيل الْجَاهِلِيَّة الَّتِي ضرب عَلَيْهَا عبد الْملك اثْنَتَيْنِ وَعشْرين قيراطا إلاَّ حَبَّة بالشامي، وَكَانَت الْعشْرَة وزن سَبْعَة. انْتهى. وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي (كتاب الْأَمْوَال) ، فِي: بَاب الصَّدَقَة وأحكامها: كَانَت الدَّرَاهِم قبل الْإِسْلَام كبارًا أَو صغَارًا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَأَرَادُوا ضرب الدَّرَاهِم وَكَانُوا يزكونها من النَّوْعَيْنِ فنظروا إِلَى الدارهم الْكَبِير فَإِذا هُوَ ثَمَانِيَة دوانق وَإِلَى الدِّرْهَم الصَّغِير فَإِذا عو أَرْبَعَة دوانق فوضعوا زِيَادَة الْكَبِير على نُقْصَان الصَّغِير فجعلوهما دِرْهَمَيْنِ سَوَاء كل وَاحِد سِتَّة دوانيق، ثمَّ اعتبروها بالمثاقيل، وَلم يزل المثقال فِي آباد الدَّهْر محدودا لَا يزِيد وَلَا ينقص، فوجدوا عشرَة دَرَاهِم من هَذِه الدَّرَاهِم الَّتِي وَاحِدهَا سِتَّة دوانيق يكون وزان سَبْعَة مَثَاقِيل، وَأَنه عدل بَين الْكِبَار وَالصغَار، وَأَنه مُوَافق لسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّدَقَة، فمضت سنة الدَّرَاهِم على هَذَا، وأجمعت عَلَيْهِ الْأمة فَلم يخْتَلف أَن الدِّرْهَم التَّام ستت دوانيق فَمَا زَاد أَو نقص قيب فِيهِ زَائِدا وناقص وَالنَّاس فِي الزَّكَاة على الأَصْل الَّذِي هم السّنة لم يزيغوا وَكَذَلِكَ فِي المبايعات انْتهى وَذكر فِي كتب أَصْحَابنَا أَن الدَّرَاهِم كَانَت فِي الِابْتِدَاء على لى ثَلَاثَة أَصْنَاف: صنف: مِنْهَا: كل عشرَة مِنْهُ عشرَة مَثَاقِيل، كل دِرْهَم مِثْقَال. وصنف: مِنْهَا كل عشرَة مِنْهُ سِتَّة مَثَاقِيل، كل دِرْهَم ثَلَاثَة أَخْمَاس مِثْقَال. وصنف: مِنْهَا كل عشرَة مِنْهُ خَمْسَة مَثَاقِيل، كل دِرْهَم نصف مِثْقَال، وَكَانَ النَّاس يتصرفون فِيهَا ويتعاملون بهَا فِيمَا بَينهم إِلَى أَن اسْتخْلف عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَرَادَ أَن يسْتَخْرج الْخراج بالأكبر فالتمسوا مِنْهُ التَّخْفِيف، فَجمع حسَّاب زَمَانه ليتوسطوا ويوفقوا بَين الدَّرَاهِم كلهَا وَبَين مَا رامه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبَين مَا رامه الرّعية، فَاسْتَخْرَجُوا لَهُ وزن السَّبْعَة بِأَن أخذُوا من كل صنف ثلثه فَيكون الْمَجْمُوع سَبْعَة. وَفِي (الذَّخِيرَة) للقرافي: إِن الدِّرْهَم الْمصْرِيّ أَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَبَّة، وَهُوَ أكبر من دِرْهَم الزَّكَاة، فَإِذا أسقطت الزَّائِدَة كَانَ النّصاب من دَرَاهِم مائَة وَثَمَانِينَ درهما وجبتين. وَفِي (فَتَاوَى الفضلى) : تعْتَبر دَنَانِير كل بلد ودراهمهم، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي: بَاب لَيْسَ فِيمَا دونه خَمْسَة أوسق صَدَقَة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَيْضا: وَلَا أقل فِي خمس أَوَاقٍ من الْوَرق صَدَقَة، وَهنا زَاد لفظ: من الْوَرق، الْوَرق وَالْوَرق وَالْوَرق والرقة: الدَّرَاهِم، وَرُبمَا سميت الْفضة ورقة، والرقة الْفضة، وَالْمَال. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي وَقيل: الْفضة وَالذَّهَب، وَعَن ثَعْلَب: وَجمع الْوَرق وَالْوَرق أوراق، وَجمع الرقة رقوق ورقون، ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) أعطَاهُ ألف دِرْهَم رقة، يَعْنِي: لَا يخالطها شَيْء من المَال غَيرهَا. وَفِي (الغريبين) ؛ الْوَرق والرقة الدَّرَاهِم خَاصَّة وَأما الْوَرق فَهُوَ المَال كُله. وَقَالَ أَبُو بكر: الرقة مَعْنَاهَا فِي كَلَامهم: الْوَرق، وَجَمعهَا رقات، وَفِي (الْمغرب) : الْوَرق، بِكَسْر الرَّاء: الْمَضْرُوب من الْفضة، وَكَذَا الرقة. وَفِي (الْمُجْمل) : الْوَرق الدَّرَاهِم وَحدهَا، وَالْوَرق من المَال، ورد النَّوَوِيّ على صَاحب (الْبَيَان) فِي قَوْله: الرقة هِيَ الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَقَالَ: هَذَا غلط فَهُوَ مَرْدُود عَلَيْهِ كَمَا ذكرنَا عَن ابْن الْأَعرَابِي، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: دِرْهَم الْكَيْل زنته خَمْسُونَ حَبَّة وخمسا حَبَّة، وَسمي بذلك لِأَنَّهُ بتكييل عبد الْملك بن مَرْوَان، أَي: بتقديره وتحقيقه، وَذَلِكَ أَن الدَّرَاهِم الَّتِي كَانَ النَّاس

(8/257)


يتعاملون بهَا نَوْعَانِ: نوع عَلَيْهِ نقش فَارس، وَنَوع عَلَيْهِ نقش الرّوم، أحد النَّوْعَيْنِ يُقَال لَهُ: البغلي، وَهُوَ السود، الدِّرْهَم مِنْهَا ثَمَانِيَة دوانيق، وَالْآخر يُقَال لَهُ الطَّبَرِيّ، وَهُوَ الْعتْق، الدِّرْهَم مِنْهَا أَرْبَعَة دوانيق. وَفِي (شرح المهداية) : البغلية منسوبة إِلَى ملك يُقَال لَهُ: رَأس الْبَغْل، والطبرية منسوبة إِلَى: طبرية، وَقيل: إِلَى طبرستان. وَفِي (الْأَحْكَام) للماوردي: اسْتَقر فِي الْإِسْلَام زنة الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، كل عشرَة دَرَاهِم سَبْعَة مَثَاقِيل، وَزعم المرغيناني أَن الدِّرْهَم كَانَ شَبيه النواة ودور على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَتَبُوا عَلَيْهِ {لَا إلاه إلاَّ الله مُحَمَّد رسولُ الله} ثمَّ زَاد نَاصِر الدولة بن حمدَان: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَت منقبة لآل حمدَان. وَفِي كتاب (المكاييل) : عَن الْوَاقِدِيّ، عَن معبد بن مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن سابط، قَالَ: كَانَ لقريش أوزان فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام أقرَّت على مَا كَانَت عَلَيْهِ الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ درهما، والرطل اثْنَا عشر أُوقِيَّة، فَذَلِك أَربع مائَة وَثَمَانُونَ درهما، وَكَانَ لَهُم النش، وَهُوَ عشرُون درهما، والنواة وَهِي خَمْسَة دَرَاهِم، وَكَانَ المثقال إثنين وَعشْرين قيراطا إلاَّ حَبَّة، وَكَانَت الْعشْرَة دَرَاهِم وَزنهَا سَبْعَة مَثَاقِيل، وَالدِّرْهَم خَمْسَة عشر قيراطا. فَلَمَّا قدم سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُسَمِّي الدِّينَار لوزنه دِينَارا، وَإِنَّمَا هُوَ تبر، ويسمي الدِّرْهَم لوزنه درهما، وَإِنَّمَا هُوَ تبر، فأقرت مَوَازِين الْمَدِينَة على هَذَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمِيزَان ميزَان أهل الْمَدِينَة) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَد فِيهِ زيد بن أبي أنيسَة عَن أبي الزبير عَن جَابر يرفعهُ: (والوقية أَرْبَعُونَ درهما) . وَقَالَ أَبُو عمر: وروى جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الدِّينَار أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ قيراطا) . قَالَ أَبُو عمر: هَذَا وَإِن لم يَصح سَنَده فَفِي قَول جمَاعَة الْعلمَاء واجتماع النَّاس على مَعْنَاهُ مَا يُغني عَن الْإِسْنَاد فِيهِ.
قَوْله: (ذود) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره دَال مُهْملَة وَهِي من الْإِبِل من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَفِي الْمثل: الذود إِلَى الذود إبل، وَقيل: الذود مَا بَين الثِّنْتَيْنِ وَالتسع من الْإِنَاث دون الذُّكُور، قَالَ:
(ذود ثَلَاث بكرَة ونابان ... غير الفحول من ذُكُور البعران)

وَيجمع على أذواد. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَقَالُوا: ثَلَاث ذود، فوضعوه مَوضِع أذواد. وَقَالَ الْفَارِسِي: وَهَذَا على حد قَوْلهم ثَلَاثَة أَشْيَاء فَإِذا وصفت الذود فَإِن شِئْت جعلت الْوَصْف مُفردا بِالْهَاءِ على حد مَا تُوصَف الْأَسْمَاء المؤنثة الَّتِي لَا تعقل فِي حد الْجمع، فَقلت: ذود جربة، وَإِن شِئْت جمعت فَقلت: ذود جراب، ذكره فِي (الْمُخَصّص) وَفِي (الْمُحكم) : وَقيل: الذود من ثَلَاث إِلَى خمس عشرَة، وَقيل: إِلَى عشْرين. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: إِلَى الثَّلَاثِينَ، وَلَا يكون إلاَّ من الْإِنَاث، وَهُوَ مؤنث وتصغيره بِغَيْر هَاء على غير قِيَاس، وَفِي (كتاب نعوت الْإِبِل) لأبي الْحسن النَّضر بن شُمَيْل بن خَرشَة الْمَازِني مَا يدل على أَنه ينْطَلق على الذُّكُور أَيْضا، وَهُوَ قَوْله: الذود ثَلَاثَة أَبْعِرَة، يُقَال: عِنْد فلَان ذود لَهُ، وَعَلِيهِ ثَلَاث ذود، وَعَلِيهِ أذواد لَهُ إِذا كن ثَلَاثًا فَأكْثر، وَعَلِيهِ ثَلَاث أذواد مثله سَوَاء، وَيُقَال رَأَيْت أذواد بني فلَان إِذا كَانَت فِيمَا بَين الثَّلَاث إِلَى خمس عشرَة. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز. وَقَول الْفُقَهَاء: لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، إِنَّمَا مَعْنَاهُ خمس من هَذَا الْجِنْس، وَقد أجَاز قوم أَن يكون الذود وَاحِدًا. وَفِي (الصِّحَاح) : الذود مُؤَنّثَة لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: ذهب قوم إِلَى أَن الذود وَاحِد، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه جمع، وَهُوَ الْمُخْتَار. وَاحْتج بِأَنَّهُ: لَا يُقَال خمس ذود، كَمَا لَا يُقَال: خمس ثوب، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ ابْن مزين: الذود الْجمل الْوَاحِد، وَقَالَ أَبُو زِيَاد الْكلابِي فِي (كتاب الْإِبِل) تأليفه: وَالثَّلَاث من الْإِبِل ذود، وَلَيْسَ الثنتان بذود إِلَى أَن تبلغ عشْرين، وسمى الذود لِأَنَّهُ يذاد أَي يساق، ثمَّ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: خمس ذود، بِالْإِضَافَة، وَرُوِيَ بتنوين خمس، وَيكون ذود بَدَلا مِنْهُ، وَبِزِيَادَة التَّاء فِي خمس نظرا إِلَى أَن الذود يُطلق على الْمُذكر والمؤنث، وَتركُوا الْقيَاس فِي الْجمع كَمَا قَالُوا: ثلثمِائة، قيل: وَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّهُ فِي معنى الْجمع كَقَوْلِه: تِسْعَة رَهْط، لِأَن فِيهِ معنى الجمعية.
قَوْله: (أوسق) جمع: وسق، بِكَسْر الْوَاو وَفتحهَا، وَالْفَتْح أشهر. والوسق: حمل بعير، وَقيل: هُوَ سِتُّونَ صَاعا بِصَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: هُوَ الْحمل عَامَّة، وَالْجمع أوسق ووسوق ووسق الْبَعِير، وأوسقه أوقره ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) : الْجمع أوساق والوسق الْعدْل. وَفِي (الصِّحَاح) : الوسق حمل الْبَغْل وَالْحمار. وَفِي (الغريبين) : هُوَ مائَة وَسِتُّونَ منا. وَفِي (الْمثنى) لِابْنِ عديس: وَقيل: الوسق العدلان. وَفِي (مجمع الغرائب) : خَمْسَة أوسق ثَمَانمِائَة من، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي البخْترِي العلائي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق زَكَاة، والوسق سِتُّونَ مَخْتُومًا) . ثمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد: أَبُو البخْترِي لم يسمع من أبي سعيد، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه مُنْقَطع. وَقَالَ عبيد: الْمَخْتُوم الصَّاع، إِنَّمَا سمي مَخْتُومًا لِأَن الْأُمَرَاء جعلت

(8/258)


على أَعْلَاهُ خَاتمًا مطبوعا لِئَلَّا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص مِنْهُ، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: الوسق سِتُّونَ صَاعا مَخْتُومًا بالحجازي، وَحَكَاهُ فِي (المُصَنّف) : عَن ابْن عمر من رِوَايَة لَيْث بن أبي سليم، وَعَن الْحسن بِسَنَد صَحِيح، وَعَن أبي قلَابَة بِسَنَد صَحِيح، وَعَن الشّعبِيّ وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب بأسانيد جِيَاد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على ثَلَاثَة فُصُول:
الأول: هُوَ قَوْله: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أَوَاقٍ صَدَقَة) ، وَفِيه: بَيَان نِصَاب الْفضة وَهُوَ خَمْسَة أَوَاقٍ، وَهِي مِائَتَا دِرْهَم. لِأَن كل أُوقِيَّة أَرْبَعُونَ درهما، وحدد الشَّرْع نِصَاب كل جنس بِمَا يحْتَمل الْمُوَاسَاة، فنصاب الْفضة خمس أَوَاقٍ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَم بِنَصّ الحَدِيث وَالْإِجْمَاع، وَأما الذَّهَب فعشرون مِثْقَالا، والمعول فِيهِ على الْإِجْمَاع إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يجب فِي أقل من أَرْبَعِينَ مِثْقَالا، وَالْأَشْهر عَنْهُمَا الْوُجُوب فِي عشْرين مِثْقَالا كَمَا قَالَه الْجُمْهُور. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَعَن بعض السّلف وجوب الزَّكَاة فِي الذَّهَب إِذا بلغت قِيمَته مِائَتي دِرْهَم وَإِن كَانَ دون عشْرين مِثْقَالا. قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَلَا زَكَاة فِي الْعشْرين حَتَّى تكون قيمتهَا مِائَتي دِرْهَم. ثمَّ إِذا زَاد الذَّهَب أَو الْفضة على النّصاب اخْتلفُوا فِيهِ. فَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَابْن أبي ليلى وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَعَامة أهل الحَدِيث: إِن فِيمَا زَاد من الذَّهَب وَالْفِضَّة ربع الْعشْر فِي قَلِيله وَكَثِيره وَلَا وقص، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: لَا شَيْء فِيمَا زَاد على مِائَتي دِرْهَم حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ درهما وَلَا فِيمَا زَاد على عشْرين دِينَارا حَتَّى يبلغ أَرْبَعَة دَنَانِير، فَإِذا زَادَت فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَفِي كل أَرْبَعَة دَنَانِير دِرْهَم، فَجعل لَهما وقصا كالماشية. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَاحْتج الْجُمْهُور بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الرقة ربع الْعشْر) ، والرقة الْفضة، وَهَذَا عَام فِي النّصاب وَمَا فَوْقه بِالْقِيَاسِ على الْحُبُوب، وَلأبي حنيفَة حَدِيث ضَعِيف لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ. قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا روى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن الْمنْهَال بن جراح عَن حبيب بن نجيح عَن عبَادَة بن نسي عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره حِين وَجهه إِلَى الْيمن أَن لَا يَأْخُذ من الْكسر شَيْئا إِذا كَانَت الْوَرق مِائَتي دِرْهَم فَخذ مِنْهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَلَا تَأْخُذ مِمَّا زَاد شَيْئا حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ درهما، فَإِذا بلغت أَرْبَعِينَ درهما فَخذ مِنْهَا درهما) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْمنْهَال ابْن جراج وَهُوَ أَبُو العطوف مَتْرُوك الحَدِيث، وَكَانَ ابْن إِسْحَاق يقلب اسْمه إِذا روى عَنهُ، وَعبادَة بن نسي لم يسمع من معَاذ. انْتهى. وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْمنْهَال بن الْجراح مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يكذب، وَقَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه: كَانَ مكذابا. وَفِي (الإِمَام) قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: مَتْرُوك الحَدِيث واهيه لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيف جدا. قلت: ذكر الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب ذكر الْخَبَر الَّذِي روى فِي وقص الْوَرق، ثمَّ اقْتصر عَلَيْهِ لكَون الْبَاب مَقْصُود الْبَيَان مَذْهَب خَصمه.
وَفِي الْبَاب حديثان: أَحدهمَا: ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي: بَاب فرض الصَّدَقَة، وَهُوَ كِتَابه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الَّذِي بَعثه إِلَى الْيمن مَعَ عَمْرو بن حزم، وَفِيه: (وَفِي كل خمس أواقي من الْوَرق خَمْسَة دَرَاهِم، وَمَا

(8/259)


زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم) ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ مجود الْإِسْنَاد، وَرَوَاهُ جمَاعَة من الْحفاظ مَوْصُولا حسنا، وروى الْبَيْهَقِيّ عَن أَحْمد ابْن حَنْبَل أَنه قَالَ: أَرْجُو أَن يكون صَحِيحا. وَالثَّانِي: ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي: بَاب لَا صَدَقَة فِي الْخَيل، من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَفَوْت لكم صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق، فَهَلُمُّوا صَدَقَة الرقة من كل أَرْبَعِينَ درهما، وَلَيْسَ فِي تسعين وَمِائَة شَيْء، فَإِذا بلغت مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم) ، وَقَالَ ابْن حزم: صَحِيح مُسْند، وروى ابْن أبي شيبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عَن عَاصِم الْأَحول عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: كتب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى أبي مُوسَى: فَمَا زَاد على الْمِائَتَيْنِ فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) من وَجه آخر عَن أنس عَن عمر نَحوه، وَقَالَ صَاحب (التَّمْهِيد) : وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وَالْحسن وَمَكْحُول وَعَطَاء وطاووس وَعَمْرو بن دِينَار وَالزهْرِيّ، وَبِه يَقُول أَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ، وَذكر الْخطابِيّ الشّعبِيّ مَعَهم، وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح عَن مُحَمَّد الباقر رَفعه، قَالَ: (إِذا بلغت خمس أواقي فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم) . وَفِي (أَحْكَام) عبد الْحق قَالَ: روى أَبُو أَوْس عَن عبد الله وَمُحَمّد ابْني أبي بكر بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيهِمَا عَن جدهما عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كتب هَذَا الْكتاب لعَمْرو بن حزم حِين أمره على الْيمن. وَفِيه: الزَّكَاة لَيْسَ فِيهَا صَدَقَة حَتَّى تبلغ مِائَتي دِرْهَم، فَإِذا بلغت مِائَتي دِرْهَم فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَمَا زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَلَيْسَ فِيمَا دون الْأَرْبَعين صَدَقَة، وَالَّذِي عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَغَيرهم، وَفِي كل خمس أواقٍ من الْوَرق خَمْسَة دَرَاهِم، وَمَا زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أواقٍ شَيْء، وروى أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي (كتاب الْأَمْوَال) : حَدثنَا يحيى بن بكير عَن اللَّيْث بن سعد عَن يحيى بن أَيُّوب عَن حميد عَن أنس، قَالَ: ولاَّني عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الصَّدقَات فَأمرنِي أَن آخذ من كل عشْرين دِينَارا نصف دِينَار، وَمَا زَاد فَبلغ أَرْبَعَة دَنَانِير فَفِيهِ دِرْهَم، وَأَن آخذ من كل مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، فَمَا زَاد فَبلغ أَرْبَعِينَ درهما فَفِيهِ دِرْهَم، وَالْعجب من النَّوَوِيّ مَعَ وُقُوفه على هَذِه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَيفَ يَقُول: وَلأبي حنيفَة حَدِيث ضَعِيف. وَيذكر الحَدِيث الْمُتَكَلّم فِيهِ،. وَلم يذكر غَيره من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
وَبَقِي الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْفَصْل، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: مَسْأَلَة الضَّم، وَهُوَ أَن الْجُمْهُور يَقُولُونَ بِضَم الْفضة وَالذَّهَب بَعْضهَا إِلَى بعض فِي إِكْمَال النّصاب، وَبِه قَالَ مَالك إلاَّ أَنه يُرَاعِي الْوَزْن وَيضم على الْأَجْزَاء لَا على الْقيم، وَيجْعَل كل دِينَار كعشرة دَرَاهِم على الصّرْف الأول، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: يضم على الْقيم فِي وَقت الزَّكَاة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد: لَا يضم مُطلقًا. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن الْغنم لَا تضم إِلَى الْإِبِل وَلَا إِلَى الْبَقر، وَأَن التَّمْر لَا يضم إِلَى الزَّبِيب، وَاخْتلفُوا فِي الْبر وَالشعِير. فَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَا يضم وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الآخر، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ مَالك: يُضَاف الْقَمْح إِلَى الشّعير وَلَا يُضَاف القطاني إِلَى الْقَمْح وَالشعِير. وَالْآخر: مَسْأَلَة الْغِشّ، فَعِنْدَ أبي حنيفَة وصاحبيه: إِذا كَانَ الْغَالِب على الْوَرق الْفضة فهن فِي حكم الْفضة، وَإِن كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْغِشّ فَهِيَ فِي حكم الْعرُوض، يعْتَبر أَن تبلغ قيمتهَا نِصَابا فَلَا زَكَاة فِيهَا إلاَّ بِأحد الْأَمريْنِ إِن يبلغ مَا فِيهَا من الْفضة مِائَتي دِرْهَم أَو يكون للتِّجَارَة، وَقيمتهَا مِائَتَان، وَمَا زَاد على مِائَتي دِرْهَم فَفِي كل شَيْء مِنْهُ ربع عشره، قلَّ أَو كثر، وَبِه قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد، وَرُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَزفر: لَا شَيْء فِيمَا زَاد على الْمِائَتَيْنِ حَتَّى تبلغ الزِّيَادَة أَرْبَعِينَ درهما، فَإِذا بلغتهَا كَانَ فِيهَا ربع عشرهَا وَهُوَ دِرْهَم، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وطاووس وَالشعْبِيّ وَالزهْرِيّ وَمَكْحُول وَعَمْرو بن دِينَار وَالْأَوْزَاعِيّ، وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن يحيى بن أَيُّوب عَن حميد عَن أنس عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الْفَصْل الثَّانِي: هُوَ قَوْله: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة ذود صَدَقَة) وَفِيه: بَيَان أقل الْإِبِل الَّتِي تجب فِيهَا الزَّكَاة، فبيَّن أَنه لَا تجب الزَّكَاة، فبيّن أَنه لَا تجب الزَّكَاة فِي أقل من خمس ذود من الْإِبِل، فَإِذا بلغت خمْسا سَائِمَة وَحَال عَلَيْهَا الْحول فَفِيهَا شَاة، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وَلَيْسَ فِيهِ خلاف، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ مفصلا عِنْده مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الْفَصْل الثَّالِث: هُوَ قَوْله: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: أَن مَا أخرجته الأَرْض إِذا بلغ خَمْسَة أوسق تجب فِيهَا الصَّدَقَة، وَهِي الْعشْر، وَلَيْسَ فِيمَا دون ذَلِك شَيْء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: فِي كل مَا أخرجته الأَرْض قَلِيله وَكَثِيره الْعشْر، سَوَاء سقِِي سيحا أوسقته السَّمَاء إلاَّ الْقصب الْفَارِسِي والحطب والحشيش. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: وجوب الزَّكَاة فِي هَذِه المحدودات. وَالثَّانيَِة: أَنه لَا زَكَاة فِيمَا دون ذَلِك، وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي هَاتين إلاَّ مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: إِنَّه تجب الزَّكَاة فِي قَلِيل الْحبّ وَكَثِيره، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل منابذ لصريح الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قلت: هَذِه عبارَة سمجة وَلَا يَلِيق التَّلَفُّظ بهَا فِي حق إِمَام مُتَقَدم علما وفضلاً وزهدا وقربا أَي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار، لَا سِيمَا ذَلِك من شخص مَوْسُوم بَين النَّاس بِالْعلمِ الغزير والزهد الْكثير، والإنصاف فِي مثل هَذَا الْمقَام تَحْسِين الْعبارَة، وَهُوَ اللَّائِق لأهل الدّين، وَلَا يفحش الْعبارَة إلاَّ من يتعصب بِالْبَاطِلِ، وَلَيْسَ هَذَا من الدّين، وَلم ينْسب النَّوَوِيّ بطلَان هَذَا الْمَذْهَب ومنابذة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة لأبي حنيفَة وَحده، بل نسبه أَيْضا إِلَى بعض السّلف، وَالسَّلَف هم: عمر بن عبد الْعَزِيز وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهَذَا أَيْضا قَول زفر وَرِوَايَة عَن بعض التَّابِعين، فَإِن مَذْهَب هَؤُلَاءِ مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : عَن معمر عَن سماك بن الْفضل عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: فِيمَا أنبتت الأَرْض من قَلِيل أَو كثير الْعشْر. وَأخرج نَحوه عَن مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. وَأخرج ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن هَؤُلَاءِ نَحوه، وَزَاد فِي حَدِيث

(8/260)


النَّخعِيّ: حَتَّى فِي كل عشر دستجات بقل دستجة بقل، وَأما الَّذِي احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَمن مَعَه بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريا الْعشْر، وَمَا سقِِي بالنضح نصف الْعشْر) ، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِيمَا سقت الْأَنْهَار والغيم الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف الْعشْر) . وَبِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مَسْرُوق (عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الْيمن، فَأمرنِي أَن آخذ مِمَّا سقت السَّمَاء وَمَا سقِِي بعلا الْعشْر، وَمَا سقِِي بالدر إِلَى نصف الْعشْر) . وَهَذِه الْأَحَادِيث كلهَا مُطلقَة وَلَيْسَ فِيهَا فصل، وَالْمرَاد من لفظ: الصَّدَقَة، فِي حَدِيث الْبَاب: زَكَاة التِّجَارَة، لأَنهم كَانُوا يتبايعون بالأوساق، وَقِيمَة الوسق أَرْبَعُونَ درهما. وَمن الْأَصْحَاب من جعله مَنْسُوخا وَلَهُم فِي تَقْرِيره قَاعِدَة، فَقَالُوا: إِذا ورد حديثان أَحدهمَا عَام وَالْآخر خَاص فَإِن علم تَقْدِيم الْعَام على الْخَاص خص الْعَام بالخاص، كمن يَقُول لعَبْدِهِ: لَا تعط لأحد شَيْئا، ثمَّ قَالَ لَهُ: أعْط زيدا درهما. وَإِن علم تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام ينْسَخ الْخَاص بِالْعَام، كمن قَالَ لعَبْدِهِ: أعْط زيدا درهما، ثمَّ قَالَ لَهُ: لَا تعط لأحد شَيْئا، فَإِن هَذَا نَاسخ للْأولِ، هَذَا مَذْهَب عِيسَى بن أبان، رَحمَه الله تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمَأْخُوذ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي: هَذَا إِذا علم التَّارِيخ، أما إِذا لم يعلم فَإِن الْعَام يَجْعَل آخرا لما فِيهِ من الِاحْتِيَاط، وَهنا لم يعلم التَّارِيخ، فَجعل الْعَام آخرا احْتِيَاطًا. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: حجَّة أبي حنيفَة فِيمَا ذهب إِلَيْهِ عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض} (الْبَقَرَة: 762) . وَقَوله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . وَالْأَحَادِيث الَّتِي تعلّقت بهَا أهل الْمقَالة الأولى أَخْبَار آحَاد فَلَا تقبل فِي مُقَابلَة الْكتاب. قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء) أَي: الْمَطَر. قَوْله: (أَو كَانَ عثريا) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء، وَهُوَ من النخيل الَّذِي يشرب بعروقه من مَاء الْمَطَر، يجْتَمع فِي حفيره. وَقيل: هُوَ الغدي: وَهُوَ الزَّرْع الَّذِي لَا يسْقِيه إلاَّ الْمَطَر، يُسمى بِهِ كَأَنَّهُ عثر على المَاء عثرا بِلَا عمل من صَاحبه، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى العثر وَلَكِن الْحَرَكَة من تغييرات النّسَب. قَوْله: (السانية) ، هِيَ النَّاقة الَّتِي يستقى عَلَيْهَا، وَقيل: هِيَ الدَّلْو الْعَظِيمَة وأدواتها الَّتِي تستقي بهَا، ثمَّ سميت الدَّوَابّ سواني لاستقائها. قَوْله: (بعلا) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، وَهُوَ مَا كَانَ من الْكَرم قد ذهب عروقه فِي الأَرْض إِلَى المَاء فَلَا يحْتَاج إِلَى السَّقْي لخمس سِنِين، وَلست سِنِين، وانتصابه على الْحَال بالتأويل كَمَا تَقول: جَاءَنِي زيد أسدا، أَي: شجاعا، وَالْأَظْهَر أَنه نصب على التَّمْيِيز، والدوالي جمع دالية وَهِي المنجنون الَّتِي يديرها الثور.

6041 - حدَّثنا عَلِيٌّ سَمِعَ هُشَيْما قَالَ أخبرنَا حُصيْنٌ عنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فإذَا أَنا بِأبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقُلْتُ لَهُ مَا أنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هاذا قَالَ كُنْتُ بِالشَّأمِ فاخْتَلَفْتُ أَنا وَمُعَاوِيَةُ فِي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله. قَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أهْلِ الكِتَابِ فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وفِيهِمْ فَكانَ بَيْنِي وبَيْنَهُ فِي ذَاكَ وكَتَبَ إلَى عُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَشْكُونِي فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ أنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كأنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذالِك فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي إنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتُ قَرِيبا فذَاكَ الَّذِي أنْزَلَنِي هاذَا المَنْزِلِ وَلَوْ أمَّرُوا عَلِيَّ حَبَشِيَّا لَسَمِعْتُ وأطَعْتُ.
(الحَدِيث 6041 طرفه فِي: 0664) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا فِيمَا أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَمَفْهُوم الْآيَة كَذَلِك إِذا أدّى زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة لَا يكون مَا ملكه كنزا، فَلَا يسْتَحق الْوَعيد الَّذِي يسْتَحقّهُ من يكنزه وَلَا يُؤَدِّي زَكَاته.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ، بِغَيْر نِسْبَة، اخْتلف فِيهِ، فَقيل: هُوَ عَليّ بن أبي هَاشم عبيد الله بن الطبراخ، بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة

(8/261)


وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة. قَالَ الجياني: نسبه أَبُو ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي، فَقَالَ: عَليّ بن أبي هَاشم، وَقيل: هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُسلم بن سعيد الطوسي نزيل بَغْدَاد، وَقَالَ بَعضهم: وَقع فِي أَطْرَاف الْمزي عَن عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ، وَهُوَ خطأ. قلت: هَذِه مجازفة فِي تخطئة مثل هَذَا الْحَافِظ، وَقد قَالَ الكلاباذي وَابْن طَاهِر: هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، ذكره الطرقي. الثَّانِي: هشيم، بِالتَّصْغِيرِ: ابْن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْقَاسِم بن دِينَار. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد المهملتيين: عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، يكنى أَبَا الْهُذيْل، مر فِي أَوَاخِر كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة. الرَّابِع: زيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْجُهَنِيّ. الْخَامِس: أَبُو ذَر جُنْدُب بن جُنَادَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل سؤالاً وجوابا. وَفِيه: أَن شَيْخه غير مَذْكُور بنسبته، فإمَّا بغدادي إِن كَانَ هُوَ: عَليّ بن أبي هَاشم، وَإِمَّا طوسي، إِن كَانَ عَليّ بن مُسلم، وَإِمَّا مدنِي إِن كَانَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ. وَفِيه: سمع هشيما وَهُوَ بِالْألف، وَفِي بعض النّسخ: هشيم، بِدُونِ الْألف، وَهُوَ اللُّغَة الربيعية حَيْثُ يقفون على الْمَنْصُوب الْمنون بِالسُّكُونِ فَلَا يحْتَاج الْكَاتِب بلغتهم إِلَى الْألف، وهشيم واسطي وَأَصله من بَلخ، وحصين كُوفِي وَزيد بن وهب من التَّابِعين الْكِبَار المخضرمين من قضاعة، وَهُوَ أَيْضا كُوفِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة عَن جرير، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن زنبور عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بالربذة) ، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة: مَوضِع على ثَلَاثَة مراحل من الْمَدِينَة، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حماها لإبل الصَّدَقَة. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: هِيَ قَرْيَة من قرى الْمَدِينَة. وَقَالَ الْحَازِمِي: من منَازِل الْحَاج بَين السليلة والعمق. قَوْله: (فَإِذا أَنا بِأبي ذَر) ، كلمة: إِذا للمفاجأة، وَالْبَاء فِي: أبي ذَر، للمصاحبة. قَوْله: (كنت بِالشَّام) ، أَي: بِدِمَشْق. قَوْله: (نزلت فِي أهل الْكتاب) ، وَفِي رِوَايَة جرير: (مَا هَذِه فِينَا) . قَوْله: (فَكَانَ بيني وَبَينه فِي ذَلِك) ، أَي: كَانَ نزاع بيني وَبَين مُعَاوِيَة فِيمَن نزل قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة. .} (التَّوْبَة: 43) . الْآيَة، فمعاوية نظر إِلَى سِيَاق الْآيَة فَإِنَّهَا نزلت فِي الْأَحْبَار والرهبان الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة، وَأَبُو ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نظر إِلَى عُمُوم الْآيَة، وَإِن من لَا يرى أداءها مَعَ أَنه يرى وُجُوبهَا يلْحقهُ هَذَا الْوَعيد الشَّديد. وَكَانَ مُعَاوِيَة فِي ذَلِك الْوَقْت عَامل عُثْمَان على دمشق، وَقد بيَّن سَبَب سُكْنى أبي ذَر بِدِمَشْق مَا رَوَاهُ أَبُو يعلى من طرق أُخْرَى، عَن زيد بن وهب: حَدثنِي أَبُو ذَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا بلغ الْبناء) أَي بِالْمَدِينَةِ: (سلعا فارتحل إِلَى الشَّام، فَلَمَّا بلغ الْبناء سلعا قدمت الشَّام فَكنت بهَا. .) فَذكر الحَدِيث نَحوه، وروى أَبُو يعلى أَيْضا بِإِسْنَاد فِيهِ ضعف) عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: اسْتَأْذن أَبُو ذَر على عُثْمَان فَقَالَ: إِنَّه يؤذينا، فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ عُثْمَان: أَنْت الَّذِي تزْعم أَنَّك خير من أبي بكر؟ قَالَ: لَا وَلَكِن سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إِن أحبكم إِلَيّ وأقربكم مني من بَقِي على الْعَهْد الَّذِي عاهدته عَلَيْهِ، وَأَنا بَاقٍ على عَهده. قَالَ: فَأمره أَن يلْحق بِالشَّام، فَكَانَ يُحَدِّثهُمْ وَيَقُول: لَا يبيتن عِنْد أحدكُم دِينَار وَلَا دِرْهَم إلاَّ مَا يُنْفِقهُ فِي سَبِيل الله أَو يعده لغريم، فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى عُثْمَان: إِن كَانَ لَك بِالشَّام حَاجَة فَابْعَثْ إِلَى أبي ذَر، فَكتب إِلَيْهِ عُثْمَان أَن أقدم عَليّ، فَقدم) . وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا كتب مُعَاوِيَة يشكو أَبَا ذَر لِأَنَّهُ كَانَ كثير الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ والمنازعة لَهُ، وَكَانَ فِي جَيْشه ميل إِلَى أبي ذَر، فأقدمه عُثْمَان خشيَة الْفِتْنَة لِأَنَّهُ كَانَ رجلا لَا يخَاف فِي الله لومة لائم، وَقَالَ الْمُهلب: وَكَانَ هَذَا من توقير مُعَاوِيَة لَهُ، إِذْ كتب فِيهِ إِلَى السُّلْطَان الْأَعْظَم، لِأَنَّهُ مَتى أخرجه كَانَت وصمة عَلَيْهِ. قَوْله: (أَن أقدم) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة، وبلفظ الْمُضَارع، وبلفظ الْأَمر. قَوْله: (فَكثر عَليّ النَّاس حَتَّى كَأَنَّهُمْ لم يروني) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: (أَنهم كَثُرُوا عَلَيْهِ يسألونه عَن سَبَب خُرُوجه من الشَّام، قَالَ: فخشي عُثْمَان على أهل الْمَدِينَة خشيَة مُعَاوِيَة على أهل الشَّام) . وَقَالَ ابْن بطال: وَلما قدم أَبُو ذَر الْمَدِينَة اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس يسألونه عَن الْقِصَّة، وَمَا جرى بَينه وَبَين مُعَاوِيَة، فَلَمَّا رأى أَبُو ذَر ذَلِك خَافَ أَن يعاتبه عُثْمَان فِي ذَلِك، فَذكر لَهُ كَثْرَة النَّاس وتعجبهم من حَاله كَأَنَّهُمْ لم يروه قطّ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَان: إِن كنت تخشى وُقُوع فتْنَة فاسكن مَكَانا قَرِيبا من الْمَدِينَة، فَنزل الربذَة، وَهُوَ معنى

(8/262)


قَوْله إِن شِئْت تنحيت، من التنحي، وَهُوَ التباعد. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: (فَقَالَ لَهُ: تَنَح قَرِيبا. قَالَ: وَالله لن أدع مَا كنت أقوله) . وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق وَرْقَاء عَن حُصَيْن بِلَفْظ: (فوَاللَّه لَا أدع مَا قلت) . قَوْله: (وَلَو أمروا عَليّ) من التأمير. قَوْله: (حَبَشِيًّا) ، وَفِي رِوَايَة وَرْقَاء (عبدا حَبَشِيًّا) ، أَرَادَ لَو أَمر الْخَلِيفَة عبدا حَبَشِيًّا لسمعت أمره وأطعت قَوْله، وروى أَحْمد وَأَبُو يعلى من طَرِيق أبي حَرْب بن أبي الْأسود عَن عَمه عَن أبي ذَر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: (كَيفَ تصنع إِذا أخرجت مِنْهُ؟) أَي: من الْمَسْجِد النَّبَوِيّ؟ (قَالَ: آتِي الشَّام. قَالَ: كَيفَ تصنع إِذا أخرجت مِنْهَا؟ قَالَ أَعُود إِلَيْهِ) أَي: إِلَى الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. (قَالَ: كَيفَ تصنع إِذا أخرجت مِنْهُ؟ قَالَ أضْرب بسيفي. قَالَ: أَلا أدلك على مَا هُوَ خير لَك من ذَلِك وَأقرب رشدا؟ تسمع وتطيع وتنساق لَهُم حَيْثُ ساقوك) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْأَخْذ للْإنْسَان بالشدة فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَإِن أدّى ذَلِك إِلَى فِرَاق وَطنه. وَفِيه: أَنه يجوز للْإِمَام أَن يخرج من يتَوَقَّع بِبَقَائِهِ فتْنَة بَين النَّاس. وَفِيه: ترك الْخُرُوج على الْأَئِمَّة والانقياد لَهُم، وَإِن كَانَ الصَّوَاب فِي خلافهم. وَفِيه: جَوَاز الِاخْتِلَاف وَالِاجْتِهَاد فِي الآراء، أَلا ترى أَن عُثْمَان وَمن كَانَ بِحَضْرَتِهِ من الصَّحَابَة لم يردوا أَبَا ذَر عَن مذْهبه، وَلَا قَالُوا: إِنَّه لَا يجوز لَك اعْتِقَاد قَوْلك، لِأَن أَبَا ذَر نزع بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتشْهدَ بِهِ، وَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أحب أَن لي مثل أحد ذَهَبا أنفقهُ كُله إلاَّ ثَلَاثَة دَنَانِير. .) وَذَلِكَ حِين أنكر على أبي هُرَيْرَة نصل سَيْفه اسْتشْهد على ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ترك صفراء أَو بَيْضَاء كوي بهَا) . وَهَذَا حجَّة فِي أَن الِاخْتِلَاف فِي الْعلم باقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا يرْتَفع إلاَّ بِالْإِجْمَاع، وَفِيه ملاطفة الْأَئِمَّة الْعلمَاء فَإِن مُعَاوِيَة لم يَجْسُر على الْإِنْكَار على أبي ذَر حَتَّى كَاتب من هُوَ أَعلَى مِنْهُ فِي أَمر دينه. وَفِيه: أَن عُثْمَان لم يخف على أبي ذَر مَعَ كَونه مُخَالفا لَهُ فِي تَأْوِيله.

7041 - حدَّثنا عَيَّاشٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الأعْلى قَالَ حدَّثنا الجُرَيْرِيُّ عنْ أبِي العَلاَءِ عنِ الأحْنَفِ ابنِ قَيْسٍ. قَالَ جَلَسْتُ (ح) وحدَّثني إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الصَّمَدِ. قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حَدثنَا الجرَيْرِيُّ قَالَ حَدثنَا أبُو العَلاءِ بنُ الشِّخِّيرِ أنَّ الأحْنَفَ بنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ. قَالَ جَلَسْت إلَي مَلاَءٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ والثِّيَابِ وَالهَيْئَةِ حَتَّى قامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرِ الكانِزِينَ بِرَضْفٍ يَحْمَى عَلَيْهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ علَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ ويُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سارِيَةٍ وتَبِعْتُهُ وجَلَسْتُ إلَيْهِ وَأنَا لَا أدْرِي منْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ لاَ أُرَى القَوْمَ إلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ قَالَ إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئا. قَالَ لِي خَلِيلِي قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أبَا ذَرٍّ أتُبْصِرُ أُحُدا قَالَ فَنَظَرْتُ إلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأنَا أُرَى أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرْسِلُنِي فِي حاجَةٍ لَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ أنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إلاَّ ثَلاَثَةَ دَنانِيرَ وَإنَّ هاؤُلاءِ لاَ يَعْقِلُونَ إنَّما يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لاَ وَالله لاَ أسْألُهُمْ دُنْيَا وَلاَ أسْتَفْتِيهِمْ عنْ دِينٍ حَتَّى ألقَى الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه وَعِيد للكانزين الَّذين لَا يؤدون الزَّكَاة، وَيفهم مِنْهُ الَّذِي يُؤَدِّيهَا لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الكانز الْمُسْتَحق للوعيد، وَلَا الَّذِي مَعَه يُسمى كنزا، لِأَنَّهُ أدّى زَكَاته فَدخل تَحت التَّرْجَمَة من هَذَا الْوَجْه. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ مر فِي كتاب الْغسْل فِي: بَاب الْجنب يخرج. الثَّانِي: عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى أَبُو مُحَمَّد السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة. الثَّالِث: سعيد

(8/263)


ابْن إِيَاس الْجريرِي، بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى، مر فِي: بَاب كم بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة. الرَّابِع: أَبُو الْعَلَاء يزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الله بن الشخير الْمعَافِرِي. الْخَامِس: الْأَحْنَف، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَفِي آخِره فَاء مر فِي: بَاب {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) . السَّادِس: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج أَبُو يَعْقُوب. السَّابِع: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث الثَّامِن أَبوهُ عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان الْعَنْبَري التَّمِيمِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِسْنَاد الأول الْجريرِي عَن أبي الْعَلَاء، وَفِي الْإِسْنَاد الثَّانِي الْجريرِي حَدثنَا أَبُو الْعَلَاء، وَكَذَلِكَ فِي الْإِسْنَاد الأول أَو الْعَلَاء عَن الْأَحْنَف، وَفِي الثَّانِي صرح أَبُو الْعَلَاء بِالتَّحْدِيثِ عَن الْأَحْنَف. فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْند) من حَدِيث أبي الْعَلَاء عَن أَخِيه مطرف عَن أبي ذَر طرفا من آخر هَذَا الحَدِيث قلت: لَيْسَ ذَاك بعلة لحَدِيث الْأَحْنَف، لِأَن حَدِيثه أتم سياقا وَأكْثر فَوَائِد، وَلَا مَانع أَن يكون لأبي الْعَلَاء شَيْخَانِ فِي هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: أَن لفظ الْأَحْنَف لقب واسْمه فِيمَا ذكره المرزباني: صَخْر، قَالَ: وَهُوَ الثبت، وَيُقَال: الضَّحَّاك، وَيُقَال: الْحَارِث ابْن قيس، وَيُقَال: قيس. وَقَالَ الْحَافِظ فِي (كتاب العرجان) : كَانَ أحنف من رجلَيْهِ جَمِيعًا وَلم يكن لَهُ إلاَّ بَيْضَة وَاحِدَة وَضرب على رَأسه بخراسان فماهت إِحْدَى عَيْنَيْهِ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْحسن: ولد مرتثقا ختار الأست حَتَّى شقّ وعولج. وَفِي (لطائف المعارف) لأبي يُوسُف: كَانَ أصلع متراكب الْأَسْنَان مائل الذقن. وَفِي (تَارِيخ الميتجاني) : كَانَ دميما قَصِيرا كوسجا. وَقَالَ الْهَيْثَم بن عدي فِي (كتاب العوران) : ذهبت عينه بسمرقند. وَفِي (الثِّقَات) لِابْنِ حبَان: ذهبت أحد عَيْنَيْهِ يَوْم الْحرَّة. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون. وَفِيه: أَن ثَلَاثَة من الروَاة مذكورون بِلَا نِسْبَة، وَالْآخر مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ. وَالْآخر بالكنية وَالْآخر باللقب. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن شَيبَان بن فروخ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَلَست إِلَى مَلأ) أَي: انْتهى جلوسي إِلَى مَلأ، أَي: جمَاعَة، وَكلمَة: من، فِي: (من قُرَيْش) للْبَيَان مَعَ التَّبْعِيض. قَوْله: (خشن الشّعْر) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة من الخشونة، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: حسن الشّعْر، بالمهملتين من الْحسن، وَالْأول أصح لِأَنَّهُ هُوَ اللَّائِق بزِي أبي ذَر وطريقته، وَعند مُسلم: أخشن الثِّيَاب أخشن الْجَسَد أخشن الْوَجْه، بخاء مُعْجمَة وشين. وَعند ابْن الْحذاء فِي الآخر خَاصَّة: حسن الْوَجْه من الْحسن ضد الْقبْح وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب بن سُفْيَان من طَرِيق حميد بن هِلَال عَن الْأَحْنَف: قدمت الْمَدِينَة فَدخلت مَسْجِدهَا إِذْ دخل رجل آدم طوال أَبيض الرَّأْس واللحية يشبه بعضه بَعْضًا، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو ذَر. قَوْله: (حَتَّى قَامَ) أَي: حَتَّى وقف. قَوْله: (بشّر الكانزين) ، بالنُّون وَالزَّاي، من: كنز يكنز، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: بشر الكنازين، بتَشْديد النُّون: جمع كناز مُبَالغَة كانز. وَقَالَ ابْن قرقول: وَعند الطَّبَرِيّ والهروي: الكاثرين، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالرَّاء من الْكَثْرَة، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول. وَقَوله: بشر، من بَاب التهكم، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} (آل عمرَان: 12، التَّوْبَة: 43، والانشقاق: 42) . وَقَالَ عِيَاض: الصَّحِيح أَن إِنْكَار أبي ذَر كَانَ على السلاطين الَّذين يَأْخُذُونَ المَال من بَيته لأَنْفُسِهِمْ وَلَا ينفقونه فِي وَجهه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الَّذِي قَالَه عِيَاض بَاطِل، لِأَن السلاطين فِي زَمَنه لم تكن هَذِه صفتهمْ، وَلم يخونوا فِي بَيت المَال إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنه أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَتُوفِّي فِي زمن عُثْمَان سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. قَوْله: (برضف) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره فَاء: وَهِي الْحِجَارَة المحماة. وَاحِدهَا رضفة. قَوْله: (فِي نَار جَهَنَّم) فِي جَهَنَّم مذهبان لأهل الْعَرَبيَّة: أَحدهمَا: أَنه اسْم أعجمي فَلَا ينْصَرف للعجمية والعلمية، قَالَ الواحدي: قَالَ يُونُس وَأكْثر النَّحْوِيين: هِيَ عجمية لَا تَنْصَرِف للتعريف والعجمة. وَالْآخر: أَنه اسْم عَرَبِيّ سميت بِهِ لبغد قعرها جدا، وَلم ينْصَرف للعلمية والتأنيث، قَالَ قطرب: عَن رؤبة، يُقَال: بِئْر جهنام أَي: بعيدَة القعر. وَقَالَ الواحدي: قَالَ بعض أهل اللُّغَة: هِيَ مُشْتَقَّة من الجهومة، وَهِي الغلظ. يُقَال: جهم الْوَجْه أَي غليظه، فسميت جَهَنَّم لغلظ أمرهَا فِي الْعَذَاب. قَوْله: (على حلمة ثدي أحدهم) ، الحلمة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَاللَّام: هُوَ مَا نشز من الثدي وَطَالَ، وَيُقَال لَهَا: قراد الصَّدْر، وَفِي (الْمُحكم) : حلمتا الثديين: طرفاهما. وَعَن الْأَصْمَعِي: هُوَ رَأس الثدي من الْمَرْأَة وَالرجل. وَفِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز اسْتِعْمَال الثدي

(8/264)


للرِّجَال وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَ العسكري فِي (الفصيح) ؛ لَا يُقَال ثدي إلاَّ فِي الْمَرْأَة، وَيُقَال فِي الرجل تندوة، والثدي يذكر وَيُؤَنث قَوْله: (من نغض كتفه) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة: وَهُوَ الْعظم الرَّقِيق الَّذِي على طرف الْكَتف، وَقيل: هُوَ أَعلَى الْكَتف، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الناغض. وَفِي (الْمُخَصّص) : النغض تحرّك الغضروف، نغضت كتفه نغوضا ونغاضا ونغضانا. وَيُقَال: طعنه فِي نغض كتفه، ومرجع كتفه وَهُوَ حَيْثُ يَتَحَرَّك الغضروف مِمَّا يَلِي إبطه فِي كتفه. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: قرع الْكَتف مَا تحرّك مِنْهَا وَعلا، وَالْجمع فروع، ونغضها حَيْثُ يَجِيء فرعها، وَيذْهب. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ أَعلَى مُنْقَطع الغضروف من الْكَتف. وَقيل: النغضان اللَّتَان ينغضان من أَسْفَل الْكَتف فيتحركان إِذا مَشى. وَقَالَ شمر: هُوَ من الْإِنْسَان أصل الْعُنُق حَيْثُ ينغض رَأسه، ونغض الْكَتف هُوَ الْعظم الرَّقِيق على طرفها. وَقَالَ الْخطابِيّ: نغض الْكَتف الشاخص من الْكَتف، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّك من الْإِنْسَان فِي مَشْيه. قَوْله: (يتزلزل) أَي: يَتَحَرَّك ويضطرب الرضف من نغض كتفه حَتَّى يخرج من حلمة ثديه، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فيتجلجل بجيمين، وَهُوَ بِمَعْنى الأول، وَفِي بعض النّسخ حَتَّى يخرج من حلمة ثدييه، بالتثنية فِي الثَّانِي والإفراد فِي الأول. قَوْله: (ثمَّ ولى) أَي: أدبر قَوْله (سَارِيَة) وَهِي الاسطوانة وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ فَوضع الْقَوْم رُؤْسهمْ فَمَا رَأَيْت أحدا مِنْهُم رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئا قَالَ فادبر فاتبعته حَتَّى جلس إِلَى سَارِيَة) . قَوْله: (وَأَنا لَا أَدْرِي من هُوَ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم زِيَادَة من طَرِيق خُلَيْد العصري عَن الْأَحْنَف، وَهِي: (فَقلت: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَر، فَقُمْت إِلَيْهِ فَقلت: مَا شَيْء سَمِعتك تَقوله؟ قَالَ: مَا قلت إلاَّ شَيْئا سمعته من نَبِيّهم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي هَذِه الزِّيَادَة رد لقَوْل من يَقُول: إِنَّه مَوْقُوف على أبي ذَر، فَلَا يكون حجَّة على غَيره. وَفِي (مُسْند أَحْمد) من طَرِيق يزِيد الْبَاهِلِيّ: (عَن الْأَحْنَف: كنت بِالْمَدِينَةِ فَإِذا أَنا بِرَجُل يفر مِنْهُ النَّاس حِين يرونه، قلت: من أَنْت؟ قَالَ: أَبُو ذَر. قلت: مَا نفر النَّاس مِنْك؟ قَالَ: إِنِّي أنهاهم عَن الْكُنُوز الَّتِي كَانَ ينهاهم عَنْهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: قلت: بِفَتْح التَّاء، خطاب لأبي ذَر. قَوْله: (قَالَ) أَي: أَبُو ذَر: (إِنَّهُم لَا يعْقلُونَ شَيْئا) ، فسر ذَلِك فِي الْأَخير بقوله: (إِنَّمَا يجمعُونَ الدُّنْيَا) ، فَالَّذِينَ يجمعُونَ الدُّنْيَا لَا يفهمون كَلَام من ينهاهم عَن الْكُنُوز. قَوْله: (قَالَ لي خليلي) أَرَادَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ بَينه بقوله، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: قَالَ أَبُو ذَر: خليلي هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وفاعل: قَالَ، هُوَ أَبُو ذَر. وَقَوله: (النَّبِي) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يَا أَبَا ذَر) ، تَقْدِيره: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا ذَر، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: سقط كلمة من الْكتاب، وَهِي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا ذَر أتبصر أُحدا؟ هُوَ الْجَبَل الْمَعْرُوف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ يَا أَبَا ذَر يتَعَلَّق بقوله: (قَالَ لي خليلي) . قلت: فعلى قَوْله لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير. قَوْله: (مَا بَقِي من النَّهَار) ، أَي: أَي شَيْء بَقِي من النَّهَار. قَوْله: (وَأَنا أرى) ، أَي: أَظن. قَوْله: (قلت: نعم) ، جَوَاب لقَوْله: (أتبصر أُحُدا) قَوْله: (مثل أحد) إِمَّا خبر لِأَن، وَإِمَّا حَال مقدم على الْخَبَر. وانتصاب (ذَهَبا) على التَّمْيِيز. قَوْله: (انفقه كُله) أَي: كل مثل أحد ذَهَبا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله يستحسن، فَلم مَا أحبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: المُرَاد أنفقهُ لخاصة نَفسه، أَو المُرَاد أنفقهُ فِي سَبِيل الله وَعدم الْمحبَّة، إِنَّمَا هُوَ للاستثناء الَّذِي فِيهِ. أَي: مَا أحب إلاَّ إِنْفَاق الْكل. قَوْله: (إلاَّ ثَلَاثَة دَنَانِير) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الدَّنَانِير الثَّلَاثَة المؤخرة: وَاحِد لأَهله وَآخر لعتق رَقَبَة وَآخر لدين. . وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن هَذَا الْمِقْدَار كَانَ دينا أَو مِقْدَار كِفَايَة إخراجات تِلْكَ اللَّيْلَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَإِن هَؤُلَاءِ لَا يعْقلُونَ) ، عطف على: إِنَّهُم لَا يعْقلُونَ شَيْئا، وَلَيْسَ من تَتِمَّة كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ من كَلَام أبي ذَر، وَكرر للتَّأْكِيد ولربط مَا بعده عَلَيْهِ. قَوْله: (إِنَّمَا يجمعُونَ الدُّنْيَا) قد قُلْنَا: إِن هَذَا بَيَان لقَوْله: (إِنَّهُم لَا يعْقلُونَ شَيْئا) . قَوْله: (لَا أسألهم دنيا) ، أَي: لَا أطمع فِي دنياهم. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (قلت مَالك لإخوانك من قُرَيْش لَا تعتريهم وَلَا تصيب مِنْهُم، قَالَ: وَرَبك لَا أسألهم دنيا) إِلَى آخِره. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا أسألهم عَن دنيا) . قَالَ النَّوَوِيّ: الأجود حذف: عَن، كَمَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، (ثمَّ قَالَ: لَا أسألهم شَيْئا من متاعها) . قَوْله: (لَا تعتريهم) أَي: تأتيهم وتطلب مِنْهُم. قَوْله: (وَلَا استفتيهم عَن دين) ، أَي: لَا أسألهم عَن أَحْكَام الدّين أَي: أقنع بالبلغة من الدُّنْيَا وأرضى باليسير مِمَّا سَمِعت من الْعلم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: زهد أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ من مذْهبه أَنه يحرم على الْإِنْسَان إدخار مَا زَاد على حَاجته. وَفِيه: أَن أَبَا ذَر ذهب إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر لفظ: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 43) . إِذْ الْكَنْز فِي اللُّغَة: المَال المدفون.

(8/265)


سَوَاء أدّيت زَكَاته أم لَا. وَفِي قَوْله: (إِنَّمَا يجمعُونَ الدُّنْيَا) دَلِيل على أَن الْكَنْز عِنْده جمع المَال. وَفِيه: وَعِيد شَدِيد لمن لَا يُؤَدِّي زَكَاته. وَفِيه: تكنية الشَّارِع لأَصْحَابه، و: الذَّر، جمع ذرة وَهِي: النملة الصَّغِيرَة، وَذكر أَن أَبَا ذَر لما أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ انْصَرف إِلَى قومه فَأَتَاهُ بعد مُدَّة فَتوهم اسْمه فَقَالَ: أَنْت أَبُو نملة. قَالَ أَبُو ذَر: يَا رَسُول الله، بل أَبُو ذَر. وَقد ذكرنَا أَن اسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة. وَفِيه: فِي قَوْله: أتبصر أُحدا؟ إِلَى آخِره، مثل لتعجيل الزَّكَاة، يَقُول: مَا أحب أَن أحبس مَا أوجبه الله بِقدر مَا بَقِي من النَّهَار. وَفِيه: مَا يشْعر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُرْسل أفاضل أَصْحَابه فِي حَاجته يفضلهم بذلك، لِأَنَّهُ يصير رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: مَا يشْهد لما، قَالَ سَحْنُون: ترك الدُّنْيَا زهدا أفضل من كسبها من الْحَلَال وإنفاقها فِي سَبِيل الله. وَفِيه: نفي الْعقل عَن الْعُقَلَاء.

5 - (بابُ إنْفَاقِ المَالِ فِي حَقِّهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِنْفَاق المَال، أَي: صرفه فِي حَقه أَي: فِي مصرفه الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مُؤَاخذَة عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

9041 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثني قَيْسٌ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ، قَالَ سَمِعْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ حَسَدَ إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلِ آتَاهُ الله مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ الله حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الشّطْر الأول مِنْهُ لِأَنَّهُ يدل على التَّرْغِيب فِي إِنْفَاق المَال فِي حَقه، والْحَدِيث قد مضى بِعَيْنِه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعلم وَالْحكمَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن إِسْمَاعِيل إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى الْمَعْرُوف بالزمن الْبَصْرِيّ عَن يحيى الْقطَّان عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، واسْمه سعد الْكُوفِي عَن قيس بن أبي حَازِم واسْمه عَوْف الأحمسي البَجلِيّ، قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ، فلنذكر هُنَا شَيْئا يَسِيرا.
فَقَوله: (لَا حسد) أَي: لَا غِبْطَة، وَقَالَ ابْن بطال: أَي لَا مَوضِع للغبطة إلاَّ فِي هَاتين الخصلتين فَإِن فيهمَا مَوضِع التنافس. قَوْله: (إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ) أَي: خَصْلَتَيْنِ، ويروى: (إلاَّ فِي اثْنَيْنِ) ، أَي: شَيْئَيْنِ من الْخِصَال.

6 - (بابُ الرِّياءِ فِي الصَّدَقَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرِّيَاء فِي الصَّدَقَة، الرِّيَاء: مصدر من راءيت الرجل مراآة ورياء أَي: خلاف مَا أَنا عَلَيْهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {الَّذين هم يراؤن} (الماعون: 6) . يَعْنِي: الْمُنَافِقين إِذا صلى الْمُؤْمِنُونَ صلوا مَعَهم يراؤنهم أَنهم على مَا هم عَلَيْهِ، وَفِي (الْمغرب) ؛ وَمن راأى راأى الله بِهِ، أَي: من عمل عملا لكَي يرَاهُ النَّاس شهر الله رياءه يَوْم الْقِيَامَة. ورأيا بِالْيَاءِ خطا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: فلَان مراء وَقوم مراؤن وَالِاسْم الرِّيَاء. يُقَال: فعل ذَلِك رِيَاء وَسُمْعَة. وَقَالَ أَبُو حَامِد: الرِّيَاء مُشْتَقّ من الرُّؤْيَة وَأَصله طلب الْمنزلَة فِي قُلُوب النَّاس بإراءتهم الْخِصَال المحمودة، فحد الرِّيَاء هُوَ إراءة الْعباد بِطَاعَة الله تَعَالَى، فالمرائي هُوَ العابد، والمرائي لَهُ هُوَ النَّاس والمراأى بِهِ هُوَ الْخِصَال الحميدة، والرياء هُوَ قصد إِظْهَار ذَلِك.
لِقَوْلِهِ تَعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنِّ والأذَى} إلَى قَوْلِهِ {الكافِرِينَ} (الْبَقَرَة: 462) .
علل الرِّيَاء فِي الصَّدَقَة بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} (الْبَقَرَة: 462) . إِلَى آخِره، فَإِن الله تَعَالَى شبه الَّذِي يبطل صدقته بالمن والأذى بِالَّذِي ينْفق مَاله رئاء النَّاس، وَلَا شكّ أَن الَّذِي يرائي فِي صدقته أسوء حَالا من الْمُتَصَدّق بالمن، لِأَنَّهُ قد علم أَن الْمُشبه بِهِ يكون أقوى حَالا من الْمُشبه، وَلِهَذَا قَالَ فِي حق الْمرَائِي: وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، ثمَّ ضرب مثل ذَلِك الْمرَائِي بإنفاقه. بقوله: {فَمثله كَمثل صَفْوَان} (الْبَقَرَة: 462) . إِلَى آخِره ثمَّ إِن صدر الْآيَة خطاب للْمُؤْمِنين خاطبهم بقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ} (الْبَقَرَة: 462) . أَي: ثَوَاب صَدقَاتكُمْ وأجور نفقاتكم. وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي ذَر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا ينظر إِلَيْهِم وَلَا يزكيهم

(8/266)


وَلَهُم عَذَاب أَلِيم: المنان بِمَا أعْطى، والمسبل إزَاره، والمنفق سلْعَته بِالْحلف الْكَاذِب) . وَلما خاطبهم بِهَذَا الْخطاب ونهاهم عَن إبِْطَال صَدَقَاتهمْ بالمن والأذى شبه إبطالهم بإِطال الْمُنَافِق الَّذِي ينْفق مَاله رئاء النَّاس لَا يُرِيد بإنفاقه، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلَا ثَوَاب الْآخِرَة، ثمَّ مثل ذَلِك بِصَفْوَان، وَهُوَ الْحجر الأملس عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وابل، أَي: مطر شَدِيد عَظِيم الْقدر فَتَركه صَلدًا وَهُوَ الأملس الَّذِي لَا ينبث عَلَيْهِ شَيْء، ثمَّ قَالَ: لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا أَي: لَا يَجدونَ يَوْم الْقِيَامَة ثَوَاب شَيْء مِمَّا عمِلُوا كَمَا لَا يحصل النَّبَات من الأَرْض الصلدة، أَو من التُّرَاب الَّذِي على الصفوان، ثمَّ قَالَ: وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين. أَي: لَا يخلق لَهُم الْهِدَايَة وَلَا يهْدِيهم غَدا لطريق الْجنَّة شبه الْكَافِر بالصفوان وَعَمله بِالتُّرَابِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: صَلْدا لَيْسَ عَليه شَيءٌ
لما كَانَ لفظ: صَلدًا، مَذْكُورا فِي الْآيَة الْكَرِيمَة علق تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس، وَصله مُحَمَّد بن جرير عَن مُحَمَّد بن سعد حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي عمر قَالَ: حَدثنِي أبي عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَركه صَلدًا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء} (الْبَقَرَة: 462) . وَفِي رِوَايَة: تَركهَا نقية لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْء، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره: حَدثنَا أَبُو زرْعَة حَدثنَا منْجَاب بن الْحَارِث أخبرنَا بشر عَن أبي روق عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَركه صَلدًا} (الْبَقَرَة: 462) . يَقُول: فَتَركه يَابسا حاشيا لَا ينْبت شَيْئا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابِلٌ مطَرٌ شَدِيدٌ وَالطَّلُّ النَّدَى
لما كَانَ لفظ الوابل علق تَفْسِيره عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، وَوَصله عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا روح عَن عُثْمَان بن غياث، سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول: أَصَابَهَا وابل مطر شَدِيد، والطل: الندى، بِفَتْح النُّون، وَلَيْسَ فِي الْآيَة إلاَّ ذكر الصفوان والوابل. قَالَ الطَّبَرِيّ: الصفوان وَاحِد وَجمع، فَمن جعله جمعا قَالَ: واحدته صفوانة بِمَنْزِلَة: تَمْرَة وتمر ونخل ونخلة، وَمن جعله وَاحِدًا جمعه على صَفْوَان وصفى وصفى. وَفِي (الْمُحكم) : الصفاة الْحجر الصلد الضخم الَّذِي لَا ينْبت شَيْئا وَجمع الصفاة صغوات وصفى، وَجمع الْجمع: أصفاء وصفي، قَالَ:

(كَأَن منبته من الصفى)

مواقع الطير على الصفى

كَذَا أنْشدهُ دُرَيْد لِأَن بعده:
من طول إشرافي على الطرى
وحكمنا: أَن أصفاه وصفيا جمع: صفى لَا جمع صفاة. لِأَن فعلة لَا يكسر على فعول، إِنَّمَا ذَلِك لفعلة كبدرة وبدور، وَكَذَلِكَ أصفاء جمع صفا، لَا جمع صفاة، لِأَن فعلة لَا تجمع على أَفعَال. وَهُوَ الصفواء كالصخراء واحدتها صفاة، وَكَذَلِكَ الصفوان واحدته صفوانة. وَفِي (الجمهرة) : الصَّفَا من الْحِجَارَة مَقْصُور ويثنى صَفْوَان، والصفواء صَخْرَة وَهِي الصفوانة أَيْضا. وَفِي (الْجَامِع) : عَن قطرب، صَفْوَان، بِكَسْر الصَّاد، وَقَرَأَ سعيد بن الْمسيب: صَفْوَان، بتحريك الْفَاء قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ.
7 - بابٌ لاَ يَقْبَلُ الله صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذَى وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ (الْبَقَرَة: 362) .
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: لَا يقبل الله صَدَقَة من غلُول، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب لَا تقبل صَدَقَة من غلُول. فَقَوله: لَا تقبل، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث أخرجه مُسلم من حَدِيث مُصعب ابْن سعد، قَالَ: دخل عبد الله بن عمر على ابْن عَامر يعودهُ وَهُوَ مَرِيض، فَقَالَ: أَلا تَدْعُو الله لي يَا ابْن عمر؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول، وَكنت على الْبَصْرَة. قلت: كَأَنَّهُ قَاس الدُّعَاء على الصَّلَاة، فَكَمَا أَن الصَّلَاة لَا تكون إلاَّ عَن مصون من الأقذار، فَكَذَلِك الدُّعَاء للمصون من تبعات النَّاس، وكنتَ على الْبَصْرَة وتعلقت بك حُقُوق النَّاس، وَكَأَنَّهُ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قصد بِهَذَا الزّجر عَلَيْهِ والحث على التَّوْبَة. وَأخرجه الْحسن بن سُفْيَان فِي (مُسْنده) عَن أبي كَامِل، أحد مَشَايِخ مُسلم، فِيهِ بِلَفْظ: (لَا يقبل الله صَلَاة إلاَّ بِطهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول) . وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) :

(8/267)


حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أبي الْمليح عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يقبل الله تَعَالَى صَدَقَة من غلُول وَلَا صَلَاة بِغَيْر طهُور) . الْغلُول: بِضَم الْغَيْن الْخِيَانَة فِي الْمغنم وَالسَّرِقَة من الْغَنِيمَة قبل الْقِسْمَة، يُقَال: غل فِي الْمغنم يغل من بَاب ضرب يضْرب غلولاً، فَهُوَ غال، كل من خَان فِي شَيْء خُفْيَة فقد غل، وَسميت غلولاً لِأَن الْأَيْدِي فِيهَا مغلولة أَي مَمْنُوعَة مجعول فِيهَا غل وَهُوَ الحديدة الَّتِي تجمع يَد الْأَسير إِلَى عُنُقه، وَيُقَال لَهَا: جَامِعَة، أَيْضا. وَذكر ابْن سَيّده أَنه يُقَال: غل يغل غلولاً وأغل: خَان، وَخص بَعضهم بِهِ الخون فِي الْفَيْء وأغله خونه، وَالْإِغْلَال السّرقَة. قَالَ ابْن السّكيت: لم يسمع فِي الْمغنم إلاَّ غل غلولاً. وَفِي (الصِّحَاح) : يُقَال من الْخِيَانَة: أغل يغل، وَمن الحقد غل يغل وَمن الْغلُول غل يغل بِالضَّمِّ. قَوْله: (وَلَا صَلَاة) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم وتشمل سَائِر الصَّلَوَات من الْفَرْض وَالنَّفْل وَالطهُور، بِضَم الطَّاء، وَالْمرَاد بِهِ الْفِعْل، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين. وَقد قيل: يجوز فتحهَا وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل المَاء وَالتُّرَاب. قَوْله: (وَلَا يقبل إلاَّ مِن كسب طيب) هَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْآتِي بعد هَذَا. قَوْله: (لقَوْله) أَي: لقَوْل الله تَعَالَى. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه تَعْلِيله بقوله تَعَالَى: {ومغفرة خير من صَدَقَة} (الْبَقَرَة: 362) . قلت: تِلْكَ الصَّدَقَة يتبعهَا الْأَذَى يَوْم الْقِيَامَة بِسَبَب الْخِيَانَة، وَنقل عَن بَعضهم وَجه مُطَابقَة التَّرْجَمَة لِلْآيَةِ: أَن الْأَذَى بعد الصَّدَقَة يُبْطِلهَا، فَكيف بالأذى الْمُقَارن لَهَا؟ وَذَلِكَ أَن الغال متصدق بِمَال مَغْصُوب، وَالْغَاصِب مؤذ لصَاحب المَال عَاص بتصرفه فِيهِ، فَكَانَ أولى بالإبطال. وَقَالَ ابْن الْمُنِير. فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين التَّرْجَمَة وَالْآيَة؟ وهلا ذكر قَوْله تَعَالَى: {انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762) . قَالَ: قلت: جرى على عَادَته فِي إِيثَار الاستنباط الْخَفي والاتكال فِي الِاسْتِدْلَال الْجَلِيّ على سبق الأفهام لَهُ، وَوجه الاستنباط لَهُ يحْتَمل أَن الْآيَة لَهَا إِثْبَات الصدقةُ غير أَن الصَّدَقَة لما تبعها سَيِّئَة الْأَذَى بطلت، فالغلول غصب إِذا فيقارن الصَّدَقَة فَتبْطل بطرِيق الأولى. قَوْله: {قَول مَعْرُوف} (الْبَقَرَة: 762) . أَي: كَلَام حسن ورد جميل على السَّائِل، وَقيل: دُعَاء صَالح يَدْعُو لَهُ. وارتفاع: قَول، على الِابْتِدَاء وَإِن كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ يخصص بِالصّفةِ. وَقَوله: {خير} (الْبَقَرَة: 362) . خَبره وَقَوله: {ومغفرة} (الْبَقَرَة: 362) . أَي: ستر وَتجَاوز من السَّائِل إِذا استطال عَلَيْهِ: {خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى} (الْبَقَرَة: 362) . بمنة. وَقيل: مغْفرَة، أَي: عَفْو عَن ظلم قولي أَو فعلي خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى. وَقَالَ الضَّحَّاك: يَقُول: أَن تمسك مَالك خير من أَن تنفقه ثمَّ تتبعه منا وأذى. وَيُقَال: لما علم الله أَن الْفَقِير إِذا رد بِغَيْر نوال يشق عَلَيْهِ، وَرُبمَا يَدْعُو عَلَيْهِ ببسط اللِّسَان وَإِظْهَار الشكوى حث على الصفح وَالْعَفو. ثمَّ قَالَ: {وَالله غَنِي} (الْبَقَرَة: 362) . عَن صَدَقَة الْعباد، وَلَو شَاءَ لأغنى جَمِيع الْخلق، وَلكنه أعْطى الْأَغْنِيَاء لينْظر كَيفَ شكرهم، وابتلى الْفُقَرَاء لينْظر كَيفَ صبرهم: {حَلِيم} (الْبَقَرَة: 362) . لَا يعجل بالعقوبة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: غَنِي لَا حَاجَة بِهِ إِلَى منفق يمن ويؤذي، حَلِيم عَن معالجته بالعقوبة، وَهَذَا سخط مِنْهُ ووعيد لَهُ. وَالله أعلم.

8 - (بابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الصَّدَقَة لَا تقبل إِلَّا من كسب طيب، وَيجوز إِضَافَة لفظ: بَاب، إِلَى مَا بعده، وَيجوز قطعه عَن الْإِضَافَة، وعَلى تَقْدِير الْقطع يكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّدَقَة من كسب طيب، يَعْنِي: تقبل الصَّدَقَة الْحَاصِلَة من كسب طيب، أَو التَّقْدِير: الصَّدَقَة إِنَّمَا تقبل من كسب طيب. فَلفظ: الصَّدَقَة، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ. وَفِي الْوَجْه الأول، مجرور بِالْإِضَافَة، وَلما ذكر فِي الْبَاب الأول فِي التَّرْجَمَة قَوْله: وَلَا تقبل إلاَّ من كسب طيب، تعرض إِلَى بَيَان الْكسْب الطّيب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الَّتِي لم تقع فِي الْكتاب إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَابْن شبويه والكشميهني.
لِقَوْلِهِ {ويُرْبى الصَّدَقَاتِ وَالله لاَ يُحِبُّ كلَّ كَفَّارٍ أثيمٍ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأقَامُوا الصَّلاَةَ واتُوا الزَّكَاةَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} (الْبَقَرَة: 672 و 772) .

علل كَون الصَّدَقَة من كسب طيب، بقوله تَعَالَى: {ويربي الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: 672 و 772) . أَي: يزِيد فِيهَا ويبارك فِي الدُّنْيَا ويضاعف الثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وَالْكَسْب الطّيب هُوَ من الْحَلَال قَالَ تَعَالَى: {انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762) . {وكلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم} (الْبَقَرَة: 75 و 271، طه: 18) .

(8/268)


وَإِنَّمَا لَا يقبل الله المَال الْحَرَام لِأَنَّهُ غير مَمْلُوك للمتصدق، وَهُوَ مَمْنُوع من التَّصَرُّف فِيهِ، وَالتَّصَدُّق بِهِ تصرف فِيهِ، فَلَو قبلت لزم أَن يكون مَأْمُورا بِهِ ومنهيا عَنهُ من وَجه وَاحِد، وَذَلِكَ محَال. فَإِن قلت: قَوْله: {ويربي الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: 672) . لفظ عَام لما يكون من الْكسْب الطّيب وَمن غَيره، فَكيف يدل على التَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ مُقَيّد بالصدقات الَّتِي من المَال الْحَلَال بِقَرِينَة السِّيَاق نَحْو: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . قلت: قَوْله تَعَالَى: {يمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: 672) . أقرب للاستدلال على مَا ذكره من قَوْله: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . لِأَن الله تَعَالَى أخبر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة أَنه يمحق الرِّبَا، أَي: يذهبه إِمَّا بِأَن يذهب بِالْكُلِّيَّةِ من يَد صَاحبه أَو يحرمه بركَة مَاله، فَلَا ينْتَفع بِهِ بل يعذبه بِهِ فِي الدُّنْيَا ويعاقبه عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة. وروى الإِمَام أَحْمد فِي (مُسْنده) فَقَالَ: حَدثنَا حجاج حَدثنَا شريك عَن الركين بن الرّبيع عَن أَبِيه عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الرِّبَا وَإِن كثر فَإِن عاقبته تصير إِلَى قل، وَهَذَا من بَاب الْمُعَامَلَة بنقيض الْمَقْصُود، ثمَّ إِن الله تَعَالَى لما أخبر بِأَنَّهُ يمحق الرِّبَا لِأَنَّهُ حرَام، أخبر أَنه يُربي الصَّدقَات الَّتِي من الْكسْب الْحَلَال. وَفِي (الصَّحِيح) عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تصدق بِعدْل تَمْرَة. .) الحَدِيث، على مَا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَلما قرن بَين قَوْله: {يمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: 672) . وَبَين قَوْله: {ويربى الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: 672) . بواو الْعَطف علم أَن إرباء الصَّدقَات إِنَّمَا يكون إِذا كَانَت من الْكسْب الْحَلَال بِقَرِينَة محقه الرِّبَا لكَونه حَرَامًا. قَوْله: {وَالله لَا يحب كل كفار أثيم} (الْبَقَرَة: 672) . أَي: لَا يحب كفور الْقلب أثيم القَوْل وَالْفِعْل، وَلَا بُد من مُنَاسبَة فِي ختم هَذِه الْآيَة بِهَذِهِ الصّفة، وَهِي أَن المرابي لَا يرضى بِمَا قسم الله لَهُ من الْحَلَال، وَلَا يَكْتَفِي بِمَا شرع لَهُ من التكسب الْمُبَاح، فَهُوَ يسْعَى فِي أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ بأنواع المكاسب الخبيثة، فَهُوَ جحود لما عَلَيْهِ من النِّعْمَة، ظلوم آثم بِأَكْل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ، ثمَّ قَالَ تَعَالَى، وتقدس، مادحا للْمُؤْمِنين برَبهمْ المطيعين أمره المؤدين شكره الْمُحْسِنِينَ إِلَى خلقه فِي إِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة، مخبرا عَمَّا أعدلهم من الْكَرَامَة وَأَنَّهُمْ يَوْم الْقِيَامَة آمنون من التَّبعَات فَقَالَ: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} (الْبَقَرَة: 77) . أَي: لَا خوف عَلَيْهِم عِنْد الْمَوْت، وَلَا هم يَحْزَنُونَ يَوْم الْقِيَامَة.

0141 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ هُوَ ابنُ عَبْدِ الله ابنِ دِينَارٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ الله إلاَّ الطَّيِّبَ وَإنَّ الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلْوَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلِ الجَبَلِ.
(الحَدِيث 0141 طرفه فِي: 0347) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من كسب طيب) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون، مر فِي: بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب. الثَّانِي: أَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْمه سَالم بن أبي أُميَّة مولى عمر بن عبيد الله بن معمر القريشي التَّيْمِيّ. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار مولى عبد الله بن عمر مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله بن دِينَار. الْخَامِس: أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: اثْنَان مذكوران بالكنية. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة أَيْضا عَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم عَن خَالِد بن مخلد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِعدْل تَمْرَة) ، بِكَسْر الْعين: هُوَ مَا عَادل الشَّيْء من غير جنسه، وبالفتح مَا عادله من جنسه. تَقول: عِنْدِي عدل دراهمك من الثِّيَاب وَعدل دراهمك من الدَّرَاهِم. وَقَالَ البصريون: العَدل والعِدل لُغَتَانِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: بِعدْل تَمْرَة أَي: قيمَة تَمْرَة. يُقَال: هَذَا عدله، بِفَتْح الْعين، أَي مثله فِي الْقيمَة، وبكسرها أَي مثله فِي المنظر. وَزعم ابْن قُتَيْبَة: أَن الْعدْل، بِالْفَتْح: الْمثل وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {أَو عدل ذَلِك صياما} (الْمَائِدَة: 59) . وَالْعدْل، بِالْكَسْرِ: الْقيمَة، وَزعم ابْن التِّين أَنه على هَذَا جمَاعَة من أهل اللُّغَة، وَفِي

(8/269)


(الْمُحكم) : الْعدْل والعديل وَالْعدْل: النظير، والمثل. وَقيل: هُوَ الْمثل وَلَيْسَ بالنظير عينه، وَالْجمع أعدال وعدلاء. وَقيل: ضبط هَهُنَا بِالْفَتْح عِنْد الْأَكْثَرين. قَوْله: (من كسب طيب) أَي: حَلَال، وَهِي صفة مُمَيزَة لعدل تَمْرَة ليمتاز الْكسْب الْخَبيث الْحَرَام. قَوْله: (وَلَا يقبل الله إِلَّا الطّيب) جملَة مُعْتَرضَة وَارِدَة على سَبِيل الْحصْر بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء تَأْكِيدًا وتقريرا للمطلوب فِي النَّفَقَة، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال الْآتِي ذكرهَا: (وَلَا يصعد إِلَى الله إلاَّ الطّيب) ، وَزَاد سُهَيْل فِي رِوَايَته الْآتِي ذكرهَا. (فَيَضَعهَا فِي حَقّهَا) . قَوْله: (بِيَمِينِهِ) ، قَالَ الْخطابِيّ: جرى ذكر الْيَمين ليدل بِهِ على حسن الْقبُول، لِأَن فِي عرف النَّاس أَن أَيْمَانهم مرصدة لما عز من الْأُمُور، وَقيل: المُرَاد سرعَة الْقبُول. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَلما قيد الْكسْب بالطيب أتبعه الْيَمين لمناسبة بَينهمَا فِي الشّرف، وَمن ثمَّة كَانَت يَده الْيُمْنَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للطهور، وَفِي رِوَايَة سُهَيْل: إلاَّ أَخذهَا بِيَمِينِهِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم بن أبي مَرْيَم الْآتِي ذكرهَا: فيقبضها، وَفِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد الْبَزَّار: (فيتلقاها الرَّحْمَن بِيَدِهِ) ، وَيُقَال: لما كَانَت الشمَال عَادَة تنقص عَن الْيَمين بطشا وَقُوَّة عرفنَا الشَّارِع بقوله: وكلتا يَدَيْهِ يَمِين، فَانْتفى النَّقْص تَعَالَى عَنهُ، والجارحة على الرب محَال. قَوْله: (فلوه) ، بِفَتْح الْفَاء وَضم اللَّام وَتَشْديد الْوَاو: وَهُوَ الْمهْر لِأَنَّهُ يعلى أَي: يعظم وَالْأُنْثَى: فلوة، مِثَال عدوة، وَالْجمع: أفلاء، مثل: أَعدَاء. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يُقَال للمهر: فَلَو، وللجحش: ولد الْحمار فلوة بِكَسْر الْفَاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: عَن أبي زيد: إِذا فتحت الْفَاء شددت الْوَاو، وَإِذا كسرت خففت، فَقلت: فَلَو مثل جرو. وَفِي (الْمُخَصّص) : إِذا بلغ سنة، يَعْنِي: ولد الجحش، فَهُوَ فَلَو، وَعَن سِيبَوَيْهٍ: وَالْجمع أفلاء، وَلم يكسر على فعل كَرَاهِيَة الْإِخْلَال، وَلَا كسروه على فعلان كَرَاهِيَة الكسرة قبل الْوَاو، وَإِن كَانَ بَينهمَا حاجز، لِأَن السَّاكِن لَيْسَ بحاجز حُصَيْن، وَعَن الْأَعرَابِي: الفلو كالتلو، وَخص أَبُو عبيد بِهِ فَلَو الأتان وَالْجمع كالجمع إلاَّ أَنه لَا يحوج إِلَى الِاعْتِذَار من فعلان. وَقد فلى مهره إِذا فَصله من أمه، وأفلاه. وَعَن ابْن السّكيت: فلوته عَن أمه وأفتليته: فصلته عَنْهَا، وَعَن ابْن دُرَيْد: فلوت الْمهْر: نحيته. وَعَن أبي عبيد: فلوت الْمهْر عَن أمه فَهُوَ فَلَو، وَفرس مفل ومفلية ذَات فَلَو. وَفِي (الْمُحكم) : فلوت الصَّبِي وَالْمهْر والجحش فلوا. وَفِي (الْجَامِع) : زَاد الْقَزاز: الْجمع أفلاء وفلاء. وَقَول الْعَامَّة: فَلَو، خطأ، وَجمع الفلوة: فلاوي: مثل: خَطَايَا. وَفِي (الْمُنْتَخب) لكراع، يصف أَوْلَاد الْخَيل وَلَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الفلو حَتَّى يفتلى من أمه، أَي: يفطم ثمَّ هُوَ فَلَو حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول، ثمَّ هُوَ حَولي حَتَّى يتجاذع. وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: وَالْجمع فَلَو، بِضَم الْفَاء. وَفِي (كتاب الْفرق) لأبي حَاتِم السجسْتانِي: قَالُوا فِي ولد الْخَيل العراب والبراذين للذكران: مهر، وللأنثى: مهرَة، فَإِذا كَانَت لَهُ سَبْعَة أشهر أَو ثَمَانِيَة يُقَال لَهُ: الخروف، وَالْجمع: خرف. فَإِذا كَانَت لَهُ سنة فَهُوَ: فَلَو وَالْأُنْثَى فلوة. وَلَا يُقَال: فَلَو وَلَا فلوة، كَمَا يَقُول من لَا يعلم من الْعَوام، وَقد أولعوا بذلك. وَفِي (كتاب الوحوش) : يُقَال لولد الْحمار: مهر وتولب وتالب، وَهِي المهار والفلاء. قَالَ: وحمر الوحوش على هَذِه الصّفة. وَقَوله: (كَمَا يربى أحدكُم فلوه) ضرب الْمثل لِأَنَّهُ يزِيد زِيَادَة بَيِّنَة، فَكَذَلِك الصَّدَقَة نتاج الْعَمَل فَإِذا كَانَت من حَلَال لَا يزَال نظر الله إِلَيْهَا حَتَّى تَنْتَهِي بالتضعيف إِلَى أَن تصير التمرة كالجبل، وَهُوَ معنى قَوْله: (حَتَّى تكون مثل الْجَبَل) . قَالَ الدَّاودِيّ: أَي: كمن تصدق بِمثل الْجَبَل، وتربية الصَّدقَات مضاعفة الْأجر عَلَيْهَا وَإِن أُرِيد بِهِ الزِّيَادَة فِي كمية عينهَا ليَكُون أثقل فِي الْمِيزَان لم يُنكر ذَلِك. وَفِي رِوَايَة مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، من طَرِيق سعيد بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: حَتَّى تكون أعظم من الْجَبَل. وَفِي رِوَايَة ابْن جرير من وَجه آخر عَن الْقَاسِم: حَتَّى يوافي بهَا يَوْم الْقِيَامَة وَهِي أعظم من أحد. وَفِي رِوَايَة الْقَاسِم عِنْد التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: (حَتَّى إِن اللُّقْمَة لتصير مثل أحد) .
تابَعَهُ سُلَيْمَانُ عنِ ابنِ دِينَارٍ
أَي: تَابع عبد الرَّحْمَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذِه الْمُتَابَعَة ذكرهَا البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد، وَقَالَ: خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عبد الله بن دِينَار، فساق مثله إلاَّ أَن فِيهِ مُخَالفَة فِي اللَّفْظ يسيرَة، وَقد وَصله أَبُو عوَانَة والجوزقي من طَرِيق مُحَمَّد بن معَاذ بن يُوسُف عَن خَالِد بن مخلد بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ مُسلم: حَدثنَا يزِيد، يَعْنِي ابْن زُرَيْع، قَالَ: حَدثنَا روح بن الْقَاسِم، وحدثنيه أَحْمد بن عُثْمَان الأودي، قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن مخلد، قَالَ: حَدثنِي سُلَيْمَان يَعْنِي ابْن بِلَال، كِلَاهُمَا عَن سُهَيْل بِهَذَا الْإِسْنَاد من حَدِيث روح: من الْكسْب الطّيب فَيَضَعهَا فِي حَقّهَا، وَفِي حَدِيث سُلَيْمَان: فَيَضَعهَا فِي موضعهَا.

(8/270)


وَقَالَ وَرْقاءُ عنِ ابنِ دِينَارٍ عنْ سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: قَالَ وَرْقَاء بن عمر بن كُلَيْب الْيَشْكُرِي: عَن عبد الله بن دِينَار عَن سعيد بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، وورقاء هَذَا قد خَالف سُلَيْمَان حَيْثُ جعل شيخ ابْن دِينَار فِيهِ: سعيد بن يسَار بدل أبي صَالح، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا وهم لتوارد الروَاة عَن أبي صَالح دون سعيد بن يسَار، وَفِيه نظر لِأَنَّهُ مَحْفُوظ عَن سعيد بن يسَار من وَجه آخر كَمَا أخرجه مُسلم، قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا لَيْث عَن سعيد بن أبي سعيد عَن يسَار أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا تصدق أحد بِصَدقَة من طيب وَلَا يقبل الله إلاَّ الطَّيِّب إلاَّ أَخذهَا الرَّحْمَن بِيَمِينِهِ وَإِن كَانَت تَمْرَة فتربو فِي كف الرَّحْمَن حَتَّى تكون أعظم من الْجَبَل كَمَا يُربي أحدكُم فلوه أَو فَصِيله) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة إِلَى آخِره نَحوه، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث، وَقَالَ بَعضهم: وَلم أَقف على رِوَايَة وَرْقَاء هَذِه مَوْصُولَة. قلت: قد وَصلهَا الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة أبي النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم: حَدثنَا وَرْقَاء، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، ورويناه أَيْضا فِي الْجُزْء الرَّابِع من (فَوَائِد أبي بكر الشَّافِعِي) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد يَعْنِي: ابْن غَالب: حَدثنَا عبد الصَّمد حَدثنَا وَرْقَاء.
ورَوَاهُ مُسْلِمُ بنُ أبِي مَرْيَمَ وَزَيْدُ بنُ أسْلَمَ وَسُهَيْلٌ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور مُسلم بن أبي مَرْيَم السّلمِيّ الْمدنِي، وَوصل يُوسُف بن يَعْقُوب القَاضِي فِي كتاب الزَّكَاة رِوَايَة مُسلم هَذِه، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي حَدثنَا سعيد بن سَلمَة هُوَ ابْن أبي الحسام عَنهُ بِهِ. قَوْله: (وَزيد بن أسلم) ، عطف على مُسلم، وَوصل رِوَايَته مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الطَّاهِر، وَقَالَ: أخبرنَا عبد الله بن وهب قَالَ: أَخْبرنِي هِشَام بن سعيد عَن زيد بن أسلم عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو حَدِيث يَعْقُوب عَن سُهَيْل، ونذكره الْآن. قَوْله: (وَسُهيْل) ، عطف على زيد بن أسلم، وَوصل رِوَايَته أَيْضا مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي: ابْن عبد الرَّحْمَن الْقَارِي، عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يتَصَدَّق أحد بتمرة من كسب طيب إلاَّ أَخذهَا الله بِيَمِينِهِ يُرَبِّيهَا كَمَا يُربي أحدكُم فلوه أَو قلوصه حَتَّى تكون مثل الْجَبَل أَو أعظم) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ قَالَ أَولا تَابِعَة، وَثَانِيا: قَالَ وَرْقَاء، وثالثا: قَالَ رَوَاهُ، مَعَ أَن الثَّالِث أَيْضا فِيهِ مُتَابعَة، لِأَن الثَّلَاثَة تابعوا ابْن دِينَار فِي الرِّوَايَة عَن أبي صَالح؟ قلت: الأول: مُتَابعَة لِأَن اللَّفْظ فِيهِ بِعَيْنِه لَفظه، وَالثَّالِث: رِوَايَة لَا مُتَابعَة لاخْتِلَاف اللَّفْظ وَإِن اتَّحد الْمَعْنى فيهمَا. وَالثَّانِي: لما لم يكن على سَبِيل النَّقْل وَالرِّوَايَة، بل على سَبِيل المذاكرة، قَالَ بِلَفْظ القَوْل.

9 - (بابُ الصَّدَقَةِ قبل الرَّدِّ)

أَي: هَذَا بَاب فِي التحريض على إِعْطَاء الصَّدَقَة قبل رد من يتَصَدَّق عَلَيْهِ بهَا، وَالْمَقْصُود من هَذِه التَّرْجَمَة المسارعة إِلَى الصَّدَقَة والتحذير عَن تسويفها، لِأَن التسويف قد يكون ذَرِيعَة إِلَى أَن لَا يجد من يقبلهَا. وَقد أخبر الشَّارِع أَنه سيقع فقد الْفُقَرَاء المحتاجين إِلَى الصَّدَقَة وَيخرج الْغَنِيّ صدقته فَلَا يجد من يقبلهَا، كَمَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب (يَقُول الرجل: لَو جِئْت بهَا بالْأَمْس لقبلتها، فَأَما الْيَوْم فَلَا حَاجَة لي فِيهَا) .

1141 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مَعْبَدُ بنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حارِثَةَ بنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تَصَدَّقُوا فإنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا فأمَّا اليَوْمَ فَلاَ حاجَةَ لِي بِهَا.

(8/271)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: آدم بن أبي إِيَاس، وَشعْبَة بن الْحجَّاج، ومعبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: ابْن خَالِد الجدلي، بِالْجِيم وَالدَّال الْمُهْملَة المفتوحتين: الْكُوفِي الْقَاص، بتَشْديد الصَّاد: العابد وَكَانَ من القانتين، مَاتَ سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وحارثة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبكسر الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن وهب الْخُزَاعِيّ أَخُو عبيد الله بن عمر بن الْخطاب لأمه، لَهُ صُحْبَة، يعد فِي الْكُوفِيّين.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين، وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه عسقلاني وَشعْبَة واسطي ومعبد كُوفِي والْحَدِيث من الرباعيات.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن الْجَعْد، وَأخرجه فِي الْفِتَن عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبيد الله بن نمير.
قَوْله: (يَقُول الرجل) أَي: الرجل الَّذِي يُرِيد الْمُتَصَدّق أَن يُعْطِيهِ إِيَّاهَا. قَوْله: (فَلَا حَاجَة لي بِهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فِيهَا. وَقَالَ بَعضهم: وَالظَّاهِر أَن ذَلِك يَقع فِي زمَان كَثْرَة المَال وفيضه قرب السَّاعَة. قلت: هَذَا كَلَام ابْن بطال، وَلكنه غير مُتبع لِأَن الظَّاهِر أَن ذَلِك يَقع فِي زمَان تظهر كنوز الأَرْض الَّذِي هُوَ من جملَة أَشْرَاط السَّاعَة.
وَفِيه: حث على الصَّدَقَة وَالتَّرْغِيب مَا وجد أَهلهَا المستحقون لَهَا خشيَة أَن يَأْتِي الزَّمن الَّذِي لَا يُوجد فِيهِ من يَأْخُذهَا، وَهُوَ الزَّمَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا.

2141 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ المَالُ فَيَفِيضُ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ المَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ لَا أرَبَ لِي فِيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: ذكْوَان، وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج.
قَوْله: (فيفيض) ، من فاض الْإِنَاء إِذا امْتَلَأَ، وأفاضه ملأَهُ، واشتقاقه من الْفَيْض. وَفِي (الْمغرب) : فاض المَاء إِذا انصب على امتلائه، وأفاض المَاء صبه عَن كَثْرَة. قَوْله: (حَتَّى يهم) بِفَتْح الْيَاء وَضم الْهَاء من: الْهم، بِفَتْح الْهَاء، وَهُوَ مَا يشغل الْقلب من أَمر يهم بِهِ. قَوْله: (رب المَال) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يهم. وَقَوله: (من يقبل) فَاعله من: همه الشَّيْء أحزنه، ويروى: يهم، بِضَم الْيَاء وَكسر الْهَاء من: أهمه الْأَمر إِذا أقلقه، فعلى هَذَا أَيْضا الْإِعْرَاب مثل الأول، لِأَن كلا من: يهم، بِفَتْح الْيَاء، و: يهم، بضَمهَا، متعدٍ. يُقَال: همه الْأَمر وأهمه، وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِي (شرح مُسلم) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ضبطوه بِوَجْهَيْنِ أشهرهما بِضَم أَوله وَكسر الْهَاء، و: رب المَال، مفعول، وَالْفَاعِل: من يقبل أَي يحزنهُ، وَالثَّانِي بِفَتْح أَوله وَضم الْهَاء، وَرب المَال فَاعل، و: من مَفْعُوله أَي: يقْصد. انْتهى. قلت: فهم من ذَلِك أَنهم فرقوا بَين الْبَابَيْنِ، فَجعلُوا الأول مُتَعَدِّيا من الإهمام وَالثَّانِي مُتَعَدِّيا من الْهم بِمَعْنى الْقَصْد، فَجعلُوا رب المَال مَفْعُولا فِي الأول، وفاعلاً فِي الثَّانِي. قَوْله: (لَا أرب لي فِيهِ) ، أَي: لَا حَاجَة لي فِيهِ، وَهُوَ بِفتْحَتَيْنِ لَا غير. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَأَنَّهُ سقط كلمة: فِيهِ، من الْكتاب؟ قلت: السقط كَأَنَّهُ كَانَ فِي نسخته، وَهُوَ مَوْجُود فِي النّسخ. وَقَالَ أَيْضا: وَقد وجدت فِي أَيَّام الصَّحَابَة هَذِه الْحَال، كَانَت تعرض عَلَيْهِم الصَّدَقَة فيأبون قبُولهَا. قلت: كَانَ هَذَا لزهدهم وإعراضهم عَن الدُّنْيَا وَلم يكن لفيض من المَال، وَكَانُوا يعرضون عَنْهَا مَعَ قلَّة المَال وَكَثْرَة الإحتياج.
17 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا أَبُو عَاصِم النَّبِيل قَالَ أخبرنَا سَعْدَان بن بشر قَالَ حَدثنَا أَبُو مُجَاهِد قَالَ حَدثنَا مَحل بن خَليفَة الطَّائِي قَالَ سَمِعت عدي بن حَاتِم رَضِي الله عَنهُ يَقُول كنت عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَاءَهُ رجلَانِ أَحدهمَا يشكو الْعيلَة وَالْآخر يشكو قطع

(8/272)


السَّبِيل فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما قطع السَّبِيل فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْك إِلَّا قَلِيل حَتَّى تخرج العير إِلَى مَكَّة بِغَيْر خفير وَأما الْعيلَة فَإِن السَّاعَة لَا تقوم حَتَّى يطوف أحدكُم بِصَدَقَتِهِ لَا يجد من يقبلهَا مِنْهُ ثمَّ ليقفن أحدكُم بَين يَدي الله لَيْسَ بَينه وَبَينه حجاب وَلَا ترجمان يترجم لَهُ ثمَّ ليَقُولن لَهُ أم أوتك مَالا فليقولن بلَى ثمَّ ليَقُولن ألم أرسل إِلَيْك رَسُولا فليقولن بلَى فَينْظر عَن يَمِينه فَلَا يرى إِلَّا النَّار ثمَّ ينظر عَن شِمَاله فَلَا يرى إِلَّا النَّار فليتقين أحدكُم النَّار وَلَو بشق تَمْرَة فَإِن لم يجد فبكلمة طيبَة) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " فَإِن السَّاعَة لَا تقوم حَتَّى يطوف أحدكُم بِصَدَقَتِهِ لَا يجد من يقبلهَا مِنْهُ ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وَقد مر. الثَّانِي أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد الملقب بالنبيل وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث سَعْدَان بن بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة الْجُهَنِيّ. الرَّابِع أَبُو مُجَاهِد اسْمه سعد الطَّائِي. الْخَامِس مَحل بِضَم الْمِيم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام ابْن خَليفَة الطَّائِي. السَّادِس عدي بن حَاتِم الطَّائِي (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه السماع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه بخاري وَمن أَفْرَاده وَفِيه أَن شيخ شَيْخه شَيْخه أَيْضا لِأَنَّهُ روى عَنهُ وَأَنه بَصرِي وَأَن سَعْدَان من أَفْرَاده وَأَنه كُوفِي وَأَن لفظ سَعْدَان لقبه واسْمه سعدوان أَبَا مُجَاهِد أَيْضا من أَفْرَاده وَأَنه طائي وَأَن مَحل بن خَليفَة كُوفِي وَأَنه من أَفْرَاده قَالَ الْكرْمَانِي وجده عدي بن حَاتِم ثمَّ قَالَ وَفِي الْإِسْنَاد ثَلَاثَة طائيون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن مُحَمَّد بن الحكم عَن النَّضر بن شُمَيْل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن نضر بن عَليّ الْجَهْضَمِي مُخْتَصرا (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يشكو الْعيلَة " بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة أَي الْفقر من عَال إِذا افْتقر قَالَ الْجَوْهَرِي يُقَال عَال يعيل عيلة وعيولا إِذا افْتقر قَالَ تَعَالَى {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} وَهُوَ عائل وَقوم عيلة وَترك أَوْلَاده يتامى عيلى أَي فُقَرَاء وَذكره فِي الأجوف اليائي وَأما عَال عِيَاله عولا وعيالة أَي قاتهم ومأنهم وَأنْفق عَلَيْهِم فَهُوَ من الأجوف الواوي وَقَالَ ابْن قرقول وَأَصله من الْعَوْل وَهُوَ الْقُوت وَمِنْه قَوْله " وابدأ بِمن تعول " أَي بِمن تقوت قَوْله " قطع السَّبِيل " هُوَ من فَسَاد السراق واللصوص كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَفِيه نظر لِأَن قطع السَّبِيل لَا يكون إِلَّا من قطاع الطَّرِيق جَهرا وَالسَّارِق لَا يَأْخُذ جَهرا وَكَذَلِكَ اللص قَوْله " العير " بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الْإِبِل الَّتِي تحمل الْميرَة وَفِي الْمطَالع العير الْقَافِلَة وَهِي الْإِبِل وَالدَّوَاب تحمل الطَّعَام وَغَيره من التِّجَارَة وَلَا تسمى عيرًا إِلَّا إِذا كَانَت كَذَلِك وَقَالَ ابْن الْأَثِير العير الْإِبِل بأحمالها فعل من عَار يعير إِذا سَار وَقيل هِيَ قافلة الْحمير فكثرت حَتَّى سميت بهَا كل قافلة كَأَنَّهَا جمع عير وَكَانَ قياسها أَن يكون فعلا بِالضَّمِّ كسقف فِي سقف إِلَّا أَنه حوفظ على الْيَاء بالكسرة نَحْو عين قَوْله " خفير " بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء وَهُوَ المجير الَّذِي يكون الْقَوْم فِي ضَمَانه وذمته وَقَالَ الْكرْمَانِي وَالْمرَاد مِنْهُ حَتَّى تخرج الْقَافِلَة من الشَّام وَالْعراق وَنَحْوهمَا إِلَى مَكَّة بِغَيْر البدرقة وَفِي الصِّحَاح خفرت الرجل أخفره بِالْكَسْرِ خفرا إِذا آجرته وَكنت لَهُ خفيرا تَمنعهُ قَالَ الْأَصْمَعِي وَكَذَلِكَ خفرته تخفيرا وأخفرته إِذا نقضت عَهده وغدرت بِهِ قَوْله " بَين يَدي الله " هُوَ من المتشابهات وَالْأمة فِي أَمْثَالهَا كاليمين وَنَحْوه طَائِفَتَانِ المفوضة والمؤولة بِمَا يُنَاسِبهَا قَوْله " وَلَا ترجمان " بِضَم التَّاء وَفتحهَا وَالْجِيم مَضْمُومَة فيهمَا وَالتَّاء فِيهِ أَصْلِيَّة وَقَالَ الْجَوْهَرِي زَائِدَة وَقَالَ هُوَ نَحْو الزَّعْفَرَان فالجيم مَفْتُوحَة هَذَا على جِهَة التَّمْثِيل ليفهم الْخطاب أَن الله تَعَالَى لَا يُحِيط بِهِ شَيْء وَلَا يَحْجُبهُ حجاب وَإِنَّمَا يسْتَتر تَعَالَى عَن أبصارنا بِمَا وضع فِيهَا من الْحجب للعجز عَن الْإِدْرَاك فِي الدُّنْيَا

(8/273)


فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة كشف تِلْكَ الْحجب عَن أبصارنا وقواها حَتَّى نرَاهُ مُعَاينَة كَمَا نرى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح قَوْله " فليتقين " أَمر مُؤَكد بالنُّون الثَّقِيلَة دخلت عَلَيْهِ اللَّام قَوْله " وَلَو بشق تَمْرَة " بِكَسْر الشين مَعْنَاهُ لَا تحقروا شَيْئا من الْمَعْرُوف وَلَو كَانَ بشق تَمْرَة أَي بِنِصْفِهَا قَوْله " فَإِن لم يجد " أَي فَإِن لم يجد أحدكُم شَيْئا يتَصَدَّق بِهِ على الْمُحْتَاج فليرده بِكَلِمَة طيبَة وَهِي الَّتِي فِيهَا تطييب قلبه فَدلَّ على أَن الْكَلِمَة الطّيبَة يتقى بهَا كَمَا أَن الْكَلِمَة الخبيثة مستوجب بهَا النَّار. وَفِيه حث على الصَّدَقَة وَأَن لَا يحقر شَيْئا من الْخَيْر قولا وفعلا وَإِن قل -
4141 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسى ارضي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لاَ يَجد أحَدا يَأخُذُهَا مِنْهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأةً يَلُذْنَ بِهِ من قِلَّةِ الرِّجَالِ وكَثْرَةِ النِّسَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ليَأْتِيَن على النَّاس زمَان يطوف الرجل فِيهِ بِالصَّدَقَةِ من الذَّهَب ثمَّ لَا يجد أحدا يَأْخُذهَا مِنْهُ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء أَبُو كريب، مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عبد الله بن أبي بردة ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: اسْمه عَامر، وَقيل: الْحَارِث بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد عَن شَيْخه، وَقيل بِصِيغَة الْجمع وبصيغته أَيْضا فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده وَرِوَايَة الإبن عَن أَبِيه. وَفِيه: ثَلَاثَة مكيون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا بِإِسْنَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (من الذَّهَب) ، خص بِالذكر مُبَالغَة فِي عدم من يقبل الصَّدَقَة لِأَن الذَّهَب أعز المعدنيات وأشرف الْأَمْوَال، فَإِذا لم يُوجد من يَأْخُذ هَذَا فَفِي غَيره بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (وَيرى الرجل) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (يتبعهُ) ، جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (يلذن) ، بِضَم اللَّام وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة أَي: يلتجئن إِلَيْهِ ويرغبن فِيهِ، من لَاذَ بِهِ يلوذ لياذا إِذا التجأ إِلَيْهِ وانضم واستغاث، هَذَا وَالله أعلم يكون عِنْد ظُهُور الْفِتَن وَكَثْرَة الْقَتْل فِي النَّاس، قَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ فِيهِنَّ قيم غَيره، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون نِسَاءَهُ وجواريه وَذَوَات مَحَارمه وقراباته، وَهَذَا كُله من أَشْرَاط السَّاعَة.
وَفِيه: الْإِعْلَام بِمَا يكون بعده من كَثْرَة الْأَمْوَال حَتَّى لَا يجد من يقبلهَا وَأَن ذَلِك بعد قتل عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الدَّجَّال وَالْكفَّار، فَلم يبْق بِأَرْض الْإِسْلَام كَافِر، وتنزل إِذْ ذَاك بَرَكَات السَّمَاء إِلَى الأَرْض وَالنَّاس إِذْ ذَاك قَلِيلُونَ لَا يدخرون شَيْئا لعلمهم بِقرب السَّاعَة، وتربي الأَرْض إِذْ ذَاك بركاتها حَتَّى تشبع الرمانة أهل الْبَيْت، وتلقى الأَرْض أفلاذ كَبِدهَا وَهُوَ مَا دَفَنته مُلُوك الْعَجم كسْرَى وَغَيره وَيكثر المَال حَتَّى لَا يتنافس فِيهِ النَّاس. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم فِي: بَاب رفع الْعلم أَنه يكون لخمسين امْرَأَة الْقيم الْوَاحِد؟ قلت: التَّخْصِيص بِعَدَد الْأَرْبَعين لَا يدل على نفي الزَّائِد. قلت: الْمَذْكُور فِي: بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يقل الْعلم وَيظْهر الْجَهْل، وَيظْهر الزِّنَا وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة الْقيم الْوَاحِد.

01 - (بابٌ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة، وَهَذَا لفظ الحَدِيث على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَجمع فِي هَذَا الْبَاب بَين لفظ الْخَبَر وَالْآيَة لاشتمالها على الْحَث والتحريض على الصَّدَقَة، قَلِيلا كَانَت أَو كثيرا.
وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ

(8/274)


والقليل بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (بشق تَمْرَة) ، من عطف الْعَام على الْخَاص، وَالتَّقْدِير: اتَّقوا النَّار وَلَو بِالْقَلِيلِ من الصَّدَقَة والقليل يَشْمَل شقّ التمرة وَغَيره.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} (الْبَقَرَة: 562) . الْآيَة وَإلَى قَوْلِهِ {ومِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الْبَقَرَة: 662) .
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة لاشتمالها على قَلِيل النَّفَقَة وكثيرها. لِأَن قَوْله: {أَمْوَالهم} (الْبَقَرَة: 562) . يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، وفيهَا حث على الصَّدَقَة مُطلقًا، فَذكرهَا يُنَاسب التَّبْوِيب، وَهَذَا مثل للْمُؤْمِنين الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله عَنْهُم، والابتغاء: الطّلب. قَوْله: {وتثبيتا} (الْبَقَرَة: 562) . عطف على {ابْتِغَاء مرضات الله} (الْبَقَرَة: 562) . وَالتَّقْدِير: مبتغين ومتثبتين من أنفسهم بالإخلاص، وَذَلِكَ ببذل المَال الَّذِي هُوَ شَقِيق الرّوح، وبذله أشق شَيْء على النَّفس على سَائِر الْعِبَادَات الشاقة، وَكَأن إِنْفَاق المَال تثبيتا لَهَا على الْإِيمَان وَالْيَقِين. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: وتثبيتا من أنفسهم عِنْد الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا صَادِقَة الْإِيمَان مخلصة فِيهِ، وتعضده قِرَاءَة مُجَاهِد: وتثبتا من أنفسهم. وَقَالَ الشّعبِيّ: تثبيتا من أنفسهم أَي: تَصْدِيقًا أَن الله سيجزيهم على ذَلِك أوفر الْجَزَاء، وَكَذَا قَالَه قَتَادَة وَأَبُو صَالح وَابْن زيد. وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: أَي يثبتون أَيْن يضعون صَدَقَاتهمْ. وَقَالَ الْحسن: كَانَ الرجل إِذا هم بِصَدقَة تثبت، فَإِن كَانَ لله أمضى وإلاَّ ترك. قَوْله: (الْآيَة) أَي إِلَى آخر الْآيَة. وَهُوَ قَوْله: {كَمثل حَبَّة بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وابل فآتت أكلهَا ضعفين فَإِن لم يصبهَا وابل فطل وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الْبَقر: 562) . قَوْله: {كَمثل حَبَّة} (الْبَقَرَة: 562) . خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْله: {مثل الَّذين يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: كَمثل بُسْتَان كَائِن بِرَبْوَةٍ، وَهِي عِنْد الْجُمْهُور: الْمَكَان الْمُرْتَفع المستوي من الأَرْض، وَزَاد ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك: وتجري فِيهِ الْأَنْهَار. قَالَ ابْن جرير: وَفِي الربوة ثَلَاث لُغَات من ثَلَاث قراآت، بِضَم الرَّاء وَبهَا قَرَأَ عَامَّة أهل الْمَدِينَة والحجاز وَالْعراق، وَفتحهَا، وَهِي قِرَاءَة بعض أهل الشَّام والكوفة، وَيُقَال إِنَّهَا لُغَة بني تَمِيم، وَكسر الرَّاء وَيذكر أَنَّهَا قِرَاءَة ابْن عَبَّاس. وَإِنَّمَا سميت بذلك لِأَنَّهَا ربت وغلظت من قَوْلهم: رَبًّا الشَّيْء يَرْبُو إِذا زَاد وانتفخ. وَإِنَّمَا خص الربوة لِأَن شَجَرهَا أزكى وَأحسن ثمرا. قَوْله: {أَصَابَهَا وابل} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: مطر عَظِيم الْقطر شَدِيد، وَهِي فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة ربوة. قَوْله: {فآتت أكلهَا} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: ثَمَرهَا: {ضعفين} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: مثلي مَا كَانَت تثمر بِسَبَب الوابل، وَيُقَال: أَي مضاعفا تحمل من السّنة مَا يحمل غَيرهَا من السنتين. قَوْله: {فَإِن لم يصبهَا} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: تِلْكَ الْجنَّة الَّتِي بالربوة {وابلٌ فطلٌّ} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: فَالَّذِي يُصِيبهَا طلُّ وَهُوَ أَضْعَف الْمَطَر. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ الْمَطَر الدَّائِم الصغار الْقطر الَّذِي لَا يكَاد يسيل مِنْهُ المثاعب، وَقيل: الطل هُوَ الندى: وَقَالَ زيد بن أسلم: هِيَ أَرض مصر، فَإِن لم يصبهَا وابل زكتْ وَإِن أَصَابَهَا أضعفت، أَي: هَذِه الْجنَّة بِهَذِهِ الربوة لَا تمحل أبدا لِأَنَّهَا إِن لم يصبهَا وابل فطلٌّ أيا مَا كَانَ، فَهُوَ كفايتها، وَكَذَلِكَ عمل الْمُؤمنِينَ لَا يبور أبدا بل يتقبله الله مِنْهُ ويكثره وينميه لكل عَامل بِحَسبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ من أَعمال عباده شَيْء. قَوْله: (وَإِلَى قَوْله: {من كل الثمرات} (الْبَقَرَة: 662) . إِلَى آخِره، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات} (الْبَقَرَة: 662) . روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: ضرب الله مثلا حسنا، وكل أَمْثَاله حسن، قَالَ: {أيود أحدكُم. .} (الْبَقَرَة: 662) . إِلَى آخِره، وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين. قَوْله: {أيود أحدكُم} (الْبَقَرَة: 662) . مُتَّصِل بقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) . وَإِنَّمَا قَالَ: {جنَّة من نخيل وأعناب} (الْبَقَرَة: 662) . لِأَن النخيل وَالْأَعْنَاب لما كَانَت من أكْرم الشّجر وأكثرها مَنَافِع خصهما بِالذكر، وَلَفظ: نخيل: جمع نَادِر، وَقيل: هُوَ جنس، وَتَمام الْآيَة: {وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت، كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون} (الْبَقَرَة: 662) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الهزة فِي: أيود، للإنكار. قَوْله: {وأصابه الْكبر} (الْبَقَرَة: 662) . الوا فِيهِ للْحَال: {وَله ذُرِّيَّة ضعفاء} (الْبَقَرَة: 662) . وقرىء: ضِعَاف. قَوْله: {إعصارا} (الْبَقَرَة: 662) . هُوَ الرّيح الَّتِي تستدير فِي الأَرْض ثمَّ تسطع نَحْو السَّمَاء كالعمود، وَهَذَا مثل لمن يعْمل الْأَعْمَال الْحَسَنَة لَا يَبْتَغِي بهَا وَجه الله، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة وجدهَا محبطة فيتحسر عِنْد ذَلِك حسرة من كَانَت لَهُ جنَّة من أبهى الْجنان وأجمعها للثمار، فَبلغ الْكبر وَله أَوْلَاد ضِعَاف وَالْجنَّة معاشهم ومنتعشهم، فَهَلَكت بالصاعقة. قَوْله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات} (الْبَقَرَة: 662) . يَعْنِي: كَمَا بَين هَذِه الْأَمْثَال: {لَعَلَّكُمْ تتفكرون} (الْبَقَرَة: 662) . بِهَذِهِ الْأَمْثَال وتعتبرون بهَا وتنزلونها على المُرَاد مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إلاَّ الْعَالمُونَ} (العنكبوت: 34) .

(8/275)


19 - (حَدثنَا عبيد الله بن سعيد قَالَ حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان الحكم هُوَ ابْن عبد الله الْبَصْرِيّ قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن أبي وَائِل عَن أبي مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ. قَالَ لما نزلت آيَة الصَّدَقَة كُنَّا نحامل فجَاء رجل فَتصدق بِشَيْء كثير فَقَالُوا مرائي وَجَاء رجل فَتصدق بِصَاع فَقَالُوا إِن الله لَغَنِيّ عَن صَاع هَذَا فَنزلت {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} الْآيَة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الله لما أنزل آيَة الصَّدَقَة حث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه عَلَيْهَا فَمنهمْ من تصدق بِكَثِير وَمِنْهُم من تصدق بِقَلِيل حَتَّى أَن مِنْهُم من يعْمل بِالْأُجْرَةِ فَيتَصَدَّق مِنْهُ كَمَا فهم ذَلِك من الحَدِيث والترجمة أَيْضا تدل على الْحَث على الصَّدَقَة وَإِن كَانَت شقّ تَمْرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبيد الله بن سعيد بن يحيى بن برد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة أَبُو قدامَة بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْيَشْكُرِي مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي أَبُو النُّعْمَان الحكم بِالْحَاء وَالْكَاف المفتوحتين ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش. الْخَامِس أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. السَّادِس أَو مَسْعُود واسْمه عقبَة الْأنْصَارِيّ البدري وَقد مر (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه ثَلَاثَة مذكورون بالكنى وَفِيه اثْنَان مجردان عَن النِّسْبَة وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن بشر بن خَالِد عَن غنْدر وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن سعيد بن يحيى بن سعيد وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن معِين وَبشر بن خَالِد وَعَن بنْدَار وَعَن إِسْحَق بن مَنْصُور وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن بشر بن خَالِد وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَنهُ وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة فِي مَعْنَاهُ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لما نزلت آيَة الصَّدَقَة " وَهِي قَوْله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} الْآيَة قَوْله " كُنَّا نحامل " جَوَاب لما مَعْنَاهُ كُنَّا نتكلف الْحمل بِالْأُجْرَةِ لنكتسب مَا نتصدق بِهِ وَفِي رِوَايَة لمُسلم " كُنَّا نحامل على ظُهُورنَا " مَعْنَاهُ نحمل على ظُهُورنَا بِالْأُجْرَةِ ونتصدق من تِلْكَ الْأُجْرَة أَو نتصدق بهَا كلهَا (فَإِن قلت) نحامل من بَاب المفاعلة وَهِي لَا تكون إِلَّا بَين اثْنَيْنِ (قلت) قد يَجِيء هَذَا الْبَاب بِمَعْنى فعل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وسارعوا إِلَى مغْفرَة} أَي أَسْرعُوا ونحامل كَذَلِك بِمَعْنى نحمل وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح قَوْله " نحامل " كَانَ ابْن سَيّده تحامل فِي الْأَمر تكلفه على مشقة وإعياء وتحامل عَلَيْهِ كلفه مَا لَا يُطيق وَفِيه نظر لِأَن هَذَا الْمَعْنى لَا يُنَاسب هَهُنَا وَفِيه التحريض على الاعتناء بِالصَّدَقَةِ وَأَنه إِذا لم يكن لَهُ مَال يتَوَصَّل إِلَى تَحْصِيل مَا يتَصَدَّق بِهِ من حمل بِالْأُجْرَةِ أَو غَيره من الْأَسْبَاب الْمُبَاحَة قَوْله " فجَاء رجل فَتصدق بِشَيْء كثير " هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالشَّيْء الْكثير كَانَ ثَمَانِيَة آلَاف أَو أَرْبَعَة آلَاف وَفِي أَسبَاب النُّزُول لِلْوَاحِدِيِّ حث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الصَّدَقَة فجَاء عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم شطر مَاله يَوْمئِذٍ وَتصدق يَوْمئِذٍ عَاصِم بن عدي بن عجلَان بِمِائَة وسق من تمر وَجَاء أَبُو عقيل بِصَاع من تمر فَلَمَزَهُمْ المُنَافِقُونَ فَنزلت هَذِه الْآيَة {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين} وَقَالَ السُّهيْلي فِي كِتَابه التَّعْرِيف والإعلام أَبُو عقيل اسْمه حبحاب أحد بني أنيف وَقيل الملموز رِفَاعَة بن سُهَيْل وَقَالَ الإِمَام أَحْمد حَدثنَا يزِيد حَدثنَا الْجريرِي عَن أبي السَّلِيل قَالَ وقف علينا رجل فِي مَجْلِسنَا بِالبَقِيعِ فَقَالَ حَدثنِي أبي أَو عمي أَنه رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالبَقِيعِ وَهُوَ يَقُول من تصدق بِصَدقَة أشهد لَهُ بهَا يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فحللت من عمامتي لوثا أَو لوثين وَأَنا أُرِيد أَن أَتصدق بهما فأدركني مَا يدْرك ابْن آدم فعقدت على عمامتي فجَاء رجل لم أر بِالبَقِيعِ رجلا أَشد سوادا مِنْهُ بِبَعِير سَاقه لم أر بِالبَقِيعِ نَاقَة أحسن مِنْهَا

(8/276)


فَقَالَ يَا رَسُول الله أصدقة قَالَ نعم قَالَ دُونك هَذِه النَّاقة قَالَ فَلَمَزَهُ رجل فَقَالَ هَذَا يتَصَدَّق بِهَذِهِ فوَاللَّه لهي خير مِنْهُ قَالَ فَسَمعَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ كذبت بل هُوَ خير مِنْك وَمِنْهَا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ ويل لأَصْحَاب المئين من الْإِبِل ثَلَاثًا قَالُوا أَلا من يَا رَسُول الله قَالَ أَلا من قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَجمع بَين كفيه عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله ثمَّ قَالَ قد أَفْلح المزهد المجهد ثلاثاء المزهد فِي الْعَيْش والمجهد فِي الْعِبَادَة وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة قَالَ جَاءَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّة من ذهب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَاء رجل من الْأَنْصَار بِصَاع من طَعَام فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين وَالله مَا جَاءَ عبد الرَّحْمَن بِمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا رِيَاء وَقَالَ إِن الله وَرَسُوله لَغَنِيَّانِ عَن هَذَا الصَّاع وَقَالَ ابْن جرير حَدثنَا ابْن وَكِيع حَدثنَا زيد بن الْحباب عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة حَدثنِي خَالِد بن يسَار عَن ابْن أبي عقيل عَن أَبِيه قَالَ بت أجر الجريد على ظَهْري على صَاعَيْنِ من تمر فَانْقَلَبت بِإِحْدَاهُمَا إِلَى أَهلِي يبلغون بِهِ وَجئْت بِالْآخرِ أَتَقَرَّب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرته فَقَالَ اُنْثُرْهُ فِي الصَّدَقَة قَالَ فَسخرَ الْقَوْم وَقَالَ لقد كَانَ الله غَنِيا عَن صَدَقَة هَذَا الْمِسْكِين فَأنْزل الله {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين} الْآيَة قَوْله " وَجَاء رجل " هُوَ أَبُو عقيل بِفَتْح الْعين وَقد ذكرنَا اسْمه آنِفا قَوْله فَنزلت {الَّذين يَلْمِزُونَ} من اللمز يُقَال لمزه يلمزه ويلمزه إِذا عابه وَكَذَلِكَ همزه يهمزه وَمحل {الَّذين يَلْمِزُونَ} نصب بالذم أَو رفع على الذَّم أَو جر بَدَلا من الضَّمِير فِي (سرهم ونجواهم) قَوْله {الْمُطوِّعين} أَصله المتطوعين فأبدلت التَّاء طاء وأدغمت الطَّاء فِي الطَّاء أَي المتبرعين وَزعم أَبُو إِسْحَق أَن الرِّوَايَة عَن ثَعْلَب بتَخْفِيف الطَّاء وَتَشْديد الْوَاو وَقَالَ هَذَا غير جيد وَالصَّحِيح تشديدها وَأنكر ذَلِك ثَعْلَب عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّشْدِيدِ قَوْله {وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} قَالَ أهل اللُّغَة الْجهد بِالضَّمِّ الطَّاقَة والجهد بِالنّصب الْمَشَقَّة وَقَالَ الشّعبِيّ الْجهد هُوَ الْقُدْرَة والجهد فِي الْعَمَل وَتَمام الْآيَة قَوْله {فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي يستهزؤن بهم {سخر الله مِنْهُم} يَعْنِي يجازيهم جَزَاء سخريتهم وَهَذَا من بَاب الْمُقَابلَة على سوء صنيعهم واستهزائهم بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} يَعْنِي وجيع دَائِم
6141 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ شقِيقٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِي رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أحَدُنَا إلَى السُّوقِ فَتَحَامَلَ فَيُصِيبُ المُدَّ وَإنَّ لِبَعْضِهِمْ اليَوْمَ لِمَائَةَ ألْفٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا أمرنَا بِالصَّدَقَةِ) ، والترجمة فِيهَا الْأَمر بِالصَّدَقَةِ.
وَرِجَاله: سعيد بن يحيى بن سعيد أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، وَأَبوهُ يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وشقيق أَبُو وَائِل، وَقد تقدم عَن قريب، وَقد ذكرنَا عِنْد الحَدِيث السَّابِق أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع.
قَوْله: (فتحامل) ، على وزن: تفَاعل، صِيغَة مَاض، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ عَن قريب، ويروى: (يحامل) ، على لفظ الْمُضَارع من المفاعلة، وَالْأول من التفاعل. فَافْهَم. قَوْله: (الْمَدّ) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الدَّال، وَهُوَ رَطْل وَثلث، سمي بِهِ لِأَنَّهُ ملىء كفي الْإِنْسَان إِذا مدهما. قَوْله: (وَإِن لبَعْضهِم الْيَوْم لمِائَة ألف) ، لفظ: مائَة، اسْم إِن وَخَبره قَوْله: (لبَعْضهِم) ، وَالْيَوْم: ظرف، ومميز الْألف: الدِّرْهَم أَو الدِّينَار، أَو الْمَدّ. قَالَ التَّيْمِيّ: وَالْمَقْصُود وصف شدَّة الزَّمَان فِي أَيَّام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَثْرَة الْفتُوح وَالْأَمْوَال فِي أَيَّام الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

7141 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ مَعْقِلٍ، قَالَ سَمِعْتْ عَدِيَّ بنَ حاتِمٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ..
التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَلَا مُطَابقَة أَكثر من هَذَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب أَبُو أَيُّوب الواشجي، وواشج حَيّ من الإزد. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. الرَّابِع: عبد الله بن مُغفل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وباللام: أَبُو الْوَلِيد الْمُزنِيّ. الْخَامِس: عدي بن حَاتِم الطَّائِي.

(8/277)


ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي قَاضِي مَكَّة وَشعْبَة واسطي وَأَبُو إِسْحَاق وَعبد الله كوفيان.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَوْف بن سَلام الْكُوفِي عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق، وَفِي الْبَاب عَن فضَالة عَن عبيد مَرْفُوعا: (اجعلوا بَيْنكُم وَبَين النَّار حِجَابا وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَعَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا بِإِسْنَاد صَحِيح: (ليتق أحدكُم وَجهه النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) . رَوَاهُ أَحْمد: وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِإِسْنَاد حسن: (يَا عَائِشَة استتري من النَّار وَلَو بشق تَمْرَة فَإِنَّهَا تسد من الجائع مسدها من الشبعان) . رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحوه، وَأتم مِنْهُ بِلَفْظ: (تقع من الجائع موقعها من الشبعان) ، رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي، وَعَن أنس يرفعهُ: (افْتَدَوْا من النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة، وَعَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة أَيْضا، وَعَن أبي هُرَيْرَة مثله بِإِسْنَاد جيد، رَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي (فضل الصَّدَقَة) .

8141 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنُ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ أبِي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَتْ امْرَأةٌ مَعَها ابْنَتَانِ لَهَا تَسْألُ فَلَمْ تَجِدُ عِنْدِي شَيْئا غَيْرَ تَمْرَةٍ فأعْطَيْتُهَا إيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ولَمْ تأكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْنَا فأخْبَرْتُهُ فقالَ مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هاذِهِ البَنَاتِ بِشيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرا مِنَ النَّارِ.
(الحَدِيث 8141 طرفه فِي 5995) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فقسمتها بَين ابنتيها) أَي: لما قسمت التمرة بَينهمَا صَار لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا شقّ تَمْرَة، فَدخلت الْأُم فِي عُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ابْتُلِيَ) إِلَى آخِره، لِأَنَّهَا مِمَّن ابْتُلِيَ بِشَيْء من الْبَنَات. وَأما مُنَاسبَة فعل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، للتَّرْجَمَة فَفِي قَوْله: (والقليل من الصَّدَقَة) . فَإِنَّهُ من التَّرْجَمَة أَيْضا.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة ذكرُوا كلهم، وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة تقدم فِي كتاب الْوَحْي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَعبد الله بن أبي بكر بن حزم مر فِي: بَاب الْوضُوء مرَّتَيْنِ، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير. وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
(ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن عبد الله بن عبد الرحمان الدَّارمِيّ وَأبي بكر بن إِسْحَاق الصغاني وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن فهزاد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله عَن ابْن الْمُبَارك وَقَالَ حسن صَحِيح.
(ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (لَهَا) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لقَوْله (ابنتان) أَي ابنتان كائنتان لَهَا قَوْله (تسْأَل) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة قَوْله (من هَذِه الْبَنَات) الظَّاهِر أَنَّهَا إِشَارَة إِلَى أَمْثَال الْمَذْكُورَات من أَصْحَاب الْفقر والفاقة وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الأشارة إِلَى جنس الْبَنَات مُطلقًا وَإِنَّمَا قَالَ سترا وَلم أستاراً وَلم يقل أستاراً لِأَن المُرَاد الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير وَقَوله (بِشَيْء) أَي أَحْوَال الْبَنَات أَو من نفس الْبَنَات أَي من ابتلى مِنْهُنَّ بِأَمْر من أمورهن أَو من ابتلى ببنت مِنْهُنَّ سَمَّاهُ ابتلاء لموْضِع الْكَرَاهَة لَهُنَّ كَمَا أخبر الله تَعَالَى. وَفِيه حض على الصَّدَقَة بِالْقَلِيلِ وَإِعْطَاء عَائِشَة التمرة لِئَلَّا ترد السَّائِل خائباً وَهِي تَجِد شَيْئا وروى أَنَّهَا أَعْطَتْ سَائِلًا جُبَّة عِنَب فَجعل يتعجب فَقَالَت كَمَا ترى فِيهَا مِثْقَال ذرة وَمثله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي تَمِيمَة الهُجَيْمِي (لَا تحقرن شَيْئا من الْمَعْرُوف وَلَو أَن تضع فِي دلوك فِي إِنَاء المستسقى) وَفِيه قسْمَة الْمَرْأَة التمرة بَين ابنتيها لما جعل الله فِي قُلُوب الإمهات من الرَّحْمَة. وَفِيه أَن النَّفَقَة على الْبَنَات وَالسَّعْي عَلَيْهِنَّ من أفضل أَعمال الْبر المنجية من النَّار وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا من أَجود النَّاس أَعْطَتْ فِي كَفَّارَة يَمِين أَرْبَعِينَ رَقَبَة وَقيل فعلت ذَلِك

(8/278)


فِي نذر مُبْهَم وَكَانَت ترى أَنَّهَا لم توف مِمَّا يلْزمهَا فِيهِ وأعانت الْمُنْكَدر فِي كِتَابَته بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.