عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 09 - (بابُ كَلاَمِ المَيِّتِ عَلَى
الجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَلَام الْمَيِّت بعد حمله على
الْجِنَازَة.
(8/209)
0831 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا
اللَّيْثُ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ أنَّهُ
سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ يقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إذَا وُضِعَتِ الجَنَازَةُ فاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى
أعْنَاقِهِمْ فإنْ كانَتْ صَالِحَةً قالَتْ قَدِّمُونِي
قَدِّمُونِي وإنْ كانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قالَتْ يَا
وَيْلَهَا أيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا
كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهَا الإنْسَانُ
لَصَعِقَ.
(أنظر الحَدِيث 4131 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَن الْمَيِّت إِذا
حمل على الْجِنَازَة يَقُول هَذَا الْكَلَام، وَالْمَيِّت
هُوَ الَّذِي يَقُول ذَلِك، وَإِنَّمَا أسْند إِلَى
الْجِنَازَة مجَازًا، وَلِهَذَا صرح بذلك فِيمَا مضى فِي
كتاب الْجَنَائِز، بقوله: بَاب قَول الْمَيِّت وَهُوَ على
الْجِنَازَة: قدموني: فَإِن قلت: مَا فَائِدَة هَذَا
التّكْرَار؟ قلت: فَائِدَته أَنه رَاعى هُنَاكَ مُنَاسبَة
التَّرْجَمَة لترجمة الْبَاب الَّذِي قبله، وَهِي: بَاب
السرعة بالجنازة، لاشتمال حَدِيثه على بَيَان مُوجب
الْإِسْرَاع، وراعى هُنَا أَيْضا مُنَاسبَة تَرْجَمَة
هَذَا الْبَاب لترجمة الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ عرض
المقعد عَلَيْهِ، فَكَأَن ابتداءه يكون عِنْد حمل
الْجِنَازَة، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يظْهر للْمَيت مَا يؤول
إِلَيْهِ حَاله، فَعِنْدَ ذَلِك يَقُول مَا يَقُول. وَقد
مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب قَول الْمَيِّت وَهُوَ على
الْجِنَازَة: قدموني، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد
الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد عَن أَبِيه أَنه سمع
أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ ... وَأخرجه هُنَا: عَن قُتَيْبَة
بن سعيد عَن اللَّيْث. . إِلَى آخِره نَحوه، وَقد مضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. وَقَالَ ابْن بطال:
الْكَلَام لَا يكون إلاَّ من الرّوح، وَقد جَاءَت آثَار
تدل على معرفَة الْمَيِّت من يحملهُ ويدخله فِي قَبره.
وروى بِسَنَد لَهُ إِلَى مُعَاوِيَة أَو ابْن مُعَاوِيَة
عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن
الْمَيِّت ليعرف من يحملهُ وَمن يغسلهُ وَمن يدليه فِي
قَبره) . وَعَن مُجَاهِد: (إِذا مَاتَ الْمَيِّت فَمَا من
شَيْء إلاَّ وَهُوَ يرَاهُ عِنْد غسله وَعند حمله حَتَّى
يصل إِلَى قَبره) .
19 - (بابُ مَا قِيلَ فِي أوْلاَدِ المُسْلِمِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي أَوْلَاد
الْمُسلمين غير الْبَالِغين.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ ماتَ لَهُ ثلاثَةٌ
مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ كانَ لَهُ حِجِابا
مِنَ النَّارِ أوْ دَخَلَ الجَنَّةَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْوَلَد الَّذِي لم
يبلغ الْحِنْث إِذا كَانَ حِجَابا لِأَبَوَيْهِ من النَّار
فبالطريق الأولى أَن يكون محجوبا عَن النَّار، فَيدل هَذَا
على أَن أَوْلَاد الْمُسلمين الْأَطْفَال من أهل الْجنَّة،
وَهَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَقد رَوَاهُ فِي: بَاب
فضل من مَاتَ لَهُ ولد فاحتسب، رَوَاهُ عَن عَليّ عَن
سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَمُوت لمُسلم ثَلَاثَة
من الْوَلَد فيلج النَّار إلاَّ تَحِلَّة الْقسم) . وَقد
رُوِيَ هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة بطرق مُخْتَلفَة لَيْسَ
فِيهَا مَوْصُول من حَدِيثه على الْوَجْه الَّذِي ذكره
مُعَلّقا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع من يعْتد بِهِ من
عُلَمَاء الْمُسلمين على أَن من مَاتَ من أَطْفَال
الْمُسلمين فَهُوَ من أهل الْجنَّة، وَتوقف فِيهِ بَعضهم
لحَدِيث عَائِشَة، أخرجه مُسلم بِلَفْظ: (توفّي صبي من
الْأَنْصَار فَقلت: طُوبَى لَهُ لم يعْمل سوءا وَلم
يُدْرِكهُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَو
غير ذَلِك يَا عَائِشَة؟ إِن الله تَعَالَى خلق للجنة
أَهلا. .) الحَدِيث. وَأجِيب عَنهُ: أَنه لَعَلَّه نهاها
عَن المسارعة إِلَى الْقطع من غير دَلِيل، أَو قَالَ ذَلِك
قبل أَن يعْمل أَن أَطْفَال الْمُسلمين فِي الْجنَّة.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: نفى بَعضهم الْخلاف وَكَأَنَّهُ
عَنى ابْن أبي زيد، فَإِنَّهُ أطلق الْإِجْمَاع فِي ذَلِك،
وَلَعَلَّه أَرَادَ إِجْمَاع من يعْتد بِهِ، وَقَالَ
الْمَازرِيّ: الْخلاف فِي غير أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء،
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد استقصينا الْكَلَام
فِيهِ فِيمَا مضى فِي أَوَائِل كتاب الْجَنَائِز.
1831 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
ابنُ عُلَيَّةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزيزِ بنُ
صُهَيْبٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنَ
النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ
(8/210)
ثَلاثَةٌ منَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا
الحِنْثَ إلاَّ أدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ بِفَضْلِ
رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ.
(أنظر الحَدِيث 8421) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي
حَدِيث أبي هُرَيْرَة آنِفا، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي:
بَاب فضل من مَاتَ لَهُ ولد، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ:
عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن عبد الْعَزِيز عَن
أنس، وَهنا أخرجه: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير
الدَّوْرَقِي عَن ابْن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ، وَعليَّة اسْم
أمه.
قَوْله: (من الْوَلَد) لَيْسَ بموجود فِي رِوَايَة أبي
ذَر، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
2831 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ
عَدِيِّ بنِ ثَابِتٍ أنَّهُ سَمِعَ البَرَاءَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ. قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ أبْرَاهِيمْ
عَلَيْهِ السلاَمُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إنَّ لَهُ مُرْضِعا فِي الجَنَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَن لأبنه إِبْرَاهِيم مُرْضعًا فِي
الْجنَّة، وَهَذَا يدل على أَن أَوْلَاد الْمُسلمين
الْأَطْفَال فِي الْجنَّة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْوَلِيد، هِشَام
بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَأخرجه أَيْضا
فِي صفة الْجنَّة عَن حجاج بن منهال، وَفِي الْأَدَب عَن
سُلَيْمَان بن حَرْب.
قَوْله: (إِبْرَاهِيم) ، يَعْنِي: ابْن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا خلاف أَن جَمِيع أَوْلَاد النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من خَدِيجَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، سوى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام،
فَإِنَّهُ مَا مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَكَانَ ميلاده فِي
ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ
إِبْرَاهِيم يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر خلون من ربيع الأول
سنة عشر، وَهُوَ ابْن ثَمَانِيَة عشر شهرا فِي بني مَازِن
بن النجار، فِي دَار أم بَرزَة بنت الْمُنْذر، وَدفن
بِالبَقِيعِ. قَوْله: (إِن لَهُ مُرْضعًا) ، بِضَم الْمِيم
أَي: من يتم رضاعه فِي الْجنَّة، ويروى بِفَتْح الْمِيم
أَي: رضَاعًا. قَالَه الْخطابِيّ: وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عَمْرو بن مَرْزُوق عَن
شُعْبَة: مُرْضعًا ترْضِعه فِي الْجنَّة، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّا بك لَمَحْزُونُونَ) .
29 - (بابُ مَا قِيلَ فِي أوْلادِ المُشْرِكِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي أَوْلَاد
الْمُشْركين وَلم يجْزم بذلك لتوقفه فِيهِ، وَلَكِن ذكر
فِي تَفْسِير سُورَة الرّوم مَا يدل على أَنه اخْتَار قَول
من قَالَ: إِنَّهُم يصيرون إِلَى الْجنَّة وَأَرَادَ
بالأولاد غير الْبَالِغين.
3831 - حدَّثنا حِبَّانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ
أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ أبِي بِشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ
جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
قَالَ سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ
أوْلاَدِ المُشْرِكِينَ فقالَ الله إذْ خَلَقَهُمْ أعْلَمُ
بِمَا كانُوا عامِلِينَ.
(الحَدِيث 3831 طرفه فِي: 7956) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدل على الْوَقْف
فِي أَمر أَوْلَاد الْمُشْركين، والترجمة فِيهَا
التَّوَقُّف أَيْضا، وَأَحَادِيث هَذَا الْبَاب عَن ابْن
عَبَّاس وَاحِد، وَعَن أبي هُرَيْرَة اثْنَان، وَعَن
سَمُرَة وَاحِد، كَحَدِيث ابْن عَبَّاس، وَالْأول من
حَدِيثي أبي هُرَيْرَة على التَّوَقُّف وَالثَّانِي من
حَدِيثي أبي هُرَيْرَة يدل على كَونهم فِي الْجنَّة، لَكِن
من غير تَصْرِيح، وَحَدِيث سَمُرَة يدل صَرِيحًا على أَنهم
فِي الْجنَّة، وَذَلِكَ قَوْله: (وَالشَّيْخ فِي أصل
الشَّجَرَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَالصبيان حوله أَوْلَاد النَّاس) وأصرح مِنْهُ الَّذِي
يَأْتِي فِي التَّعْبِير، وَهُوَ قَوْله: (وَأما الرجل
الَّذِي فِي الروضه فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأما الْولدَان الَّذين حوله فَكل
مَوْلُود مَاتَ على الْفطْرَة. قَالَ: فَقَالَ بعض
الْمُسلمين: يَا رَسُول الله وَأَوْلَاد الْمُشْركين؟
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَأَوْلَاد
الْمُشْركين) . وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو يعلى من
حَدِيث أنس مَرْفُوعا: (سَأَلت رَبِّي اللاَّهين من
ذُرِّيَّة الْبشر أَن لَا يعذبهم فأعطانيهم) إِسْنَاده حسن
وَورد تَفْسِير اللاَّهين بِأَنَّهُم الْأَطْفَال، من
حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، أخرجه الْبَزَّار: حَدثنَا
أَبُو كَامِل الْفضل بن الْحُسَيْن الجحدري حَدثنَا أَبُو
عوَانَة عَن هِلَال بن خباب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض مغازيه،
فَسَأَلَهُ رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي
اللاَّهين؟ فَسكت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلم يرد عَلَيْهِ كلمة، فَلَمَّا
(8/211)
فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من غَزْوَة طائف فَإِذا هُوَ بِغُلَام قد وَقع يعبث فِي
الأَرْض، فَنَادَى مناديه: أَيْن السَّائِل عَن اللاَّهين؟
فَأقبل الرجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل
الْأَطْفَال، ثمَّ قَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين،
هَذَا من اللاَّهين) . وروى أَحْمد من طَرِيق خنساء بنت
مُعَاوِيَة بن صريم عَن عَمَّتهَا، قَالَت: (قلت: يَا
رَسُول الله من فِي الْجنَّة؟ قَالَ: النَّبِي فِي
الْجنَّة، والشهيد فِي الْجنَّة والمولود فِي الْجنَّة
والوئيد فِي الْجنَّة) ، إِسْنَاده حسن.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: حبَان، بِكَسْر الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُوسَى،
مر غير مرّة، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية
وَقد مر أَيْضا.
وَفِي سَنَده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع،
وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه
مروزيان وَشعْبَة واسطي وَأَبُو بشر بَصرِي وَسَعِيد بن
جُبَير كُوفِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْقدر عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم
فِي الْقدر عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
السّنة عَن مُسَدّد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز
عَن مُجَاهِد بن مُوسَى وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى،
قَوْله: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .)
لم يدر هَذَا السَّائِل من هُوَ، قيل: يحْتَمل أَن تكون
عَائِشَة هِيَ السائلة لما روى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد من
طَرِيق عبد الله بن أبي قيس عَنْهَا، قَالَت: (قلت: يَا
رَسُول الله، ذَرَارِي الْمُسلمين؟ قَالَ: مَعَ آبَائِهِم.
قلت: يَا رَسُول الله بِلَا عمل؟ قَالَ: الله أعلم بِمَا
كَانُوا عاملين) الحَدِيث، وروى ابْن عبد الْبر من طَرِيق
أبي معَاذ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة،
قَالَت: سَأَلت خَدِيجَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن أَوْلَاد الْمُشْركين، فَقَالَ: هم مَعَ آبَائِهِم،
ثمَّ سَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا
عاملين، ثمَّ سَأَلته بَعْدَمَا استحكم الْإِسْلَام
فَنزلت: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام:
461، الْإِسْرَاء 512، فاطر: 81، الزمر: 7 والنجم: 83) .
فَقَالَ: هم على الْفطْرَة، أَو قَالَ: فِي الْجنَّة) .
وَأَبُو معَاذ هُوَ: سُلَيْمَان بن أَرقم، وَهُوَ ضَعِيف،
وَلَو صَحَّ هَذَا لَكَانَ قَاطعا للنزاع.
قَوْله: (إِذْ خلقهمْ) أَي: حِين خلقهمْ. قَوْله: (الله
أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي علم
أَنهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يرجعُونَ فيعملون، أَو
أخبر بِعلم الشَّيْء لَو وجد كَيفَ يكون، مثل قَوْله:
{وَلَو ردوا لعادوا} (الْأَنْعَام: 82) . وَلَكِن لم يرد
أَنهم يجازون بذلك فِي الْآخِرَة، لِأَن العَبْد لَا يجازى
بِمَا لم يعْمل. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل قَوْله: (الله
أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) ، وُجُوهًا من التَّأْوِيل.
أَحدهَا: أَن يكون قبل إِعْلَامه أَنهم من أهل الْجنَّة.
الثَّانِي: أَي: على أَي دين يميتهم لَو عاشوا فبلغوا
الْعَمَل فَأَما إِذا عدم مِنْهُم الْعَمَل فهم فِي
رَحْمَة الله الَّتِي ينالها من لَا ذَنْب لَهُ.
الثَّالِث: أَنه مُجمل يفسره. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ
أَخذ رَبك من بني آدم ... } (الْأَعْرَاف: 271) . الْآيَة،
فَهَذَا إِقْرَار عَام يدْخل فِيهِ أَوْلَاد الْمُؤمنِينَ
وَالْمُشْرِكين فَمن مَاتَ مِنْهُم قبل بُلُوغ الْحِنْث
مِمَّن أقرّ بِهَذَا الْإِقْرَار من أَوْلَاد النَّاس كلهم
فَهُوَ على إِقْرَاره الْمُتَقَدّم لَا يقْضِي لَهُ
بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لم يدْخل عَلَيْهِ مَا ينْقضه إِلَى
أَن يبلغ الْحِنْث، وَأما من قَالَ: حكمهم حكم آبَائِهِم
فَهُوَ مَرْدُود بقوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر
أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 512، فاطر: 81،
الزمر: 7 والنجم: 83) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف الْعلمَاء قَدِيما
وحديثا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على أَقْوَال:
الأول: أَنهم فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى، وَهُوَ مَنْقُول
عَن حَمَّاد بن سَلمَة وَحَمَّاد بن زيد وَعبد الله بن
الْمُبَارك وَإِسْحَاق، وَنَقله الْبَيْهَقِيّ عَن
الشَّافِعِي فِي حق أَوْلَاد الْكفَّار خَاصَّة، وَالْحجّة
فِيهِ (الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) .
الثَّانِي: أَنهم تبع لِآبَائِهِمْ، فأولاد الْمُسلمين فِي
الْجنَّة وَأَوْلَاد الْكفَّار فِي النَّار، وَحَكَاهُ
ابْن حزم عَن الْأزَارِقَة من الْخَوَارِج، وَاحْتَجُّوا
بقوله تَعَالَى: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين
ديارًا} (نوح 62) . ورد بِأَن المُرَاد قوم نوح خَاصَّة،
وَإِنَّمَا دَعَا بذلك لما أوحى الله إِلَيْهِ: {إِنَّه لن
يُؤمن من قَوْمك إلاَّ من قد آمن} (هود: 63) . فَإِن قلت:
فِي الحَدِيث هم من آبَائِهِم أَو مِنْهُم (قلت) ذَاك ورد
فِي الْحَرْب (فَإِن قلت) روى أَحْمد من حَدِيث عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (سَأَلت رَسُول لله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن ولدان الْمُسلمين؟ قَالَ: فِي
الْجنَّة، وَعَن أَوْلَاد الْمُشْركين؟ قَالَ: فِي
النَّار، وَلَو شِئْت أسمعتك تضاغيهم فِي النَّار) قلت:
هَذَا حَدِيث ضَعِيف جدا لِأَن فِي إِسْنَاده أَبَا عقيل
مولى نهية وَهُوَ مَتْرُوك.
الثَّالِث: أَنهم يكونُونَ فِي برزخ بَين الْجنَّة
وَالنَّار لأَنهم لم يعملوا حَسَنَات يدْخلُونَ بهَا
الْجنَّة وَلَا سيئات يدْخلُونَ بهَا النَّار.
الرَّابِع: هم خدم أهل الْجنَّة، وَورد فِيهِ حَدِيث
ضَعِيف أخرجه أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَأَبُو يعلى
وَالْبَزَّار من حَدِيث سَمُرَة مَرْفُوعا: (أَوْلَاد
الْمُشْركين خدم أهل الْجنَّة) .
الْخَامِس: أَنهم يمْتَحنُونَ
(8/212)
فِي الْآخِرَة بِأَن ترفع لَهُم نَار، فَمن
دَخلهَا كَانَت عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وَمن أبي عذب.
وَقَالَ الْبَزَّار: حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر بن هتاخ
الْكُوفِي حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى حَدثنَا فُضَيْل بن
مَرْزُوق عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَحْسبهُ قَالَ: (يُؤْتى بالهالك فِي
الفترة وَالْمَعْتُوه والمولود، فَيَقُول الْهَالِك فِي
الفترة: لم يأتني كتاب وَلَا رَسُول، وَيَقُول
الْمَعْتُوه: أَي رب، لم تجْعَل لي عقلا أَعقل بِهِ خيرا
وَلَا شرا، وَيَقُول الْمَوْلُود: لم أدْرك الْعَمَل.
قَالَ: فَترفع لَهُم نَار، فَيُقَال لَهُم: رِدُوها، أَو
قَالَ: أدخلوها فيدخلها من كَانَ فِي علم الله سعيدا أَو
أدْرك الْعَمَل، قَالَ: ويمسك عَنْهَا من كَانَ فِي علم
الله شقيا، أَي: لَو أدْرك الْعَمَل فَيَقُول: تبَارك
وَتَعَالَى: إيَّايَ عصيتم فَكيف برسلي بِالْغَيْبِ) .
قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يرْوى عَن أبي سعيد إلاَّ من
حَدِيث فُضَيْل، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث معَاذ
بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: قد صحت
مَسْأَلَة الامتحان فِي حق الْمَجْنُون وَمن مَاتَ فِي
الفترة من طرق صَحِيحَة وروى الْبَزَّار من حَدِيث أنس بن
مَالك قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(يُؤْتى بأَرْبعَة يَوْم الْقِيَامَة: بالمولود
وَالْمَعْتُوه وَمن مَاتَ فِي الفترة وبالشيخ الفاني، كلهم
يتَكَلَّم بحجته، فَيَقُول الله تَعَالَى لعنق من
جَهَنَّم، أَحْسبهُ قَالَ: إبرزي، فَيَقُول لَهُم: إِنِّي
كنت أبْعث إِلَى عبَادي رسلًا من أنفسهم، وَإِنِّي رَسُول
نَفسِي إِلَيْكُم أدخلُوا هَذِه. فَيَقُول من كتب عَلَيْهِ
الشَّقَاء: يَا رب أتدخلناها وَمِنْهَا كُنَّا نفرق، وَمن
كتب لَهُ السَّعَادَة فيمضي فيقتحم فِيهَا مسرعا. قَالَ:
فَيَقُول الله: قد عصيتموني وَأَنْتُم لرسلي أَشد
تَكْذِيبًا ومعصية. قَالَ: فَيدْخل هَؤُلَاءِ الْجنَّة
وَهَؤُلَاء النَّار) . وروى أَيْضا من حَدِيث الْأسود بن
سريع عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يعرض
على الله الْأَصَم الَّذِي لَا يسمع شَيْئا والأحمق والهرم
وَرجل مَاتَ فِي الفترة: فَيَقُول الْأَصَم رب جَاءَ
الأسلام وَمَا أسمع شَيْئا وَيَقُول الأحمق رب جَاءَ
الْإِسْلَام وَمَا أَعقل شَيْئا وَيَقُول الَّذِي مَاتَ
فِي الفترة رب مَا أَتَانِي لَك من رَسُول، قَالَ:
فَيَأْخُذ مواثيقهم، فَيُرْسل إِلَيْهِم تبَارك
وَتَعَالَى: أدخلُوا النَّار، فوالذي نفس مُحَمَّد
بِيَدِهِ لَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا.
وَحكى الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الِاعْتِقَاد أَن مَسْأَلَة
الامتحان فِي حق الْمَجْنُون وَمن مَاتَ فِي الفترة هُوَ
الْمَذْهَب الصَّحِيح، وَاعْترض بِأَن الْآخِرَة لَيست
بدار تَكْلِيف فَلَا عمل فِيهَا وَلَا ابتلاء. وَأجِيب:
بِأَن ذَلِك بعد أَن يَقع الِاسْتِقْرَار فِي الْجنَّة أَو
النَّار، وَأما فِي عرصات يَوْم الْقِيَامَة فَلَا مَانع
من ذَلِك، وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَوْم يكْشف عَن سَاق
وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}
(الْقَلَم: 24) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (أَن النَّاس
يؤمرون بِالسُّجُود فَيصير ظهر الْمُنَافِق طبقًا فَلَا
يَسْتَطِيع أَن يسْجد) .
السَّادِس: أَنهم فِي الْجنَّة، قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ
الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي صَار إِلَيْهِ
الْمُحَقِّقُونَ، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين
حَتَّى نبعث رَسُولا} (الْإِسْرَاء: 51) . وَإِذا كَانَ
لَا يعذب الْعَاقِل لكَونه لم تبلغه الدعْوَة، فَلِأَن لَا
يعذب غير الْعَاقِل من بَاب الأولى. وَقَالَ النَّوَوِيّ
أَيْضا: فِي أَطْفَال الْمُشْركين ثَلَاثَة مَذَاهِب،
قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هم فِي النَّار تبعا لِآبَائِهِمْ،
وَتوقف طَائِفَة مِنْهُم، وَالثَّالِث هُوَ الصَّحِيح
أَنهم من أهل الْجنَّة، لحَدِيث إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين رَآهُ فِي الْجنَّة وَحَوله
أَوْلَاد النَّاس. وَالْجَوَاب عَن حَدِيث: (وَالله أعلم
بِمَا كَانُوا عاملين) أَنه لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح
بِأَنَّهُم فِي النَّار، وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ:
الثَّوَاب وَالْعِقَاب ليسَا بِالْأَعْمَالِ وإلاَّ لزم
أَن تكون الذَّرَارِي لَا فِي الْجنَّة وَلَا فِي النَّار،
بل الْمُوجب لَهما هُوَ اللطف الرباني والخذلان الإل هِيَ
الْمُقدر لَهُم فِي الْأَزَل، فَالْوَاجِب فيهم
التَّوَقُّف، فَمنهمْ من سبق الْقَضَاء بِأَنَّهُ سعيد
حَتَّى لَو عَاشَ عمل بِعَمَل أهل الْجنَّة، وَمِنْهُم
بِالْعَكْسِ.
4831 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ. قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءُ بنُ يَزِيدَ
اللَّيْثِيُّ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ يقُولُ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ فَقَالَ الله أعْلَمُ
بِمَا كانُوا عامِلِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْوَجْه الَّذِي
ذَكرْنَاهُ فِي وَجه مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق
للتَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو
الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن أبي
حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم
الْمدنِي.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْقدر عَن يحيى بن بكير.
وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن أبي الطَّاهِر وَعَن
مُحَمَّد بن حميد وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن
الدَّارمِيّ وَعَن سَلمَة بن شُعَيْب. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم.
(8/213)
5831 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ
أبِي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ
عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ
فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانهِ أوْ
يُمَجِّسَانِهِ كمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتِجُ البَهِيمَةَ
هَلْ تَرَى فِيها جَدْعَاءَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله: (كل مَوْلُود
يُولد على الْفطْرَة) يشْعر بِأَن أَوْلَاد الْمُشْركين
فِي الْجنَّة، لِأَن قَوْله فِي التَّرْجَمَة: بَاب مَا
قيل، يتَنَاوَل ذَلِك، وَلَكِن لَا يدل على ذَلِك
صَرِيحًا، إِذْ لَو دلّ صَرِيحًا مَا كَانَ مطابقا
للتَّرْجَمَة. وَالَّذِي يدل صَرِيحًا قد ذَكرْنَاهُ، وَقد
مر الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث مَبْسُوطا فِي: بَاب إِذا
أسلم الصَّبِي فَمَاتَ هَل يصلى عَلَيْهِ؟ فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ من طَرِيقين: الأول: عَن أبي الْيَمَان عَن
شُعَيْب عَن ابْن شهَاب. وَالثَّانِي: عَن عَبْدَانِ عَن
عبد الله عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن
عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَهُنَا أخرجه عَن
آدم بن أبي إِيَاس عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي
ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَنَذْكُر هُنَا
مَا فاتنا هُنَاكَ.
قَوْله: (كل مَوْلُود) أَي: من بني آدم، وَصرح بِهِ
جَعْفَر بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة
بِلَفْظ: (كل بني آدم يُولد على الْفطْرَة) . قيل: ظَاهره
الْعُمُوم فِي جَمِيع المولودين، يدل عَلَيْهِ مَا فِي
رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة،
بِلَفْظ: (لَيْسَ من مَوْلُود يُولد إلاَّ على هَذِه
الْفطْرَة حَتَّى يعبر عَنهُ لِسَانه) . وَفِي رِوَايَة
لَهُ: (مَا من مَوْلُود يُولد إلاَّ وَهُوَ على الْملَّة)
، وَقيل: إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْعُمُوم، وَإِنَّمَا
المُرَاد أَن كل من ولد على الْفطْرَة،. وَكَانَ لَهُ
أَبَوَانِ على غير الْإِسْلَام نَقَلَاه إِلَى دينهما،
فتقدير الْخَبَر على هَذَا: كل مَوْلُود يُولد على
الْفطْرَة وَأَبَوَاهُ يَهُودِيَّانِ مثلا، فَإِنَّهُمَا
يُهَوِّدَانِهِ ثمَّ يصير عِنْد بُلُوغه إِلَى مَا يحكم
بِهِ عَلَيْهِ. قَوْله: (فَأَبَوَاهُ) أَي: فَأَبَوا
الْمَوْلُود، قَالَ الطَّيِّبِيّ: الْفَاء إِمَّا للتعقيب
أَو للسَّبَبِيَّة أَو جَزَاء شَرط مُقَدّر أَي: إِذا تقرر
ذَلِك فَمن تغير كَانَ بِسَبَب أَبَوَيْهِ إِمَّا
بتعليمهما إِيَّاه أَو ترغيبهما فِيهِ، أَو كَونه تبعا
لَهما فِي الدّين، يَقْتَضِي أَن يكون حكمه حكمهمَا فِيهِ،
وَخص الأبوان بِالذكر للْغَالِب. قَوْله: (تنْتج)
الْبَهِيمَة أَي: تلدها.
39 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْله: (فصل) ،
وَيذكر هَذَا هَكَذَا لتَعَلُّقه فِي الحكم بِمَا قبله،
ثمَّ إِنَّه وَقع هَكَذَا عِنْد الروَاة كلهم إلاَّ أَبَا
ذَر.
6831 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ قَالَ حدَّثنا أبُو رَجاءٍ عنْ
سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ. قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إذَا صَلَّى صَلاَةً أقْبَلَ عَلَيْنَا
بِوَجْهِهِ فَقَالَ منْ رَأي مِنْكُمْ اللَّيلَةَ رُؤيَا
قَالَ فإنْ رَأى أحَدٌ قَصَّها فَيَقُولُ مَا شاءَ الله
فسَألَنا يَوما فَقَالَ هَلْ رَأى أحدٌ مِنْكُمْ رُؤيَا
قُلْنَا لاَ قَالَ لاكِنِّي رَأيْتُ اللَّيلَة رَجُلَيْنِ
أتيَانِي فأخذَا بِيَدِي فأخْرجَانِي إِلَى الأرْضِ
المُقَدَّسَةِ فَإِذا رَجُلٌ جالِسٌ ورَجُلٌ قائِمٌ
بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَديدٍ قَالَ بَعْضُ أصْحَابِنَا
عنْ مُوسى أنَّهُ يُدْخِلُ ذالِكَ الكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ
حَتَّى يَثْلُغَ قَفاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ
مِثْلَ ذالِكَ ويَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هاذا فيَعُودُ
فيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هاذا قالاَ انْطَلِقْ
فانْطَلَقْنَا حَتَّى أتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ
عَلى قَفَاهُ ورَجُلٌ قائِمٌ عَلى رَأسِهِ بِفِهْرٍ أوْ
صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأسَهُ فإذَا ضَرَبَهُ
تَدَهْدَهَ الحَجَرُ فانْطَلَقَ إلَيْهِ لِيَأخُذَهُ فلاَ
يَرْجِعُ إلَى هاذا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأسُهُ وعَادَ
رأسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ
هاذا قالاَ انْطَلِقْ فانْطَلَقْنا إلَى ثَقْبٍ مِثلِ
التَّنُّورِ أعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأسْفَلُهُ وَاسِعٌ
يَتوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارا فإذَا اقْتَرَبَ ارْتَفعُوا
حتَّى كَاد أنْ يَخْرُجوا فَإِذا خمَدتْ رجَعُوا فِيها
وَفيها رِجالٌ وَنِساءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هاذَا قالاَ
(8/214)
انْطَلِقْ فانْطَلَقْنَا حتَّى أتَيْنَا
عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قائِمٌ عَلَى وسَطِ
النَّهْرِ وَقَالَ يَزِيدُ ووَهْبُ بنُ جَرِيرِ بنِ حازِمٍ
وعلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ
فأقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهرِ فإذَا أرادَ أنْ
يَخْرُجَ رَمى الرَّجلُ بِحجَرٍ فِي فيهِ فرَدَّهُ حيْثُ
كانَ فجَعلَ كلَّما جاءَ لِيخْرُجَ رمَى فِي فيهِ بِحجَرٍ
فيَرْجِعُ كَما كانَ فقُلتُ مَا هاذا قَالَا انْطَلِقْ
فانْطَلَقْنا حتَّى انْتَهينَا إِلَى رَوضَةٍ خَضْراءَ
فِيها شجرَةٌ عَظيمَةٌ وَفِي أصْلِهَا شَيْخٌ وصِبْيَانٌ
وَأذا رجلٌ قَريبٌ مِنَ الشَّجرَةِ بَيْنَ يدَيْهِ نارٌ
يُوقِدُها فصَعِدَا بِي فِي الشَّجرةِ وأدْخلانِي دَارا
لَمْ أرَ قطُّ أحْسَنُ مِنْهَا فِيهَا رِجالٌ شُيُوخٌ
وشَبَابٌ ونِسَاءٌ وصِبْيَانٌ ثُمَّ أخْرَجَانِي مِنْهَا
فصعِدَا بِي الشَّجَرةَ فأدْخلانِي دَارا هيَ أحْسَنُ
وأفْضَلُ فِيها شُيوخٌ وشبَابٌ قُلتُ طوَّفْتُمَانِي
اللَّيلَةَ فأخبِراني عَمَّا رَأيْتُ قالاَ نَعَمْ أمَّا
الَّذِي رَأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ
بِالكَذْبَةِ فتُحْمَلُ عنهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ
فَيْصْنَعُ بِهِ مَا رَأيْتَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ
وَالَّذِي رَأيْتَهُ يُشْدَخْ رَأسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ
الله القُرْآنَ فنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ ولَمُ يَعْمَلْ
فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ
والَّذِي رَأيْتهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ
والَّذِي رأيْتَهُ فِي النَّهْرِ آكِلُوا الرِّبا
والشَّيْخُ فِي أصْلِ الشَّجَرَةِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلامُ والصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فأوْلادُ النَّاسِ
والَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مالِكٌ خَازِنُ النَّارِ
وَالدَّارُ الأولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عامَّةِ
الْمُؤْمِنِينَ وأمَّا هاذِهِ الدَّارُ فَدَارُ
الشُّهَدَاءِ وَأَنا جِبْرِيلُ وهاذا مِيكائِيلُ فارْفَعْ
رَأسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فإذَا فَوْقِي مِثْلُ
السَّحَابِ قالاَ ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي
أدْخُلْ مَنْزِلِي قالاَ إنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ
تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أتَيْتَ مَنْزِلَكَ..
مطابقته لترجمة الْبَاب فِي قَوْله: (وَالشَّيْخ فِي أصل
الشَّجَرَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَالصبيان حوله أَوْلَاد النَّاس) . وَهَذَا صَرِيح فِي
كَون أَوْلَاد النَّاس كلهم فِي الْجنَّة، وَيدخل فِيهِ
أَوْلَاد الْمُشْركين، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَته فِي
التَّعْبِير بِلَفْظ: (وَأما الْولدَان الَّذين حوله فَكل
مَوْلُود مَاتَ على الْفطْرَة، فَقَالَ بعض الْمُسلمين:
وَأَوْلَاد الْمُشْركين؟ فَقَالَ: وَأَوْلَاد الْمُشْركين)
.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
أَبُو سَلمَة الْمنْقري الَّذِي يُقَال لَهُ:
التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: جرير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن
حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي. الثَّالِث:
أَبُو رَجَاء، بتَخْفِيف الْجِيم وبالمد: واسْمه عمرَان بن
تَمِيم، وَيُقَال: ابْن ملْحَان العطاردي. الرَّابِع:
سَمُرَة بن جُنْدُب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه
بَصرِي وَشَيخ شَيْخه كَذَلِك وَأَبُو رَجَاء مخضرم أدْرك
زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد فتح مَكَّة
وَلم ير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنزل
الْبَصْرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْبيُوع وَفِي الْجِهَاد وَفِي بَدْء الْخلق
وَفِي صَلَاة اللَّيْل وَفِي الْأَدَب: عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل وَفِي الصَّلَاة وَفِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي
التَّفْسِير وَفِي التَّعْبِير: عَن مُؤَمل بن هِشَام،
وَالَّذِي أخرجه فِي الصَّلَاة فِي: بَاب عقد الشَّيْطَان
على قافية الرَّأْس، أخرجه عَن مُؤَمل بن هِشَام عَن
إِسْمَاعِيل بن علية عَن عَوْف عَن أبي رَجَاء عَن سَمُرَة
بن جُنْدُب مُخْتَصرا جدا، وَذكرنَا هُنَاكَ من أخرجه
غَيره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فسألنا) ، بِفَتْح اللَّام جملَة
من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. قَوْله: (يَوْمًا)
نصب على الظّرْف. قَوْله: (رُؤْيا) ، على وزن: فعلى،
بِالضَّمِّ، يُقَال: رأى فِي مَنَامه رُؤْيا على: فعلى
بِلَا تَنْوِين، وَجمعه، رأى بِالتَّنْوِينِ، مِثَال: رعى،
وَالْمَشْهُور عِنْد أهل اللُّغَة أَن الرُّؤْيَا
(8/215)
فِي النّوم، والرؤية فِي الْيَقَظَة. وَقد
قيل: إِن الرُّؤْيَا أَيْضا تكون فِي الْيَقَظَة،
وَعَلِيهِ تَفْسِير الْجُمْهُور فِي قَوْله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك
إلاَّ فتْنَة للنَّاس} (يُوسُف:) . أَن الرُّؤْيَا هَهُنَا
فِي الْيَقَظَة، وتكتب بِالْألف كَرَاهَة اجْتِمَاع
الياءين. قَوْله: (فَإِذا رجل) كلمة: إِذا، للمفاجأة.
قَوْله: (كَلوب) ، بِفَتْح الْكَاف وَضم اللَّام
الْمُشَدّدَة، وَهُوَ: الحديدة الَّتِي ينشل بهَا اللَّحْم
عَن الْقدر، وَكَذَلِكَ الْكلاب، وَكَذَا وَقع فِي
رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ. قَوْله: (من حَدِيد) ، كلمة: من،
للْبَيَان كَمَا فِي قَوْلك: خَاتم من فضَّة. قَوْله:
(قَالَ بعض أَصْحَابنَا عَن مُوسَى) ، وَهُوَ مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور فِي أول
الحَدِيث، وَهَذَا الْبَعْض مُبْهَم، وَلَكِن لَا يضر لما
عرف من عَادَة البُخَارِيّ أَنه لَا يرْوى إلاَّ عَن
الْعدْل الَّذِي بِشَرْطِهِ، فَلَا بَأْس بِجَهْل اسْمه.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ مَا صرح باسمه
حَتَّى لَا يلْزم التَّدْلِيس؟ قلت: لَعَلَّه نسي اسْمه
أَو لغَرَض آخر. فَإِن قلت: مَا الْمِقْدَار الَّذِي هُوَ
مقول بعض الْأَصْحَاب؟ قلت: كَلوب من حَدِيد. فَإِن قلت:
فعلى رِوَايَة غيرَة لَا يتم الْكَلَام إِذا لم يذكر مَا
بِيَدِهِ؟ قلت: مَحْذُوف كَأَنَّهُ قَالَ: بِيَدِهِ شَيْء
فسره بعض الْأَصْحَاب بِأَنَّهُ كَلوب. قَوْله: (أَنه)
أَي: أَن ذَلِك الرجل الَّذِي فِي يَده الكلوب. قَوْله:
(يدْخل) ، بِضَم الْيَاء من الإدخال. قَوْله: (الكلوب)
مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (فِي شدقه) بِكَسْر الشين: جَانب
الْفَم. قَوْله: (حَتَّى يثلغ قَفاهُ) ، من ثلغ يثلغ
بِفَتْح اللَّام فيهمَا ثلغا، ومادته ثاء مُثَلّثَة وَلَام
وغين مُعْجمَة، والثلغ: الشدخ. وَقيل: هُوَ ضربك الشَّيْء
الرطب بالشَّيْء الْيَابِس حَتَّى يتشدخ. قَوْله: (مثل
ذَلِك) أَي: مثل مَا فعل بشدقه الأول. قَوْله: (وَرجل
قَائِم) ، جملَة حَالية. قَوْله: (بفهر) ، بِكَسْر الْفَاء
وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الْحجر ملْء
الْكَفّ. وَقيل: هُوَ الْحجر مُطلقًا. قَوْله: (فيشدخ) ،
من الشدخ، وَهُوَ: كسر الشَّيْء الأجوف. تَقول: شدخت رَأسه
فانشدخ، ومادته: شين مُعْجمَة ودال مُهْملَة وخاء
مُعْجمَة. قَوْله: (تدهده الْحجر) أَي: تدحرج وَهُوَ على
وزن: تفعلل، من مزِيد الرباعي ورباعيه: دهده، على وزن:
فعلل. يُقَال: دهدهت الْحجر إِذا دحرجته. وَيُقَال:
أَيْضا: دهيدته. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قد تبدل من الْهَاء
يَاء، فَيُقَال: تدهدى الْحجر وَغَيره تدهديا، ودهديته
أَنا أدهديه دهدأة ودهداء: إِذا دحرجته. قَوْله: (إِلَى
ثقب) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ويروى بالنُّون
وَفِي (الْمطَالع) : وَعند الْأصيلِيّ: نقب، بالنُّون
وَفتح الْقَاف وَهُوَ بِمَعْنى: ثقب، بالثاء
الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (مثل التَّنور) ، بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد النُّون المضمومة وَفِي
آخِره رَاء، وَهَذِه اللَّفْظَة من الغرائب حَيْثُ توَافق
فِيهَا جَمِيع اللُّغَات، وَهُوَ الَّذِي يخبز فِيهِ.
قَوْله: (يتوقد تَحْتَهُ نَارا) ، الضَّمِير فِي يتوقد
يرجع إِلَى الثقب، و: نَارا، مَنْصُوب على التَّمْيِيز
كَمَا يُقَال: مَرَرْت بِامْرَأَة يتضوع من أردانها طيبا،
أَي: يتضوع طيبها من أردانها. ويروى: نَار، بِالرَّفْع على
أَنه فَاعل: يتوقد. قَوْله: (فَإِذا اقْترب ارتفعوا) ، من
الْقرب، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي، وَالضَّمِير
فِي اقْترب يرجع إِلَى الْوقُود أَو الْحر الدَّال
عَلَيْهِ. قَوْله: (يتوقد) ، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ
وَابْن السكن وعبدوس: (فَإِذا افترت) ، بِالْفَاءِ
وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق أَي: فَإِذا أخمدت،
وَأَصله من الفترة وَهُوَ الانكسار والضعف، وَقد فتر الْحر
وَغَيره يفتر فتورا، وفتره الله تفتيرا. وَقَالَ ابْن
التِّين: بِالْقَافِ، قترت، وَمَعْنَاهُ: ارْتَفَعت من
القترة وَهُوَ الْغُبَار، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قتر
اللَّحْم يقتر بِالْكَسْرِ إِذا ارْتَفع قتارها، وقتر
اللَّحْم بِالْكَسْرِ لُغَة فِيهِ حَكَاهَا أَبُو عَمْرو.
وَقَالَ: والقتار ريح الشواء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَأما
فترت بِالْفَاءِ فَمَا علمت لَهُ وَجها لِأَن بعده: فَإِذا
خمدت رجعُوا، وَمعنى: خمدت وفترت وَاحِد، وَعند
النَّسَفِيّ: إِذا أوقدت ارتفعوا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ
فِي (شرح الْمشكاة) : فَإِذا ارتقت من الارتقاء وَهُوَ
الصعُود، ثمَّ قَالَ: كَذَا فِي الْحميدِي و (جَامع
الْأُصُول) ، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح دراية
وَرِوَايَة قَوْله: (ارتفعوا) جَوَاب: إِذا، وَالضَّمِير
الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى النَّاس، بِدلَالَة سِيَاق
الْكَلَام. قَوْله: (حَتَّى كَاد أَن يخرجُوا) أَي: كَاد
خُرُوجهمْ، وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: حَتَّى كَاد
خُرُوجهمْ يتَحَقَّق. قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَفِي (نسخ
المصابيح) حَتَّى يكادوا يخرجُوا، وَحقه إِثْبَات النُّون،
أللهم إلاَّ أَن يتمحل وَيقدر: أَن يخرجُوا، تَشْبِيها
لكاد بعسى، ثمَّ حذف: أَن، وَترك على حَاله، وَفِي
(التَّوْضِيح) : وروى بِإِثْبَات النُّون. قَوْله: قَالَ
يزِيد ووهب بن جرير عَن جرير بن حَازِم: (وعَلى شط النَّهر
رجل) ، وَهَذَا التَّعْلِيق من يزِيد بن هَارُون، ووهب
ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر كَمَا جَاءَ فِي التَّعْبِير:
على شط النَّهر رجل، أما التَّعْلِيق عَن يزِيد فوصله
أَحْمد عَنهُ وسَاق الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (فَإِذا
نهر من دم فِيهِ رجل، وعَلى شط النَّهر رجل) . وَأما
التَّعْلِيق عَن جرير بن حَازِم فوصله أَبُو عوَانَة فِي
(صَحِيحه) من طَرِيقه، وَفِيه: (حَتَّى ينتهى إِلَى نهر من
دم وَرجل قَائِم فِي وَسطه وَرجل على شاطىء النَّهر) .
قَوْله: (فِي فِيهِ) أَي: فِي فَمه. قَوْله: (فَجعل كلما
جَاءَ ليخرج وَقع) خبر: جعل،
(8/216)
هُنَا جملَة فعلية مصدرة: بكلما، وَحقه أَن
يكون فعلا مضارعا كَمَا فِي غَيره من أَفعَال المقاربة،
وَلَكِن ترك الأَصْل شذوذا كَمَا وَقع هُنَا جملَة من فعل
مَاض مقدم عَلَيْهِ. قَوْله: (رمى الرجل) ، رُوِيَ
بِالرَّفْع وَالنّصب، قَالَه الْكرْمَانِي قلت: وَجه
الرّفْع أَن: رمي، على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَيْهِ
الرجل، وَوجه النصب أَن: رمي، على صِيغَة الْمَعْلُوم،
وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الرجل الْقَائِم على
شط النَّهر. قَوْله: (فَقلت: مَا هَذَا؟) قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ ذكر فِي المشدوخ بِلَفْظ:
من، وَفِي أخواته الثَّلَاثَة بِلَفْظ: مَا؟ قلت:
السُّؤَال: بِمن، عَن الشَّخْص، و: بِمَا، عَن حَاله وهما
متلازمان، فَلَا تفَاوت فِي الْحَاصِل مِنْهُمَا. أَو لما
كَانَ هَذَا الرجل عبارَة عَن الْعَالم بِالْقُرْآنِ ذكره
بِلَفْظ: من، الَّذِي للعقلاء، إِذْ الْعلم من حَيْثُ هُوَ
فَضِيلَة وَإِن لم يكن مَعَه الْعَمَل بِخِلَاف غَيره،
إِذْ لَا فَضِيلَة لَهُم، وَكَأَنَّهُ لَا عقل لَهُم.
قَوْله: (وَفِي أَصْلهَا شيخ وصبيان) ، يُرِيد الَّذين هم
فِي علم الله من أهل السَّعَادَة من أَوْلَاد الْمُسلمين،
قَالَه أَبُو عبد الْملك. قَوْله: (وأدخلاني) ويروى:
(فأدخلاني) ، بِالْفَاءِ. قَوْله: (طوفتماني) بالنُّون
ويروى: (طوفتما بِي) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة من التطويف،
يُقَال: طوف إِذا أَكثر الطّواف وَهُوَ الدوران، يُقَال:
طَاف حول الْبَيْت يطوف طوفا وطوفانا، وَتَطوف واستطاف
كُله بِمَعْنى. قَوْله: (أما الَّذِي رَأَيْته يشق شدقه،
فكذاب) ، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْمَالِكِي: لَا بُد
من جعل الْمَوْصُول الَّذِي هَهُنَا للمعين، كالعام،
حَتَّى جَازَ دُخُول الْفَاء فِي خَبره أَي: المُرَاد هُوَ
وَأَمْثَاله قلت: نقل الطَّيِّبِيّ عَنهُ مَبْسُوطا
فَقَالَ: قَالَ الْمَالِكِي: فِي هَذَا شَاهد على أَن
الحكم قد يسْتَحق بِجُزْء الْعلَّة، وَذَلِكَ أَن
الْمُبْتَدَأ لَا يجوز دُخُول الْفَاء على خَبره إلاَّ
إِذا كَانَ شَبِيها بِمن الشّرطِيَّة فِي الْعُمُوم،
واستقبال مَا يتم بِهِ الْمَعْنى نَحْو الَّذِي يأتيني
فمكرم، فَلَو كَانَ الْمَقْصُود بِالَّذِي مَعنا زَالَت
مشابهته بِمن وَامْتنع دُخُول الْفَاء على الْخَبَر كَمَا
يمْتَنع دُخُولهَا على أَخْبَار المبتدآت الْمَقْصُود
بهَا، التَّعْيِين، نَحْو: زيد مكرم، فمكرم لم يجز،
فَكَذَا لَا يجوز الَّذِي يأتيني إِذا قصدت بِهِ معينا،
لَكِن الَّذِي يأتيني عِنْد قصد التَّعْيِين شَبيه فِي
اللَّفْظ بِالَّذِي يأتيني عِنْد قصد الْعُمُوم، فَجَاز
دُخُول الْفَاء حملا للشبيه على الشبيه، وَنَظِيره قَوْله
تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ
فبإذن الله} (آل عمرَان: 661) . فَإِن مَدْلُول: مَا،
معِين ومدلول: أَصَابَكُم، مَاض إلاَّ أَنه روعي فِيهِ
الشّبَه اللَّفْظِيّ، يشبه هَذِه الْآيَة بقوله: {وَمَا
أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم} (الشورى:
03) . فَأجرى: مَا، فِي مصاحبة: الْفَاء، مجْرى وَاحِد،
ثمَّ قَالَ الطَّيِّبِيّ: أَقُول: هَذَا كَلَام متين،
لَكِن جوب الْملكَيْنِ تَفْصِيل لتِلْك الرُّؤْيَا
المتعددة المبهمة، فَلَا بُد من ذكر كلمة التَّفْصِيل
كَمَا فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) والْحميدِي و (الْمشكاة)
أَو تقديرها بِالْفَاءِ جَوَاب أما وَالْفَاء فِي قَوْله:
(فأولاد النَّاس) ، جَازَ دُخُوله على الْخَبَر لِأَن
الْجُمْلَة معطوفة على مَدْخُول، أما فِي قَوْله أما الرجل
الَّذِي رَأَيْته وَحذف الْفَاء فِي بعض المعطوفات نظرا
إِلَى أَن أما مَا حذفت حذف مقتضاها، وَكِلَاهُمَا جائزان.
قَوْله: (فَنَامَ عَنهُ) أَي: أعرض عَنهُ. و: عَن، هَهُنَا
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذين هم عَن صلَاتهم
ساهون} (الماعون: 5) . قَوْله: (دَار الشُّهَدَاء) قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ اكْتفى فِي هَذِه الدَّار
بِذكر الشُّيُوخ والشباب وَلم يذكر النِّسَاء وَالصبيان؟
قلت: لِأَن الْغَالِب أَن الشَّهِيد لَا يكون إلاَّ شَيخا
أَو شَابًّا لَا امْرَأَة أَو صَبيا. فَإِن قلت: مُنَاسبَة
التَّعْبِير للرؤيا ظَاهِرَة إلاَّ فِي الزناة، فَمَا
هِيَ؟ قلت: من جِهَة أَن العري فضيحة كَالزِّنَا ثمَّ إِن
الزَّانِي يطْلب الْخلْوَة كالتنور وَلَا شكّ أَنه خَائِف
حذر وَقت الزِّنَا، كَأَنَّهُ تَحت النَّار فَإِن قلت:
دَرَجَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رفيعة
فَوق دَرَجَات الشُّهَدَاء، فَمَا وَجه كَونه تَحت
الشَّجَرَة، وَهُوَ خَلِيل الله وَأَبُو الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: فِيهِ إِشَارَة
إِلَى أَنه الأَصْل فِي الْملَّة وَأَن كل من بعده من
الْمُوَحِّدين فَهُوَ تَابع لَهُ وبممره يصعدون شَجَرَة
الْإِسْلَام ويدخلون الْجنَّة. قَوْله: (دَعَاني) أَي:
اتركاني، وَهُوَ خطاب للملكين.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الاهتمام بِأَمْر
الرُّؤْيَا واستحباب السُّؤَال عَنْهَا وَذكرهَا بعد
الصَّلَاة. وَفِيه: التحذير عَن الْكَذِب وَالرِّوَايَة
بِغَيْر الْحق. وَفِيه: التحذير عَن ترك قِرَاءَة
الْقُرْآن وَالْعَمَل بِهِ. وَفِيه: التَّغْلِيظ على
الزناة. وَوجه الضَّبْط فِي هَذِه الْأُمُور أَن الْحَال
لَا يَخْلُو من الثَّوَاب وَالْعِقَاب فالعذاب إِمَّا على
مَا يتَعَلَّق بالْقَوْل أَو بِالْفِعْلِ، وَالْأول: أما
على وجود قَول لَا يَنْبَغِي أَو على عدم قَول يَنْبَغِي،
الثَّانِي: إِمَّا على بدني وَهُوَ الزِّنَا وَنَحْوه، أَو
مَالِي وَهُوَ الرِّبَا أَو نَحوه، وَالثَّوَاب إِمَّا
لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ودرجته فَوق الْكل
مثل السحابة، وَإِمَّا للْأمة وَهِي ثَلَاث دَرَجَات:
الْأَدْنَى للصبيان
(8/217)
والأوسط للعامة والأعلى للشهداء. وَفِيه:
فضل تَعْبِير الرُّؤْيَا. وَفِيه: أَن من قدم خيرا وجده
غَدا فِي الْقِيَامَة لقَوْله: (أتيت مَنْزِلك) . وَفِيه:
اسْتِحْبَاب إقبال الإِمَام بعد سَلَامه على أَصْحَابه.
وَفِيه: مبادرة الْمعبر إِلَى تَأْوِيلهَا أول النَّهَار
قبل أَن يتشعب ذهنه باشتغاله فِي معاشه فِي الدُّنْيَا،
وَلِأَن عهد الرَّائِي قريب وَلم يطْرَأ عَلَيْهِ مَا
يشوشها، وَلِأَنَّهُ قد يكون فِيهَا مَا يسْتَحبّ
تَعْجِيله: كالحث على خير والتحذير عَن مَعْصِيّة. وَفِيه:
إِبَاحَة الْكَلَام فِي الْعلم. وَفِيه: أَن استدبار
الْقبْلَة فِي جُلُوسه للْعلم أَو غَيره جَائِز.
49 - (بابُ مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْمَوْت يَوْم
الِاثْنَيْنِ. فَإِن قلت: لَيْسَ لأحد اخْتِيَار فِي
تعْيين وَقت الْمَوْت، فَمَا وَجه هَذَا؟ قلت: لَهُ مدْخل
فِي التَّسَبُّب فِي حُصُوله بِأَن يرغب إِلَى الله لقصد
التَّبَرُّك، فَإِن أُجِيب فَخير حصل وإلاَّ يُثَاب على
اعْتِقَاده.
7831 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ
عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا قالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أبِي بَكْرٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ فَقَالَ فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ فِي ثَلاَثَةِ أثْوَابٍ بِيضٍ
سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ
وَقَالَ لَهَا فِي أيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ يَوْمَ الإثْنَيْنِ قَالَ
فأيُّ يَوْمٍ هاذا قالَتْ يَوْمُ الإثْنَيْنِ قَالَ أرْجُو
فِيمَا بَيْنِي وبَيْنَ اللَّيْلِ فنَظَرَ إلَى ثَوْبٍ
عَلَيْهِ كانَ يْمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ
زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِي هاذا وَزِيدُوا
علَيْهِ ثَوْبَيْنِ فكَفِّنُونِي فِيهَا قُلْتُ إنَّ هاذا
خَلْقً. قَالَ إنَّ الحَيَّ أحَقُّ بِالجَدِيدِ مِنَ
المَيِّتِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ فَلَمْ يُتَوَفَّ
حَتَّى أمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاَثَاءِ ودُفِنَ قَبْلَ
أنْ يُصْبِحَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَت وَفَاته يَوْم الْإِثْنَيْنِ، فَمن
مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ يُرْجَى لَهُ الْخَيْر لموافقة
يَوْم وَفَاته يَوْم وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فظهرت لَهُ مزية على غَيره من الْأَيَّام بِهَذَا
الِاعْتِبَار، فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد
الله بن عَمْرو، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (مَا من مُسلم يَمُوت يَوْم الْجُمُعَة أَو لَيْلَة
الْجُمُعَة إلاَّ وَقَاه الله تَعَالَى فتْنَة الْقَبْر) .
قلت: هَذَا حَدِيث انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ،
وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَلَيْسَ إِسْنَاده
بِمُتَّصِل لِأَن ربيعَة بن سيف يرويهِ عَن ابْن عمر،
وَلَا يعرف لَهُ سَماع مِنْهُ، فَلذَلِك لم يذكرهُ
البُخَارِيّ، فاقتصر على مَا وَافق شَرطه.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ووهيب بِالتَّصْغِيرِ هُوَ
ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخلت على أبي بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ) تَعْنِي أَبَاهَا. قَوْله: (فِي كم كفنتم
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) أَي: فِي كم ثوبا
كفنتم، و: كم، الاستفهامية وَإِن كَانَ لَهَا صدر
الْكَلَام، وَلَكِن الْجَار كالجزء لَهُ فَلَا يتصدر
عَلَيْهِ. فَإِن قلت: كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أقرب النَّاس إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وأعلمهم بِحَالهِ وأموره، فَمَا وَجه هَذَا
السُّؤَال؟ قلت: هَذَا السُّؤَال من أبي بكر عَن كفن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الْيَوْم الَّذِي
مَاتَ فِيهِ، وَالْجَوَاب عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، كَانَا فِي مرض مَوته، وَكَانَ قَصده من
ذَلِك مُوَافَقَته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَتَّى فِي التَّكْفِين، وَكَانَ يَرْجُو أَيْضا أَن تكون
وَفَاته فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ لشدَّة إتباعه إِيَّاه فِي
حَيَاته، فَأَرَادَ اتِّبَاعه فِي مماته، وَحصل قَصده فِي
التَّكْفِين، لِأَن عَائِشَة لما قَالَت: كفن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض
سحُولِيَّة، أَشَارَ أَبُو بكر أَن يكون كَفنه أَيْضا فِي
ثَلَاثَة أَثوَاب، حَيْثُ قَالَ: إغسلوا ثوبي هَذَا،
وَأَشَارَ بِهِ إِلَى ثَوْبه الَّذِي كَانَ يمرض فِيهِ،
وزيدوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ ليصير ثَلَاثَة أَثوَاب، مثل
كفن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما وَفَاته فقد
تَأَخَّرت عَن وَقت وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توفّي
يَوْم الِاثْنَيْنِ، وَتُوفِّي أَبُو بكر لَيْلَة
الثُّلَاثَاء بَين الْمغرب وَالْعشَاء لثمان بَقينَ من
جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة، وَذَلِكَ
كَانَ لحكمة فِي التَّأْخِير، وَهِي أَنه إِنَّمَا تَأَخّر
عَن يَوْم الْإِثْنَيْنِ
(8/218)
لكَونه قَامَ بِالْأَمر بعد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنَاسَبَ أَن تكون وَفَاته
مُتَأَخِّرَة عَن الْوَقْت الَّذِي قبض فِيهِ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: إِنَّمَا سَأَلَ أَبُو بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن ذَلِك بِصِيغَة
الِاسْتِفْهَام تَوْطِئَة لعَائِشَة للصبر على فَقده،
لِأَنَّهُ لم تكن خرجت من قَلبهَا الحرقة، لمَوْت النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو كَانَ ذكر ابْتِدَاء من
أَمر مَوته لدخل عَلَيْهَا غم عَظِيم من ذَلِك، وتجديد
حزن، لِأَنَّهُ كَانَ يكون حِينَئِذٍ غم على غم وحزن على
حزن، وَلم يقْصد أَبُو بكر ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل
أَن يكون السُّؤَال عَن قدر الْكَفَن على حَقِيقَته
لِأَنَّهُ لم يحضر ذَلِك لاشتغاله بِأَمْر الْبيعَة.
انْتهى. قلت: مَا أبعد هَذَا عَن مَنْهَج الصَّوَاب، لأَنا
قد ذكرنَا أَن السُّؤَال وَالْجَوَاب إِنَّمَا كَانَا فِي
مرض موت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لأجل
الْمُوَافقَة والاتباع، وَأَيْنَ كَانَ وَقت اشْتِغَاله
بِأَمْر الْبيعَة من هَذَا الْوَقْت الَّذِي كَانَ فِيهِ
مَرِيضا مرض الْمَوْت، وَمن الْبعيد أَن لَا يحضر أَبُو
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تكفين النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَعَ كَونه أقرب النَّاس إِلَيْهِ فِي كل
شَيْء، وَمَعَ هَذَا كَانَت الْبيعَة فِي الْيَوْم الَّذِي
توفّي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ
يَوْم الِاثْنَيْنِ، والتكفين كَانَ وَقت دَفنه لَيْلَة
الْأَرْبَعَاء. قَالَه ابْن إِسْحَاق. فَإِن قلت: قَالَ
الْوَاقِدِيّ: كَانَت الْبيعَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ قلت:
كَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ يَوْم السَّقِيفَة، وَكَانَت
الْبيعَة الْعَامَّة يَوْم الثُّلَاثَاء، قَالَه
الزُّهْرِيّ وَغَيره. قَوْله: (بيض) ، بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة جمع: أَبيض. قَوْله: (سحُولِيَّة) ، بِفَتْح
السِّين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى سحول، قَرْيَة
بِالْيمن، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب
الثِّيَاب الْبيض للكفن، قَوْله: (وَقَالَ لَهَا) أَي:
قَالَ أَبُو بكر لعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
فِي أَي يَوْم توفّي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم؟ قَالَ بَعضهم: وَأما تعْيين الْيَوْم فنسيانه
أَيْضا يحْتَمل، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفن
لَيْلَة الْأَرْبَعَاء، فَيمكن أَن يحصل التَّرَدُّد: هَل
مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ أَو الثُّلَاثَاء؟ انْتهى قلت:
هَذَا أبعد من الأول، لِأَنَّهُ كَيفَ يخفى عَلَيْهِ ذَلِك
وَقد بُويِعَ لَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم بيعَة السَّقِيفَة؟
وَأَيْضًا كَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم اخْتِلَاف
الصَّحَابَة فِيهِ فِي مَوته، فَمن قَائِل، قَالَ: مَاتَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن قَائِل قَالَ:
لم يمت وَمِنْهُم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى
خطب أَبُو بكر إِلَى جَانب الْمِنْبَر، وَبَين لَهُم
وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأزال الْجِدَال
وأزاح الْإِشْكَال. وَكَيف يخفى عَلَيْهِ مثل ذَلِك
الْيَوْم مَعَ قرب الْعَهْد، وَإِنَّمَا كَانَ وَجه
سُؤَاله ليعلمها أَنه كَانَ يتَمَنَّى أَن تكون وَفَاته
يَوْم الْإِثْنَيْنِ، وَلم يكن سُؤَاله عَن حَقِيقَة
ذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، يَوْم الِاثْنَيْنِ تطييبا لِقَلْبِهِ، لما قَالَ
أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَي يَوْم
توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَيَوْم
الِاثْنَيْنِ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (قَالَ
فَأَي يَوْم هَذَا؟) أَي: قَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَي يَوْم هَذَا؟ وَأَشَارَ بِهِ إِلَى
الْيَوْم الَّذِي كَانَ مَرِيضا فِيهِ، وَكَانَ آخر
أَيَّامه، وَلم يكن مَوته فِيهِ لما ذكرنَا قَوْله: (قلت
يَوْم الِاثْنَيْنِ) ، بِرَفْع الْيَوْم لِأَنَّهُ خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا الْيَوْم يَوْم
الْإِثْنَيْنِ. قَوْله: (أَرْجُو فِيمَا بيني وَبَين
اللَّيْل) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (وَبَين
اللَّيْلَة) وَمَعْنَاهُ: أَرْجُو من الله تَعَالَى أَن
يكون موتِي فِيمَا بَين الْوَقْت الَّذِي أَنا فِيهِ
وَبَين اللَّيْل الَّذِي يَأْتِي، يَعْنِي يكون يَوْم
الِاثْنَيْنِ ليَكُون مَوته فِي يَوْم موت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَ هَذَا توفّي لَيْلَة
الثُّلَاثَاء بَين الْمغرب وَالْعشَاء الْآخِرَة لثمان
بَقينَ من جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من
الْهِجْرَة، كَمَا ذكرنَا آنِفا. وَقيل: توفّي أَبُو بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم الْجُمُعَة، وَقيل:
لَيْلَة الْجُمُعَة و: الأول أصح، وَلَا خلاف أَنه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ قبل أَن
ينشب النَّهَار، وَمرض لإثنين وَعشْرين لَيْلَة من صفر،
وَبَدَأَ وَجَعه عِنْد وليدة لَهُ يُقَال لَهَا رَيْحَانَة
كَانَت من سبي الْيَهُود وَكَانَ أول يَوْم مرض يَوْم
السبت، وَتُوفِّي يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلتين خلتا من شهر
ربيع الأول لتَمام عشر سِنِين من مقدمه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْمَدِينَة، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب موت أبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ سيف بن عمر، إِسْنَاده
عَن ابْن عمر، قَالَ: كَانَ سَبَب مرض أبي بكر وَفَاة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كمد فَمَا زَالَ
جِسْمه يذوب حَتَّى مَاتَ. وَقيل: سم، فَقَالَ ابْن سعد
بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن شهَاب: إِن أَبَا بكر والْحَارث بن
كلدة يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فَقَالَ لَهُ
الْحَارِث: إرفع يدك يَا خَليفَة رَسُول الله، وَالله إِن
فِيهَا السم سنة وَأَنا وَأَنت نموت فِي يَوْم وَاحِد
عِنْد انْتِهَاء السّنة، فماتا عِنْد انْقِضَائِهَا، وَلم
يَزَالَا عليلين حَتَّى مَاتَا. والخزيرة أَن يقطع
اللَّحْم ويذر عَلَيْهِ الدَّقِيق. وَقَالَ الطَّبَرِيّ:
الَّذِي سمته امْرَأَة من الْيَهُود فِي أرز، وَقيل: إِن
الْيَهُود سمته فِي حسو. وَقيل: اغْتسل فِي يَوْم بَارِد
فَحم خَمْسَة عشر يَوْمًا وَتُوفِّي، حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ
عَن عَائِشَة. وَقيل: علق بِهِ سل قبل وَفَاة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل بِهِ حَتَّى قَتله،
حَكَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا. قَوْله: (ثمَّ نظر) ، أَي: أَبُو بكر، إِلَى
ثوب عَلَيْهِ أَي
(8/219)
ثوب كَائِن على بدنه، قَوْله: (كَانَ يمرض
فِيهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من التمريض، من مَرضت
فلَانا بِالتَّشْدِيدِ إِذا أَقمت عَلَيْهِ بالتعهد
والمداواة، قَوْله: (بِهِ ردع) ، أَي: بِهَذَا الثَّوْب
الَّذِي عَلَيْهِ ردع، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال
الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ اللطخ
والأثر، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: (من زعفران) ،
للْبَيَان. قَوْله: (وزيدوا عَلَيْهِ) أَي: على هَذَا
الثَّوْب. قَوْله: (فيهمَا) أَي: فِي الْمَزِيد والزيد
عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: إِن كَانَت الرِّوَايَة:
فِيهَا، فَالضَّمِير عَائِد إِلَى الأثواب الثَّلَاثَة،
وَإِن كَانَت: فيهمَا، يَعْنِي بالتثنية، فكأنهما جَعلهمَا
جِنْسَيْنِ: الثَّوْب الَّذِي كَانَ يمرض فِيهِ جِنْسا،
والثوبين الآخرين جِنْسا، فذكرهما بِلَفْظ التَّثْنِيَة.
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: فِيهَا بإفراد الضَّمِير. قَوْله:
(قلت: إِن هَذَا خلق) أَي: قَالَت عَائِشَة: إِن هَذَا
الثَّوْب الَّذِي عَلَيْهِ خلق، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَاللَّام، أَي: بَال، عَتيق، وَفِي رِوَايَة
أبي مُعَاوِيَة عِنْد ابْن سعد: (أَلا تجعلها جددا كلهَا؟
قَالَ: لَا) . وَيفهم من هَذَا أَنه كَانَ يرى عدم
المغالاة فِي الأكفان، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله بعد ذَلِك:
(إِن الْحَيّ أَحَق بالجديد، إِنَّمَا هُوَ للمهلة) ،
بِضَم الْمِيم وَهُوَ: الْقَيْح والصديد، وَيحْتَمل أَن
يُرَاد بالمهلة مَعْنَاهَا الْمَشْهُور، أَي: الْجَدِيد
لمن يرى المهلة فِي بَقَائِهِ، ويروى: المهلة، بِكَسْر
الْمِيم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: فَإِنَّمَا هما للمهل
وَالتُّرَاب، ويروى: للمهلة، بِضَم الْمِيم وَكسرهَا
وَهُوَ: الْقَيْح والصديد الَّذِي يذوب. وَقيل: من
الْجَسَد، وَمِنْه قيل للنحاس الذائب: مهل. وَقَالَ ابْن
حبيب: المهلة، بِالْكَسْرِ: الصديد وَبِفَتْحِهَا من
التمهل وَبِضَمِّهَا عكر الزَّيْت الْأسود المظلم، وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ}
(المعارج: 8) . وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي هَذَا الحَدِيث
إِنَّهَا صديد الْمَيِّت، زَعَمُوا أَن الْمهل ضرب من
القطران، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (لَا تغَالوا فِي الْكَفَن فَإِنَّهُ يسلب
سَرِيعا) . قَوْله: (لَا تغَالوا) ، من المغالاة وَهِي
مُجَاوزَة الْعدَد، وَالْمعْنَى: لَا تبالغوا. قَوْله:
(يسلب سَرِيعا) يَعْنِي: يسلب الْمَيِّت الْكَفَن،
وَالْمعْنَى: يبْلى عَلَيْهِ وَيقطع وَلَا يبْقى وَلَا
ينْتَفع بِهِ الْمَيِّت. فَإِن قلت: يُعَارضهُ حَدِيث
جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه مُسلم عَنهُ
قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا
كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) ، وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إِذا ولي أحدكُم أَخَاهُ
فليحسن كَفنه) . وَفِي رِوَايَة الْحَارِث بن أُسَامَة
وَأحمد بن منيع: (إِذا ولي أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه
فَإِنَّهُم يبعثون فِي أكفانهم ويتزاورون فِي أكفانهم) .
وَفِي رِوَايَة أبي نصر عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (أَحْسنُوا أكفان مَوْتَاكُم فَإِنَّهُم
يتباهون ويتزاورون) . قلت: لَا تعَارض بَينهمَا، لِأَن
المُرَاد بِهِ لَيْسَ بالمغالاة فِي ثمنه ورقته،
وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ كَونه جَدِيدا أَبيض، حَكَاهُ
ابْن الْمُبَارك عَن سَلام بن أبي مُطِيع، وروى ابْن أبي
شيبَة عَن مُحَمَّد بن سِيرِين أَنه كَانَ يُعجبهُ
الْكَفَن الصفيق، وروى أَيْضا عَن جَعْفَر بن مَيْمُون،
قَالَ: كَانُوا يستحبون أَن تكون الْمَرْأَة فِي غِلَاظ
الثِّيَاب، وروى أَيْضا عَن الْحسن وَمُحَمّد أَنه: كَانَ
يعجبهما أَن يكون الْكَفَن كتانا، وَرُوِيَ أَيْضا عَن
ابْن الحنيفة. قَالَ: لَيْسَ للْمَيت من الْكَفَن شَيْء،
وَإِنَّمَا هُوَ تكرمة الْحَيّ. وَقيل فِي الْجمع
بَينهمَا: يحمل التحسين على الصّفة، وَتحمل المغالاة على
الثّمن، وَقيل: التحسين حق الْمَيِّت فَإِذا أوصى
بِتَرْكِهِ اتبع، كَمَا فعل الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَيحْتَمل أَن يكون اخْتَار ذَلِك الثَّوْب
بِعَيْنِه لِمَعْنى فِيهِ من التَّبَرُّك بِهِ، لكَونه
كَانَ جَاهد فِيهِ أَو تعبد فِيهِ، وَيُؤَيِّدهُ مَا
رَوَاهُ ابْن سعد من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي
بكر الصّديق، قَالَ أَبُو بكر: كفنوني فِي ثوبي اللَّذين
كنت أُصَلِّي فيهمَا. قلت: يحْتَمل وَجها آخر وَهُوَ أَن
الثَّوْب الَّذِي اخْتَارَهُ كَانَ وصل إِلَيْهِ من
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك اخْتَارَهُ
تبركا بِهِ، وَحقّ لَهُ هَذَا الِاخْتِيَار.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب
التَّكْفِين فِي الثِّيَاب الْبيض. وَفِيه: اسْتِحْبَاب
تثليث الْكَفَن. وَفِيه: جَوَاز التَّكْفِين فِي الثِّيَاب
المغسولة. وَفِيه: إِيثَار الْحَيّ بالجديد. وَفِيه:
جَوَاز دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب
طلب الْمُوَافقَة فِيمَا وَقع للأكابر تبركا بذلك. وَفِيه:
أَخذ الْمَرْء الْعلم عَمَّن دونه. وَفِيه: فضل أبي بكر
وَصِحَّة فراسته وثباته عِنْد وَفَاته، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: أَن وَصِيَّة الْمَيِّت
مُعْتَبرَة فِي كَفنه وَغير ذَلِك من أمره إِذا وَافق
صَوَابا، فَإِن أوصى بسرف، فَعَن مَالك: يُكفن
بِالْقَصْدِ، فَإِن لم يوص لم ينقص عَن ثَلَاثَة أَثوَاب
من جنس لِبَاسه فِي حَيَاته، لِأَن الزِّيَادَة عَلَيْهَا
وَالنَّقْص مِنْهَا خُرُوج بِهِ عَن عَادَته، وَلَا خلاف
فِي جَوَاز التَّكْفِين فِي خلق الثِّيَاب إِذا كَانَت
سَالِمَة من الْقطع وساترة لَهُ، وَقَالَ أَبُو عمر:
فِيهِ: أَن التَّكْفِين فِي الثَّوْب الْجَدِيد والخلق
سَوَاء، وَاعْترض عَلَيْهِ بِاحْتِمَال أَن يكون أَبُو بكر
اخْتَارَهُ لِمَعْنى من الْمعَانِي الَّتِي ذَكرنَاهَا
آنِفا، وعَلى تَقْدِير أَن لَا يكون كَذَلِك فَلَا دَلِيل
فِيهِ على الْمُسَاوَاة. وَالله أعلم.
(8/220)
59 - (بابُ مَوْتِ الفَجْأةِ البَغْتَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال الْمَوْت فَجْأَة، وَلم
يُبينهُ اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب بِأَنَّهُ غير
مَكْرُوه، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يظْهر
مِنْهُ كراهيته لما أخبرهُ الرجل بِأَن أمه افتلتت
نَفسهَا، والفجاءة، بِضَم الْفَاء وبالمد، وَفِي
(الْمُحكم) : فَجْأَة وفجأة يفجؤه فجَاء وفجاءة وافتجأه
وفاجأه مفاجأة: هجم عَلَيْهِ من غير أَن يشْعر بِهِ،
ولقيته فَجْأَة وضعوه مَوضِع الْمصدر، وَمَوْت الْفجأَة
مَا يفجأ الْإِنْسَان من ذَلِك. . وَفِي (الْمُنْتَهى) :
هُوَ بِالضَّمِّ، والهمزة، وَفِي (الاصلاح) ليعقوب: فاجأني
وفجأني الرجل. قَالَ أَبُو زيد: إِذا لَقيته وَلَا تشعر
بِهِ وَهُوَ لَا يشْعر بك أَيْضا. وَعند ابْن التياني: فجأ
الْأَمر وفاجأ وفجىء، وَبِه يرد على ابْن درسْتوَيْه فِي
كتاب (تَصْحِيح الفصيح) 7 والعامة تفتح ماضيه، وَقَالَ
قطرب: الأَصْل: فجا، وَنحن نتفجى فلَانا أَي ننتظره وأتيته
فجواء أَي: مفاجأة، وَحكى الْمُطَرز عَن ابْن الْأَعرَابِي
أَنه يُقَال: أَتَيْته فجاة والتقاطا وعينا وبددا، أَي:
بِغَيْر تلبث. قَوْله: (البغتة) بِالْجَرِّ على أَنه بدل
من الْفجأَة وَيجوز أَن يرفع على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف أَي: هِيَ البغتة، وَوَقع فِي رِوَايَة
الْكشميهني: بَغْتَة، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: يُقَال بغته يبغته بغتا، أَي: فاجأه.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: البغت أَن يفجأك الشَّيْء، تَقول:
بَغْتَة أَي: فَجْأَة ولقيته بَغْتَة أَي فجاءة، والمباغتة
المفاجأة.
8831 - حدَّثنا سَعيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبرنِي هِشَامٌ عنْ
أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ
رَجُلاً قَالَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ
أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وأظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ
تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أجْرٌ إنْ تَصَدَّقْتُ عَنْها
قالَ نَعَمْ.
(الحَدِيث 8831 طرفه فِي: 0672) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لما أجَاب بقوله: (نعم) لذَلِك الْقَائِل الَّذِي
فِي الحَدِيث دلّ على أَن موت الْفجأَة غير مَكْرُوه، وَقد
ورد فِي حَدِيث عَن عَائِشَة وَابْن مَسْعُود، أخرجه ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : (موت الْفجأَة رَاحَة
لِلْمُؤمنِ وأسف على الْفَاجِرَة) . فَإِن قلت: روى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث عبيد بن خَالِد السّلمِيّ، رجل من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: موت
الْفجأَة أَخْذَة آسَف، والآسف على فَاعل من الصِّفَات
المشبهة، والآسف بِفتْحَتَيْنِ اسْم، وَالْمعْنَى: أَخْذَة
غَضْبَان فِي الْوَجْه الأول، وَأَخْذَة غضب فِي الْوَجْه
الثَّانِي، وَمَعْنَاهُ: أَنه فعل مَا أوجب الْغَضَب
عَلَيْهِ والانتقام مِنْهُ بِأَن أَمَاتَهُ بَغْتَة من غير
استعداد وَلَا حُضُور لذَلِك، وروى أَحْمد من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر
بجدار مائل فأسرع، وَقَالَ: أكره موت الْفَوات) . قلت:
الْجمع بَينهمَا بِأَن الأول: مَحْمُول على من استعد
وتأهب، وَالثَّانِي: مَحْمُول على من فرط. وَقَالَ ابْن
بطال: وَكَانَ ذَلِك، وَالله أعلم، لما فِي موت الْفجأَة
من خوف حرمَان الْوَصِيَّة وَترك الاستعداد للمعاد
بِالتَّوْبَةِ وَغَيرهَا من الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وروى
ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب (الْمَوْت) : من حَدِيث أنس
نَحْو حَدِيث عبيد بن خَالِد، وَزَاد فِيهِ: المحروم من
حرم وَصيته) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم
هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر بن أبي كثير.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة
بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس:
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي
مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مصري وَبَقِيَّة الروَاة
مدنيون، وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ سعد بن عبَادَة،
قَالَ أَبُو عمر: وَاسم أمه عمْرَة. قَوْله: (افتلتت
نَفسهَا) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر
اللَّام على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمَعْنَاهُ: مَاتَت
فَجْأَة، يُقَال: افتلت فلَان على صِيغَة الْمَجْهُول،
وافتلتت نَفسه أَيْضا، و: نَفسهَا، نصب على التَّمْيِيز
أَو مفعول ثانٍ بِمَعْنى: سلبت، ويروى بِرَفْع النَّفس،
وَهُوَ ظَاهر. وَسَيَأْتِي فِي البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن
عَبَّاس أَن سعد بن عبَادَة استفتى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي نذر كَانَ على أمه توفيت قبل أَن
تقضيه، فَقَالَ: إقضه عَنْهَا، وَلأبي دَاوُد: (إِن
امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله إِن أُمِّي افتلتت
نَفسهَا. .) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إِن أُمِّي
مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم) ، وللنسائي عَن ابْن عَبَّاس،
(عَن سعد بن عبَادَة أَنه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله،
إِن أُمِّي مَاتَت فَأَي الصَّدَقَة
(8/221)
أفضل؟ قَالَ: المَاء) . وَفِي حَدِيث مُسلم
عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إِن رجلا
قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أبي مَاتَ وَترك مَالا وَلم
يوص، فَهَل يَكْفِي ذَلِك عَنهُ أَن أَتصدق؟ قَالَ: نعم)
فالقضية إِذن مُتعَدِّدَة.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن الصَّدَقَة عَن الْمَيِّت تجوز،
وَأَنه ينْتَفع بهَا، وروى أَحْمد عَن عبد الله بن عَمْرو
أَن الْعَاصِ بن وَائِل نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر
مائَة بَدَنَة، وَأَن هِشَام بن الْعَاصِ نحر عَنهُ خمسين،
وَأَن عمرا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن ذَلِك، فَقَالَ: أما أَبوك فَلَو أقرّ بِالتَّوْحِيدِ
فَصمت وتصدقت عَنهُ نَفعه ذَلِك، وَعند ابْن مَاكُولَا، من
حَدِيث إِبْرَاهِيم بن حبَان عَن أَبِيه عَن جده (عَن أنس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: سَأَلت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: إِنَّا لندعو لموتانا
ونتصدق عَنْهُم ونحج، فَهَل يصل ذَلِك إِلَيْهِم؟ فَقَالَ:
إِنَّه ليصل إِلَيْهِم ويفرحون بِهِ كَمَا يفرح أحدكُم
بالهدية) .
69 - (بابُ مَا جاءَ فِي قَبْرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَأبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي صفة قبر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصفَة قبر أبي بكر
الصّديق وَعمر الْفَارُوق من كَون قبرهم فِي بَيت
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَكَونه مسنما أَو
غير مسنم، وَكَونه بارزا أَو غير بارز، وَمن كَون أبي بكر
وَعمر مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه فَضِيلَة
عَظِيمَة لَهما فِيمَا لَا يشاركهما فِيهَا أحد، وَذَلِكَ
أَنَّهُمَا كَانَا وزيريه فِي حَال حَيَاته، وصارا ضجيعيه
بعد مماته، وَهَذِه فَضِيلَة عَظِيمَة خصهما الله تَعَالَى
بهَا، وكرامة حياهما بهَا لم تحصل لأحد: أَلا ترى وَصِيَّة
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، إِلَى ابْن
الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن لَا يدفنها
مَعَهم خشيَة أَن تزكّى بذلك، وَهَذَا من تواضعها وإقرارها
بِالْحَقِّ لأَهله، وإيثارها بِهِ على نَفسهَا، وَرَأَتْ
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَهلا وَأَيْضًا لقرب
طينتهما من طينته، فَفِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي جَنَازَة عِنْد قبر، فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقيل: فلَان
الحبشي، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا إلاه إلاَّ
الله، سيق من أرضه وسمائه إِلَى تربته الَّتِي مِنْهَا
خلق) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَإِنَّمَا
استأذنها عمر فِي ذَلِك وَرغب إِلَيْهَا فِيهِ لِأَن
الْموضع كَانَ بَيتهَا، وَلها فِيهِ حق، وَلها أَن تُؤثر
بِهِ نَفسهَا لذَلِك، فآثرت بِهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. وَقد كَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، رَأَتْ رُؤْيا دلتها على مَا فعلت حِين رَأَتْ
ثَلَاثَة أقمار سقطن فِي حُجْرَتهَا، فقصتها على والدها
لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدفن فِي
بَيتهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر: هَذَا أول أقمارك
وَهُوَ خَيرهَا.
وَقَوْلُ الله {فأقبره}
قَول الله: مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: فأقبره، بالتأويل،
يَعْنِي قَول الله مقول فِيهِ فأقبره يُشِير بِهِ إِلَى
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} (عبس: 12) .
وَذَلِكَ بعد أَن خلقه سويا ثمَّ أَمَاتَهُ، أَي: قبض روحه
فأقبره أَي: جعله ذَا قبر يدْفن فِيهِ، وَقيل: جعل لَهُ من
يقبره ويواريه وَلَا يلقى للسباع وَالطير، ليَكُون مكرما
حَيا وَمَيتًا، وَلم يقل: قَبره، لِأَن فَاعل ذَلِك هُوَ
الله تَعَالَى، أَي: صيره مقبورا فَلَيْسَ كَفعل
الْآدَمِيّ، وَالْعرب تَقول: طردت فلَانا عني، وَالله
أطرده أَي: جعله طريدا.
أقْبَرْتُ الرَّجُلَ إذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرا
وقَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْفرق فِي الْمَعْنى بَين: أقبرت،
الَّذِي هُوَ من الثلاثي الْمَزِيد من بَاب: الْأَفْعَال،
وَبَين: قبرت، الَّذِي من الثلاثي الْمُجَرّد، وبيَّن أَن
معنى: أقبرت، جعلت لَهُ قبرا، وَأَن معنى: قبرت فلَانا:
دَفَنته.
كِفَاتا يَكُونُونَ فِيهَا أحْيَاءً ويُدْفَنُونَ فِيهَا
أمْوَاتا
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل
الأَرْض كفاتا} (المرسلات: 52) . وَقَوله: كفاتا، كلمة من
الْقُرْآن الْكَرِيم، وَقَوله: يكونُونَ فِيهَا تَفْسِيره.
وروى عبد بن حميد من طَرِيق مُجَاهِد، قَالَ فِي قَوْله:
{ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا أَحيَاء وأمواتا} (المرسلات:
52) . قَالَ يكونُونَ فِيهَا مَا أَرَادوا، ثمَّ يدفنون
فِيهَا. انْتهى. والكفات من: كفت الشَّيْء أكفته إِذا
جمعته وضممته. قَالَه الزّجاج: وَقَالَ الْفراء: نكفتهم
أَمْوَاتًا فِي بَطنهَا، أَي: نحفظهم ونحرزهم وَنصب
الْأَحْيَاء والأموات بِوُقُوع الكفات عَلَيْهِ. وَفِي
(تَفْسِير الطَّبَرِيّ) : كفاتا وعَاء. وَعَن ابْن
عَبَّاس: كُنَّا، وَعَن مُجَاهِد: {ألم نجْعَل الأَرْض
كفاتا} (المرسلات: 52) . قَالَ: نكفت أذاهم وَمَا يخرج
مِنْهُم. وَفِي (الْمُحكم) : كفته وكفته: قَبضه وضمه.
قَالَ: وَعِنْدِي أَن الكفات فِي الْآيَة الْكَرِيمَة مصدر
من: كفت.
(8/222)
9831 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني
سُلَيْمَانُ عنْ هِشَامٍ ح وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ حَرْبٍ
قَالَ حدَّثنا أبُو مَرْوَانَ يَحْيى بنُ أبِي
زَكَرِيَّاءَ عنْ هِشَامٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ
قالَتْ إنْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ليَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أيْنَ أَنا اليَوْمَ أيْنَ أَنا
غَدا اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عائِشَةَ فَلَمَّا كانَ
يَوْمِي قَبَضَهُ الله بَيْنَ سَحْري ونَحْرِي وَدُفِنَ
فِي بَيْتِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم دفن فِي بَيت عَائِشَة، وَفِيه قَبره، والترجمة فِي
قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس
واسْمه عبد الله إِبْنِ أُخْت مَالك بن أنس، وَقد تقدم.
الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير. الرَّابِع:
مُحَمَّد بن حَرْب ضد الصُّلْح أَبُو عبد الله
النَّسَائِيّ، بِفَتْح النُّون وبالشين الْمُعْجَمَة،
مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الْخَامِس: أَبُو
مَرْوَان يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الغساني، مَاتَ سنة
ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة. السَّادِس: عُرْوَة ابْن
الزبير بن الْعَوام. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه إِسْمَاعِيل
وَسليمَان وَهِشَام وَعُرْوَة مدنيون وَمُحَمّد بن حَرْب
شَيْخه واسطي وَيحيى بن أبي زَكَرِيَّا شَامي سكن وَاسِط.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن كَانَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) كلمة: إِن، هَذِه مُخَفّفَة من
الثَّقِيلَة، فَتدخل على الجملتين، فَإِن دخلت على الإسمية
جَازَ إعمالها خلافًا للكوفيين. وَحكى سِيبَوَيْهٍ: إِن
عمرا لمنطلقٌ، وَإِن دخلت على الفعلية وَجب إهمالها،
وَهَهُنَا دخلت على الفعلية، وَالْأَكْثَر كَون الْفِعْل
مَاضِيا. قَوْله: (ليتعذر) بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال
الْمُعْجَمَة أَي: يطْلب الْعذر، فِيمَا يحاوله من
الِانْتِقَال إِلَى بَيت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، وَيُمكن أَن يكون بِمَعْنى: يتعسر، أَي: يتعسر
عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الصَّبْر. وَعند ابْن
التِّين فِي رِوَايَة أبي الْحسن: ليتقدر، بِالْقَافِ
وَالدَّال الْمُهْملَة. قَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ
يسْأَل عَن قدر مَا بَقِي إِلَى يَوْمهَا ليهون عَلَيْهِ
بعض مَا يجد، لِأَن الْمَرِيض يجد عِنْد بعض أَهله مَا لَا
يجده عِنْد غَيره من الْأنس والسكون. قَوْله: (أَيْن أَنا
الْيَوْم) أَي: أَيْن أكون فِي هَذَا الْيَوْم، وَأَيْنَ
أكون غَدا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يُرِيد بقوله: (أَيْن
أَنا الْيَوْم) : لمن النّوبَة الْيَوْم؟ وَلمن النّوبَة
غَدا؟ أَي: فِي حجرَة أَي امْرَأَة من النِّسَاء أكون
غَدا؟ استبطاء ليَوْم عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، يستطيل الْيَوْم اشتياقا إِلَيْهَا وَإِلَى
نوبتها. قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ يومي) أَي: فِي النّوبَة.
قَوْله: (بَين سحرِي وَنَحْرِي) السحر، بِفَتْح السِّين
وَسُكُون الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ: مَا التزق بالحلقوم
والمريء من أَعلَى الْبَطن، وَالسحر، بِفتْحَتَيْنِ
كَذَلِك وبضم السِّين كَذَلِك، وَالسحر أَيْضا: الرئة،
وَالْجمع: سحور، ذكره ابْن سَيّده. وَذكر ابْن عديس أَيْضا
فِي الرئة: سحرًا، بِفتْحَتَيْنِ. وَفِي (الصِّحَاح) السحر
الرئة وَالْجمع أسحار، كبرد وأبراد. وَقَالَ الْفراء:
السحر أَكثر قَول الْعَرَب السحر والنحر، بالنُّون:
الصَّدْر. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه (الْغَرِيب)
: بَلغنِي عَن عمَارَة بن عقيل بن بِلَال بن جرير أَنه
قَالَ: إِنَّمَا هُوَ شجري وَنَحْرِي، بالشين المنقوطة
وَالْجِيم، فَسئلَ عَن ذَلِك فشبك بَين أَصَابِعه وقدمها
من صَدره، كَأَنَّهُ يضم شَيْئا إِلَيْهِ، أَرَادَ أَنه
قبض وَقد ضمته بِيَدَيْهَا إِلَى نحرها وصدرها، وَالشَّجر
التشبيك. وَفِي (الْمُخَصّص) : الشّجر طرفا اللحيين من
أَسْفَل،. وَقيل: هُوَ مُؤخر الْفَم، وَالْجمع أَشجَار
وشجور.
وَيُسْتَفَاد من الحَدِيث فَضِيلَة عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (وَدفن فِي بَيْتِي) نِسْبَة
الْبَيْت إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: (وَقرن فِي
بيوتكن} (الْأَحْزَاب: 33) . لِأَن الْبيُوت كَانَت
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
0931 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو
عَوَانَةَ عنْ هِلالٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ
لَعَنَ الله اليَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَوْلاَ ذالِكَ أُبْرِزَ
قَبْرُهُ غَيْرَ أنَّهُ خَشِيَ أوْ خُشِيَ أنْ يُتَّخَذَ
مَسْجِدا وعنْ هِلالٍ قَالَ كَنَّانِي عُرْوَةُ بنُ
الزُّبَيْرِ ولَمْ يُولَدْ لِي.
.
(8/223)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أبرز
قَبره) ، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري،
تكَرر ذكره، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين: الوضاح بن
عبد الله الْيَشْكُرِي، وهلال بن حميد، وَيُقَال ابْن أبي
حميد، وَيُقَال ابْن عبد الله الجهيني الْوزان، بِفَتْح
الْوَاو وَتَشْديد الزَّاي وبالنون، مر فِي: بَاب مَا يكره
من اتِّخَاذ الْمَسَاجِد، مَعَ الحَدِيث فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن شَيبَان عَن هِلَال
الْوزان عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا. وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَة.
قَوْله: (لَوْلَا ذَلِك) من كَلَام عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (أبرز) ، على صِيغَة
الْمَجْهُول أَي: أظهر. قَوْله: (خشِي) ، على صِيغَة
الْمَعْلُوم، أَي: خشِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (أَو خشِي) على صِيغَة الْمَجْهُول،
فالخاشي الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَو
عَائِشَة، أَو رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (وَعَن هِلَال) يَعْنِي: بلإسناد الْمَذْكُور.
قَوْله: (كناني: عُرْوَة) أَي: ابْن الزبير بن الْعَوام
الَّذِي روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث، وَاخْتلفُوا فِي كنية
هِلَال، فَقيل: أَبُو أُميَّة، وَقيل: أَبُو الجهم، وَقيل:
أَبُو عَمْرو وَهُوَ الْمَشْهُور، وَمعنى: كناني أَي:
جعلني ذَا كنية ونسبني إِلَيْهَا. وَلَعَلَّ غَرَض
البُخَارِيّ بإيراد هَذَا الْكَلَام التَّنْبِيه على
لِقَاء هِلَال عُرْوَة. قَوْله: (وَلم يُولد لي) جملَة
حَالية أَي: كناني بكنية وَالْحَال لم يُولد لي ولد، لِأَن
الْغَالِب لَا يكنى الشَّخْص إلاَّ باسم أول أَوْلَاده،
وَهَذَا كناه وَلَا جَاءَ لَهُ ولد.
وَفِيه: جَوَاز التكنية سَوَاء جَاءَ للمكني ولد أَو لَا،
وَقد كنى الشَّارِع عَائِشَة بِابْن أُخْتهَا، عبد الله بن
الزبير.
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ
الله قَالَ أخبرنَا أبُو بَكْرِ بنِ عَيَّاشٍ عنْ
سُفْيَانَ التَّمَّارِ أنَّهُ حدَّثَهُ أنَّهُ رَأى قَبْرَ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسَنَّما
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل
أَبُو الْحسن الْمروزِي المجاور بِمَكَّة. الثَّانِي: عبد
الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: أَبُو بكر بن
عَيَّاش، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة وَفِي
آخِره شين مُعْجمَة: الْكُوفِي المقرىء الْمُحدث، مَاتَ
سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة. الرَّابِع: سُفْيَان بن
دِينَار الْكُوفِي التمار، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة
من فَوق وَتَشْديد الْمِيم: وَهُوَ من كبار أَتبَاع
التَّابِعين، وَقد لحق عصر الصَّحَابَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم وَلم تعرف لَهُ رِوَايَة عَن صَحَابِيّ.
وَفِي (تَارِيخ البُخَارِيّ: سُفْيَان بن زِيَاد،
وَيُقَال: ابْن دِينَار التمار الْعُصْفُرِي، وَزعم
الْبَاجِيّ: أَن بَعضهم فرق بَين ابْن زِيَاد وَبَين أبي
دِينَار، وَزعم أَنه هُوَ الْمَذْكُور عِنْد البُخَارِيّ
فِي (الصَّحِيح) ، وكل مِنْهُمَا كُوفِي عصفري، وَلم يروِ
البُخَارِيّ عَن أبي دِينَار التمار إلاَّ قَوْله هَذَا،
وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وروى ابْن أبي شيبَة
هَذَا القَوْل، وَزَاد: (وقبر أبي بكر وَعمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، مسنمين) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) : وقبر أبي بكر وَعمر كَذَلِك، وَقَالَ
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَخْبرنِي من رأى قبر رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحبيه مسنمة نَاشِزَة من
الأَرْض عَلَيْهَا مرمر أَبيض. وَقَالَ الشّعبِيّ، رَحمَه
الله تَعَالَى: رَأَيْت قُبُور شُهَدَاء أحد مسنمة،
وَكَذَا فعل بِقَبْر عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي يزِيد بن أبي
حبيب أَنه يسْتَحبّ أَن تُسنم الْقُبُور وَلَا ترفع وَلَا
يكون عَلَيْهَا تُرَاب كثير، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين
وَالثَّوْري وَمَالك وَأحمد، وَاخْتَارَهُ جمَاعَة من
الشَّافِعِيَّة مِنْهُم، الْمُزنِيّ: أَن الْقُبُور تُسنم
لِأَنَّهَا أمنع من الْجُلُوس عَلَيْهَا، وَقَالَ أَشهب
وَابْن حبيب: أحب إِلَى أَن يسنم الْقَبْر، وَإِن يرفع
فَلَا بَأْس. وَقَالَ طَاوُوس: كَانَ يعجبهم أَن يرفع
الْقَبْر شَيْئا حَتَّى يعلم أَنه قبر، وَادّعى القَاضِي
حُسَيْن اتِّفَاق أَصْحَاب الشَّافِعِي على التسنيم، ورد
عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جمَاعَة من قدماء الشَّافِعِيَّة
استحبوا التسطيح، كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي، وَبِه
جزم الْمَاوَرْدِيّ وَآخَرُونَ. وَفِي (التَّوْضِيح) :
وَقَالَ الشَّافِعِي: تسطح الْقُبُور وَلَا تبنى وَلَا
ترفع وَتَكون على وَجه الأَرْض نَحوا من شبر. قَالَ:
وبلغنا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سطح قبر
ابْنه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَوضع عَلَيْهِ
الْحَصْبَاء ورش عَلَيْهِ المَاء، وَأَن مَقْبرَة
الْأَنْصَار والمهاجرين مسطحة قُبُورهم، وَرُوِيَ عَن
مَالك مثله وَاحْتج الشَّافِعِي أَيْضا بِمَا روى
التِّرْمِذِيّ عَن أبي الْهياج الْأَسدي، واسْمه: حَيَّان.
قَالَ لي عَليّ: أَلا أَبْعَثك على مَا بَلغنِي عَلَيْهِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن لَا أدع قبرا
مشرفا إلاَّ سويته، وَلَا تمثالاً إلاَّ طمسته) . وَبِمَا
روى أَبُو دَاوُد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: دخلت
عَليّ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقلت: يَا
أُمَّاهُ اكشفي لي قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَكشفت لي عَن ثَلَاثَة قُبُور لَا مشرفة وَلَا
لاطئة مبطوحة ببطحاء الْعَرَصَة الْحَمْرَاء، فَرَأَيْت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقدما، وَأَبا بكر
رَأسه بَين كَتِفي النَّبِي
(8/224)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعمرا رَأسه عِنْد
رجْلي النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ صَاحب
(الْهِدَايَة) : ويسنم الْقَبْر من التسنيم، وتسنيمه،
رَفعه من الأَرْض، مِقْدَار شبر أَو أَكثر قَلِيلا. وَفِي
(ديوَان الْأَدَب) : يُقَال: قبر مسنم، أَي: غير مسطح،
وَبِه قَالَ مُوسَى بن طَلْحَة وَيزِيد بن أبي حبيب،
وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَمَالك وَأحمد. وَفِي (الْمُغنِي)
: وَاخْتَارَ التسنيم أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ وَأَبُو
عَليّ بن أبي هُرَيْرَة والجويني وَالْغَزالِيّ
وَالرُّويَانِيّ والسرخسي، وَذكر القَاضِي حُسَيْن
اتِّفَاقهم عَلَيْهِ، وخالفوا الشَّافِعِي فِي ذَلِك،
وَالْجَوَاب عَمَّا رَوَاهُ الشَّافِعِي: أَنه ضَعِيف
ومرسل وَهُوَ لَا يحْتَج بالمرسل، وَعَما رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ: أَن المُرَاد من المشرفة الْمَذْكُورَة
فِيهِ هِيَ المبنية الَّتِي يطْلب بهَا المباهاة، وَعَما
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن رِوَايَة البُخَارِيّ تعارضها.
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَالْبَغوِيّ: وَرِوَايَة
الْقَاسِم بن مُحَمَّد أصح، وَأولى أَن تكون مَحْفُوظَة،
قلت: قَالَ صَاحب (اللّبَاب) : هَذِه كبوة مِنْهُمَا بِمَا
رفلا فِيهِ من ثِيَاب التعصب والعناد، وإلاَّ فَأَحْمَد
يرجح رِوَايَة أبي دَاوُد على رِوَايَة البُخَارِيّ فِي
(صَحِيحه) . وَقَالَ صَاحب (الْمُغنِي) : رِوَايَة
البُخَارِيّ أصح وَأولى. وَقَالَ شمس الْأَئِمَّة
السَّرخسِيّ: التربيع من شعار الرافضة، وَقَالَ ابْن
قدامَة: التسطيح هُوَ شعار أهل الْبدع، فَكَانَ مَكْرُوها.
وَقَالَ الْمُزنِيّ فِي (كتاب الْجَنَائِز) : إِذا ثَبت
أحد الْخَبَرَيْنِ المسطح أَو المسنم فَأشبه الْأَمريْنِ
بِالْمَيتِ مَا لَا يشبه المصانع ليجلس عَلَيْهِ، والمسطح
يشبه مَا يصنع للجلوس، وَلَيْسَ المسنم هُوَ مَوضِع
الْجُلُوس، وَقد نهى عَن الْجُلُوس على الْقُبُور. وَقَالَ
الْمُزنِيّ؛ وَفِي التسنيم منع الْجُلُوس فَهُوَ أمنع من
أَن يجلس عَلَيْهَا، وأشبه بِأَمْر الْآخِرَة، وَلَكِن لَا
يُزَاد فِيهِ أَكثر من ترابه، وَيعلم ليعرف فيدعى لَهُ،
وَقَالَ بَعضهم: وَقَول سُفْيَان التمار لَا حجَّة فِيهِ،
كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ لاحْتِمَال أَن قَبره صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يكن فِي الأول مسنما، ثمَّ ذكر مَا
ذَكرْنَاهُ عَن أبي دَاوُد. قلت: قد أبعد عَن مَنْهَج
الصَّوَاب من يحْتَج بالإحتمال، مَعَ أَن هَذَا الْقَائِل
لَا يقدم شَيْئا على رِوَايَة البُخَارِيّ، وَعند قيام
التعصب يحيد عَن ذَلِك، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: ثمَّ
الإختلاف فِي ذَلِك أَيهمَا أفضل لَا فِي أصل الْجَوَاز،
ثمَّ قَالَ: ويرجح التسطيح مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث
فضَالة بن عبيد أَنه مر بِقَبْر فسوي، ثمَّ قَالَ: سَمِعت
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْمر بتسويتها
قلت: إِنَّمَا أَمر بالتسوية لأجل الْبناء الَّذِي يبْنى
عَلَيْهَا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ للمباهاة كَمَا
ذكرنَا، وَذكر الْحَافِظ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن
مَحْمُود بن النجار فِي كِتَابه (الدرة الثمينة فِي
أَخْبَار الْمَدِينَة) : أَن قبر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وقبر صَاحِبيهِ فِي صفة بَيت عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَ: وَفِي الْبَيْت
مَوضِع قبر فِي السهوة المشرفة، قَالَ سعيد بن الْمسيب:
فِيهِ يدْفن عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. وَعَن عبد الله بن سَلام، قَالَ: يدْفن
عِيسَى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيكون
قَبره رَابِعا. وَعَن عُثْمَان بن نسطاس، قَالَ: رَأَيْت
قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما هَدمه عمر بن
عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مرتفعا نَحْو
أَرْبَعَة أَصَابِع، وَرَأَيْت قبر أبي بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَرَاء قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وقبر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَسْفَل
مِنْهُ، وَعَن عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: رَأس النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يَلِي الْمغرب، وَرَأس أبي
بكر عِنْد رجلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعمر خلف
ظهر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن نَافِع بن
أبي نعيم قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمامهما
إِلَى الْقبْلَة مقدما ثمَّ قبر أبي بكر حذاء مَنْكِبي
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر عمر حذاء
مَنْكِبي أبي بكر، وَعَن مُحَمَّد بن الْمُبَارك. قَالَ:
قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا، وقبر أبي
بكر خَلفه، وقبر عمر عِنْد رجْلي النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابْن عقيل: قبر أبي بكر عِنْد
رجلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر عمر عِنْد رجْلي
أبي بكر. وَقَالَ ابْن التِّين: يُقَال: إِن أَبَا بكر خلف
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جَازَ ملحده ملحد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأس عمر عِنْد رجْلي
أبي بكر قد حازت رِجْلَاهُ رجْلي النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرت فِي صفة قُبُورهم أَقْوَال
فالأكثر هَكَذَا.
(8/225)
وَقد استدلت جمَاعَة على فَضِيلَة
الشَّيْخَيْنِ بمجاورتهما ملحده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ولقرب طينهما من طينه، لما فِي حَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ فِي الحبشي الْمَذْكُور فِي أَوَائِل الْبَاب،
وَله شَوَاهِد أَكْثَرهَا صَحِيحَة. مِنْهَا: حَدِيث
جُنْدُب بن سُفْيَان يرفعهُ: (إِذا أَرَادَ الله قبض عبد
بِأَرْض جعل لَهُ بهَا حَاجَة) . وَحَدِيث ابْن مَسْعُود
ومطرز بن مكامس وَعُرْوَة بن مُضرس بِنَحْوِهِ. وَفِي
(الْحِلْية) لأبي نعيم الْحَافِظ: عَن أبي هُرَيْرَة
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا
من مَوْلُود إلاَّ وَقد ذَر عَلَيْهِ من تُرَاب حفرته) .
وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. وَفِي (نَوَادِر الْأُصُول)
للحكيم أبي عبد الله التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مرّة الطّيب
عَن عبد الله بن مَسْعُود (أَن الْملك الْمُوكل بالرحم
يَأْخُذ النُّطْفَة فيعجنها بِالتُّرَابِ الَّذِي يدْفن
فِي بقعته، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم} (طه: 55) . وَفِي
(التَّمْهِيد) من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن عَطاء الْخفاف:
حَدثنَا أبي عَن دَاوُد بن أبي هِنْد حَدثنِي عَطاء
الْخُرَاسَانِي: (أَن الْملك ينْطَلق فَيَأْخُذ من تُرَاب
الْمَكَان الَّذِي يدْفن فِيهِ، فيذره على النُّطْفَة
فتخلق من التُّرَاب، وَمن النُّطْفَة، فَذَلِك قَوْله
تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا
نخرجكم تَارَة أُخْرَى} (طه: 55) . وَعند التِّرْمِذِيّ
أبي عبد الله، قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لَو حَلَفت
حَلَفت صَادِقا بارا غير شاكٍ وَلَا مستثن أَن الله
تَعَالَى مَا خلق نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا
أَبَا بكر وَلَا عمر إلاَّ من طِينَة وَاحِدَة، ثمَّ ردهم
إِلَى تِلْكَ الطينة.
حدَّثنافَرْوَةُ قَالَ حدَّثنا علِيٌّ عنْ هِشَامِ بنِ
عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الحَائِطَ
فِي زَمَانِ الوَلِيدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ أخَذُوا فِي
بِنَائِهِ فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا وظَنُّوا
أنَّهَا قَدَمُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا
وَجَدُوا أحَدا يَعْلَمُ ذالِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ
عُرْوَةُ لاَ وَالله مَا هِيَ قَدَمُ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَا هِيَ إلاَّ قَدَمُ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ.
1931 - وعَنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا أوْصَتْ عَبْدَ الله بنَ
الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لاَ تَدْفِنِّي
مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ لَا
أُزَكَّى بِهِ أبَدا.
(الحَدِيث 1931 طرفه فِي: 7237) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حَائِط مَسْجِد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سقط وبدا قدم ففزعوا
وظنوا أَنَّهَا قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم
تكن إلاَّ قدم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دلّ هَذَا
على قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي
الْقَبْر، والترجمة فِي قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: فَرْوَة، بِفَتْح
الْفَاء وَسُكُون الرَّاء: ابْن أبي المغراء، بِفَتْح
الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالراء وبالمد
وبالقصر: أَبُو الْقَاسِم. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر،
بِضَم الْمِيم: مر فِي مُبَاشرَة الْحَائِض. الثَّالِث:
هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة. الْخَامِس:
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن شَيْخه من أَفْرَاده روى عَنهُ، وَقَالَ: مَاتَ سنة
خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ وَشَيْخه كوفيان
وَهِشَام وَأَبوهُ مدنيان. وَفِيه: حَدثنَا عَليّ بن
حُسَيْن فِي رِوَايَة أبي ذَر، كَذَا هُوَ مَذْكُور باسم
أَبِيه، وَفِي رِوَايَة غَيره لم يذكر اسْم أَبِيه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما سقط عَلَيْهِم الْحَائِط)
أَي: حَائِط حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي
رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (لما سقط عَنْهُم) ، وَالسَّبَب فِي
ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو بكر الْآجُرِيّ من طَرِيق شُعَيْب
بن إِسْحَاق عَن هِشَام بن عُرْوَة قَالَ أَخْبرنِي
(8/226)
قَالَ: كَانَ النَّاس يصلونَ إِلَى
الْقَبْر فَأمر بِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز فَرفع حَتَّى
لَا يُصَلِّي إِلَيْهِ أحد، فَلَمَّا هدم بَدَت قدم بساق
وركبة، فَفَزعَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَأَتَاهُ عُرْوَة
فَقَالَ: هَذَا سَاق عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وركبته، فَسرِّي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز: وروى
الْآجُرِيّ من طَرِيق مَالك بن مغول عَن رَجَاء بن حَيْوَة
قَالَ: كتب الْوَلِيد بن عبد الْملك إِلَى عمر بن عبد
الْعَزِيز، وَكَانَ قد اشْترى حجر أَزوَاج النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن أهدمها ووسع بهَا الْمَسْجِد،
فَقعدَ عمر فِي نَاحيَة ثمَّ أَمر بهدمها، فَمَا رَأَيْت
باكيا أَكثر من يَوْمئِذٍ، ثمَّ بناه كَمَا أَرَادَ،
فَلَمَّا أَن بنى الْبَيْت على الْقَبْر وَهدم الْبَيْت
الأول ظَهرت الْقُبُور الثَّلَاثَة، وَكَانَ الرمل الَّذِي
عَلَيْهَا قد انهار، فَفَزعَ عمر بن عبد الْعَزِيز
وَأَرَادَ أَن يقوم فيسويها بِنَفسِهِ، فَقلت لَهُ: أصلحك
الله، إِنَّك إِن قُمْت قَامَ النَّاس مَعَك، فَلَو أمرت
رجلا أَن يصلحها، ورجوت أَنه يَأْمُرنِي بذلك، فَقَالَ:
يَا مُزَاحم يَعْنِي مَوْلَاهُ قُم فأصلحها. قَالَ رَجَاء:
فَكَانَ قبر أبي بكر عِنْد وسط النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَعمر خلف أبي بكر رَأسه عِنْد وَسطه. وَفِي
(الإكليل) : عَن وردان، وَهُوَ الَّذِي بني بَيت عَائِشَة:
لما سقط شقَّه الشَّرْقِي فِي أَيَّام عمر بن عبد
الْعَزِيز، وَإِن الْقَدَمَيْنِ لما بدتا قَالَ سَالم بن
عبد الله: أَيهَا الْأَمِير هَذَانِ قدما جدي وَجدك عمر.
وَقَالَ أَبُو الْفرج الْأمَوِي فِي (تَارِيخه) : وردان
هَذَا هُوَ أَبُو امْرَأَة أشعب الطماع، وَفِي
(الطَّبَقَات) قَالَ مَالك: قسم بَيت عَائِشَة ثَلَاثِينَ:
قسم كَانَ فِيهِ الْقَبْر، وَقسم كَانَ تكون فِيهِ
عَائِشَة وَبَينهمَا حَائِط، فَكَانَت عَائِشَة رُبمَا
دخلت جنب الْقَبْر فصلا، فَلَمَّا دفن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ لم تدخله إلاَّ وَهِي جَامِعَة عَلَيْهَا
ثِيَابهَا. وَقَالَ عَمْرو بن دِينَار وَعبيد الله ابْن
أبي يزِيد: لم يكن على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَائِط،
فَكَانَ أول من بنى عَلَيْهِ جدارا عمر بن الْخطاب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ عبيد الله: كَانَ جِدَاره
قَصِيرا، ثمَّ بناه عبد الله بن الزبير وَزَاد فِيهِ.
وَفِي (الدرة الثمينة) لِابْنِ النجار: سقط جِدَار
الْحُجْرَة مِمَّا يَلِي مَوضِع الْجَنَائِز فِي زمَان
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فظهرت الْقُبُور، فَمَا
رُؤِيَ باكيا أَكثر من يَوْمئِذٍ فَأمر عمر بقباطي يستر
بهَا الْموضع، وَأمر ابْن وردان أَن يكْشف عَن الأساس،
فَلَمَّا بَدَت القدمان قَامَ عمر فَزعًا، فَقَالَ لَهُ
عبيد الله بن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَكَانَ حَاضرا: أَيهَا الْأَمِير لَا تفزع فهما
قدما جدك عمر، ضَاقَ الْبَيْت عَنهُ فحفر لَهُ فِي الأساس،
فَقَالَ لَهُ عمر: يَا ابْن وردان غطِّ مَا رَأَيْت،
فَفعل. وَفِي رِوَايَة: أَن عمر أَمر أَبَا حَفْصَة، مولى
عَائِشَة وناسا مَعَه، فبنوا الْجِدَار وَجعلُوا فِيهِ
كوَّة، فَلَمَّا فرغوا مِنْهُ ورفعوه دخل مُزَاحم مولى عمر
فَقُمْ مَا سقط على الْقَبْر من التُّرَاب وَبنى عمر على
الْحُجْرَة حاجزا فِي سقف الْمَسْجِد إِلَى الأَرْض،
وَصَارَت الْحُجْرَة فِي وَسطه وَهُوَ على دورانها،
فَلَمَّا ولي المتَوَكل أزرها بالرخام من حولهَا، فَلَمَّا
كَانَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، فِي خلَافَة
المقتفي، جدد التأزير وَجعل قامة وبسطة، وَعمل لَهَا شباكا
من الصندل والأبنوس وأداره حولهَا مِمَّا يَلِي السّقف،
ثمَّ إِن الْحسن بن أبي الهيجا، صهر الصَّالح وَزِير
المصريين، عمل لَهَا ستارة من الديبقي الْأَبْيَض مرقومة
بالإبريسيم الْأَصْفَر والأحمر، ثمَّ جَاءَت من المستضيء
بِأَمْر الله ستارة من الإبريسيم البنفسجي وعَلى دوران
حاماتها مرقوم: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ شيلت تِلْكَ ونفذت إِلَى
مشْهد عَليّ بن أبي طَالب، وعلقت هَذِه. ثمَّ إِن
النَّاصِر لدين الله نفذ ستارة من الإبريسيم الْأسود
وطرزها وحاماتها أَبيض، فعلقت فَوق تِلْكَ، ثمَّ لما حجت
الْجِهَة الخليفية عملت ستارة على شكل الْمَذْكُورَة
ونفذتها فعلقت. قَوْله: (فِي زمَان الْوَلِيد بن عبد
الْملك) بِفَتْح الْوَاو وَكسر اللَّام، وجده مَرْوَان بن
الحكم ولي الْأَمر بعد موت عبد الْملك فِي سنة سِتّ
وَثَمَانِينَ، وَكَانَ أكبر ولد عبد الْملك، وَكَانَت
خِلَافَته تسع سِنِين وَثَمَانِية أشهر على الْمَشْهُور،
وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت منتصف جُمَادَى الْآخِرَة من
سنة سِتّ وَتِسْعين بِدِمَشْق بدير مَرْوَان، وَصلى
عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز، وَحمل على أَعْنَاق
الرِّجَال وَدفن بمقابر بَاب الصَّغِير، وَقيل: بِبَاب
الفراديس، ثمَّ بعد وَفَاته بُويِعَ بالخلافة لِأَخِيهِ
سُلَيْمَان بن عبد الْملك، وَكَانَ سُلَيْمَان بالرملة.
قَوْله: (فبدت لَهُم قدم) أَي: ظَهرت من البدو وَهُوَ
الظُّهُور. قَوْله: (وَعَن هِشَام عَن أَبِيه) هُوَ
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
مُسْندًا فِي الِاعْتِصَام عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن
أبي أُسَامَة عَن هِشَام بِزِيَادَة، وَأخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عَبدة عَن هِشَام وَزَاد
فِيهِ: (وَكَانَ فِي بَيتهَا مَوضِع قبر) . قَوْله: (لَا
تدفني مَعَهم) أَي: مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَأبي بكر وَعمر، وَإِنَّمَا قَالَت ذَلِك مَعَ
أَنه بَقِي فِي الْبَيْت مَوضِع لَيْسَ فِيهِ أحد خوفًا من
أَن يَجْعَل لَهَا بذلك مزية فضل. وَفِي (التكملة) لِابْنِ
الْأَبَّار، من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله الْعمريّ:
حَدثنَا شُعَيْب بن طَلْحَة من ولد أبي بكر عَن أَبِيه
(8/227)
عَن جده (عَن عَائِشَة قَالَ: قَالَت
للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لَا أَرَانِي
إلاَّ سأكون بعْدك فتأذن لي أَن أدفن إِلَى جَانِبك؟
قَالَ: وأنى لَك، ذَلِك الْموضع مَا فِيهِ إلاَّ قَبْرِي
وقبر أبي بكر وَعمر، وَفِيه عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا قَوْلهَا
لما طلب مِنْهَا أَن يدْفن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، مَعَهُمَا أردْت لنَفْسي قلت: قيل: لِأَن ظَاهره
أَن الْبَيْت لَيْسَ فِيهِ غير مَوضِع عمر. وَقيل: كَانَ
ظنا من عَائِشَة. وَقيل: كَانَ اجتهادها فِي ذَلِك تغير.
وَقيل: إِنَّمَا قَالَت ذَلِك قبل أَن يَقع لَهَا مَا وَقع
فِي قَضِيَّة الْجمل، فاستحت بعد ذَلِك أَن تدفن هُنَاكَ.
وَقَالَ قَالَ عَنْهَا عمار بن يَاسر، وَهُوَ أحد من
حاربها يَوْمئِذٍ: إِنَّهَا زَوْجَة نَبِيكُم فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. قلت: إِذا صَحَّ مَا رَوَاهُ ابْن
الْأَبَّار فَهُوَ جَوَاب قَاطع. قَوْله: (وادفني مَعَ
صواحبي) أَرَادَت بذلك بَقِيَّة نسَاء النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، المدفونات فِي البقيع. قَوْله: (لَا أزكى
بِهِ أبدا) أَي: لَا يثنى عَليّ بِسَبَبِهِ، و: أزكى، على
صِيغَة الْمَجْهُول من التَّزْكِيَة. قَالَ ابْن بطال:
فِيهِ معنى التَّوَاضُع، كرهت عَائِشَة أَن يُقَال:
إِنَّهَا مدفونة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَيكون فِي ذَلِك تَعْظِيمًا لَهَا.
2931 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ
عَبْدِ الحَمِيدِ قَالَ حدَّثنا حُصَيْنُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ عَمْرِو بنِ مَيْمُونٍ الأوْدِيِّ. قَالَ
رَأيْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
قَالَ يَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ اذْهَبْ إلَى أُمِّ
المُؤْمِنِينَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عَلَيْكِ
السَّلاَمَ ثُمَّ سَلْهَا أنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ
قالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلأُوثِرَنَّهُ
اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي فَلَمَّا أقْبَلَ قَالَ لَهُ مَا
لَدَيْكَ قَالَ أذِنَتْ لَكَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ مَا كانَ شَيءٌ أهَمَّ إلَيَّ مِنْ ذالِكَ
الْمَضْجَعِ فإذَا قُبِضْتُ فاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا
ثُمَّ قُلْ يَسْتَأذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فإنْ
أذِنَتْ لِي فادْفِنُونِي وَإلاَّ فَرُدُّونِي إلَى
مقَابِرِ المُسْلِمِينَ إنِّي لاَ أعْلَمُ أحَدا أحَقَّ
بِهاذَا الأمْرِ مِنْ هاؤُلاَءِ النَّفر الَّذِيَ
تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ
عَنْهُمْ رَاض فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهْوَ
الخَلِيفَةُ فاسْمَعُوا لَهُ وأطِيعُوا فَسَمَّى عُثْمَانَ
وعَلِيَّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمانِ
بنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بنَ أبِي وَقَّاصٍ وَوَلَجَ عَلَيْهِ
شابٌّ مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ أبْشِرْ يَا أمِيرَ
المُؤمِنِينَ بِبُشْرَى الله كانَ لَكَ مِنَ القَدَمِ فِي
الإسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتُ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ
فَعَدَلْتَ ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هاذا كُلِّهِ
فَقَالَ لَيْتنِي يَا ابنَ أخِي وَذالِكَ كَفافٌ لاَ
عَلَيَّ وَلاَ لِي أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي
بالمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرا أنْ يَعْرِفَ لَهُمْ
حَقَّهُمْ وَأنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ وَأُوصِيهِ
بِالأنْصَارِ خَيْرا الذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ
وَالإيمَانَ أنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِيهِمْ ويُعْفَى عنْ
مُسِيئِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ الله وذِمَّةِ رسولهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ
وَأنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأنْ لاَ يُكَلَّفُوا
فَوْقَ طاقَتِهِمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَضِيَّة عمر بن الْخطاب،
لِأَن فِيهَا السُّؤَال بِأَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ، وهما
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَمَا ذَاك إلاَّ فِي قبر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، والترجمة فِي.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد،
وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: جرير، بِالْجِيم: ابْن عبد
الحميد، مر فِي: بَاب من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا.
الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد
الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالنون، مر فِي كتاب الصَّلَاة.
الرَّابِع: عَمْرو بن مَيْمُون الأودي، بِفَتْح الْهمزَة
وَسُكُون الْوَاو وبالدال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى أود
بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، أدْرك
الْجَاهِلِيَّة وَلم يلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَسمع عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، وَثَّقَهُ يحيى وَغَيره، مَاتَ سنة خمس
وَسبعين.
(8/228)
ذكر مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي ذكره عَمْرو
بن مَيْمُون قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل سَيَأْتِي فِي
مَنَاقِب عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله:
(أَن أدفن، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكلمَة: أَن،
مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (مَعَ صَاحِبي) ، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء، وَأَصله صاحبين لي،
فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت النُّون،
وَأَرَادَ بصاحبيه: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأَبا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (كنت
أريده) أَي: كنت أُرِيد الدّفن مَعَ صَاحِبيهِ، قَوْله:
(فلأوثرنه) من الإيثار، يُقَال: آثرت فلَانا على نَفسِي،
إِذا اخْتَارَهُ على نَفسه وفضله عَلَيْهِ. قَوْله:
(فَلَمَّا أقبل) أَي: عبد الله بن عمر. قَوْله: (مَا
لديك؟) أَي: مَا عنْدك من الْخَبَر؟ قَوْله: (أَذِنت لَك)
أَي: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَذِنت لَهُ
بالدفن مَعَ صَاحِبيهِ. قَوْله: (من ذَلِك المضجع) ،
أَرَادَ بِهِ مَضْجَع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
ومضجع أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:
(فَإِذا قبضت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وإلاَّ)
أَي: وَإِن لم تأذنِ لي. قَوْله: (إِنِّي لَا أعلم. .)
إِلَى آخِره من جملَة وَصيته، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (بِهَذَا الْأَمر) ، أَرَادَ بِهِ الْخلَافَة.
قَوْله: (من هَؤُلَاءِ النَّفر؟) النَّفر: عدَّة رجال من
الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة. قَوْله: (وَهُوَ عَنْهُم
راضٍ) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فَمن استخلفوا) ، أَي:
فَمن اسْتَخْلَفَهُ هَؤُلَاءِ النَّفر المذكورون فَهُوَ
الْخَلِيفَة، أَي: فَهُوَ أَحَق بالخلافة، قَوْله: (فَسمى
عُثْمَان) إِلَى آخِره، إِنَّمَا لم يذكر أَبَا عُبَيْدَة
لِأَنَّهُ كَانَ قد مَاتَ، وَلم يذكر سعيد ابْن زيد
لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبا، قَالَ بَعضهم: لم يذكرهُ
لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبه وصهره، فَفعل كَمَا فعل بِهِ عبد
الله بن عمر. قَوْله: (وولج عَلَيْهِ) أَي: دخل، من ولج
يلج ولوجا. قَوْله: (كَانَ لَك من الْقدَم) ، بِكَسْر
الْقَاف وَفتح الدَّال، ويروى بِفَتْح الْقَاف: وَهُوَ
السَّابِقَة فِي الْأَمر، يُقَال: لفُلَان قدم صدق، أَي:
إثرة حَسَنَة، وَلَو صحت الرِّوَايَة بِالْكَسْرِ
فَالْمَعْنى صَحِيح أَيْضا. قَوْله: (ثمَّ اسْتخْلفت) على
صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (ثمَّ الشَّهَادَة) أَي: ثمَّ
جاءتك الشَّهَادَة، فَيكون ارْتِفَاع: الشَّهَادَة، على
أَنه فَاعل فعل مَحْذُوف، وَذَلِكَ أَنه قَتله علج يُسمى
فَيْرُوز وكنيته أَبُو لؤلؤة، وَكَانَ غُلَاما للْمُغِيرَة
بن شُعْبَة، وَكَانَ يدَّعي الْإِسْلَام، وَسَببه أَنه
قَالَ لعمر: ألاَ تكلم مولَايَ يضع عني من خراجي؟ قَالَ:
كم خراجك؟ قَالَ: دِينَار. قَالَ: مَا أرى أَن أفعل،
إِنَّك عَامل محسن وَمَا هَذَا بِكَثِير، فَغَضب مِنْهُ،
فَلَمَّا خرج عمر إِلَى النَّاس لصَلَاة الصُّبْح جَاءَ
عَدو الله فطعنه بسكين مَسْمُومَة ذَات طرفين فَقتله،
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: طعن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع ليالٍ بَقينَ من ذِي
الْحجَّة سنة ثَلَاثَة وَعشْرين، وَدفن يَوْم الْأَحَد
صباح هِلَال الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين، وَكَانَ عمره
يَوْم مَاتَ سِتِّينَ سنة، وَقيل: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ،
وَقيل: إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقيل: سِتَّة وَسِتِّينَ،
وَكَانَت خِلَافَته عشر سِنِين وَخَمْسَة أشهر، وَإِحْدَى
وَعشْرين لَيْلَة من متوفى أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَه الْوَاقِدِيّ. فَإِن قلت: الشَّهِيد من قتل
فِي قتال الْكفَّار على قَول الشَّافِعِيَّة، وعَلى قَول
الْحَنَفِيَّة: من قتل ظلما وَلم يجب بقتْله دِيَة أَيْضا
قلت: أما على قَوْلهم: فَإِنَّهُ كالشهيد فِي ثَوَاب
الْآخِرَة، وَأما على قَوْلنَا فَإِنَّهُ قتل ظلما وَوَجَب
الْقصاص على قَاتله، فَهُوَ شَهِيد حَقِيقَة. فَإِن قلت:
بالإرتثاث تسْقط الشَّهَادَة. قلت: هُوَ قتل لأجل كلمة
الْحق، وَالْقَوْل بِكَلِمَة الْحق من الدّين، وورود: (من
قتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد) . قَوْله: (لَيْتَني) جَوَاب
هُوَ قَوْله: (وَلَا عليَّ) أَي: لَيْتَني لَا عِقَاب
عَليّ وَلَا ثَوَاب لي فِيهِ: أَي: أَتَمَنَّى أَن أكون
رَأْسا بِرَأْس فِي أَمر الْخلَافَة، ويروى: وَلَا ليا،
بإلحاق ألف الْإِطْلَاق فِي آخِره. قَوْله: (كفاف) بِفَتْح
الْكَاف بِمَعْنى الْمثل، قَالَه الْكرْمَانِي قلت:
مَعْنَاهُ: أَن أَمر الْخلَافَة مكفوف عني شَرها، وَقيل:
مَعْنَاهُ إِن لَا تنَال مني وَلَا أنال مِنْهَا، أَي: تكف
عني وأكف عَنْهَا، والكفاف فِي الأَصْل هُوَ الَّذِي لَا
يفضل عَن الشَّيْء وَيكون بِقدر الْحَاجة إِلَيْهِ،
وإرتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ، وَهُوَ قَوْله ذَلِك،
وَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَمر الْخلَافَة، وَهَذِه
الْجُمْلَة مُعْتَرضَة بَين: لَيْت وخبرها، قَوْله: (أَن
يعرف لَهُم) ، تَفْسِير لقَوْله: (خيرا) وَبَيَان لَهُ.
قَوْله: (بالمهاجرين الْأَوليين) وهم الَّذين هَاجرُوا قبل
بيعَة الرضْوَان، أَو الَّذين صلوا إِلَى الْقبْلَتَيْنِ،
أَو الَّذين شهدُوا بَدْرًا. قَوْله: (وأوصيه بالأنصار
الَّذين تبوأوا الدَّار) ، قد وَقع هُنَا خيرا بَين الصّفة
والموصوف، وَوجه جَوَازه أَن مَجْمُوع الْكَلَام يدل على
مَا تقدم، وَالْمرَاد من الدَّار: الْمَدِينَة، قدمهَا
عَمْرو بن عَامر حِين رأى بسد مأرب مَا دله على فَسَاده
فَاتخذ الْمَدِينَة وطنا لما أَرَادَ الله من كَرَامَة
الْأَنْصَار لنصرة نبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَبِالْإِسْلَامِ. قَوْله: (وَالْإِيمَان) ، قَالَ
مُحَمَّد بن الْحسن: الْإِيمَان اسْم من أَسمَاء
الْمَدِينَة، فَإِن لم يكن كَذَلِك فَيحمل أَن
(8/229)
يُرِيد: تبوأوا الدَّار وَأَجَابُوا إِلَى
الْإِيمَان من قبل أَن يهاجروا إِلَيْهِم. قَوْله: (أَن
يقبل) بدل من قَوْله: (خيرا) . وَمَعْنَاهُ: يفعل بهم من
التلطف وَالْبر مَا كَانَ يَفْعَله الرَّسُول والخليفتان
بعده. قَوْله: (ويُعفَى عَن مسيئهم) ، يَعْنِي: مَا دون
الْحُدُود وَحُقُوق النَّاس. قَوْله: (بِذِمَّة الله) ،
أَي: بعهده وبذمة رَسُوله، وَيُقَال: بِذِمَّة الله،
يَعْنِي بِأَهْل ذمَّة الله، وهم عَامَّة الْمُؤمنِينَ،
لِأَن كلهم فِي ذمتهما، وَهَذَا تَعْمِيم بعد تَخْصِيص.
قَوْله: (من ورائهم) ، الوراء بِمَعْنى الْخلف، وَقد يكون
بِمَعْنى القدام وَهُوَ من الأضداد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْحِرْص على مجاورة
الصَّالِحين فِي الْقُبُور طَمَعا فِي إِصَابَة الرَّحْمَة
إِذا نزلت عَلَيْهِم، وَفِي دُعَاء من يزورهم من أهل
الْخَيْر. وَفِيه: أَن من وعد عدَّة جَازَ لَهُ الرُّجُوع
فِيهَا وَلَا يلْزم بِالْوَفَاءِ. وَفِيه: أَن من بعث
رَسُولا فِي حَاجَة مهمة أَن لَهُ أَن يسْأَل الرَّسُول
قبل وُصُوله إِلَيْهِ، وَلَا يعد ذَلِك من قلَّة الصَّبْر،
بل من الْحِرْص على الْخَيْر. وَفِيه: أَن الْخلَافَة بعد
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شُورَى. وَفِيه:
التَّعْزِيَة لمن يحضرهُ الْمَوْت بِمَا يذكر من صَالح
عمله.
79 - (بابُ مَا يُنْهِى مِنْ سَبِّ الأمْوَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى من سبّ
الْأَمْوَات، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة. أَي: بَاب
النَّهْي عَن سبّ الْأَمْوَات، يَعْنِي: شتمهم من السب،
وَهُوَ الْقطع. وَقيل: من السبة، وَهِي خلقَة الدبر
كَأَنَّهَا على القَوْل الأول قطع المسبوب عَن الْخَيْر
وَالْفضل، وعَلى الثَّانِي كشف الْعَوْرَة وَمَا يَنْبَغِي
أَن يستر.
148 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن الْأَعْمَش
عَن مُجَاهِد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت
قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَا تسبوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُم قد فأفضوا إِلَى مَا
قدمُوا) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الحَدِيث نهى
عَن سبّ الْأَمْوَات والترجمة كَذَلِك قيل لفظ
التَّرْجَمَة يشْعر بانقسام السب إِلَى مَنْهِيّ وَغير
مَنْهِيّ وَلَفظ الْخَبَر مضمونه النَّهْي عَن السب
مُطلقًا أجَاب بَعضهم أَن عُمُومه مَخْصُوص بِحَدِيث أنس
حَيْثُ قَالَ " أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض "
وَذَلِكَ عِنْد ثنائهم بِالْخَيرِ وَالشَّر وَلم يُنكر
عَلَيْهِم (قلت) لَا نسلم أشعار التَّرْجَمَة إِلَى
الانقسام الْمَذْكُور لِأَن قد ذكرنَا أَن كلمة مَا فِي
التَّرْجَمَة مَصْدَرِيَّة فَلَا تَقْتَضِي الانقسام بل
هِيَ للْعُمُوم وَأورد على البُخَارِيّ أَنه غفل عَن
حَدِيث وَجَبت وَجَبت لِأَن فِيهِ تَفْصِيلًا وَقد أطلق
هُنَا (قلت) لَا يرد عَلَيْهِ شَيْء لِأَن الثَّنَاء
بِالشَّرِّ على الْمَيِّت لَا يُسمى سبا لِأَنَّهُ
إِنَّمَا يثني بِالشَّرِّ أما فِي حق الْفَاسِق أَو
الْمُنَافِق أَو الْكَافِر وَلَيْسَ هَذَا بداخل فِي معنى
حَدِيث الْبَاب. وَرِجَاله قد ذكرُوا وآدَم وَابْن أبي
إِيَاس وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن حميد بن مسْعدَة عَن بشر بن
الْمفضل عَن شُعْبَة بِهِ قَوْله " الْأَمْوَات " الْألف
وَاللَّام للْعهد أَي أموات الْمُسلمين وَيُؤَيِّدهُ مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر أَن رَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " اذْكروا
محَاسِن مَوْتَاكُم وَكفوا عَن مساويهم " وَأخرجه أَبُو
دَاوُد أَيْضا فِي كتاب الْأَدَب من سنَنه وَلَا حرج فِي
ذكر مساوي الْكفَّار وَلَا يَأْمر بِذكر محَاسِن إِن
كَانَت لَهُم من صَدَقَة وإعتاق وإطعام طَعَام وَنَحْو
ذَلِك اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَأَذَّى بذلك مُسلم من
ذُريَّته فيجتنب ذَلِك حِينَئِذٍ كَمَا ورد فِي حَدِيث
ابْن عَبَّاس عِنْد أَحْمد وَالنَّسَائِيّ " أَن رجلا من
الْأَنْصَار وَقع فِي أبي الْعَبَّاس كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّة فَلَطَمَهُ الْعَبَّاس فَجَاءَهُ قومه
فَقَالُوا وَالله لنلطمنه كَمَا لطمه فلبسوا السِّلَاح
فَبلغ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَصَعدَ الْمِنْبَر فَقَالَ أَيهَا النَّاس
أَي أهل الأَرْض أكْرم عِنْد الله قَالُوا أَنْت قَالَ
فَإِن الْعَبَّاس مني وَأَنا مِنْهُ فَلَا تسبوا أمواتنا
فتؤذوا أحياءنا فجَاء الْقَوْم فَقَالُوا يَا رَسُول الله
نَعُوذ بِاللَّه من غضبك " وَفِي كتاب الصمت لِابْنِ أبي
الدُّنْيَا فِي حَدِيث مُرْسل صَحِيح الْإِسْنَاد من
رِوَايَة مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ " نهى رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يسب
قَتْلَى بدر من الْمُشْركين وَقَالَ لَا تسبوا هَؤُلَاءِ
فَإِنَّهُ لَا يخلص إِلَيْهِم شَيْء مِمَّا تَقولُونَ
وتؤذون الْأَحْيَاء إِلَّا أَن الْبذاء لؤم " وَقَالَ ابْن
بطال ذكر شرار الْمَوْتَى من أهل الشّرك خَاصَّة جَائِز
لِأَنَّهُ لَا شكّ أَنهم فِي النَّار وَقَالَ سبّ
الْأَمْوَات يجْرِي مجْرى الْغَيْبَة فَإِن كَانَ أغلب
أَحْوَال الْمَرْء الْخَيْر وَقد تكون مِنْهُ الْغَلَبَة
فالاغتياب لَهُ مَمْنُوع وَإِن كَانَ فَاسِقًا مُعْلنا
فَلَا غيبَة لَهُ فَكَذَلِك الْمَيِّت قَوْله " فَإِنَّهُم
قد أفضوا إِلَى مَا قدمُوا " أَي قد وصلوا إِلَى جَزَاء
أَعْمَالهم
(8/230)
(وَرَوَاهُ عبد الله بن عبد القدوس عَن
الْأَعْمَش وَمُحَمّد بن أنس عَن الْأَعْمَش) أَي روى
الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الله بن عبد القدوس السَّعْدِيّ
الرَّازِيّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش مُتَابعًا لشعبة
وَرَوَاهُ أَيْضا مُحَمَّد بن أنس الْعَدوي الْمولى
الْكُوفِي عَن الْأَعْمَش مُتَابعًا لشعبة قَالَ
الْكرْمَانِي وَقَالَ هَهُنَا رَوَاهُ وَلم يقل تَابعه
لِأَنَّهُ روى اسْتِقْلَالا وبطريق آخر لَا مُتَابعَة
لآدَم بطريقه وَلَيْسَ لأبي عبد القدوس فِي الصَّحِيح غير
هَذَا الْموضع الْوَاحِد وَذكر البُخَارِيّ فِي التَّارِيخ
وَقَالَ إِنَّه صَدُوق إِلَّا أَنه يروي عَن قوم ضعفاء
(تَابعه عَلَيْهِ بن الْجَعْد وَابْن عرْعرة وَابْن أبي
عدي عَن شُعْبَة) هَذَا قد وَقع فِي بعض النّسخ قبل قَوْله
" وَرَوَاهُ عبد الله " إِلَى آخِره قَوْله " تَابعه " أَي
تَابع آدم عَليّ بن الْجَعْد بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون
الْعين الْمُهْملَة وَقد تقدم فِي بَاب أَدَاء الْخمس من
الْإِيمَان وَقد وَصله البُخَارِيّ عَن عَليّ بن الْجَعْد
فِي الرقَاق قَوْله " وَابْن عرْعرة " أَي وَتَابعه أَيْضا
مُحَمَّد بن عرْعرة بِفَتْح الْعَينَيْنِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الرَّاء الأولى وَقد تقدم فِي
بَاب خوف الْمُؤمن وروى البُخَارِيّ عَن عَليّ بن الْجَعْد
وَابْن عرْعرة بِدُونِ الْوَاسِطَة وروى عَن ابْن أبي عدي
بالواسطة لِأَنَّهُ لم يدْرك عصره قَوْله " وَابْن أبي عدي
" أَي وتابع آدم أَيْضا مُحَمَّد بن أبي عدي وَقد تقدم فِي
كتاب الْغسْل وَطَرِيق ابْن أبي عدي ذكرهَا
الْإِسْمَاعِيلِيّ وَوَصله أَيْضا من طَرِيق عبد
الرَّحْمَن بن مهْدي عَن شُعْبَة -
89 - (بابُ ذِكْرِ شِرَارِ المَوْتَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر شرار الْمَوْتَى.
4931 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ
حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عنْ
سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ قَالَ أبُو لَهَبٍ عَلَيْهِ
لَعْنَةُ الله لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبَّا
لَكَ سائِرَ اليَوْمِ فنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قَالَ أَبُو لَهب،
عَلَيْهِ لعنة الله) وَقَالَ ابْن عَبَّاس: ذكر أَبَا لَهب
باللعنة عَلَيْهِ، وَهُوَ من شرار الْمَوْتَى، وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث مُرْسل لِأَن هَذِه
الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت بِمَكَّة المشرفة، وَكَانَ ابْن
عَبَّاس إِذْ ذَاك صَغِيرا. انْتهى. بل كَانَ على بعض
الْأَقْوَال غير موجور، وَاعْترض على البُخَارِيّ فِي
تَخْرِيجه هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، لِأَن تبويبه
لَهُ يدل على الْعُمُوم فِي شرار الْمُؤمنِينَ والكافرين،
وَكَأَنَّهُ نسي حَدِيث أنس: (مروا بِجنَازَة. فَأَثْنوا
عَلَيْهَا شرا. .) الحَدِيث، فَترك النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نهيهم عَن ذكر الشَّرّ يدل أَن للنَّاس أَن
يذكرُوا الْمَيِّت بِمَا فِيهِ من شَرّ إِذا كَانَ شَره
مَشْهُورا. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرِيد
الْخُصُوص، فطابقت الْآيَة التَّرْجَمَة، أَو يُرِيد
الْعُمُوم قِيَاسا للْمُسلمِ المجاهر بِالشَّرِّ على
الْكَافِر، لِأَن الْمُسلم الْفَاسِق لَا غيبَة لَهُ.
انْتهى. قلت: قد مر الْجَواب عَنهُ فِي الْبَاب السَّابِق
بأوجه من هَذَا وأوضح.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو عمر
شيخ البُخَارِيّ هُوَ حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ
الْكُوفِي قاضيها، مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَتِسْعين
وَمِائَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَعَمْرو بن مرّة،
بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، مر فِي: بَاب تَسْوِيَة
الصُّفُوف.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع
وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
موضِعين.
وَأورد هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا، وَسَيَأْتِي فِي
التَّفْسِير مطولا فِي سُورَة الشُّعَرَاء، فَإِنَّهُ
أخرجه فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن عبد الله وَمُحَمّد بن
سَلام فرقهما، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة، وَفِيه
وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش بِتَمَامِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة بِهِ وَعَن أبي
بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هناد بن السّري
وَأحمد بن منيع، كِلَاهُمَا عَن مُعَاوِيَة نَحوه، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد وَعَن إِبْرَاهِيم بن
يَعْقُوب عَن عَمْرو بن حَفْص
(8/231)
بِهِ، وَفِيه وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي كريب
عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَقَالَ البُخَارِيّ فِي
تَفْسِير الشُّعَرَاء لما نزلت: {وأنذر عشيرتك
الْأَقْرَبين} (الشُّعَرَاء: 412) . صعد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّفَا، فَجعل يُنَادي: يَا بني
فهر يَا بني عدي، لبطون قُرَيْش، حَتَّى اجْتَمعُوا فَجعل
الرجل إِذا لم يسْتَطع أَن يخرج أرسل رَسُولا ينظر مَا
هُوَ، فجَاء أَبُو لَهب وقريش فَقَالَ: أَرَأَيْتُم إِن
أَخْبَرتكُم أَن خيلاً بالوادي تُرِيدُ أَن تغير عَلَيْكُم
أَكُنْتُم مصدقي؟ قَالُوا: نعم مَا جربنَا عَلَيْك إلاَّ
صدقا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب
شَدِيد، فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك سَائِر الْيَوْم
{) وَفِي تَفْسِير: تبت، فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاه}
فَقَالُوا: من هَذَا؟ فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ. . وَفِيه:
فَقَالَ أَبُو لَهب: أَلِهَذَا جمعتنَا؟ ثمَّ قَامَ فَنزلت
{تبت يدا أبي لَهب وَقد تب} (المسد: 1) . هَكَذَا قَرَأَ
الْأَعْمَش، وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) : حَدثنَا
يُونُس أخبرنَا ابْن وهب أخبرنَا ابْن زيد، قَالَ أَبُو
لَهب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَاذَا أُعطى يَا
مُحَمَّد إِن آمَنت بك؟ قَالَ: كَمَا يُعطى الْمُسلمُونَ.
قَالَ: فَمَا لي فضل عَلَيْهِم؟ تَبًّا لهَذَا من دين أكون
أَنا وَهَؤُلَاء سَوَاء. فَأنْزل الله تبَارك وَتَعَالَى:
{تبت يدا أبي لَهب} (المسد: 1) . قَالَ: خسرت يَدَاهُ،
وَالْيَدَانِ هُنَا الْعَمَل، أَلا ترَاهُ يَقُول بِمَا
عملت أَيْديهم؟) . وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: فَلَمَّا دعاهم أَقبلُوا إِلَيْهِ
يسعون من كل نَاحيَة واكتنفوه، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد
لماذا دَعوتنَا؟ قَالَ: (إِن الله تبَارك وَتَعَالَى
أَمرنِي أَن أنذركم خَاصَّة، وَالنَّاس عَامَّة،
فَقَالُوا: قد أجبناك لما دَعوتنَا. قَالَ: كلمة تقرأون
بهَا تَمْلِكُونَ الْعَرَب وَتَدين لكم بهَا الْعَجم،
فَقَالَ أَبُو لَهب من بَينهم: وَعشر كَلِمَات، لله أَبوك
فَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا إلاه إلاَّ الله. فَقَالَ أَبُو
لَهب: تَبًّا لَك! أَلِهَذَا دَعوتنَا؟ فَنزلت {تبت يدا
أبي لَهب} (المسد: 1) . أَي: صغرت يَدَاهُ، وَفِي مَعَاني
الْقُرْآن الْعَظِيم للقزاز فِي قِرَاءَة عبد الله: وَقد
تب، فَالْأول: دُعَاء وَالثَّانِي: خبر، كَمَا تَقول للرجل
أهْلكك الله، وَقد أهْلكك. وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج:
(دَعَا عمومته وَقدم إِلَيْهِم صَحْفَة فِيهَا طَعَام،
فَقَالُوا أَحَدنَا وَحده يَأْكُل الشَّاة وَإِنَّمَا قدم
لنا هَذِه، فَأَكَلُوا مِنْهَا جَمِيعًا وَلم ينقص مِنْهَا
إلاَّ الشَّيْء الْيَسِير، فَقَالُوا لَهُ: مَا لنا عنْدك
إِن اتَّبَعْنَاك؟ قَالَ: مَا للْمُسلمين، وَإِنَّمَا
يتفاضلون فِي الدّين. فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك. .)
الحَدِيث. وَفِي كتاب (الْأَفْعَال) : تب ضعف وخسر، وَتب
هلك وَفِي الْقُرْآن {وَمَا كيد فِرْعَوْن إلاَّ فِي تباب}
(غَافِر: 73) . وَأَبُو لَهب كنيته، وسمه عبد الْعُزَّى بن
عبد الْمطلب، عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
مَاتَ كَافِرًا وَفِي (التَّلْوِيح) : وَاخْتلف فِي أبي
لَهب، هَل هُوَ لقب لَهُ أَو كنية لَهُ، فَالَّذِي عِنْد
ابْن إِسْحَاق والكلبي فِي آخَرين أَن عبد الْمطلب لقبه
بذلك لحمرة خديه وتوقدهما كالجمر، وَفِي حَدِيث رَوَاهُ
الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للهب بن أبي لَهب واسْمه عبد
الْعُزَّى: (أكلك كلب الله) ، فَأَكله الْأسد، وَهُوَ دَال
على أَنه كنى بِابْنِهِ، قَوْله: (تَبًّا) مفعول مُطلق يجب
حذف عَامله أَي: هَلَاكًا وخسارا. قَوْله: (سَائِر
الْيَوْم) ، مَنْصُوب بالظرفية أَي: بَاقِي الْيَوْم، أَو:
بَاقِي الْأَيَّام جَمِيعهَا، وَفِي (تَفْسِير
النَّسَفِيّ) : سُورَة تبت مَكِّيَّة، وَهِي سَبْعَة
وَسَبْعُونَ حرفا وَثَلَاث وَعِشْرُونَ كلمة وَخمْس آيا.
قَوْله: (تبت) أَي: خابت وخسرت (يدا أبي لَهب) أخبر عَن
يَدَيْهِ، وَأَرَادَ بِهِ نَفسه، على عَادَة الْعَرَب فِي
التَّعْبِير بِبَعْض الشَّيْء عَن كُله. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِن قلت: لِمَ كنَّاه والكنية مكرمَة؟
قلت: فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون مشتهرا
بالكنية دون الإسم. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ اسْمه: عبد
الْعُزَّى فَعدل عَنهُ إِلَى كنيته. وَالثَّالِث: أَنه لما
كَانَ من أهل النَّار ومآله إِلَى النَّار ذَات لَهب
وَافَقت حَاله كنيته، وَكَانَ جَدِيرًا بِأَن يذكر بهَا،
وقرىء: {تبت يدا أَبُو لَهب} كَمَا قيل: عَليّ بن أَبُو
طَالب، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، لِئَلَّا يُغير
مِنْهُ شَيْء فيشكل على السَّامع، وَالله تَعَالَى أعلم. |