عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 44 - (بابُ الزَّكَاةِ عَلَى الأقَارِبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الزَّكَاة على الْأَقَارِب،
وَلَيْسَ المُرَاد من الزَّكَاة هَهُنَا مَعْنَاهَا
الشَّرْعِيّ الَّذِي هُوَ إيتَاء جُزْء من النّصاب
الشَّرْعِيّ الحولي إِلَى فَقير مُسلم غير هاشمي وَلَا
مَوْلَاهُ بِشَرْط قطع الْمَنْفَعَة عَن الْمُزَكي لله
تَعَالَى، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهَا مَا أخرجته من
مَالك لتسد بِهِ خلة الْمُحْتَاج وتكتسب بِهِ الْأجر
والمثوبة عِنْد الله، وللزكاة معَان فِي اللُّغَة: مِنْهَا
مَا ذَكرْنَاهُ، فَبِهَذَا يلتئم مَا فِي الْبَاب من
الْأَحَادِيث مَعَ التَّرْجَمَة، وَقد تعسفت جمَاعَة
هَهُنَا بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ وَلَا مُنَاسبَة، مِنْهُم
الْكرْمَانِي حَيْثُ يَقُول: فَإِن قلت: عقد الْبَاب
لِلزَّكَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ ذكرهَا؟ قلت: لَعَلَّه أثبت
لِلزَّكَاةِ حكم الصَّدَقَة بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ أجْرَانِ
أجْرُ القَرَابةَ وَالصَّدَقَةِ
هَذَا التَّعْلِيق أخرجه مُسْندًا فِي: بَاب الزَّكَاة على
الزَّوْج والأيتام، بعد ثَلَاثَة أَبْوَاب من هَذَا
الْبَاب فِي حَدِيث زَيْنَب امْرَأَة عبد الله ابْن
مَسْعُود، وَلَكِن لَفظه فِيهِ: (لَهَا أَجْرَانِ: أجر
الْقَرَابَة وَأجر الصَّدَقَة) .
1641 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ
أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
يقُولُ كانَ أبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأنْصَارِ
بالمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ وكانَ أحَبَّ إلَيْهِ
بَيْرُحَاءَ وكانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ وكانَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُهَا ويَشْرَبُ
منْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ
هاذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمرَان: 29) . قامَ أبُو طَلْحَةَ
إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا
رسولَ الله إِن الله تَبَارَكَ وتَعَالى يقُولُ {لَنْ
تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(آل عمرَان: 29) . وَإنَّ أحَبَّ أمْوَالِي إلَيَّ
بَيْرُحَاءَ وإنَّهَا صَدَقَةٌ لله أرْجُو بِرَّهَا
وذُخْرَهَا عِنْدَ الله فَضَعْهَا يَا رَسُولَ الله حَيثُ
أرَاكَ الله قَالَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بَخْ ذالِكَ مالٌ رَابِحٌ ذالِكَ مالٌ رَابِحٌ
(9/28)
وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتُ وَإنِّي أرَى
أنْ تَجْعَلَهَا فِي الأقْرَبِينَ فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ
أفْعَلُ يَا رسولَ الله فَقَسَمَها أبُو طَلْحَةَ فِي
أقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم مماذ ذكرنَا الْآن، وَرِجَاله
قد ذكرُوا غير مرّة، وَإِسْحَاق هَذَا ابْن أخي أنس بن
مَالك، وَأَبُو طَلْحَة اسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي
الْوَصَايَا عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْوكَالَة عَن
يحيى بن يحيى، وَفِي الْوَصَايَا وَفِي الإشربة عَن
القعْنبِي، وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه
مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى ابْن يحيى. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَكثر الْأَنْصَار) ، بِالنّصب
لِأَنَّهُ خبر: كَانَ. قَوْله: (مَالا) ، نصب على
التَّمْيِيز أَي: من حَيْثُ المَال، وَكلمَة: من، فِي: (من
نخل) للْبَيَان. قَوْله: (بيرحاء) ، اخْتلفُوا فِي ضَبطه
على أوجه جمعهَا ابْن الْأَثِير فِي (النِّهَايَة)
فَقَالَ: يرْوى بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وبكسرها،
وبفتح الرَّاء وَضمّهَا، وبالمد وَالْقصر، وَفِي رِوَايَة
حَمَّاد بن سَلمَة: بريحا، بِفَتْح أَوله وَكسر الرَّاء
وتقديمها على الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي (سنَن أبي
دَاوُد) بأريحاء، مثله لَكِن بِزِيَادَة ألف. وَقَالَ
الْبَاجِيّ: أفصحها بِفَتْح الْبَاء وَسُكُون الْيَاء
وَفتح الرَّاء مَقْصُور، وَكَذَا جزم بِهِ الصغاني.
وَقَالَ: إِنَّه فيعلاً من: البراح. قَالَ: وَمن ذكره
بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَظن أَنَّهَا: بِئْر، من
أبار الْمَدِينَة فقد صحف. وَقَالَ القَاضِي: روينَا
بِفَتْح الْبَاء وَالرَّاء وَضمّهَا مَعَ كسر الْبَاء،
وَمِنْهُم من قَالَ: من رفع الرَّاء وألزمها حكم
الْإِعْرَاب فقد أَخطَأ. وَقَالَ: وبالرفع قرأناه على
شُيُوخنَا بالأندلس، وَالرِّوَايَات فِيهِ الْقصر، وروينا
أَيْضا بِالْمدِّ، وَهُوَ حَائِط سمي بِهَذَا الإسم
وَلَيْسَ اسْم بِئْر، وَقَالَ التَّيْمِيّ: هُوَ
بِالرَّفْع اسْم كَانَ (وَأحب) خَبره، وَيجوز بِالْعَكْسِ
و: حا، مَقْصُور كَذَا الْمَحْفُوظ، وَيجوز أَن يمد فِي
اللُّغَة، يُقَال: هَذِه حاء بِالْقصرِ وَالْمدّ، وَقد
جَاءَ: حا، فِي اسْم قَبيلَة، وبير حاء، بُسْتَان.
وَكَانَت بساتين الْمَدِينَة تدعى بالآبار الَّتِي فِيهَا
أَي الْبُسْتَان الَّتِي فِيهِ بِئْر حا، أضيف الْبِئْر
إِلَى: حا، ويروى: بير حا، بِفَتْح الْبَاء وَسُكُون
التَّحْتَانِيَّة وَفتح الرَّاء، هُوَ اسْم مَقْصُور وَلَا
يَتَيَسَّر فِيهِ إِعْرَاب، أَي: فَهُوَ كلمة وَاحِدَة لَا
مُضَاف وَلَا مُضَاف إِلَيْهِ. قَالَ: وَيجوز أَن يكون فِي
مَوضِع رفع، وَأَن يكون فِي مَوضِع نصب، ويروى: (وَأَن أحب
أَمْوَالِي بير حا) ، فعلى هَذَا مَحَله رفع وَهُوَ اسْم
بُسْتَان، وَقَالَ ابْن التِّين: قيل: حا، اسْم امْرَأَة،
وَقيل: اسْم مَوضِع وَهُوَ مَمْدُود وَيجوز قصره. وَفِي
(مُعْجم أبي عبيد) : حا، على لفظ حرف الهجاء مَوضِع
بِالشَّام، و: حا، آخر، مَوضِع بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ
الَّذِي ينْسبهُ إِلَيْهِ بِئْر حا، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن
سَلمَة عَن ثَابت، أرِيحَا، خرجه أَبُو دَاوُد وَلَا أعلم
أرِيحَا إلاَّ بِالشَّام. وَقيل: سميت بيرحا، بزجر
الْإِبِل عَنْهَا، وَذَلِكَ أَن الْإِبِل إِذا زجرت عَن
المَاء، وَقد رويت: حاحا، وَقيل: بير حا، من البرح
وَالْيَاء زَائِدَة. وَفِي (الْمُنْتَهى) : بيرح اسْم رجل،
زَاد فِي (الواعي) : الْيَاء فِيهِ زَائِدَة. قَوْله:
(وَكَانَت) أَي: بيرحا (مُسْتَقْبلَة الْمَسْجِد) أَو
مُقَابلَته، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا الْموضع يعرف
بقصر بني جديلة، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الدَّال
الْمُهْملَة، قبلي الْمَسْجِد، وَفِي (التَّلْوِيح) : هُوَ
مَوضِع بِقرب الْمَسْجِد يعرف بقصر بني حديلة، وضبطها
بِالْكِتَابَةِ: بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال.
قلت: الصَّوَاب بِالْجِيم. قَوْله: (من مَاء فِيهَا) أَي:
فِي بيرحا. قَوْله: (طيب) بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ صفة
للْمَاء. قَوْله: (فَلَمَّا أنزلت هَذِه الْآيَة) وَهِي
قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا
تحبون} (آل عمرَان: 29) . قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة
أبي صَالح: لن تنالوا مَا عِنْد الله من ثَوَابه فِي
الْجنَّة حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون من الصَّدَقَة، أَي:
بعض مَا تحبون من الْأَمْوَال. وَقَالَ الضَّحَّاك:
يَعْنِي لن تدْخلُوا الْجنَّة حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون،
يَعْنِي: تخرجُونَ زَكَاة أَمْوَالكُم طيبَة بهَا
أَنفسكُم، وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس: هَذِه الْآيَة
مَنْسُوخَة، نسختها آيَة الزَّكَاة. قَوْله: {وَمَا تنفقوا
من شَيْء} (آل عمرَان: 29) . يَعْنِي: الصَّدَقَة وصلَة
الرَّحِم، {فَإِن الله بِهِ عليم} (آل عمرَان: 29) . أَي:
مَا يخفى عَلَيْهِ فيثيبكم عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَن عبد
الله ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه
اشْترى جَارِيَة جميلَة وَهُوَ يُحِبهَا، فَمَكثت عِنْده
أَيَّامًا فَأعْتقهَا فَزَوجهَا من رجل فولد لَهَا ولد،
فَكَانَ يَأْخُذ وَلَدهَا ويضمه إِلَى نَفسه، فَيَقُول:
إِنِّي أَشمّ مِنْك ريح أمك. فَقيل لَهُ: قد رزقك الله من
حَلَال فَأَنت تحبها فَلم تركتهَا؟ فَقَالَ: ألم تسمع
هَذِه الْآيَة: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا
تحبون} (آل عمرَان: 29) . ذكره أَبُو اللَّيْث
السَّمرقَنْدِي فِي (تَفْسِيره) وَذكر أَيْضا عَن عمر بن
عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ
يَشْتَرِي أعدالاً من سكر وَيتَصَدَّق بِهِ، فَقيل لَهُ:
هلا تَصَدَّقت بِثمنِهِ؟ فَقَالَ: لِأَن السكر أحب إِلَيّ،
فَأَرَدْت أَن أنْفق مِمَّا أحب. قَوْله: (قَامَ إِلَى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
(9/29)
أَي: قَامَ أَبُو طَلْحَة منتهيا إِلَى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (برهَا) ،
أَي: خَيرهَا، وَالْبر إسم جَامع لأنواع الْخيرَات
والطاعات، وَيُقَال أَرْجُو ثَوَاب برهَا. قَوْله:
(وَذُخْرهَا) أَي: أقدمها فأدخرها لأجدها هُنَاكَ، وَعَن
ابْن مَسْعُود: الْبر فِي الْآيَة: الْجِهَة،
وَالتَّقْدِير على هَذَا: أَبْوَاب الْبر. قَوْله: (بخ) ،
هَذِه كلمة تقال عِنْد الْمَدْح والرضى بالشَّيْء وتكرر
للْمُبَالَغَة، فَإِن وصلت خففت ونونت وَرُبمَا شددت
كالاسم، وَيُقَال بِإِسْكَان الْخَاء وتنوينها مَكْسُورَة،
وَقَالَ القَاضِي: حُكيَ بِالْكَسْرِ بِلَا تَنْوِين،
وَرُوِيَ بِالرَّفْع، فَإِذا كررت فالاختيار تَحْرِيك
الأول منونا وَإِسْكَان الثَّانِي، وَقَالَ ابْن دُرَيْد:
مَعْنَاهُ تَعْظِيم الْأَمر وتفخيمه، وسكنت الْخَاء فِيهِ
كسكون اللَّام فِي: هَل وبل، وَمن نونه شبهه بالأصوات: كصه
ومه، وَفِي (الواعي) : قَالَ الْأَحْمَر: فِي بخ أَربع
لُغَات: الْجَزْم والخفض وَالتَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف.
وَقَالَ ابْن بطال: هِيَ كلمة إعجاب، وَقَالَ ابْن
التِّين: هِيَ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد الْمَدْح
والمحمدة، وَقَالَ الْقَزاز: هِيَ كلمة يَقُولهَا المفتخر
عِنْد ذكر الشَّيْء الْعَظِيم، وَكلهَا مُتَقَارِبَة فِي
الْمَعْنى. قَوْله: (مَال رابح) بِالْبَاء الْمُوَحدَة
أَي: يربح فِيهِ صَاحبه فِي الْآخِرَة، وَمَعْنَاهُ: ذُو
ربح كلابن وتامر، أَي: ذُو لبن وَذُو تمر، وَقَالَ ابْن
قرقول: وَرُوِيَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت من
الرواح يَعْنِي: يروح عَلَيْهِ أجره. وَقَالَ ابْن بطال:
وَالْمعْنَى أَن مسافته قريبَة وَذَلِكَ أنفس الْأَمْوَال.
وَقيل: مَعْنَاهُ يروح بِالْأَجْرِ وَيَغْدُو بِهِ،
وَاكْتفى بالرواح عَن الغدو، ولعلم السَّامع، وَيُقَال:
مَعْنَاهُ أَنه مَال رائح، يَعْنِي من شَأْنه الرواح أَي:
الذّهاب والفوات فَإِذا ذهب فِي الْخَيْر فَهُوَ أولى.
وَقَالَ القَاضِي: وَهِي رِوَايَة يحيى بن يحيى
وَجَمَاعَة، وَرِوَايَة أبي مُصعب وَغَيره بِالْبَاء
الْمُوَحدَة. وَقَالَ ابْن قرقول: بل الَّذِي روينَاهُ
ليحيى بِالْبَاء المفردة، وَهُوَ مَا فِي مُسلم، وَفِي
(التَّلْوِيح) : يحيى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن قرقول
يحيى اللَّيْثِيّ المغربي، وَيحيى الَّذِي فِي البُخَارِيّ
هُوَ النَّيْسَابُورِي، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الواني
فِي كِتَابه (أَطْرَاف الْمُوَطَّأ) : فِي رِوَايَة يحيى
الأندلسي بِالْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ: وَتَابعه روح بن
عبَادَة وَغَيره، وَقَالَ يحيى بن يحيى النَّيْسَابُورِي
وَإِسْمَاعِيل وَابْن وهب وَغَيرهم: رائح، بِالْهَمْزَةِ
من الرّوح، وَشك القعْنبِي فِيهِ، وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: من قَالَ رابح، بِالْبَاء، فقد صحف.
قَوْله: (وَقد سَمِعت مَا قلت) بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ
فِي الْوكَالَة: بَاب إِذا قَالَ الرجل لوَكِيله ضَعْهُ
حَيْثُ أَرَاك الله، وَقَالَ الْوَكِيل: قد سَمِعت،
وَقَالَ الْمُهلب: دلّ على قبُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَا جعل إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَة، ثمَّ رد الْوَضع فِيهَا
إِلَى أبي طَلْحَة بعد مشورته عَلَيْهِ فِيمَن يَضَعهَا.
قَوْله: (أفعل) . قَالَ السفاقسي: هُوَ فعل مُسْتَقْبل
مَرْفُوع، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يَقُول: إفعل
أَنْت ذَاك فقد أمضيته على مَا قلت، فَجعله أمرا. قَوْله:
(فِي أَقَاربه) الْأَقَارِب جمع: الْأَقْرَب، وَقَالَت
الْفُقَهَاء: لَو قَالَ: وقفت على قَرَابَتي، يتَنَاوَل
الْوَاحِد، وَيُقَال: هم قَرَابَتي وَهُوَ قَرَابَتي،
وَفِي (الفصيح) : ذُو قَرَابَتي للْوَاحِد وَذُو قَرَابَتي
للإثنين وَذُو قَرَابَتي للْجمع، والقرابة والقربى فِي
الرَّحِم. وَفِي (الصِّحَاح) : والقرابة الْقُرْبَى فِي
الرَّحِم، وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر تَقول: بيني وَبَينه
قرَابَة وَقرب وقربى ومقربة ومقربة وقربة وقربة، بِضَم
الرَّاء، وَهُوَ قربى وَذُو قَرَابَتي وهم أقربائي
وأقاربي، والعامة تَقول: هُوَ قَرَابَتي وهم قراباتي.
قَوْله: (وَبني عَمه) ، من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام،
فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الرجل الصَّالح قد
يُضَاف إِلَيْهِ حب المَال وَقد يضيفه هُوَ إِلَى نَفسه،
وَلَيْسَ فِي ذَلِك نقيصة عَلَيْهِ. وَفِيه: اتِّخَاذ
الْبَسَاتِين وَالْعَقار، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَفِيه
رد لما يرْوى عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، إِنَّه قاال: (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَة فترغبوا
فِي الدُّنْيَا) . وَفِيه: إِبَاحَة دُخُول الْعلمَاء
الْبَسَاتِين. وَفِيه: دُخُول الشَّارِع حَوَائِط
أَصْحَابه وشربه من مَائِهَا. وَفِيه: أَن كسب الْعقار
مُبَاح إِذا كَانَ حَلَالا وَلم يكن بِسَبَب ذل وَلَا
صغَار، فَإِن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
كره كسب أَرض الْخراج وَلم ير شراها، وَقَالَ لَا تجْعَل
فِي عُنُقك صغَارًا. وَفِيه: إِبَاحَة شرب من مَاء الصّديق
وَكَذَا الْأكل من ثماره وَطَعَامه. قَالَ أَبُو عمر: إِذا
علم أَن نفس صَاحبه تطيب بذلك. وَفِيه: دلَالَة للْمَذْهَب
الصَّحِيح أَنه يجوز أَن يُقَال: إِن الله تبَارك
وَتَعَالَى يَقُول، كَمَا يُقَال: ءن الله تَعَالَى قَالَ،
خلافًا لما قَالَه مطرف بن عبد الله بن الشخير، إِذْ
قَالَ: لَا يُقَال الله وَتَعَالَى يَقُول، إِنَّمَا
يُقَال: قَالَ الله، أَو الله، عز وَجل، كَأَنَّهُ ينجر
إِلَى اسْتِئْنَاف القَوْل. وَقَول الله قديم، وَكَأَنَّهُ
ذهل عَن قَوْله عز وَجل {وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي
السَّبِيل} (الْأَحْزَاب: 4) . وَفِيه: اسْتِعْمَال ظَاهر
الْخطاب وعمومه، أَلا ترى أَن أَبَا طَلْحَة حِين سمع: {لن
تنالوا الْبر} (آل عمرَان: 29) . لم يحْتَج أَن يقف حَتَّى
يرد عَلَيْهِ الْبَيَان عَن الشَّيْء الَّذِي يُرِيد الله
عز وَجل، أَن ينْفق عباده مِنْهُ إِمَّا بِآيَة أَو سنة
تبين ذَاك.
(9/30)
وَفِيه: مُشَاورَة أهل الْعلم وَالْفضل فِي
كَيْفيَّة وُجُوه الطَّاعَات وَغَيرهَا والإنفاق من
المحبوب. وَفِيه: أَن الْوَقْف صَحِيح وَإِن لم يذكر
سَبيله، وَهُوَ الَّذِي بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي
الْوَصَايَا. وَفِيه: أَن الْوكَالَة لَا تتمّ إِلَّا
بِالْقبُولِ. وَفِيه: أَن أَبَا طَلْحَة هُوَ الَّذِي
قسمهَا فِي أَقَاربه وَبني عَمه وَقد ذكر إِسْمَاعِيل
القَاضِي فِي (الْمَبْسُوط) عَن القعْنبِي بِسَنَدِهِ.
وَفِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسمهَا فِي
أقَارِب أبي طَلْحَة وَبني عَمه لَا خلاف فِي ذَلِك،
وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ الْمَحْفُوظ عِنْد الْعلمَاء.
قلت: هَذَا خلاف مَا ذكر هُنَا، وَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا
أضيف إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ
الْآمِر بِهِ. وَفِيه: فِي قَوْله: (فضعها يَا رَسُول الله
حَيْثُ أَرَاك الله) ، جَوَاز أَمر الرجل لغيره أَن
يتَصَدَّق عَنهُ، أَو يقف عَنهُ وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ
الآخر: خُذ هَذَا المَال فاجعله حَيْثُ أَرَاك الله من
وُجُوه الْخَيْر. وَقَالَ مَالك: فِي هَذَا لَا يَأْخُذ
مِنْهُ شَيْئا وَإِن كَانَ فَقِيرا، فَقَالَ غَيره: وَجَاز
لَهُ أَن يَأْخُذهُ كُله إِذا كَانَ فَقِيرا. وَفِيه:
صِحَة الصَّدَقَة الْمُطلقَة وَالْحَبْس الْمُطلق، وَهُوَ
الَّذِي لم يعين مصرفه ثمَّ بعد ذَلِك يعين. وَفِيه:
جَوَاز أَن يُعْطي الْوَاحِد من الصَّدَقَة فَوق مِائَتي
دِرْهَم لِأَن هَذَا الْحَائِط مَشْهُور أَن ريعه يحصل
للْوَاحِد مِنْهُ أَكثر من ذَلِك، قَالَه الْقُرْطُبِيّ،
وَلَا فرق بَين فرض الصَّدَقَة ونفلها فِي مِقْدَار مَا
يجوز إِعْطَاؤُهُ الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ فِيمَا ذكره
الْخطابِيّ. وَفِيه: أَن الصَّدَقَة إِذا كَانَت جزلة مدح
صَاحبهَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بخ ذَلِك مَال
رابح) . وَفِيه: أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب وضعفاء
الأهلين أفضل مِنْهَا على سَائِر النَّاس إِذا كَانَت
صَدَقَة تطوع، وَيدل على ذَلِك قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لَك أَجْرَانِ: أجر الْقَرَابَة وَالصَّدَََقَة) .
وَقَالَ لميمونة حِين أعتقت جَارِيَة لَهَا (أما إِنَّك
لَو أعطيتهَا أخوالك كَانَ أعظم لأجرك) ذكره البُخَارِيّ،
رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْهِبَة.
تابَعَهُ رَوْحٌ
أَي: تَابع عبد الله بن يُوسُف روح، بِفَتْح الرَّاء: ابْن
عبَادَة الْبَصْرِيّ عَن مَالك فِي قَوْله: (رابح) ،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة فِي كتاب
الْبيُوع.
وَقَالَ يَحْيى بنُ يَحْيى وَإسْمَاعِيلُ عَن مالِكٍ
رَايِحٌ
أَي: قَالَ يحيى بن يحيى النَّيْسَابُورِي، رَحمَه الله
تَعَالَى، وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس فِي روايتهما عَن
مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَايِح بِالْيَاءِ آخر
الْحُرُوف، أما رِوَايَة يحيى فستأتي مَوْصُولَة فِي
الْوكَالَة، وَأما رِوَايَة إِسْمَاعِيل فوصلها
البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي التَّفْسِير.
2641 - حدَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخبرنَا
مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبرنِي زَيْدٌ عنْ
عِيَاضِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ خَرَجَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي أضْحًى أوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى
ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وأمَرَهُمْ
بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ أيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا
فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ
تَصَدَّقْنَ فإنِّي رأيْتُكُنَّ أكْثَرَ أهْلِ النَّارِ
فَقُلْنَ وَبِمَ ذالِكَ يَا رَسُولَ الله قَالَ تُكْثِرْنَ
اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ مَا رَأيْتُ مِنْ
ناقِصَاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ
الحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ
انْصَرَفَ فَلَمَّا صارَ إلَى مَنْزِلِهِ جاءَتْ زَيْنَبُ
امْرَأةُ ابنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا
رسولَ الله هاذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ أيُّ الزَّيانِبِ
فَقِيلَ امرأةُ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ ائذِنُوا
لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قالَتْ يَا نَبِيَّ الله إنَّكَ
أمَرْتَ اليَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وكانَ عِنْدي حُلِيٌّ لِي
فأرَدْتُ أنْ أتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابنُ مَسْعُودٍ
أنَّهُ وَوَلَدَهُ أحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ
عَلَيْهِمْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صَدَقَ ابنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أحَقُّ مَنْ
تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ.
.
(9/31)
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من الْوَجْه
الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي صدر الْبَاب فَليرْجع إِلَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: سعيد ابْن أبي مَرْيَم
وَهُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم
الجُمَحِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير
الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: زيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة
الْعَدوي. الرَّابِع: عِيَاض بن عبد الله بن سعد بن أبي
سرح الْقرشِي العامري الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ
واسْمه سعد بن مَالك، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر
فِي كتاب الْحيض، فِي: بَاب ترك الْحَائِض الصَّوْم مَعَ
الْمَتْن من قَوْله: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) إِلَى قَوْله: (من إحداكن) ، وَفِيه زِيَادَة وَهِي
قَوْله: (قُلْنَ: وَمَا نُقْصَان ديننَا وعقلنا يَا رَسُول
الله؟ قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف
شَهَادَة الرجل، قُلْنَ: بلَى. قَالَ: فَذَاك من نُقْصَان
عقلهَا، أَلَيْسَ إِذا حَاضَت لم تصل وَلم تصم؟ قُلْنَ:
بلَى. قَالَ: فَذَاك من نُقْصَان دينهَا. .) وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. وَبَقِيَّة الحَدِيث
تَأتي عَن قريب فِي: بَاب الزَّكَاة على الزَّوْج والأيتام
فِي الْحجر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَت زَيْنَب امْرَأَة ابْن
مَسْعُود) ، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: زَيْنَب هَذِه هِيَ
رائطة قَالَ: وَلَا نعلم عبد الله تزوج غَيرهَا فِي زمن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الكلاباذي:
رائطة هِيَ الْمَعْرُوفَة بِزَيْنَب، وَقَالَ ابْن طَاهِر
وَغَيره: امْرَأَة ابْن مَسْعُود زَيْنَب. وَيُقَال
اسْمهَا: رائطة. وَأما ابْن سعد وَأَبُو أَحْمد العسكري
وَأَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو بكر
الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو عمر بن عبد الْبر وَأَبُو نعيم
الْحَافِظ وَأَبُو عبد الله بن مَنْدَه وَأَبُو حَاتِم بن
حبَان فجعلوهما ثِنْتَيْنِ. وَالله أعلم. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) وَمِمَّا يرجح القَوْل الأول مَا روينَاهُ
عَن القَاضِي يُوسُف فِي كتاب الزَّكَاة: حَدثنَا عبد
الْوَاحِد بن غياث حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة أخبرنَا
هِشَام عَن عُرْوَة عَن عبد الله بن عبد الله الثَّقَفِيّ
عَن أُخْته رائطة ابْنة عبد الله، وَكَانَت امْرَأَة ابْن
مَسْعُود، وَكَانَت امْرَأَة صناعًا الحَدِيث. قلت: روى
أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة عبيد الله بن عبد الله
بن عتبَة (عَن رائطة إمرأة عبد الله بن مَسْعُود وَكَانَت
امْرَأَة صناع الْيَد، قَالَ: فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ
وعَلى وَلَده من صنعتها. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ
لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنفقي
عَلَيْهِم فَإِن لَك فِي ذَلِك أجر مَا أنفقت عَلَيْهِم) ،
وَإِسْنَاده صَحِيح. قَوْله: (فَقيل: يَا رَسُول الله
هَذِه زَيْنَب {) الْقَائِل هُوَ بِلَال كَمَا سَيَأْتِي
عَن قريب. قَوْله: (فَقَالَ: أَي الزيانب؟) أَي: أَيَّة
زَيْنَب من الزيانب، وتعريف الْمثنى وَالْمَجْمُوع من
الْأَعْلَام وَإِنَّمَا هُوَ بِالْألف وَاللَّام. قَوْله:
(إيذنوا لَهَا. فَأذن لَهَا، قَالَت: يَا نَبِي الله)
إِلَى آخِره، لم يبين أَبُو سعيد مِمَّن سمع ذَلِك، فَإِن
كَانَ حَاضرا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال
الْمُرَاجَعَة الْمَذْكُورَة فَهُوَ من مُسْنده وإلاَّ
فَيحْتَمل أَن يكون حمله عَن زَيْنَب صَاحِبَة الْقِصَّة،
فَيكون فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث
الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو
عبيد وَأَشْهَب من الْمَالِكِيَّة، وَابْن الْمُنْذر
وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأهل الظَّاهِر، وَقَالُوا:
يجوز للْمَرْأَة أَن تُعْطِي زَكَاتهَا إِلَى زَوجهَا
الْفَقِير. وَقَالَ الْقَرَافِيّ: كرهه الشَّافِعِي
وَأَشْهَب وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ الْجوزجَاني،
(عَن عَطاء، قَالَت: أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم امْرَأَة فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن عَليّ نذرا
أَن أَتصدق بِعشْرين درهما، وَأَن لي زوجا فَقِيرا أفيجزىء
عني أَن أعْطِيه؟ قَالَ: نعم كفلان من الْأجر) . وَقَالَ
الْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك
وَأحمد فِي رِوَايَة وَأَبُو بكر من الْحَنَابِلَة: لَا
يجوز للْمَرْأَة أَن تُعْطِي زَوجهَا من زَكَاة مَالهَا،
ويروى ذَلِك عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَأَجَابُوا عَن حَدِيث زَيْنَب بِأَن الصَّدَقَة
الْمَذْكُورَة فِيهِ إِنَّمَا هِيَ من غير الزَّكَاة،
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد بَين ذَلِك مَا حَدثنَا
يُونُس، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف، قَالَ:
أخبرنَا اللَّيْث عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن
عبيد الله بن عبد الله، (عَن رائطة بنت عبد الله إمرأة عبد
الله بن مَسْعُود، وَكَانَت امْرَأَة صنعا، وَلَيْسَ لعبد
الله بن مَسْعُود مَال، وَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ وعَلى
وَلَده مَعهَا، فَقَالَت: وَالله لقد شغلتني أَنْت وولدك
عَن الصَّدَقَة فَمَا أَسْتَطِيع أَن أَتصدق مَعكُمْ
بِشَيْء} فَقَالَ: مَا أحب أَنه لم يكن لَك فِي ذَلِك أجر
أَن تفعلي، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هِيَ، وَهُوَ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة
ذَات صَنْعَة، أبيع مِنْهَا وَلَيْسَ لوَلَدي وَلَا لزوجي
شَيْء، فشغلوني فَلَا أَتصدق، فَهَل لي فيهم أجر؟ فَقَالَ:
لَك فِي ذَلِك أجر مَا أنفقتِ عَلَيْهِم، فأنفقي
عَلَيْهِم. .) فَفِي هَذَا الحَدِيث أَن تِلْكَ الصَّدَقَة
مِمَّا لم يكن فِيهِ زَكَاة، وَالدَّلِيل على أَن
الصَّدَقَة كَانَت تَطَوّعا كَمَا ذكرنَا. قَوْلهَا: (كنت
امْرَأَة صنعا أصنع بيَدي فأبيع من ذَلِك فانفق على عبد
الله؟) . فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون المُرَاد من
الصَّدَقَة التَّطَوُّع فِي حق وَلَدهَا؟ وَصدقَة الْفَرْض
فِي حق زَوجهَا عبد الله؟ قلت: لَا مساغ لذَلِك
لِامْتِنَاع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز حِينَئِذٍ،
(9/32)
وَمِمَّا يدل على مَا قُلْنَا قَوْلهَا:
وَكَانَ عِنْدِي حلي فَأَرَدْت أَن أَتصدق، وَلَا تجب
الصَّدَقَة فِي الْحلِيّ عِنْد بعض الْعلمَاء، وَمن
يُجِيزهُ لَا يكون الْحلِيّ كُله زَكَاة، إِنَّمَا يجب
جُزْء مِنْهُ. وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(زَوجك وولدك أَحَق من تَصَدَّقت عَلَيْهِم) ، وَالْولد
لَا تدفع إِلَيْهِ الزَّكَاة إِجْمَاعًا، وَقَالَ بَعضهم:
احْتج الطَّحَاوِيّ لقَوْل أبي حنيفَة. فَأخْرج من طَرِيق
رائطة امْرَأَة ابْن مَسْعُود أَنَّهَا كَانَت امْرَأَة
صنعاء الْيَدَيْنِ، فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ وعَلى وَلَده،
قَالَ: فَهَذَا يدل على أَنَّهَا صَدَقَة تطوع، وَأما
الْحلِيّ فَإِنَّمَا يحْتَج بِهِ على من لَا يُوجب فِيهِ
الزَّكَاة، وَأما من يُوجِبهُ فَلَا. وَقد روى الثَّوْريّ
عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة، قَالَ: قَالَ
ابْن مَسْعُود لامْرَأَته فِي حليها إِذا بلغ مِائَتي
دِرْهَم فَفِيهِ الزَّكَاة، فَكيف يحْتَج الطَّحَاوِيّ
بِمَا لَا يَقُول بِهِ؟ قلت: لَو فهم هَذَا الْقَائِل
مَوضِع احتجاج الطَّحَاوِيّ من هَذَا الحَدِيث لَكَانَ سكت
عَمَّا قَالَه، وَمَوْضِع احتجاجه هُوَ قَوْلهَا: إِنِّي
امْرَأَة ذَات صَنْعَة أبيع مِنْهَا ... إِلَى آخِره، مَا
ذَكرْنَاهُ عَنهُ آنِفا، فَكَانَ قَول رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَابا لَهَا فِي سؤالها. وَلَيْسَ
فِي احتجاجه بِهَذَا مفتقرا إِلَى الِاحْتِجَاج بِأَمْر
الْحلِيّ سَوَاء كَانَ فِيهِ الزَّكَاة أَو لم يكن. قَالَ
هَذَا الْقَائِل أَيْضا. وَالَّذِي يظْهر لي أَنَّهُمَا
قضيتان: إِحْدَاهمَا فِي سؤالها عَن تصدقها بحليها على
زَوجهَا وَولده، وَالْأُخْرَى: فِي سؤالها عَن النَّفَقَة.
قلت: الَّذِي يظْهر من هَذَا الحَدِيث خلاف مَا ظهر لَهُ
لِأَن فِي الحَدِيث سؤالها عَن الصَّدَقَة الَّتِي أَمر
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُنَّ بهَا، وأجابها
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن زَوجك وولدك
أَحَق من تَصَدَّقت بِهِ عَلَيْهِم، فَمن أَيْن السؤالان
فِيهِ؟ وَمن أَيْن الجوابان عَنْهُمَا؟ وَقَالَ هَذَا
الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن ظَاهر قَوْله
فِي حَدِيث ابْن سعيد الْمَذْكُور: (زَوجك وولدك أَحَق من
تَصَدَّقت بِهِ عَلَيْهِم) دَال على أَنَّهَا صَدَقَة تطوع
لِأَن الْوَلَد لَا يعْطى من الزَّكَاة الْوَاجِبَة
بِالْإِجْمَاع، كَمَا نَقله ابْن الْمُنْذر وَغَيره، وَفِي
هَذَا الِاحْتِجَاج نظر، لِأَن الَّذِي يمْتَنع
إِعْطَاؤُهُ من الصَّدَقَة الْوَاجِبَة من يلْزم
الْمُعْطِي نَفَقَته، وَالأُم لَا يلْزمهَا نَفَقَة
وَلَدهَا مَعَ وجود أَبِيه. قلت: يلْزم الْأُم نَفَقَة
وَلَدهَا إِذا كَانَ أَبوهُ فَقِيرا عَاجِزا عَن التكسب
جدا، وَذكر أَصْحَابنَا أَن الْأَب إِذا كَانَ مُعسرا
كسوبا وَله ابْن زَمِنٌ وَله أم موسرة هَل تُؤمر
بِالْإِنْفَاقِ على الابْن؟ اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ،
قيل: تُؤمر، وَقيل: لَا ترجع الْأُم على الْأَب، وَهُوَ
مَرْوِيّ عَن أبي حنيفَة نصا. انْتهى. وَقيل: قَوْله:
ولدك، مَحْمُول على أَن الْإِضَافَة للتربية لَا للولادة،
فَكَأَنَّهُ وَلَده من غَيرهَا. قلت: هَذَا ارْتِكَاب
الْمجَاز بِغَيْر قرينَة وَهُوَ غير صَحِيح وَقد خاطبها
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (وولدك) ،
فَدلَّ على أَنه وَلَدهَا حَقِيقَة، وَيدل عَلَيْهِ مَا
جَاءَ فِي حَدِيث آخر: (أيجزىء عني أَن أنْفق على زَوجي
وأيتام لي فِي حجري؟) وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) :
(أيجزىء أَن أجعَل صدقتي فِيك وَفِي بني أخي أَيْتَام؟)
الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة: (يَا رَسُول الله! هَل لي من
أجر أَن أَتصدق على ولد عبد الله من غَيْرِي؟) وإسنادهما
جيد، وللبيهقي: (كنت أعول عبد الله ويتامى) ، وَقيل: اعتل
من منعهَا من إعطائها زَكَاتهَا لزَوجهَا بِأَنَّهَا تعود
إِلَيْهَا فِي النَّفَقَة فَكَأَنَّهَا مَا خرجت عَنْهَا،
وَجَوَابه: إِن احْتِمَال رُجُوع الصَّدَقَة إِلَيْهَا
وَاقع فِي التَّطَوُّع أَيْضا قلت: لَيست الصَّدَقَة
كَالزَّكَاةِ، لِأَن عود الزَّكَاة إِلَيْهَا فِي
النَّفَقَة يضر فَتَصِير كَأَنَّهَا مَا خرجت بِخِلَاف
الصَّدَقَة، فَإِن احْتِمَال عودهَا إِلَيْهَا لَا يضر،
فخروجها وَعَدَمه سَوَاء.
وَأما مَسْأَلَة الْحلِيّ فَفِيهَا خلاف بَين الْعلمَاء،
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري: تجب فِيهَا
الزَّكَاة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر ابْن الْخطاب وَعبد
الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ سعيد
بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَمُحَمّد بن
سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَمُجاهد وَالزهْرِيّ وطاووس
وَمَيْمُون بن مهْرَان وَالضَّحَّاك وعلقمة وَالْأسود
وَعمر بن عبد الْعَزِيز وذر الْهَمدَانِي وَالْأَوْزَاعِيّ
وَابْن شبْرمَة وَالْحسن بن حَيّ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر
وَابْن حزم: الزَّكَاة وَاجِبَة بِظَاهِر الْكتاب
وَالسّنة، وَقَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق
وَالشَّافِعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي أظهر
قوليه: لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن
عمر وَجَابِر بن عبد الله وَعَائِشَة وَالقَاسِم بن
مُحَمَّد وَالشعْبِيّ، وَكَانَ الشَّافِعِي يُفْتِي
بِهَذَا فِي الْعرَاق وَتوقف بِمصْر، وَقَالَ: هَذَا
مِمَّا استخير الله فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْث: مَا كَانَ من
حلي يلبس ويعار فَلَا زَكَاة فِيهِ، وَإِن اتخذ للتحرز عَن
الزَّكَاة فَفِيهِ الزَّكَاة، وَقَالَ أنس: يزكّى عَاما
وَاحِدًا لَا غير.
وَاسْتدلَّ من أسقط الزَّكَاة بِحَدِيث جَابر عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي الْحلِيّ
زَكَاة، ذكره فِي (الإِمَام) وَعَن جَابر أَنه كَانَ يرى
الزَّكَاة فِي كثير الْحلِيّ دون قليلها، وروى عبد
الرَّزَّاق: أخبرنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر،
قَالَ: لَا زَكَاة فِي الْحلِيّ، وروى مَالك فِي
(الْمُوَطَّأ) : عَن عبد الرَّحْمَن
(9/33)
ابْن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَت تلِي بَنَات أُخْتهَا
يتامى فِي حجرها فَلَا تخرج من حليهن الزَّكَاة، وَأخرج
الدَّارَقُطْنِيّ عَن شريك عَن عَليّ بن سُلَيْمَان،
قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْحلِيّ، فَقَالَ: لَيْسَ
فِيهِ زَكَاة. وروى الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من
جِهَة: أخبرنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ:
سَمِعت ابْن خَالِد يسْأَل جَابر بن عبد الله عَن الْحلِيّ
أفيه زَكَاة؟ فَقَالَ جَابر: لَا، وَإِن كَانَ يبلغ ألف
دِينَار. وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث هِشَام بن
عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن أَسمَاء بنت أبي
بكر أَنَّهَا كَانَت تحلي بناتها الذَّهَب وَلَا تزكيه
نَحوا من خمسين ألف.
وَاحْتج من رأى فِيهَا الزَّكَاة بِحَدِيث عَمْرو بن
شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن امْرَأَة أَتَت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهَا بنت لَهَا وَفِي
يَد ابْنَتهَا مسكتان غليظتان من ذهب، فَقَالَ لَهَا:
أتعطين زَكَاة هَذَا؟ قَالَت: لَا. قَالَ: أَيَسُرُّك أَن
يسورك الله بهما يَوْم الْقِيَامَة سِوَارَيْنِ من نَار؟
قَالَت: فخلعتهما فألقيتهما إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَت: هما لله وَلِرَسُولِهِ) ،
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ: وَلَا يَصح
فِي هَذَا الْبَاب شَيْء. قلت: قَالَ ابْن الْقطَّان فِي
كِتَابه: إِسْنَاده صَحِيح، وَقَالَ الْحَافِظ
الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده لَا مقَال فِيهِ، فَإِن أَبَا
دَاوُد رَوَاهُ عَن أبي كَامِل الجحدري وَحميد بن مسْعدَة
وهما من الثِّقَات احْتج بهما مُسلم، وخَالِد بن الْحَارِث
إِمَام فَقِيه احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَكَذَلِكَ
حُسَيْن بن ذكْوَان الْمعلم احتجا بِهِ فِي (الصَّحِيح)
وَوَثَّقَهُ ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن معِين وَأَبُو
حَاتِم، وَعَمْرو بن شُعَيْب مِمَّن قد علم وَهَذَا
إِسْنَاد تقوم بِهِ الْحجَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قلت: أخرج التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة
(عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن جده، قَالَ: أَتَت
امْرَأَتَانِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَفِي أَيْدِيهِمَا سواران من ذهب، فَقَالَ لَهما: أتؤديان
زَكَاة هَذَا؟ قَالَتَا: لَا. فَقَالَ: أتحبان أَن يسوركما
الله بسوارين من نَار؟ قَالَتَا: لَا، قَالَ: فأديا
زَكَاته) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرَوَاهُ ابْن الْمثنى
بن الصَّباح عَن عمر بن شُعَيْب نَحْو هَذَا، وَابْن
لَهِيعَة وَابْن الصَّباح يُضعفَانِ فِي الحَدِيث، وَلَا
يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم شَيْء. قلت: قَالَ الْمُنْذِرِيّ: لَعَلَّ
التِّرْمِذِيّ قصد الطَّرِيقَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا،
وإلاَّ فطريق أبي دَاوُد لَا مقَال فِيهِ، وَاحْتَجُّوا
أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث (عبد الله بن شَدَّاد بن
الْهَاد أَنه، قَالَ: دَخَلنَا على عَائِشَة زوج النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى فِي يَدي فتخات من ورق،
فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَة؟ فَقلت صنعتهن أتزين لَك
يَا رَسُول الله! قَالَ: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لَا أَو مَا
شَاءَ الله، قَالَ: هُوَ حَسبك من النَّار) . وَأخرجه
الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط
الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قلت: الحَدِيث على شَرط
مُسلم وَلَا يلْزم، من قَول التِّرْمِذِيّ: لَا يَصح فِي
هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
شَيْء، أَن لَا يَصح عِنْد غَيره فَافْهَم.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد، أخرجه
أَحْمد فِي (مُسْنده) : (حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم عَن عبد
الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم عَن شهر بن حَوْشَب عَن
أَسمَاء بنت يزِيد، قَالَت: دخلت أَنا وخالتي على النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعلينا أسورة من ذهب، فَقَالَ
لنا: أتعطيان زَكَاتهَا؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: أما
تخافان أَن يسوركما الله أسورة من نَار؟ أديا زَكَاتهَا.
فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَعلي بن عَاصِم
رَمَاه يزِيد بن هَارُون بِالْكَذِبِ، وَعبد الله بن
خَيْثَم قَالَ ابْن معِين: أَحَادِيثه لَيست بالقوية،
وَشهر بن حَوْشَب قَالَ ابْن عدي: لَا يحْتَج بحَديثه.
قلت: ذكر فِي (الْكَمَال) : وَسُئِلَ أَحْمد عَن عَليّ بن
عَاصِم فَقَالَ: هُوَ وَالله عِنْدِي ثِقَة، وَأَنا أحدث
عَنهُ، وَعبد الله بن خَيْثَم قَالَ ابْن معِين، هُوَ
ثِقَة حجَّة، وَشهر بن حَوْشَب قَالَ أَحْمد: مَا أحسن
حَدِيثه وَوَثَّقَهُ، وَعَن يحيى: هُوَ ثِقَة، وَقَالَ
أَبُو زرْعَة: هُوَ لَا بَأْس بِهِ، فَظهر من هَذَا كُله
سُقُوط كَلَام ابْن الجوزري وَصِحَّة الحَدِيث.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس، رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) : عَن نصر بن مُزَاحم عَن
أبي بكر الْهُذلِيّ أخبرنَا شُعَيْب بن الْحجاب (عَن
الشّعبِيّ قَالَ: سَمِعت فَاطِمَة بنت قيس، تَقول: أتيت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطوق فِيهِ سَبْعُونَ
مِثْقَالا من ذهب، فَقلت: يَا رَسُول الله خُذ مِنْهُ
الْفَرِيضَة فَأخذ مِنْهُ مِثْقَالا وَثَلَاثَة أَربَاع
مِثْقَال) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَبُو بكر
الْهُذلِيّ مَتْرُوك لم يَأْتِ بِهِ غَيره، وَاحْتَجُّوا
أَيْضا بِحَدِيث أم سليمَة أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا
مُحَمَّد بن عِيسَى حَدثنَا عتاب عَن ثَابت بن عجلَان (عَن
عَطاء عَن أم سَلمَة، قَالَت: كنت ألبس أَوْضَاحًا من ذهب،
فَقلت: يَا رَسُول الله أكنز هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بلغ أَن
تُؤدِّي زَكَاته فَزكِّي فَلَيْسَ بكنز) ، وَأخرجه
الْحَاكِم أَيْضا فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على
شَرط البُخَارِيّ وَلم يخرجَاهُ. وَلَفظه: (إِذا أدّيت
زَكَاته فَلَيْسَ بكنز) . فَإِن قلت: رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: تفرد بِهِ ثَابت بن عجلَان،
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : مُحَمَّد بن
مهَاجر، قَالَ ابْن حبَان: يضع الحَدِيث
(9/34)
على الثِّقَات. قلت: قَالَ فِي (تَنْقِيح
التَّحْقِيق) : لَا يضر تفرد ثَابت بِهِ فَإِنَّهُ روى
لَهُ البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ فِيهِ
أَيْضا: الَّذِي قيل فِي مُحَمَّد ابْن مهَاجر وهم، فَإِن
مُحَمَّد بن مهَاجر الْكذَّاب لَيْسَ هُوَ هَذَا، فَهَذَا
الَّذِي يروي عَن ثَابت بن عجلَان ثِقَة شَامي أخرج لَهُ
مُسلم فِي (صَحِيحه) وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين
وَأَبُو زرْعَة ودحيم وَأَبُو دَاوُد وَآخَرُونَ، وَذكره
ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَقَالَ: كَانَ متقنا، وَأما
مُحَمَّد بن مهَاجر الْكذَّاب فَإِنَّهُ مُتَأَخّر، وعتاب
بن بشير وَثَّقَهُ ابْن معِين.
وَأما حَدِيث جَابر الَّذِي احتجب بِهِ الْفرْقَة الأولى
فقد قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَهُوَ حَدِيث لَا أصل لَهُ،
وَفِيه عَافِيَة بن أَيُّوب، وَهُوَ مَجْهُول، فَمن احْتج
بِهِ مَرْفُوعا كَانَ مغرورا بِدِينِهِ دَاخِلا فِيمَا
يعيب بِهِ مِمَّن يحْتَج بالكذابين. قلت: هَذَا غَرِيب من
الْبَيْهَقِيّ مَعَ تعصبه للشَّافِعِيّ، وَقَالَ سبط بن
الْجَوْزِيّ: هُوَ حَدِيث ضَعِيف مَعَ أَنه مَوْقُوف على
جَابر.
قَوْله: (مسكتان) ، تَثْنِيَة مسكة بالفتحات، وَهُوَ
السوار من الدبل، وَهِي قُرُون الأوعال. وَقيل: جُلُود
دَابَّة بحريّة، وَالْجمع: مسك، وَقيل: الدبل ظهر السلحفات
البحرية. (والفتخات) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وبالخاء الْمُعْجَمَة جمع: فتخة، بِالتَّحْرِيكِ وَهِي
حَلقَة من فضَّة لَا فص لَهَا، فَإِذا كَانَ فِيهَا فص
فَهِيَ خَاتم، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق، هِيَ الخواتيم
الْعِظَام، وَقيل: خَوَاتِيم عراض الفصوص لَيْسَ بمستقيمة،
وَقيل: خلخل لَا جرس لَهُ، والفتخ تلبس فِي الْأَيْدِي.
وَقيل: فِي الأرجل. (والأوضاح) جمع: وضح، بِفَتْح الضَّاد
الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، وَهُوَ نوع من
الْحلِيّ يعْمل من الْفضة، سميت بِهِ لبياضها، ثمَّ
اسْتعْملت فِي الَّتِي يعْمل من الذَّهَب أَيْضا. وَقيل:
حلي من الدَّرَاهِم الصَّحِيحَة والوضح الدِّرْهَم
الصَّحِيح، وَقيل: حلي من الْحِجَارَة، وَقيل: الأوضاح:
الخلاخل.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور: اسْتِئْذَان
النِّسَاء على الرِّجَال. وَفِيه: أَنه إِذا لم ينْسب
إِلَيْهِ من يسْتَأْذن سَالَ أَن ينْسب. وَفِيه: الْحَث
على الصَّدَقَة على الْأَقَارِب. وَفِيه: ترغيب ولي
الْأَمر فِي أَفعَال الْخَيْر للرِّجَال وَالنِّسَاء.
وَفِيه: التحدث مَعَ النِّسَاء الْأَجَانِب عِنْد أَمن
الْفِتْنَة.
54 - (بابٌ لَيْسَ عَلَى المُسْلِمُ فِي فَرَسِهِ
صَدَقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَيْسَ على الْمُسلم فِي فرسه
صَدَقَة، واشتقاق الْفرس من الْفرس وَهُوَ الْكسر، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: الْفرس يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى وَلَا
يُقَال للْأُنْثَى فرسه، وَجمعه: الْخَيل، من غير لَفظه،
وَالْخَيْل اسْم جمع للعراب والبرازين ذكورها وإناثها
كالركب، وَلَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وواحدها: فرس،
وَالْخَيْل الفرسان أَيْضا قَالَ تَعَالَى: {واجلب
عَلَيْهِم بخيلك} (الْإِسْرَاء: 46) . وَالْخَيْل: يجمع
على خُيُول فَيكون جمع اسْم الْجمع: كالقوم والأقوام.
3641 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ دِيْنَارٍ قَالَ سَمِعْتُ
سُلَيْمَانَ بنَ يَسَارٍ عنْ عِرَاكِ بنِ مَالِكٍ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ عَلَى المَسْلِمِ فِي
فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ.
(الحَدِيث 3641 طرفه فِي: 4641) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي عين متن الحَدِيث، غير أَن فِيهِ
لَفْظَة: وَغُلَامه، زَائِدَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا فِيمَا
مضى، فسليمان بن يسَار ضد الْيَمين مر فِي: بَاب الْوضُوء،
وعراك بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء
وَفِي آخِره كَاف، مر فِي: بَاب الْوضُوء.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا هُنَا، عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد، وَعَن
سُلَيْمَان بن حَرْب عَن وهيب، كِلَاهُمَا عَن خَيْثَم بن
عرَاك بن مَالك عَن أَبِيه بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي
الزَّكَاة أَيْضا، عَن يحيى بن يحيى وَعَن عَمْرو
النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد
وَعَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن
السَّرْح وَهَارُون بن سعيد وَأحمد بن عِيسَى. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَعَن
مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن يحيى. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي كريب ومحمود بن غيلَان.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عبيد
الله بن سعيد وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد
ابْن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن
مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظه وَمن أخرجه غير السِّتَّة: وَفِي
لفظ للْبُخَارِيّ: (لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي عَبده
وَلَا فرسه) ، وَلَفظ
(9/35)
مُسلم: (لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده
وَلَا فِي فرسه صَدَقَة) ، وَفِي لفظ: (لَيْسَ فِي العَبْد
صَدَقَة إلاَّ صَدَقَة الْفطر) . وَلَفظ أبي دَاوُد:
(لَيْسَ فِي الْخَيل وَالرَّقِيق زَكَاة إلاَّ زَكَاة
الْفطر فِي الرَّقِيق) . وَفِي لفظ: (لَيْسَ على الْمُسلم
فِي عَبده وَلَا فِي فرسه صَدَقَة) . وَلَفظ
التِّرْمِذِيّ: (لَيْسَ على الْمُسلم فِي فرسه وَلَا فِي
عَبده صَدَقَة) . وَلَفظ النَّسَائِيّ، كَلَفْظِ أبي
دَاوُد الثَّانِي، وَفِي لفظ: (لَا زَكَاة على الرجل
الْمُسلم فِي عَبده وَلَا فِي فرسه) ، وَفِي لفظ: (لَيْسَ
على الْمَرْء فِي فرسه وَلَا مَمْلُوكه صَدَقَة) ، وَفِي
لفظ: (لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي غُلَامه وَلَا فِي
فرسه) . وَلَفظ ابْن مَاجَه، كَلَفْظِ مُسلم الأول، وَفِي
لفظ فِي (مُسْند عبد الله بن وهب) : (لَا صَدَقَة على
الرجل فِي خيله وَلَا فِي رَقِيقه) ، وَفِي لفظ لِابْنِ
أبي شيبَة: (وَلَا فِي وليدته) وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن
سُفْيَان عَن يزِيد بن يزِيد بن جَابر عَن عرَاك عَن أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَوَقفهُ.
وَفِي الْبَاب عَن عَليّ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه الْأَرْبَعَة. فَأَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَاصِم
بن حَمْزَة عَن عَليّ: قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (قد عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل
وَالرَّقِيق) ، وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الْحَارِث عَن
عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تجوزت
لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق) .
وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عَمْرو بن حزم، وَعمر بن
الْخطاب، وَحُذَيْفَة وَعبد الله بن عَبَّاس، وَعبد
الرَّحْمَن بن سَمُرَة، وَسمرَة بن جُنْدُب. فَحَدِيث
عَمْرو بن حزم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من
رِوَايَة سُلَيْمَان بن دَاوُد: عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي
بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده:
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل
الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات) ،
وَفِيه: (أَنه لَيْسَ فِي عَبده وَلَا فِي فرسه شَيْء) ،
وَسليمَان بن دَاوُد الحزيبي وَثَّقَهُ أَحْمد وَضَعفه
ابْن معِين. وَحَدِيث عمر بن الْخطاب وَحُذَيْفَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ أَحْمد: حَدثنَا أَبُو
الْيَمَان حَدثنَا أَبُو بكر بن عبد الله عَن رَاشد بن سعد
عَن عمر بن الْخطاب وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان (أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْخُذ من الْخَيل
وَالرَّقِيق صَدَقَة) ، وَأَبُو بكر ضَعِيف. وَحَدِيث ابْن
عَبَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) و
(الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن
أبي ليلى عَن دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (قد عَفَوْت لكم
عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق وَلَيْسَ فِيمَا دون
الْمِائَتَيْنِ زَكَاة) . وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن
سَمُرَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير)
وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن أَرقم عَن
الْحسن (عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا صَدَقَة فِي الكسعة
والجبهة والنخة) ، وَسليمَان بن أَرقم مَتْرُوك الحَدِيث.
الكسعة، بِضَم الْكَاف وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة
بعْدهَا عين مُهْملَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو
عَمْرو وَالْكسَائِيّ: هِيَ الْحمير، وَقيل: هِيَ
الرَّقِيق. والجبهة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء
الْمُوَحدَة، هِيَ الْخَيل، والنخة، بِضَم النُّون
وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة هِيَ: الرَّقِيق، قَالَه
أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو عَمْرو وَقَالَ الْكسَائي:
إِنَّهَا الْبَقر العوامل وَذكر الْفَارِسِي فِي (مجمع
الغرائب) عَن الْفراء أَن النخة أَن يَأْخُذ الْمُصدق
دِينَارا بعد فَرَاغه من الصَّدَقَة، وَقيل: النخة
الْحمير، يُقَال لَهَا: النخة والكسعة. وَقَالَ بَقِيَّة
ابْن الْوَلِيد: النخة المربيات فِي الْبيُوت، والكسعة
البغال وَالْحمير. وَحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب رَوَاهُ
الْبَزَّار، فَذكر أَحَادِيث ثمَّ قَالَ: وبإسناده (أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَأْمُرنَا
أَن لَا تخرج الصَّدَقَة من الرَّقِيق) وَإِسْنَاده
ضَعِيف.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بالأحاديث
الْمَذْكُورَة سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز
وَمَكْحُول وَعَطَاء وَالشعْبِيّ وَالْحسن وَالْحكم وَابْن
سِيرِين وَالثَّوْري وَالزهْرِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر، فَإِنَّهُم قَالُوا:
لَا زَكَاة فِي الْخَيل أصلا، وَمِمَّنْ قَالَ بقَوْلهمْ
أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد من أَصْحَابنَا، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ، أَي: على حَدِيث أبي
هُرَيْرَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب عِنْد أهل الْعلم أَنه
لَيْسَ فِي الْخَيل السَّائِمَة صَدَقَة وَلَا فِي
الرَّقِيق إِذا كَانُوا للْخدمَة صَدَقَة إلاَّ أَن
يَكُونُوا للتِّجَارَة، فَإِذا كَانُوا للتِّجَارَة فَفِي
أثمانهم الزَّكَاة إِذا حَال عَلَيْهَا الْحول، وَقَالَ
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان
وَأَبُو حنيفَة وَزفر: تجب الزَّكَاة فِي الْخَيل
المتناسلة وَذكر شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ، أَنه
مَذْهَب زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من
الصَّحَابَة وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسلم مطولا من
حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من صَاحب
كنز لَا يُؤَدِّي زَكَاته إلاَّ حمي عَلَيْهِ فِي نَار
جَهَنَّم) الحَدِيث، وَفِيه: (الْخَيل ثَلَاثَة فَهِيَ:
لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر) . الحَدِيث، ثمَّ قَالَ:
(وَأما الَّذِي هِيَ لَهُ ستر فالرجل يتخذها تكرما
وتجملاً، وَلَا ينسى حق ظُهُورهَا
(9/36)
وبطونها فِي عسرها ويسرها. .) الحَدِيث،
وَهَذَا الْمِقْدَار الَّذِي ذَكرْنَاهُ أخرجه
الطَّحَاوِيّ وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا مطولا، وَلَفظه:
(وَلَا يحبس حق ظُهُورهَا وبطونها) وَأَبُو حنيفَة وَمن
مَعَه تعلقوا بِهِ فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي الْخَيل،
وَقَالَ: إِن فِي هَذَا دَلِيلا على أَن لله فِيهَا حَقًا،
وَهُوَ كحقه فِي سَائِر الْأَمْوَال الَّتِي تجب فِيهَا
الزَّكَاة، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ:
حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن
مُحَمَّد بن أَسمَاء. قَالَ: حَدثنَا جوَيْرِية عَن مَالك
عَن الزُّهْرِيّ أَن السَّائِب بن يزِيد أخبرهُ، قَالَ:
رَأَيْت أبي يقوم الْخَيل وَيدْفَع صدقتها إِلَى عمر بن
الْخطاب، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَإِسْمَاعِيل
بن إِسْحَاق القَاضِي، وَأَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد)
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة: عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن
جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الله بن حُسَيْن أَن ابْن
شهَاب أخبرهُ أَن السَّائِب ابْن أُخْت نمرة أخبرهُ أَنه
كَانَ يَأْتِي عمر بن الْخطاب بصدقات الْخَيل، وَأخرجه
بَقِي بن مخلد فِي (مُسْنده) عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عمر:
الْخَبَر فِي صَدَقَة الْخَيل عَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، صَحِيح من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن
السَّائِب بن يزِيد، وَقَالَ ابْن رشد الْمَالِكِي فِي
(الْقَوَاعِد) : قد صَحَّ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه كَانَ يَأْخُذ الصَّدَقَة عَن الْخَيل، وروى
أَبُو عمر بن عبد الْبر بِإِسْنَادِهِ: أَن عمر بن الْخطاب
قَالَ ليعلى بن أُميَّة: تَأْخُذ من كل أَرْبَعِينَ شَاة
شَاة، وَلَا تَأْخُذ من الْخَيل شَيْئا؟ خُذ من كل فرس
دِينَارا، فَضرب على الْخَيل دِينَارا دِينَارا، وروى
أَبُو يُوسُف عَن أبي عبد الله غورك بن الخضرم السَّعْدِيّ
عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر بن عبد
الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(فِي الْخَيل فِي كل فرس دِينَار) ، ذكره فِي (الإِمَام)
عَن الدَّارَقُطْنِيّ وَرَوَاهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ وروى
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن أبي إِسْحَاق عَن
حَارِثَة بن مضرب، قَالَ: جَاءَ نَاس من أهل الشَّام إِلَى
عمر فَقَالُوا: إِنَّا قد أصبْنَا أَمْوَالًا خيلاً ورقيقا
وإماء، نحب أَن نزكيه، فَقَالَ: مَا فعله صَاحِبي قبلي
فأفعله أَنا، ثمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: حسن، وَسكت عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هُوَ حسن لَو لم يكن
جِزْيَة راتبة يَأْخُذُونَ بهَا بعْدك، فَأخذ من الْفرس
عشرَة دَرَاهِم، ثمَّ أعَاد قَرِيبا مِنْهُ بالسند
الْمَذْكُور، والقضية. وَقَالَ فِيهِ: فَوضع على كل فرس
دِينَارا.
وروى مُحَمَّد بن الْحسن فِي كتاب (الْآثَار) : أخبرنَا
أَبُو حنيفَة عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: فِي الْخَيل
السَّائِمَة الَّتِي تطلب نسلها إِن شِئْت فِي كل فرس
دِينَار أَو عشرَة دَرَاهِم، وَإِن شِئْت فَالْقيمَة،
فَيكون فِي كل مأتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم فِي كل فرس
ذكرا أَو أُنْثَى. فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ:
الْجَواب عَن قَوْله: (ثمَّ لم ينس حق الله) إِلَى آخِره
من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن حَقّهَا إعارتها وَحمل
المنقطعين عَلَيْهَا فَيكون ذَلِك على وَجه النّدب.
وَالثَّانِي: أَن يكون وَاجِبا، ثمَّ نسخ بِدَلِيل قَوْله:
(قد عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل) ، إِذْ الْعَفو لَا
يكون إلاَّ عَن شَيْء لَازم. قلت: الَّذِي يكون على وَجه
النّدب لَا يُطلق عَلَيْهِ حق، وَأَيْضًا فَالْمُرَاد بِهِ
صَدَقَة خيل الْغَازِي، وَفِي (الْأَسْرَار) للدبوسي: لما
سمع زيد بن ثَابت حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا قَالَ: صدق
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه أَرَادَ فرس
الْغَازِي. وَأما مَا طلب نسلها ورسلها فَفِيهَا الزَّكَاة
فِي كل فرس دِينَار أَو عشرَة دَرَاهِم، قَالَ أَبُو زيد:
وَمثل هَذَا لَا يعرف قِيَاسا، فَثَبت أَنه مَرْفُوع،
وَأما النّسخ فَإِنَّهُ لَو كَانَ اشْتهر فِي زمن
الصَّحَابَة لما قرر عمر الصَّدَقَة فِي الْخَيل، وَأَن
عُثْمَان مَا كَانَ يصدقها. فَإِن قلت: روى مَالك عَن ابْن
شهَاب عَن سُلَيْمَان ابْن يسَار أَن أهل الشَّام قَالُوا
لأبي عُبَيْدَة بن الجراج: خُذ من خَيْلنَا ورقيقنا
صَدَقَة فَأبى، ثمَّ كتب إِلَى عمر فَأبى عمر، ثمَّ
كَلمُوهُ أَيْضا فَكتب إِلَى عمر فَكتب إِلَيْهِ عمر: إِن
احبوا فَخذهَا مِنْهُم وارددها عَلَيْهِم وارزق رقيقهم،
فَفِي إباء أبي عُبَيْدَة وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، من الْأَخْذ من أهل الشَّام مَا ذكرُوا من
رقيقهم وخيلهم دلَالَة وَاضِحَة أَنه لَا زَكَاة فِي
الرَّقِيق وَلَا فِي الْخَيل، وَلَو كَانَت الزَّكَاة
وَاجِبَة فِي ذَلِك مَا امتنعا من أَخذ مَا أوجب الله
عَلَيْهِم أَخذه لأَهله وَوَضعه فيهم. قلت: هَذَا
يُعَارضهُ مَا ذَكرْنَاهُ من عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ، وَغَيره،
وَفِي (شرح مُخْتَصر الْكَرْخِي) و (شرح التَّجْرِيد) :
إِن شَاءَ أدّى ربع عشر قيمتهَا، وَإِن شَاءَ أدّى عَن كل
فرس دِينَارا. وَفِي (جَامع الْفِقْه) : يجب فِي الْإِنَاث
والمختلطة عِنْده لكل فرس دِينَار، وَقيل: ربع عشر
قيمتهَا، وَفِي (أَحْكَام الْقُرْآن) للرازي: إِن كَانَت
إِنَاثًا أَو ذُكُورا وإناثا يجب، وَفِي (الْبَدَائِع) :
الْخَيل إِن كَانَت تعلف للرُّكُوب أَو الْحمل أَو
الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَلَا زَكَاة فِيهَا
إِجْمَاعًا، وَإِن كَانَت للتِّجَارَة تجب إِجْمَاعًا،
وَإِن كَانَت تسام للدر والنسل وَهِي ذُكُور وإناث يجب
عِنْده فِيهَا الزَّكَاة حولا وَاحِدًا، وَفِي الذُّكُور
المنفردة وَالْإِنَاث المنفردة رِوَايَتَانِ. وَفِي
(الْمُحِيط) : الْمَشْهُور عدم الْوُجُوب فيهمَا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور: جَوَاز
قَول: غُلَام فلَان وَجوَار فلَان. وَفِي (الصَّحِيح)
(9/37)
(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن يَقُول الرجل: عَبدِي وَأمتِي، وَليقل: فَتَاي
وَفَتَاتِي) .
64 - (بابٌ لَيْسَ عَلَى المُسْلِمُ فِي عَبْدِهِ
صَدَقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَيْسَ على الْمُسلم فِي
عَبده صَدَقَة، أورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة بترجمتين
الأولى: بِلَفْظ: غُلَامه. وَالثَّانيَِة: بِلَفْظ: عَبده،
الْغُلَام، فِي اللُّغَة اسْم للصَّبِيّ الَّذِي فطم إِلَى
سبع سِنِين، وَفِي اصْطِلَاح النَّاس يُطلق على العَبْد
وعَلى الْحر الَّذِي يخْدم النَّاس، وَفِي (الْمغرب) :
الْغُلَام الطار الشَّارِب، ويستعار للْعَبد، وَغُلَام
الْقصار أجيره، وَالْجمع: غلمة وغلمان، وَالْعَبْد خلاف
الْحر، وَيجمع على: عبيد وأعبد وَعباد وعبدان، بِالضَّمِّ،
وعبدان، بِالْكَسْرِ، وعبدان مُشَدّدَة الدَّال، وعبدا تمد
وتقصر ومعبوداء بِالْمدِّ، وَحكى الْأَخْفَش: عبد،
بِضَمَّتَيْنِ مثل سقف وسقف، وَالْمرَاد بالغلام فِي
الحَدِيث: العَبْد الَّذِي فِي الرَّقَبَة.
4641 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ
سَعِيدٍ عنْ خُثَيْمِ بنِ عِرَاكٍ قَالَ حدَّثني أبي عنْ
أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ
قَالَ حدَّثنا وُهَيْبُ بنُ خَالِدٍ قَالَ حدَّثنا
خُثَيْمُ بنُ عِرَاكِ بنِ مالِكٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ صَدَقَةٌ
فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 3641) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله سَبْعَة، وَيحيى
هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وخثيم، بِضَم الْخَاء وَفتح
الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف:
ابْن عرَاك بن مَالك الْغِفَارِيّ، ووهيب مصغر وهب.
قَوْله: (فِي عَبده) مُطلق لكنه مُقَيّد بِمَا ثَبت فِي
(صَحِيح مُسلم) لَيْسَ فِي العَبْد إلاَّ صَدَقَة الْفطر،
هَذَا إِذا لم يكن للتِّجَارَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى فِي الْبَاب السَّابِق، وَالله أعلم بِحَقِيقَة
الْحَال.
74 - (بابُ الصَّدَقَةِ عَلَى اليَتَامَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّدَقَة على الْيَتَامَى،
وَذكر لفظ: الصَّدَقَة، لكَونهَا أَعم من صَدَقَة
التَّطَوُّع، وَمن صَدَقَة الْفَرْض، قيل: عبر
بِالصَّدَقَةِ دون الزَّكَاة لتردد الْخَبَر بَين صَدَقَة
الْفَرْض والتطوع، لكَون ذكر الْيَتِيم جَاءَ متوسطا بَين
الْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل وهما من مصارف الزَّكَاة.
قلت: إِنَّمَا ذكر لفظ الصَّدَقَة لعمومها وشمولها
الْقسمَيْنِ، وَالصَّدَََقَة مُطلقًا مَرْغُوب فِيهَا،
ولفاعلها أجر عَظِيم وثواب جزيل إِذا وَقعت لمستحقها،
وَذكر فِي الحَدِيث هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أَعنِي:
الْمِسْكِين واليتيم وَابْن السَّبِيل، فالمسكين وَابْن
السَّبِيل مصرفان لِلزَّكَاةِ ولصدقة التَّطَوُّع،
بِخِلَاف الْيَتِيم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يكون مصرفا إِذا
كَانَ فَقِيرا، والشارع مدح الَّذِي يتَصَدَّق على
هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ لفظ:
وخصهم بِالذكر دون هذَيْن الْإِثْنَيْنِ للاهتمام بهم،
وَحُصُول الْأجر فِي الصَّدَقَة عَلَيْهِم أَكثر من
غَيرهم، وَقد ورد فِي الحَدِيث: أَن الصَّدَقَة على
الْيَتِيم تذْهب قساوة الْقلب.
5641 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ عنْ يَحْيى عنْ هِلالِ بنِ أبي مَيْمُونَةَ قَالَ
حدَّثنا عَطَاءُ بنُ يَسَارٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ
الخدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يُحَدِّثُ أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ
عَلَى المِنْبَرِ وجَلَسْنا حَوْلَهُ فَقَالَ إنِّي مِمَّا
أخافُ عَلَيكُمْ من بعدِي مَا يفتح عَلَيْكُم مِن زَهْرةِ
الدُّنيَا وَزِينَتِهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رسولَ الله أوَ
يأتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ فسَكتَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقيلَ لَهُ مَا شَأنُكَ تُكَلِّمُ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ يُكَلِّمُكَ فَرأيْنَا
أنَّهُ يُنْزَلُ عَليهِ قَالَ فمسَحَ عنهُ الرُّحْضَاءَ
فَقَالَ أينَ السَّائِلُ وكأنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ إنَّهُ
لَا يَأتِي الخَيرُ بِالشَّرِّ وَإنَّ مِمَّا يُنْبِتُ
الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطا أوْ يُلِمُّ إلاَّ آكِلَةَ
الخَضْرَاءِ أكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَدَّتْ خاصِرَتَاهَا
استَقْبلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فثَلَطتْ وبَالَتْ وَرَتعَتْ
وَإنَّ هاذا المَالَ
(9/38)
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فنَعِمَ صَاحبُ
المُسْلِمِ مَا أعْطَى منهُ المِسْكِينَ واليَتِيمَ وَابنَ
السَّبِيلِ أوْ كَما قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَإنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كالَّذِي
يَأكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ ويَكُونُ شَهِيدا عَلَيْهِ يَوْمَ
القِيَامَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واليتيم) ، وَذكر وَجه
تَخْصِيصه بِالذكر.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: معَاذ، بِضَم الْمِيم
ابْن فضَالة بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الضَّاد
الْمُعْجَمَة، مر فِي بَاب من اتخذ ثِيَاب الْحيض.
الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي
كثير. الرَّابِع: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال:
هِلَال بن أبي هِلَال وَهُوَ هِلَال بن عَليّ، وَيُقَال:
ابْن أُسَامَة الفِهري، وَمن قَالَ: هِلَال بن أبي
مَيْمُونَة ينْسبهُ إِلَى جد أَبِيه، وَقد ذكر فِي أول
كتاب الْعلم. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين، وَقد
مر فِي: بَاب كفران العشير، السَّادِس: أَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي وَهِشَام أهوازي وَيحيى
طائي يمامي وهلال مدنِي، وَكَذَا عَطاء. وَفِيه: إثنان
مذكوران بِلَا نِسْبَة. وَفِيه: من ينْسب إِلَى جد أَبِيه
وَهُوَ: هِلَال.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِهَاد: عَن مُحَمَّد بن سِنَان، وَفِي
الرقَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي
الزَّكَاة عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَعَن عَليّ بن
حجر، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ذَات يَوْم) ، مَعْنَاهُ: جلس
قِطْعَة من الزَّمَان، فَيكون: ذَات يَوْم، صفة للقطعة
الْمقدرَة وَلم تتصرف لِأَن إضافتها من قبيل إِضَافَة
الْمُسَمّى إِلَى الإسم، وَلَيْسَ لَهُ تمكن فِي
الظَّرْفِيَّة الزمانية لِأَنَّهُ لَيْسَ من أَسمَاء
الزَّمَان. قَوْله: (إِن مِمَّا أَخَاف) ، كلمة مَا يجوز
أَن تكون مَوْصُولَة وَالتَّقْدِير أَن من الَّذِي أَخَاف
وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة فالتقدير أَن من خوفي
عَلَيْكُم وَقَوله: (مَا يفتح عَلَيْكُم) فِي مَحل النصب
لِأَنَّهُ اسْم: إِن (وَمِمَّا أَخَاف) مقدما خَبره،
وَكلمَة: مَا، فِي: مَا يفتح، تحْتَمل الْوَجْهَيْنِ
أَيْضا. قَوْله: (من زهرَة الدُّنْيَا) أَي: من حسنها
وبهجتها، مَأْخُوذَة من زهرَة الْأَشْجَار، وَهُوَ مَا
يصغر من أنوارها، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ
الْأَبْيَض مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الزهر والنور
سَوَاء، وَفِي (مجمع الغرائب) : هُوَ مَا يزهر مِنْهَا من
أَنْوَاع الْمَتَاع وَالْعين وَالثيَاب والزروع وَغَيرهَا
تغر الْخلق بحسنها مَعَ قلَّة بَقَائِهَا. وَفِي
(الْمُحكم) : زهر الدُّنْيَا وزهرتها يَعْنِي، بتسكين
الْهَاء وَفتحهَا. وَفِي (الْجَامِع) : وزهرها. قَوْله:
(أَو يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ؟) الْهمزَة للاستفهام،
وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر بعد الْهمزَة، وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: الِاسْتِفْهَام فِيهِ استرشاد مِنْهُم، وَمن
ثمَّة حمد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، السَّائِل، وَالْبَاء
فِي: بِالشَّرِّ، صلَة يَأْتِي بِمَعْنى: هَل يستجلب
الْخَيْر الشَّرّ؟ وَجَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا
يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ، لَكِن قد يكون سَببا لَهُ
ومؤديا إِلَيْهِ كَمَا يَأْتِي فِي التَّمْثِيل. وَفِي
(التَّلْوِيح) : هَذَا سُؤال مستبعد لما سَمَّاهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بركَة، وَسَماهُ الله
تَعَالَى خيرا بقوله: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد}
(العاديات: 8) . فَأُجِيب بِأَن هَذَا الْخَيْر قد يعرض
لَهُ مَا يَجعله شرا إِذا أسرف فِيهِ وَمنع من حَقه،
وَلذَلِك قَالَ: (أَو خير هُوَ؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام
وواو الْعَطف الْوَاقِعَة بعْدهَا الْمَفْتُوحَة على
الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، مُنْكرا على من توهم أَنه لَا
يحصل مِنْهُ شَرّ أصلا، لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالْعرضِ،
وَقَالَ التَّيْمِيّ: أتصير النِّعْمَة عُقُوبَة؟ أَي: إِن
زهرَة الدُّنْيَا نعْمَة من الله على الْخلق أتعود هَذِه
النِّعْمَة وبالاً عَلَيْهِم؟ قَوْله: (فَسكت، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، يَعْنِي انتظارا للوحي، فلام الْقَوْم
هذاالسائل، وَقَالُوا لَهُ: مَا شَأْنك تكلم رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يكلمك؟ قَوْله:
(فَرَأَيْنَا) من الرُّؤْيَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
فأرينا، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء، ويروى:
فَرَأَيْنَا، بِضَم الرَّاء، أَي: ظننا، وكل مَا جَاءَ من
هَذَا اللَّفْظ بِمَعْنى رُؤْيَة الْعين فَهُوَ مَفْتُوح
الأول، وَمَا كَانَ من الظَّن والحسبان فَهُوَ أرِي وأريت،
بِضَم الْهمزَة. قَوْله: (إِنَّه ينزل عَلَيْهِ) على
صِيغَة الْمَجْهُول يَعْنِي: الْوَحْي. قَوْله: (فَمسح
عَنهُ الرحضاء) ، بِضَم الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة
وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: هُوَ عرق يغسل الْجلد لكثرته،
وَكَثِيرًا مَا يسْتَعْمل فِي عرق الْحمى والمرضى. وَقَالَ
الْأَصْمَعِي: الرحضاء: الْعرق حَتَّى كَأَنَّهُ رحض جسده
من الْعرق، أَي: غسل. ووزنه: فعلاء، بِضَم الْفَاء وَفتح
الْعين، وَجَاءَت أَمْثِلَة على هَذَا الْوَزْن مِنْهَا:
العدواء: الشّغل، والعرواء: الرعدة، وَالْخُيَلَاء من
الاختيال والتكبر، والصعداء، من قَوْلهم: هُوَ يتنفس
الصعداء، من غم أَي: يصاعد نَفسه. قَوْله: (وَكَأَنَّهُ
حَمده) أَي: وَكَأن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
حمد السَّائِل وَكَانَ النَّاس ظنُّوا أَنه، صلى الله
(9/39)
عَلَيْهِ وَسلم، أنكر مَسْأَلته فَلَمَّا
رَأَوْهُ يسْأَل عَنهُ سُؤال راضٍ علمُوا أَنه حَمده،
فَقَالَ: إِنَّه لَا يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ، أَي:
إِن مَا قضى الله أَن يكون خيرا يكون خيرا، وَمَا قَضَاهُ
أَن يكون شرا يكون شرا، وَأَن الَّذِي خفت عَلَيْكُم:
تضييعكم نعم الله، وصرفكم إِيَّاهَا فِي غير مَا أَمر
الله، وَلَا يتَعَلَّق ذَلِك بِنَفس النِّعْمَة وَلَا
ينْسب إِلَيْهَا، ثمَّ ضرب لذَلِك مثلا فَقَالَ: (وَإِن
مِمَّا ينْبت الرّبيع. .) إِلَى آخِره، ينْبت، بِضَم
الْيَاء من الإنبات. قَوْله: (يقتل أَو يلم) ، قَالَ
الْقَزاز: هَذَا حَدِيث جرى فِيهِ البُخَارِيّ على عَادَته
فِي الِاخْتِصَار والحذف، لِأَن قَوْله (فَرَأَيْنَا أَنه
ينزل عَلَيْهِ) يُرِيد الْوَحْي، وَفِي قَوْله: (وَإِن
مِمَّا ينْبت الرّبيع يقتل أَو يلم) حذف: مَا، أَي كلمة:
مَا، قبل: يقتل، وَحذف: حَبطًا، والْحَدِيث: (إِن مِمَّا
ينْبت الرّبيع مَا يقتل حَبطًا أَو يلم) ، فَحذف: حَبطًا،
وَحذف: مَا. قَالَ الْقَزاز: وروينا بهما، وَفِي نُسْخَة
صَاحب (التَّلْوِيح) لفظا: حَبطًا، مَوْجُود، وغالب النّسخ
لَيْسَ فِيهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: سقط فِي الْكَلَام من
الرِّوَايَة: مَا، وَتَقْدِيره: مَا يقتل. قلت: لَا بُد من
تَقْدِير كلمة: مَا، لِأَن قَوْله: (ينْبت الرّبيع) ، فعل
وفاعل وَلَا يصلح أَن يكون لفظ: يقتل، مَفْعُولا إلاَّ
بِتَقْدِير: مَا، وَقَوله: (حَبطًا) ، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وانتصابه على
التَّمْيِيز، وَهُوَ دَاء يُصِيب الْإِبِل، وَقَالَ ابْن
سَيّده: هُوَ وجع يَأْخُذ الْبَعِير فِي بَطْنه من كلاء
يستوبله، وَقد حَبط حَبطًا فَهُوَ حَبط، وإبل حباطي وحبطة،
وحبطت الشَّاة حَبطًا: انتفخ بَطنهَا عَن أكل الدرق،
وَذَلِكَ الدَّاء الحباط. قَوْله: (أَو يلم) من
الْإِلْمَام أَي: أَو يقرب وَيَدْنُو من الْهَلَاك.
قَوْله: (إِلَّا آكِلَة الْخضر) ، بِفَتْح الْخَاء وَكسر
الضَّاد المعجمتين وَفِي آخِره رَاء، وَوَقع فِي رِوَايَة
العذري: (إلاَّ آكِلَة الخضرة) ، بِالتَّاءِ فِي آخِره.
وَعند الطَّبَرِيّ: (الخضرة) ، بِضَم الْخَاء وَسُكُون
الضَّاد، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: الخضراء، بِزِيَادَة
ألف قبل الِاسْتِثْنَاء مفرغ، وَالْأَصْل: مِمَّا ينْبت
الرّبيع مَا يقتل آكله إلاَّ آكِلَة الْخضر، وَإِنَّمَا
صَحَّ الِاسْتِثْنَاء المفرغ لقصد التَّعْمِيم فِيهِ،
وَنَظِيره: قَرَأت إلاَّ يَوْم كَذَا. وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: وَالْأَظْهَر أَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع
لوُقُوعه فِي الْكَلَام الْمُثبت، وَهُوَ غير جَائِز عِنْد
صَاحب (الْكَشَّاف) إلاَّ بالتأويل، وَلِأَن مَا يقتل
حَبطًا بعض مَا ينْبت الرّبيع لدلَالَة: من، التبعيضية
عَلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا،
لَكِن يجب التَّأْوِيل فِي المستثننى، وَالْمعْنَى: من
جملَة مَا ينْبت الرّبيع شَيْئا يقتل آكله إلاَّ الْخضر
مِنْهُ إِذا اقتصد فِيهِ آكله وتحرى دفع مَا يُؤَدِّيه
إِلَى الْهَلَاك. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن آكِلَة
الْخضر، قَالَ الْخطابِيّ: الْخضر لَيْسَ من أَحْرَار
الْبُقُول الَّتِي تستكثر مِنْهُ الْمَاشِيَة فتهلكه أكلا،
وَلكنه من الجنبة الَّتِي ترعى الْمَاشِيَة مِنْهَا بعد
هيج العشب ويبسه، وَأكْثر مَا تَقول الْعَرَب لما اخضر من
الكلاء الَّذِي لم يصفر، والماشية من الْإِبِل ترتع
مِنْهَا شَيْئا فَشَيْئًا، فَلَا تستكثر مِنْهُ فَلَا تحبط
بطونها عَلَيْهِ. قَوْله: (حَتَّى إِذا امتدت خاصرتاها)
يَعْنِي: إِذا امْتَلَأت شبعا وَعظم جنباها، والخاصرة:
الْجنب اسْتقْبلت الشَّمْس لِأَنَّهُ الْحِين الَّذِي
تشْتَهي فِيهِ الشَّمْس، وَجَاءَت وَذَهَبت (فثلطت)
بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَي: أَلْقَت السرقين،
وَقَالَ ابْن التِّين: ثَلَطَتْ، ضَبطه بَعضهم بِفَتْح
اللَّام وَبَعْضهمْ بِكَسْرِهَا، وَفِي (الْمُحكم) : ثلط
الثور وَالْبَعِير وَالصَّبِيّ، يثلط ثلطا: سلح سلحا
رَقِيقا. وَفِي (مجمع الغرائب) : خرج رجيعها عفوا من غير
مشقة لاسترخاء ذَات بَطنهَا فَيبقى نَفعهَا وَيخرج فضولها
وَلَا يتَأَذَّى بهَا. وَفِي (الْعباب) و (المغيث) :
وَأكْثر مَا يُقَال للبعير والفيل. قَوْله: (ورتعت) أَي:
رعت، وارتع إبِله أَي: رعاها فِي الرّبيع، وأرتع الْفرس
وتربع: أكل الرّبيع، وَقَالَ الدَّاودِيّ: رتعت افتعل من
الرَّعْي قلت: لَيْسَ كَذَلِك، وَلَا يَقُول هَذَا إلاَّ
من لم يمس شَيْئا من علم التصريف. قَوْله: (وَإِن هَذَا
المَال خضر) ، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد المعجمتين،
وَإِنَّمَا سمي الْخضر خضرًا لحسنه ولإشراق وَجهه،
وَالْخضر عبارَة عَن الْحسن، وَهِي من أحسن الألوان،
ويروى: خضرَة، بتاء التَّأْنِيث، وَالْوَجْه فِيهِ أَن
يُقَال: إِنَّمَا أنث على معنى تَأْنِيث الْمُشبه بِهِ،
أَي: هَذَا المَال شَيْء كالخضرة، وَقيل: مَعْنَاهُ
كالبقلة الخضرة، أَو يكون على معنى فَائِدَة المَال أَي:
الْحَيَاة بِهِ والمعيشة خضرَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ:
يُمكن أَن يعبر عَن المَال بالدنيا لِأَنَّهُ أعظم زينتي
الْحَيَاة الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {المَال والبنون
زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا} (الْكَهْف: 64) . وَقَالَ
الْخطابِيّ يُريدَان صُورَة الدُّنْيَا حَسَنَة المنظر
موثقة تعجب النَّاظر وَلذَلِك أنث اللَّفْظَيْنِ يَعْنِي
خضرَة حلوة وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَله وَجه آخر وَهُوَ
أَن تكون التَّاء للْمُبَالَغَة، نَحْو: رجل راوية وعلامة.
قَوْله: (وَنعم صَاحب الْمُسلم) ، إِلَى آخِره، يَقُول:
إِن من أعطي مَالا وسلط على هَلَكته فِي الْحق فَأعْطى من
فَضله الْمِسْكِين وَغَيره، فَهَذَا المَال المرغوب فِيهِ.
قَوْله: (أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) شكّ من يحيى. قَوْله: (وَإنَّهُ من يَأْخُذهُ) أَي:
وَإِن المَال من يَأْخُذهُ بِغَيْر حَقه، بِأَن جمعه من
الْحَرَام
(9/40)
أَو من غير احْتِيَاج إِلَيْهِ وَلم يخرج
مِنْهُ حَقه الْوَاجِب فِيهِ، فَهُوَ كَالَّذي يَأْكُل
وَلَا يشْبع، يَعْنِي: أَنه كلما نَالَ مِنْهُ شَيْئا
ازدادت رغبته واستقل مَا فِي يَده، وَنظر إِلَى مَا فَوْقه
فينافسه. قَوْله: (فَيكون عَلَيْهِ شَهِيدا يَوْم
الْقِيَامَة) ، يحْتَمل الْبَقَاء على ظَاهره، وَهُوَ أَنه
يجاء بِمَالِه يَوْم الْقِيَامَة فينطق الصَّامِت مِنْهُ
مَا فعل بِهِ أَو يمثل لَهُ بمثال حَيَوَان أَو يشْهد
عَلَيْهِ الموكلون بكتب الْكسْب والأنفاق وَقيل: معنى
قَوْله: (وَيكون عَلَيْهِ شَهِيدا) أَي: حجَّة عَلَيْهِ
يَوْم الْقِيَامَة، يشْهد على صرفه وإسرافه وَأَنه أنفقهُ
فِيمَا لَا يرضاه الله تَعَالَى، وَلم يؤد حَقه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مثلان ضربهما النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَحدهمَا: للمفرط فِي جمع
الدُّنْيَا ومنعها من حَقّهَا، وَالْآخر: للمقتصد فِي
أَخذهَا، فَأَما قَوْله: (وَإِن مِمَّا ينْبت الرّبيع)
فَهُوَ مثل المفرط الَّذِي يَأْخُذهَا بِغَيْر حق،
وَذَلِكَ أَن الرّبيع ينْبت أَحْرَار العشب فتستكثر
مِنْهَا الْمَاشِيَة حَتَّى تنتفخ بطونها، لما قد جَاوَزت
حد الِاحْتِمَال، فَتَنْشَق أمعاؤها مِنْهَا فتهلك،
كَذَلِك الَّذِي يجمع الدُّنْيَا من غير حلهَا، وَيمْنَع
ذَا الْحق حَقه يهْلك فِي الْآخِرَة بِدُخُولِهِ النَّار.
وَأما قَوْله: (إلاَّ آكِلَة الْخضر) فَهُوَ مثل المقتصد،
وَذَلِكَ أَن الْخضر لَيْسَ من أَحْرَار الْبُقُول الَّتِي
ينبتها الرّبيع، وَلكنهَا من الجنبة الَّتِي ترعاها
الْمَوَاشِي بعد هيج الْبُقُول، فَضَربهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مثلا لمن يقتصد فِي أَخذ الدُّنْيَا
وَجَمعهَا وَلَا يحملهُ الْحِرْص على أَخذهَا بِغَيْر
حَقّهَا، فَهُوَ نَاجٍ من وبالها كَمَا نجت آكِلَة الْخضر.
وَقيل: الرّبيع قد ينْبت أَحْرَار العشب والكلأ فَهِيَ
كلهَا خير فِي نَفسهَا، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرّ من قبل
آكل مستلذ مفرط منهمك فِيهَا بِحَيْثُ تنتفخ أضلاعه مِنْهُ
وتمتلىء خاصرتاه، وَلَا يقْلع عَنهُ فيهلكه سَرِيعا، وَمن
أكل كَذَا فيشرفه إِلَى الْهَلَاك، وَمن: أكل مُسْرِفًا
حَتَّى تنتفخ خاصرتاه وَلكنه يتوخى إِزَالَة ذَلِك ويتحيل
فِي دفع مضرتها حَتَّى يهضم مَا أكل وَمن أكل غير مفرط
وَلَا مُسْرِف يَأْكُل مِنْهَا مَا يسد جوعه وَلَا يسرف
فِيهِ حَتَّى يحْتَاج إِلَى دَفعه، وَمن أكل مَا يسد بِهِ
رمقه وَيقوم بِهِ طَاعَته. الأول: مِثَال الْكَافِر، وَمن
ثمَّة أكد الْقَتْل بالحبط أَي: يقتل قتلا حَبطًا،
وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يحبط أَعماله. وَالثَّانِي:
مِثَال الْمُؤمن الظَّالِم لنَفسِهِ المنهمك فِي
الْمعاصِي. وَالثَّالِث: مِثَال المقتصد. وَالرَّابِع:
مِثَال السَّابِق الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا الرَّاغِب فِي
الْآخِرَة، هَذَا الْوَجْه يفهم من الحَدِيث، وَإِن لم
يُصَرح بِهِ، وَفِي كَلَام النَّوَوِيّ إِشْعَار بِهَذَا.
وَفِيه: جَوَاز ضرب الْأَمْثَال بالأشياء التافهة
وَالْكَلَام الوضيع كالبول وَنَحْوه.
وَفِيه: جَوَاز عرض التلميذ على الْعَالم الْأَشْيَاء
المجملة، وَأَن للْعَالم إِذا سُئِلَ عَن شَيْء أَن يُؤَخر
الْجَواب حَتَّى يتَيَقَّن. وَفِيه: أَن السُّؤَال إِذا لم
يكن فِي مَوْضِعه يُنكر على سائله. وَفِيه: أَن الْعَالم
إِذا سُئِلَ عَن شَيْء وَلم يستحضر جَوَابه أَو أشكل
عَلَيْهِ يُؤَخر الْجَواب حَتَّى يكْشف الْمَسْأَلَة
مِمَّن فَوْقه من الْعلمَاء، كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي سُكُوته حَتَّى استطلعها من قبل الْوَحْي.
وَفِيه: أَن كسب المَال من غير حلّه غير مبارك فِيهِ،
وَالله تَعَالَى يرفع عَنهُ الْبركَة كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {يمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: 672) .
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد: مِثَال المَال مِثَال
الْحَيَّة الَّتِي فِيهَا ترياق نَافِع وسم ناقع، فَإِن
أَصَابَهَا المعزم الَّذِي يعرف وَجه الِاحْتِرَاز من
شَرها وَطَرِيق اسْتِخْرَاج ترياقها النافع كَانَت نعْمَة،
وَإِن أَصَابَهَا السوادي الْغَنِيّ فَهِيَ عَلَيْهِ بلَاء
مهلك. وَفِيه: أَن للْعَالم أَن يحذر من يجالسه من فتْنَة
المَال، وينبههم على مَوَاضِع الْخَوْف، كَمَا قَالَ، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: {إِنَّمَا أَخَاف عَلَيْكُم}
(الْبَقَرَة: 672) . فوصف لَهُم مَا يخَاف عَلَيْهِم ثمَّ
عرفهم بمداواة تِلْكَ الْفِتْنَة، وَهِي إطْعَام
الْمِسْكِين وَنَحْوه. وَفِيه: الحض على الاقتصاد فِي
المَال والحث على الصَّدَقَة وَترك الْإِمْسَاك. قَالَ
الْكرْمَانِي وَفِيه: حجَّة لمن يرجح الْغَنِيّ على
الْفقر. قلت: هَذَا الْكَلَام عكس مَا نقل عَن الْمُهلب،
فَإِنَّهُ قَالَ: احْتج قوم بِهَذَا الحَدِيث فِي تَفْضِيل
الْفقر على الْغنى، وَلَيْسَ كَمَا تأولوه، لِأَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخْش عَلَيْهِم مَا يفتح
عَلَيْهِم من زهرَة الدُّنْيَا إلاَّ إِذا ضيعوا مَا
أَمرهم الله تَعَالَى بِهِ فِي إِنْفَاق حَقه. قلت: جمع
المَال غير محرم، وَلَكِن الاستكثار مِنْهُ وَالْخُرُوج
عَن حد الاقتصاد فِيهِ ضار، كَمَا أَن الاستكثار من المآكل
مسقم من غير تَحْرِيم للآكل، وَلَكِن الاقتصاد فِيهِ هُوَ
الْمَحْمُود. وَفِيه: جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر
عِنْد الموعظة وجلوس النَّاس حوله. وَفِيه: خوف المنافسة
لقَوْله: (إِنَّمَا أَخَاف عَلَيْكُم من بعدِي مَا يفتح
عَلَيْكُم من زهرَة الدُّنْيَا) . وَفِيه: استفهامهم
بِضَرْب الْمثل. وَفِيه: مسح الرحضاء للشدة الْحَاصِلَة.
وَفِيه: دُعَاء السَّائِل لقَوْله: (أَيْن السَّائِل؟)
وَفِيه: ظُهُور الْبُشْرَى لقَوْله: (وَكَأَنَّهُ حَمده)
أَي: لما رأى فِيهِ من الْبُشْرَى لِأَنَّهُ كَانَ إِذا سر
برقتْ أسارير وَجهه. وَالله أعلم.
(9/41)
84 - (بابُ الزَّكَاةِ علَى الزَّوْجِ
وَالأيْتامِ فِي الحَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صرف الزَّكَاة على الزَّوْج
وعَلى الْأَيْتَام الَّذين فِي حجر الْمُنفق، الْحجر،
بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَالْمرَاد بِهِ الحضن. وَفِي
(الْمطَالع) إِذا أُرِيد بِهِ الْمصدر فالفتح لَا غير،
وَإِن أُرِيد الِاسْم فالكسر لَا غير، وَحجر الْكَعْبَة
بِالْكَسْرِ لَا غير، وَإِنَّمَا أعَاد الْأَيْتَام هُنَا،
مَعَ أَنه ذكر فِي الْبَاب السَّابِق لِأَن الأول فِيهِ
الْعُمُوم، وَفِي هَذَا الْخُصُوص. قيل: وَجه
الِاسْتِدْلَال بهما على الْعُمُوم لِأَن الْإِعْطَاء أَعم
من كَونه وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا. قلت: لَا نسلم عُمُوم
جَوَاز الْإِعْطَاء، بل الْوَاجِب لَهُ حكم، وَالْمَنْدُوب
لَهُ حكم. أما الْوَاجِب فَلِأَن فِي إِعْطَاء الزَّوْجَة
زَكَاتهَا فِيهِ خلاف، كَمَا ذكرنَا. وَكَذَلِكَ
الْإِعْطَاء للأيتام إِنَّمَا يجوز بِشَرْط الْفقر، وَأما
الْمَنْدُوب فَلَا كَلَام فِيهِ.
قالَهُ أبُو سَعيدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ الْمَذْكُور من الزَّكَاة على الزَّوْج
والأيتام أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَفِي (التَّلْوِيح) :
هَذَا التَّعْلِيق تقدم مُسْندًا عِنْد البُخَارِيّ فِي:
بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب، وَقَالَ بَعضهم: يُشِير
إِلَى حَدِيثه السَّابِق مَوْصُولا فِي: بَاب الزَّكَاة
على الْأَقَارِب. قلت: لَيْسَ فِيهِ ذكر الْأَيْتَام أصلا،
وَلِهَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: هُوَ الحَدِيث الَّذِي
رَوَاهُ فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
6641 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ
حدَّثنا الأعْمشُ قَالَ حدَّثني شَقيقٌ عنْ عَمْرِو بنِ
الحَارِثِ عنْ زَيْنَبَ امْرَأةِ عَبْدِ الله رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ فَذَكَرْتُهُ لإبراهِيمَ
فحَدَّثني إبْرَاهِيمُ عنْ أبِي عُبَيْدَةَ عنْ عَمْرِو
بنِ الحَارِثِ عنْ زَيْنَبَ امْرَأةِ عَبْدِ الله
بِمِثْلِهِ سَوَاءً قالَتْ كُنْتُ فِي المَسْجدِ فرَأيْتُ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تَصَدَّقْنَ
ولَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وكانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلى
عَبْدِ الله وأيْتامٍ فِي حَجْرِهَ قَالَ فقَالَتْ
لَعَبْدِ الله سَلْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أيَجْزِي عَنِّي أَن أُنْفِقَ علَيْكَ وعَلَى أيْتَامِي
فِي حَجْري مِنَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أنْتِ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانْطَلَقْتُ إلَى النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَجَدْتُ امْرأةً مِنَ
الأنْصَارِ عَلَى البَابِ حاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي
فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاٍ لٌ فقُلْنَا سَلِ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أيَجْزِي عَنِّي أنْ أُنْفِقَ عَلَى
زَوْجِي وَأيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وقُلْنَا لاَ تُخْبِرْ
بِنَا فدَخَلَ فسَألَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ
قَالَ أيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأةُ عَبْدِ الله قالَ
نعَمْ ولَهَا أجْرَانِ أجْرُ القَرَابَةِ وَأجْرُ
الصَّدَقَة.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: ثَمَانِيَة: الأول: عمر بن حَفْص أَبُو
حَفْص النَّخعِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: أَبُو
حَفْص بن غياث بن طلق. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش.
الرَّابِع: شَقِيق أَبُو وَائِل، وَقد مر عَن قريب.
الْخَامِس: عَمْرو ابْن الْحَارِث بن أبي ضرار، بِكَسْر
الضَّاد الْمُعْجَمَة: الْخُزَاعِيّ ثمَّ المصطلقي، بِضَم
الْمِيم وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الطَّاء
الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالقاف: أَخُو جوَيْرِية بنت
الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ
صُحْبَة. السَّادِس: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. السَّابِع:
أَبُو عُبَيْدَة، بِضَم الْعين: واسْمه عَامر بن عبد الله
بن مَسْعُود، وَيُقَال: اسْمه كنيته. الثَّامِن: زَيْنَب
بنت مُعَاوِيَة، وَيُقَال: بنت عبد الله بن مُعَاوِيَة بن
عتاب الثقفية، وَيُقَال لَهَا: رائطة، وَقد ذَكرْنَاهُ
فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل
فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون مَا خلا
عَمْرو بن الْحَارِث. وَفِيه: رِوَايَة صحابية عَن صحابية
وهما عَمْرو وَزَيْنَب. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن
تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ فِي الطَّرِيق الأول، وهما:
الْأَعْمَش وشقيق. وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين وهم:
(9/42)
الْأَعْمَش وشقيق وَإِبْرَاهِيم وَأَبُو
عُبَيْدَة. وَفِيه: أَن الْأَعْمَش روى هَذَا الحَدِيث عَن
شيخين، وهما: شَقِيق وَإِبْرَاهِيم، لِأَن الْأَعْمَش
قَالَ فِي الطَّرِيق الأول: حَدثنِي شَقِيق، وَقَالَ فِي
الطَّرِيق الثَّانِي: فَحَدثني إِبْرَاهِيم، فَفِي هَذِه
الطَّرِيق ثَلَاثَة من التَّابِعين مُتَوَالِيَة، وَفِيه:
رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: لفظ الذّكر وَهُوَ
قَوْله: قَالَ: فَذَكرته لإِبْرَاهِيم، الْقَائِل هُوَ
الْأَعْمَش، أَي: ذكرت الحَدِيث لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أَحْمد
بن يُوسُف السّلمِيّ عَن عَمْرو بن حَفْص بِإِسْنَادِهِ
نَحْو إِسْنَاد البُخَارِيّ. وَأخرجه أَيْضا عَن الْحسن بن
الرّبيع عَن أبي الْأَحْوَط عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق
بِهِ، وَلم يذكر حَدِيث إِبْرَاهِيم. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة عَن
الْأَعْمَش وَعَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن إِبْرَاهِيم بن
يَعْقُوب عَن عمر بن حَفْص وَعَن بشر بن خَالِد، وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِي الزَّكَاة عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَالْحسن
بن مُحَمَّد بن الصَّباح بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كنت فِي الْمَسْجِد فَرَأَيْت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) إِلَى آخِره،
زِيَادَة على مَا فِي حَدِيث أبي سعيد الَّذِي مضى عَن
قريب. قَوْله: (من حليكن) ، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون
اللَّام مُفردا، وبضم الْحَاء وَكسر اللَّام وَتَشْديد
الْيَاء جمعا. قَوْله: (أيجزي؟) بِفَتْح الْيَاء
مَعْنَاهُ: هَل يَكْفِي عني، لِأَن الْهمزَة فِيهِ
للاستفهام، وَكَانَ الظَّاهِر يَقْتَضِي أَن يُقَال:
عَنَّا، وَكَذَلِكَ يُقَال: ننفق، بالنُّون المصدرة
للْجَمَاعَة، وَلَكِن لما كَانَ المُرَاد كل وَاحِدَة منا،
ذكرت بِذَاكَ الأسلوب أَو اكتفت زَيْنَب فِي الْحِكَايَة
بِحَال نَفسهَا. قَوْله: (فَوجدت امْرَأَة من الْأَنْصَار)
وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ: (فَإِذا امْرَأَة من
الْأَنْصَار يُقَال لَهَا: زَيْنَب) ، وَكَذَا أخرجه
النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش،
وَزَاد من وَجه آخر عَن عَلْقَمَة: (عَن عبد الله، قَالَ:
انْطَلَقت امْرَأَة عبد الله، يَعْنِي: ابْن مَسْعُود،
وَامْرَأَة أبي مَسْعُود يَعْنِي: عقبَة بن عَمْرو
الْأنْصَارِيّ) . وَقَالَ بَعضهم: لم يذكر ابْن سعد لأبي
مَسْعُود امْرَأَة أنصارية سوى: هزيلة بنت ثَابت بن
ثَعْلَبَة الخزرجية، فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَيْنِ أَو وهم من
سَمَّاهَا زَيْنَب انتقالاً من اسْم امْرَأَة عبد الله
إِلَى اسْمهَا. قلت: عدم ذكر ابْن سعد لأبي مَسْعُود
امْرَأَة غير هزيلة الْمَذْكُورَة لَا يسْتَلْزم أَن لَا
يكون لَهُ امْرَأَة أُخْرَى. قَوْله: (وأيتام لي فِي حجري)
وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ: (هم بَنو أَخِيهَا وَبَنُو
أُخْتهَا) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق
عَلْقَمَة: (لإحداهما فضل مَال وَفِي حجرها بَنو أَخ لَهَا
إيتام، وللأخرى فضل مَال وَزوج خَفِيف الْيَد) . وَهُوَ
كِنَايَة عَن الْفقر. قَوْله: (لَا تخبر بِنَا) خطاب
لِبلَال أَي: لَا تعين إسمنا، وَلَا تقل إِن السائلة
فُلَانَة بل قَالَ: يَسْأَلك امْرَأَتَانِ مُطلقًا، قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فلِمَ خَالف بِلَال قَوْلهمَا،
وَهُوَ إخلاف للوعد وإفشاء للسر؟ قلت: عَارضه سُؤال رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن جَوَابه وَاجِب متحتم
لَا يجوز تَأْخِيره، فَإِذا تَعَارَضَت المصلحتان بدىء
بأهمهما فَإِن. قلت: كَانَ الْجَواب المطابق للفظ هُوَ أَن
يُقَال: زَيْنَب وفلانة. قلت: الْأُخْرَى محذوفة، وَهِي
أَيْضا اسْمهَا: زَيْنَب الْأَنْصَارِيَّة، وَزوجهَا أَبُو
مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، وَوَقع الِاكْتِفَاء باسم من هِيَ
أكبر وَأعظم مِنْهُمَا. قَوْله: (لَهَا أَجْرَانِ: أجر
الْقَرَابَة) أَي: أجر صلَة الرَّحِم، (وَأجر الصَّدَقَة)
أَي أجر مَنْفَعَة الصَّدَقَة. قلت: فِي حَدِيث أبي سعيد
الَّذِي فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب: أَنَّهَا
شافهته بالسؤال وشافهها لقَوْله فِيهِ: (قَالَت: يَا نَبِي
الله) . وَقَوله فِيهِ: (صَدَقَة زَوجك) ، وَهَهُنَا لم
تشافهه بالسؤال وَلَا شافهها بِالْجَوَابِ؟ قلت: يحْتَمل
إِن تَكُونَا قضيتين، وَقيل: يجمع بَينهمَا بِأَن يجمل
هَذِه الْمُرَاجَعَة على الْمجَاز، وَإِنَّمَا كَانَت على
لِسَان بِلَال. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَبَقِيَّة
الأبحاث مَضَت فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
7641 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا
عَبْدَةُ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ
أُمِّ سَلَمَةَ قالَتْ يَا رسُولَ الله ألِي أجْرٌ أنْ
أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أبِي سَلَمَةَ إنَّمَا هُمْ بَنِيَّ
فَقَالَ أنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أجْرُ مَا أنْفَقْتِ
عَلَيْهِمْ.
(الحَدِيث 7641 طرفه فِي: 9635) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لما علم مِنْهُ أَن
الصَّدَقَة مجزية على أَيْتَام هم أَوْلَاد الْمُزَكي،
فبالقياس عَلَيْهِ تجزىء الزَّكَاة على أَيْتَام
(9/43)
هم لغيره، أَو أَن الحَدِيث ذكر فِي هَذَا
الْبَاب لمناسبة الحَدِيث الأول فِي كَون الْإِنْفَاق على
الْيَتِيم فَقَط، وَالْبُخَارِيّ كثيرا يعْمل من ذَلِك،
هَكَذَا ذكره الْكرْمَانِي، وَالْوَجْه الثَّانِي هُوَ
الْأَوْجه.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة،
بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ عُثْمَان بن
مُحَمَّد بن أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن
الْعَبْسِي أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، مَاتَ فِي سنة تسع
وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَبدة، بِفَتْح
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن
سُلَيْمَان الْكلابِي. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة.
الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
الْخَامِس: زَيْنَب بنت أم سَلمَة، وَهِي بنت أبي سَلمَة
عبد الله بن عبد الْأسد المَخْزُومِي، وَكَانَ اسْمهَا برة
فسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب:
سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد
البُخَارِيّ. السَّادِس: أم سَلمَة، وَاسْمهَا هِنْد بنت
أبي أُميَّة، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن
مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن
أبي كريب وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه
كوفيان وَهِشَام وَأَبوهُ مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة
تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وهما هِشَام وَأَبوهُ. وَفِيه:
رِوَايَة صحابية عَن صحابية وهما زَيْنَب وَأمّهَا أم
سَلمَة. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الاب. وَقد مضى فقهه
فِي بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
قَوْلهَا: (أَلِي أجر) ، الْهمزَة فِيهِ للاستفهام.
قَوْله: (على بني أبي سَلمَة) كَانُوا أبناءها من أبي
سَلمَة الزَّوْج الَّذِي كَانَ قبل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وهم: عمر وَمُحَمّد وَزَيْنَب ودرة.
قَوْلهَا: (إِنَّمَا هم بني) أَصله بنُون، فَلَمَّا أضيف
إِلَى يَاء المتكلمة سَقَطت نون الْجمع فَصَارَ بنوى،
فاجتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ
فأدغمت الْوَاو فِي الْيَاء فَصَارَ: بني، بِضَم النُّون
وَتَشْديد الْيَاء، ثمَّ أبدلت من ضمة النُّون كسرة لأجل
الْيَاء، فَصَارَ بني، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
94 - (بابُ قَولِ الله تعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ
وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله} (التَّوْبَة: 06)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان المُرَاد من قَول الله
تَعَالَى: {وَفِي الرّقاب} (التَّوْبَة: 06) . وَكَذَا من
قَوْله: {وَفِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وهما من
آيَة الصَّدقَات، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا
الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين. .} (التَّوْبَة:
06) . الْآيَة، اقتطعهما مِنْهَا للاحتياج إِلَيْهِمَا فِي
جملَة مصارف الزَّكَاة، وَهِي ثَمَانِيَة، من جُمْلَتهَا:
الرّقاب، وَهُوَ جمع: رَقَبَة، وَالْمرَاد: المكاتبون
يعانون من الزَّكَاة فِي فك رقابهم، وَهُوَ قَول أَكثر
الْعلمَاء، مِنْهُم سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث، وَهُوَ رِوَايَة ابْن
الْقَاسِم وَابْن نَافِع عَن اللَّيْث، وَفِي (الْمُغنِي)
: وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد، وَقَالَ ابْن تَيْمِية: إِن
كَانَ مَعَه وَفَاء لكتابته لم يُعْط لأجل فقره لِأَنَّهُ
عبد، وَإِن لم يكن مَعَه شَيْء أعطي الْجَمِيع، وَإِن
كَانَ مَعَه بعضه تمم، سَوَاء كَانَ قبل حُلُول النَّجْم
أَو بعده كَيْلا يحل النَّجْم وَلَيْسَ مَعَه شَيْء فتفسخ
الْكِتَابَة، وَيجوز دَفعهَا إِلَى سَيّده. وَعند
الشَّافِعِيَّة: إِن لم يحل عَلَيْهِ نجم فَفِي صرفه
إِلَيْهِ وَجْهَان، وَإِن دَفعه إِلَيْهِ فَأعْتقهُ
الْمولى أَو أَبرَأَهُ من بدل الْكِتَابَة أَو عجر نَفسه
وَالْمَال فِي يَد الْمكَاتب رَجَعَ فِيهِ. قَالَ
النَّوَوِيّ: وَهُوَ الْمَذْهَب. قَوْله: {فِي سَبِيل
الله} (التَّوْبَة: 06) . وَهُوَ مُنْقَطع الْغُزَاة عِنْد
أبي يُوسُف، ومنقطع الْحَاج عِنْد مُحَمَّد، وَفِي
(الْمَبْسُوط) : وَفِي سَبِيل الله فُقَرَاء الْغُزَاة
عِنْد أبي يُوسُف، وَعند مُحَمَّد: فُقَرَاء الْحَاج.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِي (الْأَشْرَاف) قَول أبي
حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد: فِي سَبِيل الله هُوَ
الْغَازِي غير الْغَنِيّ، وَحكى أَبُو ثَوْر عَن أبي
حنيفَة أَنه الْغَازِي دون الْحَاج، وَذكر ابْن بطال أَنه
قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَمثله
النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) . وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : وَأما قَول أبي حنيفَة: لَا يُعطى
الْغَازِي من الزَّكَاة إلاَّ أَن يكون مُحْتَاجا، فَهُوَ
خلاف ظَاهر للْكتاب وَالسّنة، فَأَما الْكتاب فَقَوله
تَعَالَى: {وَفِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وَأما
السّنة فروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن زيد بن أسلم عَن
عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تحل الصَّدَقَة
لَغَنِيّ إلاَّ لخمسة: لعامل عَلَيْهَا، أَو لغاز فِي
سَبِيل الله، أَو غَنِي اشْتَرَاهَا بِمَالِه، أَو فَقير
تصدق عَلَيْهِ فأهدى لَغَنِيّ إو غَارِم) . وَأخرجه أَبُو
دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على
شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُرْسلا فَإِن
قلت: مَا أحسن الْأَدَب سِيمَا مَعَ الأكابر، وَأَبُو
حنيفَة لم يُخَالف الْكتاب وَلَا السّنة، وَإِنَّمَا عمل
بِالسنةِ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تحل
(9/44)
الصَّدَقَة لَغَنِيّ) ، وَقَالَ: المُرَاد
من قَوْله: (لغاز فِي سَبِيل الله) ، هُوَ الْغَازِي
الْغَنِيّ بِقُوَّة الْبدن، وَالْقُدْرَة على الْكسْب لَا
الْغَنِيّ بالنصاب الشَّرْعِيّ، بِدَلِيل حَدِيث معَاذ:
وردهَا إِلَى فقرائهم.
وَيُذْكَرُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مالِهِ ويُعْطِي فِي
الحَجِّ
علق هَذَا عَن ابْن عَبَّاس ليشير أَن شِرَاء العَبْد
وعتقه من مَال الزَّكَاة جَائِز، وَهُوَ مُطَابق للجزء
الأول من التَّرْجَمَة، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو
بكر فِي (مُصَنفه) : عَن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْمَش عَن
حسان عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يعْطى الرجل من
زَكَاته فِي الْحَج، وَأَن يعْتق النَّسمَة مِنْهَا. وَفِي
(كتاب الْعِلَل) لعبد الله بن أَحْمد عَن أَبِيه: حَدثنَا
أَبُو بكر بن عَيَّاش حَدثنَا الْأَعْمَش عَن ابْن أبي
نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ ابْن عَبَّاس: أعتق من زكاتك،
وَفِي رِوَايَة أبي عبيد: أعتق من زَكَاة مَالك. وَقَالَ
الْمَيْمُونِيّ: قيل لأبي عبد الله: يشترى الرجل من زَكَاة
مَاله الرّقاب فَيعتق وَيجْعَل فِي ابْن السَّبِيل؟ قَالَ:
نعم، ابْن عَبَّاس يَقُول ذَلِك، وَلَا أعلم شَيْئا
يَدْفَعهُ، وَهُوَ ظَاهر الْكتاب. قَالَ الْخلال فِي
(علله) : هَذَا قَوْله الأول، وَالْعَمَل على مَا بَينه
الْجَمَاعَة فِي ضعف الحَدِيث. أخبرنَا أَحْمد بن هَاشم
الْأَنْطَاكِي، قَالَ: قَالَ أَحْمد: كنت أرى أَن يعْتق من
الزَّكَاة، ثمَّ كَفَفْت عَن ذَلِك لِأَنِّي لم أر
إِسْنَادًا يَصح. قَالَ حَرْب: فاحتج عَلَيْهِ بِحَدِيث
ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: هُوَ مُضْطَرب. انْتهى. وَبقول
ابْن عَبَّاس فِي عتق الرَّقَبَة من الزَّكَاة قَالَ
الْحسن الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن الْحسن الْعَنْبَري
وَمَالك وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَفِي (الْجَوَاهِر)
للمالكية: يَشْتَرِي بهَا الإِمَام الرّقاب فيعقتها عَن
الْمُسلمين وَالْوَلَاء لجميعهم. وَقَالَ ابْن وهب: هُوَ
فِي فكاك المكاتبين، وَوَافَقَ الْجَمَاعَة، وَلَو اشْترى
بِزَكَاتِهِ رَقَبَة فَأعْتقهَا ليَكُون ولاؤها لَهُ لَا
يجْزِيه عِنْد ابْن الْقَاسِم، خلافًا لأَشْهَب، وَلَا
يَجْزِي فك الْأَسير بهَا عِنْد ابْن الْقَاسِم خلافًا
لِابْنِ حبيب، وَلَا يدْفع عِنْد مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ
إِلَى مكَاتب وَلَا إِلَى عبد مُوسِرًا كَانَ سَيّده أَو
مُعسرا، وَلَا من الْكَفَّارَات. وَجه قَول الْجُمْهُور
مَا رَوَاهُ الْبَراء بن عَازِب: (أَن رجلا جَاءَ إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: دلَّنِي على
عمل يقربنِي من الْجنَّة وَيُبَاعِدنِي من النَّار،
فَقَالَ: أعتق النَّسمَة، وَفك الرَّقَبَة، قَالَ: يَا
رَسُول الله أوليسا وَاحِدًا، قَالَ: لَا، عتق النَّسمَة
أَن تنفرد بِعتْقِهَا، وَفك الرَّقَبَة: أَن تعين فِي
ثمنهَا) . رَوَاهُ أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَقَالَ الحسَنُ إنِ اشْتَرَى أباهُ مِنَ الزَّكَاةِ جازَ
وَيُعْطِي فِي المُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ
ثُمَّ تَلا إنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الآيةَ فِي
أيِّهَا أعْطَيْتَ أجْزَأتْ
مطابقته فِي الْجُزْء الْأَخير من التَّرْجَمَة، وَالْحسن
هُوَ الْبَصْرِيّ، هَذَا التَّعْلِيق روى بعضه أَبُو بكر
بن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن أَشْعَث بن سوار، قَالَ:
سُئِلَ الْحسن عَن رجل اشْترى أَبَاهُ من الزَّكَاة
فَأعْتقهُ. قَالَ: اشْترى خير الرّقاب. قَوْله: (فِي
أَيهَا) أَي: فِي مصرف من المصارف الثَّمَانِية أَعْطَيْت
(أجزت) كَذَا فِي الأَصْل بِغَيْر همز أَي: قَضَت. قَالَ
الْكرْمَانِي: أَعْطَيْت، بِلَفْظ الْمَعْرُوف والمجهول،
وَكَذَلِكَ: أَجْزَأت، من الْإِجْزَاء، وَذكر ابْن التِّين
بِلَفْظ: أجزت، بِدُونِ الْهمزَة، وَقَالَ: مَعْنَاهُ
قَضَت عَنهُ وَقيل: جزأ وأجزأ بِمَعْنى، أَي: قضى. وَمن
قَول الْحسن يعلم أَن اللَّام فِي قَوْله: (للْفُقَرَاء)
لبَيَان الْمصرف لَا للتَّمْلِيك. فَلَو صرف الزَّكَاة فِي
صنف وَاحِد كفى.
وَقَالَ النبيُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ خالِدا
احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ الله
هَذَا التَّعْلِيق يَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب مَوْصُولا،
والإدراع جمع: درع، ويروى: أدرعه.
وَيُذْكَرُ عنْ أبِي لاَسٍ حَمَلَنَا النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ
أَبُو لاس، بِالسِّين الْمُهْملَة: خزاعي، وَقيل: حارثي
يعد فِي الْمَدَنِيين، اخْتلف فِي اسْمه فَقيل: زِيَاد،
وَقيل: عبد الله بن عتمة، بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة
بعْدهَا نون مَفْتُوحَة، وَقيل: مُحَمَّد بن الْأسود، وَله
حديثان أَحدهمَا هَذَا، وَلَيْسَ لَهُم أَبُو لاس غَيره،
وَهُوَ فَرد. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
عَن عبيد بن غَنَّام: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة
وَحدثنَا أَبُو خَليفَة حَدثنَا ابْن الْمَدِينِيّ حَدثنَا
(9/45)
مُحَمَّد بن عبيد الطنافسي، حَدثنَا
مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن
الْحَارِث عَن عمر بن الحكم بن ثَوْبَان عَن أبي لاس،
قَالَ: (حملنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
إبل من إبل الصَّدَقَة ضِعَاف لِلْحَجِّ، فَقُلْنَا: يَا
رَسُول الله مَا نرى أَن تحملنا هَذِه! فَقَالَ: مَا من
بعير إلاَّ وَفِي ذروته شَيْطَان، فَإِذا ركبتموها فاذكروا
نعْمَة الله عَلَيْكُم كَمَا أَمركُم الله ثمَّ امتهنوها
لأنفسكم، فَإِنَّمَا يحمل الله) ، وَأخرجه أَحْمد أَيْضا
وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم وَغَيرهم وَرِجَاله ثِقَات،
إلاَّ أَن فِيهِ عنعنة ابْن إِسْحَاق، وَلِهَذَا توقف ابْن
الْمُنْذر فِي ثُبُوته.
8641 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ أمَرَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصَّدَقَةِ فَقِيلَ منَعَ
ابنُ جَميلٍ وخالِدُ بنُ الوَلِيدِ وعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ
المُطَّلِبِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا
يَنْقِمُ ابنُ جَمِيلٍ ألاَّ أنَّهُ كانَ فَقِيرا
فأغْنَاهُ الله ورسولُهُ وأمَّا خالِدٌ فإنَّكُمْ
تَظْلِمُونَ خالِدا قَدِ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وَأعْبُدَهُ
فِي سَبِيلِ الله وأمَّا العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ
المُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَهْيَ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا معَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأعبده فِي سَبِيل
الله) . وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد قد مضوا غير مرّة،
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن حَمْزَة،
وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن
ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَفِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عَليّ بن عَيَّاش: عَن
شُعَيْب مِمَّا حَدثهُ عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج مِمَّا
ذكر أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره، صرح بِالْحَدِيثِ فِي
الْإِسْنَاد وَزَاد فِيهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَالْمَحْفُوظ أَنه من مُسْند أبي هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا
جرى لعمر فِيهِ ذكر فَقَط.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَمر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّدَقَةِ) أَي: بِالصَّدَقَةِ
الْوَاجِبَة، يَعْنِي: الزَّكَاة لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَة
بانصراف الْألف وَاللَّام إِلَيْهَا. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: الْجُمْهُور صَارُوا إِلَى أَن الصَّدَقَة
هِيَ الْوَاجِبَة، لَكِن يلْزم على هَذَا استبعاد
هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين لَهَا، وَلذَلِك قَالَ بعض
الْعلمَاء: كَانَت صَدَقَة التَّطَوُّع، وَقد روى عبد
الرَّزَّاق هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: (أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ندب النَّاس إِلَى الصَّدَقَة)
الحَدِيث، وَقَالَ ابْن الْقصار: وَهَذَا أليق بالقصة
لأَنا لَا نظن بأحدهم منع الْوَاجِب. قَوْله: (فَقيل: منع
ابْن جميل) الْقَائِل هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي الزِّنَاد عِنْد أبي
عبيد، فَقَالَ بعض من يلمز أَي: يعيب وَابْن جميل بِفَتْح
الْجِيم، ذكره الذَّهَبِيّ فِيمَن عرف بِابْنِهِ وَلم يسم،
قيل: وَقع فِي تَعْلِيق القَاضِي حُسَيْن الْمروزِي
الشَّافِعِي وَتَبعهُ الرَّوْيَانِيّ أَن اسْمه: عبد الله،
وَوَقع فِي (التَّوْضِيح) أَن ابْن بزيزة سَمَّاهُ حميدا،
وَلَيْسَ بمذكور فِي كِتَابه، وَقيل: وَقع فِي رِوَايَة
ابْن جريج: أَبُو جهم ابْن حُذَيْفَة، بدل ابْن جميل
وَهُوَ خطأ لإطباق الْجَمِيع على ابْن جميل لِأَنَّهُ
أَنْصَارِي، وَأَبُو جهم قرشي. قَوْله: (وخَالِد بن
الْوَلِيد) بِالرَّفْع عطف على: منع ابْن جميل، (وعباس بن
عبد الْمطلب) عطف عَلَيْهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عبيد:
(منع ابْن جميل وخَالِد وعباس أَن يُعْطوا) ، وَهُوَ
مُقَدّر هَهُنَا، لِأَن: منع، يَسْتَدْعِي مَفْعُولا.
وَقَوله: (أَن يُعْطوا) فِي مَحل النصب على المفعولية،
وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير: منع هَؤُلَاءِ
الْإِعْطَاء. قَوْله: (فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) بَيَان لوجه امْتنَاع هَؤُلَاءِ عَن
الْإِعْطَاء فَلذَلِك ذكره بِالْفَاءِ. قَوْله: (مَا ينقم)
، بِكَسْر الْقَاف وَفتحهَا، أَي: مَا يُنكر أَي: لَا
يَنْبَغِي أَن يمْنَع الزَّكَاة، وَقد كَانَ فَقِيرا
فأغناه الله إِذْ لَيْسَ هَذَا جَزَاء النِّعْمَة قَالَ
ابْن الْمُهلب: كَانَ ابْن جميل منافقا فَمنع الزَّكَاة
فاستتابه الله تَعَالَى بقوله: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن
أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله فَإِن يتوبوا يَك خيرا
لَهُم} (التَّوْبَة: 47) . فَقَالَ: استتابني رَبِّي،
فَتَابَ وصلحت حَاله، انْتهى. وَفِيه تَأْكِيد الْمَدْح
بِمَا يشبه الذَّم لِأَنَّهُ إِذا لم يكن لَهُ عذر إلاَّ
مَا ذكر من أَن الله أغناه فَلَا عذر لَهُ. قَوْله: (وَأما
خَالِد) إِلَى آخِره، قَالَ الْخطابِيّ: قصَّة خَالِد تؤول
على وُجُوه: أَحدهَا: أَنه قد اعتذر لخَالِد ودافع عَنهُ
بِأَنَّهُ احْتبسَ فِي سَبِيل الله تقربا إِلَيْهِ،
وَذَلِكَ غير وَاجِب عَلَيْهِ، فَكيف يجوز عَلَيْهِ منع
الْوَاجِب؟ وَثَانِيها: أَن خَالِدا طُولِبَ بِالزَّكَاةِ
عَن أَثمَان الأدرع، على معنى أَنَّهَا كَانَت عِنْده
للتِّجَارَة، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه لَا زَكَاة عَلَيْهِ فِيهَا إِذْ جعلهَا حبسا فِي
سَبِيل الله. وَثَالِثهَا: أَنه قد أجَاز لَهُ أَن يحْتَسب
بِمَا حَبسه فِي سَبِيل الله من
(9/46)
الصَّدَقَة الَّتِي أَمر بقبضها مِنْهُ،
وَذَلِكَ لِأَن أحد الْأَصْنَاف: سَبِيل الله، وهم
المجاهدون، فصرفها فِي الْحَال كصرفها فِي الْمَآل.
قَوْله: (قد احْتبسَ) أَي: حبس (أدراعه) ، جمع: درع.
قَوْله: (وأعبده) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: جمع عبد،
حَكَاهُ عِيَاض، وَالْمَشْهُور: أعتده، بِضَم التَّاء
المثناء من فَوق، جمع: عتد، بِفتْحَتَيْنِ. وَوَقع فِي
رِوَايَة مُسلم: أعتاده، وَهُوَ أَيْضا جمع: عتد. قيل:
هُوَ مَا يعده الرجل من الدَّوَابّ وَالسِّلَاح، وَقيل:
الْخَيل خَاصَّة، يُقَال: فرس عتيد، أَي: صلب أَو معد
للرُّكُوب أَو سريع الْوُثُوب. قَوْله: (وَأما الْعَبَّاس
بن عبد الْمطلب) فَأخْبر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه عَمه، وَعم الرجل صنو أَبِيه، وَعَن الحكم بن عتيبة:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث عمر بن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مُصدقا، فَشَكَاهُ الْعَبَّاس
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا
ابْن الْخطاب! أما علمت أَن عَم الرجل صنو الْأَب؟ وَأَنا
استسلفنا زَكَاته عَام الأول؟ وَمعنى: صنو أَبِيه: أَصله
وأصل أَبِيه وَاحِد، وأصل ذَلِك أَن طلع النخلات من عرق
وَاحِد. قَوْله: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة) ، مَعْنَاهُ:
هِيَ صَدَقَة ثَابِتَة عَلَيْهِ سيتصدق بهَا وَمثلهَا
مَعهَا، أَي: وَيتَصَدَّق مثل هَذِه الصَّدَقَة مَعهَا
كرما مِنْهُ، إِ لَا امْتنَاع مِنْهُ وَلَا بخل فِيهِ،
وَقيل: مَعْنَاهُ فأمواله هِيَ كالصدقة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ
اسْتَدَانَ فِي مفاداة نَفسه، وَعقيل، فَصَارَ من الغارمين
الَّذين لَا تلزمهم الزَّكَاة، وَقيل: إِن الْقِصَّة جرت
فِي صَدَقَة التَّطَوُّع فَلَا إِشْكَال عَلَيْهِ، لكنه
خلاف الْمَشْهُور وَمَا عَلَيْهِ الرِّوَايَات.
ثمَّ إعلم أَن لَفْظَة الصَّدَقَة إِنَّمَا وَقعت فِي
رِوَايَة شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد كَمَا مرت. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ، فِي رِوَايَة شُعَيْب هَذِه: يبعد أَن تكون
مَحْفُوظَة لِأَن الْعَبَّاس كَانَ من صلبية بني هَاشم
مِمَّن تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة، فَكيف يَجْعَل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عَلَيْهِ من صَدَقَة
عَاميْنِ صَدَقَة عَلَيْهِ؟ وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ:
لَعَلَّ ذَلِك قبل تَحْرِيم الصَّدَقَة على آل النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرَأى إِسْقَاط الزَّكَاة عَنهُ
عَاميْنِ لوجه رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه لَفْظَة لم يُتَابع عَلَيْهَا
شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، ورد عَلَيْهِ بِأَن اثْنَيْنِ
تَابعا شعيبا: أَحدهمَا: عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد،
كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب، وَالْآخر: مُوسَى بن عقبَة،
فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن عمرَان: حَدثنَا عَليّ
ابْن عَيَّاش عَن شُعَيْب. . وَسَاقه بِلَفْظ البُخَارِيّ،
قَالَ: وَأَخْبرنِي أَحْمد بن حَفْص حَدثنِي أبي حَدثنِي
إِبْرَاهِيم عَن مُوسَى أَخْبرنِي أَبُو الزِّنَاد عَن
الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: أَمر رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِصَدقَة) الحَدِيث، وَفِي
آخِره: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا) .
وَاعْلَم أَيْضا أَنه وَقع اخْتِلَاف فِي هَذَا اللَّفْظ،
فَفِي لفظ وَقع: مثلهَا، فِي متن حَدِيث الْبَاب، وَفِي
لفظ: (فَهِيَ لَهُ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَفِي لفظ: (فَهِيَ
عَليّ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَفِي لفظ: (فَهِيَ عَلَيْهِ
وَمثلهَا مَعهَا) . أما معنى الَّذِي فِي متن حَدِيث
الْبَاب أَي: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة) وَاجِبَة فأداها
قبلمحلها (وَمثلهَا مَعهَا) : أَي: قد أَدَّاهَا لعام آخر،
كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن الحكم آنِفا. وَأما معنى: (فَهِيَ
لَهُ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَهِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة،
أَي: فَهِيَ عَلَيْهِ، قيل: عَلَيْهِ وَله بِمَعْنى
وَاحِد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم اللَّعْنَة}
(غَافِر: 25) . وَفِي قَوْله: {وَإِن أسأتم فلهَا}
(الْإِسْرَاء: 7) . وَيحْتَمل أَن يكون: فَهِيَ لَهُ، أَي
فَهِيَ لَهُ عَليّ، وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَت لَهُ
عَلَيْهِ إِذا كَانَ قدمهَا. وَأما معنى قَوْله: (فَهِيَ
عَليّ وَمثلهَا مَعهَا) ، أَي: فَهَذِهِ الصَّدَقَة عَليّ
بِمَعْنى: أؤديها عَنهُ لما لَهُ عَليّ من الْحق، خُصُوصا
لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: عَم الرجل صنو أَبِيه، وَأما معنى:
(فَهِيَ عَلَيْهِ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَهِي رِوَايَة ابْن
إِسْحَاق، قَالَ أَبُو عبيد: نرَاهُ، وَالله أعلم، أَنه
كَانَ أخر الصَّدَقَة عَنهُ عَاميْنِ من أجل حَاجَة
الْعَبَّاس فَإِنَّهُ يجوز للْإِمَام أَن يؤخرها على وَجه
النظرة ثمَّ يَأْخُذهَا مِنْهُ بعد، كَمَا فعل عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، بِصَدقَة عَام الرَّمَادَة، فَلَمَّا
أجبى النَّاس فِي الْعَام الْمقبل أَخذ مِنْهُم صَدَقَة
عَاميْنِ. وَقيل: إِنَّمَا تعجل مِنْهُ لِأَنَّهُ أوجبهَا
عَلَيْهِ وضمنها إِيَّاه وَلم يقبضهَا مِنْهُ، فَكَانَت
دينا على الْعَبَّاس. ألاَ ترى قَوْله: (فَإِنَّهَا
عَلَيْهِ وَمثلهَا مَعَه؟) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: قَالَ
لنا ابْن نَاصِر: يجوز أَن يكون قد قَالَ: هُوَ عَلَيْهِ،
بتَشْديد الْيَاء، وَزَاد فِيهَا هَاء السكت.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِثْبَات الزَّكَاة فِي
أَمْوَال التِّجَارَة. وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز أَخذ
الْقيمَة عَن أَعْيَان الْأَمْوَال. وَفِيه: جَوَاز وضع
الصَّدَقَة فِي صنف وَاحِد. وَفِيه: جَوَاز تَأْخِير
الزَّكَاة إِذا رأى الإِمَام فِيهِ نظرة. وَفِيه: جَوَاز
تَعْجِيل الزَّكَاة. وَقَالَ أَبُو عَليّ الطوسي: اخْتلف
أهل الْعلم فِي تَعْجِيل الزَّكَاة قبل محلهَا، فَرَأى
طَائِفَة من أهل الْعلم أَن لَا يعجلها، وَبِه يَقُول
سُفْيَان، وَقَالَ أَكثر أهل الْعلم: إِن عجلها قبل محلهَا
أَجْزَأت عَنهُ، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي وَأحمد
وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: وَكره مَالك وَاللَّيْث بن سعد تَعْجِيلهَا قبل
وَقتهَا، وَقَالَ الْحسن: من زكى قبل الْوَقْت أعَاد،
كَالصَّلَاةِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعند مَالك فِي
إخْرَاجهَا قبل الْحول بِيَسِير قَولَانِ، وحدَّ الْقَلِيل
بِشَهْر وَنصف شهر وَخَمْسَة أَيَّام وَثَلَاثَة. وَفِيه:
تحبيس آلَات الْحَرْب وَالثيَاب وكل مَا ينْتَفع بِهِ مَعَ
بَقَاء عينه وَالْخَيْل وَالْإِبِل كالأعبد، وَفِي تحبيس
غير الْعقار
(9/47)
ثَلَاثَة أَقْوَال للمالكية: الْمَنْع
الْمُطلق فِي مُقَابلَة الْخَيل فَقَط. وَقيل: يكره فِي
الرَّقِيق خَاصَّة، وَرُوِيَ أَن أَبَا معقل وقف بَعِيرًا
لَهُ فَقيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم
يُنكره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يلْزم الْوَقْف فِي
شَيْء إلاَّ أَن يحكم بِهِ حَاكم، أَو يكون الْوَقْف
مَسْجِدا أَو سِقَايَة أَو وَصِيَّة من الثُّلُث. قلت:
التَّحْقِيق فِيهِ أَن أصل الْخلاف أَن الْوَقْف لَا يجوز
عِنْد أبي حنيفَة أصلا، وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الأَصْل،
وَقيل: يجوز عِنْده إلاَّ أَنه لَا يلْزم بِمَنْزِلَة
الْعَارِية حَتَّى يرجع فِيهِ أَي وَقت شَاءَ، وَيُورث
عَنهُ إِذا مَاتَ وَهُوَ الْأَصَح، وَعند أبي يُوسُف
وَمُحَمّد: يجوز وَيَزُول ملك الْوَاقِف عَنهُ، غير أَنه
عِنْد أبي يُوسُف يَزُول بِمُجَرَّد القَوْل، وَعند
مُحَمَّد حَتَّى يَجْعَل للْوَقْف وليا ويسلمه إِلَيْهِ.
وَأما وقف الْمَنْقُول فإمَّا أَن يكون فِيهِ تعامل بوقفه
أَو لَا يكون، فَالْأول: يجوز وَقفه كالكراع وَالسِّلَاح
والفأس وَالْقدر والقدوم والمنشار والجنازة وثيابها
والمصاحف وَكتب الْفِقْه والْحَدِيث والأدبية وَنَحْوهَا.
وَالثَّانِي: لَا يجوز وَقفه كالزرع وَالثَّمَر
وَنَحْوهمَا، وَعند أبي يُوسُف: لَا يجوز إلاَّ فِي الكراع
وَالسِّلَاح والكراع الْخَيل. وَفِيه: بعث الإِمَام
الْعمَّال لجباية الزكوات بِشَرْط أَن يَكُونُوا أُمَنَاء
فُقَهَاء عارفين بِأُمُور الجباية. وَفِيه: تَنْبِيه
الغافل على مَا أنعم الله بِهِ من نعْمَة الْغنى بعد
الْفقر ليقوم بِحَق الله عَلَيْهِ. وَفِيه: الْعَيْب على
من منع الْوَاجِب وَجَوَاز ذكره فِي غيبته بذلك. وَفِيه:
تحمل الإِمَام عَن بعض رَعيته مَا يجب عَلَيْهِ. وَفِيه:
الِاعْتِذَار بِمَا يسوغ الِاعْتِذَار بِهِ. وَفِيه:
إِسْقَاط الزَّكَاة عَن الْأَمْوَال المحبسة. وَفِيه:
التَّعْرِيض بكفران النِّعْمَة والتقريع بِسوء الصَّنِيع
فِي مُقَابلَة الْإِحْسَان.
تابَعَهُ ابنُ أبي الزِّنَادِ عنْ أبِيهِ
أَي: تَابع الْأَعْرَج عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد
عَن أَبِيه أبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان بِوُجُود
لفظ الصَّدَقَة، وروى هَذِه الْمُتَابَعَة
الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْمحَامِلِي: حَدثنَا عَليّ بن
شُعَيْب حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي
الزِّنَاد عَن أَبِيه أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج بِهِ،
كَذَا هُوَ فِي نُسْخَة، وَفِي أُخْرَى بِسُقُوط: ابْن،
وَهِي رِوَايَة مُسلم، وَهِي الصَّحِيحَة.
وَقَالَ ابنُ إسْحَاقَ عنْ أبِي الزِّنادِ هيَ عَلَيْهِ
ومِثْلُهَا معَهَا
قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن ابْن إِسْحَاق هُوَ
مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار ضد الْيَمين الْمدنِي
الإِمَام صَاحب الْمَغَازِي، مَاتَ سنة خمسين وَمِائَة،
وَدفن بمقبرة الخيزران بِبَغْدَاد، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن
إبي الزِّنَاد بِحَذْف لفظ: الصَّدَقَة، وروى
الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا هَذِه الْمُتَابَعَة عَن أَحْمد
بن مُحَمَّد بن زِيَاد: حَدثنِي عبد الْكَرِيم بن
الْهَيْثَم حَدثنَا ابْن يعِيش حَدثنِي يُونُس بن بكير
حَدثنَا ابْن أبي إِسْحَاق عَن أبي الزِّنَاد، فَذكره.
وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ حُدِّثْتُ عَن الأعْرَجِ بِمِثْلِهِ
ابْن جريج، هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج،
بِضَم الْجِيم. قَوْله: (حدثت) بِصِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (بِمثلِهِ) ، أَي: بِمثل مَا روى ابْن إِسْحَاق،
بِدُونِ لفظ: الصَّدَقَة.
05 - (بابُ الاسْتِعْفَافِ عنِ المَسْألَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاستعفاف: هُوَ طلب العفاف،
وَقيل: الاستعفاف الصَّبْر والنزاهة عَن الشَّيْء، وَقيل:
التَّنَزُّه عَن السُّؤَال، وَفِي بعض النّسخ عَن
الْمَسْأَلَة.
9641 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عَطَتاءِ بنِ يَزِيدَ
اللَّيْثِيِّ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ أنَّ نَاسا مِنَ الأنْصَارِ سألُوا رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعْطَاهُمْ ثُمَّ سَألُوهُ
فأعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِذَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا
يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ
(9/48)
ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله ومَنْ
يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله ومَنْ يَتَصَبَّرُ يُصَبِّرُهُ
الله ومَا أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرا وَأوْسَعَ مِنَ
الصَّبْرِ.
(الحَدِيث 9641 طرفه فِي: 0746) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الرقَاق عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب.
وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك
وَعَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر،
ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة وَفِي الرقَاق
عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن نَاسا من الْأَنْصَار) لم
يعرف أَسمَاؤُهُم، وَلَكِن قَالَ بَعضهم: فِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ مَا يدل على أَن أَبَا سعيد مِنْهُم، فَفِي
حَدِيثه: (سرحتني أُمِّي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يَعْنِي لاسأله من حَاجَة شَدِيدَة، فَأَتَيْته
وَقَعَدت فاستقبلني فَقَالَ: من اسْتغنى أغناه الله)
الحَدِيث، وَزَاد فِيهِ: (وَمن سَأَلَ وَله أُوقِيَّة فقد
ألحف، فَقلت: نَاقَتي خير من أُوقِيَّة، فَرَجَعت وَلم
أسأله) . قلت: لَيْت شعري أَي: دلَالَة هَذِه من أَنْوَاع
الدلالات وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء يدل على كَونه مَعَ
الْأَنْصَار فِي حَالَة سُؤَالهمْ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟ قَوْله: (سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَأَعْطَاهُمْ) ، أَي: شَيْئا. وَهَذِه
اللَّفْظَة فِي بعض النّسخ ثَلَاث مَرَّات. قَوْله:
(حَتَّى نفد) ، بِكَسْر الْفَاء وبالدال الْمُهْملَة، أَي:
فرغ وفني، وَقَالَ ابْن سَيّده: وأنفده هُوَ واستنفده.
قَوْله: (مَا يكون) ، كلمة: مَا، فِيهِ مَوْصُولَة متضمنة
لِمَعْنى الشَّرْط. وَقَوله: (فَلم أدخره) جَوَاب
الشَّرْط، وَمَعْنَاهُ لن أجعله ذخيرة لغيركم معرضًا
عَنْكُم، والفصيح فِيهِ إهمال الدَّال وَجَاء بإعجامها
مدغما وَغير مدغم، لَكِن تقلب التَّاء دَالا مُهْملَة
فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات. وَيُقَال: مَعْنَاهُ لن أحبسه
عَنْكُم، ويروى عَن مَالك: (فَلَنْ أدخره) . قَوْله: (وَمن
يستعف) أَي: من طلب الْعِفَّة عَن السُّؤَال وَلم يظْهر
الِاسْتِغْنَاء عَن الْخلق وَلم يقبل أَن أعْطى فَهُوَ
هُوَ إِذْ الصَّبْر جَامع لمكارم الإخلاق صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (وَمن يسْتَغْن) أَي وَمن يظْهر الإستغناء
(يغنه الله) (يعفه الله) ، أَي: يرزقه الله الْعِفَّة،
أَي: الْكَفّ عَن الْحَرَام، يُقَال: عف يعف عفة فَهُوَ
عفيف. قَالَ الطَّيِّبِيّ: مَعْنَاهُ من طلب الْعِفَّة عَن
السُّؤَال وَلم يظْهر الِاسْتِغْنَاء (يغنه الله) أَي:
يرزقه الْغنى عَن النَّاس، فَلَا يحْتَاج إِلَى أحد.
قَوْله: (وَمن يتصبر) ، أَي: من يعالج الصَّبْر، وَهُوَ
مَا بَاب: التفعل، فِيهِ معنى التَّكَلُّف (يصبره الله)
أَي: يرزقه الله صبرا وَهُوَ من بَاب: التفعيل. قَوْله:
(عَطاء) أَي: شَيْئا من الْعَطاء. قَوْله: (خيرا) ،
بِالنّصب صفته، ويروى: خير، بِالرَّفْع على أَنه خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ خير.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: إِعْطَاء السَّائِل مرَّتَيْنِ
والاعتذار إِلَى السَّائِل والحض على التعفف.
وَفِيه: الْحَث على الصَّبْر على ضيق الْعَيْش وَغَيره من
مكاره الدُّنْيَا. وَفِيه: أَن الِاسْتِغْنَاء والعفة
وَالصَّبْر بِفعل الله تَعَالَى. وَفِيه: جَوَاز السُّؤَال
للْحَاجة وَإِن كَانَ الأولى تَركه وَالصَّبْر حَتَّى
يَأْتِيهِ رزقه بِغَيْر مَسْأَلَة. وَفِيه: مَا كَانَ
عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْكَرم والسخاء
والسماحة والإيثار على نَفسه.
0741 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى
ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأتِيَ رَجُلاً
فَيَسْألَهُ أعْطَاهُ أوْ منَعَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن من عمل بِهَذَا
الحَدِيث يحصل لَهُ الاستعفاف عَن الْمَسْأَلَة. وَرِجَاله
قد تكرروا، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان،
والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن
عَليّ بن شُعَيْب عَن معن ابْن عِيسَى عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لِأَن يَأْخُذ) اللَّام فِيهِ
للتَّأْكِيد، وَفِي الْمُوَطَّأ: (ليَأْخُذ أحدكُم) .
قَوْله: (حبله) أَي: رسنه. قَوْله: (فيحتطب) أَي: فَإِن
يحتطب أَي: يجمع الْحَطب. قَوْله: (خير) ، مَرْفُوع
لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ خير لَهُ.
قَوْله: (فيسأله) أَي: فَإِن يسْأَله، وَفِي رِوَايَة
الدَّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَة ابْن وهب: (خير لَهُ من أَن
يَأْتِي رجلا قد أعطَاهُ الله من فَضله فيسأله) . قَوْله:
(أعطَاهُ أَو مَنعه) لِأَن حَال المسؤول مِنْهُ إِمَّا
الْعَطاء فَفِيهِ الْمِنَّة وذل السُّؤَال، وَإِمَّا
الْمَنْع فَفِيهِ الذل والخيبة
(9/49)
والحرمان، وَكَانَ السّلف إِذا سقط من
أحدهم سَوْطه. لَا يسْأَل من يناوله إِيَّاه.
وَفِيه: التحريض على الْأكل من عمل يَده والاكتساب من
الْمُبَاحَات.
وَاعْلَم أَن مدَار الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب على
كَرَاهِيَة الْمَسْأَلَة، وَهِي على ثَلَاثَة أوجه: حرَام
ومكروه ومباح. فالحرام لمن سَأَلَ وَهُوَ غَنِي من زَكَاة
أَو أظهر من الْفقر فَوق مَا هُوَ بِهِ. وَالْمَكْرُوه لمن
سَأَلَ وَعِنْده مَا يمنعهُ عَن ذَلِك وَلم يظْهر من
الْفقر مَا هُوَ بِهِ، والمباح لمن سَأَلَ بِالْمَعْرُوفِ
قَرِيبا أَو صديقا. وَأما السُّؤَال عِنْد الضَّرُورَة
فَوَاجِب لإحياء النَّفس. وَأدْخلهُ الدَّاودِيّ فِي
الْمُبَاح. وَأما الْأَخْذ من غير مَسْأَلَة وَلَا إشراف
نفس فَلَا بَأْس بِهِ.
وَفِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث: عَن عَطِيَّة السَّعْدِيّ
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا
أَغْنَاك الله فَلَا تسْأَل النَّاس شَيْئا فَإِن الْيَد
الْعليا المعطية وَإِن الْيَد السُّفْلى هِيَ المعطاء) ،
رَوَاهُ ابْن عبد الْبر. وَعَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من سَأَلَ وَله مَا يُغْنِيه جَاءَ يَوْم
الْقِيَامَة ومسألته فِي وَجهه خموش أَو خدوش أَو كدوح،
قيل: يَا رَسُول الله وَمَا يُغْنِيه؟ قَالَ: خَمْسُونَ
درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ،
قَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ بَقِيَّة الْأَرْبَعَة
وَالْحَاكِم، وَرَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي (كتاب
القناعة) وَلَفظه: (من سَأَلَ النَّاس عَن ظهر غنى جَاءَ
يَوْم الْقِيَامَة وَفِي وَجهه كدوح أَو خموش، قيل: يَا
رَسُول الله مَا الْغنى؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما أَو
قِيمَته من الذَّهَب) . وَعَن عبد الله بن عَمْرو عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تحل
الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي) رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
حَدِيث حسن. وَعَن حُبَيْش بن جُنَادَة السَّلُولي قَالَ:
(سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة
الْوَدَاع وَهُوَ وَاقِف بِعَرَفَة) الحَدِيث، وَفِيه:
(وَمن سَأَلَ النَّاس ليثري بِهِ مَاله كَانَ خموشا فِي
وَجهه يَوْم الْقِيَامَة، ورضفا يَأْكُلهُ من جَهَنَّم،
فَمن شَاءَ فليقِلَّ وَمن شَاءَ فليكثِر) . رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ وَانْفَرَدَ بِهِ. وَعَن أبي هُرَيْرَة
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه مثل حَدِيث عبد الله بن عَمْرو. وَعَن قبيصَة بن
الْمخَارِق الْهِلَالِي، قَالَ: (تحملت حمالَة فَأتيت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَفِيه:
(يَا قبيصَة: إِن الْمَسْأَلَة لَا تحل إلاَّ لأحد
ثَلَاثَة: رجل تحمل حمالَة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى
يُصِيبهَا ثمَّ يمسك، وَرجل أَصَابَته جَائِحَة اجتاحت
مَاله فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيب قواما من
عَيْش. أَو قَالَ: سدادا من عَيْش، وَرجل أَصَابَته فاقة
حَتَّى يَقُول ثَلَاثَة من ذَوي الحجى من قومه: لقد أصَاب
فلَانا فاقة، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيب قواما
من عَيْش، أَو قَالَ: سدادا من عَيْش، فَمَا سواهن من
الْمَسْأَلَة يَا قبيصَة سحت يأكلها صَاحبهَا سحتا) .
رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَعَن أنس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رجلا من الْأَنْصَار)
الحَدِيث، وَفِيه: (أَن الْمَسْأَلَة لَا تصلح إلاَّ
لثَلَاثَة: لذِي فقر مدقع، أَو لذِي غرم مقطع، أَو لذِي دم
موجع) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَعَن عبد
الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تحل
الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي) ، رَوَاهُ
الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَعَن
عمرَان ابْن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَسْأَلَة
الْغَنِيّ شين فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة) ، رَوَاهُ
أَحْمد وَالْبَزَّار. وَعَن ثَوْبَان عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من سَأَلَ مَسْأَلَة وَهُوَ
عَنْهَا غَنِي كَانَت شَيْئا فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة)
، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ،
وَإِسْنَاده صَحِيح. وَعَن مَسْعُود بن عَمْرو أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يزَال
العَبْد يسْأَل وَهُوَ غَنِي حَتَّى يخلق وَجهه فَلَا يكون
لَهُ عِنْد الله وَجه) ، رَوَاهُ الْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير. وَعَن جَابر: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من سَأَلَ وَهُوَ
غَنِي عَن الْمَسْأَلَة يحْشر يَوْم الْقِيَامَة وَهِي
خموش فِي وَجهه) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْأَوْسَط) وَعَن رجلَيْنِ غير مسميين أَتَيَا النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع وَهُوَ يقسم
الصَّدَقَة، فسألا مِنْهَا، فَرفع فِينَا الْبَصَر وخفضه
فرآنا جلدين، فَقَالَ: (إِن شئتما أعطيتكما وَلَا حظَّ
فِيهَا لَغَنِيّ وَلَا لقوي مكتسب) ، وَرِجَاله فِي
الصَّحِيحَيْنِ. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سَأَلَ وَله
قيمَة أُوقِيَّة فقد ألحف، فَقلت نَاقَتي الياقوتة خير من
أُوقِيَّة) . وَفِي رِوَايَة: (خير من أَرْبَعِينَ درهما،
فَرَجَعت فَلم أسأله) . وَكَانَت الْأُوقِيَّة على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ درهما،
أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي
صَحِيحه. وَعَن سُهَيْل بن الحنظلية قَالَ: (قدم على
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُيَيْنَة بن حُصَيْن
والأقرع بن حَابِس فَسَأَلَاهُ فَأمر لَهما بِمَا سألاه.
.) الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: من سَأَلَ وَعِنْده مَا يُغْنِيه
فَإِنَّمَا يستكثر من النَّار، فَقَالُوا: يَا رَسُول
الله! وَمَا يُغْنِيه؟ وَقَالَ النُّفَيْلِي: وَمَا الْغنى
الَّذِي لَا يَنْبَغِي مَعَه الْمَسْأَلَة؟ قَالَ: قدر مَا
يغديه ويعشيه) . وَقَالَ النُّفَيْلِي، فِي مَوضِع آخر:
(أَن يكون لَهُ شبع يَوْم
(9/50)
وَلَيْلَة أَو لَيْلَة وَيَوْم) ، رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَلَفظه:
(قَالُوا: وَمَا يُغْنِيه؟ قَالَ: مَا يغديه أَو يعشيه) .
(وَعَن رجل من بني أَسد قَالَ: نزلت أَنا وَأَهلي ببقيع
الْغَرْقَد) الحَدِيث، وَفِيه: (من سَأَلَ مِنْكُم وَله
أُوقِيَّة أَو عدلها فقد سَأَلَ إلحافا، فَقَالَ الْأَسدي:
فَقلت: للقحة لنا خير من أُوقِيَّة) ، رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد. (وَعَن الرجل الَّذِي من مزينة، قَالَت لَهُ أمه:
أَلا تَنْطَلِق فتسأل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَمَا يسْأَله النَّاس، فَانْطَلَقت أسأله فَوَجَدته
قَائِما يخْطب، وَهُوَ يَقُول: من استعف أعفه الله، وَمن
اسْتغنى أغناه الله وَمن سَأَلَ النَّاس وَله عدل خمس
أَوَاقٍ فقد سَأَلَ إلحافا، فَقلت بيني وَبَين نَفسِي:
لناقة لنا خير من خَمْسَة أَوَاقٍ، ولغلامه نَاقَة أُخْرَى
خير من خمس أَوَاقٍ، فَرَجَعت وَلم أسأله) ، رَوَاهُ
أَحْمد، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح. وَعَن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (من سَأَلَ مَسْأَلَة عَن ظهر غنى
أسْتَكْثر بهَا من رضف جَهَنَّم، قَالُوا: وَمَا ظهر غنى؟
قَالَ: عشَاء لَيْلَة) . رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي
زياداته على (الْمسند) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْأَوْسَط) وَابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَعَن زِيَاد بن
الْحَارِث الصدائي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من
سَأَلَ النَّاس عَن ظهر غنى فصداع فِي الرَّأْس وداء فِي
الْبَطن) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَبَعضه عِنْد أبي
دَاوُد. وَعَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو يعلم صَاحب الْمَسْأَلَة مَا
لَهُ فِيهَا لم يسْأَل) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من
رِوَايَة قَابُوس، قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا أحتج بِهِ،
وَقَالَ ابْن حبَان: رَدِيء الْحِفْظ. وَلابْن عَبَّاس
حَدِيث آخر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَزَّار بِلَفْظ:
(استغنوا عَن النَّاس وَلَو بشوص السِّوَاك) ، وَرِجَال
إِسْنَاده ثِقَات، وَعَن مُعَاوِيَة قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تلحفوا فِي
الْمَسْأَلَة فوَاللَّه لَا يسألني أحد مِنْكُم شَيْئا
فَتخرج لَهُ مَسْأَلته مني شَيْئا وَأَنا كَارِه فيبارك
لَهُ فِيمَا أَعْطيته) ، رَوَاهُ مُسلم. . وَعَن سَمُرَة
ابْن جُنْدُب قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن الْمَسْأَلَة كد يكد بهَا الرجل وَجهه إلاَّ
أَن يسْأَل الرجل سُلْطَانا أَو فِي أَمر لَا بُد مِنْهُ)
، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
وَعَن أبي ذَر، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يشْتَرط على أَن لَا أسأَل النَّاس
شَيْئا، قلت: نعم. قَالَ: وَلَا سَوْطك إِن سقط مِنْك
حَتَّى تنزل فتأخذه) ، رَوَاهُ أَحْمد وَرِجَاله ثِقَات،
وَعَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من يُبَايع؟ فَقَالَ ثَوْبَان: بَايعنَا
رَسُول الله. قَالَ: على أَن لَا تسألوا شَيْئا؟ قَالَ
ثَوْبَان: فَمَا لَهُ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الْجنَّة.
فَبَايعهُ ثَوْبَان) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ. وَعَن عدي
الجذامي فِي أثْنَاء حَدِيث فِيهِ: (فتعففوا وَلَو بحزم
الْحَطب، ألاَ هَل بلَّغت؟) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ،
(وَعَن الفراسي قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أسأَل يَا رَسُول الله! فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: لَا، وَإِن كنت لَا بُد سَائِلًا فسل
الصَّالِحين) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ،
والفراسي، بِكَسْر الْفَاء وَفتح الرَّاء وَكسر السِّين
الْمُهْملَة. قَالَ فِي (الْكَمَال) : روى عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا وَاحِدًا، وَقَالَ
الْمُنْذِرِيّ: وَله حَدِيث آخر فِي الْبَحْر: (هُوَ
الطّهُور مَاؤُهُ والحل ميتَته) ، كِلَاهُمَا يرويهِ
اللَّيْث بن سعد، (وَعَن عَائِذ بن عَمْرو أَن رجلا أَتَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا
وضع رجله على أُسْكُفَّة الْبَاب قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو تعلمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَة
مَا مَشى أحد إِلَى أحد يسْأَله شَيْئا) .
1741 - حدَّثنا مُوسى اقال حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ عنْ أبِيهِ عنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ لأَنْ يأخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيأتِي
بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلى ظَهْرِهِ فيَبِيعَهَا فيَكُفَّ
الله بِهَا وَجْهَهُ خيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يسْألَ النَّاسَ
أعْطَوْهُ أوْ مَنَعُوهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا،
ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، ووهيب هُوَ
ابْن خَالِد. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشّرْب عَن
مُعلى بن أَسد عَن وهيب، وَفِي الْبيُوع عَن يحيى بن
مُوسَى عَن وَكِيع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزَّكَاة عَن
عَليّ ابْن مُحَمَّد وَعَمْرو بن عبد الله الأودي،
كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِهِ. قَوْله: (لِأَن يَأْخُذ) ،
اللَّام فِيهِ إِمَّا ابتدائية أَو جَوَاب قسم مَحْذُوف،
والحزمة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي: مَا
سمي بِالْفَارِسِيَّةِ: دستة. قَوْله: (فيكف الله) أَي:
فَيمْنَع الله بِهِ وَجهه من أَن يريق مَاءَهُ بالسؤال من
النَّاس. قَوْله: (خير) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، أَي: هُوَ خير لَهُ من أَن يسْأَل أَي: من سُؤال
النَّاس، وَالْمعْنَى: إِن لم يجد إلاَّ الاحتطاب من
الْحَرْف، فَهُوَ مَعَ مَا فِيهِ من امتهان الْمَرْء
نَفسه، وَمن الْمَشَقَّة خير لَهُ من الْمَسْأَلَة.
2741 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ
أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ
(9/51)
بنِ الزُّبَيْرِ وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ
أنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَام رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ
سَلْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعْطانِي
ثُمَّ سألْتُهُ فأعْطَاني ثُمَّ سألْتُهُ فأعْطَاني ثُمَّ
قَالَ يَا حَكِيمُ إنَّ هاذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ
فمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ
ومَنْ أخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَك لَهُ فِيهِ
وَكَانَ كالَّذِي يأكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ اليَدُ العُلْيَا
خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى قَالَ حَكِيمٌ فقُلْتُ يَا
رسولَ الله وَالَّذِي بعثَكَ بِالحَقِّ لَا أرْزأُ أحَدا
بَعْدَكَ شَيْئا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكانَ أبُو
بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَدْعُو حَكِيما إلَى
العَطَاءِ فَيأبى أنْ يَقْبَلهُ مِنْهُ ثُمَّ إنَّ عُمَرَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فأبَى أنْ
يقْبَلَ منْهُ شَيْئا فَقَالَ عُمَرُ إنِّي أُشْهِدَكُمْ
يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ إنِّي أعْرِضُ
عَلَيه حَقَّهُ منْ هاذا الفَيءِ فيَأبَى أنْ يأخُذَهُ
فلَمْ يَرْزأ حَكيمٌ أحدا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رسولِ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تُوُفِّيَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْيَد الْعليا خير من
الْيَد السُّفْلى) لِأَن المُرَاد من الْيَد الْعليا على
قَول: هِيَ المتعففة وَإِن كَانَ الْمَشْهُور هِيَ
المنفقة، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب لَا صَدَقَة
إلاَّ عَن ظهر غنى.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: عَبْدَانِ، هُوَ عبد
الله بن عُثْمَان بن جبلة الْمروزِي، وعبدان لقبه.
الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث:
يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد ابْن
مُسلم الزُّهْرِيّ الْمدنِي. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير
بن الْعَوام الْمدنِي. السَّادِس: سعيد بن الْمسيب
الْمدنِي. السَّابِع: حَكِيم، بِفَتْح الْحَاء: ابْن
حزَام، بِكَسْر الْحَاء وبالزاي المخففة، وَقد مر عَن
قريب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور
بلقبه. وَفِيه: اثْنَان مذكوران مجردين. وَفِيه: أحدهم
مَذْكُور بنسبته إِلَى قبيلته ويروى عَن اثْنَيْنِ.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: الزُّهْرِيّ
وَعُرْوَة وَسَعِيد بن الْمسيب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْوَصَايَا وَفِي الْخمس عَن مُحَمَّد بن
يُوسُف عَن الْأَوْزَاعِيّ وَفِي الرقَاق عَن عَليّ بن عبد
الله عَن سُفْيَان كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه
مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو بن
مُحَمَّد النَّاقِد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن سُوَيْد بن نصر عَن
ابْن الْمُبَارك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن
قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان
وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَأَعَادَهُ فِي الرقَاق عَن
الرّبيع بن سُلَيْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خضرَة) ، التَّأْنِيث إِمَّا
بِاعْتِبَار الْأَنْوَاع أَو الصُّورَة أَو تَقْدِيره،
كالفاكهة الخضرة الحلوة، شبه المَال فِي الرَّغْبَة فِيهِ
بهَا فَإِن الْأَخْضَر مَرْغُوب من حَيْثُ النّظر، والحلو
من حَيْثُ الذَّوْق، فَإِذا اجْتمعَا زادا فِي الرَّغْبَة،
حَاصله أَن التَّشْبِيه فِي الرَّغْبَة فِيهِ والميل
إِلَيْهِ وحرص النُّفُوس عَلَيْهِ بالفاكهة الخضراء
المستلذة، فَإِن الْأَخْضَر مَرْغُوب فِيهِ على
انْفِرَاده، والحلو كَذَلِك على انْفِرَاده، فاجتماعهما
أَشد، وَفِيه أَيْضا إِشَارَة إِلَى عدم بَقَائِهِ لِأَن
الخضراوات لَا تبقى وَلَا ترَاد للبقاء. قَوْله: (فَمن
أَخذه بسخاوة) ، نفس أَي: بِغَيْر شَره وَلَا إلحاح، وَفِي
رِوَايَة: (بِطيب نفس) . فَإِن قلت: السخاوة ءنما هِيَ فِي
الْإِعْطَاء لَا فِي الْأَخْذ. قلت: السخاوة فِي الأَصْل
السهولة، وَالسعَة. قَالَ القَاضِي: فِيهِ احْتِمَالَانِ:
أظهرهمَا أَنه عَائِد إِلَى الْآخِذ، أَي من أَخذه بِغَيْر
حرص وطمع وإشراف عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: إِلَى الدَّافِع،
أَي: من أَخذه مِمَّن يَدْفَعهُ منشرحا بِدَفْعِهِ طيب
النَّفس لَهُ. قَوْله: (بإشراف نفس) الإشراف على الشَّيْء:
الِاطِّلَاع عَلَيْهِ والتعرض لَهُ، وَقيل: معنى إشراف نفس
أَن المسؤول يُعْطِيهِ عَن تكره. وَقيل: يُرِيد بِهِ شدَّة
حرص السَّائِل وإشرافه على الْمَسْأَلَة. قَوْله: (لم
يُبَارك لَهُ فِيهِ) الضَّمِير فِي: لَهُ، يرجع إِلَى
الْآخِذ، وَفِي: فِيهِ، إِلَى المعطَى بِفَتْح الطَّاء،
وَمَعْنَاهُ: إِذْ لم يمْنَع نَفسه الْمَسْأَلَة وَلم يصن
مَاء وَجهه لم يُبَارك لَهُ فِيمَا أَخذ وَأنْفق. قَوْله:
(كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع) أَي: كمن بِهِ الْجُوع
الْكَاذِب، وَقد يُسمى بجوع الْكَلْب كلما ازْدَادَ أكلا
ازْدَادَ جوعا لِأَنَّهُ يَأْكُل من سقم كلما أكل ازْدَادَ
سقما وَلَا يجد شبعا وَيَزْعُم أهل الطِّبّ أَن ذَلِك من
غَلَبَة السَّوْدَاء، ويسمونها: الشَّهْوَة الْكَلْبِيَّة،
وَهِي صفة لمن يَأْكُل وَلَا يشْبع. قلت:
(9/52)
الظَّاهِر أَنه من غَلَبَة السَّوْدَاء
وشدتها كلما ينزل الطَّعَام فِي معدته يَحْتَرِق وإلاَّ
فَلَا يتَصَوَّر أَن يسع فِي الْمعدة أَكثر مَا يسع فِيهِ،
وَقد ذكر أهل الْأَخْبَار أَن رجلا من أهل الْبَادِيَة أكل
جملا وَامْرَأَته أكلت فصيلاً ثمَّ أَرَادَ أَن
يُجَامِعهَا فَقَالَت: بيني وَبَيْنك جمل وفصيل كَيفَ يكون
ذَاك؟ قَوْله: (الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى) ،
قد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي: بَاب لَا صَدَقَة
إلاَّ عَن ظهر غنى. قَوْله: (لَا أرزأ) ، بِفَتْح الْهمزَة
وَسُكُون الرَّاء وَفتح الزَّاي وبالهمزة: مَعْنَاهُ لَا
أنقص مَاله بِالطَّلَبِ، وَفِي (النِّهَايَة) : مَا رزأته
أَي: مَا نقصته، وَفِي رِوَايَة لإسحاق: (قلت: فوَاللَّه
لَا تكون يَدي بعْدك تَحت يَد من أَيدي الْعَرَب. قلت:
هَذَا معنى قَوْله: (بعْدك) ، الْخطاب للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: غَيْرك،
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ امْتنع من الْأَخْذ
مُطلقًا وَهُوَ مبارك إِذا كَانَ بسعة الصَّدْر مَعَ عدم
الإشراف؟ قلت: مُبَالغَة فِي الِاحْتِرَاز إِذْ مُقْتَضى
الجبلة الإشراف والحرص وَالنَّفس سراقَة والعرق دساس، وَمن
حام حول الْحمى يُوشك أَن يَقع فِيهِ. قَوْله: (فَأبى أَن
يقبل مِنْهُ) ، أَي: فَامْتنعَ حَكِيم أَن يقبل عَطاء من
أبي بكر فِي الأول، وَمن عمر فِي الثَّانِي، وَجه
امْتِنَاعه من أَخذ الْعَطاء مَعَ أَنه حَقه لِأَنَّهُ
خشِي أَن يقبل من أحد شَيْئا فيعتاد الْأَخْذ فتتجاوز بِهِ
نَفسه إِلَى مَا لَا يُريدهُ، ففطمها عَن ذَلِك وَترك مَا
يرِيبهُ إِلَى مَا لَا يرِيبهُ، وَلِأَنَّهُ خَافَ أَن
يفعل خلاف مَا قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لِأَنَّهُ قَالَ: لَا أرزأ أحدا بعْدك) . حَتَّى
روى فِي رِوَايَة: (وَلَا مِنْك يَا رَسُول الله؟ قَالَ:
وَلَا مني) . قَوْله: (فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: إِنِّي أشهدكم) إِنَّمَا أشهد عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على حَكِيم لِأَنَّهُ خشِي سوء
التَّأْوِيل، فَأَرَادَ تبرئة ساحته بِالْإِشْهَادِ
عَلَيْهِ، وَأَن أحدا لَا يسْتَحق شَيْئا من بَيت المَال
بعد أَن يُعْطِيهِ الإِمَام إِيَّاه. وَفِي (التَّوْضِيح)
: وَأما قبل ذَلِك فَلَيْسَ بمستحق لَهُ، وَلَو كَانَ
مُسْتَحقّا لَهُ لقضى عمر على حَكِيم بِأَخْذِهِ، ذَلِك
يدل عَلَيْهِ قَول الله تَعَالَى، حِين ذكر قسم
الصَّدقَات، وَفِي أَي الْأَقْسَام يقسم أَيْضا: {كَيْلا
يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم وَمَا آتَاكُم
الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) . الْآيَة. فَإِنَّمَا
هُوَ لمن أوتيه لَا لغيره. وَإِنَّمَا قَالَ الْعلمَاء فِي
إِثْبَات الْحُقُوق فِي بَيت المَال مشددا على غير المرضى
من السلاطين ليغلقوا بَاب الامتداد إِلَى أَمْوَال
الْمُسلمين، وَالسَّبَب إِلَيْهَا بِالْبَاطِلِ، وَيدل على
ذَلِك أَن من سرق بَيت المَال أَنه يقطع، وزنى بِجَارِيَة
من الفىء أَنه يحد، وَلَو اسْتحق فِي بَيت المَال أَو فِي
الْفَيْء شَيْئا على الْحَقِيقَة قبل إِعْطَاء السُّلْطَان
لَهُ لكَانَتْ شُبْهَة تدرأ الْحَد عَنهُ. قلت: جُمْهُور
الْأمة على أَن للْمُسلمين حَقًا فِي بَيت المَال والفيء،
وَلَكِن الإِمَام بقسمه على اجْتِهَاده، فعلى هَذَا لَا
يجب الْقطع وَلَا الْحَد للشُّبْهَة وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقه
فِي: بَاب الِاجْتِهَاد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله:
(حَتَّى توفّي) ، زَاد إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي
(مُسْنده) من طَرِيق معمر بن عبد الله بن عُرْوَة مُرْسلا:
أَنه مَا أَخذ من أبي بكر وَلَا عمر وَلَا عُثْمَان وَلَا
مُعَاوِيَة ديوانا وَلَا غَيره حَتَّى مَاتَ لعشر سِنِين
من إِمَارَة مُعَاوِيَة، وَزَاد ابْن إِسْحَاق أَيْضا فِي
(مُسْنده) من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: فَمَاتَ حيت
مَاتَ وَأَنه لمن أَكثر قُرَيْش مَالا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَا قَالَ الْمُهلب: إِن
سُؤال السُّلْطَان الْأَكْبَر لَيْسَ بِعَارٍ. وَفِيه: أَن
السَّائِل إِذا ألحف لَا بَأْس برده وموعظته وَأمره
بالتعفف وَترك الْحِرْص. وَفِيه: أَن الْإِنْسَان لَا
يسْأَل إِلَّا عِنْد الْحَاجة والضرورة لِأَنَّهُ إِذا
كَانَت يَده السُّفْلى مَعَ إِبَاحَة الْمَسْأَلَة فَهُوَ
أَحْرَى أَن يمْتَنع من ذَلِك عِنْد غير الْحَاجة. وَفِيه:
أَن من كَانَ لَهُ حق عِنْد أحد فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ
أَخذه إِذا أَتَى، فَإِن كَانَ مِمَّا لَا يسْتَحقّهُ
إلاَّ ببسط الْيَد فَلَا يجْبر على أَخذه، وَفِيه: مَا
قَالَ ابْن أبي جَمْرَة: قد يَقع الزّهْد مَعَ الْأَخْذ،
فَإِن سخاوة النَّفس هُوَ زهدها. تَقول: سخت بِكَذَا أَي:
جَادَتْ، وسخت عَن كَذَا أَي: لم تلْتَفت إِلَيْهِ.
وَفِيه: أَن الْأَخْذ مَعَ سخاوة النَّفس يحصل أجر الزّهْد
وَالْبركَة فِي الرزق، فَظهر أَن الزّهْد يحصل خيري
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَفِيه: ضرب الْمثل بِمَا لَا
يعقله السَّامع من الْأَمْثِلَة، لِأَن الْغَالِب من
النَّاس لَا يعرف الْبركَة إلاَّ فِي الشَّيْء الْكثير،
فَبين بالمثال الْمَذْكُور أَن الْبركَة هِيَ خلق من خلق
الله تَعَالَى، وَضرب لَهُم الْمثل بِمَا يعهدون
بِالْأَكْلِ إِنَّمَا يُؤْكَل ليشبع فَإِذا أكل وَلم يشْبع
كَانَ عناء فِي حَقه بِغَيْر فَائِدَة، وَكَذَلِكَ المَال
لَيست الْفَائِدَة فِي عينه وَإِنَّمَا هِيَ لما يتَحَصَّل
بِهِ من الْمَنَافِع، فَإِذا كثر المَال عِنْد الْمَرْء
بِغَيْر تَحْصِيل مَنْفَعَة كَانَ وجوده كَالْعدمِ.
وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي للْإِمَام أَن لَا يبين للطَّالِب
مَا فِي مَسْأَلته من الْمفْسدَة إلاَّ بعد قَضَاء حَاجته
لتقع موعظته لَهُ الْموقع لِئَلَّا يتخيل أَن ذَلِك سَبَب
لمَنعه حَاجته. وَفِيه: جَوَاز تكَرر السُّؤَال ثَلَاثًا.
وَجَوَاز الْمَنْع فِي الرَّابِعَة. وَفِيه: أَن رد
السَّائِل بعد ثَلَاث لَيْسَ بمكروه. وَأَن الْإِجْمَال
فِي الطّلب مقرون بِالْبركَةِ.
(9/53)
|