عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 32 - (بابُ مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ
الثِّيَابِ وَالأرْدِيَةِ وَالأُزُرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يلبس وَلما بَين مَا لَا
يلبس، شرع فِي بَيَان مَا يلبس، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن
تكون مَوْصُولَة أَي: بَاب فِي بَيَان الشَّيْء الَّذِي
يلبس الْمحرم، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة أَي: فِي
بَيَان لبس الْمحرم، وَكلمَة: من، فِي: من الثِّيَاب،
بَيَانِيَّة وَهُوَ جمع ثوب، والأردية جمع رِدَاء، والأزر
بِضَم الْهمزَة وَالزَّاي جمع إِزَار، وَيجوز تسكين
الزَّاي وَضمّهَا اتبَاعا للهمزة، والرداء لِلنِّصْفِ
الْأَعْلَى، والإزار لِلنِّصْفِ الْأَسْفَل، وَعطف
الْأَرْبَعَة على الثِّيَاب من بَاب عطف الْخَاص على
الْعَام.
ولَبِسَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
الثِّيَابَ المُعَصْفَرَةَ وَهْيَ مُحْرِمَةٌ وقالَتْ لاَ
تَلَثَّمْ وَلاَ تَتَبَرْقَعْ وَلاَ تلْبَسْ ثَوْبا
بِوَرْسٍ وَلاَ زَعْفَرَانٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي صدر هَذَا التَّعْلِيق أَعنِي
قَوْله: (ولبست عَائِشَة الثِّيَاب المعصفرة) أَي:
المعصفرة أَي: المصبوغة بالعصفر. قَوْله: (وَهِي مُحرمَة)
جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن
الْمَنْصُور من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ:
(كَانَت عَائِشَة تلبس المعصفرة) . وَأخرج الْبَيْهَقِيّ
من طَرِيق ابْن أبي مليكَة: (أَن عَائِشَة كَانَت تلبس
الثِّيَاب المورد بالعصفر الْخَفِيف وَهِي مُحرمَة) وَقيل:
الثَّوْب المورد: الْمَصْبُوغ بالورد. قَوْله: (وَقَالَت)
أَي: عَائِشَة: لَا تلثم، بتاء مثناة وَاحِدَة وَفتح
اللَّام وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَأَصله: تتلثم،
فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي: تلظى، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر: لَا تلتثم، بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون اللَّام وَفتح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة: من
الالتثام، من بَاب الافتعال، وَالْأول من بَاب التفعل،
وَسقط هَذَا من الأَصْل فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ،
وَكِلَاهُمَا من اللثام، وَهُوَ مَا يُغطي الشّفة.
وَالْمعْنَى هَهُنَا: لَا تغطي الْمَرْأَة شفتها بِثَوْب.
قَوْله: (وَلَا تتبرقع) أَي: وَلَا تلبس البرقع، بِضَم
الْبَاء وَسُكُون الرَّاء وَضم الْقَاف وَفتحهَا، وَهُوَ
مَا يُغطي الْوَجْه. وَعَن الْحسن وَعَطَاء مثل مَا رُوِيَ
عَن عَائِشَة، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مصنفة) عَن
عبد الْأَعْلَى عَن هِشَام عَن الْحسن وَعَطَاء، قَالَا:
لَا تلبس الْمُحرمَة القفازين والسراويل وَلَا تبرقع وَلَا
تلثم وتلبس مَا شَاءَت من الثِّيَاب إلاَّ ثوبا ينفض
عَلَيْهَا ورسا أَو زعفرانا. قَوْله: (وَلَا تلبس ثوبا
بورس وزعفران) أَي: مصبوغا بورس وزعفران، وَقد روى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (نهى النِّسَاء فِي إحرامهن عَن القفازين والنقاب،
وَمَا مَسّه الورس والزعفران من الثِّيَاب، ولتلبس بعد
ذَلِك مَا أحبت من ألوان الثِّيَاب من معصفر أَو خَز أَو
حلي أَو قَمِيص أَو سَرَاوِيل.
وَقَالَ جابِرٌ: لاَ أرَى المُعَصْف طِيبا
أَي: قَالَ جَابر بن عبد الله الصَّحَابِيّ: أَي: لَا
أرَاهُ مطيبا لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يكون الْمَفْعُول
الثَّانِي معنى، وَالْأول عينا، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق
الشَّافِعِي، ومسدد بِلَفْظ: (لَا تلبس الْمَرْأَة ثِيَاب
الطّيب، وَلَا أرى المعصفر طيبا) .
وَلَمُ تَرَ عائِشَةُ بَأسا بِالحُلِيِّ وَالثَّوْبِ
الأسْوَدِ والمُوَدَّدِ والخُفِّ لِلْمَرْأةِ
الْحلِيّ، بِضَم الْحَاء وَكسر اللَّام، جمع الحلى.
وَالثَّوْب المورَّد الْمَصْبُوغ بالورد، يَعْنِي: على لون
الْورْد، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن باباه
الْمَكِّيّ أَن امْرَأَة سَأَلت عَائِشَة: مَا تلبس
الْمَرْأَة فِي إحرامها؟ قَالَت عَائِشَة: تلبس من خزها
وبزها وأصباغها وحليها. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا
على أَن الْمَرْأَة تلبس الْمخيط كُله والخفاف وَإِن لَهَا
أَن تغطي رَأسهَا وتستر شعرهَا إلاَّ وَجههَا تسدل
عَلَيْهِ الثَّوْب سدلاف خَفِيفا تستتر بِهِ عَن نظر
الرِّجَال، وَلَا تخمره إلاَّ مَا رُوِيَ عَن فَاطِمَة بنت
الْمُنْذر، قَالَت: كُنَّا نخمر وُجُوهنَا وَنحن مُحرمَات
مَعَ أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
تَعْنِي: جدَّتهَا. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك
التخمير سدلاً كَمَا جَاءَ عَن عَائِشَة، قَالَت: كُنَّا
مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا مر بِنَا
ركب سدلنا الثَّوْب على وُجُوهنَا وَنحن مُحرمَات، فَإِذا
جَاوز رفعنَا. قلت: فِيمَا أخرجه الْجَمَاعَة: وَلَا تنتقب
الْمَرْأَة الْمُحرمَة فِيهِ دَلِيل على أَنه يحرم على
الْمَرْأَة ستر وَجههَا فِي الْإِحْرَام. وَقَالَ الْمُحب
الطَّبَرِيّ: مَفْهُومه يدل على إِبَاحَة تَغْطِيَة
الْوَجْه للرجل وإلاَّ لما كَانَ فِي التَّقْيِيد
بِالْمَرْأَةِ فَائِدَة. قلت: قد ذهب إِلَى جَوَاز
تَغْطِيَة الرجل الْمحرم وَجهه عُثْمَان بن عَفَّان وَزيد
بن ثَابت ومروان بن
(9/166)
الحكم وَمُجاهد وطاووس، وَإِلَيْهِ ذهب
الشَّافِعِي وَجُمْهُور أهل الْعلم، وَذهب أَبُو حنيفَة
وَمَالك إِلَى الْمَنْع من ذَلِك، واحتجا بِحَدِيث ابْن
عَبَّاس فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته، فَقَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تخمروا وَجهه وَلَا رَأسه،
رَوَاهُ مُسلم، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: وكفنوه
فِي ثَوْبَيْنِ خَارِجا وَجهه وَرَأسه. وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ: وَهَذَا أَمر فِيهِ خَفَاء على الْخلق
وَلَيْسوا على الْحق. قَالَ: وَلَقَد رَأَيْت بعض
أَصْحَابنَا من أهل الْعلم مِمَّن يتعاطى الْفِقْه
والْحَدِيث يَبْنِي الْمَسْأَلَة على أَن الْوَجْه من
الرَّأْس أم لَا؟ فعجبت لضلالته عَن دلَالَته ونسيانه
لصنعته، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: لَا أَدْرِي مَا وَجه
إِنْكَاره على من بنى الْمَسْأَلَة على ذَلِك، وَمَا
قَالَه وَاضح فِي قَول ابْن عمر الَّذِي رَوَاهُ مَالك،
وَقد جَاءَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح التَّفْرِقَة بَين
أَعلَى الْوَجْه وأسفله، فروى سعيد بن مَنْصُور فِي
(سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: يُغطي الْمحرم
وَجهه مَا دون الحاجبين، وَفِي رِوَايَة لَهُ: مَا دون
عَيْنَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بذلك الِاحْتِيَاط لكشف
الرَّأْس، وَلَكِن هَذَا أَمر زَائِد على الِاحْتِيَاط
لذَلِك، وَالِاحْتِيَاط يحصل بِدُونِ ذَلِك.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لاَ بأسَ أنْ يُبْدِلَ ثِيابَهُ
أَي: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَوَصله أَبُو بكر، قَالَ:
حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة بن شُعْبَة عَن إِبْرَاهِيم
قَالَ: يُغير الْمحرم ثِيَابه مَا شَاءَ بعد أَن يلبس
ثِيَاب الْمحرم، قَالَ: وَحدثنَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش
عَن سعيد بن يُوسُف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة
قَالَ: غيَّر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثوبيه
بِالتَّنْعِيمِ. وَحدثنَا هشيم عَن مُغيرَة عَن
إِبْرَاهِيم وَيُونُس عَن الْحسن وحجاج عَن عبد الْملك
وَعَطَاء أَنهم لم يرَوا بَأْسا أَن يُبدل الْمحرم
ثِيَابه، وَكَذَا قَالَه طَاوُوس وَسَعِيد بن جُبَير،
سُئِلَ: أيبيع الْمحرم ثِيَابه؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ ابْن
التِّين: مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه أَنه يجوز لَهُ
التّرْك للباس الثَّوْب، وَيجوز لَهُ بَيْعه. وَقَالَ
سَحْنُون: لَا يجوز لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ يعرض الْقمل
للْقَتْل بِالْبيعِ.
5451 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ
قَالَ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني
مُوسى بنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبرنِي كُرَيْبٌ عنْ عَبْدِ
الله بنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ
انْطَلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ
المَدِينَةِ بَعْدَما ترَجَّلَ وادَّهَنَ ولَبِسَ إزَارَهُ
وَرِدَاءَهُ هُوَ وأصْحَابُهُ فلَمْ يَنْهَ عنْ شيءٍ مِنَ
الأرْدِيَةِ والأُزْرِ تُلْبَسُ إلاَّ المُزَعْفَرَةَ
الَّتِي تَرْدَعُ عَلى الجِلدِ فأصبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ
رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوى عَلى البيْدَاءِ أهَلَّ
هُوَ وأصْحابُهُ وقَلَّدَ بَدَنتَهُ وذالِكَ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ فقَدِمَ مَكَّةَ لأِرْبَعِ
لَيالٍ خَلَوْنَ مِن ذِي الحِجَّةِ فطافَ بِالبَيْتِ وسعَى
بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ ولَمْ يَحِلَّ مِنْ أجْلِ
بُدْنِهِ لأنَّهُ قَلَّدهَا ثُمَّ نزَلَ بأعْلَى مَكَّةَ
عِنْدَ الحَجُونِ وَهْوَ مُهل بِالحَجِّ ولَمْ يَقْرَبِ
الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ
عَرَفَةَ وأمَرَ أصْحَابَهُ أنْ يَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ
وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ
رُؤوسِهِمْ ثُمَّ يحِلُّوا وذالِك لِمَنْ لَمْ يَكُنْ
معَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا وَمَنْ كانَتْ مَعَهُ
امْرَأتُهُ فَهْيَ لَهُ حَلاَلٌ والطِّيبُ والثِّيَابُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة قَوْله: (فَلم ينْه عَن شَيْء من
الأردية والأزر تلبس) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا، والمقدمي، بتَشْديد الدَّال
الْمَفْتُوحَة، وفضيل مصغر فضل، وَهَذَا الحَدِيث من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ مُخْتَصرا أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ترجل) أَي: سرح شعره. قَوْله:
(وادهن) أَي: اسْتعْمل الدّهن، وَأَصله: ادتهن، لِأَنَّهُ
من بَاب الافتعال، فأبدلت الدَّال من التَّاء وأدغمت
الدَّال فِي الدَّال. قَوْله: (هُوَ) ، ضمير فصل. قَوْله:
(تردع) ، بالراء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ أَي: تلطخ
الْجلد، يُقَال: تردع إِذا التطخ، والردع أثر الطّيب، وردع
بِهِ الطّيب إِذا لزق بجلده، وَقَالَ ابْن بطال: وَقد
رُوِيَ: ترذع، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، من قَوْلهم: أرذعت
الأَرْض أَي: كثرت مَنَافِع الْمِيَاه فِيهَا، والرذع
بِالْمُعْجَمَةِ الطين. قَوْله: (الَّتِي تردع على الْجلد)
، هَكَذَا وَقع فِي الأَصْل. وَقَالَ
(9/167)
ابْن الْجَوْزِيّ: الصَّوَاب حذف على.
قَوْله: (فَأصْبح بِذِي الحليفة) أَي: وصل إِلَيْهَا
نَهَارا فَبَاتَ بهَا، كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي
الْبَاب الَّذِي بعده من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. قَوْله: (بدنته) قَالَ الْجَوْهَرِي هِيَ: نَاقَة
أَو بقرة تنحر بِمَكَّة، سميت بذلك لأَنهم كَانُوا
يسمنونها، وَالْجمع بدن بِالضَّمِّ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي:
تكون الْبَدنَة من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: هِيَ الْبَعِير ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى
بِشَرْط أَن يكون فِي سنّ الْأُضْحِية، وَهِي الَّتِي
استكملت خمس سِنِين. قَوْله: (فَأصْبح بِذِي الحليفة ركب
رَاحِلَته) ، وَفِي (صَحِيح مُسلم) عَنهُ أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (صلى الظّهْر بِذِي الحليفة، ثمَّ دعى
بناقته فأشعرها فِي صفحة سنامها الْأَيْمن، وسلت الدَّم
وقلدها بنعلين، ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت
بِهِ على الْبَيْدَاء أهلَّ بِالْحَجِّ) . وَقَالَ ابْن
حزم: فَهَذَا ابْن عَبَّاس يذكر أَنه صلى الظّهْر فِي ذِي
الحليفة، وَأنس يذكر أَنه صلاَّها بِالْمَدِينَةِ، وكلا
الطَّرِيقَيْنِ فِي غَايَة الصِّحَّة، وَأنس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أثبت فِي هَذَا الْمَكَان لِأَنَّهُ ذكر
أَنه حضر ذَلِك بقوله: صلى الظّهْر بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ
إِن ابْن عَبَّاس لم يذكر حضورا فِيهَا أَنَّهَا كَانَت
يَوْم خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة،
إِنَّمَا عَنى بِهِ الْيَوْم الثَّانِي، فَلَا تعَارض.
وَعند النَّسَائِيّ: عَن أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(صلى الظّهْر بِالْبَيْدَاءِ ثمَّ ركب وَصعد جبل
الْبَيْدَاء، وأهلَّ بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة) . وَلَا
تعَارض، فَإِن الْبَيْدَاء وَذَا الحليفة متصلتان بعضهما
مَعَ بعض، فصلى الظّهْر فِي آخر ذِي الحليفة وَهُوَ أول
الْبَيْدَاء. قَوْله: (وَذَلِكَ لخمس بَقينَ من ذِي
الْقعدَة) ، ذَلِك إِشَارَة إِلَى الْمَذْكُور من ركُوبه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاحِلَته واستوائه على
الْبَيْدَاء وإهلاله وتقليده بدنته لخمس بَقينَ من ذِي
الْقعدَة، وَهُوَ بِكَسْر الْقَاف وَفتحهَا، وَكَذَا فِي
ذِي الْحجَّة بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَالْفَتْح هُنَا
أشهر. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قَوْله: وَذَلِكَ لخمس
بَقينَ من ذِي الْقعدَة يحْتَمل أَنه أَرَادَ الْخُرُوج،
وَيحْتَمل الإهلال، فأردنا أَن نَعْرِف أَيهمَا أَرَادَ،
فَوَجَدنَا عَائِشَة رَوَت فِي صَحِيح مُسلم: (خرجنَا مَعَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لخمس بَقينَ من ذِي
الْقعدَة) . وَفِي الإكليل من حَدِيث الْوَاقِدِيّ عَن
ابْن أبي سُبْرَة عَن سعيد بن مُحَمَّد بن جُبَير عَن
أَبِيه مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم أَنه قَالَ: خرج رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من الْمَدِينَة يَوْم السبت
لخمس لَيَال بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة عشر، فصلى الظّهْر
بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ) وَزعم ابْن حزم أَنه: (خرح
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْخَمِيس لست بَقينَ من
ذِي الْقعدَة نَهَارا بعد أَن تغدى وَصلى الظّهْر
بِالْمَدِينَةِ، وَصلى الْعَصْر من ذَلِك الْيَوْم بِذِي
الحليفة، وَبَات بِذِي الحليفة لَيْلَة الْجُمُعَة، وَطَاف
على نِسَائِهِ ثمَّ اغْتسل ثمَّ صلى بهَا الصُّبْح، ثمَّ
طيبته عَائِشَة ثمَّ أحرم وَلم يغسل الطّيب، وأهلَّ حِين
انبعثت بِهِ رَاحِلَته من عِنْد مَسْجِد ذِي الحليفة
بِالْقُرْآنِ: الْعمرَة وَالْحج مَعًا، وَذَلِكَ قبل
الظّهْر بِيَسِير، ثمَّ لبَّى ثمَّ نَهَضَ وَصلى الظّهْر
بِالْبَيْدَاءِ، ثمَّ تَمَادى واستهل هِلَال ذِي الْحجَّة.
قَالَ: فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ: إِنَّه خرج من الْمَدِينَة
لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَقد ذكر مُسلم من حَدِيث
عمْرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: لخمس
بَقينَ من ذِي الْقعدَة لَا نرى إلاَّ الْحَج؟ قلت: قد ذكر
مُسلم أَيْضا من طَرِيق عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، خرجنَا مَعَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، موافين لهِلَال ذِي الْحجَّة، فَلَمَّا
اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَة عَنْهَا رَجعْنَا إِلَى من لم
تضطرب الرِّوَايَة عَنهُ فِي ذَلِك، وهما: عمر بن الْخطاب
وَابْن عَبَّاس، فَوَجَدنَا ابْن عَبَّاس ذكر أَن اندفاع
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذِي الحليفة بعد أَن
بَات بهَا كَانَ لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَذكر عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يَوْم عَرَفَة كَانَ يَوْم
الْجُمُعَة فِي ذَلِك الْعَام، فَوَجَبَ أَن استهلال ذِي
الْحجَّة كَانَ لَيْلَة يَوْم الْخَمِيس، وَأَن آخر يَوْم
من ذِي الْقعدَة كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء، فصح أَن
خُرُوجه كَانَ يَوْم الْخَمِيس لست بَقينَ من ذِي
الْحجَّة، ويزيده وضوحا حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: صلينَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الظّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَالْعصر بِذِي الحليفة
رَكْعَتَيْنِ، فَلَو كَانَ خُرُوجه لخمس بَقينَ لذِي
الْقعدَة لَكَانَ بِلَا شكّ يَوْم الْجُمُعَة،
وَالْجُمُعَة لَا تصلى أَرْبعا، فصح أَن ذَلِك كَانَ يَوْم
الْخَمِيس. وَعلمنَا أَن معنى قَول عَائِشَة: لخمس بَقينَ
من ذِي الْقعدَة، إِنَّمَا عنت اندفاعه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من ذِي الحليفة، فَلم تعد المرحلة الْقَرِيبَة،
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ أَن يخرج
لسفر لم يخرج إلاَّ يَوْم الْخَمِيس، فَبَطل خُرُوجه يَوْم
الْجُمُعَة، وَبَطل أَن يكون يَوْم السبت، لِأَنَّهُ كَانَ
يكون حِينَئِذٍ خَارِجا من الْمَدِينَة لأَرْبَع بَقينَ من
ذِي الْقعدَة، وَصَحَّ أَن خُرُوجه كَانَ لست بَقينَ،
واندفاعه من ذِي الحليفة لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة،
وتألفت الرِّوَايَات. قَوْله: (فَقدم مَكَّة لأَرْبَع
لَيَال خلون من ذِي الْحجَّة) قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدثنَا
أَفْلح بن حميد عَن أَبِيه عَن ابْن عمر أَن هِلَال ذِي
الْحجَّة كَانَ لَيْلَة الْخَمِيس، الْيَوْم الثَّامِن من
يَوْم خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة،
وَنزل بِذِي طوى، فَبَاتَ
(9/168)
بهَا لَيْلَة الْأَحَد لأَرْبَع خلون من
ذِي الْحجَّة، وَصلى الصُّبْح بهَا، وَدخل مَكَّة نَهَارا
من أَعْلَاهَا صَبِيحَة يَوْم الْأَحَد. قَوْله: (وَلم
يحل) أَي: لم يصر حَلَالا، إِذْ لَا يجوز لصَاحب الْهَدْي
أَن يتَحَلَّل حَتَّى يبلغ الْهدى مَحَله. قَوْله:
(الْحجُون) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الْجِيم
على وزن فعول: مَوضِع بِمَكَّة عِنْد المحصب، وَهُوَ
الْجَبَل المشرف بحذاء الْمَسْجِد الَّذِي يَلِي شعب
الجزارين إِلَى مَا بَين الحوضين اللَّذين فِي حَائِط
عَوْف، وَهُوَ مَقْبرَة أهل مَكَّة، وَهُوَ من الْبَيْت
على ميل وَنصف. قَوْله: (وَلم يقرب الْكَعْبَة) ، لَعَلَّه
مَنعه الشّغل عَن ذَلِك، وإلاَّ فَلهُ أَن يتَطَوَّع
بِالطّوافِ مَا شَاءَ. قَوْله: (وَأمر أَصْحَابه أَن
يطوفوا بِالْبَيْتِ) ، يَعْنِي الَّذِي لم يسوقوا
الْهَدْي، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِك لمن لم يكن مَعَه بَدَنَة
قلدها أَن يطوفوا بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة،
قَوْله: (ثمَّ يقصروا) ، بِالتَّشْدِيدِ، وَالتَّقْصِير
هُنَا لأجل أَن يلْحقُوا بمنى. قَوْله: (ثمَّ يحلوا) ،
وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا متمتعين، وَلم يكن مَعَهم
الْهَدْي، فَلهَذَا حل لَهُم النِّسَاء وَالطّيب وَسَائِر
الْمُحرمَات. قَوْله: (وَذَلِكَ) إِشَارَة إِلَى قَوْله:
ثمَّ يحل قَوْله: (وَالطّيب) ، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ
وَخَبره مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: وَالطّيب حَلَال لَهُ.
قَوْله: (وَالثيَاب) ، عطف عَلَيْهِ أَي: وَالثيَاب
كَذَلِك حَلَال لَهُم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ قَارنا لِأَنَّهُ جمع بَين الْعمرَة وَالْحج فِي
سفرة وَاحِدَة، وَهُوَ صفة الْقُرْآن، وَأَنه أفضل من
الْإِفْرَاد والتمتع، وسنحرر الْبَحْث فِي ذَلِك فِيمَا
يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
42 - (بابُ مَنْ باتَ بِذِي الحُلَيْفَةِ حَتَّى أصْبَحَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من بَات بِذِي الحليفة
حَتَّى أصبح إِذا كَانَ حجَّة من الْمَدِينَة، لِأَن
مِيقَات أهل الْمَدِينَة هُوَ ذُو الحليفة، وَمرَاده من
هَذِه التَّرْجَمَة مَشْرُوعِيَّة الْمبيت بالميقات،
وَأَنه إِذا بَات فِيهِ لَا يكون فِيهِ تَأْخِير
الْإِحْرَام، وَلَا يشبه بِمن يتَجَاوَز بِغَيْر إِحْرَام.
قالَهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر: أَمر البيتوتة فِي ذِي
الحليفة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَشَارَ
بِهِ إِلَى مَا تقدم فِي: بَاب خُرُوج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على طَرِيق الشَّجَرَة، وَفِيه صلى بِذِي
الحليفة بِبَطن الْوَادي، وَبَات حَتَّى يصبح.
6451 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالمَدِينَةِ أرْبَعا وبِذِي الحُلَيْفَةِ
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ باتَ حَتَّى أصْبَحَ بِذِي الحَلِيفَةِ
فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بهِ أهَلَّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ بَات حَتَّى أصبح)
أَي: ثمَّ بَات بِذِي الحليفة، إِلَى أَن أصبح.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا، وَعبد الله ابْن
مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهِشَام بن يُوسُف أَبُو
عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك
بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر،
بِلَفْظ الْفَاعِل من الإنكدار، ابْن عبد الله أَبُو بكر،
وَيُقَال: أَبُو عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع فِي نُسْخَة وَفِي
أُخْرَى بِصِيغَة الْجمع، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي
مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه
من أَفْرَاده وَأَنه بخاري، وَهِشَام يماني صنعاني وَابْن
جريج مكي، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر مدنِي. وَفِيه:
حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، أَو حَدثنِي مُحَمَّد بن
الْمُنْكَدر، كَمَا ذكرنَا. هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ من
أَصْحَاب ابْن جريج عَنهُ، وَخَالفهُم عِيسَى بن يُونُس
فَقَالَ: عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَقد
توهم فِي ذكر الزُّهْرِيّ، وَالصَّحِيح أَنه من رِوَايَة
ابْن جريج عَن ابْن الْمُنْكَدر، قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ
فِي (علله) وَقَالَ الْمزي: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الصَّلَاة، وَالصَّوَاب أَنه فِي الْحَج رَوَاهُ عَن
أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَرْبعا) أَي: أَربع رَكْعَات،
وَهِي صَلَاة الظّهْر. . قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) أَي:
وَصلى بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ وهما صَلَاة الْعَصْر
على سَبِيل الْقصر، لِأَنَّهُ كَانَ منشأ للسَّفر،
وَذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (ثمَّ بَات)
أَي: بِذِي الحليفة حَتَّى أصبح أَي
(9/169)
حَتَّى دخل فِي الصَّباح. قَوْله: (أهلَّ)
أَي: رفع صَوته بالإهلال، ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا الْمبيت
لَيْسَ من سنَن الْحَج، وَإِنَّمَا هُوَ من جهو الرِّفْق
بأمته ليلحق بِهِ من تَأَخّر عَنهُ فِي السّير، ويدركه من
لم يُمكنهُ الْخُرُوج مَعَه، وَأما قصر صَلَاة الْعَصْر
فَلِأَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِن لم يبلغ إِلَى مَوضِع
الْمَشَقَّة مِنْهُ، فَإِذا خرج عَن مصره قصر، وَظَاهر
الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم إِثْر
الْمَكْتُوبَة لِأَنَّهُ إِذا صلى الصُّبْح لم يرْكَع
بعْدهَا للْإِحْرَام لِأَنَّهُ وَقت كَرَاهَة.
7451 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ أبِي قِلابَةَ عنْ
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ
أرْبَعا وصَلَّى العَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ
قَالَ وأحْسِبُهُ باتَ حَتَّى أصْبَحَ..
هَذَا طَرِيق آخر عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد
الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ
عَن أبي قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد
الْجرْمِي عَن أنس. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ على
هَذَا. قَوْله: قَالَ: وَأَحْسبهُ أَي: قَالَ أَبُو
قلَابَة: وَأَحْسبهُ، الشَّك من أبي قلَابَة، وَرِوَايَة
مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر الْمَاضِيَة عقيب هَذَا بِغَيْر
شكّ، وَسَيَأْتِي من طَرِيق أبي أَيُّوب بأتم من هَذَا.
52
- (بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الصَّوْت بالإهلال أَي
التَّلْبِيَة، وكل رَافع صَوته بِشَيْء فَهُوَ مهلَّ بِهِ.
52
- (بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الصَّوْت بالإهلال أَي
التَّلْبِيَة، وكل رَافع صَوته بِشَيْء فَهُوَ مهلَّ بِهِ.
8451 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا
حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلابَةَ عنْ
أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ صلَّى النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِالمَدِينَةِ الظّهْرَ أرْبَعا
وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وسَمِعْتُهُمْ
يَصْرَخُونَ بِهمَا جَمِيعا..
هَذَا طَرِيق آخر مَعَ زِيَادَة فِيهِ، وَفِي قَوْله:
(وسمعتهم يصرخون) أَي: يرفعون أَصْوَاتهم بهما، أَي:
بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة.
وَفِيه: دَلِيل على أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، كَانَ قَارنا. وَأَنه أفضل من التَّمَتُّع
والإفراد. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا سمع أنس من قرن
خَاصَّة، وَلَيْسَ فِي حَدِيثه أَنه سمع رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يصْرخ بهَا، وَإِنَّمَا أخبر بذلك عَن
قوم. وَقد يُمكن أَن يسمع قوما يصرخون بِحَجّ وقوما يصرخون
بِعُمْرَة. قلت: هَذَا تحكم وَخُرُوج عَمَّا يَقْتَضِيهِ
الْكَلَام، فَإِن الضَّمِير فِي: يصرخون، يرجع إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مَعَه من
أَصْحَابه، وَالْبَاء فِي: بهما، يتَعَلَّق: بيصرخون،
فَكيف يفرق مرجع الضَّمِير إِلَى بَعضهم بِشَيْء، وَإِلَى
الآخرين بِشَيْء غير ذَلِك؟ وَلَو لم يكن الصُّرَاخ بهما
عَن الْكل لَكَانَ أنس فرقه، وبيَّن من يصْرخ بِالْحَجِّ
وَمن يصْرخ بِعُمْرَة وَمن يصْرخ بهما، لِأَنَّهُ فِي صدد
الْإِخْبَار بصورته الَّتِي وَقعت. وَقَالَ الْكرْمَانِي
أَيْضا: يحْتَمل أَن يكون على سَبِيل التَّوْزِيع بِأَن
يكون بَعضهم صَارِخًا بِالْحَجِّ، وَبَعْضهمْ
بِالْعُمْرَةِ، وكل هَذَا التعسف مِنْهُمَا أَن لَا يكون
الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِمَا، وَمَعَ هَذَا هُوَ حجَّة
عَلَيْهِمَا وعَلى كل من كَانَ فِي مَذْهَبهمَا، وَلَا
يُوجد فِي الرَّد عَلَيْهِم أقوى من قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: لبيْك بِحجَّة وَعمرَة مَعًا، كَمَا
سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَفِيه: حجَّة لِلْجُمْهُورِ فِي اسْتِحْبَاب رفع
الْأَصْوَات بِالتَّلْبِيَةِ، وَقد جَاءَت أَحَادِيث فِي
رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. مِنْهَا: حَدِيث خَلاد بن
السَّائِب، رَوَاهُ الْأَرْبَعَة، فَأَبُو دَاوُد من
طَرِيق مَالك عَن عبد الله ابْن أبي بكر وَالنَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، كَمَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن أبي بكر وَهُوَ
ابْن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن عبد الْملك بن أبي بكر
بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام عَن خَلاد بن
السَّائِب عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول لله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أَتَانِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام،
فَأمرنِي أَن آمُر أَصْحَابِي أَن يرفعوا أَصْوَاتهم
بالإهلال والتلبية. وَمِنْهَا: حَدِيث زيد بن خَالِد،
أخرجه ابْن مَاجَه وَلَفظه: (جَاءَنِي جِبْرِيل، فَقَالَ:
يَا مُحَمَّد مر أَصْحَابك أَن يرفعوا أَصْوَاتهم
بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا من شَعَائِر الْحَج) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، أخرجه أَحْمد فِي
(مُسْنده)
(9/170)
وَلَفظه: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: أَمرنِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام،
بِرَفْع الصَّوْت بالإهلال، وَقَالَ: إِنَّه من شَعَائِر
الْحَج) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَمِنْهَا:
حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه أَحْمد أيضاعنه أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ
السَّلَام، أَتَانِي فَأمرنِي أَن أعلن بِالتَّلْبِيَةِ) .
وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، أخرجه سعيد بن مَنْصُور فِي
(سنَنه) من رِوَايَة أبي الزبير عَنهُ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ثَلَاثَة أصوات يباهي الله،
عز وَجل، بِهن الْمَلَائِكَة: الْأَذَان، وَالتَّكْبِير
فِي سَبِيل الله، وَرفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ) .
وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ، غَرِيب من حَدِيث أبي الزبير
عَن جَابر. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَنْهَا، قَالَت:
(خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلَمَّا بلغنَا الروحاء حَتَّى سمعنَا عَامَّة النَّاس
وَقد بحت أَصْوَاتهم) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بكر
الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه التِّرْمِذِيّ
عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سُئِلَ:
أَي الْحَج أفضل؟ قَالَ: العج والثج) ، العج بِالْعينِ
الْمُهْملَة رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، وَقد عج يعج
عجا فَهُوَ عاج وعجاج، والثج، بِفَتْح الثَّاء
الْمُثَلَّثَة: سيلان دم الْأَضَاحِي، يُقَال ثجه يثجه
ثَجًّا. وَمِنْهَا: حَدِيث سهل بن سعد أخرجه الْحَاكِم عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من ملب
يلبِّي إلاَّ لبّى مَا عَن يَمِينه وشماله من شجر وَحجر
حَتَّى مُنْقَطع الأَرْض من هُنَا وَهنا، يَعْنِي: عَن
يَمِينه وشماله) . وَقَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم
يخرجَاهُ. وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث الْمطلب بن عبد
الله. قَالَ: (كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يرفعون أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى
تثج أَصْوَاتهم) وَقَالَ عبد الله بن عمر: (إرفعوا
أَصْوَاتكُم بِالتَّلْبِيَةِ) وَعَن ابْن الزبير مثله.
وَقَالَ ابْن بطال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ
مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري
وَالشَّافِعِيّ، وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن مَالك، فَفِي
رِوَايَة ابْن الْقَاسِم: لَا ترفع الْأَصْوَات
بِالتَّلْبِيَةِ إلاَّ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد
منى وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله الْقَدِيم لَا يرفع
الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ فِي مَسَاجِد الْجَمَاعَات
إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد منى وَمَسْجِد
عَرَفَة. وَقَوله الْجَدِيد: اسْتِحْبَابه مُطلقًا وَفِي
(التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا أَن التَّلْبِيَة المقترنة
بِالْإِحْرَامِ لَا يجْهر بهَا، صرح بِهِ الْجُوَيْنِيّ من
أَصْحَابنَا.
وَأَجْمعُوا أَن الْمَرْأَة لَا ترفع صَوتهَا
بِالتَّلْبِيَةِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَن تسمع نَفسهَا
كَأَنَّهُمْ لمحوا مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن معن عَن
إِبْرَاهِيم بن أبي حَبِيبَة عَن دَاوُد بن حُصَيْن عَن
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا ترفع الْمَرْأَة
صَوتهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَمن حَدِيث أبي الجويرية عَن
حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم مثله، وَعَن عَطاء كَذَلِك، وَمن
حَدِيث عدي ابْن أبي عِيسَى عَن نَافِع عَن ابْن عمر:
لَيْسَ على النِّسَاء أَن يرفعن أصواتهن بِالتَّلْبِيَةِ،
لَكِن يُعَارضهُ مَا رَوَاهُ بِسَنَد كَالشَّمْسِ: عَن
ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم
عَن أَبِيه، قَالَ: خرج مُعَاوِيَة لَيْلَة النَّفر فَسمع
صَوت تَلْبِيَة، فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَائِشَة
اعْتَمَرت من التَّنْعِيم، فَذكرت ذَلِك لعَائِشَة،
فَقَالَت: لَو سَأَلَني لأخبرته. وَعند وَكِيع: حَدثنَا
إِبْرَاهِيم بن نَافِع، قَالَ: قدمت امْرَأَة أَعْجَمِيَّة
فَخرجت مَعَ النَّاس وَلم تهل، إلاَّ أَنَّهَا كَانَت تذكر
الله تَعَالَى، فَقَالَ عَطاء: لَا يجزيها. وَفِي
(الْأَشْرَاف) لِابْنِ الْمُنْذر: وَقد روينَا عَن
مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
أَنَّهَا كَانَت تجْهر بِالتَّلْبِيَةِ، وَاسْتدلَّ بَعضهم
على جَوَاز رفع الْمَرْأَة صَوتهَا بالإهلال بِحَدِيث
رَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق أبي سعيد بن الْأَعرَابِي عَن
زَيْنَب الأحمسية، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ لَهَا، فِي امْرَأَة حجت مَعهَا مصمتة: قولي
لَهَا تَتَكَلَّم، فَإِنَّهُ لَا حج لمن لَا يتَكَلَّم،
وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل لأمرين: الأول: لَا تعرض فِيهِ
لِلتَّلْبِيَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْن الْقطَّان: لَيْسَ
هُوَ خَبرا، إِنَّمَا هُوَ أثر عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَعَ ذَلِك فِيهِ مَجْهُولَانِ،
وَأوجب أهل الظَّاهِر رفع الصَّوْت بالإهلال، وَلَا بُد
وَهُوَ فرض وَلَو مرّة، وَاسْتدلَّ بِحَدِيث خَلاد ابْن
السَّائِب الْمَذْكُور. قَالَ: وَفِيه أَمر، وَالْأَمر
للْوُجُوب. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَامَ الْإِجْمَاع على
مَشْرُوعِيَّة التَّلْبِيَة، وَفِيه مَذَاهِب أَحدهَا:
أَنَّهَا سنة، قَالَه الشَّافِعِي وَالْحسن بن حَيّ.
الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَة يجب بِتَرْكِهَا دم. قَالَه
أَصْحَاب مَالك لِأَنَّهَا نسك، وَمن ترك نسكا أراق دَمًا.
الثَّالِث: أَنَّهَا من شُرُوط الْإِحْرَام، لَا يَصح
إلاَّ بهَا، قَالَه الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة، قَالَ
أَبُو حنيفَة: لَا يكون محرما حَتَّى يُلَبِّي وَيذكر
ويسوق هَدْيه، قَالَا: كالتكبير للصَّلَاة، لِأَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} (الْبَقَرَة:
791) . قَالَ: الإهلال، وَعَن عَطاء وَعِكْرِمَة وطاووس:
هُوَ التَّلْبِيَة. قَالَ: وَعِنْدنَا قَول: إِنَّه لَا
ينْعَقد إِلَّا بهَا، لَكِن يقوم مقَامهَا سوق الْهَدْي
والتقيد والتوجه مَعَه، وَفِيه رد لقَوْل أهل الظَّاهِر
فِي إجازتهم تَقْصِير الصَّلَاة فِي مِقْدَار مَا بَين
الْمَدِينَة وَذي الحليفة، وَفِي أقل من ذَلِك لِأَنَّهُ
إِنَّمَا قصرهَا لِأَنَّهُ كَانَ خَارِجا إِلَى مَكَّة،
فَلذَلِك قصرهَا بهَا.
(9/171)
62 - (بابُ التَّلْبِيَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة التَّلْبِيَة، وَهِي
مصدر من لبَّى يُلَبِّي، وَأَصله: لبب على وزن: فعلل، لَا:
فعل، فقلبت الْبَاء الثَّالِثَة يَاء استثقالاً لثلاث
ياءات، ثمَّ قلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا.
وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَقَوْلهمْ لبّى يُلَبِّي،
مُشْتَقّ من لفظ: لبيْك، كَمَا قَالُوا: حمدل وحوقل. قلت:
هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، وَإِنَّمَا الصَّحِيح الَّذِي
تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد التصريفية أَن لفظ: لبّى، مُشْتَقّ
من لفظ: التَّلْبِيَة، وَقِيَاس ذَلِك على: حمدل وحوقل،
فِي غَايَة الْبعد من الْقَاعِدَة، لِأَن حمدل، لَفْظَة
مَبْنِيَّة من: الْحَمد لله، وحوقل من: لَا حول وَلَا
قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَقيل فِيهِ: حولق، بِتَقْدِيم
اللَّام على الْقَاف، وَمعنى التَّلْبِيَة الْإِجَابَة،
فَإِذا قَالَ الرجل لمن دَعَاهُ: لبيْك، فَمَعْنَاه أجبْت
لَك فِيمَا قلت: وَاخْتلف فِي لفظ: لبيْك، وَمَعْنَاهُ.
أما لَفظه فتثنية عِنْد سِيبَوَيْهٍ يُرَاد بهَا التكثير
فِي الْعدَد وَالْعود مرّة بعد مرّة، لَا أَنَّهَا لحقيقة
التَّثْنِيَة بِحَيْثُ لَا يتَنَاوَل إلاَّ فردين! وَقَالَ
يُونُس: هُوَ مُفْرد، وَالْيَاء فِيهِ كالياء فِي: لديك
وَعَلَيْك وَإِلَيْك، يَعْنِي فِي انقلابها يَاء، لاتصالها
بالضمير. وَأما مَعْنَاهُ فَقيل: مَعْنَاهُ إِجَابَة بعد
إِجَابَة أَو إِجَابَة لَازِمَة. قَالَ ابْن
الْأَنْبَارِي: وَمثله: حنانيك، أَي تحننا بعد تَحَنن،
وَقيل: مَعْنَاهُ أَنا مُقيم على طَاعَتك إِقَامَة بعد
إِقَامَة من ألبَّ بِالْمَكَانِ كَذَا، ولبَّ بِهِ إِذا
أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَه. وَقيل: مَعْنَاهُ إتجاهي إِلَيْك
من قَوْلهم دَاري تلب بدارك، أَي: تواجهها. وَقيل: محبتي
لَك من قَوْلهم: امْرَأَة لبة إِذا كَانَت محبَّة لزَوجهَا
أَو عاطفة على وَلَدهَا. وَقيل: مَعْنَاهُ إخلاصي لَك، من
قَوْلهم: حسب لباب، أَي: خَالص. وَقيل: قربا مِنْك من
الإلباب وَهُوَ الْقرب. وَقيل: خاضعا لَك، وَالْأول
مِنْهَا أظهر وَأشهر، لِأَن الْمحرم مُجيب لدعاء الله
إِيَّاه فِي حج بَيته، وَعَن الْفراء: لبيْك، مَنْصُوب على
الْمصدر، وَأَصله لبا لَك، فَثنى للتَّأْكِيد أَي إلبابا
بعد إلباب، وَقَالَ عِيَاض: وَهَذِه إِجَابَة
لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لقَوْله
تَعَالَى: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} (الْحَج: 72) .
والداعي هُوَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دعى
النَّاس إِلَى الْحَج على جبل أبي قبيس، وعَلى حجر
الْمقَام. وَقيل: عِنْد ثنية كداء، وَزعم ابْن حزم أَن
التَّلْبِيَة شَرِيعَة أَمر الله بهَا لَا عِلّة لَهَا
إلاَّ قَوْله تَعَالَى: {وليبلوكم أَيّكُم أحسن عملا}
(هود: 7، الْملك: 2) .
9451 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُف قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ تَلْبِيَةَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ
لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَة
لَكَ وَالمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي كَيْفيَّة
التَّلْبِيَة، وَهَذِه الَّتِي رَوَاهَا ابْن عمر عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هِيَ كَيْفيَّة
التَّلْبِيَة، وَلم يتَعَرَّض البُخَارِيّ لحكم
التَّلْبِيَة، وفيهَا أَقْوَال على مَا نذكرهُ عَن قريب،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن
يحيى عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي
عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن
مَالك، وَالْكَلَام فِيهِ على وُجُوه.
الأول: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: (لبيْك اللَّهُمَّ) ،
يَعْنِي: يَا الله أجبناك فِيمَا دَعوتنَا. وَقيل:
إِنَّهَا إِجَابَة للخليل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقد روى ابْن أبي حَاتِم
من طَرِيق قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: (لما فرغ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام
من بِنَاء الْبَيْت، قيل لَهُ: {وَأذن فِي النَّاس
بِالْحَجِّ} (الْحَج: 72) . قَالَ: رب وَمَا يبلغ صوتي؟
قَالَ: أذن وَعلي الْبَلَاغ. قَالَ: فَنَادَى إِبْرَاهِيم
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَيهَا النَّاس كتب
عَلَيْكُم الْحَج إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق، فَسَمعهُ من
بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، أَفلا ترَوْنَ النَّاس يجيئون
من أقْصَى الأَرْض يلبون) ؟ وَمن طَرِيق ابْن جريج عَن
عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: وَفِيه: (وأجابوه بِالتَّلْبِيَةِ
فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء وَأول من أَجَابَهُ
أهل الْيمن، فَلَيْسَ حَاج يحجّ من يَوْمئِذٍ إِلَى أَن
تقوم السَّاعَة إلاَّ من كَانَ أجَاب إِبْرَاهِيم صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ) . قَوْله: (إِن الْحَمد) روى
بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، أما وَجه الْكسر فعلى
الِاسْتِئْنَاف، وَهُوَ ابْتِدَاء كَلَام، كَأَنَّهُ لما
قَالَ: لبيْك، اسْتَأْنف كلَاما آخر فَقَالَ: إِن الْحَمد
وَالنعْمَة لَك، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مُحَمَّد بن
الْحسن وَالْكسَائِيّ، رحمهمَا الله تَعَالَى. وَأما وَجه
الْفَتْح فعلى التَّعْلِيل كَأَنَّهُ يَقُول: أَجَبْتُك،
لِأَن الْحَمد وَالنعْمَة لَك، وَالْكَسْر أَجود عِنْد
الْجُمْهُور، قَالَ ثَعْلَب: لِأَن من كسر جعل مَعْنَاهُ:
إِن الْحَمد لَك على كل حَال، وَمن فتح قَالَ: مَعْنَاهُ،
لبيْك لهَذَا السَّبَب. وَقَالَ الْخطابِيّ: لهج
الْعَامَّة بِالْفَتْح، وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ عَن
الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن عبد الْبر:
(9/172)
الْمَعْنى عِنْدِي وَاحِد، لِأَن من فتح
أَرَادَ لبيْك لِأَن الْحَمد لَك على كل حَال، وَاعْترض
عَلَيْهِ لِأَن التَّقْيِيد لَيْسَ فِي الْحَمد،
وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّلْبِيَة. وَقَالَ ابْن دَقِيق
الْعِيد: الْكسر أَجود لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن تكون
الْإِجَابَة مُطلقَة غير معللة، وَأَن الْحَمد وَالنعْمَة
لله على كل حَال، وَالْفَتْح يدل على التَّعْلِيل،
فَكَأَنَّهُ يَقُول: أَجَبْتُك لهَذَا السَّبَب، وَالْأول
أَعم وَأكْثر فَائِدَة. قَوْله: (وَالنعْمَة لَك)
الْمَشْهُور فِيهِ النصب، قَالَ عِيَاض: وَيجوز فِيهِ
الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَيكون الْخَبَر محذوفا،
وَالتَّقْدِير أَن الْحَمد لَك وَالنعْمَة مُسْتَقِرَّة
لَك، نَقله عَن ابْن الْأَنْبَارِي. قَوْله: (وَالْملك) ،
أَيْضا بِالنّصب على الْمَشْهُور، وَيجوز الرّفْع
وَتَقْدِيره: وَالْملك كَذَلِك، وَالْملك بِضَم الْمِيم،
وَالْفرق بَينه وَبَين الْملك بِكَسْر الْمِيم.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن الْحِكْمَة فِي مَشْرُوعِيَّة
التَّلْبِيَة هِيَ التَّنْبِيه على إكرام الله تَعَالَى
لِعِبَادِهِ، بِأَن وفودهم على بَيته إِنَّمَا كَانَ
باستدعاء مِنْهُ، عز وَجل، فَإِن قلت: لِمَ قرن الْحَمد
بِالنعْمَةِ وأفرد الْملك؟ قلت: لِأَن الْحَمد مُتَعَلق
بِالنعْمَةِ، وَلِهَذَا يُقَال: الْحَمد لله على نعمه،
فَجمع بَينهمَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا حمد، إلاَّ لَك،
لِأَنَّهُ لَا نعْمَة إلاَّ لَك وَأما الْملك، فَهُوَ معنى
مُسْتَقل بِنَفسِهِ، ذكر لتحقيق: أَن النِّعْمَة كلهَا لله
لِأَنَّهُ صَاحب الْملك.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي حكم التَّلْبِيَة، فَفِيهِ
أَرْبَعَة أَقْوَال، قد ذَكرنَاهَا فِي أَوَاخِر الْبَاب
السَّابِق.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي الزِّيَادَة على أَلْفَاظ
التَّلْبِيَة المروية عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَالَ أَبُو عمر: أجمع
الْعلمَاء على القَوْل بِهَذِهِ التَّلْبِيَة، وَاخْتلفُوا
فِي الزِّيَادَة فِيهَا، فَقَالَ مَالك: كره الزِّيَادَة
فِيهَا على تَلْبِيَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه: لَا بَأْس أَن يُزَاد
فِيهَا مَا كَانَ ابْن عمر يزِيدهُ، قلت: روى هَذِه مُسلم،
قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى التَّمِيمِي، قَالَ: قَرَأت
على مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر: أَن تَلْبِيَة
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لبيْك اللَّهُمَّ
لبيْك، لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك
وَالْملك، لَا شريك لَك. قَالَ: وَكَانَ عبد الله بن عمر
يزِيد فِيهَا: لبيْك لبيْك، لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر
بيديك، لبيْك وَالرغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل. وَقَالَ
الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن، لَهُ
أَن يزِيد فِيهَا مَا شَاءَ وَأحب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: لَا بَأْس بِالزِّيَادَةِ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: إِن زَاد فِي
التَّلْبِيَة شَيْئا من تَعْظِيم الله تَعَالَى فَلَا
بَأْس إِن شَاءَ الله، وَأحب إِلَيّ إِن يقْتَصر. وَقَالَ
أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، فِي قَول: لَا يَنْبَغِي أَن
يُزَاد فِيهَا على تَلْبِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْمَذْكُورَة، وَإِلَيْهِ ذهب الطَّحَاوِيّ
وَاخْتَارَهُ، وَقد زَاد جمَاعَة فِي التَّلْبِيَة،
مِنْهُم: ابْن عمر، وَمِنْهُم أَبوهُ عمر بن الْخطاب، زَاد
هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي جَاءَت عَن ابْنه عبد الله بن
عمر، وَلَعَلَّ عبد الله أَخذهَا من أَبِيه، فَإِنَّهُ
رَوَاهَا عَنهُ كَمَا هُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَمِنْهُم
ابْن مَسْعُود، فَروِيَ عَنهُ أَنه لبّى، فَقَالَ: لبيْك
عدد الْحَصَى وَالتُّرَاب. وروى أَبُو دَاوُد وَابْن
مَاجَه من حَدِيث جَابر، قَالَ: أهلَّ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر التَّلْبِيَة، قَالَ:
وَالنَّاس يزِيدُونَ: ذَا المعارج، وَنَحْوه من الْكَلَام
وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمع فَلَا يَقُول
لَهُم شَيْئا. وروى سعيد بن الْمَنْصُور فِي (سنَنه)
بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْأسود بن يزِيد أَنه كَانَ يَقُول:
لبيْك غفار الذُّنُوب لبيْك. وَفِي (تَارِيخ مَكَّة)
للأزرقي، صفة تَلْبِيَة جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء،
عَلَيْهِم السَّلَام، رَوَاهُ من رِوَايَة عُثْمَان بن
سَاج، قَالَ: أَخْبرنِي صَادِق أَنه بلغه أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لقد مر بفج الروحاء
سَبْعُونَ نَبيا تلبيتهم شَتَّى، مِنْهُم يُونُس بن مَتى،
وَكَانَ يُونُس يَقُول: لبيْك فراج الكرب لبيْك، وَكَانَ
مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لبيْك أَنا عَبدك
لديك لبيْك. قَالَ: وتلبية عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام:
أَنا عَبدك وَابْن أمتك بنت عبديك لبيْك، وروى الْحَاكِم
فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة دَاوُد بن أبي هِنْد عَن
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وقف بِعَرَفَات، فَلَمَّا قَالَ: لبيْك
اللَّهُمَّ لبيْك، قَالَ إِنَّمَا الْخَيْر خير الْآخِرَة،
وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وروى
الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَل من رِوَايَة مُحَمَّد بن
سِيرِين عَن يحيى بن سِيرِين عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس
بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
لبيْك حجا حَقًا، تعبدا وَرقا. وَفِي هَذَا الحَدِيث
نُكْتَة غَرِيبَة، وَهُوَ أَنه اجْتمع فِيهِ ثَلَاثَة أخوة
يروي بَعضهم عَن بعض، وَلَا يعرف هَذَا فِي غير هَذَا
الحَدِيث. قَوْله فِي حَدِيث مُسلم وَسَعْديك، مَعْنَاهُ:
مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. قَوْله: وَالرغْبَاء، قَالَ
أَبُو الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) الرغب وَالرَّغْبَة
والرغب، بِالتَّحْرِيكِ: إتساع الْإِرَادَة، ورغبت فِيهِ
أوسعته إِرَادَة، وأرغبت لُغَة، والرغبى وَالرغْبَاء مثل:
النعمى والنعماء، إسمان مِنْهُ إِذا فتحت مددت، وَإِذا
ضممت قصرت. وَفِي (الْمُحكم) : الرغب والرغب والرغب
وَالرَّغْبَة والرغبوت والرغبي والرغبا وَالرغْبَاء:
الضراعة وَالْمَسْأَلَة، وَقد رغب إِلَيْهِ وَرغب إِلَيْهِ
هُوَ عَن ابْن الْأَعرَابِي، ودعا الله رَغْبَة ورغبة.
وَقيل: هِيَ الرغبى مثل سكرى. وَالْعَمَل فِيهِ حذف،
تَقْدِيره: وَالْعَمَل إِلَيْك، أَي إِلَيْك الْقَصْد
بِهِ، والانتهاء بِهِ إِلَيْك لنجازى عَلَيْهِ.
(9/173)
0551 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ
قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عَن عُمَارَةَ عنْ
أبي عَطِيَّةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
قالَتْ إنِّي لأَعْلَمُ كَيْفَ كانَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ
وَالنِّعْمَةَ لَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده. وَمُحَمّد بن يُوسُف
الْفرْيَابِيّ وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَالْأَعْمَش
هُوَ سُلَيْمَان، وَعمارَة بن عُمَيْر، بِضَم الْعين
فيهمَا وَتَخْفِيف الْمِيم، مر فِي: بَاب رفع الْبَصَر
إِلَى الإِمَام، وَأَبُو عَطِيَّة، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة: اسْمه مَالك بن عَامر الْهَمدَانِي الوادغي،
وَالرِّجَال كلهم كوفيون إلاَّ شَيْخه.
تابَعَهُ أبُو مُعَاوِيَةَ عنِ الأعْمَشِ
أَي: تَابع سُفْيَان الثَّوْريّ أَبُو مُعَاوِيَة
الضَّرِير، واسْمه مُحَمَّد بن حَازِم. بالمعجمتين، وَوصل
هَذِه الْمُتَابَعَة مُسَدّد فِي مُسْنده عَنهُ،
وَكَذَلِكَ أخرجهَا الجوزقي من طَرِيق عبد الله بن هَاشم
عَنهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ أخبرنَا سُلَيْمَانُ قَالَ سَمِعْتُ
خَيْثَمَةَ عنْ أبي عَطِيَّةَ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا
سُلَيْمَان هُوَ الْأَعْمَش، وخيثمة، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عبد الرَّحْمَن الْجعْفِيّ
الْكُوفِي، ورث مائَة ألف وأنفقها على أهل الْعلم، وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي
(مُسْنده) عَن شُعْبَة، وَلَفظه مثل لفظ سُفْيَان إلاَّ
أَنه زَاد فِيهِ: ثمَّ سَمعتهَا تلبي، وَلَيْسَ فِيهِ
قَوْله: لَا شريك لَك، وَكَذَا أخرجه أَحْمد عَن غنْدر عَن
شُعْبَة، وللأعمش فِيهِ شَيْخَانِ، وَرجح أَبُو حَاتِم فِي
(الْعِلَل) رِوَايَة الثَّوْريّ، وَمن تبعه على رِوَايَة
شُعْبَة، فَقَالَ: إِنَّهَا وهم.
72 - (بابُ التَّحْميدِ وَالتَّسْبُيحِ وَالتَّكْبِيرِ
قَبْلَ الإهْلاَلِ عَنْدَ الرُّكُوبِ عَلى الدَّابَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر التَّحْمِيد وَالتَّسْبِيح
وَالتَّكْبِير قبل الإهلال، أَي: التَّلْبِيَة. قَوْله:
(عِنْد الرّكُوب) أَي: بعد الاسْتوَاء على الدَّابَّة لَا
حَال وضع الرجل فِي الركاب، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) :
غَرَض البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على أبي
حنيفَة، فِي قَوْله: من سبح أَو كبَّر أَو هلل أَجزَأَهُ
من إهلاله. قلت: هَذَا كلامٌ واهٍ صادر عَن غير معرفَة
بمذاهب الْعلمَاء، فَإِن مَذْهَب أبي حنيفَة الَّذِي
اسْتَقر عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَاب أَنه لَا ينقص شَيْئا
من أَلْفَاظ تَلْبِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَإِن زَاد عَلَيْهَا فَهُوَ مُسْتَحبّ، وَهَذَا هُوَ
الَّذِي ذكر فِي الْكتب الْمُعْتَمدَة فِيهَا، وَلَئِن
سلمنَا أَن يكون مَا ذكره مَنْقُولًا عَن أبي حنيفَة فَلَا
نسلم أَن التَّرْجَمَة تدل على الرَّد عَلَيْهِ أطلقها
وَلم يقيدها بِحكم من الْجَوَاز وَعَدَمه، فَبِأَي دلَالَة
من أَنْوَاع الدلالات دلّ على مَا ذكره؟
144 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا وهيب
قَالَ حَدثنَا أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس رَضِي الله
عَنهُ. قَالَ صلى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَنحن مَعَه بِالْمَدِينَةِ الظّهْر أَرْبعا
وَالْعصر بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ بَات بهَا
حَتَّى أصبح ثمَّ ركب حَتَّى اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته على
الْبَيْدَاء حمد الله وَسبح وَكبر ثمَّ أهل بِحَجّ وَعمرَة
وَأهل النَّاس بهما فَلَمَّا قدمنَا أَمر النَّاس فحلوا
حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة أهلوا بِالْحَجِّ قَالَ
وَنحر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بدنات بِيَدِهِ قيَاما وَذبح رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ كبشين أملحين)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله حمد الله وَسبح وَكبر
ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل هُوَ أَبُو سَلمَة التَّبُوذَكِي
ووهيب مصغر ابْن خَالِد وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَأَبُو
قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي (ذكر تعدد مَوْضِعه
وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن سهل بن
بكار فرقهما كِلَاهُمَا عَن وهيب وَعَن مُسَدّد عَن
إِسْمَاعِيل بن علية وَأخرجه أَيْضا فِي الْحَج وَفِي
الْجِهَاد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن قُتَيْبَة بن
سعيد مقطعا وَأخرجه
(9/174)
مُسلم فِي الصَّلَاة عَن خلف بن هِشَام
وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي
ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ وَعَن زُهَيْر بن
حَرْب وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي كِلَاهُمَا
عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن
مُوسَى بن إِسْمَاعِيل بِهِ مقطعا بعضه فِي الْحَج وَبَعضه
فِي الْأَضَاحِي وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن
قُتَيْبَة بن سعيد عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " نَحن " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله
" ثمَّ بَات بهَا " أَي بِذِي الحليفة قَوْله " حَتَّى
اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته " أَي قَامَت بِهِ نَاقَته
يَعْنِي رفعته مستويا على ظهرهَا وَلَفظ بِهِ حَال أَي
اسْتَوَت ملتبسة برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَوْله " على الْبَيْدَاء " وَقد ذكرنَا أَنه
الشّرف الَّذِي قُدَّام ذِي الحليفة قَوْله " ثمَّ أهل
بِحَجّ وَعمرَة " يَعْنِي جمع بَينهمَا وَهَذَا هُوَ
الْقرَان قَوْله " وَأهل النَّاس " أَي الَّذين كَانُوا
مَعَه بهما أَي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة قَوْله " فَلَمَّا
قدمنَا " أَي مَكَّة قَوْله " أَمر النَّاس فحلوا " أَي
أَمر النَّاس الَّذين كَانُوا مَعَه وَلم يسوقوا الْهَدْي
بالتحلل فحلوا أَي صَارُوا حَلَالا وَسَأَلَ الْكرْمَانِي
سؤالا فَقَالَ كَيفَ جَازَ للقارن أَن يحل قبل إتْمَام
الْحَج وَمَا ذَاك إِلَّا للمتمتع ثمَّ أجَاب بِأَن
الْعمرَة كَانَت عِنْدهم مُنكرَة فِي أشهر الْحَج كَمَا
هُوَ رسم الْجَاهِلِيَّة فَأَمرهمْ بالتحلل من حجهم
والانفساخ إِلَى الْعمرَة تَحْقِيقا لمُخَالفَة رسمهم
وَتَصْرِيحًا بِجَوَاز الاعتمار فِي تِلْكَ الْأَشْهر
انْتهى (قلت) هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب وَالْجَوَاب الصَّوَاب
أَنه إِنَّمَا أَمرهم بالتحلل لأَنهم لم يسوقوا الْهَدْي
وَلم يقل أحد أَنهم كَانُوا قارنين فِي هَذِه الْحَالة
حَتَّى يرد هَذَا السُّؤَال وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْقَارِن
وَقَوله الْعمرَة كَانَت عِنْدهم مُنكرَة إِنَّمَا كَانَ
إنكارهم قبل هَذَا بِمدَّة فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي هَذِه
الْحَالة لم يَكُونُوا منكرين فَمن ادّعى بِخِلَاف ذَلِك
فَعَلَيهِ الْبَيَان قَوْله " حَتَّى كَانَ يَوْم
التَّرويَة " بِرَفْع يَوْم لِأَن كَانَ تَامَّة فَلَا
تحْتَاج إِلَى خبر وَيَوْم التَّرويَة هُوَ الْيَوْم
الثَّامِن من ذِي الْحجَّة وَسميت بالتروية لأَنهم كَانُوا
يروون دوابهم بِالْمَاءِ ويحملونه مَعَهم أَيْضا فِي
الذّهاب من مَكَّة إِلَى عَرَفَات قَوْله " قيَاما " أَي
قائمات وانتصابه على الْحَال قَوْله " أملحين " تفنية
أَمْلَح وَهُوَ الْأَبْيَض الَّذِي يخالطه سَواد وَكَانَ
النَّحْر للبدنات فِي مَكَّة وَالذّبْح للكبش الَّذِي
للأضحية فِي الْمَدِينَة يَوْم الْعِيد (ذكر مَا
يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ أَن الَّذِي يُرِيد السّفر لَهُ
أَن يقصر الرّبَاعِيّة من بعد خُرُوجه. وَفِيه أَن
للْمحرمِ أَن يحمد الله ويسبحه ويكبره قبل الإهلال. وَفِيه
التَّصْرِيح بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - كَانَ قَارنا بقوله ثمَّ أهل بِحَجّ وَعمرَة وَهَذَا
هُوَ عين الْقرَان وَالْمُنكر هُنَا معاند وَقد ثَبت
بِأَحَادِيث أخر صَحِيحَة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا على مَا نذْكر إِن شَاءَ الله
تَعَالَى (فَإِن قلت) قد رد ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا هَذَا القَوْل على أنس وَقَالَ كَانَ أنس
حِينَئِذٍ يدْخل على النِّسَاء فنسب إِلَيْهِ الصغر وَقلة
الضَّبْط حَتَّى نسب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالقران وَقَالَ الْمُهلب رد ابْن
عمر على أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله هَذَا
فَقَالَ مثل ذكرنَا (قلت) هَذَا فِيهِ نظر لِأَن حجَّة
الْوَدَاع كَانَت وَسن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
نَحْو الْعشْرين فَكيف يدْخل على النِّسَاء وَقد جَاءَ فِي
الصَّحِيح أَنه منع من الدُّخُول عَلَيْهِنَّ حِين بلغ خمس
عشرَة سنة وَذَلِكَ قبل الْحجَّة بِنَحْوِ خمس سِنِين
وَأَيْضًا فسنه نَحْو سنّ ابْن عمر وَلَعَلَّه لَا يكون
بَينهمَا إِلَّا نَحْو من سنة أَو دونهَا (فَإِن قلت)
قَالَ ابْن بطال وَمِمَّا يدل على قلَّة ضبط أنس قَوْله
فِي الحَدِيث فَلَمَّا قدمنَا أَمر النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحلوا حَتَّى إِذا كَانَ
يَوْم التَّرويَة أهلوا بِالْحَجِّ وَهَذَا لَا معنى لَهُ
وَلَا يفهم أَنه كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَارنا كَمَا قَالَ وَالْأمة متفقة على أَن
الْقَارِن لَا يجوز لَهُ الْإِحْلَال حَتَّى يفرغ من عمل
الْحَج كُله فَلذَلِك أنكر عَلَيْهِ ابْن عمر وَإِنَّمَا
حل من كَانَ أفرد الْحَج وفسخه فِي عمْرَة ثمَّ تمتّع
(قلت) وَلَو قَالَ ابْن بطال وَمن يَقُول مثل قَوْله لَا
ينهضون أَن ينفوا صفة الْقرَان عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجه وَذَلِكَ لِأَن
الَّذين رووا الْإِفْرَاد اخْتلف عَنْهُم وَمن روى
الْقرَان لم يخْتَلف عَلَيْهِ فالأخذ بقول من لم يخْتَلف
عَلَيْهِ أولى وَلِأَن مَعَه زِيَادَة وَهِي مَقْبُولَة من
الثِّقَة وَقَالَ ابْن حزم وروى الْقرَان عَن جَمِيع من
روى الْإِفْرَاد وهم عَائِشَة وَجَابِر وَابْن عمر وَابْن
عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ وَوجدنَا
أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب وَعمْرَان بن حُصَيْن رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا وروى عَنْهُمَا التَّمَتُّع وروى
عَنْهُمَا الْقرَان قَالَ وَوجدنَا أم الْمُؤمنِينَ
حَفْصَة والبراء بن عَازِب وَأنس بن مَالك لم تضطرب
الرِّوَايَة عَنْهُم وَلَا اخْتِلَاف عَنْهُم فِي ذَلِك
فَيتْرك رِوَايَة كل من قد اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَة عَنهُ
وَيرجع إِلَى رِوَايَة من لَا تضطرب عَنهُ وَهَذَا وَجه
الْعَمَل على قَول
(9/175)
من يرى إِسْقَاط مَا تعَارض من
الرِّوَايَات وَالْأَخْذ بِمَا لم يتعارض مِنْهَا وَأما من
ذهب إِلَى الْأَخْذ بِالزَّائِدِ فَهُوَ وَجه يجب
اسْتِعْمَاله إِذا كَانَت الْأَلْفَاظ وَالْأَفْعَال كلهَا
منسوبة إِلَى سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم تكن مَوْقُوفَة على من دونه
وَلَا تنَازعا مِمَّن سواهُ فوجهه أَنا وجدنَا من روى
الْإِفْرَاد إِنَّمَا اقْتصر على ذكر الإهلال بِعُمْرَة
وَحدهَا دون حج مَعهَا وَوجدنَا من روى الْقرَان قد جمع
الْأَمريْنِ مَعًا فَزَاد على من ذكر الْحَج وَحده عمْرَة
وَزَاد على من ذكر الْعمرَة وَحدهَا حجا فَكَانَت هَذِه
زيادتا علم لم يذكرهما الْآخرُونَ وَزِيَادَة حفظ وَنقل
على كلتي الطَّائِفَتَيْنِ المتقدمتين وَزِيَادَة الْعدْل
مَقْبُولَة وواجب الْأَخْذ بهَا لَا سِيمَا إِذا رُوجِعَ
فِيهَا فَثَبت عَلَيْهَا وَلم يرجع كَمَا ثَبت فِي
الصَّحِيح من حَدِيث بكر عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة قَالَ بكر فَحدثت
بذلك ابْن عمر فَقَالَ أنس مَا يعدوننا إِلَّا صبيانا
سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يَقُول " لبيْك عمْرَة وحجا " وَفِي لفظ جمع بَينهمَا
بَين الْحَج وَالْعمْرَة وَفِي حَدِيث يحيى بن أبي إِسْحَق
وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب وَحميد سمعُوا أنسا قَالَ
سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أهل بهما " لبيْك عمْرَة وحجا " وَسَيَأْتِي عِنْد
البُخَارِيّ اخْتِلَاف عَليّ وَعُثْمَان رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا وَقَول عَليّ مَا كنت لأدع سنة
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقَوْل
أحد ثمَّ أهل بهما لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة وَعند مُسلم من
حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بَين حجَّة وَعمرَة
ثمَّ لم ينْه عَنهُ حَتَّى مَاتَ وَلم ينزل فِيهِ قُرْآن
يحرمه وَعند أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن الْبَراء بن
عَازِب عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قدم
من الْيمن قَالَ " إِنَّه قد سقت الْهَدْي وقرنت " وَعَن
الصَّبِي بن معبد بِسَنَد صَحِيح فِي حَدِيث قَالَ "
أَهلَلْت بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة فَقَالَ لي عمْرَة هديت
لسنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَهَا مرَّتَيْنِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
الْأَوْسَط قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَل هُوَ
حَدِيث صَحِيح وَقَالَ ابْن عمر جيد الْإِسْنَاد رَوَاهُ
الثِّقَات الْأَثْبَات عَن أبي وَائِل عَن الصَّبِي عَن
عمر وَمِنْهُم من يَجعله عَن أبي وَائِل عَن عمر رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ وَالْأول مجود وَرُوَاته أحفظ وَعَن
أبي قَتَادَة " إِنَّمَا قرن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الْحَج وَالْعمْرَة لِأَنَّهُ
علم أَنه لَيْسَ بحاج بعْدهَا " قَالَ الْحَاكِم صَحِيح
على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ وَفِي الاستذكار روى سُفْيَان
بن عُيَيْنَة عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد سَمِعت عبد
الله بن أبي أوفى يَقُول بِالْكُوفَةِ إِنَّمَا جمع -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الْحَج
وَالْعمْرَة لِأَنَّهُ علم أَنه لَا يحجّ بعْدهَا وَعَن
سراقَة بِسَنَد صَالح عِنْد أَحْمد قَالَ " قرن رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة
الْوَدَاع " وَعَن أبي طَلْحَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بَين الْحَج
وَالْعمْرَة " رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث الْحجَّاج بن
أَرْطَاة وَعند التِّرْمِذِيّ محسنا عَن جَابر أَن رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرن الْحَج
وَالْعمْرَة وَقَالَ ابْن حزم صَحَّ عَن عَائِشَة
وَحَفْصَة أُمِّي الْمُؤمنِينَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا (قلت) يُرِيد بذلك مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان أَنبأَنَا
مُحَمَّد بن إِدْرِيس عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن
عَطاء عَن عَائِشَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا طوافك بِالْبَيْتِ
وَبَين الصَّفَا والمروة يَكْفِيك لحجك وعمرتك قَالَ ابْن
حزم فصح أَنَّهَا كَانَت قارنة وَعند أَحْمد بِسَنَد جيد
عَن أم سَلمَة سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول أهلوا يَا آل مُحَمَّد
بِعُمْرَة فِي حج وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث خيوان أَن
مُعَاوِيَة قَالَ للصحابة هَل تعلمُونَ أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يقرن بَين
الْحَج وَالْعمْرَة فَقَالُوا لَا وَفِي سنَن الْكَجِّي
حَدثنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد حَدثنَا يحيى بن ضريس عَن
عِكْرِمَة بن عمار عَن الهرماس بن زِيَاد قَالَ سَمِعت
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على
نَاقَته قَالَ لبيْك حجَّة وَعمرَة مَعًا وَاعْلَم أَن
الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله قد أخرج فِي تَفْضِيل الْقرَان
وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
قَارنا من عشرَة أنفس من الصَّحَابَة وهم عمر بن الْخطاب
وَعبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن
عَبَّاس وَعمْرَان بن حُصَيْن وَأَبُو طَلْحَة وسراقة بن
مَالك وَعَائِشَة وَأم سَلمَة زَوجي النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخرج عَن أنس بعدة طرق
وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أبي قَتَادَة وَجَابِر
وَمُعَاوِيَة والهرماس بن زِيَاد وَأبي هُرَيْرَة وَالْكل
قد ذَكرْنَاهُ إِلَّا حَدِيث عبد الله بن عمر وَحَدِيث عبد
الله بن عَبَّاس وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة. أما حَدِيث عبد
الله بن عمر فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ عَن نَافِع عَنهُ أَن
ابْن عمر خرج من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة مهلا
بِالْعُمْرَةِ مَخَافَة الْحصْر ثمَّ قَالَ مَا شَأْنهمَا
إِلَّا وَاحِدًا أشهدكم أَنِّي أوجبت إِلَى عمرتي هَذِه
حجَّة ثمَّ قدم فَطَافَ لَهما طَوافا وَقَالَ هَكَذَا فعل
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَأخرجه الشَّيْخَانِ مطولا فَفِيهِ دَلِيل على تَفْضِيل
الْقرَان وعَلى أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- كَانَ قَارنا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أضَاف إِلَى عمرته
حجَّة قبل أَن يطوف لَهَا فَهَذَا هُوَ
(9/176)
الْقرَان ثمَّ قَالَ هَكَذَا فعل رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ أَنه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قد قرن
إِلَى عمرته حجا. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس
فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن عِكْرِمَة عَنهُ قَالَ
اعْتَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أَربع عمر عمْرَة الْحُدَيْبِيَة وعمرته من الْعَام
الْقَابِل وعمرته من الْجِعِرَّانَة وعمرته مَعَ حجَّته
وَحج حجَّة وَاحِدَة وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا وَفِي
لَفظه وَالرَّابِعَة الَّتِي قرن مَعَ حجَّته وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَفِي لَفظه نَحوه (فَإِن قلت) كَيفَ
يقبل هَذَا عَن عبد الله بن عمر وَعَن عبد الله بن عَبَّاس
وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تمتّع وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر
أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تمتّع (قلت)
قَالَ الطَّحَاوِيّ يجوز أَن يكون رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحرم فِي بَدْء أمره
بِعُمْرَة فَمضى فِيهَا مُتَمَتِّعا بهَا ثمَّ أحرم
بِحجَّة قبل طَوَافه فَكَانَ فِي بَدْء أمره مُتَمَتِّعا
وَفِي آخِره قَارنا. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ
مُسلم عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليهلن
ابْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام بفج الروحاء حَاجا أَو
مُعْتَمِرًا أَو ليثنيهما وَقَالَ ابْن حزم سِتَّة عشر من
الثِّقَات اتَّفقُوا على أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
على أَن لفظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - كَانَ إهلالا بِحجَّة وَعمرَة مَعًا وصرحوا عَن أنس
أَنه سمع ذَلِك مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - وهم بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ وَأَبُو قلَابَة
وَحميد الطَّوِيل وَأَبُو قزعة وثابت الْبنانِيّ وَحميد بن
هِلَال وَيحيى بن أبي إِسْحَق وَقَتَادَة وَأَبُو أَسمَاء
وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمصْعَب بن الزبير بن الزبْرِقَان
وَسَالم بن أبي الْجَعْد وَأَبُو قدامَة وَزيد بن أسلم
وَعلي بن زيد (قلت) قد أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن تِسْعَة
مِنْهُم. أَوَّلهمْ بكر بن عبد الله وَقد مر فِي أثْنَاء
كَلَام ابْن حزم وَأخرجه مُسلم حَدثنَا شُرَيْح بن مُسلم
قَالَ حَدثنَا هشيم قَالَ حَدثنَا حميد عَن بكر عَن أنس
قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا الحَدِيث
وَالثَّانِي أَبُو قلَابَة عَن أنس وَهُوَ حَدِيث الْبَاب
وَالثَّالِث حميد الطَّوِيل عَن أنس أخرجه الطَّحَاوِيّ
وَابْن حبَان فِي صَحِيحه عَنهُ عَن أنس بن مَالك قَالَ
سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة. وَالرَّابِع أَبُو قزعة عَن أنس
أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ عَن أنس قَالَ سَمِعت النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لبيْك
بِعُمْرَة وَحجَّة وَأخرجه ابْن حزم نَحوه. وَالْخَامِس
ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس أخرجه الطَّحَاوِيّ والعدني فِي
مُسْنده نَحْو حَدِيث قزعة. وَالسَّادِس حميد بن هِلَال
أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَزَّار عَنهُ عَن أنس قَالَ كنت
ردف أبي طَلْحَة وَإِن ركبته لتمس رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ
وَالْعمْرَة. وَالسَّابِع يحيى بن أبي إِسْحَق أخرجه
الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ عَن أنس يَقُول
سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يَقُول لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا وَأخرجه ابْن أبي
شيبَة نَحوه وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه نَحوه. وَالثَّامِن قَتَادَة عَنهُ عَن أنس أخرجه
الطَّحَاوِيّ نَحْو حَدِيث يحيى وَأخرجه البُخَارِيّ.
وَالتَّاسِع أَبُو أَسمَاء عَنهُ عَن أنس أخرجه
الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن أنس قَالَ خرجنَا نصرح بِالْحَجِّ
فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن نَجْعَلهَا عمْرَة
وَقَالَ لَو اسْتقْبلت من أَمر مَا اسْتَدْبَرت لجعلتها
عمْرَة وَلَكِن سقت الْهَدْي وقرنت الْحَج وَالْعمْرَة
وَأخرجه أَحْمد نَحوه وَأخرجه النَّسَائِيّ وَلَفظه سَمِعت
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يُلَبِّي بهما. والعاشر الْحسن الْبَصْرِيّ عَنهُ عَن أنس
أخرجه الْبَزَّار عَنهُ عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل هُوَ وَأَصْحَابه
بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة الحَدِيث. وَالْحَادِي عشر مُصعب
بن سليم عَنهُ عَن أنس أخرجه الْعَدنِي فِي مُسْنده
حَدثنَا وَكِيع عَن مُصعب بن سليم أَنه سمع أنس بن مَالك
يَقُول أهل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِحجَّة وَعمرَة. وَالثَّانِي عشر مُصعب بن
عبد الله عَنهُ عَن أنس أخرجه الْعَدنِي أَيْضا عَنهُ عَن
أنس قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يَقُول لبيْك بِحجَّة وَعمرَة أَو بِعُمْرَة
وَحجَّة مَعًا. وَالثَّالِث عشر سَالم بن أبي الْجَعْد
عَنهُ عَن أنس أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده عَن أنس أَنه
يرفعهُ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَنه جمع بَين الْعمرَة وَالْحج فَقَالَ لبيْك بِحجَّة
وَعمرَة. وَالرَّابِع عشر الْوَاقِدِيّ أَبُو قدامَة أخرجه
أَيْضا أَحْمد عَنهُ عَن أنس قَالَ (قلت) لأنس بِأَيّ
شَيْء كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يهل فَقَالَ سمعته سبع مرار بِعُمْرَة
وَحجَّة. وَالْخَامِس عشر زيد بن أسلم عَنهُ عَن أنس أخرجه
الْبَزَّار فِي مُسْنده عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل بِحَجّ وَعمرَة.
وَالسَّادِس عشر عَليّ بن زيد أخرجه الْبَزَّار أَيْضا
عَنهُ عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لبّى بهما جَمِيعًا فَقَالَ القَاضِي عِيَاض
قد أَكثر النَّاس الْكَلَام على هَذِه الْأَحَادِيث من
عُلَمَائِنَا وَغَيرهم فَمن مجيد منصف وَمن مقصر متكلف
(9/177)
وَمن مطيل مكثر وَمن مقتصد مُخْتَصر
وأوسعهم نفسا فِي ذَلِك أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ
الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ فَإِنَّهُ تكلم فِي ذَلِك عَن ألف
ورقة وَتكلم فِي ذَلِك أَيْضا مَعَه أَبُو جَعْفَر
الطَّبَرِيّ وبعدهم أَبُو عبد الله بن أبي صفرَة وَأَخُوهُ
الْمُهلب وَالْقَاضِي أَبُو عبد الله بن المرابط
وَالْقَاضِي أَبُو الْحسن بن الْقصار الْبَغْدَادِيّ
والحافظ أَبُو عمر بن عبد الْبر وَغَيرهم وَأولى مَا
يُقَال فِي هَذَا على مَا فحصناه من كَلَامهم واخترناه من
اختياراتهم مَا هُوَ أجمع للروايات وأشبه بمساق
الْأَحَادِيث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَبَاحَ للنَّاس فعل هَذِه الثَّلَاثَة
أَشْيَاء لتدل على جَوَاز جَمِيعهَا إِذْ لَو أَمر
بِوَاحِد لَكَانَ غَيره لَا يجزىء وَإِذا كَانَ لم يحجّ
سوى هَذِه الْحجَّة فأضيف الْكل إِلَيْهِ وَأخْبر كل
وَاحِد بِمَا أمره بِهِ وأباحه لَهُ وَنسبه إِلَى النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا لأَمره
بذلك أَو لتأويله عَلَيْهِ انْتهى (قلت) لَا نزاع فِي
جَوَاز هَذِه الثَّلَاثَة وَلِهَذَا قَالَ الْخطابِيّ
جَوَاز الْقرَان بَين الْحَج وَالْعمْرَة إِجْمَاع من
الْأَئِمَّة وَلَا يجوز أَن يتفقوا على جَوَاز شَيْء
مَنْهِيّ عَنهُ وَلَكِن النزاع أَن أَي هَذِه الْأَشْيَاء
أفضل وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- على أَي وَاحِد من هَذِه حج فقد دلّت الْأَحَادِيث
الصَّحِيحَة أَن الْقرَان أفضل وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا وَلِأَن الْقَارِن
يجمع بَين النُّسُكَيْنِ فِي سفرة وَاحِدَة وَلَا شكّ أَن
العبادتين أفضل من عبَادَة وَاحِدَة وَقد عمل بِهِ
الْأَصْحَاب بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه من حَدِيث عَليّ بن زيد
عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ سَمِعت أَصْحَاب مُحَمَّد -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهلون بِحجَّة
وَعمرَة مَعًا. وَمن فَوَائِد حَدِيث الْبَاب أَن السّنة
فِي الْإِبِل النَّحْر فَلَو ذبح كره وَأَن السّنة نحرها
وَهِي قَائِمَة لِأَنَّهُ أمكن لنحرها لِأَنَّهُ يطعن فِي
لبتها وَتَكون معقولة الْيَد الْيُسْرَى وَقَالَ ابْن حبيب
وَهُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى صواف وروى مُحَمَّد عَن
مَالك لَا يَعْقِلهَا إِلَّا من خَافَ أَن يضعف عَنْهَا
وَالْأَفْضَل أَن يتَوَلَّى نحرها بِنَفسِهِ كَمَا فعل -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ هُنَا بدنات
وَقَالَ ابْن التِّين وَفِي غير هَذَا الْموضع أَنَّهَا
كَانَت سبعين بَدَنَة وَفِي الْمُوَطَّأ عَن عَليّ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - نحر بعض هَدْيه بِيَدِهِ وَنحر بعضه غَيره
وَرُوِيَ أَن عليا نحر بَاقِيهَا وَيُقَال أهْدى مائَة
بَدَنَة فَنحر ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ كل وَاحِد عَن
سنة من عمره. وَفِيه إِشَارَة إِلَى قدر عمره وَأعْطى عليا
فَنحر الْبَاقِي قَوْله " وَذبح بِالْمَدِينَةِ كبشين
أَحدهمَا ذبحه عَن أهل بَيته وَالْآخر عَمَّن لم يضح من
أمته "
(قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ بَعضهم هَذَا عَن أَيُّوب عَن
رجل عَن أنس) أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه قَالَ
بَعضهم إِلَى آخِره هَكَذَا وَقع عِنْد الْكشميهني قيل
المُرَاد من الْبَعْض الْمُبْهم هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية
وَقيل يحْتَمل أَن يكون حَمَّاد بن سَلمَة فقد أخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيقه عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة
عَن أنس فَعرف أَنه الْمُبْهم وَقد تَابعه عبد الْوَهَّاب
الثَّقَفِيّ على حَدِيث ذبح الكبشين الأملحين عَن أَيُّوب
عَن أبي قلَابَة كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَضَاحِي إِن
شَاءَ الله تَعَالَى -
82 - (بابُ مَنْ أهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ راحِلَتُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أهلَّ بِالتَّلْبِيَةِ حِين
رفعته رَاحِلَته مستويا على ظهرهَا.
2551 - حدَّثنا أبُو عاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ
قَالَ أَخْبرنِي صالِحُ بنُ كَيْسَانَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ أهلَّ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ
رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ قَرِيبا، وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن
مخلد، وَابْن جريج عبد الْملك ابْن عبد الْعَزِيز، وَصَالح
بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد أَو أَبُو الْحَارِث الْقَارِي
مَوْلَاهُم، مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
92 - (بابُ الإهلاَلِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الإهلال، وَزَاد
الْمُسْتَمْلِي: الْغَدَاة بِذِي الحليفة.
(9/178)
3551 - حدَّثنا وَقَالَ أبُو عُمَرَ
حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ
نَافِعٍ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا إذَا صَلَّى بِالغَدَاةِ بِذِي الحُلَيْفَةُ
أمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ رَكِبَ فإذَا
اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ القِبْلَة قائِما ثُمَّ
يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الحرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى
إذَا جاءَ ذَا طُوًى باتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فإذَا
صَلَّى الغَدَاةَ اغْتَسَلَ وزَعَمَ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَلَ ذالِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة قَوْله: (فَإِذا اسْتَوَت بِهِ
اسْتقْبل الْقبْلَة) . وَأَبُو معمر عبد الله بن عَمْرو بن
أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ، وَعبد
الْوَارِث بن سعيد وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَالْكل قد
ذكرُوا غير مرّة. وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق عَبَّاس الدوري عَن أبي معمر،
وَقَالَ: ذكره البُخَارِيّ بِلَا رِوَايَة، وَرَوَاهُ
مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن أبي الرّبيع عَن حَمَّاد عَن
أَيُّوب.
قَوْله: (إِذا صلى بِالْغَدَاةِ) ، أَي: إِذا صلى الصُّبْح
بِوَقْت الْغَدَاة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إِذا صلى
الْغَدَاة، أَي: صَلَاة الْغَدَاة وَهِي الصُّبْح. قَوْله:
(فرحلت) ، بِنَاء على الْمَجْهُول بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله:
(قَائِما) نصب على الْحَال، أَي: منتصبا غير مائل على
نَاقَته، وَقيل: وَصفه بِالْقيامِ لقِيَام رَاحِلَته،
وَقيل: رُوِيَ بِلَفْظ: فَإِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته
قَائِمَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي اسْتقْبل الْقبْلَة
قَائِما فِي الصَّلَاة. وَفِي السِّيَاق تَقْدِيم
وَتَأْخِير، وَالتَّقْدِير: أَمر رَاحِلَته فرحلت، ثمَّ
اسْتقْبل الْقبْلَة قَائِما، أَي: فصلى ثمَّ ركب، ورد
بِأَنَّهُ تعسف فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير لعدم
ذكر صَلَاة الْإِحْرَام فِيهِ، والاستقبال إِنَّمَا وَقع
بعد الرّكُوب، وَقد رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَأَبُو عوانه فِي
(صَحِيحه) من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع بِلَفْظ:
كَانَ إِذا أَدخل رجله فِي الغرز فاستوت بِهِ نَاقَته
قَائِمَة أهلَّ. قَوْله: (ثمَّ يمسك) أَي: عَن
التَّلْبِيَة، وَلَيْسَ المُرَاد بالإمساك عَن
التَّلْبِيَة تَركهَا أصلا، وَإِنَّمَا المُرَاد التشاغل
بغَيْرهَا من الطّواف وَغَيره، وَقد رُوِيَ أَن ابْن عمر
كَانَ لَا يُلَبِّي فِي طَوَافه، كَمَا رَوَاهُ ابْن
خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيق عَطاء، قَالَ: كَانَ
ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يدع التَّلْبِيَة
إِذا دخل الْحرم، ويراجعها بَعْدَمَا يقْضِي طَوَافه بَين
الصَّفَا والمروة. قَوْله: (ثمَّ يُلَبِّي حَتَّى يبلغ
الْحرم) ، أَي: بَعْدَمَا ركب رَاحِلَته يُلَبِّي وَلَا
يقطعهَا حَتَّى يبلغ الْحرم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: وَقت الْإِمْسَاك هُوَ صَبِيحَة يَوْم الْعِيد فِي
منى لَا بُلُوغ الْحرم؟ قلت: لَيْسَ الْغَرَض مِنْهُ
هَهُنَا بَيَان وَقت على الْخُصُوص، فَلهَذَا أجمل، أَو
أَرَادَ بِالْحرم منى أَو كَانَ ذَلِك عِنْد التَّمَتُّع،
وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يشكل عَلَيْهِ، قَوْله فِي
رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية: (إِذا دخل أدنى الْحرم) .
قلت: إِذا أُرِيد بِالْحرم ظَاهره لَا يبْقى الْإِشْكَال،
وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالإمساك ترك تكْرَار
التَّلْبِيَة لَا تَركهَا أصلا. قلت: مَذْهَب ابْن عمر
أَنه كَانَ يَتْرُكهَا إِذا دخل الْحرم، وَلَا يفهم من
ظَاهر الْكَلَام إلاَّ تَركهَا، لَا ترك تكرارها، لِأَن
بَين تَركهَا وَبَين ترك تكرارها فرقا، وتارك تكرارها لَا
يُسمى تَارِكًا لِلتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (ثمَّ يمسك حَتَّى
إِذا جَاءَ) هِيَ غَايَة لقَوْله: اسْتقْبل. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَو يكون المُرَاد بِالْحرم هُوَ
الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن، وَهُوَ أول جُزْء مِنْهُ،
يَعْنِي: يمسك فِيمَا بَين أَوله وَذي طوى، فحتى على هَذَا
الْوَجْه غَايَة لقَوْله: يمسك قَوْله: (ذَا طوى) ،
مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول جَاءَ، وَذي طوى، بِضَم الطَّاء
وَفتحهَا وَكسرهَا، وقيدها الْأصيلِيّ بِكَسْرِهَا وبتخفيف
الْوَاو: وادٍ مَعْرُوف بِقرب مَكَّة. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: هُوَ مَوضِع عِنْد بَاب مَكَّة بأسفلها فِي
صوب طَرِيق الْعمرَة الْمُعْتَادَة وَمَسْجِد عَائِشَة،
وَيعرف الْيَوْم بآبار الزاهدة، يصرف وَلَا يصرف، وَقَالَ
أَيْضا: إِنَّه مَقْصُور منون. وَفِي (التَّوْضِيح) : وربض
من أرباض مَكَّة، وطاؤه مُثَلّثَة مَعَ الصّرْف وَعَدَمه
وَالْمدّ أَيْضا، وَقَالَ السُّهيْلي: وادٍ بِمَكَّة فِي
أَسْفَلهَا وَذُو طواء ممدودا، وَمَوْضِع بطرِيق
الطَّائِف. وَقيل: و (وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروي حَتَّى
إِذا حَاذَى طوى من الْمُحَاذَاة وبحذف كلمة ذِي وَالْأول
هُوَ الصَّحِيح لِأَن إسم الْموضع ذُو طوى لَا: طوى. وَفِي
كتاب (الأذواء) : ذُو طوى مَوضِع بِظَاهِر مَكَّة بِهِ
بئاء يسْتَحبّ لمن يدْخل مَكَّة أَن يغْتَسل مِنْهَا.
قَوْله: (بَات بِهِ) ، أَي: بِذِي طوى أَي: فِيهِ.،
قَوْله: (حَتَّى يصبح) أَي: إِلَى أَن يدْخل فِي الصَّباح.
قَوْله: (فَإِذا صلى الْغَدَاة) ، أَي: صَلَاة الْغَدَاة
وَهِي الصُّبْح. قَوْله: (اغْتسل) جَوَاب: إِذا، قَوْله:
(وَزعم) أَي: قَالَ، وَيُطلق الزَّعْم على القَوْل
الصَّحِيح، وَسَيَأْتِي فِي: بَاب الِاغْتِسَال عِنْد
دُخُول مَكَّة، فَقَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم
حَدثنَا ابْن علية عَن أَيُّوب عَن نَافِع: كَانَ ابْن عمر
إِذا دخل أدنى الْحرم أمسك عَن التَّلْبِيَة، ثمَّ يبيت
بِذِي طوى، ثمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْح ويغتسل وَيحدث أَن
نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يفعل ذَلِك،
وروى الْحَاكِم
(9/179)
من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا: اغْتسل رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ لبس ثِيَابه، فَلَمَّا أَتَى ذَا
الحليفة صلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قعد على بعيره.
فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ على الْبَيْدَاء أحرم
بِالْحَجِّ، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: اسْتِقْبَال
الْقبْلَة عِنْد الإهلال لاستقبال دَعْوَة
إِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَكَّة،
فَلذَلِك يُلَبِّي الدَّاعِي أبدا بعد أَن يسْتَقْبل
بِالْوَجْهِ، لِأَنَّهُ لَا يصلح أَن يولي الْمُجيب
ظَهره من يَدعُوهُ ثمَّ يلبيه، بل يستقبله فِي
مَوْضِعه الَّذِي دعِي مِنْهُ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب
الْإِحْرَام عقيب الصَّلَاة، وَفِي (التَّلْوِيح) :
لَا خلاف أَن الْمبيت بِذِي طوى وَدخُول مَكَّة
نَهَارا لَيْسَ من الْمَنَاسِك، لَكِن إِن فعله
اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وتبعا لآثاره كَانَ ثَوَابه فِي ذَلِك جزيلاً. وَفِي
(شرح الْمُهَذّب) : لمن هِيَ طَرِيقه مُسْتَحبّ،
وَدخُول مَكَّة نَهَارا أفضل من اللَّيْل، وَهُوَ
الصَّحِيح عِنْد الْأَكْثَرين من الشَّافِعِيَّة.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: هما سَوَاء، فَإِن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخلهَا فِي عمْرَة
الْجِعِرَّانَة لَيْلًا. قلت: هُوَ الْمَذْكُور فِي
(الْهِدَايَة) عَن أبي حنيفَة. وَفِيه: الِاغْتِسَال،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: الِاغْتِسَال الْمَذْكُور سنة،
قَالَ: فَإِن عجز عَنهُ تيَمّم وَتَكون نِيَّته فِي
ذَلِك غسل دُخُول مَكَّة. وَقَالَ فِي (مَنَاسِك
الْكرْمَانِي) : هَذَا الْغسْل مُسْتَحبّ لكل أحد
حَتَّى الْحَائِض وَالنُّفَسَاء وَالصَّبِيّ، وَقَالَ
ابْن حزم: لَا يلْزم الْغسْل فرضا فِي الْحَج إلاَّ
الْمَرْأَة تهل بِعُمْرَة تُرِيدُ التَّمَتُّع فتحيض
قبل الطّواف بِالْبَيْتِ، فَهَذِهِ تَغْتَسِل وَلَا
بُد، وَالْمَرْأَة تَلد قبل أَن تهلّ بِالْعُمْرَةِ
أَو بِالْقُرْآنِ فَفرض عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل
وتهلّ. وَفِي (الاستذكار) : مَا أعلم أحدا من
الْمُتَقَدِّمين أوجب الِاغْتِسَال عِنْد الْإِحْرَام
بِالْعُمْرَةِ أَو الْحَج إلاَّ الْحسن بن أبي الْحسن،
وَقد رُوِيَ عَن عِكْرِمَة إِيجَابه كَقَوْل أهل
الظَّاهِر، وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْوضُوء يَكْفِي
مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ سنة مُؤَكدَة عِنْد
مَالك وَأَصْحَابه لَا يرخصون فِي تَركه إلاَّ من عذر،
وَعَن عبد الْملك: هُوَ لَازم، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي
تَركه نَاسِيا وَلَا عَامِدًا دم وَلَا فديَة. وَقَالَ
ابْن خوازمند: هُوَ عِنْد مَالك أوكد من غسل
الْجُمُعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ
وَالثَّوْري: يجْزِيه الْوضُوء، وَهُوَ قَول
إِبْرَاهِيم، وَفِي (سنَن سعيد بن مَنْصُور) : حَدثنَا
جرير عَن مُغيرَة قَالَ: ذكر عَن إِبْرَاهِيم إِذا قدم
الْحَاج أمسك عَن التَّلْبِيَة مَا دَامَ يطوف
بِالْبَيْتِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيم: لَا، بل يُلَبِّي
قبل الطّواف وَفِي الطّواف وَبعد الطّواف، وَلَا
يقطعهَا حَتَّى يَرْمِي الْجَمْرَة، وَهُوَ قَول أَبُو
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد،
إلاَّ أَن أَبَا حنيفَة وَالشَّافِعِيّ قَالَا: يقطع
التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة يرميها فِي الْجَمْرَة،
وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. وَقَالَ
قوم: يقطع الْمُعْتَمِر التَّلْبِيَة إِذا دخل الْحرم،
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يقطعهَا حَتَّى يرى بيُوت
مَكَّة. وَقَالَت طَائِفَة: حَتَّى يدْخل بيُوت
مَكَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يقطعهَا حَتَّى
يسْتَلم الْحجر، لما رَوَاهُ أَحْمد عَن هشيم: حَدثنَا
حجاج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده:
اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث
عمر، كل ذَلِك فِي ذِي الْقعدَة، يُلَبِّي حَتَّى
يسْتَلم الْحجر. وَقَالَ اللَّيْث: إِذا بلغ
الْكَعْبَة قطع التَّلْبِيَة. وَقَالَ الشَّافِعِي:
لَا يقطعهَا حَتَّى يفْتَتح الطّواف، وَقَالَ مَالك:
من أحرم من الْمِيقَات قطع التَّلْبِيَة إِذا دخل أول
الْحرم، فَإِن أحرم من الْجِعِرَّانَة أَو من
التَّنْعِيم قطعهَا إِذا دخل بيُوت مَكَّة. أَو إِذا
دخل الْمَسْجِد. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: لَا يقطع
الْمُعْتَمِر التَّلْبِيَة حَتَّى يسْتَلم الرُّكْن،
وَكَانَ ابْن عمر يقطعهَا إِذا رأى بيُوت مَكَّة.
تابَعَهُ إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ فِي الغَسْلِ
أَي: تَابع عبد الْوَارِث إِسْمَاعِيل بن علية عَن
أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ فِي أَمر الْغسْل، وَوصل
البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي: بَاب
الِاغْتِسَال عِنْد دُخُول مَكَّة، على مَا يَأْتِي،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
4551 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ أبُو
الرَّبِيعِ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحٌ عنْ نَافِعٍ قَالَ
كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا
أرَادَ الخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ
لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ثُمَّ يَأتِي
مَسْجِدُ ذِي الحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ
وَإذَا اسْتَوَتْ بِهِ راحِلتُهُ قائِمةً أحرَمَ ثُمَّ
قالَ هاكذَا رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَفْعَلُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَدِيث أَنه دَاخل فِي ضمن
الحَدِيث السَّابِق، وَسليمَان قد مر فِي: بَاب
عَلَامَات الْمُنَافِق، وفليح
(9/180)
بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان،
واسْمه: حنين، وفليح لقبه غلب عَلَيْهِ، مر فِي أول
كتاب الْعلم. فَإِن قلت: أَلَيْسَ هَذَا بتكرار؟ قلت:
لَا، وَإِنَّمَا أوردهُ لزِيَادَة فِيهِ على الحَدِيث
السَّابِق، وَهُوَ الإدهان، وَإِنَّمَا كَانَ يدهن
بِغَيْر الطّيب ليمنع بذلك الْقمل وَالدَّوَاب،
وَكَانَ يجْتَنب مَا لَهُ رَائِحَة طيبَة صِيَانة
للْإِحْرَام.
|