عمدة القاري شرح صحيح البخاري

61 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: العقيق وَاد مبارك. قَوْله: (العقيق) مُبْتَدأ. وَقَوله: وادٍ، خَبره و: مبارك، صفته، و: مبارك نكرَة. ويروى: الْمُبَارك، بِالْألف وَاللَّام، وبإضافة وادٍ إِلَيْهِ أَي: وَاد الْموضع الْمُبَارك، وَقد مر تَفْسِير العقيق عَن قريب. قَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ وَاد بِظَاهِر الْمَدِينَة. وَقيل: يدفق مَاؤُهُ فِي غور تهَامَة.

4351 - حدَّثنا الحُمَيْدِي قَالَ حدَّثنا الوليدُ وبِشْرُ بنُ بَكْرٍ التِّنِيسي قالاَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني يحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عِكْرَمَةُ أنَّهُ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ إنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ أتانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فقالَ صَلِّ فِي هاذا الوَادِي المُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الْوَادي الْمُبَارك.
ذكر رِجَاله: وهم: ثَمَانِيَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ أَبُو بكر عبد الله بن الزبير بن الْعَوام مر فِي أول الصَّحِيح. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، مر فِي وَقت الْمغرب فِي كتاب الصَّلَاة. الثَّالِث: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: التنيسِي، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَتَشْديد النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وبالسين الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى: تنيس، بَلْدَة كَانَت فِي جَزِيرَة فِي وسط بحيرة تعرف ببحيرة تنيس هَذِه شَرْقي أَرض مصر، مر فِي: بَاب من أخف الصَّلَاة. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، تكَرر ذكره. الْخَامِس: يحيى بن أبي كثير. السَّادِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس. الثَّامِن: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَن نسبته إِلَى أحد أجداده وَأَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيان. وَأَن يحيى يمامي طائي وَأَن عِكْرِمَة مدنِي. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون بِالنِّسْبَةِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه

(9/147)


البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الِاعْتِصَام عَن سعيد بن الرّبيع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن النُّفَيْلِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله (بوادي العقيق) ، حَال، وَالْبَاء بِمَعْنى: فِي. قَوْله: (آتٍ) ، هُوَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالُوا، هَكَذَا، قلت: يحْتَمل أَن يكون ملكا من الْمَلَائِكَة غير جِبْرِيل لِأَن إسْرَافيل أَيْضا نزل إِلَيْهِ مُدَّة، وَلَكِن صرح فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (من رَبِّي) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: آتٍ، وآتٍ فَاعل أَتَى، وَأَصله: آتى، فأعل إعلال: قاضٍ، قَوْله: (صلِّ) أَمر بِالصَّلَاةِ. قَالَ الْكرْمَانِي: ظَاهره أَن هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الْإِحْرَام. وَقيل: كَانَت صَلَاة الصُّبْح، وَالْأول أظهر. قَوْله: (وَقل: عمْرَة فِي حجَّة) عمْرَة، مَنْصُوب فِي رِوَايَة أبي ذَر، ومرفوع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَأما وَجه النصب فبفعل مُقَدّر تَقْدِيره: قل جعلت عمْرَة فِي حجَّة، وَأما وَجه الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: قل هَذِه عمْرَة فِي حجَّة، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِمَّا أَن تكون: فِي، بِمَعْنى: مَعَ، كَأَنَّهُ قَالَ: عمْرَة مَعهَا حجَّة، وَإِمَّا أَن يُرَاد: عمْرَة مدرجة فِي حجَّة، على مَذْهَب من رأى أَن عمل الْعمرَة مضمن فِي عمل الْحَج يجْزِيه لَهما طواف وَاحِد. قلت: هَذَا بعيد، وَأبْعد مِنْهُ من قَالَ: إِنَّه يعْتَمر فِي تِلْكَ السّنة بعد فرَاغ حجَّة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفعل ذَلِك، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: يحْتَمل أَن يكون أمرا بِأَن يَقُول ذَلِك لأَصْحَابه ليعلمهم مَشْرُوعِيَّة الْقُرْآن، وَهُوَ كَقَوْلِه: دخلت الْعمرَة فِي الْحَج، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيره، لِأَن قَوْله: دخلت ... إِلَى آخِره، تأسيس قَاعِدَة، وَقَوله: عمْرَة فِي حجَّة، بالتنكير يَسْتَدْعِي على الْوحدَة، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْفِعْل الْوَاقِع فِي الْقُرْآن إِذْ ذَاك، والآن نحرر هَذَا المبحث إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فضل العقيق لفضل الْمَدِينَة، وَفِيه: فضل الصَّلَاة فِيهِ ومطلوبيتها عِنْد الْإِحْرَام لَا سِيمَا فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ فَإِنَّهُ اسْتحبَّ كَونهَا بعد فرض. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَمعنى الحَدِيث الْإِعْلَام بِفضل الْمَكَان لَا إِيجَاب الصَّلَاة فِيهِ لقِيَام الْإِجْمَاع على أَن الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَادي لَيست بِفَرْض. قَالَ: فَبَان بذلك أَن أمره بِالصَّلَاةِ فِيهِ نَظِير حثه لأمته على الصَّلَاة فِي مَسْجده وَمَسْجِد قبا. قلت: الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ من سنة الْإِحْرَام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بذلك أَمر إرشاد، وَأَنه صلى رَكْعَتَيْنِ وَلَا يُصَلِّيهمَا فِي الْوَقْت الْمَكْرُوه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن كَانَ إِحْرَامه فِي وَقت من الْأَوْقَات الْمنْهِي فِيهَا عَن الصَّلَاة لم يصلهمَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور. وَفِيه: وَجه لبَعض أَصْحَابنَا أَنه: يُصَلِّيهمَا فِيهِ لِأَن سببهما إِرَادَة الْإِحْرَام، وَقد وجد ذَلِك. وَفِيه: اسْتِحْبَاب نزُول الْحَاج فِي منزلَة قريبَة من الْبَلَد ومبيتهم بهَا ليجتمع إِلَيْهِم من تَأَخّر عَنْهُم مِمَّن أَرَادَ مرافقتهم، وليستدرك حَاجته من نَسِيَهَا فَيرجع إِلَيْهَا من قريب. وَفِيه: أَفضَلِيَّة الْقُرْآن وَالدّلَالَة على وجوده، وعَلى أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ قَارِئًا فِي حجَّة الْوَدَاع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر أَن يَقُول: عمْرَة فِي حجَّة، فَيكون مَأْمُورا بِأَنَّهُ يجمع بَينهمَا من الْمِيقَات، وَهَذَا هُوَ عين الْقُرْآن، فَإِذا كَانَ مَأْمُورا بِهِ اسْتَحَالَ أَن يكون حجَّة خلاف مَا أَمر بِهِ. فَإِن قلت: لَا نسلم ذَلِك وَلَا يدل ذَلِك على أَفضَلِيَّة الْقُرْآن، وَلَا على كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَارِئًا لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: قل عمْرَة وَحجَّة، ففصل بَينهمَا بِالْوَاو، فَحِينَئِذٍ يحْتَمل أَن يُرِيد أَن يحرم بِعُمْرَة إِذا فرغ من حجَّته قبل أَن يرجع إِلَى منزله، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا حججْت فَقل: لبيْك بِعُمْرَة وَتَكون فِي حجتك الَّتِي حججْت، أَو يكون مَحْمُولا على معنى تحصيلهما مَعًا قلت: رِوَايَة البُخَارِيّ وَغَيره: قل عمْرَة فِي حجَّة، وَهَذِه هِيَ الصَّحِيحَة، وَهِي تدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يَجْعَل الْعمرَة فِي الْحجَّة، وَهِي صفة الْقُرْآن، وَالرِّوَايَة الَّتِي بواو الْعَطف تدل على مَا قُلْنَا أَيْضا لِأَن الْوَاو لمُطلق الْجمع، وَالْجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة هُوَ الْقُرْآن، فَيدل أَيْضا على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارِئًا، وَمَا ذَكرُوهُ من الإحتمال بعيدد وَصرف اللَّفْظ إِلَى غير مَدْلُوله، فَلَا يقبل. وَالله أعلم.

5351 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا مُوسى بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثني سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ رُؤِيَ وهْوَ فِي مُعَرَّسٍ بذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطنِ الوادِي قِيلَ لهُ إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَاركَةٍ وقَدْ أنَاخَ بِنَا سالِمٌ يَتَوَخَّى بِالمُنَاخِ الَّذِي كانَ عَبْدُ الله يُنِيخُ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ أسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الوَادِي

(9/148)


بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الطَّرِيقِ وسَطٌ مِنْ ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّك ببطحاء مباركة) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن أبي بكر عَليّ بن عَطاء بن مقدم أَبُو عبد الله الْمَعْرُوف بالمقدمي. الثَّانِي: فُضَيْل بن سُلَيْمَان النميري. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله. الْخَامِس:: أَبوهُ عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه ذكر فِي: بَاب الْمَسَاجِد الَّتِي على طرق الْمَدِينَة! وَقد ذكرنَا لطائفة هُنَاكَ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك، وَفِي الْمُزَارعَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بكار، وَشُرَيْح بن يُونُس وَعَن مُحَمَّد بن عباد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَبدة ابْن عبد الله عَن سُوَيْد بن عَمْرو.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّه رُئي) ، بِضَم الرَّاء وَكسر الْهمزَة أَي: رَآهُ غَيره، هَذِه رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: أرِي بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: رأى بِلَفْظ الْمَاضِي الْمَعْرُوف من الرُّؤْيَا، وَفِي بَعْضهَا: ورؤي، بِلَفْظ الْمَجْهُول من الإراءة مقلوبا وَغير مقلوب. قلت: فِي رِوَايَة مُسلم: أَتَى: (فِي معرس) قَوْله: (وَهُوَ معرس) ، جملَة حَالية، ومعرس، بِكَسْر الرَّاء على لفظ إسم الْفَاعِل من التَّعْرِيس، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَهُوَ فِي معرسه، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم: وَهُوَ فِي معرسه من ذِي الحليفة فِي بطن الْوَادي، وَهنا الرَّاء مَفْتُوحَة لِأَنَّهُ اسْم مَكَان من التَّعْرِيس. قَوْله: (وَقد أَنَاخَ بِنَا سَالم مقول مُوسَى بن عقبَة الرَّاوِي عَنهُ قَوْله (يتوخى) جملَة حَالية أَي يتحَرَّى ويقصد قَوْله بالمناخ بِضَم الْمِيم وَهُوَ المبرك قَوْله ينيخ من أَنَاخَ إناخة أَي: يبرك بعيره. قَوْله: (يتحرَّى) جملَة حَالية أَي: يقْصد. قَوْله: (مرس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِفَتْح الرَّاء لِأَنَّهُ اسْم مَكَان من التَّعْرِيس. قَوْله: (وَهُوَ أَسْفَل) لَفْظَة: هُوَ، مُبْتَدأ، و: أَسْفَل، خَبره. وَقَوله: (بَينه وَبَين الطَّرِيق) خبر ثَان، قَوْله: (وسط) خبر ثَالِث، وَيجوز أَن يكون بَدَلا. وَقَوله: (بَينه) أَي: بَين المعرس بِكَسْر الرَّاء وَهُوَ بإفراد الضَّمِير رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (بَينهم) ، أَي: بَين المعرسين، بِكَسْر الرَّاء جمع المعرس. قَوْله: (وسط) بِفَتْح السِّين أَي: متوسط بَين بطن الْوَادي وَبَين الطَّرِيق. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وسطا من ذَلِك، بِالنّصب، وَوَجهه أَن يكون حَالا بِمَعْنى: متوسطا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا فَائِدَة الثَّالِث: يَعْنِي قَوْله: وسط، وَهُوَ مَعْلُوم من الثَّانِي يَعْنِي: من قَوْله بَينه وَبَين الطَّرِيق؟ قلت: بَيَان أَنه فِي حلق الواسط لَا قرب لَهُ إِلَى أحد الْجَانِبَيْنِ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُور من الْفرق بَين الْوسط، بتحريك السِّين، وَالْوسط بسكونها.

71 - (بابُ غَسْلِ الخَلُوقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بيانِ غسل الخلوق، وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَضم اللَّام المخففة، وبالقاف ضرب من الطّيب يعْمل فِيهِ الزَّعْفَرَان.
حدَّثنا قَالَ أبُو عَاصِمٍ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ أَخْبرنِي عَطَاءٌ عَنْ صَفْوَانَ بنَ يَعْلَى أخْبَرَهُ أنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أرِنِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ يُوحى إليهِ قَالَ فَبَيْنَما النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالجِعْرَانَةِ ومعَهُ نَفَرٌ مَنْ أصْحَابِهِ جاءَهُ رَجلٌ فقالَ يَا رسولَ الله كيفَ تَرى فِي رَجلٍ أحْرَمَ بِعُمُرَةٍ وهْوَ مُتَضَمِّخٌ بِطيبٍ فسَكتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساعَةً فجَاءَهُ الوَحْيُ فأشارَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إلَى يَعْلَى فجاءَ يَعْلَى وعَلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فأدْخَلَ رَأسَهُ فإذَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْمَرُّ الوَجْهِ وَهْوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ أينَ الَّذي سألَ عنِ العُمْرَةِ فأُتِيَ بِرجُلٍ فَقَالَ اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثلاثَ مَرَّاتٍ وَانْزَعْ عَنْكَ الجُبَّةَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حجَّتِكَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ أرَادَ الإنْقَاءَ حِينَ أمَرَهُ أنْ يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَ نَعَمْ.

(9/149)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اغسل الطّيب الَّذِي بك ثَلَاث مَرَّات) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَن الخلوق كَانَ على الثَّوَاب، كَمَا فِي التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن الرجل ان متضمخا. وَقَوله لَهُ: (اغسل الطّيب الَّذِي بك) يُوضح أَن الطّيب لم يكن فِي ثَوْبه، وَإِنَّمَا كَانَ على بدنه، وَلَو كَانَ على الْجُبَّة لَكَانَ فِي نَزعهَا كِفَايَة من جِهَة الْإِحْرَام. انْتهى. قلت: قَوْله: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَن الخلوق كَانَ على الثَّوْب، كَمَا فِي التَّرْجَمَة، غير مُسلم، لِأَن فِي الحَدِيث: وَهُوَ متضمخ بِطيب، أَعم من أَن يكون على بدنه أَو على ثَوْبه، وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغسل الطّيب الَّذِي بك) أَعم من أَن يكون على بدنه أَو على ثَوْبه، على أَن الخلوق فِي الْعَادة يكون فِي الثَّوْب، وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَا مَا سَيَأْتِي فِي مُحرمَات الْإِحْرَام من وَجه آخر: بِلَفْظ: عَلَيْهِ قَمِيص فِيهِ أثر صفرَة، وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عَطاء بِلَفْظ: رأى رجلا عَلَيْهِ جُبَّة عَلَيْهَا أثر خلوق، وروى مُسلم: حَدثنِي إِسْحَاق بن مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ عبيد الله بن عبد الْمجِيد حَدثنَا رَبَاح بن أبي مَعْرُوف، قَالَ: سَمِعت عَطاء، قَالَ: أَخْبرنِي صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَتَاهُ رجل عَلَيْهِ جُبَّة بهَا أثر من خلوق، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي أَحرمت بِعُمْرَة، فَكيف أفعل؟ فَسكت عَنهُ فَلم يرجع إِلَيْهِ، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يستره إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي، يظله، فَقلت لعمر: إِنِّي أحب إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي أَن أَدخل رَأْسِي مَعَه فِي الثَّوْب، فَجِئْته فأدخلت رَأْسِي مَعَه فِي الثَّوْب فَنَظَرت إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا سري عَنهُ قَالَ: أَيْن السَّائِل آنِفا عَن الْعمرَة؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الرجل، فَقَالَ: إنزع عَنْك جبتك واغسل أثر الخلوق الَّذِي بك وَافْعل فِي عمرتك مَا كنت فَاعِلا فِي حجك، وَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن أثر الخلوق كَانَ على ثوب الرجل، وَلم يكن على بدنه، وَفِي رِوَايَة أبي عَليّ الطوسي: عَلَيْهِ جُبَّة فِيهَا ردع من زعفران ... الحَدِيث، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عَطاء عَن يعلى مَرْفُوعا: رأى رجلا عَلَيْهِ جُبَّة عَلَيْهَا أثر خلوق أَو صفرَة فَقَالَ: إخلعها عَنْك وَاجعَل فِي عمرتك مَا تجْعَل فِي حجك. قَالَ قَتَادَة: فَقلت لعطاء: كُنَّا نسْمع أَنه قَالَ: شقها، قَالَ: هَذَا فَسَاد، وَالله لَا يحب الْفساد. وَعند أبي دَاوُد: فَأمره أَن يَنْزِعهَا نزعا ويغسلها مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. وَعِنْده: فخلعها من رَأسه، وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا هشيم أخبرنَا عبد الْملك وَمَنْصُور وَغَيرهمَا عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَحرمت وَعلي جبتي هَذِه، وعَلى جبته درع من خلوق ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ: إخلع هَذِه الْجُبَّة واغسل هَذَا الزَّعْفَرَان، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث كلهَا ترد على الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن الطّيب لم يكن على ثَوْبه، وَإِنَّمَا كَانَ على بدنه، فَإِن قلت: سلمنَا هَذَا كُله، وَكَيف تُوجد الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة وفيهَا لفظ الخلوق وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب إِلَّا لفظ الطّيب؟ قلت: جرت عَادَة البُخَارِيّ أَن يبوب بِمَا يَقع فِي بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ، وَإِن لم يُخرجهُ وَهُوَ أَبْوَاب الْعمرَة بِلَفْظ: وَعَلِيهِ أثر الخلوق، على أَن الخلوق ضرب من الطّيب كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل، واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده، وَهَذَا بِصُورَة التَّعْلِيق، وَبِذَلِك جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: ذكره عَن أبي عَاصِم بِلَا خبر. وَقَالَ أَبُو نعيم: ذكره بِلَا روية، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ العراقية: حَدثنَا مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم. فَهُوَ إِمَّا مُحَمَّد بن الْمثنى الْمَعْرُوف بالزمن، وَإِمَّا مُحَمَّد ابْن معمر البحراني، وَإِمَّا مُحَمَّد بن بشار، بإعجام الشين. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: عَطاء بن أبي رَبَاح كَذَلِك. الرَّابِع: صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة، ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وروى لَهُ الْجَمَاعَة سوى ابْن مَاجَه. الْخَامِس: أَبوهُ يعلى بن أُميَّة بن أبي عُبَيْدَة التَّمِيمِي أَبُو خلف، وَأَبُو خَالِد أَو أَبُو صَفْوَان، وَهُوَ الْمَعْرُوف بيعلى بن منية، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَيُقَال: منية جدته وَهِي: منية بنت غَزوَان أُخْت عتبَة بنت غَزوَان، وَيُقَال: منية بنت جَابر، أسلم يَوْم الْفَتْح وَشهد الطَّائِف وحنينا وتبوك مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَنهُ وَعَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تِسْعَة عشر حَدِيثا، قتل بصفين.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: قَالَ أَبُو عَاصِم، وَهُوَ تَعْلِيق. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَبَا عَاصِم بَصرِي والبقية مكيون، وَهَذَا الْإِسْنَاد مُنْقَطع لِأَنَّهُ قَالَ: إِن يعلى قَالَ لعمر، وَلم يقل إِن يعلى أخبرهُ أَنه قَالَ لعمر، أللهم إلاَّ إِذا كَانَ صَفْوَان حضر مراجعتهما، فَيكون مُتَّصِلا. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: رَوَاهُ عَبَّاس بن الْوَلِيد النَّرْسِي عَن دَاوُد الْعَطَّار عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة، أَو صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يقل

(9/150)


عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ قيس عَن عَطاء عَن صَفْوَان عَن أَبِيه: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بالجعرانة قد أهل بِالْعُمْرَةِ هُوَ مصفر لجبته وَرَأسه وَعَلِيهِ جُبَّة، وَفِي رِوَايَة همام عَن عَطاء عَن صَفْوَان عَن أَبِيه ... الحَدِيث، وَفِيه: جُبَّة عَلَيْهَا خلوق أَو أثر صفرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي الْوَلِيد فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن أبي نعيم وَفِي الْمَغَازِي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن أَيْضا عَن مُسَدّد، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن شَيبَان بن فروخ، وَعَن زُهَيْر ابْن حَرْب وَعَن عبد بن حميد وَعَن عَليّ بن حشرم وَعَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن عقبَة بن مكرم وَمُحَمّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عقبَة بن مكرم وَعَن مُحَمَّد بن كثير وَعَن مُحَمَّد بن عِيسَى وَعَن يزِيد بن خَالِد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن روح بن حبيب وَعَن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعبد الْجَبَّار وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن عِيسَى بن حَمَّاد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: أَرِنِي) من الإراءة، يَقْتَضِي مفعولين أَحدهمَا هُوَ نون الْمُتَكَلّم، وَالْآخر هُوَ قَوْله: النَّبِي. قَوْله: (بَيْنَمَا النَّبِي) قد مر غير مرّة أَن أصل: بَيْنَمَا، بَين زيدت فِيهِ الْمِيم وَالْألف، وَهُوَ ظرف زمَان بِمَعْنى المفاجأة، وَكَذَلِكَ: بَينا، بِدُونِ الْمِيم ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل أَو مُبْتَدأ أَو خبر، ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَهنا الْجُمْلَة مُبْتَدأ وَخبر، وهما قَوْله: (النَّبِي بالجعرانة) ، وَقَوله: (جَاءَ رجل) جَوَابه، و: الْجِعِرَّانَة، بِكَسْر الْجِيم وَالْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، قَالَ الْبكْرِيّ: كَذَا يَقُول الْعِرَاقِيُّونَ، وَمِنْهُم من يُخَفف الرَّاء ويسكن الْعين، وَكَذَا الْخلاف فِي الْحُدَيْبِيَة، وهما بَين الطَّائِف وَمَكَّة وَهِي إِلَى مَكَّة أدنى. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَهِي قريب من مَكَّة، وَهِي فِي الْحل وميقات الْإِحْرَام. وَقَالَ ياقوت: هِيَ غير الْجِعِرَّانَة الَّتِي بِأَرْض الْعرَاق. قَالَ سيف بن عمر: نزلها الْمُسلمُونَ لقِتَال الْفرس، وَقَالَ يُوسُف بن مَاهك. اعْتَمر بهَا ثَلَاثمِائَة نَبِي، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَعْنِي: بالجعرانة الَّتِي بِقرب مَكَّة. قَوْله: (وَمَعَهُ نفر من أَصْحَابه) الْوَاو فِيهِ للْحَال، أَي: مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة من أَصْحَابه وَكَانَ هَذَا بالجعرانة كَمَا ثَبت هُنَا، وَفِي غَيره: فِي مُنْصَرفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة حنين، وَفِي ذَلِك الْموضع قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غنائمها، وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان كَمَا ذكره ابْن حزم وَغَيره، وهما موضعان متقاربان. قَوْله: (جَاءَهُ رجل) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ سَيَأْتِي: جَاءَهُ أَعْرَابِي، وَلم يعرف اسْمه. وَنقل بَعضهم فِي (الذيل) عَن (تَفْسِير الطرطوشي) : أَن اسْمه عَطاء بن مُنَبّه. فَقَالَ: إِن ثَبت هَذَا فَهُوَ أَخُو يعلى رَاوِي الْخَبَر، قيل: يجوز أَن يكون خطأ من اسْم الرَّاوِي، فَإِنَّهُ من رِوَايَة عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى بن مُنَبّه عَن أَبِيه، وَمِنْهُم من لم يذكر بَين عَطاء ويعلى أحدا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا الرجل يحوز أَن يكون: عَمْرو بن سَواد، إِذْ فِي (كتاب الشِّفَاء) للْقَاضِي عِيَاض، عَنهُ قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا متخلق) ، فَقَالَ: ورس ورس حط حط، وغشيني بقضيب بِيَدِهِ فِي بَطْني فأوجعني ... الحَدِيث. لَكِن عَمْرو هَذَا لَا يدْرك ذَا، فَإِنَّهُ صَاحب ابْن وهب، انْتهى. وَاعْترض بعض تلامذته عَلَيْهِ من وَجْهَيْن: أما أَولا: فَلَيْسَتْ هَذِه الْقَضِيَّة شَبيهَة بِهَذِهِ الْقَضِيَّة حَتَّى يُفَسر صَاحبهَا بهَا، وَأما ثَانِيًا: فَفِي الِاسْتِدْرَاك غَفلَة عَظِيمَة، لِأَن من يَقُول: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتخيل فِيهِ أَنه صَاحب ابْن وهب وَصَاحب مَالك، بل إِن ثَبت فَهُوَ آخر وَافق اسْمه اسْمه، وَاسم أَبِيه، وَالْغَرَض أَنه لم يثبت. قَالَ: لِأَنَّهُ انْقَلب على شَيخنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي (الشِّفَاء) : سَواد بن عَمْرو. انْتهى. قلت: رَأَيْت بِخَط بعض من أَخذ عَنهُ هَذَا الْمُعْتَرض، على هَامِش الورقة الَّتِي فِي هَذَا الْموضع من (كتاب التَّوْضِيح) ، قَالَ: فَائِدَة الَّذِي فِي الشِّفَاء سَواد بن عَمْرو، وَذكره فِي الْبَاب الثَّانِي من الْقسم الثَّالِث، وَلَفظه: وَأما حَدِيث سَواد بن عَمْرو: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا متخلق، فَقَالَ: ورس ورس حط حط وغشيني بقضيب فِي يَده فأوجعني، فَقلت: الْقصاص يَا رَسُول الله، فكشف لي عَن بَطْنه، إِنَّمَا ضربه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمنكر رَآهُ، وَلَعَلَّه لم يرد بضربه بالقضيب إلاَّ تنبيهه، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ إيجاع لم يَقْصِدهُ طلب التَّحَلُّل مِنْهُ، وَلما ذكر هَذَا أنكر عَلَيْهِ وَنسبه إِلَى التخبط وَإِلَى كَلَام لَا معنى لَهُ. قَوْله: (وَهُوَ متضمخ بِطيب) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، ومتضمخ، بالضاد والحاء المعجمتين، يُقَال: تضمخ بالطيب إِذا تلطخ بِهِ وتلوث بِهِ. قَوْله: (وعَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (قد أظل بِهِ) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الظَّاء الْمُعْجَمَة، أَي: جعل عَلَيْهِ كالظلة، وَهَذِه الْجُمْلَة حَالية، وَيجوز أَن تكون محلهَا الرّفْع على أَنه صفة لثوب. قَوْله: (فَإِذا رَسُول الله) كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (وَهُوَ يغظ) . الْوَاو فِيهِ للْحَال، ويغط بِفَتْح الْيَاء وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا طاء مُهْملَة،

(9/151)


أَي ينْفخ، وَهُوَ من الغطيط، وَهُوَ صَوت النَّفس المتردد من النَّائِم. وَيُقَال: الغطيط صَوت بِهِ بحوحة وَهُوَ كغطيط النَّائِم، أَي شخيره وصوته الَّذِي يردده فِي حلقه وَمَعَ نَفسه، وَسبب ذَلِك شدَّة الْوَحْي وَنَقله، وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلاً} (المزمل: 5) . قَوْله: (ثمَّ سري عَنهُ) بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة، أَي: كشف عَنهُ شَيْئا بعد شَيْء بالتدريج. وَقَالَ الْكرْمَانِي: رُوِيَ بتَخْفِيف الرَّاء الْمَكْسُورَة وتشديدها، وَالرِّوَايَة بِالتَّشْدِيدِ أَكثر. قَوْله: (اغسل الطّيب الَّذِي بك) قد قُلْنَا: إِنَّه أَعم من أَن يكون بِثَوْبِهِ أَو بدنه. قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) ، مُبَالغَة فِي الْإِزَالَة، وَلَعَلَّ الطّيب الَّذِي كَانَ على هَذَا الرجل كَانَ كثيرا. وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: (متضمخ) قلت: لِأَن بَاب التفعل وضع للْمُبَالَغَة. قَالَ القَاضِي: يحمل قَوْله: ثَلَاث مَرَّات على قَوْله: فاغسله، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إغسله إغسله إغسله ثَلَاث مَرَّات، يدل على صِحَّته مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَلَامه أَنه كَانَ إِذا تكلم بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا. انْتهى. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أمره أَن يَنْزِعهَا نزعا ويغتسل مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. قَوْله: (واصنع فِي عمرتك مَا تصنع فِي حجتك) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (كَمَا تصنع) ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي أَبْوَاب الْعمرَة: (كَيفَ تَأْمُرنِي أَن أصنع فِي عمرتي.
وَفِي مُسلم، من طَرِيق قيس بن سعد عَن عَطاء: (وَمَا كنت صانعا فِي حجتك فَاصْنَعْ فِي عمرتك) ، وَيدل هَذَا على أَنه كَانَ يعرف أَعمال الْحَج قبل ذَلِك. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: كَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يخلعون الثِّيَاب ويجتنبون الطّيب فِي الْإِحْرَام إِذا حجُّوا، وَكَانُوا يتساهلون فِي ذَلِك فِي الْعمرَة، فَأخْبرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مجراهما وَاحِد. وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ الْأَدْعِيَة وَغَيرهَا مِمَّا يشْتَرك فِيهِ الْحَج وَالْعمْرَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ، كَمَا قَالَه: وَزَاد: وَيسْتَثْنى من الْأَعْمَال مَا يخْتَص بِهِ الْحَج، وَقَالَ الْبَاجِيّ: الْمَأْجُور غير نزع الثَّوْب وَغسل الخلوق، لِأَنَّهُ صرح لَهُ بهما فَلم يبْق إلاَّ الْفِدْيَة. وَفِيه نظر، لِأَن فِيهِ حصرا وَقد تبين فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من أَن الْمَأْمُور بِهِ الْغسْل والنزع، وَذَلِكَ فِي رِوَايَته من طَرِيق سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه قَالَ: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي: رجلا، وَهُوَ بالجعرانة وَأَنا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ مقطفات، يَعْنِي: جُبَّة وَهُوَ متضمخ بالخلوق، فَقَالَ: أَنِّي أَحرمت بِالْعُمْرَةِ، وعَلى هَذَا: وَأَنا متضمخ بالخلوق، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا كنت صانعا فِي حجك فاصنعه فِي عمرتك. قَوْله: (فَقلت لعطاء) الْقَائِل هُوَ ابْن جريج.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز نظر الرجل إِلَى غَيره وَهُوَ مغطى بِشَيْء وَإِدْخَال رَأسه فِي غطائه إِذا علم أَنه لَا يكره ذَلِك مِنْهُ، فَإِن يعلى أَدخل رَأسه فِيمَا أظل بِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ علم أَنه لَا يكره ذَلِك فِي ذَلِك الْوَقْت، لِأَن فِيهِ تَقْوِيَة الْإِيمَان بمشاهدة حَال الْوَحْي الْكَرِيم، وَكَذَلِكَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، علم ذَلِك من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى قَالَ للرجل: تَعَالَى فَانْظُر. وَفِيه: أَن الْمُفْتِي إِذا لم يعلم حكم الْمَسْأَلَة أمسك عَن جوابها حَتَّى يُعلمهُ. وَفِيه: أَن من الْأَحْكَام الَّتِي لَيست فِي الْقُرْآن مَا هُوَ بِوَحْي لَا يُتْلَى. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمر الرجل بالفدية، فَأخذ بِهِ الشَّافِعِي وَالثَّوْري وَعَطَاء وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالُوا: إِن من لبس فِي إِحْرَامه مَا لَيْسَ لَهُ لبسه جَاهِلا، فَلَا فديَة عَلَيْهِ، وَالنَّاسِي فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة والمزني فِي رِوَايَة عَنْهَا: يلْزمه إِذا غطى رَأسه وَوَجهه مُتَعَمدا أَو نَاسِيا يَوْمًا إِلَى اللَّيْل، فَإِن كَانَ أقل من ذَلِك فَعَلَيهِ صَدَقَة يتَصَدَّق بهَا. وَعَن مَالك: يلْزمه إِذا انْتفع بذلك أَو طَال لبسه عَلَيْهِ. وَفِيه: الْمُبَالغَة فِي الإنقاء من الطّيب. وَفِيه: أَن الْمحرم إِذا كَانَ عَلَيْهِ مخيط نَزعه وَلَا يلْزمه تمزيقه وَلَا شقَّه، خلافًا للنخعي وَالشعْبِيّ حَيْثُ قَالَا: لَا يَنْزعهُ من قبل رَأسه لِئَلَّا يصير مغطيا رَأسه، أخرجه ابْن أبي شيبَة عَنْهُمَا، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحوه، وَكَذَا عَن الْحسن وَأبي قلَابَة، وَقد وَقع عِنْد أبي دَاوُد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلَفْظ: (إخلع عَنْك الْجُبَّة، فخلعها من قِبَل رَأسه) . وَعَن أبي صَالح وَسَالم: يخلعه من قبل رجلَيْهِ، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا أحرم وَعَلِيهِ قَمِيص لَا يَنْزعهُ من رَأسه، بل يشقه ثمَّ يخرج مِنْهُ، وَفِيه: اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتِعْمَال الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، واستدامته بعده، فكرهه قوم ومنعوه، مِنْهُم مَالك وَمُحَمّد بن الْحسن، ومنعهما عمر وَعُثْمَان وَابْن عمر وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَعَطَاء وَالزهْرِيّ، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَأَجَابُوهُ مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ تمسكا بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي لحرمه حِين أحرم، ولحله حِين أحل قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ) ، وَلمُسلم: بذريرة فِي حجَّة الْوَدَاع، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ كَمَا سَيَأْتِي: (وطيبته بمنى قبل أَن يفِيض) . وعنها: (كَأَنِّي

(9/152)


أنظر إِلَى وبيص الْمسك فِي مفرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم) . والوبيص، بالصَّاد الْمُهْملَة: البريق واللمعان. قَالَا: وَحَدِيث يعلى إِنَّمَا أمره بِغسْل مَا عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك الطّيب كَانَ زعفرانا، وَقد نهى الرِّجَال عَن الزَّعْفَرَان، وَجَوَاب آخر بِأَن قصَّة يعلى كَانَت بالجعرانة كَمَا ثَبت فِي هَذَا الحَدِيث، وَهِي فِي سنة ثمانٍ بِلَا خلاف، وَحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشرٍ بِلَا خلاف، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ بِالْآخرِ فالآخر من الْأَمر. فَإِن قلت: إِن ذَلِك الوبيص الَّذِي أبصرته عَائِشَة إِنَّمَا كَانَ بقايا ذَلِك الطّيب وَقد تعذر قلعهَا فَبَقيَ بعد أَن غسل، وَأَيْضًا: كَانَ ذَلِك من خواصه لِأَن الْمحرم، إِنَّمَا منع من الطّيب لِئَلَّا يَدعُوهُ إِلَى الْجِمَاع، والشارع مَعْصُوم. وَأَيْضًا كَانَ مِمَّا لَا تبقى رَائِحَته بعد الْإِحْرَام. قلت: قد ذكرنَا أَن ذَلِك الطّيب كَانَ زعفرانا وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الزَّعْفَرَان مُطلقًا، سَوَاء كَانَ فِي الْحل أَو الْحُرْمَة، وَدَعوى الخصوصية تحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَقد روى ابْن حزم من طَرِيق حَمَّاد بن يزِيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سَالم بن عبد الله عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: (طيبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي) ، وَرُوِيَ: أَنَّهُنَّ كن يضمخن جباههن بالمسك ثمَّ يحرمن ثمَّ يعرقن فيسيل على وجوههن، فَيرى ذَلِك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يُنكره.

81 - (بابُ الطِّيبِ عِنْدَ الإحْرَامِ ومَا يَلْبَسُ إذَا أرَادَ أنْ يحْرِمَ ويَتَرَجَّلُ وَيَدَّهِنُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الطّيب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام، وَجَوَاز مَا يلبس الشَّخْص إِذا أَرَادَ الْإِحْرَام. قَوْله: (ويترجل) بِالرَّفْع، عطف على قَوْله: وَمَا يلبس، ويروى بِالنّصب وَوَجهه أَن يكون مَنْصُوبًا بِأَن، الْمقدرَة كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(للبسُ عباءة وتقر عَيْني ... أحب إِلَيّ من لبس الشفوفِ)

وَقَوله: (ويترجل) ، من التَّرَجُّل على وزن: التفعل، وَهُوَ أَن يسرح شعره، من: رجلت رَأْسِي: إِذا مشطته بالمشط. قَوْله: (ويدهن) ، بِفَتْح الْهَاء من الثلاثي، يَعْنِي: من دهن يدهن، وبكسرها من ادَّهن على وزن: افتعل، إِذا تطلى بالدهن، وَأَصله يتدهن، فأبدلت التَّاء دَالا وأدغمت الدَّال فِي الدَّال، وَهُوَ عطف أَيْضا على: يلبس، وَقد تكلم الشُّرَّاح هُنَا بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، فتركناه.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَشَمُّ المُحْرَمْ الرَّيْحَانَ ويَنْظُرُ فِي المِرْآةِ ويَتَداوَى بِمَا يأكُلُ الزَّيْتَ والسَّمْنَ

هَذَا التَّعْلِيق فِي شم الْمحرم الريحان وَصله الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد جيد إِلَى سُفْيَان،: حَدثنَا أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا للْمحرمِ أَن يشم الريحان، وروى الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَد صَحِيح عَنهُ: الْمحرم يشم الريحان وَيدخل الْحمام وَينْزع سنه ويفقأ القرحة، وَإِن انْكَسَرَ ظفره أماط عَنهُ الْأَذَى.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الريحان. فَقَالَ إِسْحَاق: يُبَاح، وَتوقف أَحْمد فِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِي: يحرم، وَكَرِهَهُ مَالك وَالْحَنَفِيَّة. ومنشأ الْخلاف أَن كل مَا يتَّخذ مِنْهُ الطّيب يحرم بِلَا خلاف، وَأما غَيره فَلَا، وروى بن أبي شيبَة عَن جَابر أَنه قَالَ: لَا يشم الْمحرم الريحان، وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يكره شم الريحان للْمحرمِ. وَعَن أبي الزبير: سمع جَابِرا يسْأَل عَن الريحان أيشمه الْمحرم وَالطّيب والدهن؟ فَقَالَ: لَا. وَعَن جَابر: إِذا شم الْمحرم ريحانا أَو مس طيبا إهراق لذَلِك دَمًا. وَعَن إِبْرَاهِيم: فِي الطّيب الْفِدْيَة. وَعَن عَطاء: إِذا شم طيبا كفر، وَعنهُ: إِذا وضع الْمحرم على شَيْء دهنا فِيهِ طيب فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة. وَالريحَان: مَا طَابَ رِيحه من النَّبَات كُله سهلية وجبلية، والواحدة رَيْحَانَة. وَفِي (الْمُحكم) : الريحان أَطْرَاف كل كل بقلة طيبَة الرّيح إِذا خرج عَلَيْهَا أَوَائِل النَّور، والريحانة: طَاقَة من الريحان.
وَأما النّظر فِي الْمرْآة، فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (جَامعه) : رِوَايَة عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي عَنهُ عَن هِشَام بن حسان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا بَأْس أَن ينظر فِي الْمرْآة وَهُوَ محرم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن لَيْث عَن طَاوُوس: لَا ينظر.
وَأما التَّدَاوِي. قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَعباد بن الْعَوام عَن أَشْعَث عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يَقُول: يتداوى الْمحرم بِمَا يَأْكُل. وَقَالَ أَيْضا: حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا تشققت يَد الْمحرم أَو رِجْلَاهُ فليدهنهما بالزيت أَو السّمن. وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر: يتداوى الْمحرم بِأَيّ دَوَاء شَاءَ إلاَّ دَوَاء فِيهِ طيب، وَكَانَ الْأسود يضمد رجله

(9/153)


بالشحم وَهُوَ محرم. وَعَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء: حَدثنِي من سمع أَبَا ذَر يَقُول: لَا بَأْس أَن يتداوى الْمحرم بِمَا يَأْكُل، وَفِي رِوَايَة: حَدثنِي مرّة بن خَالِد عَن أبي ذَر، وَعَن معتب البَجلِيّ قَالَ: أصابني شقَاق وَأَنا محرم فَسَأَلت أَبَا جَعْفَر؟ فَقَالَ: ادهنه بِمَا تَأْكُل. وَكَذَا قَالَه ابْن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وَجَابِر بن زيد وَنَافِع وَالْحسن وَعُرْوَة. وَقَالَ أَبُو بكر: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا حَمَّاد عَن فرقد السنجي عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عمر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يدهن بالزيت عِنْد الْإِحْرَام. قَالَ الزُّهْرِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث فرقد، وَلَفظه: بالزيت وَهُوَ محرم غير المقتت. قَالَ أَبُو عِيسَى: المقتت المطيب. قلت: المقتت، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد التَّاء الأولى الْمُثَنَّاة من فَوق.
قَوْله: (يشم) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة على الْأَشْهر، وَحكى ضمهَا، وَذكر فِي (الفصيح) بِفَتْح الشين فِي الْمُضَارع وَكسرهَا فِي الْمَاضِي، والعامة تَقول: شممت، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي، وَفِي الْمُسْتَقْبل بِالضَّمِّ وَهُوَ خطأ. وَعَن الْفراء وَابْن الْأَعرَابِي: يُقَال: شممت أَشمّ، شممت أَشمّ وَالْأولَى أفْصح، وَيُقَال فِي مصدره: الشم والشميم وتشممته تشمما. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَقد جَاءَ فِي مصدره: شميمي على وزن: فعيلي كالخطيطي. وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: معنى الشم استنشاق الرَّائِحَة، وَقد يستعار فِي غير ذَلِك فِي كل مَا قَارب شَيْئا أدنى مِنْهُ. قَوْله: (ويتداوى بِمَا يَأْكُل) أَي: بِالَّذِي يَأْكُل مِنْهُ قَوْله: (الزَّيْت وَالسمن) بِالْجَرِّ فيهمَا. قَالَ الْكرْمَانِي: لِأَنَّهُ بدل أَو بَيَان لما يَأْكُل. وَقَالَ ابْن مَالك: بِالْجَرِّ عطف على: مَا، الموصولة فَإِنَّهَا مجرورة بِالْبَاء أَعنِي: فِي قَوْله بِمَا قيل. وَقع بِالنّصب وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ لِأَن الَّذِي يَأْكُل هُوَ الْآكِل لَا الْمَأْكُول. لَكِن يجوز على الاتساع. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التعسف، بل يكون مَنْصُوبًا على تَقْدِير: أَعنِي الزَّيْت وَالسمن، عطف عَلَيْهِ، وَيجوز الرّفْع فيهمَا على أَن يكون الزَّيْت خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ الزَّيْت وَالسمن، عطف عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ ويَلْبَسُ الهِمْيَانَ
عَطاء: ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (يتختم) أَي: يلبس الْخَاتم، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة، حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا هِشَام بن الْغَاز عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ. وَحدثنَا الْمحَاربي عَن الْعَلَاء عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ. وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ، وَعَن ابْن عَبَّاس بِسَنَد صَحِيح: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ. وَعَن أبي الْهَيْثَم عَن النَّخعِيّ وَمُجاهد مثله. وَقَالَ خَالِد بن أبي بكر: رَأَيْت سَالم بن عبد الله يلبس خَاتمه وَهُوَ محرم، وَكَذَا قَالَه إِسْمَاعِيل بن عبد الْملك عَن سعيد بن جُبَير. قَوْله: (ويلبس الْهِمْيَان) ، بِكَسْر الْهَاء معرَّب، هُوَ شبه تكة السَّرَاوِيل تجْعَل فِيهَا الدَّرَاهِم وتشد على الْوسط. وَفِي (المغيث) : قيل هُوَ فعلان من: همى، إِذا سَالَ لِأَنَّهُ إِذا أفرغ همي مَا فِيهِ، وَفسّر ابْن التِّين الْهِمْيَان: بالمنطقة، وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَطاء. رُبمَا ذكره عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا بَأْس بالهميان والخاتم للْمحرمِ. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَأجْمع عوام أهل الْعلم على أَن للْمحرمِ أَن يشد الْهِمْيَان على وَسطه. وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَعَطَاء وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَهُوَ قَول مَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر غير إِسْحَاق فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يعقده وَيدخل السيور بَعْضهَا فِي بعض. وسئلت عَائِشَة عَن المنطقة، فَقَالَت: أوثق عَلَيْك نَفَقَتك. وَقَالَ ابْن علية: قد أَجمعُوا على أَن للْمحرمِ أَن يعْقد الْهِمْيَان والإزار على وَسطه وَكَذَلِكَ المنطقة. وَقَول إِسْحَاق لَا يعد خلافًا ولاحظ لَهُ فِي النّظر لِأَن الأَصْل النَّهْي عَن لِبَاس الْمخيط وَلَيْسَ هَذَا مثله، فارتفع أَن يكون لَهُ حكمه. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّمَا ذَلِك ليَكُون نَفَقَته فِيهَا، وَأما نَفَقَة غَيره فَلَا، وَإِن جعلهَا فِي وَسطه لنفقته ثمَّ نفدت نَفَقَته وَكَانَ مَعهَا وَدِيعَة ردهَا إِلَى صَاحبهَا، فَإِن تَركهَا افتدى، وَإِن كَانَ صَاحبهَا غَابَ بِغَيْر علمه فينفقها وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، ويشد المنطقة من تَحت الثِّيَاب.
وطَافَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وهْوَ محْرِمٌ وقَدْ حَزَمَ عَلَى بطْنِهِ بِثَوْبٍ

الْوَاو فِي: وَهُوَ، وَقد حزم، للْحَال. أَي: شدّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الشَّافِعِي من طَرِيق طَاوُوس، قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يسْعَى وَقد حزم على بَطْنه بِثَوْب. وَعَن سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أَن نَافِعًا أخبرهُ أَن ابْن عمر لم يكن عقد الثَّوْب عَلَيْهِ، إِنَّمَا غرز طرفه

(9/154)


على إزَاره. وَعَن ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن لَيْث عَن عَطاء وطاووس، قَالَا: رَأينَا ابْن عمر وَهُوَ محرم وَقد شدّ حقْوَيْهِ بعمامة. وَحدثنَا وَكِيع عَن ابْن أبي ذِئْب عَن مُسلم بن جُنْدُب: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: لَا تعقد عَلَيْك شَيْئا وَأَنت محرم، وَحدثنَا ابْن علية عَن هِشَام بن حُجَيْر، قَالَ: رأى طَاوُوس ابْن عمر قد يطوف وَقد شدّ حقْوَيْهِ بعمامة. وروى الْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه مشَاة، فَقَالَ: اربطوا على أوساطكم مآزركم، وامشوا خلط الهرولة. وَفِي (التَّوْضِيح) : اخْتلف فِي الرِّدَاء الَّذِي يلتحف بِهِ على مِئْزَره، فَكَانَ مَالك لَا يرى عقده وَيلْزمهُ الْفِدْيَة إِن انْتفع بِهِ، وَنهى عَنهُ ابْن عمر وَعَطَاء وَعُرْوَة، وَرخّص فِيهِ سعيد بن الْمسيب، وَكَرِهَهُ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو ثَوْر، وَقَالُوا: لَا بَأْس عَلَيْهِ إِن فعل. وَحكي عَن مَالك أَنه رخص لِلْعَامِلِ أَن يحزم الثَّوْب على منطقته، وَكَرِهَهُ لغيره.
ولَمْ تَرَ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بالتُّبَّانِ بَأْسا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا
التبَّان، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون: وَهُوَ سَرَاوِيل قصير جدا وَهُوَ مِقْدَار شبر سَاتِر للعورة الغليظة فَقَط، وَيكون للملاحين والمصارعين قَوْله: (يرحلون) بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: رحلت الْبَعِير أرحله، بِفَتْح أَوله، رحلاً، إِذا شددت على ظَهره الرحل. قَوْله: (هودجها) ، بِفَتْح الْهَاء وبالجيم، وَهُوَ مركب من مراكب النِّسَاء مقتب وَغير مقتب، وَتَعْلِيق عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنَّهَا حجت وَمَعَهَا غلْمَان لَهَا، وَكَانُوا إِذا شدوا رَحلهَا يَبْدُو مِنْهُم الشَّيْء، فَأَمَرتهمْ أَن يتخذوا التبابين فيلبسوها وهم محرمون. وَأخرجه من وَجه آخر مُخْتَصرا بِلَفْظ: يشدون هودجها، وَفِي هَذَا رد على ابْن التِّين فِي قَوْله: أَرَادَت النِّسَاء، لِأَنَّهُنَّ يلبسن الْمخيط بِخِلَاف الرِّجَال، وَكَأن هَذَا رَأْي رَأَتْهُ عَائِشَة وإلاَّ فالأكثر على أَنه لَا فرق بَين التبَّان والسراويل فِي مَنعه للْمحرمِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : التبَّان لبسه حرَام عندنَا كالقميص والدراعة والخف وَنَحْوهَا، فَإِن لبس شَيْئا من ذَلِك مُخْتَارًا عَامِدًا أَثم وأزاله وافتدى، سَوَاء قصر الزَّمَان أَو طَال.

7351 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ يُوسُفُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ قَالَ مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ. حدَّثني الأسْوَدُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كأنِّي أنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ مُحْرِمٌ. [/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن وبيص هَذَا الطّيب كَانَ من الطّيب الَّذِي تطيب بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة كلهم قد ذكرُوا، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَالْأسود هُوَ ابْن زيد، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم كوفيون مَا خلا ابْن عمر.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح الْبَزَّار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَمَانِيَة عشر طَرِيقا عَن الْأسود عَن عَائِشَة مثل رِوَايَة البُخَارِيّ، غير أَن لَفظه: فِي مفرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنَّهَا كَانَت تطيب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأطيب مَا تَجِد من الطّيب، قَالَت: حَتَّى أرى وبيض الطّيب فِي رَأسه ولحيته. وَعَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأطيب مَا أجد. وَعَن الْقَاسِم عَنْهَا، قَالَت: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بيَدي لإحرامه قبل أَن يحرم. وَعَن ابْن عمر عَنْهَا، قَالَت: كنت أطيب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالغالية الجيدة عِنْد إِحْرَامه. وَعَن الْقَاسِم عَنْهَا، قَالَت: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لحرمه حِين أحرم. وَعَن عَطاء، عَنْهَا: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْحلّ وَالْإِحْرَام. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَائِشَة، قَالَت:

(9/155)


طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن يحرم، وَيَوْم النَّحْر قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ بِطيب فِيهِ مسك. وروى ابْن أبي شيبَة عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَنْهَا: كَانَ يتطيب قبل أَن يحرم فَيرى أثر الطّيب فِي مفرقه بعد ذَلِك بِثَلَاث. وروى أَيْضا عَن ابْن فُضَيْل عَن عَطاء بن السَّائِب عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَنْهَا: (رَأَيْت وبيص الطّيب فِي مفارق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ثَلَاث وَهُوَ محرم) وَعند النَّسَائِيّ: (بعد ثَلَاث وَهُوَ محرم) ، وَفِي أُخْرَى: (فِي أصُول شعره) ، وَفِي لفظ: (إِذا أَرَادَ أَن يحرم ادَّهن بأطيب دهن يجده حَتَّى أرى وبيصه فِي رَأسه ولحيته) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عقيل عَن عُرْوَة عَنْهَا: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا أَرَادَ أَن يحرم غسل رَأسه بخطمي وأشنان ودهنه بِزَيْت غير كثير) . وَفِي (مُسْند أبي مُحَمَّد الدَّارمِيّ) : (طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لحرمه وطيبته بمنى قبل أَن يفِيض) . وَعند أبي عَليّ الطوسي: (طيبته قبل أَن يحرم وَيَوْم النَّحْر قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ بِطيب فِيهِ مسك) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يدهن بالزيت) أَي: عِنْد الْإِحْرَام بِشَرْط أَن لَا يكون مطيبا. وَقَالَ الْكرْمَانِي. (يدهن بالزيت) أَي: لَا يتطيب. وَتقدم فِي: بَاب من تطيب، فِي كتاب الْغسْل أَن ابْن عمر قَالَ: مَا أحب أَن أصبح محرما أنضح طيبا. قَوْله: (فَذَكرته) أَي: قَالَ مَنْصُور: ذكرت امْتنَاع ابْن عمر من التَّطَيُّب لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. قَوْله: (مَا تصنع بقوله؟) أَي: بقول ابْن عمر، أَي: مَاذَا تصنع بقوله حَيْثُ ثَبت مَا يُنَافِيهِ من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز أَن يكون الضَّمِير فِي: بقوله، عَائِدًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: هَذَا فعل الرَّسُول وَتَقْرِيره لَا قَوْله قلت: فعله فِي بَيَان الْجَوَاز، كَقَوْلِه. قَوْله: (كَأَنِّي أنظر) أَرَادَت بذلك قُوَّة تحققها لذَلِك، بِحَيْثُ أَنَّهَا لشدَّة استحضارها لَهُ كَأَنَّهَا ناظرة إِلَيْهِ. قَوْله: (إِلَى وبيص) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة، وَهُوَ: البريق، وَالْمرَاد: أثر الطّيب لَا جرمه. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: الوبيص زِيَادَة على البريق، وَالْمرَاد بِهِ: التلألؤ، وَهُوَ يدل على وجود عين قَائِمَة، لَا الرِّبْح فَقَط. قَوْله: (فِي مفارق) جمع: مفرق، وَهُوَ وسط الرَّأْس، وَإِنَّمَا جمع تعميما لجوانب الرَّأْس الَّتِي يفرق فِيهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَوْلهم للمفرق مفارق كَأَنَّهُمْ جعلُوا كل مَوضِع مِنْهُ مفرقا. قَوْله: (وَهُوَ محرم) ، الْوَاو فِي للْحَال.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَزفر فِي أَن الْمحرم إِذا تطيب قبل إِحْرَامه بِمَا شَاءَ الطّيب مسكا كَانَ أَو غَيره، فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ مِمَّا يبْقى عَلَيْهِ بعد إِحْرَامه أَو لَا وَلَا يضرّهُ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَأحمد وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ قَول عَائِشَة راوية الحَدِيث، وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، وَابْن جَعْفَر وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَجَمَاعَة من التَّابِعين بالحجاز وَالْعراق، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : استحبه عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام مُعَاوِيَة وَأم حَبِيبَة وَابْن الْمُنْذر وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَنَقله ابْن أبي شيبَة عَن عُرْوَة بن الزبير عمر بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم فِي رِوَايَة، وَذكره ابْن حزم عَن الْبَراء بن عَازِب وَأنس بن مَالك وَأبي ذَر وَالْحُسَيْن بن عَليّ وَابْن الْحَنَفِيَّة وَالْأسود وَالقَاسِم وَسَالم وَهِشَام بن عُرْوَة وخارجة بن زيد وَابْن جريج. وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُم عَطاء وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن سِيرِين وَالْحسن: لَا يجوز أَن يتطيب الْمحرم قبل إِحْرَامه بِمَا يبْقى عَلَيْهِ رَائِحَته بعد الْإِحْرَام، وَإِذا أحرم حرم عَلَيْهِ الطّيب حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ، وَإِلَيْهِ ذهب مُحَمَّد بن الْحسن، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وَهَذَا مَذْهَب عمر وَعُثْمَان وَابْن عمر وَعُثْمَان بن الْعَاصِ. وَقَالَ الطرطوشي: يكره الطّيب الْمُؤَنَّث كالمسك والزعفران والكافور والغالية وَالْعود وَنَحْوهَا، فَإِن تطيب وَأحرم بِهِ فَعَلَيهِ الْفِدْيَة، فَإِن أكل طَعَاما فِيهِ طيب، فَإِن كَانَت النَّار مسته فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن لم تمسه النَّار فَفِيهِ وَجْهَان، وَأما غير الْمُؤَنَّث مثل الرياحين والياسمين والورد فَلَيْسَ من ذَلِك وَلَا فديَة فِيهِ أصلا، وَالطّيب الْمُؤَنَّث طيب النِّسَاء: كالخلوق والزعفران، قَالَه شمر. وَأما شم الريحان فَفِي (شرح الْمُهَذّب) : الريحان الْفَارِسِي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: يجوز شمها لما رُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سُئِلَ عَن الْمحرم يدْخل الْبُسْتَان قَالَ: نعم ويشم الريحان. وَالثَّانِي: لَا يجوز لِأَنَّهُ يُرَاد للرائحة، فَهُوَ كالورد والزعفران، وَالأَصَح تَحْرِيم شمها وَوُجُوب الْفِدْيَة، وَبِه قَالَ ابْن عمر وَجَابِر وَالثَّوْري وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر إلاَّ أَن أَبَا حنيفَة ومالكا يَقُولَانِ: يحرم وَلَا فديَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر

(9/156)


وَاخْتلف فِي الْفِدْيَة عَن عَطاء وَأحمد، وَمِمَّنْ جوزه وَقَالَ: هُوَ حَلَال وَلَا فديَة فِيهِ عُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُجاهد وَإِسْحَاق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ الْعَبدَرِي: وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَفِي (التَّوْضِيح) : الْحِنَّاء عندنَا لَيْسَ طيبا، خلافًا لأبي حنيفَة، وَعند مَالك وَأحمد: فِيهِ الْفِدْيَة. وَقَالَت عَائِشَة: وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكره رِيحه، أخرجه ابْن أبي عَاصِم فِي (كتاب الخضاب) وَكَانَ يحب الطّيب فَلَو كَانَ طيبا لم يكرههُ. قلت: روى أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: اختضبوا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ طيب الرّيح يسكن الدوخة. وَأما الطّيب بعد رمي الْجَمْرَة فقد رخص فِيهِ ابْن عَبَّاس وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن الزبير وَعَائِشَة وَابْن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وخارجة بن زيد، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَرِهَهُ سَالم وَمَالك، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: وَلَا فديَة لما جَاءَ فِي ذَلِك، وَلما كَانَ الطَّحَاوِيّ مَعَ مُحَمَّد بن الْحسن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ أجَاب عَن حَدِيث الْبَاب الَّذِي احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَآخَرُونَ، فَقَالَ: وَكَانَ من الْحجَّة لَهُ أَي: لمُحَمد بن الْحسن فِي ذَلِك أَن مَا ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة من تطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْإِحْرَام إِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا كَانَت تطيبه إِذا أَرَادَ أَن يحرم، فقد يجوز أَن يكون كَانَت تفعل ذَلِك بِهِ ثمَّ يغْتَسل إِذا أَرَادَ أَن يحرم فَيذْهب بِغسْلِهِ عَنهُ مَا كَانَ على بدنه من طيب وَيبقى فِيهِ رِيحه. وَادّعى ابْن الْقصار والمهلب: أَنه كَانَ من خواصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد الْمُهلب معنى آخر: أَنه خص بِهِ لمباشرته الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي وَغَيره، وَقد ذَكرْنَاهُ.

9351 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحمان بنِ القَاسمِ عنْ أبيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ كُنت أطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِحرَامهِ حِينَ يُحْرَمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلِ أنْ يَطوفَ بِالبَيْتِ..
وَهَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة. وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث عَائِشَة هَذَا صَحِيح ثَابت لَا يخْتَلف أهل الْعلم فِي صِحَّته وثبوته، وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة من وُجُوه. قلت: قد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ أخرجه من ثَمَانِيَة عشر طَرِيقا. قَوْله: (لإحرامه) أَي: لأجل إِحْرَامه، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ (حِين أَرَادَ أَن يحرم) . قَوْله: (ولحله) أَي: ولتحلله من مَحْظُورَات الْإِحْرَام، وَذَلِكَ بعد أَن يَرْمِي ويحلق. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب.
وَقيل: اسْتدلَّ بقول عَائِشَة: كنت أطيب ... ، على أَن: كَانَ، لَا تَقْتَضِي التّكْرَار لِأَنَّهَا لم يَقع ذَلِك مِنْهَا إلاَّ مرّة وَاحِدَة، وَقد صرحت فِي رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا بِأَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وَكَذَا اسْتدلَّ بِهِ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) وَاعْترض بِأَن الْمُدعى تكراره إِنَّمَا هُوَ التَّطَيُّب لَا الْإِحْرَام، وَلَا مَانع من أَن يتَكَرَّر التَّطَيُّب لأجل الْإِحْرَام مَعَ كَون الْإِحْرَام مرّة وَاحِدَة. وَقَالَ الإِمَام فَخر الدّين: إِن: كَانَ، لَا تَقْتَضِي التّكْرَار وَلَا الِاسْتِمْرَار، وَجزم ابْن الْحَاجِب بِأَنَّهَا تَقْتَضِيه. وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين، تَقْتَضِي التّكْرَار، وَلَكِن قد تقع قرينَة تدل على عَدمه. قلت: كَانَ، تَقْتَضِي الِاسْتِمْرَار بِخِلَاف: صَار، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال فِي مَوضِع: كَانَ الله، أَن يُقَال. صَار. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا اللَّفْظ يَعْنِي لفظ: كنت، فِي قَول عَائِشَة: كنت أطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم تتفق الروَاة عَنْهَا عَلَيْهَا، فَسَيَأْتِي للْبُخَارِيّ من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم شيخ مَالك فِيهِ هُنَا بِلَفْظ: طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَائِر الطّرق لَيْسَ فِيهَا صِيغَة: كَانَ. قلت: فِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأسود عَن عَائِشَة: إِنِّي كنت لأنظر إِلَى وبيص الطّيب، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: عَن عُرْوَة عَنْهَا، قَالَت: كنت أطيب ... وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عمر عَنْهَا قَالَت كنت أطيب وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا: عَن الْأسود عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَت تطيب ... رَوَاهَا من طَرِيق الْفرْيَابِيّ عَن مَالك بن مغول عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَنْهَا، وَكَذَا روى من طَرِيق إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود عَن أَبِيه عَنْهَا: كَانَت تطيب، وَهَذَا الْقَائِل كَأَنَّهُ لم يطلع على هَذِه الرِّوَايَات، فَلهَذَا ادّعى بقوله: وَسَائِر الطّرق لَيْسَ فِيهَا صِيغَة: كَانَ، وَهَذِه الَّتِي ذَكرنَاهَا فِيهَا صِيغَة: كَانَ وَكنت.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب التَّطَيُّب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام وَجَوَاز استدامته بعد الْإِحْرَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ مفصلا، وَعَن مَالك: يحرم، وَعنهُ فِي وجوب الْفِدْيَة قَولَانِ.
واحتجت الْمَالِكِيَّة فِيهِ بأَشْيَاء: مِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل بعد أَن تطيب كَمَا فِي حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْمُنْتَشِر الَّذِي تقدم فِي الْغسْل، ثمَّ طَاف على نِسَائِهِ ثمَّ أصبح محرما، وَالْمرَاد من الطّواف: الْجِمَاع، وَكَانَ من عَادَته أَن يغْتَسل عِنْد كل وَاحِدَة، فالضرورة

(9/157)


ذهَاب أثر الطّيب، ورد هَذَا بِحَدِيث: ثمَّ أصبح محرما ينضح طيبا، وَهَذَا لَا يشك أَن: نضح الطّيب، وَهُوَ رَائِحَته كَانَ فِي حَال إِحْرَامه. فَإِن قلت: إِن فِيهِ تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَالتَّقْدِير: طَاف على نِسَائِهِ ينضح طيبا، ثمَّ أصبح محرما؟ قلت: هَذَا خلاف الظَّاهِر: وَيَردهُ أَيْضا مَا فِي رِوَايَة مُسلم: كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحرم يتطيب بأطيب مَا يجد، ثمَّ أرَاهُ فِي رَأسه ولحيته بعد ذَلِك، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن حبَان: رَأَيْت الطّيب فِي مفرقه بعد ثَلَاث، وَهُوَ محرم، فَإِن قلت: كَانَ الوبيص بقايا الدّهن المطيب فَزَالَ وَبَقِي أَثَره من غير رَائِحَة؟ قلت: قَول عَائِشَة: ينضح طيبا، يرد هَذَا. فَإِن قلت: بَقِي أَثَره لَا عينه؟ قلت: لَيْسَ فِي شَيْء من طرق حَدِيث عَائِشَة أَن عينه بقيت، قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ. قلت: قد روى أَبُو دَاوُد وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَائِشَة بنت طَلْحَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: كُنَّا نضمخ وُجُوهنَا بالمسك المطيب قبل أَن نحرم، ثمَّ نحرم فتعرق فيسيل على وُجُوهنَا، وَنحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا ينهانا. وَفِي رِوَايَة: كُنَّا نخرج مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عِنْد الْإِحْرَام فَإِذا عرقت إحدانا سَالَ على وُجُوهنَا فيراه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا ينهانا فَهَذَا صَرِيح فِي بَقَاء عين الطّيب. فَإِن قلت: هَذَا خَاص بِالنسَاء؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن النِّسَاء وَالرِّجَال سَوَاء فِي تَحْرِيم اسْتِعْمَال الطّيب، إِذا كَانُوا محرمين. فَإِن قلت: كَانَ ذَلِك الطّيب لَا رَائِحَة لَهُ، دلّ عَلَيْهِ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: بِطيب لَا يشبه طيبكم، قَالَ بعض رُوَاته: يَعْنِي لَا بَقَاء لَهُ، أخرجه النَّسَائِيّ قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة مَنْصُور بن زادان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم: بِطيب فِيهِ مسك، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن عَائِشَة: بالغالية الجيدة، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَهَذَا يدل على أَن معنى قَوْلهَا: بِطيب لَا يشبه طيبكم: أطيب من طيبكم، لَا كَمَا فهمه بعض رُوَاته. وَمِنْهَا: أَنهم ادعوا أَن هَذَا من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أجبنا عَن ذَلِك عَن قريب. وَمِنْهَا: مَا قَالَه بَعضهم: بِأَن عمل أهل الْمَدِينَة على خِلَافه، ورد بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام: أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك لما حج جمع نَاسا من أهل مَكَّة مِنْهُم الْقَاسِم بن مُحَمَّد وخارجة بن زيد وَسَالم وَعبد الله ابْنا عبد الله بن عمر وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث فَسَأَلَهُمْ عَن الطّيب قبل الْإِفَاضَة، فكلهم أَمرُوهُ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة من التَّابِعين قد اتَّفقُوا على ذَلِك، فَكيف يَدعِي مَعَ ذَلِك الْعَمَل على خِلَافه؟ وَفِيه: الدّلَالَة على حل الطّيب وَغَيره من مُحرمَات الْإِحْرَام بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.

91 - (بابُ مَنْ أهَلَّ ملَبَدا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحرم حَال كَونه ملبدا. من: لبد شعره، بِمَعْنى: جعل فِيهِ شَيْئا نَحْو الصمغ ليجتمع شعره، لِئَلَّا يتشعث فِي الْإِحْرَام أَو يَقع فِيهِ الْقمل.

0451 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ أخبرنَا ابنُ وهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمٍ عَن أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهِلُّ مُلَبِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة هِيَ عين متن الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: أصبغ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: ابْن الْفرج أَبُو عبد الله مولى عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان، ورَّاق عبد الله بن وهب، مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع: محد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله. السَّادِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن شيخة من أَفْرَاده وَأَنه وَابْن وهب مصريان، وَأَن يُونُس أيلي وَابْن شهَاب وَسَالم مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن حبَان بن مُوسَى وَأحمد بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب. وَأخرجه أَبُو دأود فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْمهرِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن عَمْرو

(9/158)


ابْن السَّرْح والْحَارث بن مِسْكين وَعَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أَحْمد بن عَمْرو مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أهلَّ) من الإهلال، وَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (ملبدا) أَي: حَال كَونه ملبدا رَأسه. وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا عَن حَفْصَة أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله! مَا شَأْن النَّاس حلوا بِعُمْرَة وَلم تحل أَنْت من عمرتك؟ قَالَ: (إِنِّي لبدت رَأْسِي وقلدت هدبي فَلَا أحل حَتَّى أنحر) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لبد رَأسه بالعسل) وَرَوَاهُ الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم. وَقَالَ ابْن الصّلاح: يحْتَمل أَن لفظ الْعَسَل، بالمهملتين، وَيحْتَمل من حَيْثُ الْمَعْنى: إِن الْغسْل، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَهُوَ مَا يغسل بِهِ الرَّأْس من خطمي أَو غَيره. وَقَالَ بَعضهم: ضبطناه فِي روايتنا من (سنَن أبي دَاوُد) بالمهملتين. قلت: لَيْت شعري مِمَّن ضَبطه؟ وَقد قَالَ ابْن الصّلاح الرِّوَايَة بِالْعينِ الْمُهْملَة، لم تضبط، وَالْعقل أَيْضا يشْهد بِلَا إهمال. فَافْهَم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه نصوا على اسْتِحْبَاب التلبيد للرفق، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: من لبد رَأسه فقد وَجب عَلَيْهِ الْحلق، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِذَلِك أَمر النَّاس عمر وَابْنه، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَذَا لَو ضفر رَأسه أَو عقص شعره كَانَ حكمه حكم التلبيد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لبد رَأسه أَو ضفره فَإِن قصر وَلم يحلق أَجزَأَهُ، لما رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول: (من لبد رَأسه أَو عقص أَو ضفر فَإِن كَانَ نوى الْحلق فليحلق، وَإِن لم يُنَوّه فَإِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر) . فَإِن قلت: روى ابْن عدي من حَدِيث عبد الله بن رَافع عَن أَبِيه عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لبد رَأسه للْإِحْرَام فقد وَجب عَلَيْهِ الْحلق) . قلت: عبد الله بن رَافع ضَعِيف، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَالله أعلم.

02 - (بابُ الإهلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الإهلال عِنْد مَسْجِد ذِي الحليفة لمن أَرَادَ أَن يحجّ من الْمَدِينَة.

1451 - حطَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ قَالَ حدَّثنا مُوسى بنُ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ سالِمَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ سَمِعْتُ عبد الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (ح) وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مالِكٍ عَنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عنْ سالِمِ بنِ عَبدِ الله أنَّهُ سَمِعَ أباهُ يَقولُ مَا أهَلَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ يَغْني مَسْجد ذِي الحُلَيْفَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَال الطَّرِيقَيْنِ قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، ومُوسَى بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: قَرَأت على مَالك: عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم بن عبد الله أَنه سمع أَبَاهُ يَقُول: بيداؤكم: هَذِه الَّتِي تكذبون فِيهَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ مَا أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من عِنْد الْمَسْجِد، يَعْنِي ذَا الحليفة. قَالَ: (و) : حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا حَاتِم يَعْنِي: ابْن إِسْمَاعِيل عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم قَالَ: كَانَ ابْن عمر إِذا قيل لَهُ الْإِحْرَام من الْبَيْدَاء قَالَ: الْبَيْدَاء الَّتِي تكذبون فِيهَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ماأهلَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من عِنْد الشَّجَرَة حِين قَامَ بِهِ بعيره، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ، وَقَالَ: حَدثنَا القعْنبِي عَن مَالك، نَحْو رِوَايَة مُسلم عَن، يحيى عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ، وَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل ... إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة مُسلم الثَّانِيَة. وَأخرج النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة نَحوه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا: حَدثنَا ابْن أبي عمر حَدثنَا سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: لما أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج أذن فِي النَّاس فَاجْتمعُوا، فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاء أحرم وَقَالَ: حَدِيث جَابر حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي حَدِيث طَوِيل، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن: ابْن عمر وَأنس والمسور بن مخرمَة. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن: سعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس.

(9/159)


فَحَدِيث أنس وَأخرجه السِّتَّة، خلا ابْن مَاجَه، من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن أنس، فِي حَدِيث لَهُ قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا ركب رَاحِلَته واستوت بِهِ أهلَّ. وَلأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة الْحسن، فَلَمَّا أَتَى على جبل الْبَيْدَاء أهلَّ، وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر عَن ثَابت عَن أنس فِي حَدِيث: فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ نَاقَته، قَالَ: لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا. وَحَدِيث الْمسور بن مخرمَة أخرجه البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة، وَفِيه: فَلَمَّا كَانَ بِذِي الحليفة قلد الْهَدْي وَأَشْعرهُ وَأحرم مِنْهَا. وَحَدِيث سعد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق إِسْحَاق عَن أبي الزِّنَاد عَن عَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، قَالَت: قَالَ سعد: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَخذ طَرِيق الْفَرْع أهلَّ إِذا اسْتَقَلت بِهِ رَاحِلَته. وَإِذا أَخذ طَرِيق أُحُد أهل إِذا أشرف على جبل الْبَيْدَاء. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة أبي حسان الْأَعْرَج عَنهُ، وَفِيه: ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ على الْبَيْدَاء أهلَّ بِالْحَجِّ، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: ثمَّ قعد على بعيره، فَلَمَّا اسْتَوَى على الْبَيْدَاء أهل بِالْحَجِّ.
وَعَن هَذَا اخْتلف الْعلمَاء فِي الْموضع الَّذِي أحرم مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ قوم: إِنَّه أهل من مَسْجِد ذِي الحليفة. وَقَالَ آخَرُونَ: لم يهل إلاَّ بعد أَن اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته بعد خُرُوجه من الْمَسْجِد، وروى ذَلِك أَيْضا عَن ابْن عمر وَأنس وَابْن عَبَّاس وَجَابِر، وَقَالَ آخَرُونَ: بل أحرم حِين أظل على الْبَيْدَاء. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَأنكر قوم أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم من الْبَيْدَاء، رُوِيَ ذَلِك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه قَالَ: مَا أهل إلاَّ من ذِي الحليفة، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك بَعْدَمَا ركب رَاحِلَته، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يهل إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَكَانَ ابْن عمر يَفْعَله. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَن يكون ذَلِك بَعْدَمَا تنبعث بِهِ رَاحِلَته، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالك عَن المَقْبُري عَن عبيد بن جريج عَن ابْن عمر قَالَ: لم أر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل حَتَّى تنبعث بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة. انْتهى. قلت: أَرَادَ الطَّحَاوِيّ بقوله: وَأنكر قوم الزُّهْرِيّ وَعبد الْملك بن جريج وَعبد الله بن وهب، فَإِنَّهُم قَالُوا: مَا أحرم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاَّ من عِنْد الْمَسْجِد. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي ذَلِك أردنَا أَن نَنْظُر من أَيْن جَاءَ اخْتلَافهمْ، فروى سعيد بن جُبَير، قَالَ قلت: لِابْنِ عَبَّاس: كَيفَ اخْتلف النَّاس فِي إهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَت طَائِفَة: أهل فِي مُصَلَّاهُ، وَقَالَت طَائِفَة: حِين اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته، وَقَالَت طَائِفَة: حِين علا الْبَيْدَاء؟ وسَاق بَقِيَّة كَلَامه نَحْو مَا ذكره أَبُو دَاوُد، وَلَفظه: عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: قلت لِابْنِ عَبَّاس: يَا أَبَا الْعَبَّاس، عجبت لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي إهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: إِنِّي لأعْلم النَّاس بذلك، إِنَّمَا كَانَت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة وَاحِدَة، فَمن هُنَاكَ اخْتلفُوا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاجا، فَلَمَّا صلى فِي مَسْجِد ذِي الحليفة ركعتيه أوجب فِي مَجْلِسه، فَأهل بِالْحَجِّ حِين فرغ من ركعتيه، فَسمع ذَلِك مِنْهُ أَقوام فحفظوه عَنهُ، ثمَّ ركب، فَلَمَّا اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته أهلَّ، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام، وَذَلِكَ أَن النَّاس كَانُوا يأْتونَ أَرْسَالًا فسمعوه حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته يهل، فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته ثمَّ مضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا علا شرف الْبَيْدَاء أهلَّ، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام، فَقَالُوا: إِنَّمَا أهلَّ حِين علا شرف الْبَيْدَاء، وأيم الله، لقد أوجب فِي مُصَلَّاهُ، وأهلَّ حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته وَأهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء. قَالَ سعيد بن جُبَير: فَمن أَخذ بقول ابْن عَبَّاس: أهل فِي مُصَلَّاهُ إِذا فرغ من ركعتيه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَبين ابْن عَبَّاس الْوَجْه الَّذِي جَاءَ فِيهِ اخْتلَافهمْ، وَأَن إهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ابْتَدَأَ الْحَج وَدخل فِيهِ، كَانَ فِي مُصَلَّاهُ، فَبِهَذَا نَأْخُذ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَقَتَادَة: الْمُسْتَحبّ الْإِحْرَام من الْبَيْدَاء. وَقَالَ الْبكْرِيّ: الْبَيْدَاء هَذِه فَوق علمي ذِي الحليفة لمن صعد من الْوَادي، وَفِي أول الْبَيْدَاء بِئْر مَاء.

12 - (بابُ مَا لاَ يَلْبَسُ المْحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا لَا يلبس الْمحرم، أَي: مَا لَا يجوز لبسه للْمحرمِ، سَوَاء كَانَ محرما بِحَجّ أَو بِعُمْرَة، أَو كَانَ مُتَمَتِّعا أَو قَارنا. وَقَوله: (من الثِّيَاب) ، بَيَان لما قبله.

2451 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عَن عَبْدِ الله بنِ عُمَر

(9/160)


َ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رَجُلاً قالَ يَا رسولَ الله مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَلْبَسُ القُمُصَ وَلاَ العَمَائِمَ وَلا السَّرَاوِيلاتِ وَلاَ البَرَانِسَ وَلاَ الخِفَافِ إلاَّ أحدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيئا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانِ أوْ وَرْسٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يلبس الْقَمِيص) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي آخر كتاب الْعلم فِي: بَاب من أجَاب السَّائِل بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمغايرة بَينهمَا فِي بعض الْمَتْن، فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر هَذِه الْأَشْيَاء هُنَاكَ بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَذكر هُنَا بِصِيغَة الْجمع، وَهُنَاكَ: فَإِن لم يجد النَّعْلَيْنِ وَهنا (وَلَا الْخفاف إِلَّا أحد لَا يجد نَعْلَيْنِ) وَهُنَاكَ: (وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا تَحت الْكَعْبَيْنِ) وَهنا: (أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) وَلَيْسَ هُنَاكَ: وَلَا تلبسوا ... إِلَى آخِره. ولنتكلم هُنَا على مَا لم يسْبق فِيمَا مضى.
فَقَوله: (قَالَ يَا رَسُول الله! مَا يلبس الْمحرم) وَسَيَأْتِي من طَرِيق اللَّيْث عَن نَافِع بِلَفْظ: مَاذَا تَأْمُرنَا أَن نلبس من الثِّيَاب فِي الْإِحْرَام؟ وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عمر بن نَافِع عَن أَبِيه: مَا نلبس من الثِّيَاب إِذا أحرمنا؟ وَهَذَا يدل على أَن السُّؤَال عَن ذَلِك كَانَ قبل الْإِحْرَام. وَقد حكى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي بكر النَّيْسَابُورِي أَن فِي رِوَايَة ابْن جريج وَاللَّيْث عَن نَافِع أَن ذَلِك كَانَ فِي الْمَسْجِد. وَأخرج الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَمن طَرِيق عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن عبد الله بن عون، كِلَاهُمَا عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: نَادَى رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يخْطب بذلك الْمَكَان، وَأَشَارَ نَافِع إِلَى مقدم الْمَسْجِد، فَذكر الحَدِيث، وَظهر من ذَلِك أَنه كَانَ فِي الْمَدِينَة. فَإِن قلت: قد وَقع فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْآتِي فِي أَوَاخِر الْحَج أنهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب بذلك فِي عَرَفَات. قلت: يحمل على التَّعَدُّد. قَوْله: (مَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب؟ قَالَ: لَا يلبس) إِلَى آخِره. قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَت الْعلمَاء: هَذَا من بديع الْكَلَام وجزله، لِأَن مَا لَا يلبس منحصر، فَحصل التَّصْرِيح بِهِ، وَأما الملبوس الْجَائِز فَغير منحصر، فَحصل التَّصْرِيح بِهِ، وَأما الملبوس الْجَائِز فَغير منحصر فَقَالَ: (لَا يلبس) كَذَا ... أَي: ويلبس مَا سواهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: سُئِلَ عَمَّا يلبس فَأجَاب بِمَا لَا يلبس، ليدل بالالتزام من طَرِيق الْمَفْهُوم على مَا يجوز، وَإِنَّمَا عدل عَن الْجَواب لِأَنَّهُ أخصر وأحصر. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَدَلِيله أَنه نبه بالقمص والسراويل على جَمِيع مَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَهُوَ مَا كَانَ مخيطا أَو مَعْمُولا على قدر الْبدن أَو الْعُضْو كالجوشن والتبان وَغَيرهمَا، وَنبهَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعمائم والبرانس على كل سَاتِر للرأس مخيطا كَانَ أَو غَيره، حَتَّى الْعِصَابَة فَإِنَّهَا حرَام. وَنبهَ بالخفاف على كل سَاتِر للرِّجل من مداس وجورب وَغَيرهَا. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الْمُعْتَبر فِي الْجَواب مَا يحصل مِنْهُ الْمَقْصُود كَيفَ كَانَ، وَلَو بتغيير أَو زِيَادَة، وَلَا يشْتَرط الْمُطَابقَة، قَوْله وَلَا تشْتَرط الْمُطَابقَة. قلت: لَيْسَ على الْإِطْلَاق، بل الأَصْل اشْتِرَاطهَا وَلَكِن ثَمَّ مَوضِع يكون الْعُدُول عَنْهَا إِلَى غَيره وَهُوَ الأهم كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس) وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (مَا يلبس الْمحرم؟) أَي: الرجل الْمحرم، وَالدَّلِيل على اخْتِصَاص الحكم بِالرِّجَالِ تَوْجِيه الْخطاب نحوهم بقوله: وَلَا تلبسوا. فَإِن قلت: وَاو الضَّمِير يسْتَعْمل متْنا، و: لَا، للقبيلتين على التغليب. قلت: نعم، وَلَكِن فِيهِ اخْتِصَاص بالمذكرين، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ فِي آخر حَدِيث اللَّيْث الْآتِي فِي آخر الْحَج: (وَلَا تنتقب الْمَرْأَة) . قَوْله: (وَلَا يلبس) ، خبر فِي معنى النَّهْي. قَوْله: (القمص) ، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الْمِيم وَضمّهَا جمع: قَمِيص، وَيجمع أَيْضا على أقمصة وقمصان. قَوْله: (والعمائم) جمع عِمَامَة، يُقَال: اعتمَّ بالعمامة وتعمم بهَا، والسراويلات جمع سَرَاوِيل، والبرانس جمع برنس، وَهُوَ كل ثوب رَأسه مِنْهُ ملتزق بِهِ من ذراعه، أَو جُبَّة أَو ممطر أَو غَيره. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ قلنسوة طَوِيلَة كَانَ النساك يلبسونها فِي صدر الْإِسْلَام، وَهُوَ من البرس، بِكَسْر الْبَاء، وَهُوَ الْقطن، وَالنُّون زَائِدَة، وَقيل: إِنَّه غير عَرَبِيّ، والخفاف، بِكَسْر الْخَاء: جمع خف. قَوْله: (إلاَّ أحد) ، الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يلبس الْمحرم الْخُفَّيْنِ إلاَّ أحد لَا يجد نَعْلَيْنِ فَإِنَّهُ يلبس الْخُفَّيْنِ بِشَرْط أَن يقطعهما حَتَّى يَكُونَا تَحت الْكَعْبَيْنِ فَيكون حِينَئِذٍ كالنعلين. وَقَوله: (لَا يجد نَعْلَيْنِ) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لأحد. قيل: فِيهِ دَلِيل على أَن لفظ: أحد، يجوز اسْتِعْمَاله فِي الْإِثْبَات خلافًا لمن قَالَ: لَا يجوز ذَلِك إلاَّ لضَرُورَة الشّعْر، وَالْمرَاد من قَوْله: (وليقطعهما أَسْفَل

(9/161)


من الْكَعْبَيْنِ) كشف الْكَعْبَيْنِ فِي الْإِحْرَام، وهما العظمان الناتئان عِنْد مفصل السَّاق والقدم، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، قَالَ: إِذا اضْطر الْمحرم إِلَى الْخُفَّيْنِ خرق ظهورهما وَترك فيهمَا قدر مَا يسْتَمْسك رِجْلَاهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَمن تبعه من الْحَنَفِيَّة: الكعب هُنَا هُوَ الْعظم الَّذِي فِي وسط الْقدَم عِنْد معقد الشرَاك. وَقيل: إِن ذَلِك لَا يعرف عِنْد أهل اللُّغَة. قلت: الَّذِي قَالَ: لَا يعرف عِنْد أهل اللُّغَة، هُوَ ابْن بطال، وَالَّذِي قَالَه هُوَ لَا يعرف، وَكَيف وَالْإِمَام مُحَمَّد بن الْحسن إِمَام فِي اللُّغَة والعربية؟ فَمن أَرَادَ تَحْقِيق صدق هَذَا فَلْينْظر فِي مُصَنفه الَّذِي وَضعه على أوضاع يعجز عَنهُ الفحول من الْعلمَاء والأساطين من الْمُحَقِّقين، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ (الْجَامِع الْكَبِير) وَالَّذِي قَالَه هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأَصْمَعِي، قَالَه الإِمَام فَخر الدّين. قَوْله: (لَا تلبسوا) يدْخل فِيهِ الْإِنَاث أَيْضا، ذكره ليشْمل الذُّكُور وَالْإِنَاث. قَوْله: (مَسّه الزَّعْفَرَان) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على أَنه صفة لقَوْله: (شَيْئا) ، والزعفران إسم أعجمي، وَقد صرفته الْعَرَب فَقَالُوا: ثوب مزعفر، وَقد زعفر ثَوْبه يزعفره زعفرة، وَيجمع على: زعافر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا أعلمهُ ينْبت شَيْء مِنْهُ من أَرض الْعَرَب، والورس، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الورس يزرع بِأَرْض الْيمن زرعا، وَلَا يكون بِغَيْر الْيمن، وَلَا يكون مِنْهُ شَيْء بريا، ونباته مثل حب السمسم، فَإِذا جف عِنْد إِدْرَاكه تفتق فينفض مِنْهُ الورس ويزرع سنة فيجلس عشر سِنِين أَن يُقيم فِي الأَرْض ينْبت ويثمر. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الورس نبت أصفر يكون بِالْيمن يتَّخذ مِنْهُ الغمرة للْوَجْه، تَقول مِنْهُ: أورس الْمَكَان وورست الثَّوْب توريسا: صبغته بالورس، وَمِلْحَفَة وريسة: صبغت بالورس. وَقَالَ ابْن بيطار فِي (جَامعه) : يُؤْتى بالورس من الصين واليمن والهند وَلَيْسَ بنبات يزرع كَمَا زعم من زعم، وَهُوَ يشبه زهر العصفر، وَمِنْه شَيْء يشبه نشارة البابونج، وَمِنْه شَيْء يشبه البنفسج، وَيُقَال: إِن الكركم عروقه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: يحرَّم على الْمحرم لبس الْقَمِيص، وَنبهَ بِهِ فِي الحَدِيث على كل مخيط من كل مَعْمُول على قدر الْبدن أَو الْعُضْو، وَذَلِكَ مثل الْجُبَّة والقفازين، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي الَّذِي يُحْرم وَعَلِيهِ قَمِيص أَو جُبَّة، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعد حَدثنَا عبد الله بن إِدْرِيس عَن عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة. قَالَ: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْرَابِيًا قد أحرم وَعَلِيهِ جُبَّة، فَأمره أَن يَنْزِعهَا. وَفِي بعض طرقه: قَمِيص، بدل: الْجُبَّة، وَهِي رِوَايَة (الْمُوَطَّأ) . وَفِي رِوَايَة مقطعات، وَفِي أُخْرَى: أَخْلَاق، والقصة وَاحِدَة، وَلَا يجب قطع الْقَمِيص والجبة على الْمحرم إِذا أَرَادَ نَزعهَا، بل لَهُ أَن ينْزع ذَلِك من رَأسه وَإِن أدّى إِلَى الْإِحَاطَة بِرَأْسِهِ، خلافًا لمن قَالَ: يشقه، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ، ويروى ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز نزع ذَلِك من الرَّأْس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، والْحَدِيث حجَّة لَهُم، وَلَو ارتدى بالقميص لَا يضرّهُ.
الثَّانِي: يحرّم عَلَيْهِ السَّرَاوِيل وَلَا يجب عَلَيْهِ قطعه عِنْد عدم الْإِزَار، كَمَا ورد فِي الْخُف، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ الْأَصَح عِنْد أَكثر الشَّافِعِيَّة، قَالَه الرَّافِعِيّ. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ: إِنَّه لَا يجوز لبس السَّرَاوِيل إلاَّ إِذا لم يتأت فتقه وَجعله إزارا، فَإِن تأتى ذَلِك لم يجز لبسه، فَإِن لبسه لزمَه الْفِدْيَة. قَالَ الْخطابِيّ: ويحكى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: يشق السَّرَاوِيل ويتزر بِهِ، وَفِي شرح الطَّحَاوِيّ، فَإِن لم يجد رِدَاء فَلَا بَأْس أَن يشق قَمِيصه ويرتدي بِهِ، وَإِذا لم يجد الْإِزَار فتق السَّرَاوِيل، فَإِن لبسه وَلم يفتقه لزمَه دم.
الثَّالِث: لَا يتعمم، قَالَ الْخطابِيّ: ذكر الْعِمَامَة والبرنس مَعًا ليدل على أَنه لَا يجوز تَغْطِيَة الرَّأْس، لَا بالمعتاد وَلَا بالنادر. قَالَ: وَمن النَّادِر المكتل يحملهُ على رَأسه. قلت: مُرَاده أَن يَجعله على رَأسه كلبس القبع، وَلَا يلْزم شَيْء بِمُجَرَّد وَضعه على رَأسه كَهَيئَةِ الْحَامِل لِحَاجَتِهِ، وَلَو انغمس فِي المَاء لَا يضرّهُ، فَإِنَّهُ لَا يُسمى لابسا، وَكَذَا لَو ستر رَأسه بِيَدِهِ.
الرَّابِع: الْخفاف، الشَّرْط فِي الْخُفَّيْنِ الْقطع، خلافًا لِأَحْمَد فَإِنَّهُ أجَاز لَيْسَ الْخُفَّيْنِ من غير قطع، وَهُوَ الْمَشْهُور عَنهُ، وَحكى عَن عَطاء مثله. قَالَ: لِأَن فِي قلعهما فَسَادًا. قَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون عَطاء لم يبلغهُ حَدِيث ابْن عمر، وَإِنَّمَا الْفساد أَن يفعل مَا نهت عَنهُ الشَّرِيعَة، فَأَما مَا أذن فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ بِفساد. قَالَ: وَالْعجب من أَحْمد فِي هَذَا فَإِنَّهُ لَا يكَاد يُخَالف سنة تبلغه. وَقلت: سنة لم تبلغه، وَيُشبه أَن يكون إِنَّمَا ذهب إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس الْآتِي فِي أَوَاخِر الْحَج بِلَفْظ: (من لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ) . قلت: أجابت الْحَنَابِلَة عَنهُ بأَشْيَاء: مِنْهَا: دَعْوَى النّسخ فِي حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِن الْبَيْهَقِيّ روى عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: لم يذكر ابْن عَبَّاس

(9/162)


الْقطع، وَقَالَ ابْن عمر: وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، فَلَا أَدْرِي أَي الْحَدِيثين نسخ الآخر. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَمْرو قَالَ: أنظروا أَيهمَا قبل؟ حَدِيث ابْن عمر أَو حَدِيث ابْن عَبَّاس؟ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فحملهما عَمْرو بن دِينَار على نسخ أَحدهمَا الآخر. قَالَ الْبَيْهَقِيّ، وَبَين فِي رِوَايَة ابْن عون وَغَيره عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن ذَلِك كَانَ بِالْمَدِينَةِ قبل الْإِحْرَام، وَبَين فِي رِوَايَة شُعْبَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء، وَجَابِر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس أَن ذَلِك كَانَ بِعَرَفَة، وَذَلِكَ بعد قصَّة ابْن عمر، وَأجَاب الشَّافِعِي عَن هَذَا فِي (الْأُم) فَقَالَ: كِلَاهُمَا حَافظ صَادِق، وَزِيَادَة ابْن عمر لَا تخَالف ابْن عَبَّاس لاحْتِمَال أَن يكون عزب عَنهُ، أَو شكّ فِيهِ، فَلم يؤده. وَإِمَّا سكت عَنهُ وَإِمَّا أَدَّاهُ فَلم يؤد عَنهُ. وَمِنْهَا: مَا قَالُوا: مِنْهُم ابْن الْجَوْزِيّ: إِن حَدِيث ابْن عمر اخْتلف فِي وَقفه وَرَفعه، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس لم يخْتَلف فِي رَفعه. وَأجِيب: عَن هَذَا بِأَنَّهُ لم يخْتَلف على ابْن عمر فِي رفع الْأَمر بِالْقطعِ إلاَّ فِي رِوَايَة شَاذَّة، على أَنه اخْتلف فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَلَا يشك أحد من الْمُحدثين أَن حَدِيث ابْن عمر أصح من حَدِيث ابْن عَبَّاس، لِأَن حَدِيث ابْن عمر جَاءَ بِإِسْنَاد، وصف بِكَوْنِهِ أصح الْأَسَانِيد، وَاتفقَ عَلَيْهِ عَن ابْن عمر غير وَاحِد من الْحفاظ، مِنْهُم: نَافِع وَسَالم: بِخِلَاف حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَلم يَأْتِ مَرْفُوعا إلاَّ من رِوَايَة جَابر بن زيد عَنهُ، حَتَّى قَالَ الْأصيلِيّ: إِنَّه شيخ بَصرِي لَا يعرف. وَمِنْهَا: أَن بَعضهم قاسوه على السَّرَاوِيل، ورد بِأَن الْقيَاس مَعَ وجود النَّص فَاسد الِاعْتِبَار. وَمِنْهَا: أَن بَعضهم احْتَجُّوا بقول عَطاء: إِن الْقطع فَسَاد، وَالله لَا يحب الْفساد. وَقد أُجِيب: عَنهُ بِمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَمِنْهَا: مَا قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ: إِن الْأَمر بِالْقطعِ يحمل على الْإِبَاحَة لَا على الِاشْتِرَاط، عملا بِالْحَدِيثين. وَأجِيب: بِأَنَّهُ تعسف، وَاسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَوْضِعه، وَالْأَحْسَن فِي هَذَا أَن يُقَال: إِن حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد ورد فِي بعض طرقه الصَّحِيحَة مُوَافَقَته لحَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قطع الْخُفَّيْنِ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه، قَالَ: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا أَيُّوب عَن عَمْرو عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِذا لم يجد إزارا فليلبس السَّرَاوِيل، وَإِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) ، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود الجحدري وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَغَيره، وباقيهم رجال الصَّحِيح، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة على الْمَذْهَب الصَّحِيح.
الْخَامِس: الزَّعْفَرَان والورس، وَظَاهر الحَدِيث أَنه لَا يجوز لبس مَا مَسّه الورس والزعفران، سَوَاء انْقَطَعت رَائِحَته وَذهب ردعه بِحَيْثُ لَا ينفض، أَو مَعَ بَقَاء ذَلِك. وَفِي (الْمُوَطَّأ) أَن مَالِكًا سُئِلَ عَن ثوب مَسّه طيب ثمَّ ذهب ريح الطّيب مِنْهُ، هَل يحرم فِيهِ؟ قَالَ: نعم، لَا بَأْس بذلك مَا لم يكن فِيهِ صباغ زعفران أَو ورس. قَالَ مَالك: وَإِنَّمَا يكره لبس المشبعات لِأَنَّهَا تنفض، وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه إِن كَانَ بِحَيْثُ لَو أَصَابَهُ المَاء فاحت الرَّائِحَة مِنْهُ لم يجز اسْتِعْمَاله، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِيمَا إِذا بَقِي اللَّوْن فَقَط وَجْهَيْن مبنيين على الْخلاف فِي أَن مُجَرّد اللَّوْن هَل يعْتَبر؟ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالصَّحِيح أَنه لَا يعْتَبر، وَقَالَ أَصْحَابنَا: مَا غسل من ذَلِك حَتَّى صَار لَا ينفض فَلَا بَأْس بلبسه فِي الْإِحْرَام، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن سعيد بن جُبَير وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن وطاووس وَقَتَادَة وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَمعنى: لَا ينفض، لَا يَتَنَاثَر صبغه. وَقيل: لَا يفوح رِيحه، وهما منقولان عَن مُحَمَّد بن الْحسن، والتعويل على زَوَال الرَّائِحَة، حَتَّى لَو كَانَ لَا يَتَنَاثَر صبغه، وَلكنه يفوح رِيحه يمْنَع من ذَلِك، لِأَن ذَلِك دَلِيل بَقَاء الطّيب، إِذْ الطّيب مَا لَهُ رَائِحَة طيبَة. وَقد روى الطَّحَاوِيّ عَن فَهد عَن يحيى بن عبد الحميد عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن ابْن أبي عمرَان عَن عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ عَن أبي مُعَاوِيَة عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تلبسوا ثوبا مَسّه ورس أَو زعفران. يَعْنِي: فِي الْإِحْرَام، إلاَّ أَن يكون غسيلاً) . وَأخرجه أَبُو عمر أَيْضا من حَدِيث يحيى بن عبد الحميد الْحمانِي. فَإِن قلت: مَا حَال هَذِه الزِّيَادَة؟ أَعنِي قَوْله: إلاَّ أَن يكون غسيلاً؟ قلت: صَحِيح، لِأَن رِجَاله ثِقَات، وروى هَذِه الزِّيَادَة أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، وَهُوَ ثِقَة ثَبت. فَإِن قلت: قَالَ ابْن خزم: وَلَا نعلمهُ صَحِيحا، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أَبُو مُعَاوِيَة مُضْطَرب الحَدِيث فِي أَحَادِيث عبيد الله، وَلم يَجِيء أحد بِهَذِهِ غَيره؟ قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ ابْن أبي عمرَان: رَأَيْت يحيى بن معِين وَهُوَ متعجب من الْحمانِي إِذْ حدث بِهَذَا الحَدِيث، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ: هَذَا

(9/163)


الحَدِيث عِنْدِي، ثمَّ وثب من فوره فجَاء بِأَصْلِهِ، فَأخْرج مِنْهُ هَذَا الحَدِيث عَن أبي مُعَاوِيَة كَمَا ذكره يحيى الْحمانِي، فَكتب عَنهُ يحيى بن معِين، وَكفى لصِحَّة هَذَا الحَدِيث شَهَادَة عبد الرَّحْمَن وَكِتَابَة يحيى بن معِين وَرِوَايَة أبي مُعَاوِيَة، وَأما قَول ابْن حزم: وَلَا نعلمهُ صَحِيحا، فَهِيَ نفي لعلمه بِصِحَّتِهِ، فَهَذَا لَا يسْتَلْزم نفي صِحَة الحَدِيث فِي علم غَيره، فَافْهَم. وَقد روى أَحْمد، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي (مُسْنده) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حَدِيثا يدل على جَوَاز لبس المزعفر للْمحرمِ إِذا لم يكن فِيهِ نفض وَلَا ردع.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من ظَاهر الحَدِيث: جَوَاز لبس المزعفر والمورس لغير الرجل الْمحرم، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِك فِي جَوَاز السُّؤَال عَمَّا يلبس الْمحرم، فَدلَّ على جَوَازه لغيره، فَإِن قلت: أخرج الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يتزعفر الرجل؟ قلت: قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: الْجمع بَين الْحَدِيثين أَنه يحْتَمل أَن يُقَال: إِن جَوَاب سُؤَالهمْ انْتهى عِنْد قَوْله: أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ اسْتَأْنف بِهَذَا لَا تعلق لَهُ بالمسؤول عَنهُ، فَقَالَ: وَلَا تلبسوا شَيْئا من الثِّيَاب ... إِلَى آخِره، ثمَّ ذكر حكم الْمَرْأَة الْمُحرمَة. انْتهى. قلت: هَذَا الِاحْتِمَال فِيهِ بعد، بل الْأَوْجه أَن المُرَاد من النَّهْي عَن تزعفر الرجل أَن يزعفر بدنه، فَأَما لبس الثَّوْب المزعفر لغير الْمحرم فَلَا بَأْس بِهِ، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يزعفر الرجل جلده، وَإِسْنَاده صَحِيح، والْحَدِيث الَّذِي يُنْهِي النَّهْي عَن مُطلق التزعفر، وَيحمل الْمُطلق على الْمُقَيد الَّذِي فِيهِ بِأَن يزعفر الرجل جلده، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ورد فِي جَوَاز لبس الثِّيَاب المزعفرة والمورسة للرِّجَال، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث قيس بن سعد، قَالَ: أَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعْنَا لَهُ مَا يتبرَّد فاغتسل، ثمَّ أَتَيْته بملحفة صفراء فَرَأَيْت أثر الورس عَلَيْهِ، لفظ ابْن مَاجَه. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: كَانَ يصْبغ بالصفرة ثِيَابه كلهَا حَتَّى عمَامَته، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَفِي لفظ لَهُ: إِن ابْن عمر كَانَ يصْبغ ثِيَابه بالزعفران، فأصله فِي (الصَّحِيح) وَلَفظه: أما الصُّفْرَة فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بهَا. وَجمع الْخطابِيّ بِأَن مَا صبغ غزله ثمَّ نسج فَلَيْسَ بداخل فِي النَّهْي، وَوَافَقَهُ الْبَيْهَقِيّ على هَذَا، فَإِن قلت: قد علم أَن الْمحرم قد منع من لبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ بالزعفران أَو الورس، فَمَا حكمه إِذا توسد عَلَيْهِ أَو نَام؟ قلت: قَالَ أَبُو يُوسُف فِي (الْإِمْلَاء) : لَا يَنْبَغِي لمحرم أَن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران وَلَا الورس، وَلَا ينَام عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يصير مُسْتَعْملا للطيب، فَكَانَ كاللبس، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: اخْتلف أهل الْعلم فِي الورس هَل هُوَ طيب أم لَا؟ فَذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَنه لَيْسَ بِطيب، فَقَالَ: والورس، وَإِن لم يكن طيبا فَلهُ رَائِحَة طيبَة، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبين تجنب الطّيب الْمَحْض، وَمَا يشبه الطّيب فِي ملايمة الشم واستحسانه. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: هُوَ فِيمَا يُقَال: أشهر طيب فِي بِلَاد الْيمن، وَفِي كَلَام النَّوَوِيّ أَيْضا مَا يشْعر أَنه طيب. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: نبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالورس والزعفران على مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا يقْصد بِهِ الطّيب فَهِيَ حرَام على القبيلتين، فَيكْرَه للْمحرمِ لبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ بِغَيْر طيب، وَأما الْفَوَاكِه كالأترج والتفاح وأزهار الْبَوَادِي كالشيخ والقيصوم وَغَيرهمَا فَلَيْسَ بِحرَام.

22 - (بابُ الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِي الحَجِّ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الرّكُوب والارتداف فِي الْحَج، والارتداف أَن يركب الرَّاكِب خَلفه آخر.

4451 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا أبي عنْ يُونُسَ الأيْلِيِّ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ أُسَامَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَانَ رِدْفَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عَرَفَةَ إلَى المُزْدَلِفَةِ ثُمَّ أرْدَفَ الفَضْلَ مِنَ المُزْدَلِفَةَ إلَى مِنَىً قَالَ فَكلاَهُمَا قَالَ لَمْ يَزَلِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ.
(الحَدِيث 3451 طرفه فِي: 6861) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا. وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، ووهب هُوَ ابْن جرير بن حَازِم يروي عَن أَبِيه جرير، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد مُسلم، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن

(9/164)


مَسْعُود أَبُو عبد الله الهزلي أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث كريب مولى ابْن عَبَّاس عَن أُسَامَة بن زيد، قَالَ: ردفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَات ... الحَدِيث، وَفِيه: قَالَ كريب: فَأَخْبرنِي عبد الله بن عَبَّاس عَن الْفضل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي حَتَّى بلغ الْجَمْرَة. وروى من حَدِيث عَطاء قَالَ: أَخْبرنِي ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْدف الْفضل من جمع، قَالَ: فَأَخْبرنِي ابْن عَبَّاس أَن الْفضل أخبرهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ردف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره فَاء، بِمَعْنى: الرديف، وَهُوَ الَّذِي يركب خلف الرَّاكِب، وَكَذَلِكَ الرديف، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد. قَوْله: (من عَرَفَة) أَي: من عَرَفَات، وَهُوَ اسْم لموْضِع الْوُقُوف. قَوْله: (إِلَى الْمزْدَلِفَة) ، بِلَفْظ الْفَاعِل من الإزدلاف، وَهُوَ التَّقَرُّب والتقدم لِأَن الْحجَّاج إِذا أفاضوا من عَرَفَات ازدلفوا إِلَيْهَا، أَي: تقربُوا مِنْهَا وتقدموا إِلَيْهَا، وَسميت بذلك لمجيء النَّاس فِي زلف من اللَّيْل، وَهُوَ مَوضِع بحرم مَكَّة. قَوْله: (الْفضل) هُوَ ابْن عَبَّاس بن عبد الْمطلب. قَوْله: (فكلاهما) أَي: أُسَامَة وَالْفضل. قَوْله: (حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة) ، أَي: إِلَى أَن رمى جَمْرَة الْعقبَة، وَهِي حد منى من الْجَانِب الغربي من جِهَة مَكَّة. وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الْجَمْرَة الْكُبْرَى، والجمرة والحصاة، وَهنا اسْم لمجتمع الْحَصَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْحَج رَاكِبًا أفضل، وَقد مر الْخلاف فِيهِ فِي: بَاب الْحَج على الرجل. وَفِيه: إرداف الْعَالم. وَفِيه: التَّوَاضُع بالإرداف للرجل الْكَبِير وَالسُّلْطَان الْجَلِيل. وَفِيه: حجَّة لأبي حنيفَة وصاحبيه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد بن عَليّ وَأبي عبيد والطبري فِي قَوْلهم: يُلَبِّي الْحَاج وَلَا يقطع التَّلْبِيَة حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، وَهُوَ الْمَنْقُول أَيْضا عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن حَيّ، وروى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن مَسْعُود ومَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. ثمَّ اخْتلف بعض هَؤُلَاءِ، فَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: يقطع التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة يرميها من جَمْرَة الْعقبَة. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَطَائِفَة من أهل النّظر والأثر: لَا يقطعهَا حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة بأسرها، قَالُوا: وَهُوَ ظَاهر الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة) وَلم يقل: حَتَّى رمى بَعْضهَا. قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شريك عَن عَامر بن شَقِيق عَن أبي وَائِل (عَن عبد الله: رمقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة بِأول حَصَاة) . فَإِن قلت: أخرج ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) : عَن الْفضل بن عَبَّاس قَالَ: (أفضت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَات، فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، يكبر مَعَ كل حَصَاة، ثمَّ قطع التَّلْبِيَة مَعَ آخر حَصَاة) . قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه زِيَادَة غَرِيبَة لَيست فِي الرِّوَايَات عَن الْفضل، وَإِن كَانَ ابْن خُزَيْمَة قد اخْتَارَهَا. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: فِيهِ نَكَارَة. وَقَوله: (يكبر مَعَ كل حَصَاة) ، يدل على أَنه قطع التَّلْبِيَة مَعَ آخر حَصَاة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن أبي بكر الثَّقَفِيّ وَمَالك وَأَصْحَابه وَأكْثر أهل الْمَدِينَة: (الْحَاج لَا يُلَبِّي فيعرفة بل يكبر ويهلل) . وَرُوِيَ ذَلِك عَن عبد الله بن عمر وَعبد الله بن الزبير وَجَابِر بن عبد الله.
ثمَّ اخْتلفُوا مَتى يقطع التَّلْبِيَة؟ فَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَالك أَصْحَابه: يقطعهَا إِذا توجه إِلَى عَرَفَات، وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك عَن عُثْمَان وَعَائِشَة، وَرُوِيَ عَنْهُمَا خلاف ذَلِك، فَقَالَ الزُّهْرِيّ والسائب بن يزِيد وَسليمَان بن يسَار وَابْن الْمسيب فِي رِوَايَة: (يقطعهَا حِين يقف بِعَرَفَات) ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص، وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِحَدِيث أُسَامَة بن زيد، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: (كنت ردف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشِيَّة عَرَفَة فَكَانَ لَا يزِيد على التَّكْبِير والتهليل، وَكَانَ إِذا وجد فجوة نَص) . قَوْله: (فجوة) ، بِفَتْح الْفَاء وَضمّهَا: وَهِي مَا اتَّسع من الأَرْض وَقد روى فِي (الْمُوَطَّأ) : فُرْجَة. قَوْله: (نَص) ، أَي: رفع فِي سيره وأسرع، وَالنَّص مُنْتَهى الْغَايَة فِي كل شَيْء، قَالَه فِي (الْمطَالع) وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (فَإِذا التحم عَلَيْهِ النَّاس أعنق، وَإِذا وجد فُرْجَة نَص) . قَوْله: (أعتق) ، من العَنَق وَهُوَ: السّير الْيَسِير الَّذِي تمد فِيهِ الدَّابَّة عُنُقهَا للاستعانة، وَهُوَ دون الْإِسْرَاع. وَأجِيب: بِأَن ذَلِك لَا يدل على نفي التَّلْبِيَة وَخُرُوج وَقتهَا، وَقَوله: لَا يزِيد على التَّكْبِير والتهليل، يَعْنِي: الزِّيَادَة من جِنْسهَا.

(9/165)