عمدة القاري شرح صحيح البخاري

03 - (بابٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٌ صَدَقَةٌ فَمَنْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ على كل مُسلم صَدَقَة. قَوْله: (فَمن لم يجد) من التَّرْجَمَة أَي: فَمن لم يقدر على الصَّدَقَة فليعمل بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوف اسْم جَامع لكل مَا عرف من طَاعَة الله عز وَجل، والتقرب إِلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وكل مَا ندب إِلَيْهِ الشَّرْع وَنهى عَنهُ من المحسنات والمقبحات.

5441 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ عنْ جَدِّهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فقالُوا يَا نَبِيَّ الله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنفَعُ نَفْسَهُ وَيَتصَدَّقُ قَالُوا فإنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ قالُوا فإنْ لَمْ يَجِدْ قالَ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ ولْيُمْسِكْ عنِ الشَّرِّ فإنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ.
(الحَدِيث 5441 طرفه فِي 2206) .
مطابقته للتَّرْجَمَة للجزء الأول بِعَيْنِه وللجزء الثَّانِي فِي قَوْله: (فليعمل بِالْمَعْرُوفِ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: سعيد بن أبي بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه عَامر. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو بردة عَامر. الْخَامِس: جد سعيد وَهُوَ: أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشعْبَة واسطي والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه عَن جده.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على كل مُسلم صَدَقَة) قَالَ بَعضهم: أَي على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب المتأكد. قلت: كلمة: على، تنَافِي هَذَا الْمَعْنى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره الْوُجُوب، لَكِن خففه، عز وَجل، حَيْثُ جعل مَا خَفِي من المندوبات مسْقطًا لَهُ لطفا مِنْهُ وتفضلاً، قلت: يُمكن أَن يحمل ظَاهر الْوُجُوب على كل مُسلم رأى مُحْتَاجا عَاجِزا عَن التكسب، وَقد أشرف على الْهَلَاك فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق عَلَيْهِ إحْيَاء لَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: أطلق الصَّدَقَة هُنَا وَبَينهَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، بقوله: (فِي كل يَوْم) ، وَهَذَا أخرجه مُسلم

(8/311)


عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل سلامي من النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَة كل يَوْم تطلع فِيهِ الشَّمْس) الحَدِيث، وَرُوِيَ عَن أبي ذَر مَرْفُوعا: (يصبح على كل سلامي على أحدكُم صَدَقَة) . والسلامي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام: الْمفصل، وَله فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (خلق الله كل إِنْسَان من بني آدم على سِتِّينَ وثلاثمائة مفصل) . قَوْله: (يَا نَبِي الله فَمن لم يجد؟) أَي: فَمن لم يقدر على الصَّدَقَة، فكأنهم فَهموا من الصَّدَقَة الْعَطِيَّة، فَلذَلِك قَالُوا: فَمن لم يجد، فَبين لَهُم أَن المُرَاد بِالصَّدَقَةِ مَا هُوَ أَعم من ذَلِك وَلَو بإغاثة الملهوف وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. قَوْله: (يعْمل بِيَدِهِ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (يعتمل بيدَيْهِ) ، من الإعتمال من بَاب الافتعال. وَفِيه معنى التَّكَلُّف. قَوْله: (يعين) من أعَان إِعَانَة. قَوْله: (الملهوف) بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة: ذَا الْحَاجة، وانتصاب هَذَا على المفعولية، والملهوف يُطلق على المتحسر والمضطر وعَلى الْمَظْلُوم، وتلهف على الشَّيْء تحسر. قَوْله: (فليعمل بِالْمَعْرُوفِ) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَدَب: (قَالُوا فَإِن لم يفعل؟ قَالَ: فليمسك عَن الشَّرّ) . وَإِذا أمسك شَره عَن غَيره فَكَأَنَّهُ قد تصدق عَلَيْهِ لأمنه مِنْهُ، فَإِن كَانَ شرا لَا يعدو نَفسه فقد تصدق على نَفسه، بِأَن منعهَا من الْإِثْم. قَوْله: (فَإِنَّهَا) تَأْنِيث الضَّمِير فِيهِ إِمَّا بِاعْتِبَار الفعلة الَّتِي هِيَ الْإِمْسَاك، أَو بِاعْتِبَار الْخَبَر، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَدَب: فَإِنَّهُ، أَي: فَإِن الْإِمْسَاك. قَوْله: (لَهُ) أَي: للممسك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الشَّفَقَة على خلق الله تَعَالَى لَا بُد مِنْهَا، وَهِي إِمَّا بِالْمَالِ أَو بِغَيْرِهِ، وَالْمَال إِمَّا حَاصِل أَو مَقْدُور التَّحْصِيل لَهُ والغير، إِمَّا فعل، وَهُوَ: الْإِعَانَة، أَو ترك وَهُوَ: الْإِمْسَاك، وأعمال الْخَيْر إِذا حسنت النيات فِيهَا تنزل منزلَة الصَّدقَات فِي الأجور وَلَا سِيمَا فِي حق من لَا يقدر على الصَّدَقَة، وَيفهم مِنْهُ أَن الصَّدَقَة فِي حق الْقَادِر عَلَيْهَا أفضل من سَائِر الْأَعْمَال القاصرة على فاعلها، وَأجر الْفَرْض أَكثر من النَّفْل، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن الرب، عز وَجل: (وَمَا تقرب إِلَى عَبدِي بِشَيْء أحب إِلَيّ مِمَّا افترضت عَلَيْهِ) . قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، عَن بعض الْعلمَاء: ثَوَاب الْفَرْض يزِيد على ثَوَاب النَّافِلَة بسبعين دَرَجَة.
وَاعْلَم أَنه لَا تَرْتِيب فِيمَا تضمنه الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا هُوَ للإيضاح لما يَفْعَله من عجز عَن خصْلَة من الْخِصَال الْمَذْكُورَة، فَإِنَّهُ يُمكنهُ خصْلَة أُخْرَى، فَمن أمكنه أَن يعْمل بِيَدِهِ فَيتَصَدَّق، وَأَن يغيث الملهوف وَأَن يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر ويمسك عَن الشَّرّ فَلْيفْعَل الْجَمِيع.
وَفِيه: فضل التكسب لما فِيهِ من الْإِعَانَة وَتَقْدِيم النَّفس على الْغَيْر، وَالله أعلم.

13 - (بابٌ قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أعْطَى شَاة)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قدر كم يُعْطي من الزَّكَاة، وَكم يُعْطي من الصَّدَقَة؟ وَإِنَّمَا لم يبين الكمية فِيهَا إعتمادا على سبق الأفهام إِلَيْهِ، لِأَن عَادَته قد جرت بِمثل ذَلِك فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، أما الكمية فِي قدر مَا يُعْطي من الزَّكَاة فقد علمت فِي أَبْوَاب الزَّكَاة فِي كل صنف من الْأَصْنَاف، وَقد أَشَارَ فِي الْكتاب إِلَى أَكْثَرهَا على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد علم أَيْضا أَن التنقيص فِيهَا من الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّارِع لَا يجوز، وَأما الكمية فِي الصَّدَقَة فَغير مقدرَة لِأَن الْمُتَصَدّق محسن، وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ. قَوْله: (كم يعْطى) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على بِنَاء الْمَعْلُوم أَي: مِقْدَار كم يُعْطي الْمُزَكي فِي زَكَاته، وَكم يُعْطي الْمُتَصَدّق فِي صدقته. وَقَالَ بَعضهم: وَحذف مفعول يُعطي اختصارا لكَوْنهم ثَمَانِيَة أَصْنَاف، وَأَشَارَ بذلك إِلَى الرَّد على من كره أَن يدْفع إِلَى شخص وَاحِد قدر النّصاب، وَهُوَ محكي عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: لَيْت شعري كم من لَيْلَة سهر هَذَا الْقَائِل حَتَّى سطر هَذَا الْكَلَام الَّذِي تمجه الأسماع، وَحذف الْمَفْعُول هُنَا كَمَا فِي قَوْلهم: فلَان يعْطى وَيمْنَع، وَكَيف يدل ذَلِك على الرَّد على أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَلَكِن هَذَا يطرد فِي الصَّدَقَة وَلَا يطرد فِي الزَّكَاة على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَالصَّدَََقَة) من عطف الْعَام على الْخَاص، قيل: لَو اقْتصر على الزَّكَاة لأوهم أَن غَيرهَا بِخِلَافِهَا. قلت: لَا يشك أحد أَن حكم الصَّدَقَة غير حكم الزَّكَاة إِذا ذكرت فِي مُقَابلَة الزَّكَاة، وَأما إِذا أطلق لفظ الصَّدَقَة فَتكون شَامِلَة لَهما. قَوْله: (وَمن أعْطى شَاة) ، عطف على قَوْله: (قدر كم يُعْطي؟) أَي: وَفِي بَيَان حكم من أعْطى شَاة فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى أَنه إِذا أعْطى شَاة فِي الزَّكَاة، إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَت كَامِلَة، لِأَن الشَّارِع نَص على كَمَال الشَّاة فِي مَوضِع تُؤْخَذ مِنْهُ الشَّاة، فَإِذا أعْطى جزأ مِنْهَا لَا يجوز، وَأما فِي الصَّدَقَة فَيجوز أَن يُعْطي الشَّاة كلهَا وَيجوز أَن يُعْطي جزأ مِنْهَا، على مَا يَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي حَدِيث الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(8/312)


6441 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا أبُو شِهَابٍ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عنْ أُمِّ عطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ بُعِثَ إلَي نُسَيْبَةَ الأنْصَارِيَّةَ بِشَاةٍ فأرْسَلَتْ إلَى عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مِنْها فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْتُ لاَ إلاَّ مَا أرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ فَقَالَ هاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن لَهَا جزآن: أَحدهمَا: مِقْدَار كم يُعْطي؟ وَالْآخر: وَمن أعْطى شَاة؟ فمطابقته للجزء الأول فِي إرْسَال نسيبة إِلَى عَائِشَة من تِلْكَ الشَّاة الَّتِي أرسلها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا من الصَّدَقَة، على مَا صرح بِهِ مُسلم على مَا نذكرهُ فِي مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ مِقْدَار مِنْهَا. ومطابقته للجزء الثَّانِي فِي إرْسَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا من الصَّدَقَة بِشَاة كَامِلَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. الثَّانِي: أَبُو شهَاب، واسْمه: عبد ربه بن نَافِع الحناط، بالنُّون: صَاحب الطَّعَام. الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الْحذاء. الرَّابِع: حَفْصَة بنت أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين. الْخَامِس: أم عَطِيَّة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَاسْمهَا: نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مرت فِي: بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي وَأَن أَبَا شهَاب مدائني وَأَن خَالِدا بَصرِي وَأَن حَفْصَة وَأم عَطِيَّة مدنيتان. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر بنسبته إِلَى جده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بعث إِلَى نسيبة الْأَنْصَارِيَّة) بعث، على صِيغَة الْمَجْهُول، والباعث هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا فِي (صَحِيح مُسلم) قَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن خَالِد عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة، قَالَت: بعث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة من الصَّدَقَة، فَبعثت إِلَى عَائِشَة مِنْهَا بِشَيْء، فَلَمَّا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عَائِشَة، فَقَالَ: هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ فَقَالَت: لَا إلاَّ أَن نسيبة بعثت إِلَيْنَا من الشَّاة الَّتِي بعثتم بهَا إِلَيْهَا. قَالَ: إِنَّهَا بلغت محلهَا) . وَكَانَ مُقْتَضى هَذَا أَن يَقُول فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: بعث إِلَيّ، بِلَفْظ ضمير الْمُتَكَلّم الْمَجْرُور، لَكِن وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، إِمَّا على سَبِيل الإلتفات، وَإِمَّا على سَبِيل التَّجْرِيد من نَفسهَا شخصا اسْمه نسيبة. قَوْله: (إِلَى نسيبة) ، بِالْفَتْح فِي آخِره لِأَنَّهُ غير منصرف للعلمية والتأنيث، وَقَوله: (الْأَنْصَارِيَّة) ، بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ صفته. قَوْله: (فَأرْسلت) ، يحْتَمل أَن يكون متكلما، وَأَن يكون غَائِبا وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لَكِن الرِّوَايَة بالغيبة. (مِنْهَا) أَي: من تِلْكَ الشَّاة. قَوْله: (عنْدكُمْ شَيْء؟) أَي: هَل عنْدكُمْ شَيْء كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (هَات) أَصله: هَاتِي، لِأَنَّهُ أَمر للمؤنث، وَلَكِن حذفت الْيَاء مِنْهُ تَخْفِيفًا. قَالَ الْخَلِيل: أصل: هَات، آتٍ من آتى يُؤْتِي، فقلبت الْألف هَاء. قَوْله: (فقد بلغت محلهَا) ، بِكَسْر الْحَاء أَي: مَوضِع الْحُلُول والاستقرار، يَعْنِي أَنه قد حصل الْمَقْصُود مِنْهَا من ثَوَاب التَّصَدُّق، ثمَّ صَارَت ملكا لمن وصلت إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَرِيرَة: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَهُوَ لنا هَدِيَّة) .

(8/313)


23 - (بابُ زَكاةِ الوَرَقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زَكَاة الْوَرق، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء، وَهُوَ الْفضة، وَيُقَال بِفَتْح الْوَاو وبكسرها، وبكسر الرَّاء وسكونها، قدم هَذَا الْبَاب على سَائِر الْأَمْوَال الزكوية لِكَثْرَة دوران الْفضة فِي أَيدي النَّاس ورواجها بِكُل مَكَان.

7441 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالكٌ عنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ عَن أبيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنَ الإبِلِ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة) ، والْحَدِيث مضى فِي بَاب: مَا أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْحَاق بن يزِيد عَن شُعَيْب بن إِسْحَاق عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة عَن أَبِيه عَن يحيى بن عُثْمَان بن أبي الْحسن أَنه سمع أَبَا سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... الحَدِيث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثني يَحْيى بنُ سَعِيدٍ قَالَ أخْبَرَنِي عَمْرٌ ووسَمِعَ أباهُ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهاذا
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالْغَرَض من هَذَا بَيَان التقوية لِأَنَّهَا هِيَ الْمرتبَة الْأَعْلَى لعدم احْتِمَال الْوَاسِطَة بِخِلَاف الْإِسْنَاد السَّابِق، وَهُوَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ مُحْتَمل للواسطة.
وَفِيه: التحديث والإخبار وَالسَّمَاع، وَهُنَاكَ يروي عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه بالعنعنة، وَهنا صرح بِأَنَّهُ سمع أَبَاهُ. وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الْبَصْرِيّ، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه السِّتَّة كَمَا ذكرنَا فِي: بَاب مَا أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَقد حكى ابْن عبد الْبر عَن بعض أهل الْعلم أَن حَدِيث الْبَاب لم يَأْتِ إلاَّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَغْلَب، إلاَّ أنني وجدته من رِوَايَة سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. وَمن طَرِيق مُحَمَّد بن مُسلم عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَرِوَايَة سُهَيْل فِي (الْأَمْوَال) لأبي عبيد وَرِوَايَة مُحَمَّد بن مُسلم فِي (الْمُسْتَدْرك) . وَقد أخرجه مُسلم من وَجه آخر عَن جَابر، وَجَاء أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعَائِشَة وَأبي رَافع وَمُحَمّد بن عبد الله بن جحش. أخرج أَحَادِيث الْأَرْبَعَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَمن حَدِيث ابْن عمر أخرجه ابْن أبي شيبَة وَأبي عبيد أَيْضا. انْتهى.
قلت: حَدِيث سُهَيْل فِي (كتاب الْأَمْوَال) لأبي عبيد من حَدِيث

(9/2)


معمر عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِمثل حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ. وَحَدِيث مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي عَن عَمْرو بن دِينَار (عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَيْسَ على الرجل الْمُسلم زَكَاة فِي كره وَلَا فِي زرعه إِذا كَانَ أقل من خَمْسَة أوسق) ، أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هَذَا الْوَجْه هَكَذَا، وَمن هَذَا الْوَجْه أَيْضا بِزِيَاد أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَعَ جَابر، قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَدَقَة فِي الزَّرْع وَلَا فِي الْكَرم وَلَا فِي النّخل إِلَّا مَا بلغ خَمْسَة أوسق، وَذَلِكَ مائَة فرق) . وَحَدِيث جَابر أخرجه مُسلم من طَرِيق ابْن وهيب: أَخْبرنِي عِيَاض بن عبد الله عَن أبي الزبير عَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ من الْوَرق صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود من الْإِبِل صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من التَّمْر صَدَقَة) . وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة عبد الْكَرِيم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: لَيْسَ فِي أقل من خمس ذود شَيْء، وَلَا فِي أقل من الْأَرْبَعين من الْغنم شَيْء وَلَا فِي أقل من الْبَقر شَيْء وَلَا فِي أقل من عشْرين مِثْقَالا من الذَّهَب شَيْء وَلَا فِي أقل من مِائَتي دِرْهَم شَيْء، وَلَا فِي أقل من خمس أوسق شَيْء، وَالْعشر فِي التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَالشعِير وَمَا سقى سيحا فَفِيهِ الْعشْر، وَمَا سقِِي بِالْقربِ فَفِيهِ نصف الْعشْر) ، وَعبد الْكَرِيم هُوَ ابْن أبي الْمخَارِق أَبُو أُميَّة الْبَصْرِيّ ضَعِيف. وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة صَالح بن مُوسَى عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت جرت السّنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق زَكَاة، والوسق سِتُّونَ صَاعا، وَذَلِكَ ثلثمِائة صَاع من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب، وَلَيْسَ فِيمَا أنبتت الأَرْض من الْخضر زَكَاة. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: صَالح بن مُوسَى ضَعِيف الحَدِيث، وَضَعفه أَيْضا ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم، وَهُوَ من ولد صطلحة بن عبيد الله يُقَال لَهُ: الطلحي. وَحَدِيث أبي رَافع أخرجه الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة شُعْبَة عَن الحكم عَن ابْن أبي رَافع عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا من بني مَخْزُوم على الصَّدَقَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق صَدَقَة، وَلَا فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة) . وَحَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله ابْن جحش أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي كثير مولى ابْن جحش عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين بَعثه إِلَى الْيمن أَن يَأْخُذ من كل أَرْبَعِينَ دِينَارا دِينَارا، وَمن كل مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة، وَلَا فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، وَلَيْسَ لَهُم فِي الخضروات صَدَقَة) . وَأَبُو كثير ذكره أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب (الكنى) مِمَّن لَا يعرف اسْمه، وَقَالَ: روى عَنهُ الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، وَفِيه عبد الله بن شبيب ضعفه ابْن حبَان. وَحَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) من رِوَايَة لَيْث بن أبي سليم عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ أَيْضا مَوْقُوفا عَلَيْهِ، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ مثل ذَلِك غير مَرْفُوع. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عَمْرو بن حزم أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات) ، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (وَفِي كل خمس أَوَاقٍ من الْوَرق خَمْسَة دَرَاهِم) ، وَمَا زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ شَيْء) . وَقَالَ ابْن حبَان: سُلَيْمَان هُوَ ابْن دَاوُد الْخَولَانِيّ ثِقَة، وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: الْأَشْبَه أَنه سُلَيْمَان بن أَرقم، وَهُوَ مَتْرُوك.

33 - (بابُ العَرْضِ فِي الزَّكَاةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز أَخذ الْعرض فِي الزَّكَاة، وَالْعرض، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء: خلاف الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم الَّتِي هِيَ قيم الْأَشْيَاء، وبفتح الْعين: مَا كَانَ عارضا لَك من مَال، قل أَو كثر، يُقَال: الدُّنْيَا عرض حَاضر يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، فَكل عرض بِسُكُون عرض بِالْفَتْح بِدُونِ الْعَكْس، وَالْعرض يجمع على عرُوض، وَقَالَ ابْن قرقول: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض) ، بِفَتْح الرَّاء: يَعْنِي كَثْرَة المَال وَالْمَتَاع وَيُسمى عرضا لِأَنَّهُ عَارض يعرض وقتا ثمَّ يَزُول ويفنى. وَمِنْه قَوْله: (يَبِيع دينه

(9/3)


بِعرْض من الدُّنْيَا) أَي: بمتاع مِنْهَا ذَاهِب فانٍ. وَالْعرض مَا عدا الْعين، قَالَه أَبُو زيد. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: مَا كَانَ من مَال غير نقد، قَالَ أَبُو عبيد، مَا عدا الْحَيَوَان وَالْعَقار والمكيل وَالْمَوْزُون. وَفِي (الصِّحَاح) : الْعرض الْمَتَاع وكل شَيْء فَهُوَ عرض سوى الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِنَّهَا عين. وَقَالَ أَبُو عبيد: الْعرُوض الْأَمْتِعَة الَّتِي لَا يدخلهَا كيل وَلَا وزن وَلَا يكون حَيَوَانا وَلَا عقارا، وَالْعرض، بِكَسْر الْعين: النَّفس، يُقَال أكرمت عرضي عَنهُ أَي: صنت عَنهُ نَفسِي، وَفُلَان نقي الْعرض أَي: برىء من أَن يشْتم أَو يعاب. وَقد قيل: عرض الرجل حَسبه، وَالْعرض، بِضَم الْعين: نَاحيَة الشَّيْء من أَي وَجه جِئْته ورأيته فِي عرض النَّاس أَي فِيمَا بَينهم.
وَقَالَ طاوسٌ قَالَ مُعَاذٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لأِهْلِ اليَمَنِ ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أهْوَنُ عَلَيْكُمْ وخَيْرٌ لأِصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالمَدِينَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ائْتُونِي بِعرْض) ، وَهَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه عَن ابْن عُيَيْنَة عَن إِبْرَاهِيم ن ميسرَة عَن طَاوُوس قَالَ معَاذ: ائْتُونِي بِخمْس، وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابراهيم عَن طَاوُوس أَن معَاذًا كَانَ يَأْخُذ الْعرُوض فِي الصَّدَقَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِعرْض ثِيَاب) بِغَيْر إِضَافَة على أَن قَوْله: ثِيَاب، إِمَّا بدل أَو عطف بَيَان، ويروى بِإِضَافَة الْعرض إِلَى ثِيَاب من قبيل شجر الْأَرَاك، وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة. قَوْله: (خميص) ، بالصَّاد، كَذَا ذكره البُخَارِيّ فِيمَا قَالَه عِيَاض وَابْن قرقول، وَقَالَ الدَّاودِيّ والجوهري: ثوب خَمِيس، بِالسِّين، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: خموص، وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي طوله خَمْسَة أَذْرع، يَعْنِي: الصَّغِير من الثِّيَاب، وَقَالَ أَبُو عمر: وَأول من عَملهَا بِالْيمن ملك يُقَال لَهُ الْخَمِيس. وَفِي (مجمع الغرائب) : أول من عمله يُقَال لَهُ الْخَمِيس. وَفِي (المغيث) : الْخَمِيس الثَّوْب المخموس الَّذِي طوله خمس. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا وَجه لِأَن يكون بالصَّاد، فَإِن صحت الرِّوَايَة بالصَّاد فَيكون مُذَكّر الخميصة، فاستعارها للثوب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ الكساء الْأسود المربع لَهُ علمَان. قَوْله: (أَو لَيْسَ) ، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: بِمَعْنى الملبوس، مثل قَتِيل ومقتول، وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَو كَانَ أَرَادَ الأسم لقَالَ: لبوس. لِأَن اللبوس كل مَا يلبس من ثِيَاب وَدرع. قَوْله: (والذرة) ، بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء. قَوْله: (أَهْون) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ أَهْون، أَي: أسهل. قَوْله: (عَلَيْكُم) ، وَإِنَّمَا لم يقل لكم لإِرَادَة معنى تسليط السهولة عَلَيْهِم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا فِي جَوَاز دفع الْقيم فِي الزكوات، وَلِهَذَا قَالَ ابْن رشيد: وَافق البُخَارِيّ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْحَنَفِيَّة مَعَ كَثْرَة مُخَالفَته لَهُم، لَكِن قَادَهُ إِلَى ذَلِك الدَّلِيل، وَقَالَ بَعضهم: لَكِن أجَاب الْجُمْهُور عَن قصَّة معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: من جملَة مَا قَالُوا: إِنَّه مُرْسل. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدِيث طَاوُوس لَو كَانَ صَحِيحا لوَجَبَ ذكره لينتهي إِلَيْهِ وَإِن كَانَ مُرْسلا فَلَا حجَّة فِيهِ، وَمِنْهُم من قَالَ: إِن المُرَاد بِالصَّدَقَةِ الْجِزْيَة لأَنهم يطلقون ذَلِك مَعَ تَضْعِيف الْوَاجِب حذرا من الْعَار. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا الْأَلْيَق بمعاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْأَشْبَه بِمَا أَمر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخذ الْجِنْس فِي الصَّدقَات وَأخذ الدِّينَار، وعدله معافر ثِيَاب الْيمن فِي الْجِزْيَة. قَالُوا: وَيدل عَلَيْهِ نَقله إِلَى الْمَدِينَة، وَذهب معَاذ أَن النَّقْل فِي الصَّدقَات مُمْتَنع وَيدل عَلَيْهِ إضافتها إِلَى الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار والجزية تسْتَحقّ بالهجلاة والنصرة وَأما الزَّكَاة فتستحق بالفقر والمسكنة وَقَالُوا أَيْضا أَن قَوْله ائْتُونِي بِعرْض ثِيَاب مَعْنَاهُ آتوني بِهِ آخذه مِنْكُم مَكَان الشّعير والذرة الَّذِي آخذه شِرَاء بِمَا آخذه فَيكون بِأَخْذِهِ قد بلغت مَحَله ثمَّ يَأْخُذ مَكَان مَا يَشْتَرِيهِ مِمَّا هُوَ وَاسع عِنْدهم وانفع للآخذ وَقَالُوا لَو كَانَت هَذِه من الزَّكَاة لم تكن مَرْدُودَة على أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ دون غَيرهم وَكَيف كَانَ الْوَجْه فِي رده عَلَيْهِم وَقد قَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد فِي فقرائهم) وَأما الْجَواب عَن ذَلِك كُله فَهُوَ أَن قَوْلهم أَنه مُرْسل فَنَقُول الْمُرْسل حجَّة عندنَا وَأَن قَوْلهم المُرَاد بِالصَّدَقَةِ الْجِزْيَة فَالْجَوَاب عَنهُ من أَرْبَعَة أوجه. أَولهَا أَنه قَالَ مَكَان الشّعير والذرة وَتلك غير وَاجِبَة فِي الْجِزْيَة بِالْإِجْمَاع. الثَّانِي أَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ لفظ الصَّدَقَة، كَمَا فِي لفظ البُخَارِيّ، والجزي صغَار لَا صَدَقَة، ومسميها بِالصَّدَقَةِ مكابر. الثَّالِث: قَالَه حِين بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخذ زكااهم، وَفعله امْتِثَال لما بعث من أَجله وَسَببه هُوَ الزَّكَاة، فَكيف يحمل على الْجِزْيَة؟ الرَّابِع: أَن الْخطاب مَعَ الْمُسلمين لِأَنَّهُ يبين لَهُم مَا فِيهِ من النَّفْع لأَنْفُسِهِمْ وللمهاجرين وَالْأَنْصَار، فلولا أَنهم يُرِيدُونَ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار لما قَالَ: خير الْأَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ وهم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار، لِأَن الْكفَّار

(9/4)


لَا يختارون الْخَيْر للمهاجرين وَالْأَنْصَار، وَأَن قَوْلهم: مَذْهَب معَاذ أَن النَّقْل من الصَّدقَات مُمْتَنع، لَا أصل لَهُ لِأَنَّهُ لَا ينْسب إِلَى أحد من الصَّحَابَة مَذْهَب فِي حَيَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وسلمد وَأَن قَوْلهم: وَيدل عَلَيْهِ إضافتها إِلَى الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ... إِلَى آخِره، لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم يضف الصَّدَقَة إِلَيْهِم مُطلقًا، بل أَرَادَ أَنه خير للْفُقَرَاء مِنْهُم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: خير للْفُقَرَاء مِنْهُم، فَحذف الْمُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه وأعربه إعرابه، وَمَا نقل الزَّكَاة إِلَى الْمَدِينَة إلاَّ بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَعثه لذَلِك، وَلِأَنَّهُ يجوز نقلهَا إِلَى قوم أحْوج من الْفُقَرَاء الَّذين هم هُنَاكَ، وفقراء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار أحْوج لِلْهِجْرَةِ وضيق حَال الْمَدِينَة فِي ذَلِك الْوَقْت. فَإِن قلت: قد قيل: إِن الْجِزْيَة كَانَت يَوْمئِذٍ من قوم عرب باسم الصَّدَقَة، فَيجوز أَن يكون معَاذ أَرَادَ ذَلِك فِي قَوْله: فِي الصَّدَقَة؟ قلت: قَالَ السرُوجِي: قَالَ هَذَا القَاضِي أَبُو مُحَمَّد، ثمَّ قَالَ: مَا أقبح الْجور وَالظُّلم مِنْهُ، وَمَا أجهله بِالنَّقْلِ، إِنَّمَا جَاءَت تَسْمِيَة الْجِزْيَة بِالصَّدَقَةِ من بني تغلب ونصارى الْعَرَب بالتماسهم فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: هِيَ جِزْيَة فسموها مَا شِئْتُم، وَمَا سَمَّاهَا المسمون صَدَقَة قطّ. قلت: قَالَ الطرطوشي: قَالَ معَاذ: للمهاجرين وَالْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَفِي الْمُهَاجِرين بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب وَلَا يحل لَهُم الصَّدَقَة، وَفِي الْأَنْصَار أَغْنِيَاء وَلَا يحل لَهُم الصَّدَقَة، فَدلَّ على أَن ذَلِك الْجِزْيَة. قلت: قَالَ السرُوجِي: ركة مَا قَالَه ظَاهِرَة جدا، وَهُوَ تعلق بحبال الْهوى وخبطة العشواء لِأَنَّهُ أَرَادَ بالمهاجرين وَالْأَنْصَار من يحل لَهُ الصَّدَقَة لَا من تحرم عَلَيْهِ، وَكَذَا الْجِزْيَة لَا تصرف إِلَى جَمِيع الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بل إِلَى مصارفها المعروفين. فَافْهَم. فَإِن قلت: إِن قصَّة معَاذ اجْتِهَاد مِنْهُ فَلَا حجَّة فِيهَا؟ قلت: كَانَ معَاذ أعلم النَّاس بالحلال وَالْحرَام، وَقد بَين لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أرْسلهُ إِلَى الْيمن مَا يصنع بِهِ.
وَقَالَ النبيُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمَّا خالِدٌ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وَأعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ الله

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن أَدْرَاع خَالِد وأعتده من الْعرض، وَلَوْلَا أَنه وقفهما لأعطاهما فِي وَجه الزَّكَاة أَو لما صَحَّ مِنْهُ صرفهما فِي سَبِيل الله لدخلا فِي أحد مصارف الزَّكَاة الثَّمَانِية الْمَذْكُورَة. فِي قَوْله عز وَجل: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 06) . فَلم يبْق عَلَيْهِ شَيْء، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ فِي: بَاب قَول الله عز وَجل {وَفِي الرّقاب والغارمين وَفِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وَسَيَأْتِي بعد أَرْبَعَة عشر بَابا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّدَقَةِ، فَقيل: منع ابْن جميل وخَالِد بن الْوَلِيد وعباس بن عبد الْمطلب رَضِي الله تعاى عَنْهُم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ينْتَقم ابْن جميل إِلَّا أَنه كَانَ فَقِيرا فأغناه الله وَرَسُوله وَأما خَالِد فأنكم تظْلمُونَ خَالِدا فقد احْتبسَ أدراعه وَاعْتَمدهُ فِي سَبِيل الله وَأما الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَعم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أما خَالِد) ، هُوَ خَالِد بن الْوَلِيد سيف الله. قَوْله: (احْتبسَ) أَي: وقف، وَهُوَ يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى، وحبسته وَاحْتَبَسَتْهُ بِمَعْنى. قَوْله: (أدراعه) جمع درع. قَوْله: (وأعتده) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: جمع: عتد، بِفتْحَتَيْنِ. وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم أعتاده، وَهُوَ جمعه أَيْضا. قيل: هُوَ مَا يعده الرجل من الدَّوَابّ وَالسِّلَاح، وَقيل: الْخَيل خَاصَّة. يُقَال: فرس عتيد أَي صلب أَو معد للرُّكُوب أَو سريع الْوُثُوب، ويروى: (أعبده) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، جمع: عبد، حَكَاهَا عِيَاض وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَهَذَا حجَّة أَيْضا للحنفية. وَاسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ أَيْضا على إِخْرَاج الْعرُوض فِي الزَّكَاة، وَوجه ذَلِك أَنهم ظنُّوا أَنَّهَا للتِّجَارَة فطالبوه بِزَكَاة قيمتهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي مَوْضِعه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصَدَّقْنَ ولَوْ مِنْ حلِيِّكُنَّ فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتِ المَرْأةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وسِخَابِهَا ولَمْ يَخُصُّ الذَّهَبَ والفِضَّةَ مِنَ العُرُوضِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خرصها وسخابها) ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهن بِالصَّدَقَةِ وَلم يعين الْفَرْض من غَيره، ثمَّ إلقاؤهن الْخرص والسخاب وَعدم رده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا مِنْهُنَّ دَلِيل على أَخذ الْعرُوض فِي الزَّكَاة، وَيفهم من كَلَامه أَنه لم يفرق بَين مصارف الزَّكَاة

(9/5)


وَبَين مصارف الصَّدَقَة، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا الْقرْبَة، والمصروف إِلَيْهِ الْفَقِير والمحتاج. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا حث على الصَّدَقَة وَلَو من أنفس مَال، وَلَيْسَ فِي ذَلِك فرض، فَلَو كَانَ من الْفَرْض لقَالَ: أدين صَدَقَة أموالكن. قلت: معنى: تصدقن أدِّينَ صدقاتكن، وَهن أمرن بِالصَّدَقَةِ، وَهُوَ يتَنَاوَل الْفَرْض وَالنَّفْل، وَلَكِن هَذَا اللَّفْظ إِذا أطلق يكون المُرَاد مِنْهُ الْكَمَال، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ فِي الْفَرْض، ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا، وَقد تقدم فِي الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الْعلم الَّذِي فِي الْمصلى. قَوْله: (وَلَو من حليكن) أَي: وَلَو كَانَت صدقتكن من حليكن، بِضَم الْحَاء وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: جمع حلي بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون اللَّام، وَهَذَا للْمُبَالَغَة. قَوْله: (فَلم يسْتَثْن صَدَقَة الْفَرْض من غَيرهَا) من كَلَام البُخَارِيّ. قَوْله: (خرصها) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة: وَهُوَ الْحلقَة الَّتِي تعلق فِي الْأذن، وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِكَسْر الْخَاء أَيْضا. قَوْله: (وسخابها) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَهِي القلادة. قَوْله: (وَلم يخص. .) إِلَى آخِره، من كَلَام البُخَارِيّ ذكره لكيفية استدلاله على أَدَاء الْعرض فِي الزَّكَاة.

8441 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثُمَامَةُ أنَّ أنَسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَتَبَ لَهُ الَّتِي أمَرَ الله رسولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقتُهُ بِنْتَ مَخاضٍ ولَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ويُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَما أوْ شَاتَيْنِ فإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابنُ لَبُونٍ فإنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ولَيْسَ مَعَهُ شَيءٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ جَوَاز إِعْطَاء سنّ من الْإِبِل بدل سنّ آخر، وَلما صَحَّ إِعْطَاء الْعَامِل الْجبرَان صَحَّ الْعَكْس أَيْضا، وَلما جَازَ أَخذ الشَّاة بدل تفَاوت سنّ الْوَاجِب جَازَ أَخذ الْعرض بدل الْوَاجِب.
ذكر رِجَاله: وهم: أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الله ابْن الْمثنى، بِضَم الْمِيم وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالنُّون. الثَّانِي: أَبوهُ عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله بن أنس بن مَالك. الثَّالِث: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: وَهُوَ عبد الله بن أنس قَاضِي الْبَصْرَة، وَقد مر فِي كتاب الْعلم. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: أَن السَّنَد كُله بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن التحديث مسلل بالأنسبين. وَفِيه: أَنهم كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده وَهُوَ رِوَايَة ثُمَامَة عَن أنس، فَإِن أنسا جده. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن عَمه، وَهُوَ رِوَايَة عبد الله بن الْمثنى عَن عَمه ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس. وَفِيه: أَن عبد الله ابْن الْمثنى من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه من رباعيات الحَدِيث.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره ذكر صَاحب (التَّلْوِيح) أَن هَذَا الحَدِيث خرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع من كِتَابه بِإِسْنَاد وَاحِد مقطعا من حَدِيث ثُمَامَة عَن أنس: أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : فِي سِتَّة مَوَاضِع من الزَّكَاة، وَفِي الْخمس وَفِي الشّركَة وَفِي اللبَاس وَفِي ترك الْحِيَل مقطعا وَمُطَولًا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمثنى الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه عَن عَمه ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس عَن جده أنس بِهِ، وَقَالَ فِي اللبَاس: وَزَادَنِي أَحْمد بن حَنْبَل عَن الْأنْصَارِيّ، فَذكر قصَّة الْخَاتم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: اخذت من ثُمَامَة بن عبد الله ابْن أنس كتابا زعم أَن أَبَا بكر كتبه لأنس وَعَلِيهِ خَاتم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين بَعثه مُصدقا، وَكتبه لَهُ، فَإِذا فِيهِ: هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة، فَذكره بِطُولِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَعَن عبد الله بن فضَالة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار وَمُحَمّد بن مَرْزُوق ثَلَاثَتهمْ عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ، نَحوه وَلَيْسَ فِيهِ قصَّة الْخَاتم.
فَنَقُول: الْموضع الأول: من الزَّكَاة هُوَ الْمَذْكُور هَهُنَا. وَالثَّانِي: فِي: بَاب لَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي ثُمَامَة أَن أنسا حَدثهُ أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتب لَهُ الَّذِي فرض لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع خشيَة الصَّدَقَة) . وَالثَّالِث فِي: بَاب مَا كَانَ من خليطين: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله ... إِلَى آخِره بِالْإِسْنَادِ

(9/6)


الْمَذْكُور. وَالرَّابِع فِي: بَاب من بلغت عِنْده صَدَقَة بنت مَخَاض وَلَيْسَت عِنْده، حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله. . إِلَى آخِره، بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. وَالْخَامِس فِي: بَاب زَكَاة الْغنم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله ... إِلَى آخِره، نَحوه. وَالسَّادِس فِي: بَاب لَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة، حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى آخِره نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كتب لَهُ النَّبِي) ، أَي: كتب لَهُ الْفَرِيضَة الَّتِي تُؤْخَذ فِي زَكَاة الْحَيَوَان الَّتِي أَمر الله تَعَالَى وَرَسُوله بهَا. قَوْله: (بنت مَخَاض) ، بِفَتْح الْمِيم وبالخاء الْمُعْجَمَة الْخَفِيفَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة: وَهِي الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حول وَدخلت فِي الثَّانِي وحملت أمهَا، والماخض الْحَامِل أَي: دخل وَقت حملهَا، وَإِن لم تحمل، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل فِي (كتاب الْإِبِل) تأليفه: إِن ولد النَّاقة لَا يزَال فصيلاً سنة، فَإِذا لقحت أمه انْفَصل عَنهُ اسْم الفصيل وَهُوَ ابْن مَخَاض، فَإِذا بلغت أمه مضربها من رَأس السّنة فَإِن ضربت فلقحت فإبنها ابْن مَخَاض، وَالْجَمَاعَة: بَنَات مَخَاض حَتَّى تلقح أمه من الْعَام الْمقبل، فَإِذا نتجت فَهُوَ ابْن اللَّبُون حَتَّى تضع أمه من آخر سنتَيْن، وَالْأُنْثَى ابْنة لبون، وَذَلِكَ للبن أمه من آخر عامها، وَالْجَمَاعَة بَنَات اللَّبُون، فَيكون ابْن لبون سنة ثمَّ تكون حَقًا وَالْأُنْثَى حقة لسنة، وَالْجَمَاعَة الحقاق، وَثَلَاثَة أَحَق وَالْإِنَاث ثَلَاث حقائق، والحقة يُقَال لَهَا: طروقة، وَذَلِكَ حِين تبلغ أمه اللقَاح فتريد الْفَحْل أول مَا تريده، يُقَال لَهَا طروقة الْفَحْل، وَإِن لم ترد الْفَحْل فَهِيَ طروقة على كل حَال، فَإِذا بلغت الحقاقة وَلم ترد الْفَحْل فَهِيَ الآبية فَإِذا بلغ رَأس الْحول فَهُوَ الْجذع، وَالْأُنْثَى الْجَذعَة وَالْجَمَاعَة الجذاع، وَيُقَال الجذعان والجذاع أَكثر، وَعَن الْأَصْمَعِي: الجذوعة وَقت من الزَّمَان لَيست بسن، وَقيل هُوَ فِي جَمِيع الدَّوَابّ قبل أَن يثني بسنه، وَالْجمع جذعان وجذان. وَفِي (الْمُخَصّص) : الْحق الَّذِي اسْتحق أَن يركب وَيحمل عَلَيْهِ، وَقيل: الَّذِي اسْتحقَّت أمه الْحمل بعد الْعَام الْمقبل، وَقيل: إِذا اسْتحق هُوَ واخته أَن يحمل عَلَيْهِمَا فَهُوَ حق، وَعند سِيبَوَيْهٍ حَقه وحقق وحقق بِالضَّمِّ وحقائق جمع حقة على غير قِيَاس، والحقة يكون مصدرا واسْمه.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي (سنَنه) : سمعته من الرياشي وَأبي حَاتِم وَغَيرهمَا، وَمن كتاب النَّضر بن شُمَيْل، وَمن كتاب أبي عبيد وَرُبمَا ذكر أحدهم الْكَلِمَة، قَالُوا: يُسمى الحوار ثمَّ الفصيل إِذا أفصل، ثمَّ يكون بنت مَخَاض لسنة إِلَى تَمام سنتَيْن، فَإِذا دخلت فِي الثَّالِثَة فَهِيَ ابْنة لبون، فَإِذا تمت لَهُ ثَلَاث سِنِين فَهُوَ حق وحقة إِلَى تَمام أَربع سِنِين لِأَنَّهَا اسْتحقَّت أَن تركب وَتحمل عَلَيْهَا الْفَحْل فَهِيَ تلقح، وَلَا يلقح الذّكر حَتَّى يثنى، وَيُقَال للحقة طروقه الْفَحْل لِأَن الْفَحْل يطرقها إِلَى تَمام أَربع سِنِين، فَإِذا طعنت فِي الْخَامِسَة فَهِيَ جَذَعَة حَتَّى يتم لَهَا خمس سِنِين، فَإِذا دخلت فِي السَّادِسَة وَألقى ثنيته لَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ ثني حَتَّى تستكمل سِتا فَإِذا طعن فِي السَّابِعَة سمي الذّكر رباعي وَالْأُنْثَى ربَاعِية إِلَى تَمام السَّابِعَة، فَإِذا دخل فِي الثَّامِنَة ألْقى السن السديس الَّذِي بعد الرّبَاعِيّة فَهُوَ سديس وَسدس إِلَى تَمام الثَّامِنَة، فَإِذا دخل فِي التسع طلع نابه فَهُوَ باذل، أَي: بذل نابه، يَعْنِي طلع حَتَّى يدْخل فِي الْعَاشِرَة فَهُوَ حِينَئِذٍ مخلف، ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم، وَلَكِن يُقَال بازل عَام وبازل عَاميْنِ ومخلف عَام ومخلف عَاميْنِ ومخلف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَى خمس سِنِين، والخلفة الْحَامِل.
قَوْله: (وَلَيْسَت عِنْده) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَن بنت مَخَاض لَيست بموجودة عِنْده. قَوْله: (وَعِنْده بنت لبون) ، جملَة حَالية أَيْضا أَي: وَالْحَال أَن الْمَوْجُود عِنْده بنت لبون. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن بنت لبون تقبل مِنْهُ، أَي تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة وَلَكِن يُعْطِيهِ، أَي: الْمُصدق، وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذ الزَّكَاة يُعْطي صَاحب الْمَاشِيَة عشْرين درهما أَو يُعْطِيهِ شَاتين، وَذَلِكَ ليجبر بهَا تفَاوت سنّ الْإِبِل، وَيُسمى ذَلِك بالجبران. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا أَن الْخِيَار فِي الشاتين وَالدَّرَاهِم لدافعها، سَوَاء كَانَ الْمَالِك أَو السَّاعِي، وَفِي قَول: إِن الْخيرَة إِلَى السَّاعِي مُطلقًا فعلى هَذَا إِن كَانَ هُوَ الْمُعْطِي رَاعى الْمصلحَة للْمَسَاكِين، وكل مِنْهُمَا أصل بِنَفسِهِ وَلَيْسَ بِبَدَل لِأَنَّهُ خير بَينهمَا بِحرف أَو فَعلم أَن ذَلِك لَا يجْرِي مجْرى تَعْدِيل الْقيمَة لاخْتِلَاف ذَلِك فِي الْأَزْمِنَة والأمكنة، وَإِنَّمَا هُوَ فرض شَرْعِي كالغرة فِي الْجَنِين والصاع فِي الْمُصراة. انْتهى. قلت: قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَمن وَجب عَلَيْهِ سنّ فَلم يُوجد عِنْده أَخذ الْمُصدق أَعلَى مِنْهَا ورد الْفضل أَو أَخذ دونهَا وَأخذ الْفضل. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: إِذا وَجَبت بنت مَخَاض وَلم تُوجد أَخذ ابْن لبون، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد: لَا يجوز ذَلِك إلاَّ بطرِيق الْقيمَة. وَفِي (الْمَبْسُوط) : يتَعَيَّن ابْن لبون عِنْد عدم بنت مَخَاض فِي رِوَايَة عَن أبي يُوسُف، وَفِي (الْبَدَائِع) : قَالَ مُحَمَّد: فِي الأَصْل إِن الْمُصدق بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ قيمَة الْوَاجِب

(9/7)


وَإِن شَاءَ أَخذ الأدون وَأخذ تَمام قيمَة الْوَاجِب من الدَّرَاهِم. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : وَقيل: يَنْبَغِي الْخِيَار لصَاحب السَّائِمَة إِن شَاءَ دفع الْأَفْضَل واسترد الْفضل من الدَّرَاهِم، وَإِن شَاءَ دفع الأدون وَدفع الْفضل من الدَّرَاهِم، لِأَن دفع الْقيمَة جَائِز فِي الزَّكَاة، وَالْخيَار فِي ذَلِك لصَاحب المَال دون الْمُصدق إلاَّ فِي فصل وَاحِد، وَهُوَ مَا إِذا أَرَادَ صَاحب المَال أَن يدْفع بعض الْعين لأجل الْوَاجِب، فالمصدق بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ ذَلِك وَإِن شَاءَ لم يَأْخُذهُ، كَمَا إِذا وَجَبت بنت لبون، فَأَرَادَ صَاحب المَال أَن يدْفع بعض الحقة بطرِيق الْقيمَة أَو كَانَ الْوَاجِب الحقة فَأَرَادَ أَن يدْفع عَنْهَا بعض الْجَذعَة بطرِيق الْقيمَة فالمصدق بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ قبل، وَإِن شَاءَ لم يقبل لما فِيهِ من عيب التشقيص.
ثمَّ اعْلَم أَن الأَصْل فِي هَذَا الْبَاب أَن دفع الْقيمَة فِي الزَّكَاة جَائِز عندنَا، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَة وَصدقَة الْفطر وَالْعشر وَالْخَرَاج وَالنّذر، وَهُوَ قَول عمر وَابْنه عبد الله وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ومعاذ وطاووس. وَقَالَ الثَّوْريّ: يجوز إِخْرَاج الْعرُوض فِي الزَّكَاة إِذا كَانَت بِقِيمَتِهَا، وَهُوَ مَذْهَب البُخَارِيّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد. وَلَو أعْطى عرضا عَن ذهب وَفِضة، قَالَ أَشهب: يجْزِيه. وَقَالَ الطرطوشي: هَذَا قَول بَين فِي جَوَاز إِخْرَاج الْقيم فِي الزَّكَاة، قَالَ: وَأجْمع أَصْحَابنَا على أَنه لَو أعْطى فضَّة عَن ذهب أَجزَأَهُ، وَكَذَا إِذا أعْطى درهما عَن فضَّة عِنْد مَالك: وَقَالَ سَحْنُون: لَا يجْزِيه وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَأَجَازَ ابْن حبيب دفع الْقيمَة إِذا رَآهُ أحسن للْمَسَاكِين، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز، وَهُوَ قَول دَاوُد. قلت: حَدِيث الْبَاب حجَّة لنا لِأَن ابْن لبون لَا مدْخل لَهُ فِي الزَّكَاة إلاَّ بطرِيق الْقيمَة لِأَن الذّكر لَا يجوز فِي الْإِبِل إِلَّا بِالْقيمَةِ، وَلذَلِك احْتج بِهِ البُخَارِيّ أَيْضا فِي جَوَاز أَخذ الْقيم مَعَ شدَّة مُخَالفَته للحنفية.
قَوْله: (على وَجههَا) ، أَي: وَجه الزَّكَاة الَّتِي فَرضهَا الله تَعَالَى بِلَا تعد. قَوْله: (ابْن لبون) ، وَفِي (التَّلْوِيح) قَالَ: ابْن لبون ذكر، وَجعل لفظ الذّكر من متن الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَمن الْمَعْلُوم أَنه لَا يكون إلاَّ ذكرا، وَإِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا كَقَوْلِه تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} (التَّوْبَة: 06) . وَكَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَرَجَب مُضر الَّذِي بَين جُمَادَى وَشَعْبَان) ، وَزعم بَعضهم أَنه احْتِرَاز من الْخُنْثَى، وَقيل: ذكر ذَلِك تَنْبِيها لرب المَال وعامل الزَّكَاة، لتطيب نفس رب المَال بِالزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَة مِنْهُ وللمصدق، ليعلم أَن سنّ الذُّكُور مَقْبُول من رب المَال فِي هَذَا الْموضع.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من حَدِيث الْبَاب جَوَاز الْكِتَابَة فِي الحَدِيث، وَقيل لمَالِك فِي الرجل يَقُول لَهُ الْعَالم: هَذَا كتابي فاحمله عني وَحدث بِمَا فِيهِ، قَالَ: لَا أرَاهُ يجوز، وَمَا يُعجبنِي. وروى عَنهُ غير هَذَا وَأَنه قَالَ: كتبت ليحيى بن سعيد مائَة حَدِيث من حَدِيث ابْن شهَاب فحملها عني، وَلم يَقْرَأها عَليّ وَقد أجَاز الْكتاب ابْن وهب وَغَيره، والمقاولة أقوى من الْإِجَازَة إِذا صَحَّ الْكتاب. وَفِيه: حجَّة لجَوَاز كِتَابَة الْعلم، وَالله أعلم.

9441 - حدَّثنا مُؤملٌ قَالَ حدَّثنا إسْماعِيلُ عنْ أيُّوبَ عنْ عَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ. قَالَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أشْهَدُ عَلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ فَرَأى أنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ فأتاهُنَّ ومَعَهُ بِلالٌ فَوعَظَهُنَّ وَأمَرَهُنَّ أنْ يتصَدَّقْنَ فجَعَلَتِ المَرْأةُ تُلْقِي وأشَارَ أيّوبُ إلَى أُذُنِهِ وَإلَى حَلْقِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر النِّسَاء بِدفع الزَّكَاة فدفعن الْحلق والقلائد، فَهَذَا يدل على جَوَاز أَخذ الْعرض فِي الزَّكَاة والْحَدِيث تقدم عَن ابْن عَبَّاس فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الْعلم الَّذِي بالمصلى، وَفِي: بَاب موعظة الإِمَام النِّسَاء، فَإِنَّهُ أخرجه فِي: بَاب الْعلم، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَابس عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي: بَاب موعظة الإِمَام عَن طَاوُوس عَنهُ، وَهنا أخرجه: عَن مُؤَمل، بِلَفْظ الْمَفْعُول من التأميل، وَهُوَ مُؤَمل بن هِشَام أَبُو هِشَام الْبَصْرِيّ ختن إِسْمَاعِيل بن علية، يروي عَن إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن علية عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (لصلى) ، بِفَتْح اللامين: اللَّام الأولى جَوَاب قسم مَحْذُوف يتضمنه لفظ: أشهد، لِأَنَّهُ كثيرا مَا يسْتَعْمل فِي معنى الْقسم، تَقْدِيره: وَالله لقد صلى، وَمَعْنَاهُ: أَحْلف بِاللَّه على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة الْعِيد قبل الْخطْبَة. قَوْله: (فَرَأى أَنه) أَي: فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يسمع النِّسَاء، من الإسماع، وَذَلِكَ لبعدهن عَنهُ

(9/8)


(فأتاهن) ، أَي: فجَاء إِلَيْهِم. قَوْله: (وَمَعَهُ بِلَال) الْوَاو فِيهِ وَاو الْحَال أَي: وَالْحَال أَن بِلَالًا كَانَ مَعَه. قَوْله: (ناشر ثَوْبه) ، يجوز بِالْإِضَافَة وبتركها، وَقد علم أَن اسْم الْفَاعِل يعْمل عمل فعله. قَوْله: (وَأَشَارَ أَيُّوب) أَي: الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث إِلَى أُذُنه أَي: إِلَى مَا فِي أُذُنه، وَأَرَادَ بِهِ: الْحلق والقرط، وَإِلَى مَا فِي حلقه، وَأَرَادَ بِهِ القلادة.

43 - (بابٌ لاَ يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يجمع إِلَى آخِره. قَوْله: (متفرق) ، بِتَقْدِيم التَّاء على الْفَاء وَتَشْديد الرَّاء رِوَايَة الْكشميهني وَرِوَايَة غَيره: لَا يجمع بَين مفترق، بِتَقْدِيم الْفَاء من الِافْتِرَاق، صُورَة: لَا يجمع بَين متفرق أَن يكون لهَذَا أَرْبَعُونَ شَاة ولذاك أَرْبَعُونَ أَيْضا، وَللْآخر أَرْبَعُونَ فيجمعوها حَتَّى لَا يكون فِيهَا إلاَّ شَاة، وَصُورَة: لَا يفرق بَين مُجْتَمع: أَن يكون شريكان وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة شَاة وشَاة، فَيكون عَلَيْهِمَا فِي مَالهمَا ثَلَاث شِيَاه، ثمَّ يفرقان غنمهما عِنْد طلب السَّاعِي الزَّكَاة، فَلم يكن على كل وَاحِد مِنْهُمَا إلاَّ شَاة وَاحِدَة. قَوْله: (مُجْتَمع) ، بِكَسْر الْمِيم الثَّانِيَة، قيل: لم يُقيد البُخَارِيّ التَّرْجَمَة بقوله خشيَة الصَّدَقَة لاخْتِلَاف نظر الْعلمَاء فِي المُرَاد بذلك لما سَنذكرُهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى عَن قريب.
ويُذْكَرُ عنْ سالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلُهُ
أَي: يذكر عَن سَالم بن عبد الله بن عمر عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، أَي: مثل لفظ هَذِه التَّرْجَمَة، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره التِّرْمِذِيّ مَوْصُولا مطولا، فَقَالَ: حَدثنَا زِيَاد بن أَيُّوب الْبَغْدَادِيّ وَإِبْرَاهِيم ابْن عبد الله الْهَرَوِيّ وَمُحَمّد بن كَامِل الْمروزِي، وَالْمعْنَى وَاحِد، قَالُوا: حَدثنَا عَفَّان بن الْعَوام عَن سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الْهَرَوِيّ (عَن سَالم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب كتاب الصَّدَقَة فَلم يُخرجهُ إِلَى عماله حَتَّى قبض، فقرنه بِسَيْفِهِ فَلَمَّا قبض عمل بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى قبض، وَعمر حَتَّى قبض) الحَدِيث، وَفِيه: (لَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع مَخَافَة الصَّدَقَة) إِلَى آخِره. وَقَالَ: حَدِيث ابْن عمر حَدِيث حسن، وخرجه أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ فِي كِتَابه الملقب (بِالصَّحِيحِ) وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (كتاب الْعِلَل) : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن حَدِيث سَالم عَن أَبِيه كتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتاب الصَّدَقَة؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَن يكون مَحْفُوظًا، وسُفْيَان بن حُسَيْن صَدُوق. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَيفَ سَاغَ للْبُخَارِيّ أَن يعلق هَذَا الحَدِيث ممرضا، وَهُوَ نقض لما يَقُوله المحدثون. قلت: لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي ذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من تَحْسِين التِّرْمِذِيّ إِيَّاه أَن يكون حسنا عِنْده.

0541 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني ثُمَامَةُ أنَّ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتبَ لَهُ الَّتِي فرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة عين لفظ الحَدِيث، والإسناد بِعَيْنِه مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ: بَاب الْعرض فِي الزَّكَاة. قَوْله: (فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: قدر، قَالَ الْخطابِيّ: لِأَن الْإِيجَاب قد بَينه الله تَعَالَى، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل أَن يكون على بَابه بِمَعْنى الْأَمر، يُبينهُ قَوْله فِي الرِّوَايَة الَّتِي مَضَت، وَهِي الَّتِي أَمر الله رَسُوله.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : تَفْسِير (وَلَا يجمع بَين متفرق) ، أَن يكون ثَلَاثَة أنفس لكل وَاحِد أَرْبَعُونَ شَاة، فَإِذا أظلهم الْمُصدق جمعوها ليؤدوا شَاة، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع أَن يكون لكل وَاحِد مائَة شَاة وشَاة فعلَيْهِمَا ثَلَاث شِيَاه، فيفرقونها، ليؤدوا شَاتين فنهوا عَن ذَلِك، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: تَفْسِيره أَن يفرق السَّاعِي الأول ليَأْخُذ من كل وَاحِد شَاة، وَفِي الثَّانِي ليَأْخُذ ثَلَاثًا فَالْمَعْنى وَاحِد لَكِن صرف الْخطاب الشَّافِعِي إِلَى السَّاعِي كَمَا حَكَاهُ عَنهُ الدَّاودِيّ فِي (كتاب الْأَمْوَال) ، وَصَرفه مَالك إِلَى الْمَالِك، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر، وَقَالَ الْخطابِيّ عَن الشَّافِعِي: إِنَّه صرفه إِلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: معنى لَا يجمع بَين متفرق أَن يكون بَين رجلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاة، فَإِذا جمعاها فشاة، وَإِذا فرقاها فَلَا شَيْء، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع أَن يكون لرجل مائَة شَاة وَعِشْرُونَ شَاة، فَإِن

(9/9)


فرقها الْمُصدق أَرْبَعِينَ فَثَلَاث شِيَاه، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: معنى الأول أَن يكون لرجل ثَمَانُون شَاة، فَإِذا جَاءَ الْمُصدق قَالَ: هِيَ بيني وَبَين إخوتي، لكل وَاحِد عشرُون فَلَا زَكَاة، أَو أَن يكون لَهُ أَرْبَعُونَ ولأخوته أَرْبَعُونَ فَيَقُول: كلهَا لي، فشاة. وَفِي (الْمُحِيط) : وَتَأْويل هَذَا أَنه كَانَ لَهُ ثَمَانُون شَاة تجب فِيهَا وَاحِدَة فَلَا يفرقها ويجعلها لِرجلَيْنِ فَيَأْخُذ شَاتين، فعلى هَذَا يكون خطابا للساعي، وَإِن كَانَت لِرجلَيْنِ فعلى كل وَاحِد شَاة فَلَا تجمع وَيُؤْخَذ مِنْهَا شَاة، وَالْخطاب فِي هَذَا يحْتَمل أَن يكون للمصدق بِأَن يكون لأَحَدهمَا مائَة شَاة وَللْآخر مائَة شَاة وشَاة فعلَيْهِمَا شَاتَان فَلَا يجمع الْمُصدق بَينهمَا، وَيَقُول هَذِه كلهَا لَك فَيَأْخُذ مِنْهُ ثَلَاث شِيَاه، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع بِأَن يكون لرجل مائَة وَعِشْرُونَ شَاة فَيَقُول السَّاعِي: هِيَ لثَلَاثَة فَيَأْخُذ ثَلَاث شِيَاه، وَلَو كَانَت لوَاحِد تجب شَاة، وَيحْتَمل أَن يكون الْخطاب لرب المَال، ويقوى بقوله: (خشيَة الصَّدَقَة) أَي: فيخاف فِي وجوب الصَّدَقَة فيحتال فِي إِسْقَاطهَا بِأَن يجمع نِصَاب أَخِيه إِلَى نصابه فَتَصِير ثَمَانِينَ فَيجب فِيهَا شَاة وَاحِدَة، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع بِأَن يكون لَهُ أَرْبَعُونَ فَيَقُول نصفهَا لي وَنِصْفهَا لأخي فَتسقط زَكَاتهَا. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَالْمرَاد من الْجمع والتفريق فِي الْملك لَا فِي الْمَكَان لإجماعنا على أَن النّصاب إِذا كَانَ فِي ملك وَاحِد يجمع وَإِن كَانَ فِي أمكنة مُتَفَرِّقَة، فَدلَّ أَن المتفرق فِي الْملك لَا يجمع فِي حق الصَّدَقَة. قَوْله: (خشيَة الصَّدَقَة) مِمَّا تنَازع فِيهِ الفعلان، والخشية خشيتان: خشيَة السَّاعِي أَن تقل الصَّدَقَة، وخشية رب المَال أَن تكْثر الصَّدَقَة، فَأمر كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن لَا يحدث شَيْئا من الْجمع والتفريق. قيل: لَو فرض أَن المالكين أَرَادَا ذَلِك لإِرَادَة تَكْثِير الصَّدَقَة أَو وجوب مَا لم يجب عَلَيْهِمَا التماسا لِكَثْرَة الْأجر، أَو لإِرَادَة وُقُوع مَا أَرَادَ التَّصَدُّق بِهِ تَطَوّعا ليصير وَاجِبا. وثواب الْوَاجِب أَكثر من ثَوَاب التَّطَوُّع، فَالظَّاهِر جَوَاز ذَلِك.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: النَّهْي عَن اسْتِعْمَال الْحِيَل لسُقُوط مَا كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ. وَيجْرِي ذَلِك فِي أَبْوَاب كَثِيرَة من أَبْوَاب الْفِقْه، وللعلماء فِي ذَلِك خلاف فِي التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة أَو الْإِبَاحَة، وَالْحق أَنه كَانَ ذَلِك لغَرَض صَحِيح فِيهِ رفق للمعذور وَلَيْسَ فِيهِ إبِْطَال لحق الْغَيْر، فَلَا بَأْس بِهِ من ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} (ص: 44) . وَإِن كَانَ لغَرَض فَاسد: كإسقاط حق الْفُقَرَاء من الزَّكَاة بِتَمْلِيك مَاله قبل الْحول لوَلَده، أَو نَحْو ذَلِك، فَهُوَ حرَام أَو مَكْرُوه على الْخلاف الْمَشْهُور فِي ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن من كَانَ عِنْده دون النّصاب من الْفضة وَدون النّصاب من الذَّهَب مثلا إِنَّه لَا يجب ضم بعضه إِلَى بعض حَتَّى يصير نِصَابا كَامِلا فَتجب فِيهِ الزَّكَاة، خلافًا لمن قَالَ: يضم على الْأَجْزَاء كالمالكية، أَو على الْقيم كالحنفية. انْتهى. قلت: هَذَا اسْتِدْلَال غير صَحِيح لِأَن النَّهْي فِي الحَدِيث مُعَلل بخشية الصَّدَقَة، وَفِيه إِضْرَار للْفُقَرَاء بِخِلَاف مَا قَالَه الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فَإِن فِيهِ نفعا للْفُقَرَاء وَهُوَ ظَاهر. وَقيل: اسْتدلَّ بِهِ لِأَحْمَد على أَن من كَانَ لَهُ مَاشِيَة فِي بلد لَا تبلغ النّصاب كعشرين شَاة، مثلا بِالْكُوفَةِ، وَمثلهَا بِالْبَصْرَةِ أَنَّهَا لَا تضم بِاعْتِبَار كَونهَا ملك رجل وَاحِد وَيُؤْخَذ مِنْهَا الزَّكَاة. قلت: قد ذكرنَا عَن قريب أَن الْجمع والتفريق أَن يكون فِي الْملك لَا فِي الْمَكَان، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر: خَالفه الْجُمْهُور فَقَالُوا: يجب على صَاحب المَال زَكَاة مَاله وَلَو كَانَ فِي بلدان شَتَّى، وَيخرج مِنْهُ الزَّكَاة.

53 - (بابٌ مَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يَترَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَا كَانَ من خليطين إِلَى آخِره، وَكلمَة: مَا، هُنَا تَامَّة نكرَة متضمنة معنى حرف الِاسْتِفْهَام، وَمَعْنَاهَا أَي: شَيْء كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان، والخليطان تَثْنِيَة خليط، وَاخْتلف فِي المُرَاد بالخليط، فَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى أَنه الشَّرِيك، لِأَن الخليطين فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خاطبنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هما الشريكان اللَّذَان اخْتَلَط مَالهمَا وَلم يتَمَيَّز كالخليطين من النَّبِيذ. قَالَه ابْن الْأَثِير، وَمَا لم يخْتَلط مَعَ غَيره فليسا بخليطين، هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ، وَإِذا تميز مَال كل وَاحِد مِنْهُمَا من مَال الآخر فَلَا خلْطَة، فعلى قَول أبي حنيفَة: لَا يجب على أحد من الشَّرِيكَيْنِ أَو الشُّرَكَاء فِيمَا يملك إلاَّ مثل الَّذِي كَانَ يجب عَلَيْهِ لَو لم يكن خلط، وَذكر فِي (الْمَبْسُوط) ، وعام كتب أَصْحَابنَا: أَن الخليطين يعْتَبر لكل وَاحِد نِصَاب كَامِل كَحال الِانْفِرَاد، وَلَا تَأْثِير للخلطة فِيهَا سَوَاء كَانَت شركَة ملك بِالْإِرْثِ وَالْهِبَة وَالشِّرَاء وَنَحْوهَا، أَو شركَة عقد كالعنان والمفاوضة. ذكره الوبري وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِي رجلَيْنِ بَينهمَا مَاشِيَة نِصَاب وَاحِد، قَالَت طَائِفَة: لَا زَكَاة عَلَيْهِمَا، قَالَ:

(9/10)


هَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر وَأهل الْعرَاق، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَبِه قَالَ شريك بن عبد الله وَالْحسن بن حَيّ، وَقَالَ الشَّافِعِي وَاللَّيْث وَابْن حَنْبَل وَإِسْحَاق تجب عَلَيْهِمَا الزَّكَاة وَلَو كَانُوا أَرْبَعِينَ رجلا لكل وَاحِد شَاة تجب عَلَيْهِم شَاة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: الأول أصح، يَعْنِي عدم وجوب الزَّكَاة، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : الْخلطَة لَا تحيل حكم الزَّكَاة هُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الطرطوشي: لَا تصح الْخلطَة إلاَّ أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا نِصَاب كَامِل، والمعاني الْمُعْتَبرَة فِيهَا: الرَّاعِي والفحل والمراح والدلو وَالْمَبِيت، ذكرهَا مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) وَمِنْهُم من ذكر: الحلاب، مَكَان الْمبيت، وَحُصُول جَمِيعهَا لَيْسَ بِشَرْط، والحلاب مَعْنَاهُ أَن يكون الْحَالِف وَاحِدًا إِلَّا أَن يخلط الألبان، وَلَو كَانَ أَحدهمَا عبدا أَو كَافِرًا. قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: لم تصح الْخلطَة، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: تصح وَلَا تشْتَرط الْخلطَة فِي جَمِيع الْحول، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو اختلطا قبل الْحول بشهرين فَأَقل فهما خليطان. وَقَالَ ابْن حبيب: أدناه شهر. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: إِذا لم يقْصد الْفِرَار صَحَّ، وَرَأى الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَأَبُو الْحسن بن الْمُفلس من الظَّاهِرِيَّة، الْخلطَة فِي الْمَوَاشِي لَا غير، وَرَأى الشَّافِعِي حكم الْخلطَة الَّتِي قَالَ بِهِ جَارِيا فِي الْمَوَاشِي والزروع وَالثِّمَار وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير، وَقَالَ ابْن حزم، وَرَأى أَن مِائَتي نفس لَو ملكوا مِائَتي دِرْهَم كل وَاحِد درهما يجب عَلَيْهِم فِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْخلطَة، بِضَم الْخَاء، سَوَاء كَانَت خلْطَة شيوع واشتراك فِي الْأَعْيَان، أَو خلْطَة أَوْصَاف وَجَوَاز فِي الْمَكَان بِشُرُوط تِسْعَة: أَن يكون الشُّرَكَاء من أهل وجوب الزَّكَاة، وَأَن يكون المَال بعد الْخَلْط نِصَابا، وَأَن يمْضِي عَلَيْهِ بعد الْخَلْط حول كَامِل، وَأَن لَا يتَمَيَّز أَحدهمَا عَن الآخر فِي المراح وَفِي المسرح وَفِي المشرب كالبئر وَالنّهر والحوض وَالْعين، أَو كَانَت الْمِيَاه مُخْتَلفَة بِحَيْثُ لَا تخْتَص غنم أَحدهمَا بِشَيْء، وَالسَّابِع: الرَّاعِي، وَالثَّامِن: الْفَحْل، وَالتَّاسِع فِي المحلب، وَلَا يشْتَرط خلط اللَّبن. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي: يشْتَرط فِيهِ فيحلب أَحدهمَا فَوق لبن الآخر، قَالَ صَاحب (الْبَيَان) : هُوَ أصح الْوُجُوه الثَّلَاثَة، وَفِي وَجه: يشْتَرط أَن يحلبا مَعًا ويخلطا اللَّبن ثمَّ يقتسمانه، وَقَالَ صَاحب (الْمُفِيد) : وَيشْتَرط عِنْده اتِّحَاد الدَّلْو وَالْكَلب، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك بمذهبه، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الحناطي أَنه حكى أَن خلط الْجوَار لَا أثر لَهَا وَغلط، والمسرح المرعى. وَقيل: طريقها إِلَى المرعى. وَقيل: الْموضع الَّذِي تَجْتَمِع فِيهِ لتستريح، والمحلب، بِالْكَسْرِ، هُنَا وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي تحلب فِيهِ.
وَفِي بعض كتب الْحَنَابِلَة ذكر للخلطة سِتّ شَرَائِط، ثمَّ أَنه قد يكون أثر الْخلطَة فِي إِيجَابهَا، وَقد يكون فِي تكثيرها، وَقد يكون فِي تقليلها. مِثَال الأول: خمس من الْإِبِل أَو أَرْبَعُونَ من الْغنم بَين اثْنَيْنِ تجب فيهمَا الزَّكَاة، وَلَو انْفَرَدت لَا تجب. وَمِثَال الثَّانِي: لكل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة شَاة وشَاة تجب على كل وَاحِد شَاة وَنصف، وَلَو انْفَرَدت تجب على كل وَاحِد شَاة، وَمِثَال الثَّالِث: وَهُوَ التقليل مائَة وَعِشْرُونَ شَاة بَين ثَلَاثَة يجب على كل وَاحِد ثلث شَاة، وَلَو انْفَرَدت لوَجَبَ على كل وَاحِد شَاة، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث الْبَاب السَّابِق، وَلنَا أَنه قد ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة) الحَدِيث، وَجَمِيع النُّصُوص الْوَارِدَة فِي نصب الزَّكَاة تمنع الْوُجُوب فِيمَا دونهَا، وَلِأَنَّهُ لَا حق لأَحَدهمَا فِي ملك الآخر، وَمَاله غير زكوي لنقصانه عَن النّصاب، وَمثله مَال الآخر، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَرَأَوا فِي خَمْسَة أنفس لكل وَاحِد بنت مَخَاض تجب على كل مُسلم خمس شَاة، وَفِي عشرَة بَينهم خمس من الْإِبِل لكل وَاحِد نصف بعير تجب على كل وَاحِد مِنْهُم عُشر شَاة مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِي أَربع من الْإِبِل شَيْء) فَهَذِهِ زَكَاة مَا أوجبهَا الله تَعَالَى فَقَط، وَحكم بِخِلَاف حكم الله تَعَالَى، وَحكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَجعلُوا لمَال أَحدهمَا حكما فِي مَال الآخر، وَهَذَا بَاطِل، وَخلاف الْقُرْآن وَالسّنَن، وَاشْتِرَاط الشُّرُوط التِّسْعَة الْمَذْكُورَة، وَغَيرهَا تحكم بِلَا دَلِيل أصلا لَا من قُرْآن وَلَا من سنة وَلَا من قَول صَاحب قِيَاس وَلَا من وَجه مَعْقُول، وليت شعري من جعل الْخلطَة مَقْصُورَة على الْوُجُوه الَّتِي ذكروها دون أَن يُرِيد بِهِ الْخلطَة فِي الْمنزل أَو فِي الصِّنَاعَة أَو فِي الشّركَة أَو فِي الْمغنم، كَمَا قَالَ طَاوُوس وَعَطَاء. وَلَو وَجَبت بالاختلاط فِي المرعى لَوَجَبَتْ فِي كل مَاشِيَة فِي الأَرْض، لِأَن المراعي مُتَّصِلَة فِي أَكثر الدُّنْيَا، إلاَّ أَن يقطع بَينهَا بحرا ونهرا وَعمارَة. قَالَ: وَأما تَقْدِير الْمَالِكِيَّة الِاخْتِلَاط بالشهر والشهرين فتحكم بَارِد، وَقَوله ظَاهر الإحالة جدا لِأَنَّهُ خص بهَا الْمَوَاشِي فَقَط دون الْخلطَة فِي الثِّمَار والزروع والنقدين، وَلَيْسَ ذَلِك فِي الْخَبَر. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الخليطان مَا اجْتمعَا على الْحَوْض والراعي

(9/11)


والفحل) . قلت: فِي سَنَده عبد الله بن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف فَلَا يجوز التَّمَسُّك بِهِ، كَذَا ذكره عبد الْحق فِي (الْأَحْكَام الْكُبْرَى) وأعجب الْأُمُور أَن الْبَيْهَقِيّ إِذا كَانَ الحَدِيث لَهُم يسكت عَن ابْن لَهِيعَة وَمثله، وَإِذا كَانَ عَلَيْهِم يتَكَلَّم فيهم بالباع والذراع. قَوْله: (فَإِنَّهُمَا يتراجعان) أَي: فَإِن الخليطين يتراجعان بَينهمَا، مَعْنَاهُ أَن السَّاعِي إِذا أَخذ من مَال أَحدهمَا جَمِيع الْوَاجِب فَإِنَّهُ يرجع على شَرِيكه بِحِصَّتِهِ، مثلا، إِذا كَانَ بَينهمَا أَرْبَعُونَ شَاة لكل وَاحِد مِنْهُمَا عشرُون، وَقد عرف كل مِنْهُمَا عين مَاله فَأخذ الْمُصدق من أَحدهمَا شَاة فَإِن الْمَأْخُوذ من مَاله يرجع على خليطه بِقِيمَة نصف شَاة، وَهَذِه تسمى خلْطَة الْجوَار، وَيَقَع التراجع فِيهَا. وَقد يَقع قَلِيلا فِي خلْطَة الشُّيُوع. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : والتراجع مُقْتَضَاهُ من اثْنَيْنِ. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ من: بَاب التفاعل، وَمُقْتَضَاهُ من اثْنَيْنِ وَجَمَاعَة، وَالَّذِي من اثْنَيْنِ فَقَط يكون من: بَاب المفاعلة، كَمَا علم فِي مَوْضِعه.
وَقَالَ طاوُوس وَعَطَاءٌ إذَا عَلِمَ الخَلِيطَانِ أمْوَالَهُمَا فَلاَ يُجْمَعُ مالُهُمَا

طَاوُوس بن الْيَمَانِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَهَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج: أَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس، قَالَ: إِذا كَانَ كَانَ الخليطان يعلمَانِ أموالهما فَلَا تجمع أموالهما فِي الصَّدَقَة، وَحدثنَا مُحَمَّد ابْن أبي بكر عَن ابْن جريج، قَالَ: أخْبرت عَطاء عَن قَول طَاوُوس، فَقَالَ: مَا أرَاهُ إلاَّ حَقًا، وَاعْترض ابْن الْمُنْذر، وَقَالَ: قَول طَاوُوس وَعَطَاء غَفلَة مِنْهُمَا، إِذْ غير جَائِز أَن يتراجعا بِالسَّوِيَّةِ وَالْمَال بَينهمَا لَا يعرف أحد مَاله من مَال صَاحبه. قَوْله: (إِذا علم الخليطان) يَعْنِي: لَا يكون المَال بَينهمَا مشَاعا، وَهَذَا يُسمى بخلطة الْجوَار، فمذهب طَاوُوس وَعَطَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، هُوَ خلْطَة الشُّيُوع.
وقالَ سُفْيَانُ لاَ تَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهاذا أرْبَعُونَ شَاة وَلِهاذا أرْبَعُونَ شَاة

أَي: قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ، رَحمَه الله تَعَالَى: لَا تجب الزَّكَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي لَا تثبت الْخلطَة، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَنهُ، وَقَالَ التَّيْمِيّ: كَانَ سُفْيَان لَا يرى للخلطة تَأْثِيرا كَمَا لَا يرَاهُ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَول مَالك كَقَوْل عَطاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

1541 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثمامَةُ أنَّ أنَسا حدَّثَهُ أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يَترَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ..
حَدِيث أنس هَذَا قطعه البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَذكره فِي سِتَّة مَوَاضِع هَهُنَا بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد. الأول: فِي: بَاب الْعرض فِي الزَّكَاة. وَالثَّانِي: فِي: بَاب لَا يجمع بَين متفرق. وَالثَّالِث: فِي هَذَا الْبَاب. وَالرَّابِع: فِي: بَاب من بلغت عِنْده. وَالْخَامِس: فِي بَاب زَكَاة الْغنم. وَالسَّادِس: فِي: بَاب لَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الْعرض فِي الزَّكَاة أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي عشرَة مَوَاضِع بِإِسْنَاد وَاحِد مقطعا، وَذكره فِي كتاب الزَّكَاة فِي سِتَّة مَوَاضِع، وَالْأَرْبَعَة فِي الْخمس وَالشَّرِكَة واللباس، وَفِي ترك الْحِيَل، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي مَوضِع وَاحِد بِتَمَامِهِ، قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا حَمَّاد قَالَ: أخذت من ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس كتابا زعم أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتبه لأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَلِيهِ خَاتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين بَعثه مُصدقا وَكتبه لَهُ، فَإِذا فِيهِ: هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسلمين الَّتِي أَمر الله بهَا نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمن سئلها من الْمُسلمين على وَجههَا فليعطها، وَمن سُئِلَ فَوْقهَا فَلَا يُعْطه فِيمَا دون خمس وَعشْرين من الْإِبِل وَالْغنم، فِي كل خمس ذود شَاة فَإِذا بلغت خمْسا وَعشْرين فَفِيهَا بنت مَخَاض إِلَى أَن تبلغ خمْسا وَثَلَاثِينَ، فَإِن لم يكن فِيهَا بنت مَخَاض فَابْن لبون ذكر، فَإِذا بلغت سِتا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بنت لبون إِلَى خمس وَأَرْبَعين، فَإِذا بلغت سِتا وَأَرْبَعين فَفِيهَا حقة طروقة الْفَحْل إِلَى سِتِّينَ، فَإِذا بلغت إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَة إِلَى خمس وَسبعين، فَإِذا بلغت

(9/12)


سِتا وَسبعين فَفِيهَا ابنتا لبون إِلَى تسعين، فَإِذا بلغت إِحْدَى وَتِسْعين فَفِيهَا حقتان طروقتا الْفَحْل إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَإِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة فَفِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون، وَفِي كل خمسين حقة، فَإِذا تبَاين أَسْنَان الْإِبِل فِي فَرَائض الصَّدقَات فَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الجزعة وَلَيْسَت عِنْده جزعة وَعِنْده حقة فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ، وَأَن يَجْعَل مَعهَا شَاتين إِن استيسرتا لَهُ، أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الحقة وَلَيْسَت عِنْده حقة وَعِنْده جَذَعَة فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما، أَو شَاتين، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الحقة وَلَيْسَ عِنْده حقة وَعِنْده بنت لبون وَلَيْسَت عِنْد اللاحقة فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ إِلَى هَهُنَا ثمَّ أيقنت وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما أَو شَاتين وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة بنت لبون فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَمن هَهُنَا لم أضبط عَن مُوسَى كَمَا أحب، وَيجْعَل مَعهَا شَاتين إِن استيسرتا لَهُ أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة بنت لبون وَلَيْسَ عِنْده إلاَّ بنت مَخَاض فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ وشاتين أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة بنت مَخَاض وَلَيْسَ عِنْده إلاَّ ابْن لبون ذكر فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَه شَيْء، وَمن لم يكن عِنْده إِلَّا أَربع فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء إلاَّ أَن يَشَاء رَبهَا، وَفِي سَائِمَة الْغنم إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاة إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَإِذا زَادَت على عشريني وَمِائَة فَفِيهَا شاتاة إِلَى أَن تبلغ مِائَتَيْنِ، فَإِذا زَادَت على مِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاه إِلَى أَن تبلغ ثلثمِائة، فَإِذا زَادَت على ثَلَاثمِائَة فَفِي كل مائَة شَاة شَاة، وَلَا تُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة وَلَا زَادَت عوار من الْغنم وَلَا تَيْس الْغنم إلاَّ أَن يَشَاء المصدِّق، وَلَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع خشيَة الصَّدَقَة، وَمَا كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَإِن لم تبلغ سَائِمَة الرجل أَرْبَعِينَ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء إلاَّ أَن يَشَاء رَبهَا، وَفِي الرقة ربع الْعشْر، فَإِن لم يكن المَال إلاَّ تسعين وَمِائَة فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء إلاَّ أَن يَشَاء رَبهَا.

63 - (بابُ زَكاةِ الإبِلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زَكَاة الْإِبِل وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي لفظ: بَاب الْإِبِل، بِكَسْر الْبَاء، وَقد تسكن وَلَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا.
ذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ وَأبُو ذَرٍّ وَأبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهمْ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: ذكر حكم زَكَاة الْإِبِل أَبُو بكر الصّديق وَأَبُو ذَر جُنْدُب بن جُنَادَة وَأَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أما حَدِيث أبي بكر فقد ذكره مطولا كَمَا يَأْتِي بعد بَاب من رِوَايَة أنس عَنهُ، وَلأبي بكر حَدِيث آخر مضى فِي: بَاب مَا يتَعَلَّق بِقِتَال مانعي الزَّكَاة. وَأما حَدِيث أبي ذَر فَسَيَأْتِي بعد ذكر سِتَّة أَبْوَاب من رِوَايَة الْمَعْرُور بن سُوَيْد عَنهُ، فِي وَعِيد من لَا يُؤَدِّي زَكَاة إبِله وَغَيرهَا، وَيَأْتِي مَعَه حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
قلت: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر وبهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَمْرو بن حزم وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع ورقاد بن ربيعَة. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا فِي أول: بَاب لَا يجمع بَين متفرق، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مَوْصُولا وَقد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا مَوْصُولا مطولا. وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا. وَأما حَدِيث بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى بهز، وَلَفظه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فِي كل سَائِمَة إبل: فِي أَرْبَعِينَ بنت لبون لَا يفرق إبل عَن حِسَابهَا من أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بهَا فَلهُ أجرهَا وَمن منعهَا فَإنَّا آخِذُوهَا وَشطر مَاله عَزمَة من عَزمَات رَبنَا، عز وَجل، لَيْسَ لآل مُحَمَّد مِنْهَا شَيْء. وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ فِيمَا دون خمس من الْإِبِل صَدَقَة، وَلَيْسَ فِي أَربع شَيْء، فَإِذا بلغت خمْسا فَفِيهَا شَاة إِلَى أَن تبلغ تسعا. .) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَأما حَدِيث عَمْرو بن حزم فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات، وَفِي الْكتاب: فِي كل خمس من الْإِبِل سَائِمَة شَاة) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَأما حَدِيث سَلمَة ابْن الْأَكْوَع فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن معَاذ بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ أَن عَمْرو بن يحيى عَن سعيد بن زُرَارَة أخبرهُ

(9/13)


عَن ابْن سَلمَة بن الْأَكْوَع عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: نعم الْإِبِل الثَّلَاثُونَ يخرج فِي زَكَاتهَا وَاحِدَة وترحل مِنْهَا فِي سَبِيل الله وَاحِدَة وتمنح مِنْهَا وَاحِدَة هِيَ خير من الْأَرْبَعين وَالْخمسين وَالسِّتِّينَ وَالسبْعين والثمانين وَالتسْعين وَالْمِائَة، وويل لصَاحب الْمِائَة من الْمِائَة. وَأما حَدِيث رقاد بن ربيعَة فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ حَدثنَا أَحْمد بن كثير البَجلِيّ حَدثنَا يعلى بن الإشدق، وَقَالَ: أدْركْت عدَّة من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم رقاد بن ربيعَة قَالَ: أَخذ منا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْغنم من الْمِائَة شَاة فَإِذا زَادَت فشاتان، ويعلى بن الْأَشْدَق ضَعِيف جدا مُتَّهم بِالْكَذِبِ، وَأحمد بن كثير البَجلِيّ لَا أَدْرِي من هُوَ.
55 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ حَدثنِي ابْن شهَاب عَن عَطاء بن يزِيد عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن أَعْرَابِيًا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْهِجْرَة فَقَالَ وَيحك إِن شَأْنهَا شَدِيد فَهَل لَك من إبل تُؤدِّي صدقتها قَالَ نعم قَالَ فاعمل من وَرَاء الْبحار فَإِن الله لن يتْرك من عَمَلك شَيْئا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَهَل لَك من إبل تُؤدِّي صدقتها قَالَ نعم ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي الْوَلِيد بن مُسلم على لفظ الْفَاعِل من الْإِسْلَام الْقرشِي. الثَّالِث عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عَطاء بن يزِيد مَعَ الزِّيَادَة أَبُو زيد اللَّيْثِيّ. السَّادِس أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَفِيه أَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ شاميان وَأَن ابْن شهَاب وَعَطَاء مدنيان (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن خَلاد عَن الْوَلِيد بِهِ وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن مُؤَمل بن الْفضل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيعَة وَفِي السّير عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَن أَعْرَابِيًا " الْأَعرَابِي البدوي وكل بدوي أَعْرَابِي وَإِن لم يكن من الْعَرَب وَإِن كَانَ يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ من الْعَجم (قلت) فِيهِ عرباني قَالَه ابْن قرقول وَقَالَ غَيره الْأَعرَابِي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب والأعراب ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة والعربي نِسْبَة إِلَى الْعَرَب وهم الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية والمدن قَوْله " فَقَالَ وَيحك " قَالَ الدَّاودِيّ وَيْح كلمة تقال عِنْد الزّجر وَالْمَوْعِظَة وَالْكَرَاهَة لفعل الْمَقُول لَهُ أَو قَوْله وَيدل عَلَيْهِ أَنه إِنَّمَا سَأَلَهُ أَن يبايعه على ذَلِك على أَن يُقيم بِالْمَدِينَةِ وَلم يكن من أهل مَكَّة الَّذين وَجَبت عَلَيْهِم الْهِجْرَة قبل الْفَتْح وَفرض عَلَيْهِم إتْيَان الْمَدِينَة وَالْمقَام بهَا إِلَى مَوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنه ألح فِي ذَلِك قلت الَّذِي ذكره أهل اللُّغَة فِي وَيْح أَنَّهَا كلمة رَحْمَة أَو توجع إِن وَقع فِي هلكة لَا يَسْتَحِقهَا قَوْله " أَن شَأْنهَا شَدِيد " أَي أَن شَأْن الْهِجْرَة وَذَلِكَ لَا يسْأَله أَن يبايعه على ذَلِك على أَن يُقيم بِالْمَدِينَةِ وَلما علم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لَا يُهَاجر قَالَ لَهُ ذَلِك وَكَانَ ذَلِك قبل الْفَتْح قبل انْقِضَاء الْهِجْرَة قَوْله " فَهَل لَك من إبل تُؤدِّي صدقتها " أَي زَكَاتهَا وَإِنَّمَا خص بِصَدقَة الْإِبِل مَعَ أَن أَدَاء جَمِيع الْوَاجِبَات وَاجِب لِأَنَّهُ كَانَ من أهل الْإِبِل وَالْبَاقِي منقاس عَلَيْهِ قَوْله " فاعمل من وَرَاء الْبحار " مَعْنَاهُ إِذا كنت تُؤدِّي فرض الله عَلَيْك فِي نَفسك وَمَالك فَلَا تبال أَن تقيم فِي بَيْتك وَإِن كَانَت دَارك من وَرَاء الْبحار وَلَا تهَاجر فَإِن الْهِجْرَة من جَزِيرَة الْعَرَب وَمن كَانَت دَاره من وَرَاء الْبحار لن يصل إِلَيْهَا وَقيل المُرَاد من الْبحار الْبِلَاد قيل فِي قَوْله تَعَالَى {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر} أَنه الْقرى والأمصار وَمِنْه اصْطلحَ أهل الْبحيرَة يَعْنِي فِي ابْن أبي أَن يعصبوه يَعْنِي أهل الْمَدِينَة وَفِي

(9/14)


حَدِيث آخر كتب لَهُم ببحرهم أَي ببلدهم وأرضهم وَقيل الْبحار نَفسهَا وَفِي الْمطَالع قَالَ أَبُو الْهَيْثَم من وَرَاء الْبحار وَهُوَ وهم وَقَالَ الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ لَا مسكن وَرَاء الْبحار (قلت) الْمَقْصُود مِنْهُ فاعمل وَلَو من الْبعد الْأَبْعَد من الْمَدِينَة وَلم يرد مِنْهُ حَقِيقَة ذَلِك (فَإِن قلت) فَهَل لمن أَرَادَ الْهِجْرَة من مَكَان لَا يقدر فِيهِ على إِقَامَة حد الله ثَوَاب الْهِجْرَة حَيْثُ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ (قلت) نعم وَكَذَلِكَ كل طَاعَة كَالْمَرِيضِ يُصَلِّي قَاعِدا وَلَو كَانَ صَحِيحا لصلى قَائِما فَإِن لَهُ ثَوَاب صَلَاة الْقَائِم (فَإِن قلت) لم مَنعه من الْهِجْرَة (قلت) لِأَنَّهَا كَانَت متعذرة على السَّائِل شاقة عَلَيْهِ وَكَانَ الْإِيجَاب حرجا عَلَيْهِ وأضرارا (فَإِن قلت) لم لَا تَقول بِأَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت بعد نسخ وجوب الْهِجْرَة إِذْ لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح (قلت) التَّارِيخ غير مَعْلُوم مَعَ أَن الْمَنْسُوخ هُوَ الْهِجْرَة من مَكَّة وَأما غَيرهَا فَكل مَوضِع لَا يقدر الْمُكَلف فِيهِ على إِقَامَة حُدُود الدّين فالهجرة عَلَيْهِ مِنْهُ وَاجِبَة انْتهى كَلَام الْكرْمَانِي وَقَالَ الْمُهلب كَانَ هَذَا القَوْل قبل فتح مَكَّة إِذْ لَو كَانَ بعده لقَالَ لَهُ لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح كَمَا قَالَه لغيره وَلكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم أَن الْأَعْرَاب قَلما تصبر على لأواء الْمَدِينَة أَلا يرى إِلَى قلَّة صَبر الْأَعرَابِي الَّذِي استقال الْهِجْرَة حِين مسته حمى الْمَدِينَة فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ إِذا أدّيت الْحق الَّذِي هُوَ أكبر شَيْء على الْأَعْرَاب ثمَّ منحت مِنْهَا وحلبتها يَوْم وُرُودهَا لمن ينتظرها من الْمَسَاكِين فقد أدّيت الْمَعْرُوف من حَقّهَا فرضا ونفلا فَهُوَ أقل لفتنتك كَمَا افْتتن المستقيل الْبيعَة وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك خَاصّا بِهَذَا الْأَعرَابِي لما علم من حَاله وَضَعفه عَن الْمقَام بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ بَعضهم كَانَت الْهِجْرَة على غير أهل مَكَّة من الرغائب وَلم تكن فرضا وَقَالَ أَبُو عبيد كَانَت الْهِجْرَة على أهل الْحَاضِرَة وَلم تكن على أهل الْبَادِيَة وَقيل إِنَّمَا كَانَت الْهِجْرَة وَاجِبَة إِذا أسلم بعض أهل الْبَلَد وَلم يسلم بَعضهم لِئَلَّا يجْرِي على من أسلم أَحْكَام الْكفَّار وَلِأَن فِي هجرته توهينا لمن يسلم وَتَفْرِيقًا لجماعتهم وَذَلِكَ بَاقٍ إِلَى الْيَوْم إِذا أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم يُمكنهُ إِظْهَار دينه وَجب عَلَيْهِ الْخُرُوج فَأَما إِذا أسلم كل من فِي الدَّار فَلَا هِجْرَة عَلَيْهِم لحَدِيث وَفد عبد الْقَيْس وَأما الْهِجْرَة الْبَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " المُهَاجر من هجر مَا نهى الله عَنهُ " قَوْله " فَإِن الله لن يتْرك من عَمَلك شَيْئا " قَالَ ابْن بطال لفظ الْكتاب يتْرك بِوَزْن مُسْتَقْبل ترك رَوَاهُ بَعضهم يتْرك بِكَسْر التَّاء وَفتح الرَّاء على أَن يكون مُسْتَقْبل وتر يتر وَمَعْنَاهُ لن ينْقصك وَفِي الْقُرْآن {وَلنْ يتركم أَعمالكُم} أَي لن ينقصكم شَيْئا من ثَوَاب أَعمالكُم وَقَالَ ابْن التِّين ضبط فِي رِوَايَة الْحسن بتَشْديد التَّاء وَصَوَابه بِالتَّخْفِيفِ وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ وَقَالَ الْفرْيَابِيّ بِالتَّشْدِيدِ وَالله أعلم -